الإعلام بفوائد عمدة الأحكام

ابن الملقن

تقديم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه. وبعد: فقد اطَّلعتُ على عمل الشيخ عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، في إخراجه لكتاب "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لسراج الدين عمر بن علي ابن الملقن " وتحقيقه له، فوجدته عملًا جيدًا في جملته. قد بذل فيه مجهودًا يشكر عليه، فجزاه الله خيرًا وأثابه على ما قام به من خدمةٍ لهذا الكتاب الجليل. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه. كتبه صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان 24/ 5/ 1416 هـ

تقديم الحمد لله ناصر عباده الصالحين ولو بعد حين، موفِّق من شاء منهم لنصرة هذا الدين، كُلٌّ بما فتح الله عليه في حراسة ثغر من ثغوره على مَرِّ السنين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى صحابته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بَعْدُ: فهذان عالِمان محدِّثان، حافظان، مَشرِقِيَّان، بَيْن وَفَاتَيهِما قَرْنَانِ من الزمان وأربعة أعوام؛ أحدهما: دمشقي حنبلي، هو الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت 600 هـ). والثاني: مصري شافعي، هو الحافظ أبو حفص عمر بن علي ابن الملقن الأنصاري (ت 804 هـ)، توافرت همتهما على خدمة هذه الشريعة المباركة في ينبوعها الحديثي. فالأول هُنَا: مَاتِنٌ في كتابه: "عمدة الأحكام فيما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلما" إذ جمع فيه (427) حديثًا، رَتَّبها على أبواب الفقه؛ وفق ترتيب الحنابلة، ولعله أول مَنْ نَزَعَ إلى هذا النوع من التخريج , المجرد عن الأسانيد، المقتصر على أحاديث من

الصحيحين في أحكام أفعال العبيد، ثم قَفَاهُ الناس بالتأليف على منواله، وتنافس الأعلام على شرح كتابه. وكانت الإلتفاتة بتصحيح ألفاظه، وعزوه، من نصيب العلامة الزركشي، وهذا الحافظ -رحمة الله عليه- صاحب مبادرات موفقة، حديثية جليلة، ولو لم يكن منها إلاَّ أنه أول من أَلَّف في رجال الكتب الستة مجتمعين في كتابه: "الكمال ... "، والناس بعده عليه عيال. والثاني: شارح له وهو ابن الملقن، أعجوبة عصره في كثرة تصانيفه، ومنها شرحه هذا: "الإِعلام بفوائد عمدة الأحكام"، وهو شرح نفيس جِدًّا، حافل بالفوائد واللطائف، وتحرير الأحكام، وَفَكِّ المبهم، وكشف المهمل، وقد نزع في العرض طريقة مفصلة، لم نرها في شُروح من تقدمه. وعلى بابته، جَرَى عَصرِيُّهُ، وَبَلَدِيُّهُ، الحافظ في بدر الدين العيني الحنفي (ت 855 هـ) -رحمه الله تعالى- في كتابه: "عمدة القاري" لا سيما في المجلدات الأربعة الأولى فَلَعَلَّهُ استفادها منه، كما استفاد من شرحه دون عزوٍ إليه، فالله يغفر لنا وله. كما شاركه في الإستفادة من هذا الشرح: تلميذه الحافظ شهاب الدين ابن حجر الشافعي (ت 852 هـ) في شرحه الفائق: "فتح الباري" فإنه اتَّكَأَ على شرح شيخه هذا في الأحاديث التي تناولها بعزو على ندرة، وبدون عزو بكثرة؟؟ أقول: كيف وَقَعَ هذا مع جلالة البدر، والشهاب، يا ليتني ما دريته، لكن معاذ الله، أن نتَّبع إلَّا من وجدنا متاع ابن الملقن عنده

-رحم الله الجميع- وجزاهم خيرًا على جهودهم الفائقة في حراسة هذا الدين. وإذا كان هذا الكتاب، يحتل هذه المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة، وتميزه بطريقة العرض في تنظيمها الدقيق المناسب لأهل عصرنا، علمت مقدار ما منحه الله -تعالى- من التوفيق، لمحقق هذا الكتاب: فضيلة الأخ في الله الشيخ عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح، فإنه -بحمد الله- قد وُفِّقَ بِحُسْن الاختيار، وحُسن الإخراج، وبَذْل الجهد في المقابلة، والتخريج، وتَوثيق النقول، والأقوال، كما ظهر لي ذلك من قراءة جُلِّ النص المحقَّق في الجزء الأول، فجزاه الله خيرًا، وشكر سعيه. والحمد لله رب العالمين. وكتب بكر بن عبدالله أبو زيد 22/ 5/ 1417 هـ

مقدمة المحقق

مُقَدّمة المحقق إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}. وبعد: فإنه لما كان العلم أشرف ما يُتَحَلَّى به في الوجود، وأحسن ما يتفضل الله به على عباده ويجود، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فَفَضَّلَ مَنْ مَنَّ عليهم بهذا وزينهم بلباس التقوى والوقار، لمَّا تزين غيرهم باللباس الفاني، وأَكرمهم بخاصية أن قرن ذكرهم بذكره وأشهدهم على وحدانيته،

قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، فهم أهل الخشية والشكر، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فبهم يسترشد المسترشدون وبنورهم يستضيء المهتدون {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ليرشدوهم إلى سبيل الحق، والواجب لله على الخلق، وأَراد بهم خيرًا حيث فقههم في الدين، "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" فجميع الخلائق مأمورون بالاهتداء بهديهم، والرجوع إليهم في دينهم، إذا تمسكوا بحبل الله القويم وسلكوا صراطه المستقيم، فهم المكرمون بوراثة النبيين. إن العلماء ورئة الأنبياء، ففضَّلهم في الدنيا بأن يستغفر لهم كل حي وبأنهم كالقمر ليلة البدر لشدة الإِضاءة لأحوال العباد في العبادة، وفي الأخرى الحشر في زمرة الأنبياء والرسل، فهذا هو العلم النافع الذي يورث خشية الله ويبلغ رضاه، والذي يستفيد منه العالم مع القليل من العمل. فإن من عرف هذا فعليه بالاجتهاد لينال ما يرجو من النجاة في يوم المعاد، حيث قلة بضاعة كثيرين من الناس -في هذا الزمن- ممن ينتسبون إلى العلم الشرعى -أمثالي- من الأحاديث النبوية الصحيحة، والناس عيال في العلم على من قبلهم من أئمة أهل العلم. فالتمست خدمة هذا الفن بحسب الحال، فألزمت نفسي بالبحث والتفتيش فيما وقعت عليه يدي من فهارس الكتب المطبوعة والمخطوطة بحثًا عن كتاب نافع أصيل في هذا الشأن رجاء أن يحقق الله لي به تلك الأمنية، فهداني الله وله الحمد والمنة إلى مخطوطة كتاب"الِإعلام بفوائد عمدة الأحكام" وهو شرح نفيس لكتاب "عمدة

الأحكام"، فلما قرأت ما تيسر لي منها واطلعت على بعض كلام أهل العلم في الإحالة عليها والثناء عليها وعلى مؤلفها رحمه الله ولا سيما الأئمة المعتبرين شرح الله صدري لتحقيق مخطوطته وطباعته ليكون في متناول الراغبين في الإطلاع عليه والاستفادة منه من أهل العلم؛ لأن ذلك من الإعانة على البر والتقوى والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فاستعجلت ذلك لعدة أمور، منها: أولًا: خشية تعرض المخطوطة للتلف أو النسيان. ثانيًا: الإسراع في تحقيق الاستفادة منها خدمة لطلبة العلم وليحوز مؤلفه رحمه الله عظيم الأجر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث ... " ثم قال: "علم ينتفع به". ثالثًا: كون هذا الشرح من أنفس الشروح لكتاب عمدة الأَحكام الذي نفع الله به علماء المذاهب في سائر العصور. رابعًا: كثرة المعتنين بحفظ متنه والمشتغلين بتدريسه وشرحه من أهل العلم فأحببت أن يكون هذا الشرح في متناول أيديهم تتميمًا للفائدة، وإعانة على الخير. وبعد: فهذا واحد من كتب الأكابر من أهل العلم المغمورة التي كادت أن تدخل في طي النسيان بعد غياب طويل، وقد بذلت غاية الجهد -حسب الحال- و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} في إخراجه بصورة علمية أحسبها تتناسب مع مكانة الكتاب والمطلعين عليه، فإن أصبت فمن توفيق الله عز وجل، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم.

وأشكر الله العلي القدير أن يسر مقابلته وتصحيحه، والتعليق عليه وتخريج أحاديثه -حسب الاستطاعة-، وأن شرفني بخدمة هذا الكتاب ومؤلفه، وأسأله سبحانه أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يجعله في ميزان حسناتي ومؤلفه ومَنْ كتبه، ومن اطَّلع عليه وقرأه، ومن ساهم في نشره وتوزيعه، وأن يعم بنفعه جميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يغفر لي ولوالديّ ومن قَرَأْنا عليه، وأن يصلح لنا النيات والذريات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله الطيبين وأزواجه أمهات المؤمنين.

ترجمة موجزة للحافظ عبد الغني صاحب "العمدة"

ترجمة موجزة للحافظ عبد الغني صاحب "العمدة" أولًا- مصادر الترجمة على حسب تواريخ وفيات مؤلفيها: 1 - ياقوت الحموي (ت 626) معجم البلدان (2/ 160) جماعيل. 2 - ابن نقطة (ت 629) التقييد (2/ 138). 3 - ابن الدبيثي (ت 637) في تاريخه (انظر: المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي) انتقاء الذهبي (3/ 82، 83). 4 - ابن النجار (ت 643) المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي (ص 167، 169). 5 - المنذري (ت 656) في التكملة لوفيات النقلة (2/ 17) رقم (778). 6 - أبو شامة (ت 665) في الذيل على الروضتين (ص 46، 47). 7 - الذهبي (ت 748) في تذكرة الحفاظ (4/ 1372)، وفي سير أعلام النبلاء (21/ 443، 471)، وفي العبر (3/ 129)، وفي

دول الإسلام (2/ 107)، وفي المعين لطبقات المحدثين (ص 186). 8 - ابن كثير (ت 774) في البداية والنهاية (13/ 38، 39). 9 - ابن رجب (ت 795) في الذيل على طبقات الحنابلة. 10 - جمال الدين بن تغرى بردى (ت 874) في النجوم الزاهرة (6/ 185). 11 - السيوطي (ت 911) في طبقات الحفاظ (485، 486)، وفي حسن المحاضرة (1/ 354). 12 - ابن طولون (ت 952) تاريخ الصالحية (2/ 439). 13 - حاجي خليفة (ت 1067) في كشف الظنون (1013، 1164، 1509، 2053) 14 - ابن العماد الحنبلي (ت 1089) شذرات الذهب (4/ 345، 346). 15 - صديق خان (ت 1307) في التاج المكلل (213). 16 - إسماعيل باشا (ت 1337) ذيل كشف الظنون (2/ 69، 148، 196، 296، 308، 318، 493). 17 - الكتاني (ت 1345) الرسالة المستطرفة (49). 18 - بروكلمان (ت 1376) تاريخ الأدب العربي (6/ 185، 192). 19 - الزركلي (ت 1396) الأعلام (4/ 34).

ثانيا- ترجمته

20 - كحَّالة في معجم المؤلفين (5/ 275). 21 - ترجمته في التنبيه للزركشي في مجلة الجامعة الإسلامية تح: د. الزهراني. 22 - ترجمته في كتاب عقيدة الحافظ عبد الغني تح: د. البصيري. وقد استفدت منهما كثيرًا في الترتيب مع شئ من الاختصار والتصرف بما يناسب الكتاب فجزاهما الله خيرًا. ... ثانيًا- ترجمته: اسمه ونسبه: هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، الجماعيلي، ثم الدمشقي المنشأ، الصالحي الحنبلي. مولده ونشأته: ولد بجماعيل من أرض نابلس سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ونسب لبيت المقدس لقرب جماعيل منه؛ ولأن نابلس وأعمالها جميعًا من مضافات بيت المقدس، ثم انتقل مع أسرته من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي لمدينة دمشق أولًا، ثم انتقلت أسرته إلى سفح جبل قاسيون فبنوا دارًا تحتوي على عدد كبير من الحجرات دعيت بدار الحنابلة، ثم شرعوا في بناء أول مدرسة في جبل قاسيون وهي المعروفة بالمدرسة

بدايته العلمية

العمرية، وقد عرفت تلك الناحية التي أسسوها بالصالحية فيما بعد نسبةَ إليهم، لأنهم كانوا من أهل العلم والصلاح، ومما زاد في تقوية نشأته الدينية والعلمية وجود نِدٍّ له يماثله في السن والطلب هو ابن خالته موفق الدين ابن قدامة صاحب "المغني"، حيث صاحبه في طلبه للعلم كما سيأتي في رحلته العلمية. بدايته العلمية: نشأ عبد الغني رحمه الله في بيت علم وتقى وصلاح، فاتجه إلى طلب العلم في سن مبكر فتتلمذ في صغره على عميده أسرته العلامة الفاضل الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو عمر والد صاحب "المغني"، ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم ومنهم: أبو المكارم بن هلال. رحلاته: كانت له رحلات علمية جاب خلالها كثيرًا من البقاع، وسمع فيها بدمشق والإسكندرية وبيت المقدس ومصر وبغداد وحِرَّان والموصل وأصبهان وهَمَذان وغيرها، وسافر إلى بغداد مرتين الأولى سنة 561، ومصر مرتين، وكان ارتحاله إلى دمشق وهو صغير بعد سنة خمسين وخمسمائة فسمع بها من أبي هلال، وسلمان بن علي الرحبي وأبي عبد الله محمد بن حمزة القرشي، وغيرهم. ثم رحل إلى بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة مع ابن خالته الشيخ الموفق فأقاما ببغداد أربع سنين، وكان الموفق ميله إلى الفقه والحافظ عبد الغني ميله إلى الحديث، فنزلا على الشيخ عبد القادر الجيلاني،

وكان يَرْعَاهُمَا ويحسن إليهما، وقرأوا عليه شيئًا من الحديث والفقه، وحكى الشيخ الموفق أنهما أقاما عنده نحوًا من أربعين يومًا ثم مات، وأنهما كانا يقرآن عليه كل يوم درسين من الفقه، فيقرأ هو من الخرقي من حفظه، والحافظ من كتاب الهداية. قال الضياء: وبعد ذلك اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المنى وصارا يتكلمان في المسألة ويناظران، وسمعا من أبي الفتح ابن البطي وأحمد بن المقرئ الكرخي وأبي بكر ابن النقور وهبة الله بن الحسن بن هلال الدقاق وأبي زرعة وغيرهم، ثم عادا إلى دمشق. ثم رحل الحافظ سنة ست وستين إلى مصر والإسكندرية وأقام هناك مدة سمع فيها من السِّلفي، ثم عاد إلى دمشق، ثم رحل أيضًا إلى الإسكندرية سنة سبعين وأقام بها ثلاث سنين وسمع بها من الحافظ السلفي، وأكثر عنه حتى قيل: لعله كتب عنه ألف جزء، وسمع من غيره أيضًا، وسمع بمصر من أبي محمد بن بري النحوي وجماعة، ثم عاد إلى دمشق، ثم سافر بعد السبعين إلى أصبهان وكان قد خرج إليها وليس معه إلَّا قليل فلوس، فسهل الله له مَنْ حَمَلَهُ وأنفق عليه حتى دخل أصبهان وأقام بها مدة وسمع بها الكثير، وحصّل الكتب الجيدة ثم رجع. وسمع بهمذان من عبد الرزاق بن إسماعيل القرماني، والحافظ أبي العلاء، وغيرهما، وبأصبهان من الحافظين: أبي موسى المديني وأبي سعد الصائغ وطبقتهما، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وكتب بخطه المتقن ما لا يوصف كثرةً، وعاد إلى دمشق.

عصر المقدسي

ولم يزل ينسخ ويصنف ويُحَدِّثُ، ويفيد المسلمين، ويعبد الله حتى توفاه الله على ذلك. وقد جمعت فضائله وسيرته، وممن أعدها: ضياء الدين، في جزئين، وذكر فيها أن الفقيه مكي بن عمر بن نعمة المصري جمع فضائله أيضًا. وهكذا قطع الفيافي وجاب الأمصار بحثًا عن العلم وجهادًا في سبيله. عصر المقدسي: وُلد المقدسي رحمه الله في خلافة المقتفي لأمر الله (محمد المستظهر باللهِ). وهو عبارة عن رمز للخلافة وليس بيده من أمور الدولة شيء، ويعتبر هذا التاريخ عمق ضعف الدولة العباسية، فقد انفرط عقد الخلافة العباسية وبدأتْ في الانحدار من أوج قوتها بعد موت المعتصم، وأن كان ابنه المتوكل جعفر أصلح ما أفسده جده المأمون وأخوه الواثق هارون من أمر العقيدة، فأمات بدعة القول بخلق القرآن، وهذا العمل أبرز حسناته، ومنذ ذلك الوقت والمسلمون يعانون من الضعف السياسي وشتات الأمر، وكان ظهور الدويلات والممالك الإِسلامية وبالًا على وحدة المسلمين وإضعافًا لقوتهم، فسادت الفوضى السياسية واندلعت الحروب بين المسلمين وأُضْرِمَت نار الهلاك، وكثر النهب والسلب، ووجد الإفرنج فرصة سانحة لضرب المسلمين في عقر دارهم، ونشطت الفرق الهدامة. كما عاصر المقدسي رحمه الله خلافة المستنجد بالله ابن

المقتفي، ولم يكن أحسن حالًا من أبيه، فكان من أبرز أعماله في بداية عهده الاشتغال بالصيد في الوقت الذي كانت الممالك نشطة في الغارات والحروب والاستنجاد بالفرنج! وقد عايثى المقدسي رحمه الله خلافة المستضيء بأمر الله (الحسن بن المستنجد) كان خيرًا من أبيه، ومما حدث وجَدَّ في عهده: إبطال مظالم كثيرة، وانقطاع الدعوة العبيدية، والحمد لله. وعاصر المقدسي رحمه الله أحداث الملك نور الدين صاحب الشام، وكان ملكًا مجاهدًا، محاسنه جمة في دينه وشجاعته، وغزواته وفتوحاته، ومساجده ومدارسه، وبره وعدله، وقد أبطل المكوس، وأبلى بلاء حسنًا في دك حصون الفرنج والاستيلاء عليها، وله وقائع قتالية واسعة جرت أحداثها سجالًا بينه وبين الفرنج. وعاصر المقدسي رحمه الله صلاح الدين الملك الناصر، الذي رفع راية الجهاد مؤيدًا منصورًا بجيوش المسلمين. وشهد المقدسي رحمه الله عصر خلافة الناصر لدين الله (أحمد بن المستضيء) وقد تميّز عصره لقوة صلاح الدين الملك الناصر (يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب) الذي كان سلطان زمانه، له السيادة والقيادة، أذاق الفرنج الذل والهوان، وهو بحق السلطان المجاهد في سبيل الله، افتتح بسيفه وبإخوانه بلادًا من الموصل إلى اليمن، ومن أسوان إلى طرابلس، فارتفع به المسلمون، ودك حصون الكفرة وأَرْغَمَ أنوفهم في أراضيهم فعز الله به الإسلام والمسلمين، ولا يزال المسلمون إلى الآن ينظرون إلى عصره أنه من العصور

أهم الأحداث التاريخية في عصره

الإسلامية الزاهرة فلا تكاد ترى مسلمًا إلَّا وهو يتمنى عودة مثل هذا العصر الزاهر. أهم الأحداث التاريخية في عصره: 1 - موقعة الزلاقة في الأندلس: كان جيش المسلمين فيها يقدر بمائتي ألف ما بين فارس وراجل، واجه جيش الفرنج المقدر بمائتين وأربعين ألفًا، وكانت الدائرة في هذه الموقعة على الأعداء ونصر الله جيش المسلمين، فقتلوا مائة وأربعين ألفًا من الفرنج وأسروا منهم ثلاثين ألفًا وغنموا ثمانين ألف فرس ومائة ألف من البغال حتى بخست أثمانها عند بيعها (¬1). 2 - ما حَلَّ ببلاد مصر من القحط والوباء المفرط، فخربت الديار وجلى عنها أهلها، كان ذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وفي التي تليها اشتد البلاء حتى أكلوا لحوم الآدميين، وأكثر القرى لم يبق بها آدمي، وكان يخرج من القاهرة في اليوم نحو خمسمائة جنازة حتى سجل في ديوان الهالكين نحو مائة وأحد عشر ألف في نحو سنتين (¬2). 3 - وقوع زلزلة بالشام كان من هولها ما لا يوصف، كادت لها الأرض تسير سيرًا، والجبال تمور مورًا، وما ظن الناس إلَّا أنها القيامة جاءت دفعتين، دامت الواحدة مقدار ساعة أو أزيد، وقيل: ¬

_ (¬1) دول الإِسلام للذهبي (2/ 102). (¬2) المرجع السابق (2/ 105، 106).

حالة المجتمع في عصره

إن صفد لم يبق بها سوى رجل واحد، ونابلس لم يبق بها حائط، ومات بمصر خلق كثير تحت الردم. 4 - ماجت النجوم في بغداد في أول سنة تسع وتسعين وخمسمائة وتطايرت شبه الجراد، ودام ذلك إلى الفجر وضجّ الخلق بالابتهال إلى الله تعالى (¬1) حالة المجتمع في عصره: كما تقدّم لنا ذكر شيء من الحالة السياسية في وقته، والحالة السياسية في كل زمان ومكان تنعكس آثارها على الحالة الاجتماعية سلبًا وإيجابًا؛ لأن السياسة هي البنية الأولى للمجتمع، ولكن في كل زمان لا تخلو طائفة على الحق قائمين يدعون إلى دين الله ويعلمونه وينشرونه في أرجاء المعمورة، وما وَصلَنَا إلَّا بتوفيق الله ثم حماية الأجيال المتوارثة خلفًا عن سلف والجهود الذاتية التي يقوم عليها رجال مخلصون. الحالة التعليمية: من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ... " الحديث، وقد تكفّل الله بحفظ دينه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فيقيض الله في كل زمان جهابذة يتفانون في خدمة دينه ونشره بين البرية، وسواء كان هؤلاء من العلماء العاملين المخلصين، أو الملوك أو التجار، وذلك بقيام العلماء بالتعليم، ¬

_ (¬1) المرجع السابق (2/ 106، 107).

مكانته العلمية

والملوك والتجار بالبذل والدعم المادي، ولذلك نلاحظ انتشار المدارس في كثير من الأقطار الإسلامية وكثرة الأوقاف عليها، فكان العلماء في الجانب العلمي رؤوسَ خير، وأعلامَ هدى، وحُرَّاسًا للإسلام من التبديل والتحريف الذي يطرأ عليه من أيدي أعدئه. مكانته العلمية: إن إمامنا المقدسي رحمه الله بدأ بتكوين نفسه منذ حداثة سنه كما مر علينا في بدايته العلمية ورحلاته، فبدأ أولًا بالأخذ عن علماء بلده، ثم اتجه إلى الأخذ عن علماء الأقطار في زهرة شبابه لينال ما لم يجده عند علماء بلده، ثم بعد هذا ساعدت بعض الأحداث الجسام التي عاصرها وحدثت في وقته فساعدت على صقل شخصيته فانجبت عالمًا فذًّا كما سنتحدث عنه في ألقابه العلمية وثناء العلماء المعاصرين عليه، وتصانيفه من أكبر الأدلة على علمه، فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا. ما قيل عنه في حفظه: قال الحافظ الضياء: كان شيخنا الحافظ لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلَّا ذكره له وبينه وذكر صحته أو سقمه، ولا يسأله عن رجل إلَّا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه، وأنا أقول "أي الضياء": كان الحافظ عبد الغني أمير المؤمنين في الحديث. قال الضياء: وشاهدت الحافظ غير مرة بجامع دمشق يسأله بعض الحاضرين وهو على المنبر: اقرأ لنا أحاديث من غير أجزاء، فيقرأ الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلب.

ألقابه وثناء العلماء عليه

ألقابه وثناء العلماء عليه: إن كل عالم مخلص سيذكر ما شاهده في شخصية عاصرها وذلك حفظًا للأمانة وخدمة لمن سيأتي بعد هذا الزمن، وكذلك العلماء العاملين يهتم الناس المعاصرون لهم بدراسة أحوالهم واعطاء صورة واضحة لمن يجهلها في الأجيال المعاصرة والقادمة، وممن نال نصيبًا وافرًا من ذلك: الإِمام المقدسي، فقد لُقِّبَ بألقاب علمية مع ملازمة ثناء العلماء عليه. فقد وُصف بالحفظ والتصنيف، وفي هذا دلالة على فهمه وذكائه، كما اهتم مَنْ كتب عنه بذكر جانب كبير يحتاج إليه العلماء في كل زمان ومكان، وهو محاربة البدع والقيام على أهلها بالإِنكار، حتى ثارت عليه المبتدعة وأهدروا دمه، فلم يكترث بشئ من ذلك ولم يقم له إحساس بهم، ولا زال على ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَهُ، وهذا يدله على شجاعته وصلابة شخصيته، ولا ننسى مع هذا أنه كان سمحًا متواضعًا وكريمًا لا يدخر شيئًا من ماله، حتى قيل: كان يخرج في الليل بقُفّة الدقيق ويتجه بها إلى بيوت المعوزين، ويطرق الباب، فإذا فتحوا ترك ما معه ومضى؟ لئلا يعرف، وربما كان عليه ثوب مرقع ومع ذلك فكان ملازمًا للصيام والصلاة فقد قيل: إنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما لقن الحديث، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبيل الظهر فينام نَوْمَةً، فيصلي الظهر ويشتغل بالتسميع أو النسخ إلى المغرب فيفطر إن كان صائمًا ويصلي إلى العشاء، ثم ينام إلى نصف الليل ثم يصلي إلى الفجر.

المحنة التي مر بها الحافظ

قال ابن النجار في تاريخه: حدث بالكثير وصنف في الحديث تصانيف حسنة وكان غزير الحفظ من أهل الإِتقان والتجويد ... إلخ. وقال ابن الدبيثي في تاريخه: وكان زاهدًا عابدًا أمارًا بالمعروف نهّاءً عن المنكر، أثنى الحفّاظ والأئمة على فهمه وحذقه وحفظه، وأثنى الذهبي عليه، فقال: الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق العابد الأثري المتبع. المحنة التي مرَّ بها الحافظ: قال ابن كثير في البداية والنهاية (13/ 39) في ترجمته: (ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك وأرادوا هلاكه، فخرج منها مختفيًا في إزار، ولما دخل الموصل في طريقه سمع بها كتاب العقيلي في الجرح والتعديل فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضًا خائفًا يترقب فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة فحصل له قبول من الناس جدًّا وانتفع الناس بمجالسه كثيرًا، فوقع الحسد عند المخالفين من أهل دمشق فجهزوا الناصح الحنبلي فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه حتى يشوش عليه، فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر فذكر يومًا عقيدته فثار عليه القاضي ابن الزكي وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم

عقيدته

الاثنين الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وتكلموا معه في مسألة العلو والنزول ومسألة الحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء علي الضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم. فغضب برغش من ذلك وأَمَرَهُ بالخروج من البلد، فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة فنزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، فثار عليه الفقهاء أيضًا، فكتبوا إلى الصفي بن شكر وزير العادل أنه قد أفسد عقيدة الناس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد، فكتب إلى والي مصر بنفيه إلى المغرب، فمات قبل وصول الكتاب إليه. عقيدته: إن عقيدة المقدسي رحمه الله هي عقيدة السلف الصالح، وذلك بوصف الله سبحانه بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل، امتثالًا لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}. ونجملها فيما حكاه الحافظ الضياء قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إن الحافظ أُمِرَ أن يكتب اعتقاده فكتب: أقول كذا لِقَوْل الله كذا، وأقول كذا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلما وقف عليها الملك الكامل قال: إيش في هذا؟ يقول بقول الله عز وجل وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا ورب الكعبة هو الحق المبين فالله أعلم بنفسه مِنْ خلْقِهِ ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أعرف بربه من الفقهاء، قال: فخلّى عنه.

تلاميذه والآخذون عنه

تلاميذه والآخذون عنه: كما سبق أن الإمام المقدسي رحمه الله كان يكثر من التسميع والتدريس وصَرَفَ جُلَّ وقته للعلم والتعليم، فكثر حوله الطلاب والمستفيدون منه من جميع الأمصار فممن تتلمذ عليه: ولداه: أبو الفتح، وأبو موسى، وأخذ عنه موفق الدين ابن خالته عز الدين محمد، والحافظ أبو موسى عبد الله، والفقيه أبو سليمان، والحافظ الضياء المقدسي، والخطيب سليمان بن رحمة الأسعردي، والبهاء عبد الرحمن، وعبد القادر الرهاوي، والفقيه اليونيني محمد بن أحمد. وآخر من أخذ عنه محمد بن مهلهل الجيتي، وبقي بعده بالإجازة أحمد بن الخير شيخ الحافظ الذهبي، وآخرين غيرهم. مصنفاته: 1 - كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" مشتمل على أحاديث الصحيحين. 2 - كتاب "الذكر" جزآن. 3 - كتاب "الفرج" جزآن. 4 - كتاب "تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين". 5 - كتاب "الآثار المرضية في فضائل خير البرية" أربعة أجزاء. 6 - كتاب "الروضة" أربعة أجزاء.

7 - كتاب " نهاية المراد من كلام خير العباد" لم يبيض كله، في السنن، نحو مائتي جزء. 8 - كتاب "اليواقيت" مجلد. 9 - كتاب "الصِلات من الأحياء إلى الأموات" جزآن. 10 - كتاب "الصفات" جزآن. 11 - كتاب "محنة الإمام أحمد" ثلاثة أجزاء. 12 - كتاب "الترغيب في الدعاء" جزء كبير. 13 - كتاب "فضائل مكة" أربعة أجزاء. 14 - كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". 15 - كتاب "فضائل رمضان" جزء. 16 - كتاب "الأربعين". 17 - كتاب "الأربعين" نوع آخر. 18 - كتاب "ذم الرياء" جزء كبير. 19 - كتاب "الأربعين من كلام رب العالمين". 20 - كتاب "الأربعين" بسند واحد. 21 - كتاب "اعتقاد الإمام الشافعى" جزء كبير. 22 - كتاب "الحكايات" سبعة أجزاء. 23 - كتاب "غنية الحفاظ في تحقيق مشكل الألفاظ". 24 - كتاب "من صبر ظفر". 25 - كتاب "الجامع الصغير لأحكام البشير النذير". 26 - "مناقب الصحابة" عدة أجزاء. 27 - جزء في مناقب عمر بن عبد العزيز.

وفاته

28 - جزء في ذكر القبور. 29 - كتاب "الكمال في معرفة الرجال". 30 - كتاب "النصيحة في الأدعية الصحيحة" جزء. 31 - كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد". 32 - كتاب "سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - جزء كبير. 33 - كتاب "الأحكام على أبواب الفقه" ستة أجزاء. 34 - كتاب "عمدة الأحكام مما اتفق عليه البخاري ومسلم". إلى غير ذلك من الكتب وقد ذكر هذه المؤلفات وأكثر منها: ابن رجب في الطبقات، والذهبي في السير، ولم أذكر أماكن وجود هذه الكتب؛ لأن الوقت لم يسعفني. وفاته: لم يأته أجله إلَّا وهو يخدم هذه الأمة، ويتحفها بعلمه وعمله، وذلك بكثرة ما خلف من الكتب والرسائل التي تقارب مائة كتاب ما بين كتاب كبير وأجزاء صغيرة -يسّر الله للمسلمين إخراجها- مع صيانة علمه من التدنيس، والاجتهاد في العبادة حتى توفاه الله في يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ستمائة للهجرة وله تسع وخمسون سنة، ودفن بمقبرة القرافه بمصر بجوار الشيخ أبي عمرو بن مرزوق، رحمه الله وجمعنا وإياه في مستقر رحمته، وقد خلف من الولد ثلاثة: عز الدين أبو الفتح محمد، وجمال الدين أبو موسى، وأبو سليمان عبد الرحمن، وكلهم من العلماء رحمهم الله.

ترجمة المصنف "ابن الملقن"

ترجمة المصنف "ابن الملقن" للاستزادة من الترجمة راجع: - الضوء اللامع (6/ 100). - إنباء الغمر، وفيات سنة 804/ 5/ 41. - لحظ الألحاظ في ذيل تذكرة الحفاظ (ص 197). - شذرات الذهب (7/ 44، 45). - طبقات الشافعية لابن هداية الله (235). - طبقات الشافعية لابن قاضي شُهْبَه (4/ 43). - الأعلام (5/ 218). - ذيل تذكرة الحفاظ للسيوطي (ص 369). - البدر الطالع (1/ 508). - حسن المحاضرة (1/ 249). - هدية العارفين (1/ 791). - بروكلمان (2/ 92). - ذيلة (2/ 109). - معجم المؤلفين (7/ 297).

اسمه

- ترجمته في كتاب تحفة المحتاج تح: د/ عبد الله اللحياني. وقد استفدت منه كثيرًا مع بعض التعديل. فجزاه الله خيرًا. اسمه: هو عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله، سراج الدين أبو حفص الأنصاري الوادي ءاشي الأندلسي التكروري المصري الشافعى ويعرف بابن النحوي؛ لأن أباه عليًا كان نحويًا كما سيأتي. الأصل من وآدي آش بالأندلس وبعدها انتقل أبوه منها إلى بلاد التكرور ثم قدم القاهرة بعد أن ولد له صاحب الترجمة بسنة. لقبه: (ابن النحوي) وقد اشتهر بهذا في بعض البلاد كاليمن، أما ابن الملقن فليست له وإنما تزوجت أمه بشيخ كان يلقن القرآن فنشأ في بيته فعرِفَ بابن الملقن نسبة إليه، وإنما كان يغضب من ذلك ولم يكتبها بخطه، إنما كان يكتب ابن النحوي وبهذا اشتهر؛ لأن الأولى نسبة إلى غير أبيه الحقيقي واسمه الشيخ عيسى المغربي، والأخرى نسبة إلى والده. مولده: كما ذكرنا أن والده انتقل إلى القاهرة وبها وُلِدَ ابنه في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة كما ذكره السخاوى أنه وجده بخطه.

نشأته الذاتية

نشأته الذاتية: كما سبق أن والده توفي بعد ولادته بعام، فنشأ يتيمًا وتربى في حجر والدته التي ما لبثت أن تزوجت برجل صالح كان صديقًا لوالده يسمى الشيخ عيسى المغربي الذي كان متفرغًا لتلقين الناس القرآن بجامع ابن طولون، فعاش أبو حفص في رعايته حتى عُد من أبنائه وكان يدعو الشيخ بوالده، ولقد أحسن في تربيته وحَرِص عليه بالقيام على تعليمه وتأديبه حتى نال هذه المنزلة الرفيعة في ميدان العلم، فغالب الناس لا ينال هذه الرفعة لولا أن هيأ الله له هذا الرجل الصالح الذي قام عليه بالرعاية الكريمة والحفاوة البالغة، فجزاه الله خيرًا على ما قدم له، وأناله موعود نبيه الكريم في كفالة اليتيم. بدايته العلمية: حيث إن الإِمام أبو عمر تربَّى في حجر هذا الرجل الصالح فكان لتوجيهه الأثر الطيب في تحصيله، فقد ابتدأه بتحفيظه للقرآن فحفظه، ثم حفظ عليه عمدة الأحكام وأراد أن يوجهه إلى العناية بمذهب مالك بن أنس رحمه الله ولكن ابن جماعة صديق والده أشار عليه بأن يقرئه في مذهب الشافعي، فدرس: "المنهاج" للنووي حتى حفظه، ثم أسمعه من علماء زمانه ومحدثيهم كابن سَيد الناس، والقطب الحلبي، وسمع بنفسه من الحسن بن سديد الدين وأحمد بن كشتفدني ومحمد بن غالي وغيرهم، واتجه إلى علم الحديث فحببه الله إليه منذ صغره، وسمع من عامة شيوخ عصره حتى قال عن نفسه: سمعت ألف جزء حديثية، وقد رزقه الله الحرص

رحلاته العلمية

والتحصيل والطلب الذي لا تفتر له عزيمة ولا تنام له عين ولا يهدأ له بال. رحلاته العلمية: إن ما انفرد به علماء الإِسلام، لا سيما أئمة الحديث، الارتحال والتنقل تزودًا للعلم والرواية، وملازمة للأسفار في طلب العلوم الشرعيّة، وخاصة علم الحديث، وكان المقصود من الرحلة كما قال الخطيب: أمران: أحدهما تحصيل عُلُّوِّ الإسناد، وقِدَمِ السماع، والثاني لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم، وقد رحل ابن الملقن لهذا الشأن كما هي عادة المحدثين عدة رحلات شملت بلدان كثيرة، فرحل إلى دمشق، وحماه في سنة سبعين وسبعمائة، وكان في صحبته في هذه الرحلة ابنه علي وتلميذه ابن برهان الحلبي كما ذكره ابن شهاب الدين الحجي، وقرظ له ابن السبكي جزءًا من "تخريج أحاديث الرافعي"، مع التنويه بذكره، وقد كانت لابن الملقن رحلة أخرى إلى بلاد الحرمين سنة إحدى وستين وسبعمائة كما ذكره السخاوي في "الضوء اللامع"، أنه شاهد إجازة كتبها ابن الملقن في هذه السنة. وقد ارتحل إلى بلاد المقدس للقاء الحافظ العلائي وقرأ عليه بها كتابه "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" وفيها أثنى عليه العلائي ثناء بالغًا. وقد كانت الرحلة عند علماء الحديث لها شأن عظيم لأنها تدل دلالة أكيدة على مواصلة الطالب فيما ابتدأ به، وعلى تحصيله العلمي

شيوخه

في بلده الذي انتهى منه بشهادة علمائها له، وفيها ملاقاة الشيوخ والأخذ عنهم، وكذا إجازته لمروياته لتلاميذه في غير بلده. شيوخه: في كل زمان يُوجَدُ صفوة ممتازة تكون على جانب كبير من العلم والمعرفة فيتتلمذون عليهم الطلاب ويتخرج على أيديهم نخبة تبلغ مستوى مشائخهم في التبحر في العلم، فينال الطلاب شرف النعليم على هؤلاء، كما يكون للشيخ ذكرًا حسنًا بسبب علو منزلة تلميذه. وفي هذه العجالة نذكر بعض مشائخ ابن الملقن الذي تخرج عليهم ومنهم استفاد: 1 - خليل بن كيكلدي العلائي، صاحب كتاب "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" قرأ عليه في بيت المقدس كتابه هذا. 2 - عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الهادي زين الدين الصالحي. 3 - عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي شيخ الشافعية في وقته. 4 - عبد الله بن يوسف بن عبد الله جمال الدين أبو محمد النحوي المشهور بابن هشام. 5 - علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري. 6 - عمر بن حمزة بن يونس العدوي الإربلي، أجاز له ولولده. 7 - محمد بن يوسف بن علي الغرناطي أثير الدين أبو حَيَّان

تلاميذه

الأندلسي، صاحب "البحر المحيط" في التفسير قرأ عليه في العربية. 8 - يوسف بن الزكي بن عبد الرحمن بن يوسف، الحلبي الأصل، المزِيِّ، أبو الحجاج جمال الدين. 9 - عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم عز الدين أبو عمر الكناني المصري المعروف بابن جماعة، من أعلام الشافعية في عصره، أخذ عنه الفقه. 10 - إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم شرف الدين المناوي. للاستزادة من مشائخه ينظر ما جاء في كتاب "الضوء اللامع" (6/ 100)، و"الدرر الكامنة". تلاميذه: عادة ما تكون شهرة العالم سببًا كبيرًا في كثرة التلاميذ ورحلتهم إليه من أقطار كثيرة، وقد حظي ابن الملقن بالشيء الكثير من ذلك، فترجع كثرة طلابه لأسباب: 1 - شهرة ابن الملقن، فكانت شهرته وعظمته من اسباب إقبال الطلاب عليه. 2 - دماثة أخلاقه ورحابة صدره. 3 - كثرة مصنفاته واشتهارها في زمن مبكر من عمره، حيث اشتغل بالتصنيف وهو شاب. 4 - رحلاته إلى الشام وبلاد الحرمين وغيرها فاشتهر أمره.

فمنهم على سبيل المثال لا الحصر: 1 - إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي المعروف بسبط ابن العجمي، حافظ بلاد الشام، كتب عنه شرحه للبخاري. 2 - ابن الحافظ العراقي أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي الولي أبو زرعة الحافظ المشهور. 3 - أحمد بن عثمان بن محمد الشهاب الريشي القاهري، المعروف بالكوم الريشى، عرض عمدة الأحكلام على ابن الملقن. 4 - أحمد بن علي المقريزي، تقي الدين، الإمام المؤرخ المشهور. 5 - أحمد بن علي الكناني العسقلاني الشهير بابن حجر، الإمام الكبير، خاتمة الحفاظ ت 852، تفقه على ابن الملقن، وقرأ عليه في الحديث أيضًا، وقد ذكر الحافظ ابن حجر ما قرأه على شيخه في معجمه فقال: "قرأت على الشيخ قطعة كبيرة من شرحه الكبير على المنهاج وأجاز لي، وقرأت عليه الجزئين السادس والسابع من أمالي المخلص" ثم قال: "وسمعت منه المسلسل بالأولية والجزء الخامس من مشيخة النجيب تخريج أبي العياش بن الطاهري". وقد استفاد منه ابن حجر من دروسه وانتفع بكتبه و"فتح الباري" مليء بالنقول والاستشهادات من كلام شيخه.

جمعه للكتب

6 - ابنه: علي بن عمر بن علي بن أحمد نور الدين أبو الحسن بن السراج أبي حفص القاهري، وهو الابن الوحيد له، توفي بعد أبيه بثلاث سنوات 807. 7 - محمد بن علي التقي أبو عبد الله الحسني الفاسي المكي، شيخ الإِسلام، وصاحب الكتاب المشهور "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام". 8 - محمد بن موسى بن عيسى الكمال أبو البناء الدميري صاحب كتاب: "حياة الحيوان". وغيرهم من التلاميذ والمشاهير الذين حملوا عنه العلم ورووا عنه بعض مؤلفاته. جمعه للكتب: ابن الملقن كغيره من العلماء المتقدمين في شغفهم بالكتب ولكن مما ينفرد به سعة حاله وكثرة ماله وقلة العيال، يقول ابن حجر عن شيخه: إنه حضر في الطاعون بيع كتب أحد المحدثين، فكان الوصي لا يبيع إلَّا بالنقد الحاضر، فتوجه ابن الملقن إلى منزله وأحضر كيسًا من الدراهم ودخل الحلقة فصبه، فصار لا يزيد في الكتاب إلَّا قال الوصي: بع له، وكان مما اشتراه مسند الإمام أحمد بثلاثين درهمًا وكانت هذه المكتبة كبيرة وفيها نفائس الكتب وللشيخ عيسى المغربي زوج أمه اليد الطولى في تأسيس هذه المكتبة، فقد أحسن تنمية ماله فأنشأ له ريعًا أنفق عليه قرابة ستين ألف درهم.

مصير هذه المكتبة

قال المقريزي: فكان يتحصّل له من ريع الربع كل يوم مثقال ذهب، مع رخاء الأسعار وقلة العيال. قال ابن حجر: لم أر عند أحد بالقاهرة أكثر من كتبه. مصير هذه المكتبة: تحدثنا عن كثرة كتبه وأسبابها فكان من المناسب أن نذكر مآل هذه المكتبة العامرة التي جمعت من جهات شتى وكانت مصدر خير وبركة على صاحبها وعموم المسلمين بما خلف من مصادر في جميع العلوم والمعرفة لطلاب العلم، حيث حصل عليها حريق عام جاء على جميع محتويات هذه المكتبة من المراجع ومصنفاته مما كان له الأثر الكبير في فقدان مسودات ومصنفات ابن الملقن فقد فُقد مؤلَّفه الضخم "جمع الجوامع"، فحزن ابن الملقن عليها أشد الحزن وتأسف غاية التأسف، مما كان سببًا في تغير حاله وقلة تعليمه وتدريسه في آخر عمره، ونلاحظ مشهدًا رائعًا يصوره ابنه في هذا الحريق معزيًا له حيث يقول: لا يزعجنك يا سراج الدين أن ... لعبت بكتبك ألسن النيران لله قد قربتها فتُقُبِّلت ... والنار مسرعة إلى القربان فبعد الحريق ساءت حال ابن الملقن، وأصيب بالذهول، وحجبه ابنه ولم يلبث إلَّا يسيرًا ثم توفي بعدها. عقيدته، وصوفيته: عاصر ابن الملقن رحمه الله عصر دولة المماليك، وكانت لهم

راعية هذه المناهج التي هجرت كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الاعتقاد وبالأخص ما يخالف عقيدة السلف الصالح، وذلك بالتمسك بما كان قد اعتقده أبو الحسن الأشعري قبل انتقاله إلى مذهب أهل السنة والجماعة فقد صاروا على نهجه ونبذوا خلافه وقهروا الناس وامتحنوهم حتى أصبحت لهذا المذهب المكانة في قلوب الناس عامهم وخاصهم، وصار هو الذي يدرس في المساجد ويخطب به على المنابر ويلقن الصغار في بيوتهم ومدارسهم، ويصف المقريزي ذلك في كتابه "الخطط" (3/ 306) بقوله: "حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلَّا أن يكون مذهب الحنابلة، أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد عن السلف" إلخ، وسيمر بك أيها القارئ نماذج من تأويلاته وقد علقت عليه بما قاله علماء السلف. وقد زاد في هذا العصر ما أوحته الشياطين إلى أوليائهم فزينوا لهم التعلق بالقبور وطلب المدد والغوث من أصحابها مما صار سببًا كبيرًا في ضعف العقيدة، وأيضًا ما حصل لهم من التبرك بما يسمونهم أولياء أو صالحين في اعتقادهم كالتبرك بثيابهم أو آثارهم أو ريقهم ونحو ذلك، وسيمر بك شيء من هذا في هذا الكتاب. أما صوفيته فيكفي فيه أنه له مؤلف سماه "طبقات الأولياء" ساق فيه العجب العجاب من الاطلاع على المغيبات وإحياء الموتى، وإظهار ما غيب في النفوس. فكل هذا أثر من آثار دولة المماليك التي اهتمت بهذا حتى أنشئت لهم الزوايا تقديسًا لهذه الطائفة، حمانا الله وجميع المسلمين من فتنة القول والعمل.

مناصبه

مناصبه: لم يكن ابن الملقن قَدْ نال مناصب كبيرة مع شهرته العلمية؛ لأن جل وقته كان مصروفًا إما للتعليم أو التأليف والنسخ، وقد ولي مناصب في فترات بسيطة نذكر منها: ا- تولى قضاء الشرقية ثم تركها بعد لابنه علي. 2 - تولى الميعاد بجامع الحاكم في سنة ستين وسبعمائة. 3 - رئاسة أمر دار الحديث الكاملية خلفًا للزين العراقي. 4 - ترشيحه لقضاء القضاة الشافعية فحصل له محنة بسببها. ابتلاؤه: قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}. فالابتلاء اختبار للعبد عن قوة إيمانه وصدق عزيمته، وهي محنة للعبد حتى يَلْقَى الله وليس عليه خطيئة، مقابل ما حصل له من هذه المحنة، وقد حصل للعلماء مِحَنٌ كثيرة فمنهم من كانت تجدد له على مدار عمره ومنهم من ختمت بها حياته، وقد أصاب ابن الملقن شيء من هذه المحن ونترك المجال للسخاوى يحدثنا عن ذلك فقد حكى أن برقوقًا عزم على ولاية ابن الملقن منصب قضاء القضاة الشافعية، فعلم بعض الناس بذلك فزوّر ورقة على لسان ابن الملقن بدفع أربعة آلاف دينار إلى أحد الأمراء حتى يتم الأمر، ووصلت إلى برقوق فجمع العلماء وسأل ابن الملقن: هذا خطك؟ فأنكر وصَدَق في إنكاره، فغضب برقوق وزاد حنقه، وأهانه وسجنه ثم خلصه الله تعالى بعد مدة يسيرة بشفاعة البلقيني وطائفة من العلماء وقد كانت هذه المحنة سنة ثمانين وسبعمائة.

ثناء العلماء عليه

ثناء العلماء عليه: كان القدماء يعظمونه وقد ترجمه جماعة من أقرانه الذين ماتوا قبله: 1 - وصفه الحافظ العلائي: الشيخ الإمام العالم المحدث الحافظ المتقن سراج الدين، شرف الفقهاء والمحدثين، فخر الفضلاء. 2 - وصفه العلامة ابن فهد: بالإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، عمدة المحدثين وقدوة المصنفين. 3 - ووصفه الحافظ العراقي بالشيخ الإمام الحافظ. 4 - وقال عنه العثماني قاضي صفد وهو من أقرانه، في "طبقات الفقهاء": بأنه أحد مشايخ الإِسلام، صاحب التصانيف التي ما فتح على غيره بمثلها في هذه الأوقات. 5 - وقال البرهان الحلبي: كان فريد وقته في كثرة التصانيف، وعباراته فيها جلية، وغرائبه كثيرة. 6 - وقال عنه السيوطي: الإمام الفقيه ذو التصانيف الكثيرة، برع في الفقه والحديث. مؤلفاته: من المعروف أن ابن الملقن بدأ في التأليف وهو في سن الشباب وانتشرت في حياته، وقرظ الكبار عليها كابن السبكي، والعماد ابن كثير رحمهما الله.

قال العلامة ابن فهد: وفد صار بجملة منها رواة الأخبار واشتهر ذكرها في الأقطار، وكان رحمه الله تعالى عليه له فوائد جمة، ويستحضر غرائب، وهو من أعذب الناس لفظًا وأحسنهم خلقًا وأجملهم صورة وأفكههم محاضرة، كثير المروءة والإحسان ... إلخ. وقال تلميذه البرهان الحلبي: إنه كان فريد وقته في التصنيف، وعبارته فيها جلية جيدة. أقوال العلماء فيما انفرد به: قال ابن حجر: إن العراقي والبلقيني وابن الملقن كانوا أعجوبة ذلك العصر: الأول: في معرفة الحديث. والثاني: في التوسع في مذهب الشافعى. والئالث: في كثرة التصانيف. وكل واحد من الثلاثة ولد قبل الآخر بسنة ومات قبله بسنة فأولهم ابن الملقن ثم البلقيني ثم العراقي. وقال البرهان الحلبي: حفاظ مصر أربعة أشخاص وهم من مشايخي: البلقيني هو أحفظهم لأحاديث الأحكام، والعراقي أعلمهم بالصنعة، والهيثمي وهو أحفظهم للأحاديث من حيث هي، وابن الملقن هو أكثرهم فوائد في الكتابة على الحديث. وقال السيوطي: قال بعضهم: تفرَّد على رأس الثمانمائة خمسة

نذكر من مؤلفاته ما يلي

بخمسة: البلقيني بالفقه، والعراقي بالحديث، والغماري بالنحو، وصاحب القاموس باللغة، وابن الملقن بكثرة التصايف. نذكر من مؤلفاته ما يلي: 1 - إرشاد النبيه إلى تصحيح التنبيه. 2 - الإرشاد إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات. 3 - الأشباه والنظائر. 4 - الإشراف على الأطراف. 5 - إكمال تهذيب الكمال. 6 - أمنية النبيه فيما يرد على التصحيح والتنبيه. 7 - البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير. 8 - البلغة في أحاديث الأحكام. 9 - التذكرة في علوم الحديث، رسالة صغيرة مطبوعة. 10 - التذكرة في الفقه الشافعي، مطبوعة. 11 - رجال الكتب العشرة. 12 - رسالة في تتبع أوهام ابن حزم. 13 - شرح الألفية. 14 - شرح المنتقى في الأحكام. 15 - طبقات القراء. 16 - طبقات المحدثين. 17 - طبقات الأولياء. 18 - عدد الفرق.

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام

19 - رسالة في الكلام على تشبيك الأصابع ذكرها في الجزء الثالث ص 289 من هذا الكتاب. 20 - العدة في معرفة رجال العمدة، قال عنه مؤلفه: في مجلد، غريب في بابه، وأشار إليه المؤلف في خطبة الإعلام. 21 - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام- وهو كتابنا هذا: شرح لعمدة الأحكام لتقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد الجماعيلي المتوفى سنة 600، والإِعلام من أهم كتب ابن الملقن وأكبرها وهو يقع على حسب تجزئة المؤلف في ستة أجزاء. وقال عنه مؤلفه: عز نظيره. وقال صاحب كتاب طبقات الشافعية: من أحسن مصنفاته. وقد لخص الإِعلام أحد تلاميذه محمد بن عبد الدائم العسقلاني، انظر الضوء اللامع: (7/ 282)، وكان حفيده الجلال عبد الرحمن بن علي يدرس الإعلام. فسبب تأليف الكتاب: تعليق حال قراءتها عليّ -أي الطلاب- وتردد قاريها إليّ، ويقول: "وخصصت الكلام عليها لإكباب جميع المذاهب عليها". منهجه في الشرح: يقول: حصرت الكلام في خمسة أقسام: الأول: التعريف بمن ذكر من رواة الحديث وبيان حاله وضبط نسبه ومولده ووفاته على وجه الاختصار.

أبناؤه

ثانيًا: التنبيه على أحاديث وقعت في الكتاب من أفراد الصحيحين وهو مخالف لشرطه في الخطبة كما ستعلمه عند شرحها. ثالثًا: التنبيه على الأسماء المبهمة. رابعًا: ضبط لفظه وبيان إعراب ما يشكل إعرابه وغريبه. خامسًا: -وهو المهم- الإِشارة إلى بعض ما يستنبط من الحديث من الأصول والفروع الآداب وغيرها حسبما تيسر، والجمع بين مختلف الحديث والناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمجمل والمبين وتبيين المذاهب الواقعة فيه مع ذكر وجهها ... إلخ. أبناؤه: لم يخلف ابن الملقن إلَّا ابنًا واحدًا هو علي ويلقب بنور الدين، ولد في سنة ثمان وستين وسبعمائة ونشأ في كنف أبيه، فحفظ القرآن وكتب وعرض على جماعة، برع في الفقه ودرس بعد أبيه في عدة مواضع، وناب في الحكم عدة أعوام حتى فخم ذكره وتعين لقضاء القضاة الشافعية. وترجم له ابن تغرى بردى في "الدليل الثاني" ووصفه بالعلامة. وقد ألّف من الكتب اختصارًا "للغوامض والمبهمات" لابن بشكلوال مع حذف أسانيده، وقد خلف علي ثلاثة من الولد هم الجلال عبد الرحمن، وأختاه: خديجة، وصالحة.

وفاته

وفاته: توفي ابن الملقن -عليه رحمة الله- ليلة الجمعة سادس عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانمائة، فيكون عمره واحدًا وثمانين سنة، فرحمة الله عليه حيث قضى هذا العمر في التعلم والتعليم والتصنيف والتحقيق، فجزاه الله عن أمة محمد خير الجزاء حيث أدى ما تحمل من الأمانة نصحًا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. تحقيق نسبة الكتاب إليه 1 - ذكر صاحب كتاب طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة بعد أن ذكر مصنفاته: شرح العمدة سماه (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" وهو من أحسن مصنفاته (4/ 46). 2 - ذكره منسوبًا إليه ابن فهد في لحظ الألحاظ (ص 369) بعد ذكر مصنفاته: شرح عمدة الأحكام ... إلخ. 3 - وكذا السيوطي في ذيل طبقات الحفاظ (ص 369) بعد ذكر مصنفاته: وشرح العمدة. 4 - وكذا الشوكاني في البدر الطالع (1/ 508) بعد ذكر مصنفاته: وشرح العمدة المسمى بالإعلام في ثلاثة مجلدات، وأسماء رجالها في مجلد، وقد ذكرها ابن الملقن في المقدمة. 5 - ما جاء في بعض الإِحالات على كتب لابن الملقن، كتحفة المنهاج، الإشارات إلى ما في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات، غاية السول في خصائص الرسول. المقنع في علوم الحديث.

عنوان الكتاب

6 - ذكره لإحالة عليه في كتابه البدر المنير (3/ 27). 7 - ما جاء على ظهر قرابة أربع نسخ -والموجودة عندي- من نسبة الكتاب إليه. عنوان الكتاب: 1 - تسمية المؤلف له في "البدر المنير" (3/ 27) "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام". 2 - جاء في طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (4/ 46). 3 - أما السيوطي وابن فهد والشوكاني فلم يذكروا التسمية وإنما أشاروا إشارة إلى شرحه للعمدة. 4 - ما جاء على ظهر نسخة "ب" "د": الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، وفي الأصل المفهرس: "الإعلام في فوائد عمدة الأحكام" أما نسخة (ج) فلم يكتب عليها شيئ وكذا نسخة (هـ) وإنما الكتابة للمفهرس. 5 - ما جاء في المقدمة في ن. أ. ب. 6 - ما جاء في غلاف الأصل في الأجزاء الثلاثة بهذه التسمية. ترجيح العنوان: وقد رجحت أن يكون عنوان الكتاب "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" للأسباب الآتية: 1 - أنها تسمية المؤلف في مقدمة كتابه.

وصف النسخ

2 - ما ذكره في كتابه العظيم "البدر المنير" (3/ 27) حيث سماه بذلك. 3 - أن أقرب المصادر إلى المؤلف وهو طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة المولود عام 779 م والمتوفى عام 851 هـ، يعتبر من معاصريه وممن اطّلع على نسخة المؤلف، قد أشار إلى هذه التسمية في ترجمته لابن الملقن (4/ 46). وصف النسخ: لما بدأت بحمد الله الفكرة في تصحيح هذا الكتاب ونشره يسر الله سبحانه خمس نسخ خطية، والتي جعلت هذه النسخ تتوفر بهذا العدد مكانة المؤلف العلمية وقيمة الكتاب حيث شهرته وحاجة الطلّاب إليه، ولما بدأت العمل واجهتني بعض الصعوبات والتي لا يخلو منها كتاب كترجيح بعض الألفاظ على بعض ترجيحًا علميًا، والمشتغلون بالتحقيق يدركون مدى صعوبة العمل إذ لم يخل الكتاب من السقطات والأخطاء الإملائية والنحوية وغيرها التي كثيرًا ما تخل بالمعنى- وإليك وصف النسخ: * النسخة الأولى: وهي الأصل وقد رمزت لها مرة بالأصل، ومرة (أ) وهي نسخة كاملة ومكونة من أربعة أجزاء ومجموع الصفحات 1852 وعدد الأسطر في كل صفحة يتراوح بين 29 - 30 سطر، وخطها واضح إلَّا أنه مع بُعد العهد ومع الرطوبة قد تأثرت بعض الكلمات، والطمس فيها قليل وعليها بعض التصحيحات، وكتبت في حياة المؤلف ومن أصله كما ستلاحظه قبل الحديث الثاني عشر من كتاب المواقيت، وهي موزعة كالآتي.

الجزء الأول: بداية في أول الكتاب وينتهي في باب وجوب الطمأنينة، وعدد ورقه 196 ورقة x 2 ، ولم يذكر تاريخ النسخ عليها. الجزء الثاني: يبدأ من وجوب القراءة في الصلاة وينتهي في الهدي، وعدد ورقه 276 ورقة x 2 ، وكتبت في 4 رمضان عام 774. الجزء الثالث: يبدأ من باب الغسل للمحرم وينتهي في كتاب اللعان، وعدد ورقه 162 ورقة x 2، وتاريخ الكتابة 14جمادى الآخرة عام 775. الجزء الرابع: من كتاب الرضاع إلى نهاية الكتاب "التدبير" وعدد ورقه 297 ورقة x 2، في مستهل ربيع الآخر سنة 776. وقد اخترت هذه النسخة لقرب عهدها من المؤلف ولأنها نسخة كاملة مشتملة على الكتاب من أوله إلى آخره. مصدرها من الجامعة الإسلامية ورقمها 1 وفيما يظهر أن النسخة قد قرئت وعليها تملكات كثيرة. وهذه النسخة هي الموجودة في جامعة أم القرى وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمكتبة السعودية التابعة لرئاسة الإفتاء وأصلها من المكتبة الظاهرية. * أما النسخة الثانية: وقد رمزت إليها بحرف "ب"، فهي جزء واحد وخطها مختلف فبعضه صغير والآخر كبير في آخر المخطوطة،

وعدد ورقها 201 ورقة، كتبت عام 1125 هـ، ويظهر أنها نقلت من نسخة الأصل وعدد الأسطر 29، ورقمه (475/ 2) من الجامعة الإسلامية، وبدايتها من أول الكتاب حتى نهاية الاعتكاف، وعليها بعض التصحيحات. * أما النسخة الثالثة: وقد رمزت لها بحرف (جـ)، وفيها سقط من الأول ويظهر أن كاتبها ليس بطالب علم، وإن كان فيها بعض التهميشات والتصحيح فربما آلت ملكيتها لأحد طلبة العلم؛ لأنها قد ضبطت بعض الأحرف وعدد صفحاتها 134 ورقة، عدد الأسطر 21، وعليها بعض التملكات ولكن لم تظهر ولم يذكر فيها تاريخ النسخ ويترجح عندي أنها كتبت في أول القرن الرابع عشر. وهي موجودة في مكتبة المسجد النبوي بالمدينة شرفها الله تعالى. * أما النسخة الرابعة: فقد رمزت لها بحرف "د"، بدايتها كتاب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآخرها كتاب الاعتكاف، عدد ورقها 223 ورقة، وعدد الأسطر 25، وقد كتبت بخط واضح وجميل ولم يكن فيه نقص ولا سقط، وقد ألحق بالحاشية بعض التصحيحات، ولو كملت لأغنت عن جميع النسخ؛ لأن كاتبها نقلها من نسخة المؤلف في حياته، وهو من عداد العلماء وهو إبراهيم بن محمد بن علي الشهير بإمام الكاملية رحمه الله تعالى. وتاريخ نسخها عام 790 هـ، وهي مصورة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عمرها الله بالخير. أما النسخة الخامسة: وقد رمزت لها بحرف "هـ"، وهي

مصورة من الجامعة الإسلامية بفيلم رقم 2839/ ف ومصدرها مكتبة الأزهر ورقمها 829 رواق المغاربة، تاريخ كتابتها عام 890 هـ، وعدد أوراقها 240 ورقة مكونة من جزئين وعدد الأسطر 29 كاتبها محمد بن رجب الشافعى الزبيري رحمه الله تعالى، بدايتها كتاب الزكاة ونهايتها آخر الكتاب، وفيها سقط وكتابتها غير جيدة.

أهمية الكتاب

أهمية الكتاب تتبين أهمية هذا الشرح من خلال الفقرات التالية: 1 - تأتي أهمية الكتاب هذا وشرحه أول ما تأتي أنه مستخرج من الصحيحين، حيث اعتمد الحافظ المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام) عليهما فانتقى منهما ما ارتآه من أحاديث الأحكام، وجعل الله لهذا الكتاب قبولًا من أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم، ونفع الله به نفعًا عظيمًا وذلك من أمارات حسن قصد المؤلف -رحمه الله تعالى- وسلامة منهجه وعظيم توفيق الله له، ولذا اعتنى به أهل العلم حفظًا وتدريسًا، وشرحًا وتعليقًا، وهذا مما يعطي أهمية لهذا الشرح الذي اخترت تحقيقه ونشره بين طلبة العلم. 2 - تداول جميع المذاهب الفقهية له قراءة وتدريسًا وشرحًا فهو من الكتب التي لقيت قبولًا عامًا لدى جميع العلماء. 3 - أن مؤلف هذا الشرح هو الإمام العلامة ابن الملقن الذي تكاثرت عبارات أئمة أهل العلم في الثناء عليه وبيان رفعة

بيان عملي في الكتاب

منزلته العلمية حيث وصف "بالحافظ" "العلَّامة" "الإمام" "شيخ الإِسلام". 4 - أن هذا الكتاب مستسقى من عدة شروح لكتاب (عمدة الأحكام) سابقة للمؤلف كابن دقيق العيد وابن العطار والفاكهي وغيرهم ممن اهتموا بشرح هذا الكتاب والتعليق عليه، فيكون كالجامع لها. 5 - قلة الكتب ذات الآن المتخصصة في شرح أحاديث الأحكام وخاصة عمدة الأحكام فإنه مع كثرة المخطوط منها فالمطبوع قليل أو يندر. 6 - اعتماد أهل العلم على هذا الشرح فنقلوا منه في كتبهم وأحالوا عليه. 7 - أن في نشر الكتب العلمية إثراء للمكتبة الحديثية في مثل هذا النوع من الكتب. بيان عملي في الكتاب: يتلخص فيما يلي: 1 - نسخ الكتاب من المخطوط، معتمدًا في ذلك نسخة المكتبة الظاهرية وهي النسخة الأصل، مع الإشارة إلى بدايات كل صفحة من أوراقها مشيرًا إلى أرقام الصفحات، مع التفريق بين ما إذا كانت تمثل الوجه الأيمن أو الأيسر من الصفحة، مميزًا بالرمز "أ" للوجه الأيمن "ب" للوجه الأيسر، وهذا في جميع المخطوطات التي تمت المقابلة بينها وبين المخطوطة الأصلية،

فيكون [1/ أ/ أ]، فالرقم الأول يشير إلى عدد الصفحة وحرف "أ"، الأوسط يشير إلى رمز المخطوطة والحرف الأخير "أ"، يشير إلى جهة الصفحة، مراعيًا في ذلك القواعد الإملائية الحديثة في رسم الكلمات التي جاءت مخالفة كـ: مسئلة، مشايخ، وغيرها فقد كتبتها وفق الرسم الحديث لتظهر "مسألة، مشائخ"، أيضًا: إضافة ما كان في هامش النسخ وكتب عليه علامة "صح" إلى صلب الكتاب، أيضًا: تصحيح الكلمة المخالفة للفصيح وإضافة النقط للكلمات التي أهمل نقطها وكتابة الكلمات كتابة نحوية صحيحة إذا ورد ذلك وهو قليل. 2 - الاجتهاد في المقابلة بين النسخ وإثبات الفروق في الهامش، لإكمال السقط، ورمزت لكل نسخة برمز هي موضحة في نماذج صور المخطوطات، متبعًا ما يأتي: (أ) إذا وجدت اختلاف بين النسخ فإنني أجتهد حسب الطاقة في اختيار الصواب في صلب الكتاب معتمدًا في ذلك على مرجحات منها: تناسب السياق، أو مناسبة الكلام وغير ذلك، وإذا تم ذلك أثبته في النص مع الإشارة إلى خلافه وإلى ما تم اختياره من النسخ. (ب) الإشارة إلى ما سقط من النسخ في الهامش. (ج) إصلاح التصحيف في النسخة الأصلية وذلك بالرجوع إلى النسخ الأخرى، أو التنبيه على ذلك بما توصلت إليه من المصادر.

(د) إضافة ما ترجح عندي أنه ساقط من الأصل من النسخ أو من المصادر التي رجع إليها المؤلف، وغالبًا ما أكتفي بالإشارة إلى ذلك، وما أهمل استدركته من "إحكام الأحكام" حيث يعتبر نسخة سادسة لهذا الكتاب لكثرة النقل منه، معتمدًا في ذلك على النسخة المطبوعة بها حاشية الصنعاني. 3 - جرت عادة النساخ بالاختلاف في الكتابة للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتصروا على قولهم "عليه السلام"، ولا يذكروا الصلاة، في بعض الأحيان لا يذكروا لفظ التسليم فخوفًا من إطالة الحاشية فإنني قد اقتصرت على ما في النسخة الأم معرضًا عن هذا الاختلاف ولم أشر إليه في الهامش لكثرته، إلَّا قليلًا في بداية الكتاب. 4 - وجود كلمات لم أستطع قراءتها ولا المراد منها أو طمس، فأضعها بين قوسين وأشير في الهامش إلى معناها أو أجتهد في تقدير الكلمة المطموسة في الهامش. 5 - عزو الآيات القرآنية الواردة في النص إلى موضعها في المصحف. 6 - عزو الأحاديث التي في العمدة إلى مواضعها في غير الصحيحين من كتب السنة المشهورة سواء ورد بلفظه كاملًا أو بمعناه. 7 - عزوت كل حديث أورده ابن الملقن في الشرح إلى مصدره في كتب السنة المشهورة سواء ورد بلفظه كاملًا أو بمعناه.

8 - الاجتهاد في البحث للحكم على الأحاديث التي لم يحكم عليها ابن الملقن أو أطلب ما يؤيد حكمه وذلك معتمدًا فى النقل على فحول علماء هذا الشأن. 9 - توثيق النقول التي ينسبها المؤلف إلى أصحابها، وإذا لم يصرح فإنني أبحث عن ذلك للوقوف عليه وهذا قليل ولم يفوتني ذلك إلَّا نزرًا يسيرًا وهذا يرجع إلى عدة أسباب إما عدم طبع الكتاب أو ندرته وعدم وجوده. 10 - ترجمت للأعلام الواردين في النص ترجمة مختصرة. 11 - لم أوثق نقول المؤلف في ترجمة الرواة لأن هذا كثير بالنسبة إلى نقله وقد يثقل على القارئ كثرة الهواش وخصوصًا أنها ليس فيها حكم شرعي، وأيضًا ما ساقه من الأحاديث في فضائلهم الخصوصية. 12 - ضبط ما يشكل على القارئ قراءته أو يلتبس عليه بالشكل مع شرح بعض الكلمات اللغوية. 13 - ضبط ترقيم الأحاديث وذلك بالإشارة إلى رقم الحديث العام ورقم الحديث بالنسبة للباب وترقيم الأبواب، هكذا [1/ 2/ 3]، فالرقم الأول يشير إلى رقم الحديث، والرقم الثاني يشير إلى رقم الباب، والرقم الثالث يشير إلى رقم الحديث بالنسبة للأبواب. 14 - وضع الفواصل بين الكلمات وعلامات الترقيم المتفق عليها حديثًا ليستقيم المعنى.

15 - وضع عناوين جانبية لتساعد القارئ على فهم المراد من هذا الكلام. 16 - وضع فهارس: (أ) فهارس عامة ومختصرة في كل جزء. (ب) وضع فهارس علمية، وتشتمل على ما يأتي: (1) فهرس للآيات القرآنية. (2) فهرس للأحاديث النبوية والآثار. (3) فهرس للقواعد الأصولية. (4) فهرس للأعلام. (5) فهرس للكلمات الغريبة. (6) فهرس للأماكن ونحوها. (7) فهرس لمصادر المؤلف. (8) فهرس للمصادر والمراجع الخاصة بالتحقيق. وهذه الفهارس ستكون إن شاء الله عند النهاية من الكتاب. 17 - التنبيه على أخطاء المؤلف في العقيدة، وقد سبق أن بينت عقيدته في الترجمة وأنه أشعري وعنده شيء من التصوف. 18 - نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأئمة الدعوة -رحمهم الله- وترجيح ما رآه في كثير من المسائل.

وفي النهاية فإنني أشكر كل من ساعدني في إنجاز هذا العمل، وهم كثر، فجزاهم الله عني خير الجزاء، وقد يفوتني بعض العزو إلى من نقلت عنه فأرجو من القارئ أن يعذرني في التقصير على ذلك وأن ينبهني إلى وجود خطأ لاستدراكه في الطبعات القادمة إن شاء الله. نسأل الله سبحانه أن يجزي الجميع خيرًا وأن يضاعف أجورنا ويغفر لنا سيئاتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وكتبه أبو أحمد عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن حمود المشيقح في مدينة بريدة، حرسها الله من كل سوء في يوم الخميس، الثامن والعثسرين من شهر جمادى الثاني عام 1415 هـ

مخطوطة (أ) ويظهر فيها عنوان الكتاب

صفحة (1) من مخطوطة (أ) الأصل

الصفحة الأخيرة من مخطوطة (أ)

الصفحة الأولى نموذج (ب)، ويظهر عنوان الكتاب

الصفحة الثانية بداية الكتاب من نموذج (ب)

الصفحة الأخيرة من نموذج (ب)

الصفحة الأولى من نموذج (ج)

الصفحة الأخيرة من نموذج (ج)

الصفحة الأولى، ويظهر عنوان الكتاب من نموذج (د)

الصفحة الأولى من نموذج (د)

الصفحة الأخيرة من نموذج (د)

نموذج (هـ)، ويظهر غلاف الكتاب

الصفحة الأولى من نموذج (هـ)

الصفحة الأخيرة من نموذج (هـ)

النص المحقَّق

بسم الله الرحمن الرحيم {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} (¬1) الحمد لله (¬2) أتمَّ الحمد وأكمله، وأعمه وأشمله، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، شهادة هي للفوز محصلة، وللنجاة متكفلة، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، خير الخلق آخره وأوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه "وسلم" (¬3)، صلاة زاكية دائمة بكل زمن متصلة، وبعد: فهذه نبذة مهمة على كتاب عمدة الأحكام في أحاديثه -عليه أفضل الصلاة والسلام- تأليف الحافظ تقي الدين أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقى (¬4) الصالحي الحنبلي، سقا الله ثراه، وجعل الجنة مأواه [علقتها] (¬5) حال قراءتها عليَّ، وتردد قاريها إليَّ، وخصصت الكلام ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 10. (¬2) في ن ب زيادة (الذي). (¬3) زيادة من ن، ب. (¬4) في ن ب زيادة (واو). (¬5) في ن ب (علقها).

عليها لإِكباب جميع المذاهب عليها، وحصرت الكلام في خمسة أقسام: الأول: التعريف [بمن] (¬1) ذكر من رواة الحديث، وبيان حاله، وضبط نسبه، ومولده ووفاته، على وجه الاختصار، فإني أفردت هذا بالتصنيف وسميته "العدة في معرفة رجال العمدة" (¬2)، ولله الحمد على إكماله، وهو مهم فسارع إليه. الثاني: في التنبيه على أحاديث وقعت في الكتاب من أفراد الصحيحين، وهو مخالف لشرطه في الخطبة كما ستعلمه عند شرحها، نعم هي قليلة جدًا كما ستراها في مواضعها إن شاء الله تعالى (¬3). الثالث: بيان ما وقع فيه من [المبهمات] (¬4)، وقد ظفرت بغالبه ولله الحمد. الرابع: في ضبط لفظه وبيان إعراب ما يشكل وغريبه. الخامس: -وهو المهم- الإشارة إلى بعض ما يستنبط [من الحديث] (¬5) والأصول والفروع والأدب وغيرها حسبما تيسَّر بفضل الله ومَنِّه، ما لا يجتمع في غيره، والجمع بين مختلفها، وإيضاح ¬

_ (¬1) في ن ب (ممن). (¬2) انظر: تحفة المحتاج (1/ 86). (¬3) انظر: كتاب تصحيح العمدة للإمام الزركشى، تحقيق د. مرزوق الزهراني، في مجلة الجامعة الإسلامية، عدد (75، 76). (¬4) في الأصل (المهمات)، والصحيح من ن ب. (¬5) في ن ب زيادة (من).

ما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمبين والمجمل، وتبيين المذاهب الواقعة فيه، وذكر وجهها وما يظهر منها على وجه الإنصاف، وما لا يظهر، وأعرض عما فعله بعض الشراح من إيراد [مسائل] (¬1) لا تستنبط من ألفاظ الحديث، كمن يأتي إلى حديث يدل على جواز مسح الخف مثلًا، فيأتي [بمسائل] (¬2) ذلك الباب من غير أن تكون مستنبطة من الحديث الذي تكلَّم عليه، وإن أمكن فبطريق مستبعد، وأعرض أيضًا عما فعله قوم من الاسترسال في وجوه الاستنباط، فإن تعرضت له نبهت على بعده وعدم ظهوره، وأتبع ذلك على ما وقع للشراح من المؤاخذات، إلى غير ذلك مما ستراه واضحًا إن شاء الله تعالى من الفوائد والفرائد، وسميته "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" أسال الله الكريم إتمامه مصونًا عاجلًا، وأن يجعله لكل خير كافلًا لا رب سواه ولا نرجو إلَّا إيَّاه حسبنا [الله ونعم الوكيل ولا حول] (¬3) ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، [اعتصمت] (¬4) بالله ألجأت ظهري إلى الله اعتمدت على الله، اللهم انفع به [مؤلفه وقارئه والناظر فيه وجميع] (¬5) المسلمين. فصل: في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشرف الكتاب به، ولمعرفه فوائد ¬

_ (¬1) في ن ب (ما لا يستدرك). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب مطموسة. (¬4) في ن ب مطموسة. (¬5) في ن ب (مخرومة الكلمة).

[لا تحصى هو: محمد بن] (¬1) عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي -بالهمز، وقيل: [مرة] (¬2) - بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس -بكسر الهمزة وفتحها- بن مضر [ابن نزار بن] (¬3) معد بن عدنان، إلى هنا إجماع الأمة، وما وراءه مختلف (فيه) (¬4)، كنيته أبو القاسم، وكناه جبريل أبا إبراهيم (¬5)، ويكنى أبا الأرامل أيضًا. وأمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب. وأسماؤه كثيرة ذكر ابن عساكر منها جملة، وذكر ابن العربي (¬6) منها [ستين] (¬7) اسمًا (¬8) سردها وقال: [وله] (¬9) وراء ذلك أسماء، وقال بعض الصوفية: له ألف اسم، وذكر له ابن دحية فوق المائتين في جزئين وقد لخصتهما فيما اختصرته من (دلائل ¬

_ (¬1) في ن ب مطموسة. (¬2) في ن ب مطموسة. (¬3) في ن ب مطموسة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) ضعفه الذهبي في السيرة النبوية (ص 11) وأفادنى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله مشافهة بأن الشيعة هم الذين يكنون النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكنية. (¬6) في القبس (3/ 1200). (¬7) في الأصل (ستون)، وما أثبت من ن ب. (¬8) في ن ب زيادة (ثم). (¬9) في الأصل (إنه)، والتصحيح من ن ب.

النبوة) (¬1) للبيهقي، أعان الله على إكماله. ولد عام الفيل، وقيل: بعده بثلاثين سنة، وقيل: بأربعين سنة، واتفقوا على ولادته يوم الاثنين في ربيع الأول، قيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان، وقيل: لعشر، وقيل: لثنتي عشرة وهو أشهر. وبُعثَ رسولًا إلى الناس كافة وهو بمكة ابن أربعين سنة، وقيل: أربعين ويوم، ثم أقام بها بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشرًا، وقيل: خمس عشرة، ثم هاجر إلى المدينة فأقام بها عشرًا بالاتفاق، والصحيح في عمره ثلاث وستون (¬2) وقدم المدينة يوم الاثنين ضحى لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وابتدأ التاريخ من الهجرة. قال الحاكم أبو أحمد: يقال نبىء يوم الاثنين، وخرج من مكة مهاجرًا يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وفيه ولد وتوفي. فصل: في نبذة مختصرة من حال مصنف هذا الكتاب المبارك الذي عمَّ النفع به وكم من قاصد "تحداه" (¬3) فلم ينل شيئًا من مرتبته وهذا مما يدل على صدق نية مؤلفه وعلو منزلته، هو الحافظ الإمام محدث الإِسلام تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن ¬

_ (¬1) انظر: كشف الظنون (760). (¬2) في ن ب زيادة (سنة). (¬3) في ن ب (عدّاه).

علي بن سرور المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي ثم المصري الحنبلي، صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وأربعين وخمس مائة بجماعيل، سمع ابن البطي وطبقته ببغداد، وأبا طاهر السلفي بالثغر، وأقام عليه ثلاثة أعوام، ولعله كتب عنه ألف جزء، والحافظ أبا موسى المديني وأقرانه بأصبهان، وعلي بن هبة الله الكاملي بمصر وسمع أيضًا من غيرهم، وكتب ما لا يوصف كثرة، وما زال ينسخ ويصنف ويحدث ويعبد الله حتى أتاه اليقين، روى عنه [ولداه] (¬1)، أبو الفتح، وموسى، وعبد القادر الرهاوي، والشيخ موفق الدين، والضياء، وابن خليل، وابن عبد الدائم، وابن عزون، وابن علاق، وحدَّث بالكثير وصنَّف في الحديث تصانيف حسنة، وكان غزير الحفظ من أهل الإتقان والتجويد، وكان كثير العبادة ورعًا متمسكًا بالسنة على قانون السلف [خرج] (¬2) من دمشق لكائنة (¬3) وأقام بمصر إلى أن توفي. وصفته أنه ليس بالأبيض الأبهق يميل إلى سمرة، حسن الثغر كث اللحية واسع الجبين، عظيم الخلق تام القامة كأن النور يخرج من وجهه، ضعف بصره من كثرة الكتابة والبكاء، وحدَّث ببغداد ودمشق ومصر والإِسكندرية، قال ابن خليل: كان دائم الصيام كثير الِإيثار، يصلي كل يوم وليلة ثلائمائة ركعة ومن تصانيفه "المصباح" يشتمل على أحاديث الصحيحين، "نهاية المراد في ¬

_ (¬1) في ن ب تصحيف (والده). (¬2) في ن ب (نزح). (¬3) انظر ترجمته التي كتبتها في مقدمة الكتاب لتقف عليها.

السنن" في نحو مائتي جزء لم يتمه، "المواقيت"، "الجهاد"، "الروضة"، "فضائل خير البرية"، "الذكر"، "الإسراء"، "البهجة"، "الفرج"، "صلات الأحياء إلى الأموات"، "الصفات الحسنة"، "فضل مكة"، "غنية الحفاظ في مشكل الألفاظ"، "الحكايات" أزيد من مائة جزء، وتصانيف كثيرة جزء جزء (¬1) ومما ألفه بلا إسناد "هذه العمدة"، و"العمدة الكبرى"، و"درر الأثر والكمال" عدة مجلدات و"السيرة" و"الجامع الصغير لأحكام البشير النذير" ولم يتمه، و"مناقب عمر بن عبد العزيز". قال الضياء: وكان أمير المؤمنين في الحديث، وقد ترجمه في أربعة كراريس ذكرت منها في الكتاب المشار إليه أوراقًا (¬2) فراجعها. مات -رضي الله عنه ونوّر ضريحه- في يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأول سنة ستمائة، قال المنذري: مات بمسجد ابن الفرات بمصر ودفن بسفح المقطم بالتربة المعروفة به. وبيننا وبينه اثنان، فإن جماعة من شيوخنا أخبرونا بهذا الكتاب وبغيره عن مسند وقته الفخر بن البخاري عنه، منهم الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي، وفتح الدين بن سيد الناس اليعمري، وغيرهما، وأخبرني أيضًا [السيد] (¬3) الأمير [بدر الدين] (¬4) ¬

_ (¬1) في نسخة ب (خرجن). (¬2) في ن ب زيادة (في الخطبة). (¬3) في ن ب (المسند). (¬4) في ن ب مطموسة.

أبو علي حسن بن محمد بن عبد الرحمن الأرملي -عرف بابن السديد- عن ابن عبد الدائم عنه، وهذا أعلى [ما يقع] (¬1) في زماننا ولله الحمد. فصل: في شرح خطبته أيضًا على طريق الاختصار: قال رحمه الله ونفعنا به: "الحمد لله"، الكلام عليه من وجوه: أحدها: إنما بدأ بالحمد [لله] (¬2) لأمور. أولها: الاقتداء بكتاب الله تعالى فإنَّه مفتتح به. ثانيها: لامتثال أمر الله تعالى ونبيه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] (¬3). وقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (¬4). وقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (¬5). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب مطموسة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة النمل: آية 59. (¬4) سورة النمل: آية 93. (¬5) سورة الإسراء: آية 111. (¬6) أحمد (2/ 359)، والنسائي في عمل اليوم واليلة (494)، والدارقطني (1/ 229)، وابن ماجه (1894) وأبو داود في الأدب (4840) باب: الهدي في الكلام، والبيهقي (3/ 208، 209)، وأبو عوانة في صحيحه وابن حبان (1، 2)، وأخرجه النسائى في عمل اليوم والليلة مرسلًا (495، 496). قال أبو داود: رواه يونس، وعقيل، وشعيب، وسعيد بن عبد العزيز، عن =

رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي في عمل [اليوم والليلة] (¬1) وصححه أبو عوانة وابن حبان وروي مرسلًا وموصولًا، والحكم للاتصال عند الجمهور لأنها زيادة من ثقة، فقبلت. ثالثها: للتبرك بذكر الله تعالى في أول كتابه. رابعها: شكر الله عز وجل على ما أولى من النعم حيث رفعه من درجة التعلم إلى التعليم. ثانيها: في حد الحمد: هو الثناء على الممدوح بصفاته الجميلة وأفعاله الحسنة. وقال الإمام فخر الدين في "تفسيره": هو عبارة عن كل فعل [مشعر] (¬2) بتعظيم المنعم لكونه منعمًا، والفعل إما بالقلب وهو اعتقاد كونه موصوفًا بصفات الجلال، وإما باللسان وهو أن يذكر ألفاظًا دالة على اتصافه بصفات الكمال، وإما بالجوارح وهو أن يأتي بأفعال دالة على ذلك. ¬

_ = الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، قال الدارقطنى: والمرسل هو الصواب. وقال ابن القيم في تهذيب السنن (7/ 189): وأخرجه ابن حبان في صحيحه. وسكت عنه الذهبي في المهذب (3/ 181)، وحسنه النووي في المجموع (1/ 73)، والأذكار (94)، وابن الصلاح وابن حجر في الفتع (8/ 220)، وتلخيص الحبير (76/ 1)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (1/ 29). (¬1) في الأصل ون ب (يوم وليلة)، وما أثبت حسب عنوانه. (¬2) في ن ب (يشعر).

وقال جماعة: هو الرضا. وقال الجوهري (¬1): هو نقيض الذم. وقال ثعلب والزمخشرى (¬2): هو المدح. ورُد بأن [الحمد] (¬3) أعم كما ستعلمه. وقيل: إنه الوصف بالجميل على سبيل التعظيم قصدًا مطلقًا، فخرج بالأول حمد الغافل، وبالئاني قصد الحمد ظاهرًا لغيره وباطنًا لنفسه، كقولك: نعم الطالب زيد، وقد قرأ عليَّ. وقيل: غير ذلك. ثالثها: أكثر الناس في الحمد والشكر وأيهما أخص؟ والتحقيق أن بينهما عموم وخصوص من وجه فيجتمعان في ثناء في مقابلة نعمة، ويوجد الحمد بدون الشكر في ثناء [ولا] (¬4) مقابل نعمة، والشكر بدون الحمد في فعل مقابل لنعمة، فليس كل حمد شكرًا ولا كل شكر حمدًا، نعم متعلق الحمد وهو المحمود عليه أعم من متعلق الشكر، فكل ما يصح الشكر عليه يصح الحمد عليه، ولا ينعكس. رابعها: اختار المصنف الحمد دون المدح لأمرين: ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (71). (¬2) الكشاف (1/ 7). (¬3) في ن ب (المدح). (¬4) في ن ب ساقطة.

أحدهما: [اختار المصنف الحمد] (¬1) للتأسي بالقرآن. ثانيهما: أنه بعد الإحسان بخلاف المدح، وقال الزمخشرى (¬2): هما أخوان. وقال الرافعي في "تذنيبه" (¬3): إن المدح أعم، لأن الثناء على الشخص بما لا اختيار له فيه كحسن الوجه والقد ونحوهما يطلق عليه المدح دون الحمد، وحينئذ يكون متعلق المدح وهو الممدوح عليه أعم الثلاثة. وفرّق السهيلي بينهما؛ لأن الحمد يشترط فيه أن يكون صادرًا عن علم، وأن تكون تلك الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما. وفرّق الرضا القزويني صاحب "العروة الوثقى": بأن المدح يكون للحي وغيره بخلاف الحمد، تقول: مدحت اللؤلؤة، ولا تقول: حمدتها، والمدح قد يكون منهيًا عنه، قال عليه السلام (¬4): "احثوا في وجوه المداحين التراب" (¬5). بخلاف الحمد، فالحمد أعم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) الكشاف (1/ 7). (¬3) قال ابن قاضي شهبة في طبقاته (2/ 77) مجلد لطيف يتعلق بالوجيز كالدقائق للمنهاج. (¬4) فى ن ب (- صلى الله عليه وسلم -). (¬5) رواه مسلم عن همام بن الحارث عن المقداد بلفظ: "إذا رأيتم المداحين فأحثوا فى وجوههم التراب".

ولأنه يصح إطلاقه للشاهد والغائب، بخلاف المدح فإنه مختص بالغائب، والحمد [لله] (¬1) يدل على كونه فاعلًا مختارًا بخلاف المدح لله لعمومه (¬2). خامسها: اختار المصنف الحمد دون الشكر أيضًا؛ لأنه ثناء على الله بسبب كل إنعام، فهو أفضل، بخلاف الشكر فإنه ثناء عليه بسبب إنعامه عليك، هذا هو قول من فرق بين الحمد والشكر [بأن الحمد] (¬3) يكون مع [الإنعام] (¬4) عليك وعدمه، والشكر مختص بالإنعام عليك (¬5). سادسها: اختار أيضًا (الحمد لله) دون أحمد الله، لأنه أولى منه، لأن أحمد يفيد أن العامل نحمد. وقوله: "الحمد لله" يفيد أنه محمود قبل حمد الحامدين سواء حمده أحد أم لا، ولأن الحمد لله معناه أن الحمد حق لله وأنه تعالى مستحقه لذاته لكثرة آلائه على عبيده، ولو قال: (أحمد الله) لم يدل على كونه مستحق للحمد لذاته، والأول أولى لأن في قوله أحمد الله أنه يحمد حمدًا يليق به، وإذا قال: الحمد لله. فكأنه يقول من أنا حتى أحمده لكنه محمود قبل حمد الحامدين، ذكر ذلك ابن الخطيب. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) انظر: الفرق بينهما في بدائع الفوائد (2/ 92). (¬3) في الأصل (بالحمد)، والتصحيح من ن ب. (¬4) في ن ب مطموسة. (¬5) انظر: مدراج السالكين (2/ 246).

سابعها: الألف واللام في "الحمد" يحتمل كونها للجنس، ويحتمل كونها للعهد أي -الذهني- الذي حمد به نفسه وحمدته أوليائه. ثامنها: أجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من "الحمد لله"، وقرىء بنصبها على إضمار فعل وبضمها مع ضم اللام على الاتباع وبكسر الدال على الاتباع أيضًا. تاسعها: اختلف العلماء: هل الحمد المقيد أفضل أم المطلق؟ فذهب جمع من أصحابنا الخرسانيين إلى تفضيل الأول لقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬1) وقالوا: من حلف ليحمدن الله بأجل المحامد فطريقه أن يقول "الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده" (¬2) وذهبت طائفة من متكلمي المغاربة إلى ترجيح المطلق لتشعب جميع المحامد منه. عاشرها: التحميد أكمل من التسبيح، كما قاله الإمام [فخر الدين] (¬3)، وأجاب عن تقديم التسبيح على التحميد في قوله عليه السلام: "سبحان الله والحمد لله" [بأن] (¬4) الحمد يدل على ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آيه 43. (¬2) بناء على حديث ضعيف مقطوع وهو ليس بحديث ولا كلام صحابي وإنما هو إسرائيلي عن آدم عليه السلام، وقد بني عليها مسائل فقهية كما ذكره ابن القيم. وانظر إلى بسطها في عدة الصابرين له (136)، وجواب في صيغ الحمد (20). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (فإن).

التسبيح؛ لأنَّ معنى التسبيح: التنزيه [عن] (¬1) النقائص، والتحميد فيه مع ذلك ... أنه محسن إلى خلقه، فهو أكمل. الحادي عشر: نبه الإِمام فخر الدين في "تفسيره" على أن من قال: الحمد لله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، لأن الحمد لله ثمانية أحرف وأبواب الجنة كذلك. وقال صاحب "الحُللِ " أبو عمر الزناتي، شارح "رسالة ابن أبي زيد": موجب الحمد اثنان وخمسون خصلة ما اجتمعت قط لمخلوقٍ، وإليها أشير بكلمة حمد، فإن الحاء بثمانية والميم بأربعين والدال بأربعة (¬2)، ولقد أحسن المتنبي في شعره حيث قال في ذلك: لك الحمد حتى لا لمفتخرٍ ... في الحمد حاءٌ ولا ميمٌ ولا دالُ (¬3) الثانى عشر: [في] (¬4) أحكام الحمد، وهو ينقسم أربعة أقسام: واجب، ومندوب، ومكروه، وحرام. أما الأول: فهو واجب في الجملة سمعًا وعند المعتزلة عقلًا، ¬

_ (¬1) في ن ب (من). (¬2) هذا وقبله يحتاج إلى دليل ثابت من الكتاب أو السنة. (¬3) تملك الحمد حتى ما لمفتخِر ... في الحمد حأ ولا ميم ولا دال ديوان المتنبى بشرح أبي البقاء العكبري (3/ 285)، تحقيق مصطفى السقا، وآخرون، وصفحة (181) من الطبعة الهندية في مطبعة الصفدي الواقعة ببنبى. (¬4) زيادة من ن ب.

وحكى الإِمام فخر الدين عن طائفة: إنكاره جملة، ولا وجه له، ومن أمثلة هذا القسم: الابتداء به في الخطبة فإنه ركنٌ فيها. وأما الثاني: فمن أمثلته الخُطبة على الخطبة، وعند العقد، وفي ابتداء الدعاء، وبعد الأكل والشرب، والعطاس، والخروج من الخلاء، وعند النوم، واليقظة، ونحو ذلك. وأما الثالث: فمن أمثلته الأماكن المستقذرة تنزيهًا له: كالمزبلة، والمجزرة، والأحوال المستكرهة لفرط الشبع والنوم، ومدافعة الأخبثين، وقد نص القرافي في "قواعده" (¬1) على كراهة الدعاء في ذلك كله، وما أحسن ما حكي عن سرّى السقطي (¬2) أنه بقي يستغفر الله ثلاثين سنة في قوله: "الحمد لله" لوقوع حريق ببغداد أتى على دورها ودكاكينها فبلغه أن دكانه سلم، فحمد الله على ذلك، ثم راجع نفسه، وقال: كان الواجب أن يحزنني ما أصاب إخواني المؤمنين. وأما الرابع: فهو حرام، على الفرح بوقوع معصية. وأوجبه بعض العلماء في الأمور الدنيوية ليكون لها عاقبة محمودة، واستحسنه في الدينية لأنها طاعة. ¬

_ (¬1) الفروق (1/ 132)، القرافي هو شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي ناصري، مؤلفاقه: الفروق والبنفسج وشرحه، والذخيرة، توفي سنة 684 هـ. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية. (¬2) هو أحد العباد والزهاد. انظر: تاريخ بغداد (9/ 188)، وحلية الأولياء (10/ 117، 127).

وأما قوله: [الله] (¬1) فهو علم على المعبود بحق وهو الباري سبحانه وتعالي، واللام فيه لام الإضافية ولها معنيان: الملك "كالمال لزيد"، وفي معناه "القدرة" (¬2) والاستيلاء نحو "البلد للسلطان"، والاختصاص "كالسرج للفرس". وعن الإِمام فخر الدين (¬3): أنها لام اللياقة أي أن الحمد لا يليق إلَّا له، وقرنَ الحمد به لأنه اسم للذات بخلاف الرحمن وغيره، لأنه صفة لا تدل على [غيره] (¬4). قال البندنيجي (¬5): وأكثر أهل العلم على أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم. ¬

_ (¬1) في الأصل (تعالى)، والصواب ما ذكر، وفي ن ب مبتورة. (¬2) في ن ب (القدر). (¬3) مفاتيح الغيب (1/ 222)، وقوله فيه: تفيد اختصاص الله تعالى بالحمد على معى يليق به. اهـ بمعناه. (¬4) في الأصل (غيرها)، وما أثبت من ن ب. (¬5) هو أبو الحسن بن عبيد الله -مصغر- بن يحيى الشيخ أبو علي توفي سنة خمس وعشرين وأربعمائة في جمادى الأولى. ترجمته في الأعلام (2/ 212)، واللباب (11/ 147)، وطقات ابن قاضي شهبة (1/ 206). وفيه آخر: هو أبو نصر محمد بن هبة الله بن ثابت نزيل مكة ويعرف بفقيه الحرم جاور بمكة أربعين سنة ولد سنة سبع وأربعمائة وتوفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة صنف المعتمد في جزأين ضخمين ترجمته في الأعلام (7/ 355)، ونكت الهيمان (277)، طبقات ابن قاضى شهبة (1/ 272).

قال الخطابي (¬1). وأحب الأقاويل إليّ: قول من ذهب إلى أنه اسم علم وليس بمشتق. قال الإمام فخر الدين (¬2) في "لوامع البيان في شرح الأسماء والصفات" (¬3): وهو قول أكثر المحققين خلافًا لجمهور المعتزله. وقال صاحب "الحلل": هو مرتجل غير مشتق ولا منقول بخلاف لفظة [الإله] (¬4) فإنه منقول اتفاقًا. وأما صاحب "العروة الوثقى" فنقل عن الأكثربن: أنه مشتق. وقال أبو العز مظفر في "الأسرار العقلية": الصحيح عندي أنه كان مشتقًا ثم صار علماً وهذا جمعٌ بين القولين. ومن خواص هذا الاسم أنك متى حذفت من خطه حرفًا بقي دالًا عليه تبارك وتعالى [ويقال] (¬5): فإن حذفت الألف بقي لله وإن حذفت اللام الأولى وأبقيت الألف بقي إله [واحد] (¬6) وإن حذفتهما معًا بقي له ملكُ السموات والأرض، وإن حذفت الثلاثة [بقي] (¬7) هو الحيٌّ لا إله إلَّا هو. ¬

_ (¬1) شأن الدعاء (35). (¬2) هو محمد بن عمر الرازي ولد في رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي في هراة سنة ست وستمائة: ترجمته في الأعلام (203/ 7)، وطبقات الأطباء لابن أبي أصييعة (2/ 23). (¬3) لوامع البيان (114). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) زيادة من ن ب.

قال بعضهم: كل اسم يصلح للتخلق إلَّا اسم الله تعالى فإنه لا يصلح إلَّا للتعلق. قال بعض المتكلمين: والإله عند أهل الحق هو الكامل على الإطلاق، والإلهية هي: الكمال على الإطلاق في جميع الصفات الواجبة والجائزة والمستحيلة في حقه تعالي. وقال جمهورهم: الإِله عبارة عن موجود قائم بذاته قديم لا حد له ولا نهاية حيٌّ عالم قادر مدبر سميع بصير متكلم فرد صمدٌ، وقيل: الإِله: القادر على الاختراع (¬1) والإلهية: القدرة على الاختراع. واختلف في اشتقاقه عند من قال به على أقوال حكاها صاحب "العروة الوثقى": أحدها: أن [أصله] (¬2) "إله" [والإله] (¬3) مَنْ تُضرع إليه في النوائب، وهو اختيار المحاسبي وغيره. ثانيها: أنه مشتق من "لاه" إذا احتجب، وهو خطأ. ثالثها: أنه من "لاه"، إذا على. رابعها: أنه من "أله" إذا قام بالمكان. ¬

_ (¬1) تعريف الإله: هو المعبود بحق. راجع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 190)، وما ذكره المصنف - رحمه الله - فإنه من تفسير الأشاعرة للإِله، وقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية، راجع الفتاوى (3/ 97، 104). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب.

خامسها: أنه من "إله" إذا تجبّر، وهو خطأ. سادسها: من "التأله" وهو التعبد. سابعها: وقال: وهو أصحها: أنه من "الإِلهية" وهي القدرة على الاختراع (¬1)، واختلف أهل العربية في أصله أيضًا على قولين: فذهب أهل البصرة إلى أن أصله "إلاه"، وذهب الكوفيون إلى أن أصله "لاه" (¬2). وموضع البسط في ذلك كتب العربية فلا نطوّل به. قال رحمه الله: "الملك الجبّار". وأما "الملك" فقال [أبو عَمْرو] (¬3) [وهو] (¬4) أبلغ من المالك في المدح؛ لأن الملك لا يكون إلَّا مالكًا وقد يكون المالك غير الملك. قال [الأزهري] (¬5): هذا إنما يكون في المخلوقين لأن أحدهم ملك شيئًا دون شيء، [والله تعالى] (¬6) ملك كل شيء والمُلك والملوك [من أملاكه] (¬7) ألا تراه يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: تعليق ت (1) ص 88، وللاستزادة في البحث راجع (معنى لا إله إلَّا الله) للزركشى (ص 121، 122). (¬2) تعليق في المرجع السابق (ص 122)، ولسان العرب (13/ 467/ 471). (¬3) في ن ب (عمر). (¬4) في ن ب (هو). (¬5) في الأصل (الهروي)، وما أثبت من ن ب، وسياق الكلام بعده. انظر: تهذيب اللغة (10/ 268). (¬6) في الأصل (ولأنه يقال)، وما أثبت من ن ب. (¬7) في ن ب (من له ملاكة). (¬8) سورة آل عمران: آية 26.

وقال الأزهري: الملك تمام القدرة. وقيل: هو [شرعًا] (¬1): القدرة على الإِيجاد والاختراع، من قولهم: فلان يملك الانتفاع بكذا: إذا تمكَّن منه، فيكون من أسماء الصفات كالقادر. وقيل: هو المتصرف في الأشياء بالإِيجاد والإِعدام فتكون من أسماء الأفعال، كالخالق، والله تعالى مالك، وملك، ومليك، ولا يطلق الاسم على غيره إلَّا مجازًا. وأما "الجبار": فله معان: أحدها: بمعنى المكره لغيره [لأنه] (¬2) جبر خلقه على ما شاء، ومنه: جبر الأمير فلانًا وأجبره على كذا: إذا أكرهه عليه. ثانيها: بمعنى المصلح للشيء من حال الفساد إلى نسق السداد. ثالثها: بمعنى المتعالي على كل شيء. ومنه قولهم: نخلة جبَّارة إذا كانت باسقة، لا تنالها الأيدي، فالأول والثاني [راجعان] (¬3) إلى صفة الأفعال، والثالث إلى "صفات" (¬4) التنزيه. وقيل معناه: جبر القلوب على معرفته وفطرها على الإِقرار به، وهو راجع إلى الثاني. وقرن المصنف الملك بالجبار؛ لأن بسطوة الجبروت يتم الملك. قال رحمه الله: "الواحد القهار". ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (يرجعان). (¬4) في ن ب (صيغة).

أما "الواحد" فله معنيان: أحدهما: مفتتح الوجود. والثاني: أنه لا نظير له ولا مثل، كقولهم: فلان واحد في قومه في الشرف، واختلف في "واحد" و"أحد"، فقيل: هما بمعنى، وقيل: إن "أحدًا" أكمل من "واحد" لأنك تفرق بين قولك: فلان لا يقوم له واحد وأحد، وقد أوضحت الكلام على هذه المادة في خطبة "شرح المنهاج" (¬1)، فإن شئت فراجعها منه، وقرن المصنف الواحد بالقهار لأن بالوحدة يقع القهر. تنبيهان: الأول: توحيد الله نفسه على ثلاثة أوجه: علمه بأحديته، وإخباره بها، وإقرار العبد عليها. وتوحيد العبد لله على ثلاثة أوجه: علمه بأحديته، وإقراره بها، وتعليمها لغيره، نبّه عليه صاحب العروة الوثقى. الثاني: قال القرافى (¬2): الإلهية، وعموم تعلق صفاته، وشبهها ... يجب توحيده بالإِله إجماعًا، والعلم والقدرة ونحوهما لا توجب [توحده] (¬3) به إجماعًا، فيجوز أن يقال: فلانٌ عالم بكذا قادر على كذا. والقسم بغيره تعالى اختلف فيه، فإن القسم بالشيء تعظيمٌ له ¬

_ (¬1) له مؤلفين أحدهما "شرح منهاج البيضاوى" والآخر "شرح منهاج النَّووي" في الفقه والأول في الأصول. (¬2) الفروق (3/ 27). (¬3) في ن ب (توحيده).

وتعظيم غير الله حرام، وهو جائز [و] (¬1) لأنه يرجع إلى تعظيم الله تعالى كالحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأما "القهار" فقال الحليمي وغيره: هو الذي يقهر ولا يُقهر [بحال] (¬3). وقال الخطابي (¬4): هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعبودية، وقهر الخلق كلهم بالموت. قلتُ: وله معنيان: الأول: بمعنى القادر على منع غيره من فعل بخلاف مراده، فهو من صفات الذات. الثاني: المانع لغيره من جريه على وفق مراده فهو من صفات الفعل. والقهار: يدل على الوحدانية إذ لو كان معه شريك يعانده لما كان قهارًا، ويوجب الخوف الشديد [لا جرم] (¬5) أنه تعالى أردفه في صورة ص ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله، بالإجماع- انتهى. ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن ذلك على سبيل كراهة التنزيه. انظر: تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد (ص 522، 531). (¬3) زيادة من ن ب. للزيادة انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (38)، ولسان العرب (5/ 120). (¬4) شأن الدعاء (53). (¬5) في ن ب ساقطة.

بقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (¬1). تنبيه: اختلف الأصوليون في أن الاسم غير المسمى، أو هو هو، وذلك في غير اسم الله تعالى، وأما الله تعالى فلا يجوز إطلاق ذلك عليه، بل هو سبحانه واحدٌ في ذاته وصفاته، وذاته وصفاته وأسماؤه كذلك لا يقال هذا هذا ولا هذا غير هذا، بل نطلقه كما أطلقه تعالى (¬2)، تعالى الله ¬

_ (¬1) سورة ص: آية 66. ولعل المؤلف رحمنا الله وإياه أراد آية {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)} سورة ص: آية 65. (¬2) قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: اختلف في الاسم والمسمى هل هو هو أو غيره، أو لا يقال: هو هو، ولا يقال: هو غيره، أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟ فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الائمة، بعد أحمد وغيره، والذي كان معروفًا عند أئمة السنة أحمد وغيره: الإنكار على الجهمية الذين يقولون: إن أسماء الله مخلوقة. فيقولون الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق، وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلّظوا فهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق بل هو المتكلم به. وهو المسمى لنفسه بما فيها من الأسماء. والجهمية يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه بإسم هو المتكلم به، بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره لا بمعنى أنه تكلم بها الكلام القائم به. فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه .. والمقصود هنا أن المعروف عن أئمة السنة إنكارهم على من قال: أسماء الله مخلوقة. وكأنَّ الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم. للمراجعة انظر: مجموع الفتاوى (6/ 185 - 187 - 212)، ومقالات الإسلاميين للأشعرى (1/ 252)، والطحاويه (131)، وقد عظم على الإمام أحمد رحمه الله الكلام في الاسم والمسمى، =

عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا. قال رحمه الله: "وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار" معنى: "أشهد" أعلم وأبين (¬1). ومن خواص لا إله إلَّا الله، أن حروفها كلها مهملة، ليس فيها حرف معجم تنبيهًا على التجرد عن كل معبود سوى الله، ومن خواصها أيضًا: أن جميع حروفها جوفية ليس فيها حرف من الحروف الشفهية، وهذه الكلمة فيها إثبات بعد [نفي] (¬2)، وأنكره أبو العز مظفر صاحب "الأسرار العقلية"، وقال: كلها إثبات، إذ يلزم منه كفر، وإيمان، بل المستثنى مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شيء واحد، وإن للسبعة عبارتان: سبعة وعشرة إلَّا ثلاثة، وما قاله ضعفَّه الأصوليون؛ لأنه إنما يكون كفرًا عند إنفراد النفي، وأفاد بقوله: "لا شريك له" وإن كان مستفادًا من الأول نفي القائل بان الإستثناء من النفي ليس إثباتًا وإن [كان] (¬3) كلمة التوحيد لا تفيده إلَّا بقرائن حالية لا لفظية، والشريك هو [المقارن] (¬4) في الإِيجاد والعدم تعالى الله ¬

_ = كما في طبقات الحنابلة (2/ 299)، ولوامع الأنوار (1/ 119)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للآلكائي (1/ 204). (¬1) انظر الكواشف الجلية عن معاني الواسطية (30، 38). (¬2) في الأصل (نهي)، والصحيح ما أثبت من ن ب. (¬3) الزيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (المعاون).

عن ذلك، ولقد أحسن أبو العتاهية (¬1) في شعره حيث قال: أيا عجبًا كيف يُعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... عليك وتسكينة شاهد [وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد] (¬2) وفي معنى "رب" أربعة أقوال: الملك، والسيد، والمدبر، والمربي، فالأولان: من صفات الذات، والآخران من صفات الفعل، قال العلماء: متى دخلت الألف واللام على لفظ رب اختص بالله تعالى، وإن حذفت كان مشتركًا. ومنه رب المال ورب الإِبل، وكله جائز عند الجمهور، وخصه بعضهم برب المال ونحوه مما لا روح له وهو غلط. قال بعض العلماء: إذا تأمَّلت [الكتاب] (¬3) والسنة وجدت أكثر دعوات المرسلين والنبيين وسائر من ذكر الله من المؤمنين: الرب. والسموات: جمع سماء [وكل] (¬4) شيء ارتفع فهو سماء، وهي سبع، جاء أن بين كل سماء وسماء خمسمائة عام (¬5) وغلظ كل سماء خمسمائة عام (¬6). ¬

_ (¬1) ديوان أبي العتاهية (ص 122)، ط دار صادر. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) فى ن ب (وهو). (¬5) رواه الدارمي فى الرد على الجهمية (ص 26/ 27)، وابن خزيمة في التوحيد (ص 105/ 106)، والطبراني فى الكبير (8987). (¬6) رواه أحمد (1/ 106، 207)، وأبو داود (4723)، والترمذى (3320)، وحسنه ابن ماجه (193).

وروينا عن كعب أنه قال: خلق الله السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية صخرة، والثالثة حديد، والرابعة نحاس، والخامسة فضة، والسادسة ذهب، والسابعة ياقوت. قال الزمخشري (¬1): قيل: ما في [القرآن] آية تدل على أن [الأرضين] (¬2) سبع، إلَّا قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (¬3). قلت: والأحاديث مستفيضة فيه أيضًا كقوله عليه الصلاة والسلام: "من ظلم قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين" (¬4). وإختلف أهل الهيئة: هل هن متراكمات بلا تفاصل، أو بين كل واحدة والتي تليها خلاء؟ على قولين: أصحهما الثاني، وفي وسطها المركز وهو نقطة مقدرة متوهمة [وهو] (¬5) محط الأثقال [إليه] (¬6) ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يقارنه مانع، وتأول بعضهم الحديث على أن المراد بها [سبع] (¬7) أقاليم، بعيد. وروى البيهقي عن أبي الضحى مسلم عن ابن عباس أنه قال: " {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال: سبع أرضين في كل أرضين نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى ¬

_ (¬1) الكشاف (4/ 112). (¬2) في ن ب (الأرض). (¬3) سورة الطلاق: آية 12. (¬4) متفق عليه؛ وسيأتى تخريجه كاملًا في هذا الكتاب. (¬5) في ن ب (وهي). (¬6) في ن ب (إليها). (¬7) زيادة من ن ب.

كعيسى" ثم قال: إسناد هذا الحديث عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا (¬1). وهي مثل السموات في البعد والغلظ، أخرج الترمذي من حديث الحسن عن أبي هريرة: لما عد مسيرة ما بين سماء وسماء حتى عد سبع ثم قال: "أتدرون ما فوق ذلك"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين"، ثم عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: "والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله"، ثم قرأ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} (¬2). قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه (¬3)، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، وأعله الجوزقاني من هذا الوجه فذكره في "موضوعاته"، وقال إنه حديث باطل، لكن قد صحح جماعات سماع الحسن من أبي هريرة، ثم ذكر أعني الجوزقاني الحديث المذكور من طريق أبي ذر وبنحوه من طريق ¬

_ (¬1) قال الإمام أحمد: ليس حديثه في هذا بشيء، اختلط عطاء بن السائب، ليس فيها شيء من "آدم كآدم ولا نبي كنبيكم". للإستفادة راجع مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانئ (2/ 158، 160)، وزاد المسير (8) آخر تفسير سورة الطلاق. (¬2) سورة الحديد: آيه 3. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 370)، وابن الجوزي في العلل (1/ 12)، والترمذى (5/ 404). راجع: المقاصد الحسنة (ص 342)، وكشف الخفاء (2/ 153)، والأباطيل (1/ 70).

العباس ووهّاهما. وقوله: "إنما هبط على الله"، قال الترمذي: قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية تدل على أنه أراد: هبط على علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه (¬1). وجمع السموات ووحَّد الأرض لأنه أراد الجنس، وجمع السموات لشرفها، قاله النووي (¬2) في "شرح المهذب". ¬

_ (¬1) الذي في الترمذى (5/ 404): (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه). يراجع: الدرر السنية (2/ 320)، وبعدها نقلًا عن شيخ الإسلام قال: (وتأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، قال: وبتقدير ثبوته يكون دالًا على الإحاطة، والإحاطة قد عُلم أن الله قادر عليها وعُلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلَّا بما نعلمه وما لانعلمه أمسكنا عنه، وما كان دليله مشكوكًا فيه عند بعض الناس كان حقه أن يشك فيه حتى يتبين له الحق، وإلَّا فليسكت عما لم يعلم) اهـ. من الفتاوى (6/ 574، 575). وقال في موضع آخر: (ومن تأوله على قوله: هبط على علم الله، كما فعل الترمذي، لم يدر كيف الأمر، ولكن لما كان من أهل السنة وعلم أن الله فوق العرش، ولم يعرف صورة المخلوقات وخشى أن يتأوله الجهمي أنه مختلط بالخلق، قال هكذا، وإلَّا فقول رسول لله - صلى الله عليه وسلم - كله حق يصدق بعضه بعضًا) اهـ. من الفتاوى (25/ 197، 198). (¬2) هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن محيي الدين أبو زكريا النووي بحذف الألف وإثباتها ولد في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، مات ببلده نوى في رجب سنة سبع سبعين وستمائة ودفن بها. طبقات السبكي =

وقال القاضي أبو الطيب: إنما جمعت؛ لأنا لا ننتفع من الأرض إلَّا بالطبقة الأولى، بخلاف السماء فإن الشمس والقمر والكواكب موزعة عليها. والمذهب الصحيح المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض، وقيل: الأرض أشرف؛ لأنها مستقر الأنبياء ومدفنهم، وهو ضعيف (¬1). [وخلق] (¬2) السموات والأرض في ستة [أيام] (¬3)، والجمهور على أنها كأيامنا هذه، واختار جماعة أن كل يوم كألف سنة مما تعدون. وروى ابن جرير (¬4) عن الضحاك بن مزاحم وغيره أن أسماء الأيام الستة: أبجد هوَّز حطي كلمن سعفص قرشت. وحكى ابن جرير (¬5) في أول الأيام ثلاثة أقوال: فروى عن ابن ¬

_ = (5/ 16)، والدارس في تاريخ المدارس (1/ 24)، وآداب اللغة (3/ 242). (¬1) راجع: بدائع الفوائد (4/ 26، 27)، في التشريف بين السماء والأرض، وكذا الفتاوى الحديثة للهيتمي (ص 185)، ورجحوا تفضيل السماء على الأرض. (¬2) في ن ب (وخلقت). (¬3) في الأصل (الأيام)، وما أثبت من ن ب. (¬4) تاريخ الطبري (1/ 21) وفي التفسير ذكر أسماء الأيام كما هي (12/ 482)، (15/ 245)، وأيضًا في التاريخ أورد روايات (22/ 1) وما بعدها. (¬5) تاريخ الطبري (1/ 23).

إسحاق أن أهل التوراة يقولون: ابتداؤها يوم الأحد، وعن أهل الإنجيل: الاثنين، وعن الإسلاميين: السبت، ثم اختار ابن جرير أنه الأحد. فائدة: حكى [ابن حزم] (¬1) وابن الجوزي وغيرهما الإجماع على أن السماء كرة مستديرة، وهو أشهر القولين لقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬2)، قال الحسن: يدورون، قال ابن عباس: في فلكة مثل فلكة المغزل. فائدة [ثانية] (¬3) اختلف العلماء: هل كان قبل السموات والأرض شيء مخلوق قبلهما أم لا؟ فقالت طائفة من المتكلمين: لم يكن قبلهما شيء مخلوق وإنما خلقتا من العدم المحض، وخالفهم آخرون لقوله تعالى: ({وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (¬4)، ثم اختلف هؤلاء فاختار ابن جرير (¬5) وغيره أن [القلم] (¬6) خلق قبل هذه الأشياء ثم السحاب الرقيق وبعده العرش. ونقل الحافظ أبو العلاء الهمداني (¬7) وغيره عن الجمهور: أن ¬

_ (¬1) في ن ب (ابن جرير). (¬2) سورة يس: آية 40. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) سورة هود: آية 7. (¬5) تاريخ الطبرى (1/ 16، 20). (¬6) في الأصل (القمر)، والتصحيح من ن ب. (¬7) هو الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد الهمداني =

العرش خلق قبل ذلك، ويحمل حديث: "أول ما خلق الله القلم" (¬1) على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، وقال آخرون: بل خلق الماء قبل العرش، وقال ابن إسحاق: أول ما خلق [الله] (¬2) النور ثم الظلمة ثم ميز بينهما (¬3)، وقيل: أول ما خلق [الله] (¬4) بعد القلم الكرسي ثم العرش ثم الهواء والظلمة ثم الماء، حكاه ابن جرير (¬5). وقوله: "وما بينهما" أي من الجواهر والأعراض (¬6). وأما "العزيز" فله معان: أولها: لا مثيل له، من عزّ يعِزُّ بكسر العين في المستقبل: إذا تعذَّر وجود مثله. ¬

_ = (488 - 569)، كان محدثًا مقرئًا نحويًا لغويًا أدبيًا، من تصانيفه: الهادي إلى معرفة المقاطع والمبادي في رسم المصحف، وكتاب الأدب في حسان الحديث المتظم (10/ 248)، ومرآة الجنان (3/ 389)، وبغية الوعاة (215). (¬1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (108)، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة (109)، وابن حبان في روضة العقلاء (157)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 181)، والبيهقى في الأسماء والصفات (378). (¬2) ساقطة من ن ب. (¬3) تاريخ الطبرى (1/ 18)، وبدل "ثم" فيه "الواو". (¬4) ساقطة من ن ب. (¬5) انظر: تيسير العزيز الحميد (ص 626، 629). (¬6) بداية نسخة ج. وقد بدئت: "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، قال المؤلف رحمه الله تعالى: "واعلم أن".

وثانيهما: بمعنى الغالب ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} (¬1)، أي غلبني. وثالثها: بمعنى الشديد، من عزَّ يَعز بفتح العين في المستقبل: إذا إشتد وقوي، ومنه قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} (¬2)، أي شددنا. ورابعها: بمعنى المعز، وقيل: بمعنى [مفعول] (¬3) كأليم بمعنى مؤلم. والأول: يرجع إلى التنزيه، والثاني والثالث: إلى صفة الذات. والرابع: إلى صفة الفعل (¬4). وحكى الزجاج (¬5): العزيز: الجليل الشريف. وقال أبو حامد الإسفراييني (¬6): العزيز الذي يقل وجوده، وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه، فمتى لم تجتمع هذه ¬

_ (¬1) سورة ص: آية 23. (¬2) يورة يس: آيه 14. (¬3) كذا في الأصل، وفي ن ج (مفعل). (¬4) انظر: لسان العرب (5/ 374، 179). ط دار صادر. (¬5) بعد إلاطلاع على تفسير "أسماء الله الحسنى" للزجاج (35) لم أجده. ولعله: كتاب "اشتقاق أسماء الله تعالى وصفاته المستنبطة من التنزيل وما يتعلق بها من اللغات والمصادر والتأويل" لأبي القاسم عبد الرحمن الزجاجي حققه الدكتور المبارك وطبع عام 1974 م في 598 صفحة. (¬6) هو أبو حامد: أحمد بن محمد بن أحمد الشيخ الإمام، ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وتوفي في شوال سنة ست وأربعمائة، الأعلام (1/ 203)، ووفيات الأعيان (1/ 55).

المعاني الثلاثة لم يطلق [اسم] (¬1) العزيز عليه. وأما "الغفار": فمعناه الستار، وقيل: معناه الماحى، وأطلق على المحو ستر لاشتراك الممحو والمستور في عدم الظهور. ونقل ابن الجوزي (¬2) عن بعض أهل اللغة: أنه مأخوذ من الغفر وهو نبت يداوى به الجراح إذا ذر عليها دملها وأبراها. وهو غريب، وقد أوضحت الكلام على هذه المادة في خطبة "شرح المنهاج"، فليراجع منه، وقرن المصنف العزيز بالغفار تبعًا للآية السالفة (¬3). قال رحمه الله: "وصلى على النبي المصطفى المختار". أما الصلاة فهي من الله تعالى رحمة مقرونة بتعظيم، ومن الملائكة باستغفار، ومن الآدمي تضرع ودعاء (¬4). وأعرض (¬5) القرافي في "شرح التنقيح" فقال: عادة جماعة يفسرون الصلاة في حق الله تعالى بالرحمة وهي مستحيلة لأنها [رقة] (¬6) في الطبع فلذلك فسرتها: ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) الوجوه والنظائر فى علم الأشباه والنظائر (90). (¬3) (ص 67) ت (5). (¬4) حكى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى. وقيل: الرحمة، والصواب من الله الأول، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء. (¬5) في ن ب (اعترض). (¬6) فى ن ج في الهامش (رأفة). (هذا الزعم يشبة كلام الجهمية والمعتزلة المنكرين لصفة الرحمة، القائلين: الرحمة ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم. وهو =

[بالإحسان] (¬1) لأنه ممكن في حق الله تعالى. قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. وفي مسند إسحاق بن راهويه من حديث ¬

_ = باطل من وجوه: أولًا: أن الضعف والخور مذموم من الآدميين، والرحمة ممدوحة، قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)}، وقد نهى الله عباده عن الوهن والحزن فقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}، وندبهم إلى الرحمة، وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنزع الرحمة إلَّا من شقي" وقال: "من لا يَرحَم لا يُرْحَم". ومحال أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلَّا من شقى، ولما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور كما في رحمة النساء ونحو ذلك، ظن الغالط أنها كذلك مطلقًا، ولو كانت في حق المخلوقين تستلزم ذلك لم يجب أن تكون في حق الله تعالى مستلزمة لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله تعالى عنه) اهـ. من الكواشف الجليّة للسلمان (ص 204) نقلًا عن شيخ الإسلام من مجموع الرسائل والمسائل. (¬1) في ن ب ساقطة. قال في الكواشف الجلية (ص 205): وبعضهم تأوَّل الرحمة بمعنى إرادة الإحسان، والحق إثبات صفة الرحمة حقيقة على ما يلبق بجلاله، كما يقال في سائر الصفات، والرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان وإرادته استلزام الخاص للعام، فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته، وقول من قال: هي إرادة الإحسان، فإن إرادة الإحسان هي من لوازم رحمته فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم، فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان، وكذلك لفظ اللعنة والغضب إلخ.

أبي ذر مرفوعًا: "إنَّ أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل عليَّ" (¬1). قلت: وكان ينبغي للمصنف أن يقرن الصلاة بالتسليم، وقد نص العلماء على كراهة إفراد أحدهما (¬2). وأما "النبي": فهو بالهمز وتركه، فمن همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر واسم فاعله منبي وجمعه أنبياء. وجاء نبأ. ومن ترك الهمز فقيل: إن اشتقاقه اشتقاق المهموز ثم سهل الهمزة، ومنهم من قال: هو مشتق من نبأ ينبو إذا أظهر. فالنبى من النبوة وهو الارتفاع فمنزلته رفيعة. والنبي (¬3): بترك الهمز أيضًا: الطريق، فسمي الرسول نبيًا لاهتداء الخلق به كالطريق. قال الزمخشري: النبي هو الذي ينبي عن الله تعالى وإن لم يكن معه كتاب. وذهب الأشعرى: إلى أنه هو الذي نبأه الله. وتظهر ثمرة الخلاف في أن الرسول هل يثاب على النبوة والإِرسال أم لا؟ ¬

_ (¬1) انظر: فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لإسماعيل القاضي (ص 38). والقول البديع للسخاوي (ص 215). (¬2) انظر: القول البديع للسخاوي (ص 36). (¬3) في ن ب (التي)، وما أثبت من الأصل ون ج.

أما الإرسال: فهو من الصفات الشريفة التي لا ثواب عليها وإنما الثواب على أداء الرسالة التي حملها. وأما النبوة: فمن قال بالقول الأول قال: إنه يثاب على إنبائه لأنه من كسبه، ومن قال بمذهب الأشعري قال: لا ثواب له على إنباء الله إياه لتعذر اندراجه في كسبه، وكم من صفة شريفة لا يثاب الإنسان عليها كالمعارف الإِلهامية التي لا كسب له فيها، وكالنظر إلى وجهه الكريم الذي هو أشرف الصفات ولا يثاب عليه، ذكره ابن عبد السلام (¬1). وها هنا أمور مهمة: أولها: الرسول أخص من النبي فإنه الذي أوحي إليه للعمل والتبليغ، بخلاف النبي فإنه أوحي إليه العمل فقط، نعم. قال القاضي عياض في "الشفا" (¬2): اختلف العلماء: هل الرسول والنبي بمعنى واحد أم لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأصله من الإِنباء وهو الإِعلام؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ...} (¬3) الآية. فأثبت لهما معنى الإرسال فلا يكون الرسول إلَّا نبيًا ولا النبي إلَّا رسولًا. ¬

_ (¬1) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن الشيخ الإمام عز الدين السلمي، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، توفي بمصر في جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، الأعلام (4/ 144)، وفوات الوفيات (1/ 287)، وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 80). (¬2) (1/ 347). (¬3) سورة الحج: آية 52.

وقيل: هما مفترقان من وجه، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب (¬1) والإِعلام بخواص النبوة، وفي الفرق وجهان: أحدهما: امتياز الرسول بالأمر بالتبليغ. وثانيهما: امتيازه بمجيئه بشرع مستأنف، والنبي من لم يأت بذلك وإن كان قد أمر بتبليغ، واحتج هذا القائل من الآية نفسها؛ لأنه فرَّق بين الاسمين فلو كانا بمعنى واحد للزم التكرار في الكلام البليغ، قالوا: والتقدير: وما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبى ليس بمرسل إلى أحد. قال القاضي: والصحيح الذي عليه الجمهور أن كل رسول نبى من غير عكس. ونقل غيره الإجماع على هذا (¬2). وقال القاضي في "إكماله": في قوله عليه الصلاة والسلام للذي قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت: (قل وبنبيك الذي أرسلت) إنما قال ذلك ليشعر بأن المراد محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ قوله: (وبرسولك الذي أرسلت) يعم جبريل وغيره إذ ليس بنبي. وقال الخطابي في "إعلامه": لو قال (وبرسولك الذي أرسلت) لكان تكرارًا إذ كان نبيًا قبل أن يكون رسولًا، فجمع له الثناء بالاسمين جميعًا. ¬

_ (¬1) أي باطلاع الله له. (¬2) انظر: كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ثانيها: ذكر القرافي رحمه الله أن الرسالة أفضل من النبوة، فإنَّها ثمرة هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي فنسبتها إلى النبوة كنسبة العالم للعابد، وكأن الشيخ عز الدين بن عبد السلام يذهب إلى تفضيل النبوة لشرف المتعلق؛ لأن المخاطب بها الأنبياء والمخاطب بالرسالة الأمة، والأنبياء أفضل من الأمة. ثالثها: الرسالة والنبوة ليستا [بصفتين] (¬1) مكتسبتين للرسول والنبى خلافًا للفلاسفة. رابعها: من الغريب ما قاله الحليمي (¬2): أن الإيمان يحصل بقول الكافر (آمنت بمحمد النبى دون محمد الرسول) وعلله بأن النبي لا يكون إلَّا لله، والرسول قد يكون لغيره (¬3)، وكأنه أراد أن لفظ الرسول يستعمل عرفًا في غير الرسالة إلى الخلق، بخلاف النبوة فإنها لا تستعمل إلَّا في النبوة الشرعية دون اللغوية. خامسها: جملة الأنبياء مع المرسلين مائة ألف وأربعة ¬

_ (¬1) فى ن ب (لصفتين). (¬2) هو الحسين بن الحسن بن محمد الحليمي (338، 403) شيخ الشافعية بما وراء النهر. انظر: طبقات السبكي (4/ 333)، والإسنوى (1/ 404)، وابن قاضي شهبة (1/ 178). (¬3) قال في عمدة القاري للعيني رحمنا الله وإياه (1/ 19): ورحم الله الحليمي فمقولته هذه مما يعلم بطلانها بالضرورة من دين الإسلام كما في أحاديث الشهادتين والإسلام بهما، والأذان، والإقامة والتحيات ونحوها، والله أعلم.

وعشرون ألفًا، وكلهم ذكران إلَّا أم موسى وعيسى وإسحاق وحوى وآسية، على اختلاف في نبوتهن، قاله [بعضهم] (¬1). قال القرطبي (¬2): وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ في النساء أربع نبيات حوى وآسية وأم موسى ومريم"، قال: والصحيح أن مريم كانت نبية (¬3)؛ لأن الله أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر الأنبياء، ويؤيده الحديث المذكور، ذكر هذا الحديث في أوائل سورة الأنبياء وقال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} [آل عمران: 42] (¬4)، أي اختارك لولادة عيسى. وقيل: اصطفاك على نساء العالمين أجمع إلى يوم النفخ في الصور، قال: وهو الصحيح والكمال المذكور في حديث: "كَمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون (¬5)، قيل: إنه بالنبوة وإنهما نبيتين، قال: والصحيح أن مريم نبية (¬6). ¬

_ (¬1) انظر إلى بسط المسألة ونقل الخلاف فيها في فتح البارى (6/ 447) - في ن ب (بعضهن). (¬2) محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي وإن من عباد الله الصالحين له كتاب الجامع لأحكام القرآن والتذكار في أفضل الأذكار والتذكرة بأمور الآخرة توفي سنة 670 هـ، (التاج المذهب 2/ 308). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (4/ 83). (¬4) سورة آل عمر ان: آية 42. (¬5) متفق عليه، البخاري (3411، 3433، 3769، 5418)، ومسلم (2431)، والترمذى (1835)، وأحمد (4/ 394، 409). (¬6) الجامع لأحكام القرآن (4/ 83).

وقال النووي: لم يثبت كونها نبية، وكذا لم تثبت نبوة لقمان أيضًا، وحكى بعضهم خلافًا في نبوة أم عيسى وأم موسى وأم إسحاق والخضر، والحواريين وإخوة يوسف وذي القرنين. قال صاحب "الشفا" (¬1): وجميع المرسلين ثلاثمائة وثلاثة عشر، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ختمهم بثلاثمائة وأربعة عشر. قال غيره: وفي حروف اسمه تنبيه على ختم الرسل به لاشتمالها على عددهم، فإذا فككت الحروف ونطقت بكل حرف على انفراده وجمعت الأصول وما تولد عنها وجدتها ثلاثمائة وأربعة عشر حرفًا، فإن فيها ثلاث ميمات إذ الحرف المشدد بحرفين وكل واحد منها بثلاثة أحرف إذا نطقت، به ميمان وياء، عدد كل ميم أربعون، والياء عشرة، فكل ميم من تسعين حرفًا، وتسعون في ثلاثة مائتين وسبعين، والحاء من حرفين الحاء بثمانية والألف بواحد جاءت تسعة، والدال من ثلاثة أحرف بخمسة وثلاثين؛ لأن الدال بأربعة والألف بواحد واللام بثلاثين، والمجموع ثلاثمائة وأربعة عشر فهو - صلى الله عليه وسلم - خاتم [الأنبياء] (¬2) لاشتمال اسمه على عددهم (¬3). وأولو العزم منهم خمسة، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى. وكلهم عجم إلَّا نبينا، وإسماعيل، وهود، وصالح، وشعيب. وكلهم من بني اسرائيل أولهم يعقوب وآخرهم ¬

_ (¬1) الشفا (1/ 348). (¬2) في ن ب (النبيين). (¬3) هذا من فضول العلم، بل دلت عليه الآيات والأحاديث الصحيحة.

عيسى [إلَّا شيث] (¬1)، وإدريس، ونوحًا، وأولاده: (سام، وحام، ويافث)، وإبراهيم، وإسحاق، زاد بعض المفسرين: وكلهم وحيهم رؤيا إلَّا أولو العزم فإن وحيهم وإن رؤيا ويقظة، ولم ينزل كتب إلَّا [على] (¬2) ثمانية: آدم، وشيث، وإدريس، وإبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى، ونبينا، محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأما "المصطفى": فهو من الصفوة وهي الخلوص. "والمختار": أصله مختير فهو عليه الصلاة والسلام أفضل المخلوقات، ومذهب أهل السنة (¬3) أن النوع الإنساني أفضل من نوع الملائكة خلافًا للمعتزلة، وما يعزى إلى بعضهم من تفضيل الولي على النبي فقد تأوله هو أو غيره بأن كل نبي ولي قطعًا وهو من حيث إنه ولي أفضل من حيث إنه نبي؛ لأن ولايته وجهته إلى الحق ونبوته وجهته إلى الخلق، وفيه مع ذلك ما لا يخفى من الاستشباع من جهة الإِطلاق. وذكر الحليمي في "منهاجه": أن الأنبياء لا بدَّ أن يخالفوا غيرهم في القوى الجسمانية والروحانية. قال رحمه الله: "وعلى آله وصحبه الأطهار". أما الآل فقال النحاس (¬4): أصله: أهل ثم أبدلت من الهاء ألفًا فإن صغَّرته رددته ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في ج والأصل. (¬2) ساقطة من ن ب، ومثبتة في ج. (¬3) إذا قال الأشعرى أهل السنة؛ فالمراد به الأشاعرة. (¬4) محمد بن إبراهيم بن محمد بهاء الدين بن النحاس الحلبي المتوفى سنة =

إلى أصله فقلت: أهيل. وقال المهدوي: أصله أول وقيل [أهل] (¬1) قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفًا وجمعه ألون وتصغيره أويل، فيما حكى الكسائي وحكى غيره: أهيل، وقد ذكرناه عن النحاس واختلف في حقيقته على أقوال كثيرة أصحها عند الشافعي رضي الله عنه (¬2) بنو هاشم وبنو المطلب. ثانيها: عترته وأهل بيته. ثالثها: جميع الأمة، واختاره الأزهري وغيره من المحققين (¬3). رابعها: أنهم أهل البيت [زوجاته] (¬4) خاصة، قاله ابن عباس وغيره وذهبوا إلى أن البيت أريد به ساكنه، وصحح ابن الفركاح دخول زوجاته في أهل بيته، والخلاف عند أحمد أيضًا. وقالت الرافضة: آله فاطمة والحسن والحسين فقط. وقال القاضي عياض (¬5): وقيل: إنه نفس محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان الحسن يقول: اللهم صل على آل محمد. ¬

_ = (698) شيخ العربية بالديار المصرية في عصره. ترجمة فوات الوفيات (2/ 172). (¬1) في ن ب (هل). (¬2) في ن ب زيادة (أنهم). (¬3) انظر: المجموع شرح المهذب (1/ 76). الزاهر (66). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) انظر: الشفا (2/ 662).

وعبارة الإِمام الشافعى رضي الله عنه على ما نقله البيهقي (¬1) فيما جمعه من كلامه في أحكام القرآن (¬2)، قال: قال الشافعي (رضي الله عنه) (¬3) اختلف الناس في آل محمد فقال [قائلون] (¬4): آل محمد أهل دينه، وقال قائل: أزواجه، وذهب ذاهبون إلى أنهم قرابته التي ينفرد بها دون غيرها من قرابته، واستدل الشافعى بقوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} (¬5)، وأجاب عنه، وهذا يؤخذ منه أنه لا فرق بين الآل والأهل وهو وجه الشافعية في الوصايا. واستدل للثاني: بأنه مطلق. وأجاب: [بأنه] (¬6) بقرينةٍ، وللثالث: بقوله عليه [الصلاة] (¬7) والسلام: "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا آل محمد" وبالآية الكريمة، وإعطائه بني هاشم وبني المطلب وهم الذين أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليهم معه، والذين ¬

_ (¬1) هو أبو بكر أحمد بن الحسن بن علي بن عبد الله البيهقى، ولدية أربع وثمانين وثلاث مائة في شعبان، توفي بنيسابور في جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ترجمته مرآة الجنان (3/ 81)، ومفتاح السعادة (2/ 15)، والكامل في التاريخ (10/ 18)، وطبقات ابن الصلاح (332). (¬2) (1/ 74، 76) مع اختلاف في السياق. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في الأصل (القائلون)، والتصويب من ن ب. (¬5) سورة هود: آية 40. (¬6) في ب (أنه). (¬7) في ب ساقطة.

اصطفاهم الله من خلقه بعد نبيه فإن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} (¬1) فاعلم: أنه اصطفى الأنبياء وآل الأنبياء صلى الله عليهم. تنبيهان: الأول: الصواب إضافة "آل" إلى المضمر؛ لأن السماع الصحيح يعضده (¬2). الثاني: هل تضاف "آل" إلى البلدان فيقال: "آل المدينة"؟ جوزه الأخفش ومنعه الكسائى. وأما: "الصحب" فهو جمع صاحب كركب وراكب، وهو كل مسلم رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو المختار في حده، ويدخل في هذا [التفسير] (¬3) ابن أم مكتوم الأعمى وغيره، وقد حكيت في "المقنع في علوم الحديث" ستة أقوال في حده فراجعها منه وهو كتاب جليل نفع الله به (¬4). ثم اعلم أن بين "الآل" و"الصحب" عمومًا وخصوصًا من وجه؛ وإن التابعي الذي من بني هاشم وبني المطلب من الأول وليس من الثاني، وسلمان الفارسي مثلًا بالعكس فلذلك حَسُنَ عطفهم عليهم. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آيه 33. (¬2) انظر: المجموع شرح المهذب (1/ 76). (¬3) في الأصل (التعيين)، والتصويب من ن ب. (¬4) المقنع في علوم الحديث، تحقيق عبد الله الجديع (ص 491).

"والأطهار": جمع طاهر، ذكره ابن سيده، وهو نادر كجاهل وأجهال. والتطهر: التنزه عما لا يحل، ومنه قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (¬1). أي من المعاصي والأفعال المحرمة. قال: "أما بعد: فإن بعض إخواني سألني اختصار جملة من أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الإِمامان محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ومسلم بن الحجاج". معنى أما بعد: أما بعد ما سبق وهو الحمد والصلاة. قال ابن بطال: هو فصل بين الثناء على الله وبين ابتداء الخبر الذي يريد [الخطيب] (¬2) إعلامه، وبدأ بها؛ للأحاديث الصحيحة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقولها في خطبه وشبهها، رواه عنه خمسة وثلاثون صحابيًا عددتهم في كتاب "الإِشارات إلى ما يتعلق بالمنهاج من الأسماء والمعاني واللغات"، وفي المبتدىء [بها] (¬3) خمسة أقوال: أحدها: داوود. ثانيها: قس بن ساعدة. ثالثها: كعب بن لؤي، وهذه شهورة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 125. (¬2) ساقطة من ن ب. (¬3) في ن ب (به).

رابعها: يعرب بن قحطان، حكاه النووي في شرح مسلم في كتاب الجمعة. خامسها: سحبان بن وائل وهو القائل: لقد علم الحي اليمانيون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها قال الزناتي: في "شرح رسالة ابن أبي زيد": وفي ضبطها أربعة أوجه: ضم الدال وفتحها ورفعها منونة وكذا نصبها. وقوله: "بعض إخواني" يحتمل أن يكون أخًا حقيقة، والظاهر أنه عني به: من المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1). وفي سنن أبي داود من حديث زيد بن أرقم مرفوعًا: "اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة" (¬2). "والاختصار": مشتق من الخصر، والخصر سرة الشيء وخلاصته، والاختصار: إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى، ومراده أن البخاري ومسلمًا اشتملا على جمل من التوحيد والأحكام والآداب والفضائل والمواعظ والقصص وغير ذلك، فاختصر جملة من الأحكام دون غيرها. والفرق بين الاختصار والإِيجاز: أن الإِيجاز حذف طول الكلام، والاختصار حذف عرضه، كذا سمعت من يذكره. وعبارة بعضهم أن الإِيجاز: تجريد المعنى من غير رعاية للفظ ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: آية 10. (¬2) سنن أبي داود رقم (1508).

الأصل بلفظ يسير، والاختصار: تجريد اللفظ اليسير من الكثير مع بقاء المعنى. "والأحادث": [قيل] (¬1) هي جمع أحدوثة قياسًا على جمع أعجوبة وأعاجيب، وقيل: جمع حديث فيكون جمعًا على غير [قياس] (¬2). والحديث لغة: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظة أو نوم. وفي الاصطلاح: كلام الرسول غير المتلو قرآنًا فتندرج الأحاديث المروية عن ربه تبارك وتعالى: كما في ليلة الإسراء والرؤيا. وأحسن من هذا الحد: ما نسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولًا أو فعلًا أو إقرارًا (¬3). وقوله: "مما اتفق عليه الإمامان" قد خالف هذا الشرط فخرج أحاديث انفرد البخاري بها تارة، ومسلم أخرى، نعم هي قليلة كما ستقف عليها في مواطنها من هذا الشرح إن شاء الله تعالى (¬4) ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ج (القياس). (¬3) في ن ب ج (قولًا أو فعلًا أو إقرارًا). (¬4) مجموع الأحاديث التي استدركت على المصنف 76 حديثًا، استدركها الزركشى في كتابه (تصحيح العمدة) نشر مجلة الجامعة الإِسلامية عدد (75، 76)، تحقيق الدكتور الزهراني.

وقد أفردتها مجموعة في فصل [مفرد] (¬1) في معرفة رجال هذا الكتاب. فصل: في معرفة [حال] (¬2) الإمام البخاري رضي الله عنه فإن المصنف قد تعرَّض له: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم [البخاري] (¬3) ابن المغيرة بن يَزْدِزْبَه. ويقال [بَرْدِزْبَه] (¬4) كذا ضبطه أولًا ابن خلكان عن بعضهم، ثم نقل الثاني عن ابن ماكولا، قال -أعني ابن ماكولا- هو بالبخارية، ومعناه بالعربية: الزرّاع، وقال ابن دحية في كلامه على حديث "إنما الأعمال بالنيات": قال لي أهل خراسان بعد أن لم يرفوا معنى [هذه] (¬5) اللفظة: يقال ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (رجال). (¬3) زيادة من ن ج ب. انظر: مصادر ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 391). (¬4) هكذا هو في الأصل، وفى ن ب وهي واضحة ومشكولة، والذى في تهذيب التهذيب (9/ 47): ابن بردزبه، وقيل بزرويه، بدون ضبط الشكل. أما ما جاء في سير أعلام النبلاء (12/ 391): بن بَزدِزْبَه، وقيل بَذدُزبَه. وجاء في تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 67/ 1): بَزدِزيَه، بباء موحدة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم دال مهملة مكسورة ثم زاي ساكنة ثم باء موحدة ثم هاء، وقيده ابن ماكولا هكذا (1/ 259). وقد جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 190): قال ابن خلكان: وقد اختلف في اسم جده فقل: إنه يَزدِبه بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وكسر الذال المعجمة وبعدها ياء موحدة ثم هاء ساكنة. (¬5) في ن ب ساقطة.

للفلاحين [بالفارسية] (¬1): برزكر، بباء موحدة ثم راء مهملة وزاي معجمة مكسورة وكاف غير صافية، وراء مهملة. وهو لقب لكل من سكن البادية زراعًا كان أو غيره. وقيل: إنه ابن المغيرة بن الأحنف الجعفي (¬2) مولاهم ولاء الإِسلام؛ لأن جده المغيرة أسلم على يد يمان البخاري الجعفي والي بخارى (¬3). الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، كتب بخراسان والجبال والعراق والحجاز والشام ومصر، عن [أبي] (¬4) نعيم والفريابي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وخلق يزيدون على ألف وروى عنه الترمذي والنسائي فيما قيل ومسلم خارج الصحيح، وإبراهيم الحربي، وأبو زرعة محمد بن نصر المروزي، وصالح بن محمد جزره، ومطين، وابن خزيمة. قال الخطيب: آخر من حدَّث عن البخاري ببغداد الحسين بن إسماعيل المحاملي. قال النووي: وصحيحه متواتر عنه، وأشتهر عنه من رواية الفِرَبْرىِّ روينا عن أبي عبد الله الفربري: قال: سمع الصحيح من أبي عبد الله تسعون ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، وفي ج (مثبتة). (¬2) في الأصل (الجعلي). (¬3) قال الخطيب البغدادي في تاريخه (2/ 6): يمان هذا هو أبو جد عبد الله بن محمد المسندي. وعبد الله بن محمد هو ابن جعفر بن يمان البخاري الجحفي. والبخارى. قيل له جُغفي. لأن أبا جده أسلم على يدي أبي جد عبد الله المسندى. ويمان جعفر. فنسب إليه لأنه مولاه من فوق. (¬4) في الأصل (ابن أبي) زيادة ابن.

ألف رجل فما [بقي] (¬1) أحد يرويه غيري. قال الذهبي: وآخر من روى عنه صحيحه منصور بن محمد البَزْدويُّ وآخر من زعم أنه سمع منه أبو [ظهيرة] (¬2) عبد الله بن فارس البلخي المتوفى ستة ست وأربعين وثلاثمائة، ورواه -أعني صحيحه- عن الفربري خلائق منهم أبو محمد الحموي، وأبو زيد المروزي، وأبو إسحاق المستملي وأبو الحسن علي بن أحمد الجرجاني، وأبو الهيثم محمد بن مكي الكشميهيني، وأبو بكر إسماعيل بن محمد [الكشاني] (¬3)، وأحمد بن محمد بن متّ بفتح الميم وتشديد المثناة فوق، وآخرون. ورواه عن كل واحد من هؤلاء جماعات وأشتهر الآن عن أبي الوقت عن [الداروردي] (¬4) عن الحموي عن الفربري عن البخاري. قال الحسن بن الحسين البزار: رأيت البخاري شيخًا نحيفًا ليس بالطويل ولا بالقصير. ولد بإجماع بعد صلاة الجمعة لثلاث عشر خَلَت من شوال ستة أربع [وتسعين] (¬5) ومائة، وأجمعوا على أنه توفي ليلة السبت عند صلاة العثساء ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد الظهر ستة ست وخمسين ومائتين ودفن بخَرْتَنك، قرية على فرسخين من سمرقند. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (ظهير). (¬3) في ن ب ج (الكساني). (¬4) في أج (الراودى)، وفي ب (الراودى). (¬5) في ن ب (مبتورة).

قال محمد بن أبي حاتم النحوي ورّاق البخاري: قلت لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: أُلهمت حفظ الحديث في الكتاب ولي عشر سنين أو اقل ثم خرجت من الكتاب [بعد العشر] (¬1) فجعلت اختلف إلى الداخلي وغيره (إلى آخر الحكاية). وروينا عن الفربري قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال: أين تريد؛ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: أقرئه مني السلام. وعنه أيضًا: سمعت محمدًا البخاري يقول: رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في النوم خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يمشىي كلما رفع قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع. وعن محمد بن حمدويه قال: سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحح ومائتين ألف حديث غير صحيح. وعن الإمام أحمد قال: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل [البخاري] (¬2). وعنه قال: انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي -يعني الدارمي- والحسن بن شجاع البلخي. وعن الحافظ أبي علي صالح بن محمد جزره، قال: ما رأيت خراسانيًا أفهم منه، وقال: أعلمهم بالحديث البخاري، وأحفظهم أبو زرعة وهو أكثرهم حديثًا. وعن محمد بن بشار قال: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة البخاري من ن ب.

حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة (¬1) بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، والبخاري ببخارى. وعنه قال: ما قدم علينا مثل البخاري. وعنه أنه قال حين دخل البخاري البصرة: دخل اليوم سيد الفقهاء. وعنه أنه حين قدم البخاري البصرة قام إليه فأخذ بيده وعانقه وقال: مرحبًا بمن أفتخر به منذ سنين. وعن إسحاق بن أحمد بن خلف قال: سمعت البخاري غير مرة يقول: ما تصاغرت نفسي عند أحد إلَّا عند علي بن المديني. وذكر لعلي بن المديني (¬2) قول البخاري هذا فقال: ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه. وعن محمد بن عبد الله بن نمير وأبي بكر بن أبي شيبة قالا: ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل. وعن عمرو بن علي الفلاس قال: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث. وعن عبد الله: قال: ما رأيت شابًا أبصر من هذا، وأشار إلى البخاري، وعن عبد الله بن محمد المسندي -بفتح النون- قال: محمد بن إسماعيل إمام فمن لم يجعله إمامًا فاتهمه. وعن الدارمي قال: رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام ومصر والعراق فما رأيت منهم أجمع من أبي عبد الله البخاري. وعن أبي سهل محمود بن النضر قال: دخلت البصرة والشام ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (البرازى)، وكذا في ج، وهو تصحيف وإنما الصحيح (الرازي). (¬2) من هنا بداية سقط في الأصل بمقدار ورقة من لوحة [9/ أ/ أ] حتى (10/ أ/ ب).

والحجاز والكوفة ورأيت علماءها وكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فضّلوه على أنفسهم. وعن علي بن حجر قال: أخرجت خراسان ثلاثة: أبا زرعة والبخاري والدارمي، قال: ومحمد عندي أعلمهم وأبصرهم. وعن أبي حامد الأعمش قال: رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى -يعني الذهلي- يسأله عن الأسماء والكنى وعلل الحديث وعرَّفها البخاري مثل السهم كأنه يقرأ (قل هو الله أحد). وعن حاشد -بالشين المعجمة- بن إسماعيل قال: رأيت إسحاق بن راهويه جالسًا على السرير ومحمد بن إسماعيل معه فأنكر محمد بن إسماعيل شيئًا فرجع إسحاق إلى قول محمد، وقال إسحاق: يا معشر أصحاب الحديث اكتبوا عن هذا الشاب فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج إليه لمعرفته بالحديث وفقهه. وعن أبي عمرو الخفاف قال: حدثني محمد بن إسماعيل البخاري التقي النقي العالم الذي لم أر مثله. وعن الترمذي قال: لم أرى بالعراق وخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل. وعن عبد الله بن حماد الأيلي قال: وددت أني شعرة في صدر محمد بن إسماعيل. وعن محمد بن يعقوب الحافظ عن أبيه قال: رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي المتعلم. وعن مسلم بن الحجاج أنه قال للبخاري: لا يبغضك إلَّا حاسد وأشهد أنه

ليس في الدنيا مثلك. وذكر الحاكم في تاريخ نيسابور بإسناده عن أحمد بن حمدون قال: جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقبل بين عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله. وروينا عن حاشد بن إسماعيل قال: وإن أهل المعرفة من أهل البصرة يَعْدُونَ خلف البخاري في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق ويجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه، وكان البخاري إذ ذاك شابًا لم يخرج وجهه. وعن أبي بكر الأعين قال: كتبا عن محمد بن إسماعيل على باب محمد بن يوسف الفريابي وما في وجهه شعرة. وعن الحافظ صالح بن محمد جزرة قال: كان البخاري يجلس ببغداد وكنت أستملي له ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفًا. وعن محمد بن يوسف بن عاصم قال: كان لمحمد بن إسماعيل ثلاثة مستملين واجتمع في مجلسه زيادة على عشرين ألفًا. وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه. ومناقبه رضي الله عنه جَمَّة أفردت بالتصنيف فلنقتصر على هذا القدر منها. فائدة: قدمنا أن البخاري رضي الله عنه أمير المؤمنين في الحديث، وقد شاركه في ذلك جماعة أفردهم الحافظ أبو علي الحسن بن محمد البكري في كتابه (التبيين لذكر من يسمى بأمير

المؤمنين) ومن خطه نقلت، قال وأول من [تسمَّى بأول] (¬1) بهذا الاسم فيما أعلمه وشاهدته ورويته وسُمي بالإمام في أول الإِسلام: أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وبعده امام دار الهجرة مالك بن أنس، ثم عد بعدهما: محمد بن إسحاق صاحب المغازي، وشعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، والواقدي، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والبخاري، والدارقطني، وذكر فيه أن أبا إسحاق الشيرازي أمير المؤمنين فيما بين الفقهاء نقلًا عن الحنفي إمام أصحاب الرأي ببغداد، هذا مجموع ما ذكر في تأليفه، وأغفل أبا نعيم الفضل بن دكين الملآئي الكوفي، فإن الحاكم في تاريخ نيسابور قال: حدَّثني محمد بن عبد الوهاب قال: سمعت بالكوفة يقولون: أمير المؤمنين في الحديث وإنما يعنون [أبا نعيم] (¬2) الفضل بن دكين بعلمه بالحديث. وقد قدمنا في ترجمة المصنف أن الضياء المقدسي لُقب بذلك أيضًا، ومسلم بن الحجاج يجب أن يلقب بذلك أيضًا، وكذا أنظاره فاستفد ذلك فإنه من المهمات (¬3). فصل: في معرفة حال الإمام مسلم رضي الله عنه فإن المصنف قد تعرّض له أيضًا: هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (¬4) صاحب التصانيف، أحد الأئمة الحفاظ، يقال: إنه ¬

_ (¬1) في نسخة ج (سمي). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) انظر هدية المغيث في أمراء المؤمنين في الحديث، نظم محمد حبيب الله الشنقيطي. (¬4) انظر: مصادر ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 557).

ولد ستة أربع ومائتين، ويجزم ابن الأثير في جامعه بأنه ولد ستة ست وأنه مات عشية يوم الأحد لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين وهو ابن خمس وخمسين سنة، رحل إلى العراق والشام والحجاز، ومصر، وأخذ الحديث عن إسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، وحرملة، وخلق، وقدم بغداد غير مرة وحدث بها. روى عنه خلق منهم إبراهيم بن محمد بن سفيان، وكان آخر قدومه بغداد سنة سبع وخمسين ومائتين، روى عنه الترمذي حديثًا واحدًا، قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على أهل عصرهما. وسئل ابن عقدة: أيهما أحفظ هو أم البخاري؟ فقال: كلاهما عالم، فأعيد عليه السؤال فقال: يقع لمحمد الغلط في أهل الشام وذلك لأنه أخذ كتبهم ونظر فيها فربما ذكر الرجل بكنيته ويذكره في موضع آخر في اسمه ويظنهما اثنان، وأما مسلم فقلّ ما يوجد له غلط في النقل لأنه كتب المسانيد ولم يكتب (¬1) المقاطيع ولا المراسيل. قال مسلم بن الحجاج: صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقال أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليفه صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث. قال الحاكم: ولمسلم: المسند الكبير على الرجال [ما أرى] (¬2): أنه سمعه منه أحد، وكتاب الجامع الكبير على الأبواب، وكتاب الأسماء والكنى، ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى السقط [أ/ ب] من الأصل. (¬2) في ن ب (ما أرا).

والتمييز، والعلل، الوحدان، الأفراد، الأقران، سؤالات أحمد بن حنبل، [حديث] (¬1): عمرو بن شعيب. والانتفاع بأهب [السباع] (¬2)، ومشايخ مالك، ومشايخ الثوري، ومشايخ شعبة، [من] (¬3) ليس له إلَّا راو واحد، المخضرمين، أولاد الصحابة؛ أوهام المحدثين، والطبقات، وأفراد الشاميين. قال أحمد بن سلمة: عقد لأبي الحسين مسلم مجلس للمذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله وأوقد السراج وقال لمن في الدار: لا يدخل [أحد منكم] (¬4) [فقيل له] (¬5): أُهديت لنا سَلَّةٌ فيها تمر، فقال: قدموها، وكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة، فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث، قال الحاكم: زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مات. فصل: إنما اقصر المصنف على اختصار هذه الأحاديث مما اتفق عليه الإمامان لأنه أعلى درجات [الصحيح] (¬6) واتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكتاب البخاري أصح منه عند الجمهور، وخالف أبو علي النيسابوري فقال: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، ¬

_ (¬1) في ن ب (حدثنيه)، وهو خطأ. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (منكم أحد). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب ساقطة.

ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، والصحيح الأول، قال الخطيب: إنما قفى مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذى حذوه. ولما ورد البخاري نيسابور في آخر [مرة] (¬1) لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه، وقال الدارقطني: لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء. قال رحمه الله: (فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به وأسأل الله أن ينفعنا به ...) إلى آخر الخطبة، أجاب رضي الله عنه السائل تفضلًا منه ورجاء المنفعة ثم سأل الله ذلك وقد حقق رجاءه [و] (¬2) استجاب دعاءه، فما من مذهبي [إلَّا] (¬3) وأكب على حفظها والاقتباس منها. وإجابة السائل تجب أيضًا لكن بشروط: أن يكون السؤال عن واجب، وأن لا يكون هناك غيره، وأن يخاف فوات النازلة، وأن يكون عند المجيب علم من المسألة، وأن يكون عدلًا، وأن يكون السائل والمجيب مكلفين، وينبغي التحرز في الجواب، فقد قال المحاسبي: يسأل العالم يوم القيامة عن ثلاثة أشياء: هل أفتى بعلم أم لا؟ وهل نصح في الفتيا أم لا؟ وهل أخلص فيها لله أم لا؟ قال القرافي رحمه الله: وللمجيب ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون مجتهدًا مطلقًا فيجيب بما غلب على ظنه حيث ظفر به من أي مذهب كان. ¬

_ (¬1) في ن ب (عمره). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ساقطة من ب.

ثانيها. أن يكون مجتهدًا مقيدًا بمذهب نظر نصوص إمامه ومداركه وعلله ويعلم أنواع العلل ومراتبها ومداركها وكيفية التخريج وشروطه، فيجيب نصًّا وتخريجًا على مذهب إمامه ولا يتعداه إلى غيره. ثالثها: أن يكون مقلدًا صرفًا عاريًا عما تقدم، فحظه نقل اللفظ فقط ولا يتعداه لترجيح ولا تخريج ولا تأويل ولا تعليل. وقول المصنف: "فأجبته إلى سؤاله" قد علمت أنه لم [يوف] (¬1) به في بعض المواضع. و"الرجاء": تعلق الأمل بأمر يحصل في المستقبل مع [العمل] (¬2)، فإن تجرَّد عن العمل فهو طمع. و"النفع": ضد [الضر] (¬3)؛ يقال: نفعه كذا ينفعه وانتفع به، والاسم: المنفعة، قاله الجوهري (¬4). وقال الراغب في مفرداته (¬5): النفع: ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات وما يتوصل به إلى الخير خير، فالنفع خير وضده الضر، قال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (يعرف). (¬2) في ن ج (العلم). (¬3) في ن ب (المضرة). (¬4) مختار الصحاح (281). (¬5) (502). (¬6) سورة الفرقان: آية 3.

"والإخلاص": هو إفراد الحق سبحانه [وتعالى] (¬1) في الطاعة بالقصد وهو أن يريد بطاعته التقرُّب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني صوى التقرُّب إلى الله تعالى. وقوله: "لديه" أي عنده، وقوله: "فإنه حسبنا ونعم الوكيل" ختم الخطبة بذلك لأن الله وعد [من] (¬2) تحصن بها بالأمن مما يخشاه فقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} إلى قوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (¬3). وفي البخاري عن ابن عباس إن: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها: إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم (¬4). ومعنى حسبنا: كافينا. قال [النحاس] (¬5) قول الإنسان (حسبي الله) أحسن من (حسبنا) لما في الثاني من التعظيم. قلت: والمصنف أتى بلفظ التلاوة للتبرك، وفي معنى الوكيل عشرة أقوال: ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة آل عمران: آية 174. (¬4) البخاري: الفتح (8/ 229). (¬5) في الأصل (البخاري)، والتصحيح من ن ب.

أحدها: المعين. الثاني: الكفيل، ذكرهما الماوردي. الثالث: الموكول إليه الأمور، ذكره الواحدي في وسيطه قال: وهو فعيل بمعنى مفعول. الرابع: المعتمد والملجأ، ذكره أيضًا. الخامس: [القائم] (¬1) بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها، قاله ابن عطية. السادس: الشاهد والحافظ بالوفاء، [ذكره] (¬2) الثعلبي. السابع: الحفيظ، ذكره الهروي. الثامن: الكافي. التاسع: الكفيل بالرزق والقيام على الخلق بما يصلحهم، ذكرهما البيهقي في الاعتقاد (¬3). العاشر: الموكول إليه تدبير البرية، ذكره إمام الحرمين في الإرشاد. "ونِعْمَ": فعل عند أهل البصرة للمدح، كبئس للذم. وفيها أربع لغات (¬4) كما في فخذ. ¬

_ (¬1) في ن ب (العالم). (¬2) في ب (قاله). (¬3) الاعتقاد (17). (¬4) الأصل (نَعِم) بفتح أوله وكسر ثانيه، نِعِم فتتبع الكسرة الكسرة، نِعْمَ بكسر =

وإذْ فرغنا من شرح الخطبة فلنشرع في المقصود، أسال الله الكريم إتمامه والنفع به بمحمد وآله (¬1). ¬

_ = النون، نَعْمَ بفتح النون- اهـ. من مختار الصحاح (229). (¬1) هذا مما لا يجوز شرعًا، لأنه من البدع، للاستفادة يراجع كتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية. وكذا كتب أئمة الدعوة.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة

1 - باب الطهارة

1 - باب الطهارة الكتاب: أصله الضم والجمع والمراد به ما جمع أبوابًا ترجع إلى أصل واحد، ثم قد يحتمل أن تكون حقيقة. وأن تكون مجازًا بالنسبة إلى المعنى المدلول عليه بالألفاظ المذكورة، فإن الجمع والضم حقيقة في الأجسام. [الطهارة] (¬1): بفح الطاء فعالة من التطهر و [هي] (¬2) في اللغة: النزاهة، قال الله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3) أي [من] (¬4) أدناسهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (¬5)، وهو حقيقة لتأكيد الفعل بالمصدر، وهو في الاغلب بمنع [المجاوز] (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل (الطاهرة)، والتصويب من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة آل عمران: آيه 55. (¬4) في الأصل (في). (¬5) سورة الأحزاب: آيه 33. (¬6) في ن ب (المجاز).

وهي في الشرع: فعل ما يستباح به الصلاة. هذا أحسن حدودها وأخصرها. ونقل الشيخ تقي الدين القشيري في كلامه على ابن الحاجب عن القزاز أنه قال في جامع اللغة: الطهارة: بفتح الطاء وضمها لغتان بإزاء معنيين مختلفين، أما الفتح فمعلوم، وأما الضم فهو فضل ما تطهرت به. وبدأ المصنف بكتاب الطهارة، لأن [أشرف] (¬1) أركان الدين بعد الشهادتين الصلاة، ولا بد لها من الطهارة فاستحقت التقديم، ولأنها آكد شروطها ومفتاحها فإنها أول ما يبدأ به المكلف من الشروط، ثم إنَّ الطهارة [قد] (¬2) تكون بالماء والتراب، والماء هو الأصل فلهذا قدمه على التيمم، والبخاري رضي الله عنه بدأ بالوحي، ومالك بوقوت الصلاة، ومنهم من بدأ بالإِيمان، ومنهم من بدأ بالوضوء، ومنهم من بدأ بالاستنجاء. ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة عشر حديثًا: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، ومثبتة في ن ب ج. (¬2) ساقطة من الأصل، ومثبتة في ن ب ج.

الحديث الأول

الحديث الأول 1/ 1/ 1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الأعمال بالنية -وفي رواية: (بالنيات) - وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬1). الكلام عليه من وجوه: يحضرنا منها اثنان وثلاثون وجهًا -ولله الحمد على ذلك وعلى جميع نعمه-: أحدها: بدأ المصنف بهذا الحديث لأمور: أحدها: أنه ترجم بكتاب الطهارة فقدمه لاشتماله على النية التي هي شرطها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الصحيح (1، 54، 2529، 5070، 6689) صحيح مسلم برقم (1907)، النسائى (75، 3437، 3494) ابن ماجه (4227)، الموطأ برواية محمد بن الحسن (983)، أبو داود (6/ 284)، الحميدي (1/ 16، 17)، الترمذي (5/ 283)، الطيالسي (9)، ابن خزيمة (1/ 73).

ثانيها: اقتداء بقول الأئمة، كما نقله الخطابي عنهم: ينبغي لمن صنف كتابًا أن يبتدىء بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على تصحيح النيّة. وقال ابن مهدي (¬1) الحافظ: من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بهذا الحديث. وقال: لو صنفت كتابًا لبدأت في كل باب منه بهذا الحديث. ثالثها: اقتداء بفعلهم فإنّ البخاري وغيره من المصنفين، ابتدأوا به وقد ذكره البخاري في سبعة مواضع من صحيحه في أول كتابه، ثم في الإيمان، ثم في العتق، ثم في الهجرة، ثم [في النكاح] (¬2)، ثم في ترك الحيل، ثم في الأيمان والنذور. وتقديم البخاري له في أول صحيحه لا مناسبة له على ما ترجمه [من] (¬3) باب بدء الوحي وإنما قصد به إصلاح النية في تأليفه وليقتدى به، وامتثالًا لقول عبد الرحمن بن مهدي السالف، فجعله فاتحة كتابه وأقامه مقام الخطبة لأبوابه (¬4). ¬

_ (¬1) هو الحافظ الكبير عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد ولد ستة خمس وثلاثين ومائة ومات سنة ثمان وتسعين ومائة. تذكرة الحفاظ (1/ 329). (¬2) فى الأصل (العتيق)، والصحيح من صحيح البخاري ون ب، أما ما بعده ففيه تقديم وتأخير بين الحيل وبين الأيمان ... إلخ. (¬3) فى ن ب (في). (¬4) قال ابن حجر فى فتح الباري (1/ 11): مناسبة الحديث لترجمة أن بدء الوحي كان بالنية. لأن الله تعالى فطر محمدًا على التوحيد وبغض إليه الأوثان، ووهب له أسباب النبوة وهي =

ثانيها: في التعريف براويه قبل الكلام عليه: هو أمير المؤمنين أبو حفص، وأول من كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه ابن الجوزي عنه. والحفص في اللغة: الأسد، عمر بن الخطاب بن نُفَيل بضم النون وفتح الفاء [بن] (¬1) عبد العزى بن رياح بكسر الراء ثم مثناة تحت -وأبعد من قال بباء موحدة- بن عبد الله بن قُرط بضم القاف ثم راء ثم طاء مهملتين بن رزاح -بفتح الراء وبالزاي- بن عدي بن كعب بن لؤي -بالهمز وتركه- بن غالب بن فهر العدوي القرشي يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي. واتفقوا على تسميته بالفاروق لفرقانه بين الحق والباطل بإسلامه، وظهور ذلك، فقيل: سمّاه الله تعالى بذلك، روته عائشة رضي الله عنها وإسناده ضعيف (¬2) كما قال ابن دحية، وقال ابن شهاب: سمّاه بذلك أهل الكتاب، ذكره الطبري، وقيل: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذه ثلاثة أقوال (¬3)، وهو أول من سمّي أمير المؤمنين عمومًا، وسمي [قبله به] (¬4) خصوصًا عبد الله بن جحش على سرية في اثني عشر رجلًا، وقيل: ¬

_ = الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة. اهـ وقد ذكر أقوالًا كثيرة. (¬1) مكررة في ن أ. (¬2) انظر: طبقات ابن سعد (3/ 270، 271). (¬3) المرجع السابق؛ تاريخ عمر لابن الجوزي (30) فقد ذكرها. وانظر: فتح الباري (7/ 44) وقد تكلم على الكنية ايضًا. (¬4) في ن ب به (قبله).

ثمانية، وقد كان مسيلمة الكذاب تسمى بذلك أيضًا كما ثبت في صحيح البخاري في قصة قتله. وأم عمر رضي الله [عنه] (¬1): اسمها حنتمة بالحاء المهملة [ثم] (¬2) نون ثم مثناة فوق، بنت هاشم، ويعرف بذي الرمحين، ابن المغيرة المخزومي، قال أبو عمرو: من قال حنتمة بنت [هشام] (¬3) فقد أخطأ ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل بن هشام وإنَّما هي ابنة عمه، وقد وقع هذا الخطأ ابن قتيبة في "معارفه"، وقبله ابن منده في "المعرفة" وقال: هي أخت أبي جهل، وهو وهم (¬4). وُلد - رضي الله عنه - بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وإليه كانت السفارة في الجاهلية. وأسلم بعد ست من النبوة، وقيل: خمس، بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأة، وذكر ابن الجوزي أن عمر لما أسلم نزل جبريل عليه السلام فقال: استبشر أهل السماء بإسلامه. وكان إسلامه عزًا ظهر به الإسلام بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي "صحيح البخاري" (¬5): ¬

_ (¬1) في ن ب (عنها). (¬2) في ن ب (واو). (¬3) في الأصل (هاشم)، والتصويب من ب ج. (¬4) نبه ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1144) على هذا التصحيف ويين أنها ابنة هاشم، وقال: لو كانت ابنة هشام لكانت أخت أبي جهل والحارث، للاستزادة، راجع: فتح البارى (7/ 44)، وأسد الغابة (4/ 145)، وطبقات ابن سعد (3/ 265)، وتاريخ عمر لابن الجوزي (19). (¬5) صحيح البخاري (3684، 3863).

"ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". بويع له بالخلافة يوم موت الصديق وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة بوصاية الصديق إليه، فسار بأحسن سيرة وزين الإسلام [بعدله] (¬1). وفتح الله به الفتوح الكثيرة كبيت المقدس وجميع الشام، ودون الدواوين في العطاء ورتب الناس فيه، وكان لا يخاف في الله لومة لائم وهو أول من ضرب بالدرة وحملها، ومصّر الأمصار وكسّر الأكاسرة وقصّر بالقياصرة، وأخّر المقام إلى موضعه الآن وكان ملصقًا بالبيت، ونوّر المساجد بصلاة التراويح. وأوّل من أرّخ التاريخ من الهجرة، وأوّل قاضٍ في الإسلام (¬2) ولّاه الصدِّيق القضاء، وأول من جمع القرآن في المصحف، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الصدِّيق [و] (¬3) حج بالناس عشر سنين متوالية، وزهده ومناقبه كثيرة ومشهورة، وهل كان أدم أو أبيض؟ قولان والجمهور على الثاني كما قاله النووي، وكان من محدثي هذه الأمة، وفي الصحيح أنه عليه السلام قال له: "والذي نفسي بيده [مالقيك] (¬4) الشيطان سالكلًا فجًا قط إلَّا سلك فجًا غير فجك" (¬5) ¬

_ (¬1) فى ن ب ساقطة، ومثبتة في ن ج. (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) (الواو) غير موجودة في الأصل. (¬4) في الأصل (ما لقيت)، والتصويب من ب ج. (¬5) البخاري رقم (3683) -قط- غير موجودة في جميع النسخ، وما أثبت من الصحيح.

وشهد له بالشهادة والجنة، ونزل القرآن بموافقته في أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي تحريم الخمر، وفي مقام إبراهيم، وغير ذلك كما أوضحته فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فسارع إليه، قال ابن دحية في كتابه "مرج البحرين": [وكان] (¬1) أعسر يسر أي قوة يديه سواء قال: وكان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه -أي أطرافه- ويثب فكأنما خلق على ظهر فرسه (¬2). روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مائة حديث وتسعة وثلاثون حديثًا اتفق البخارى ومسلم [منها على ستة وعشرين حديثًا وانفرد البخارى بأربعة وثلاثين ومسلم بأحد وعشرين] (¬3). ولي الخلافة عشر سنين ونصف، واستشهد يوم الأربعاء لأربع أو لثلاث أو لسبع بقين من ذي الحجة [سنة] (¬4) ثلاث وعشرين من الهجرة، وقال الفلاس: سنة أربع، وهو ابن ثلاث وستين على الصحيح، وغسّله ابنه الزاهد أبو عبد الرحمن عبد الله وكفّنه في ثوبين سحوليين وصلى عليه صهيب بن سنان الرومي، ودفن في الحجرة ¬

_ (¬1) مثبتة من ن ب ج. (¬2) الذي في معرفة الصحابة لأبي نعيم (1/ 207)، عن زيد بن اسلم قال: كان عمر يأخذ بأذنه يعني نفسه ثم يثب على الفرس، والذى في ابن سعد (3/ 393): رأيت عمر بن الخطاب يأخذ بأذن الفرس ويأخذ بيده الأخرى أذنه ثم ينزُو على متن الفرس. وهي في المعجم الكبير للطبراني (1/ 20). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) في ن ب ساقطة.

النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، قتله أبو لؤلؤة المجوسي فيروز غلام نصراني -وقيل: مجوسي- للمغيرة بن شعبة، وهو في صلاة الصبح، طعنه ثلاث طعنات بسكين مسموم ذات طرفين، فقال: [قتلني] (¬1) أو أكلمني الكلب، وطعن معه ثلاثة عشر رجلًا مات منهم تسعة، وفي رواية سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلمَّا ظنَّ أنه مأخوذ نحر نفسه فصار إلى لعنة الله وغضبه (¬2)، ثم حمل [عمر] (¬3) رضي الله عنه إلى منزله وبقي ثلاثة أيام، وقيل: سبعة، ومات. قال [عمرو] (¬4) بن علي: مات يوم السبت غرة المحرم، وروي عنه أنه قال حين احتضر ورأسه في حجر ابنه عبد الله: ظلوم لنفسي غير أني مسلم ... أصلي الصلاة كلها وأصوم ومن كراماته المشهورة أنه قال في خطبته يوم الجمعة: يا سارية الجبل الجبل. فالتفت الناس بعضهم لبعض فلم يفهموا مراده، فلما قضى الصلاة، قال له علي: ما هذا الذي قلته؛ قال: وسمعته؟ قال: نعم وكل أهل المسجد، قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم وهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا وظفروا وإن جازوا هلكوا فخرج مني هذا الكلام. فجاء ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) طبقات ابن سعد (3/ 337). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (عمر).

البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتًا يشبه صوت عمر، قال: فعدلنا إليه ففتح الله. رواه ابن عساكر بسند كل رواته ثقات، وكانت هذه الوقعة [نهاوند] (¬1) من بلاد العراق. وقد قيل: إن عمر - رضي الله عنه -[كان أطاع الله] (¬2) في العناصر الأربعة: الرياح، دليله هذه القصة، والماء [دليله] (¬3): قصة نيل مصر المشهورة عنه (¬4)، والتراب، دليله: ما روي إن الأرض زلزلت على عهده فضربها بالدرة فقال: ألم أعدل عليك؟ فسكنت (¬5)؟ والنار، دليله أن رجلًا جاءه فقال له: ما اسمك؛ فقال: جمرة، قال: ابن من؟ فقال: جذوة، فقال: أين مسكنك؟ فقال: حرة النار. فقال: بأيها؟ فقال: بذات لظى، فقال: أدرك أهلك فقد احترقوا (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (بنهاوند) - البداية والنهاية (7/ 130، 131)، وقال ابن كثير بعد سياقه القصة: وهذا إسناد جيد حسن، وقال بعد إسناد آخر: فهذه طرق يشد بعضها بعضًا. (¬2) في الأصل (كان له تأثير)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في الأصل (دليل)، وما أثبت من ن ب. (¬4) البداية والنهاية (7/ 100) رواية ابن كثير من طريق ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عمن حدَّثه. (¬5) أورد السيوطى في كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة (ص 66)، ولم يذكر آخره بل ذكر أنه ضربها بالدرة. (¬6) رواه مالك في الموطأ (ص 973). سألت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله مشافهة عن هذا، فقال: إن صحت أسانيد هذه الآثار فلا بأس، ولكن العبارة غير صحيحة -أي له تأثير على العناصر الأربع-.

الوجه الثالث: فيمن وافق اسم راويه من الرواة وينبغي أن يعلم أن في الرواة عمر بن الخطاب سبعة أولهم: أمير المؤمنين هذا، وثانيهم: كوفي روى عنه خالد بن عبد الله الواسطي، وثالثهم: راسبي روى عنه سويد بن أبي حاتم، ورابعهم: [الأ] (¬1) سكندري حدَّث عن ضمام بن إسماعيل، [و] (¬2) خامسهم: عنبري روى عن أبيه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وسادسهم: سجستاني روى عن محمد بن يوسف الفريابي، وسابعهم: [سدوسي] (¬3) بصري روى عن معتمر بن سليمان. فائدة: عمر اسمه معدول عن عامر [كزُفر وقثم وزُحَل وحسم ودُلف، فهذه كلها معدولة، عمر معدول عن عامر] (¬4)، وقثم عن قاثم، وكذلك سائرها لكنها يوقف [بها] (¬5) على المسموع، لا يجوز أن يعدل عن نافع ولا عن رافع فيقول: نفع ورفع، ولا ينصرف لاجتماع أمرين فيه: العدل والتعريف، وعمر معدود من الأسماء المرتجلة، نبّه على ذلك كله ابن دحية رحمه الله ثم قال: فإن قلت: قد قيل رجل عمر إذا وإن كثير الاعتمار، وقالوا عمرة الحج [وجمعها] (¬6) عُمُر، فما الذي يمنع أن يكون منقولًا عن أحدهما؟ ثم ¬

_ (¬1) زيادة من تهذيب التهذيب (7/ 442). (¬2) ساقطة من ب ج. (¬3) زيادة من ن ب وج. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (فأجمعها).

أجاب: بأن المانع [من] (¬1) ذلك أنه لو كان منهما لانصرف. قال: "والخطاب" يجوز أن يكون فعالًا من الخِطبة والخُطبة معًا، وقد أسلفت الكلام على كنيته رضي الله عنه وأن الحفص في اللغة: الأسد. الوجه الرابع: هذا الحديث أحد أركان الإسلام وقواعد الإيمان، وهو صحيح جليل متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه [وجلالته] (¬2) وثبوته من حديث الإمام أبي سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري رواه عنه حفاظ الإسلام، وأعلام الأئمة: إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، و [الحمادان] (¬3): حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والسفيانان: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، وخلائق لا يحصون كثرة، قال أبو سعيد محمد بن علي الخشاب الحافظ: روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين رجلًا، قلت: وبلغهم ابن منده في مستخرجه فوق الثلاثمائة، وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل بن أحمد يقول في المذاكرة: قال الإمام عبد الله الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد. أخرجه الإمام أبو عبد الله أحمد بن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (وحالاته)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في الأصل (الحمادين)، وما أثبت من ب ج.

حنبل في مسنده، وأبو عبد الله البخاري في سبعة مواضعٍ من صحيحه كما أسلفتها، ورواه مسلم في الجهاد من طرق ثمانية، وأخرجه أيضًا أصحاب السنن الأربعة: أبو داود في الطلاق، والترمذي في الحدود، والنسائي (¬1) في الأيمان والطهارة و [الرقائق] (¬2) والطلاق، وابن ماجه في الزهد (¬3)، ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في الموطأ، نعم رواه خارجها (¬4) وأخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديثه، ووهم ابن دحية فقال في كلامه على هذا الحديث: إن مالكًا أخرجه في موطئه وأن الشافعي رواه [عنه] (¬5) وهو عجيب منه. وتنبَّه لقولتين ساقطتين: الأولى: ما رأيته في أول كتاب (تهذيب مستمر الأوهام) لابن ماكولا أنه يقال: إن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيمي (¬6). ¬

_ (¬1) الذي فى النسائى برقم (75، 3437، 3794)، الوضوء، الأيمان، الطلاق، والرقائق لم أجده فيه فلعله في السنن الكبرى، كما سيأتى بعده. (¬2) في الأصل (الرقاق)، والتصحيح من تحفة الأشراف للمزي (8/ 92). (¬3) ابن ماجه (4227). (¬4) أخرجه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن برقم (983)، وقد ذكره السيوطى في كتابه منتهى الآمال شرح حديث إنما الأعمال (ص 13). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (الأنصاري)، وفي ج (التيمي)، وكتب في الهامش (الأنصاري)، والصحيح ما أثبت كما في تهذيب التهذيب لابن حجر (ج 12). انظر: تهذيب مستمر الأوهام (61).

الثانية: ما ذكرها هو في موضع آخر أنه يقال لم يسمعه محمد بن إبراهيم التيمي من علقمة وبيان وهن هاتين المقالتين أن في أول صحيح البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص فذكره، وفي كتاب الأيمان والنذور منه: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة يقول: سمعت عمر فذكره، وإنما ذكرت هاتين المقالتين لأنبه على وهنهما وشذوذهما وأنهما [لا يقدحان] (¬1) في الإجماع (¬2) السالف على صحته، ومثلهما في الوهن قول ابن جرير الطبري في (تهذيب الآثار): إن هذا الحديث قد يكون عند بعضهم مردودًا؛ لأنه حديث فرد. الوجه الخامس: هذا الحديث قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة غير عمر بن الخطاب رضي الله عنهم نحو عشرين صحابيًا، وإن كان البزار قال: لا نعلم يروى هذا الكلام إلَّا عن عمر بن الخطاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الإسناد، وكذا ابن السكن في كتابه المسمى (بالسنن الصحاح) حيث قال: ولم يروه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بإسناد غير عمر بن الخطاب، وكذا الأمام أبو عبد الله محمد بن غياث حيث قال: لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ¬

_ (¬1) في الأصل (لا يندرجان)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) في ن ب زيادة (واو)، وهي غير صحيحة.

عمر] (¬1)، [و] (¬2) ذكره الحافظ أبو يعلى القزويني في كتابه [الإرشاد] (¬3) من رواية مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الأعمال بالنية" ثم قال: هذا حديث غير محفوظ عن زيد بن أسلم بوجه فهذا ما أخطأ فيه الثقة عن الثقة، ورواه الدارقطني في (أحاديث مالك التي ليست في الموطأ) ولفظه: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" إلى آخره ثم قال: تفرد به عبد المجيد عن مالك ولا يعلم حدث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيب وإبراهيم بن محمد العتيقي، وقال ابن منده الحافظ في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير عمر: سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود [وعبد الله بن عمر] (¬4) وأنس وابن عباس ومعاوية وأبو هريرة وعبادة بن الصامت وعتبة بن عبد السلمي [وهلال] (¬5) بن سويد وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) (1/ 233)، وأخرجه ابن أبي حاتم فى العلل (1/ 131)، والقضاعي فى مسند الشهاب (2/ 196)، وقال القزويني فى الإرشاد: هو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه ... إلخ (1/ 167)، وقال الخطابي في الأعلام (1/ 110): وقد غلط بعض الرواة فرواه من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) زيادة من ب خ. (¬5) في ن ب (هذال)، وما أثبت يوافق ما في عمدة القاري (1/ 20).

و [أبو ذر] (¬1) وعتبة بن [المنذر] (¬2) وعقبة بن مسلم، رضي الله عنهم. قال [الخطابي] (¬3) في كتاب (الأعلام) (¬4): لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث أن هذا الحديث لا يصح مسندًا إلَّا من رواية عمر رضي الله عنه [وسيأتى قريبًا نقل ذلك عن الحفاظ أيضًا] (¬5)، وكذا قال المحب الطبري في "أحكامه": وقد عدد بعض هؤلاء ما لا يصح مسندًا إلَّا من حديث عمر. الوجه السادس: هذا الحديث فرد غريب باعتبار، مشهور باعتبار آخر، وليس بمتواتر بخلاف ما يظنه بعض الناس، فإن مداره على يحيى بن سعيد الأنصاري كما سلف، قال الحفاظ: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلَّا من [جهة] (¬6) عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا عن عمر إلَّا من جهة علقمة ولا عن علقمة إلَّا من جهة محمد بن إبراهيم التيمي ولا عن محمد إلَّا من جهة يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى اشتهر، ورواه جماعات لا يحصون كما سلف وأكثرهم أئمة معروفون. ونبهنا على هذا؛ لأنه قد يخفى على بعض من لا يعاني الحديث فيتوهم تواتره لشدة شهرته عند الخاصة ¬

_ (¬1) في ن ب (وأبو كثير)، وما أثبت يوافق ما في عمدة القاري (1/ 20). (¬2) في الأصل (الندري)، والتصحيح من ن ب ج، وعمدة القاري (1/ 20). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) (1/ 110). (¬5) في ن ب: متأخرة هذه الجملة أي بعد عمر. (¬6) فى ن ب ج (حديث).

والعامة، وعدم معرفته بفقد شرط التواتر في أوله، وقد صرح الائمة بأنه لا يوصف بالتواتر لما قلناه. قلت: وقد تُوبع علقمة والتيمي ويحيى بن سعيد على روايتهم، قال الحافظ أبو عبد الله بن منده (¬1): هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة: ابنه عبد الله، وجابر، وأبو جحيفة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وذو الكلاع، وعطاء بن يسار، وياسرة بن سمي، وواصل بن عمرو الجذامي، ومحمد بن المنكدر، ورواه عن علقمة غير التيمي: سعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر. وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيمي محمد بن محمد بن علقمة أبو الحسن الليثي، وداود بن أبي الفرات. ومحمد بن إسحاق بن يسار، وحجاج بن أرطاة وعبد ربه بن [قيس (¬2) الأنصاري. تنبيهات: الأول: ادعى الحاكم أبو عبد الله أن شرط البخاري ومسلم أن [لا] (¬3) يذكرا فى كتابيهما إلَّا ما رواه [صحابي] (¬4) مشهور له راويان ¬

_ (¬1) هو أبو القاسم بن منده عبد الرحمن صاحب المستخرج على الصحيحين تذكرة الحفاظ (3/ 1165)، والتقييد والإيضاح للعراقي (226). (¬2) في ن ب (سعيد). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) ساقطة من (ب)، وذكرت في الهامش. انظر: معرفة علوم الحديث (62).

نقتان فأكثر [ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له راويان ثقتان فأكثر] (¬1). [ثم] (¬2) يرويه عنه من أتباع الأتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط. وما ادعاه ينتقض بأحاديث من جملتها هذا الحديث الذي بدأ به البخاري كتابه فإنه لا يصح إلَّا فردًا كما قررناه، وأغرب من هذا قول [الميانشي] (¬3): أن شرطهما أن لا يدخلان فيه إلَّا ما صح عندهما وذلك ما رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان فصاعدًا وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر، وأن يكون [عن] (¬4) كل واحد من التابعين أكثر من أربعة. قال ابن دحية في كلامه على هذا الحديث: وإنما اشترط الشيخان الثقة والاشتهار بالطلب. الثاني: ادعى [الخليلي] (¬5) أن الذي عليه الحفاظ: أن الشاذ ما ليس له الَّا إسناد واحد يشد به ثقة أو غيره، فما كان عن غير ثقة فمتروك وما كان عن ثقة توقف فيه [فلا] (¬6) يحتج به، وقال الحاكم: انه ما انفرد به ثقة وليس [له] (¬7) أصل متابع، وما ذكراه يشكل بما ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، وهي مثبتة في ب، ج، إلَّا أن في ج (راويان تقيان) بياء مثناة تحتانية. (¬2) ساقطة من ب. (¬3) في الأصل وفي ج السين مهملة، وفي ب معجمة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) فى ن ب (الخليل)، وفي ن ج كما في الأصل. انظر: الإرشاد (1/ 176). (¬6) في ن ب (ولا). (¬7) في ن ب ساقطة.

ينفرد به العدل الحافظ الضابط. [كهذا] (¬1) الحديث فإنه لا يصح إلَّا فردًا كما قدمناه وهو أول حديث استفتح به البخاري [كتابه] (¬2) كما أسلفناه. الثالث: هذ الحديث فيه طرفة [من] (¬3) طرف الإسناد وهي رواية ثلاثة تابعين بعضهم عن بعض يحيى ومحمد وعلقمة، وقد اعتني بجمع نظائر ذلك في جزء. الوجه السابع: هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدها على عشرة أقوال، يسر الله جمعها. أحدها: أنها ثلاثة: هذا الحديث، وحديث " [من] (¬4) حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬5) وحديث "الحلال بيّن والحرام بيِّن" (¬6). قال الحافظ حمزة بن محمد الكناني (¬7): سمعت أهل العلم ¬

_ (¬1) في الأصل (هكذا)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) أخرجه الترمذي من رواية أبي هريرة (2317)، ومن رواية علي بن الحسين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ابن ماجه من رواية أبي هريرة (3976). (¬6) البخاري (52) (2051)، ومسلم (107)، وأبو داود (3329)، والترمذى (1205) والنسائي (7/ 342)، وابن ماجه (3984). (¬7) هو أبو القاسم الكناني حمزة بن محمد توفي سنة (357)، تذكرة الحفاظ (3/ 932).

يقولون: هذه الثلاثة أحاديث هي الإسلام، وكل حديث منها ثلث الإسلام. الثاني: أنها أربعة قاله أبو داود والدارقطني وغيرهما، بزيادة حديثًا "وازهد في الدنيا يحبك الله"، وقال عثمان بن سعيد الدارمي: أمهات الحديث أربعة هذا أحدها، وقد نظمها أبو الحسن المعرور (¬1) رحمه الله تعالى فقال: عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع من كلام خير البرية اتق الشبهات وازهد ... ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية الثالث: أنها اثنان. الرابع: أنها واحد. الخامس: قال أبو بكر الخفاف (¬2) من قدماء أصحابنا في كتابه "الخصال" ومنه نقلت: روي عن الشافعى رضي الله عنه أنه قال: مدار الإسلام على أربعمائة حديث، كذا رأيته أربعمائة، ثم رأيت في "أصول الفقه" لابن سراقة العامرى من أصحابنا [يذكر] (¬3) أربعة أحاديث، وكأنه أصوب. السادس: قال الخفاف أيضًا لما نقل هذا: وقال علي بن ¬

_ (¬1) أبو الحسن طاهر بن معرور الأشبيلي: (المعوز) في الأصل، وب (بالغين)، و (بالفاء) في ج. (¬2) هو أحمد بن عمر بن يوسف. انظر ترجمته: طبقات الفقهاء للعبادي (90)، وطبقات الأسنوى (165). (¬3) في ن ب (بدله).

المديني وعبد الرحمن بن مهدي: أن مداره على أربعة أحاديث "الأعمال بالنيات"، و"لا يحل دم امرئ مسلم إلَّا بإحدى ثلاث" (¬1)، و"بني الإِسلام على خمس" (¬2)، و"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (¬3)، وحكاه أيضًا ابن سراقة المذكور. السابع: قال أيضًا بعد ذلك عن إسحاق أن مداره على ثلاثة: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة: "من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد" (¬4)، وحديث النعمان: "الحلال بين والحرام بين"، ونقله غيره عن الإمام أحمد. الثامن: قال أبو داود: الفقه يدور على خمسة أحاديث: "الأعمال بالنيات"، و"الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، و"ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، و"لا ضرر ولا ضرار". التاسع: أسند ابن دحية عن أبي داود (¬5) من طريق ابن داسة أنه قال: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه ومسلم - خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ¬

_ (¬1) من رواية ابن مسعود عن البخاري (6878)، ومسلم (25، 26)، وأبو داود (4352). (¬2) من رواية ابن عمر عند البخاري (21)، والنسائى (8/ 107)، والترمذي (2619). (¬3) الترمذي (1341)، قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال. اهـ. (¬4) البخاري (2697)، ومسلم (17)، وابن ماجه (14)، وأبو داود (4606). (¬5) مقدمة سنن أبي داود (1/ 6).

ما ضمنته هذا الكتاب -يعني كتاب السنن- جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها: "الأعمال بالنيات"، ثانيها: "من حسن إسلام [المرء] (¬1) تركه ما لا يعنيه"، ثالثها: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى لا يرضى لأخيه إلَّا ما يرضى لنفسه"، ورابعها: "الحلال بيّن والحرام بيّن"، وحكاه القاضي عياض عن أبي داود ايضًا، ولفظه عنه: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، الثابت منها أربعة آلاف حديث، وهي ترجع إلى أربعة أحاديث، فذكرهن. العاشر: أسند ابن دحية أيضًا عن أبي داود من طريق أبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي قال: أقمت بطرسوس عشرين سنة فاجتهدت في المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث لمن وفقه الله، فأولها: حديث النعمان "الحلال بيّن والحرام بيِّن وشبهات بين ذلك" الحديث، قال: وهذا ربع العلم، ثانيها: حديث عمر بن الخطاب: "الأعمال بالنيات ولكل أمرىء ما نوى" وهذا نصف العلم، ثالثها: حديث أبي هريرة: "إن الله طيب لا يقبل إلَّا طيبًا" الحديث، وهذا ثلاثة أرباع العلم، ورابعها، حديث أبي هريرة أيضًا: "من حسن إسلام [المرء] (¬2) تركه ما لا يعنيه"، فهذه أربعة ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة.

أحاديث من أخذها ووفقه الله تجزي عن الأربعة آلاف، وقال ابن أبي زيد في آخر رسالته: جماع أبواب الخير وأزمته تتفرع على أربعة أحاديث: حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"، وحديث "لا تغضب". فتصير الأقوال إذن أحد عشر قولًا. فائدة: مما نحن فيه ما حكاه الزناتي شارح "الرسالة" عن بعضهم أنه كتب إلى ابن عمر رضي الله عنهما- أن اكتب لي بالعلم كله [وكتب] (¬1) إليه: العلم كثير ولكن إن استطعت أن تلقى الله تعالى خميص البطن من أموال الناس، خفيف الظهر من دنياهم، كافّ اللسان عن أعراضهم، ملازمًا لجماعاتهم؛ فافعل. فكانوا يقولون: جمع العلم في أربع كلمات. وفي "إقليد التقليد" لابن أبي جمرة، نفعنا الله به، على المدونة: أن رجلًا صحب بعض ملوك العجم، فرأى معه سبعين بعيرًا تحمل كتبًا، فردها إلى سبعة أبعرة، ثم ردها إلى أربعة أبعرة، ثم ردها إلى أربع كلمات: لا تأكل إلَّا عن شهوة، ولا تنظر المرأة إلَّا إلى زوجها، ولا يصلح الملك إلَّا الطاعة، ولا يصلح الرعية إلَّا العدل. الوجه الثامن: هذا الحديث عظيم الموقع، كبير الفائدة، أصل ¬

_ (¬1) في ن ب (فكتب).

من أصول الدين، وقد خطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية" كما رواه البخاري في أحد المواضع السبعة السالفة (¬1)، وخطب به عمر أيضًا على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه [أيضًا] (¬2) وقد أسلفنا عن أبي داود أنه نصف الفقه. وقال الشافعي فيما رواه البويطي [عنه] (¬3): يدخل في هذا الحديث ثلث العلم. وقال في رواية الربيع: هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في شعين بابًا من الفقه (¬4)، وكذا قال الإمام أحمد وغيره: إنه ثلث العلم (¬5). وسببه، كما قال البيهقي وغيره: أن كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها؛ لأنه يكون عبادة ¬

_ (¬1) في صحيح البخاري في باب ترك الحيل وفي كتاب كيف بدء الوحي (1/ 10) قال ابن حجر: حكى المهلب أن النبي - صلى الله عليه ومسلم - خطب بهذا الحديث حين قدم المدينة، فلهذا بدأ به البخاري في أول صحيحه، وقد اعترض ابن حجر من كونه خطب به أول ما هاجر؛ لأنه لم يره منقولًا. قال السيوطي في (منتهى الآمال شرح حديث إنما الأعمال) (ص 39): قال الزبير بن بكار في اخبار المدينة -بعد سياق الإسناد- ثم قال: فهذه الطريق صرّح فيها بذكر سبب الحديث، وبكون خطب به حين قدم المدينة. واستفدنا منه تاريخ الحديث، وهو أحد علوم فن الحديث. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (عندي). (¬4) معرفة السنن للبيهقي (1/ 191). (¬5) فتح البارى (1/ 11).

بانفرادها بخلاف القممين الآخرين، ولهذا كانت "نية المؤمن خيرًا من عمله" (¬1) ولأن القول والعمل يدخلهما [الفساد] (¬2) بالرياء ونحوه بخلاف النية. وقال عبد الرحمن بن مهدي: [يدخل] (¬3) هذا الحديث في ثلاثين بابًا من الإِرادات والنيات. وقال أبو عبيد: ليس شيء من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا أجمع وأغنى وأكثر فائدة وأبلغ من هذا الحديث (¬4). وقال البخاري فيما نقله ابن دحية عنه: قوله عليه السلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى". يدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، وقال ابن دحية: لم أجد فيما أرويه من الدينيات أنفع من قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، إذ ¬

_ (¬1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي موسى الأشعري بلفظ: "نية المؤمن خير من عمله وإن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما يعطيه على عمله، وذلك أن النية لا رياء فيها والعمل يخالطه الرياء". وأخرجه العسكري في الأمثال عن النواس بن سمعان بلفظ: "نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله". وكذلك الطبراني في المعجم الكبير (6/ 228) عن سهل بن سعد الساعدى. قال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/ 61) رجاله موثقون إلَّا حاتم بن عباد بن ديار الحرشى، لم أرَ من ذكر له ترجمة. وضعف العراقي روايتي الطبراني من حديث سهل والنواس. راجع تخريج المؤلف في (ص 193) ت (1) وص (194) ت (3). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) فى ن ب ساقطة. انظر: فتح الباري (1/ 11). (¬4) فتح البارى (1/ 11).

مدار العلم عليه وهو نور يسعى بين يديه. قلت: وقول إمامنا الشافعى رضي الله عنه السالف: إن هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا من الفقه، مراده الأبواب الكلية كالطهارة بأنواعها، والصلاة بأقسامها، والزكاة، والصيام، والاعتكاف، والحج والعمرة، والأيمان، والنذور، والأضحية والهدي، والكفارة، والجهاد، والطلاق، والخلع، والظهار، والعتق، والكتابة، والتدبير، والابراء ونحوها، والبيع، والإجارة، وسائر المعاملات، والرجعة والوقف، والهبة وكناية الطلاق وغيرها عند من يقول كنايتها مع النية كالصريح وهو الصحيح، وكذلك إذا كان عليه ألفان بأحدهما رهن دون الآخر فلو وفاه ألفًا صرفه إلى ما نواه منهما وشبه ذلك، وذكر القاضي حسين من أصحابنا في آخر حد الخمر أنه لا بد للإمام في إقامة الحدود من النية حتى لو ضربه لمصادرة أو لمعنى آخر، وعليه حدود لا تحتسب عنه، وأما المسائل الجزئية فلا [تحصى] (¬1)، ثم يحتمل أن يكون أراد بالسبعين التحديد ويحتمل أن يكون أراد المبالغة في التكثير؛ لأن العرب تستعمل السبعين في ذلك ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (¬2). ومن المسائل الجزئية التي ينبغي استحضار النية فيها: الصدقات، وقضاء حوائج الناس، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، وابتداء السلام ورده، وتشميت العاطس، وجوابه، والأمر ¬

_ (¬1) في ن ب (تحصر). (¬2) سورة التوبة: آية 80.

بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإجابة الدعوة، وحضور مجلس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار والقبور، والنفقة على الأهل والضيفان، وإكرام أهل الود والفضل وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه، وتعليمه، وتعلمه، ومطالعته وكتابته، وتصنيفه، والفتوى، والقضاء وإماطة الأذى [من] (¬1) الطريق، والنصيحة، والإِعانة على البر والتقوى، وقبول الأمانات وأدائها، وما أشبه ذلك، حتى ينبغي استحضارها عند إرادة الأكل والشرب والنوم ويقصد بها التقوّي على الطاعة وإراحة البدن لينشط لها، وكذا إذا جامع موطوءته بقصد المعاشرة بالمعروف، وإيصالها حقها، وتحصيل ولد صالح يعبد الله، وإعفاف الزوجة، وإعفاف نفسه وصيانتها من التطلع إلى [حرام] (¬2) أو الفكر فيه أو مكابدة [العشاق] (¬3) بالصبر، وهذا معنى قوله عليه السلام، "وفي بُضع أحدكم صدقة"، وكذا ينبغي لمن عمل حرفة للمسلمين مما هو فرض كفاية أن يقصد إقامة فرض الكفاية ونفع المسلمين كالزراعة وغيرها من الحرف التي هي قوام عيش المسلمين. والضابط لحصول النية: أنه متى قصد بالعمل امتثال أمر الشرع، وبتركه الانتهاء بنهي الشرع؛ كانت حاصلة مُثابًا عليها وإلَّا فلا، وإن لم يقصد ذلك كان عملًا بهميًّا، ولهذا قال السلف: الأعمال البهيمية ما عملت بغير نية. ¬

_ (¬1) في ن ب (عن)، (¬2) في ن ب (الحرام). (¬3) في ب ج (المشاق).

الوجه التاسع: هذا الحديث من أجل أعمال القلوب والطاعة المتعلقة بها، وعليه مدارها وهو قاعدتها، فهو قاعدة الدين لتضمنه حكم النيات التي محلها القلب بخلاف الذكر الذي محله اللسان ولهذا نشر نوى الصلاة بلسانه دون قلبه لم تصح، ولو قرأ الفاتحة بقلبه دون لسانه لم تصح فهو أصل في وجوب النية في سائر العبادات كما سيأتي عن الجمهور قال الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي (في أربعينه): هذ الحديث أصل كبير في صحة الأعمال الدينية وأنها موقوفة على خلوص النية وهي بالإضافة إلى الأفعال والأقوال بمنزلة الأرواح للأشباح، [والأعمال] (¬1) كالأجسام الموات، والنية [الصالحة] (¬2) لها كالحياة، فمتى لم يقصد العامل بعمله وجه الله دون ما سواه كان سعيه خائبًا وأمله كاذبًا، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬3). العاشر: هذا الحديث [أصل] (¬4) في الإخلاص أيضًا وهو إرادة عمل الفعل إلى وجه الله تعالى وحده خالصًا. والنية: هي القصد المتعلق بتمييل الفعل إلى وجه الله تعالى، قاله القرافي. والإخلاص يرجع إلى الكتاب والسنة، أما الكتاب: فكل آية ¬

_ (¬1) في ج (فالأعمال). (¬2) في ن ب (الخالصة). (¬3) سورة البينة: آية 5. (¬4) في ن ب ساقطة.

تضمنت [مدح] (¬1) الإخلاص وذم الرياء، نحو: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2)، {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬3)، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} (¬4)، {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (¬5)، {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ} (¬6)، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} (¬7). الآية، فأخبر الله تعالى إنه لا يكون في الآخرة نصيب إلَّا لمن قصدها بالعمل، وأما السنة فقوله عليه السلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" (¬8). وقوله: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" (¬9). وقوله: "إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها فهي له صدقة". وقوله في حديث سعد: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلَّا أُجرت عليها حتى [ما تجعل] (¬10) في فيّ امرأتك" (¬11). وقوله: "يقول الله عز وجل: أنا ¬

_ (¬1) في ن ب (معنى). (¬2) سورة البينة: آية 5. (¬3) سورة يوسف: آية 24. (¬4) سورة الكهف: آيه 110. (¬5) سورة البقرة: آية 264. (¬6) سورة البقرة: آية 266. (¬7) سورة الشورى: آية 20. (¬8) مسلم، كتاب البر. (¬9) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب (41)، وكتاب الصيد باب (10)، ومسلم في صحيحه كتاب الإِمارة حديث (85، 86). (¬10) في ن ب (اللقمة). (¬11) البخاري رقم (56)، والفتح (1/ 136).

أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فإني بريء منه وهو للذي أشرك". وفي رواية "تركته وشركه" (¬1). وقوله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (¬2). وإخلاص النية لله تعالى لم تزل شرعًا لمن كان قبلنا ثم لنا من بعدهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} (¬3). قال أبو العالية: وصاهم بالإخلاص لله تعالى وعبادته لا شريك له، وترجم البخاري على قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (¬4) قال: على نيته. فائدة: لما عزم مالك [رحمه الله] (¬5) على تصنيف الموطأ فعل من كان [بالمدينة يومئذ] (¬6) [من العلماء] (¬7) الموطآت فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله، فقال (¬8): ائتوني بما عملوا، فأُتي بذلك فنظر فيه ثم نبذه، وقال: لتعلمن أنه لا يرتفع من هذا إلَّا ما أريد به وجه الله. قال الفضل بن محمد بن حرب: فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما ¬

_ (¬1) مسلم (4/ 2289) عن أبي هريرة. (¬2) متفق عليه. (¬3) سورة الشورى: آية 13. (¬4) سورة الإسراء: آية 84. (¬5) في ن ب (حافظة). (¬6) في الأصل وج (يومئذ بالمدينة). (¬7) زيادة من التمهيد. (¬8) في ن ب زيادة (رضي الله عنه).

سمع بشيء منها بعد ذلك يذكر (¬1). الحادي عشر: ومن هنا وقع الكلام على ألفاظ الحديث فوائده: قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) اختلف النحاة في (سمعت) هل تتعدى إلى مفعولين؛ فقيل: نعم، وهو مذهب أبي علي الفارسي في إيضاحه (¬2)، قال: لكن لا بد أن يكون الثاني مما سمع، كقولك: سمعت زيدًا يقول كذا، ولو قلت: سمعت زيدًا [يضرب] (¬3) أخاك؛ لم يجز. والصحيح أنه لا يتعدى إلَّا إلى مفعول واحد، والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال، أي سمعت حال قوله كذا. وأما ابن دحية فقال في كلامه على هذا الحديث: نجد أن إعراب (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فعلًا وفاعلًا ومفعولًا، قال بعضهم: فمن يسلك التعليل ويتكلف المجاهيل يجب أن يكون في الكلام مضاف محذوف كأنه قال: سمعت قول الناس؛ لأن الأشخاص لا يسمع إنما يسمع أصواتها وكلامها، فإذا قلت: سمعت زيدًا يقول كذا وكذا، فإنما التقدير: سمعت كلام زيد ويقول جملة موضعها نصب على الحال ثم ذكر مقالة أبي علي الفارسي، فقال: وزعم الفارسي في الإيضاح أن سمع يتعدى إلى: [مفعول واحد إذا كان مما يسمع كقولك: سمعت كلام زيد وإن كان مما لا يسمع تعدى ¬

_ (¬1) التمهد لابن عبد البر (1/ 86) مع الزيادة في أوله. (¬2) الإيضاح (1/ 197). (¬3) زيادة من الإِيضاح.

إلى مفعولين] (¬1) كقولك: (سمعت زيدًا يقول) فتقديره عنده في موضع المفعول الثاني [حال] (¬2) قال: وهذا من مسائِله التي غلط فيها [لأن سمعت لو كان] (¬3) مما يتعدى إلى مفعولين لم يخل من أن يكون من باب ما يتعدى إلى مفعولين لا يجوز السكوت على أحدهما وهو ظننت وأخواتها، أو يكون، وليس في العربية باب آخر له حكم ثالث ولا يجوز أن تكون من باب ظننت؛ لأنهم عدوه إلى مفعول واحد فقالوا: سمعت كلام زيد، ولا يجوز أن تكون من باب أعطيت؛ لأن بابه لا يجوز أن يكون المفعول الثاني فيه إلَّا اسمًا محضًا ولا يجوز أن يقع موقع فعل ولا جملة، وأنت تقول: سمعت زيدًا يتكلم وسمعت زيدًا وهو يتكلم، فتأتي بعده بفعل وبجملة فإذا بطل أن يكون من هذين البابين ثبت أنه مما تعدى إلى مفعول واحد، وإنك إذا قلت: سمعت زيدًا يقول فيقول في موضع الحال، كقولك: أبصرت الرجل ونحوه. وأهل شيراز يقلدون الفارسي في مقالته وهو خطأ عند النحويين، قاله البطليوسي. الثانى عشر: أجمعوا على أن الإسناد المتصل بالصحابي لا فرق فيه بين أن يأتي بلفظ "سمعت"، أو بلفظ "عن"، أو بلفظ "أن"، أو بلفظ "قال". ¬

_ (¬1) في نسخة ج: (مفعولين إذا كان مما يسمع كقولك سمعت كلام زيد، وإن كان مما لا يسمع تعدى إلى مفعول واحد) وهذا على خلاف ما في الأصل ون (ب). (¬2) زيادة من ن ج، وفي ن ب (قال). (¬3) العبارة في ن ب غير مستقيمة.

وإنما وقع الاختلاف فيمن دونه إذا قال: عن فلان، فقيل: إنه من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره، والصحيح أنه من قبيل المتصل بشرط أن لا يكون المعنعن مدلسًا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضًا، وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه مذاهب أربعة: أحدها: لايشترط شيء من ذلك، ونقل مسلم في مقدمة صحيحه الإجماع عليه. وثانيها: يشترط ثبوت اللقاء وحده، وهو قول البخاري والمحققين. ثالثها: يشترط طول الصحبة. ورابعها: يشترط معرفته بالرواية عنه، والأصح أنَّ: أنَّ كَعَن بالشرط المذكور، وقال أحمد وجماعة: يكون منقطعًا حتى يتبين السماع. الثالث عشر: أرفع الأقسام عند الجماهير: السماع من لفظ المُسْمِع، قال الخطيب: وأرفع العبارات سمعت، ثم حدثنا وحدثني، فإنه لا يكاد أحد يقول في الإجازة والكتابة سمعت؛ لأنه تدليس ما لم يسمعه. وقال ابن الصلاح: حدثنا وأخبرنا أرفع من سمعت؛ إذ ليس في سمعت دلالة أن الشيخ خاطبه بخلافهما، كما وقع للبَرقاني (¬1) مع شيخه أبي القاسم ¬

_ (¬1) هو أبو بكر أحمد بن محمد بن محمد بن غالب الخوارزمي ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 464).

الأبندوني (¬1) فإنه وإن عسر الرواية وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به فكان يقول: سمعت، ولا يقول: حدثنا وأخبرنا؛ لأن قصده الرواية للداخل عليه. قلت: ولك أن تقول سمعت صريحة في سماعه بخلاف [حدثنا] (¬2) لاستعمالها في الإِجازة عند بعضهم، ففيما ذكره ابن الصلاح نظر من هذا الوجه. الرابع عشر: تقدم الكلام على لفظ "الرسول" في الخطبة والفرق بينه وبين "النبي" واختلف المحدثون: هل يجوز تغيير قال النبي إلى قال الرسول أو عكسه؟ فقال ابن الصلاح: الظاهر أنه لا يجوز وإن جازت الرواية بالمعنى لاختلاف معنى الرسالة والنبوة، وسهّل في ذلك الإمام أحمد وحماد بن سلمة والخطيب، وقال النووي: إنه الصواب؛ لأنه لا يختلف به ها هنا معنى، وقال غيره: لو قيل يجوز تغيير النبي إلى الرسول دون عكسه لما بعد؛ لأن في الرسول معنى زائدًا على النبي وهو الرسالة فإن كل رسول نبي من غير عكس. الخامس عشر: لفظة "إنما" موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه، هذا مذهب الجمهور من أهل اللغة والأصول (¬3) ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن إبراهيم بن يوسف أبو القاسم الجرجاني. ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 261). (¬2) في ن ب (أخبرنا). (¬3) انظر: المحصول (1/ 535).

وغيرهم، وعلى هذا: هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؛ فيه مذهبان حكاهما ابن الحاجب ومعنى كلام الإمام وأتباعه أنه بالمنطوق واختار الآمدي: أنها لا تفيد الحصر بل تفيد تأكيد الإِثبات وهو الصحيح عند النحويين، وقيل: تقتضيه عرفًا لا وصفًا، حكاه بعض المتأخرين، ومحل بسط المسألة كتب الأصول، وعبر بعض الفضلاء عن إفادتها الحصر بعبارة لطيفة فقال: لفظة (إنما) موضوعة لتحقيق المتصل وتمحيق المنفصل يعني أنها تحمل تركها نفيًا وإثباتًا فتثبت ما اتصل بها وتنفى ما انفصل عنها، وقد فهم ابن عباس رضي الله عنه أنها للحصر من قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الربا في النسيئة" (¬1) وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارض فى فهمه للحصر، وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر، وقال أبو علي الفارسي: يقول ناس من النحويين في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬2) أن المعنى ما حرم ربي إلَّا الفواحش، قال: ويؤيده قول الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (¬3) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، ومسلم في وصحيحه في المساقاة حديث أحمد في المسند (5/ 200، 202، 204، 206، 209). (¬2) سورة الأعراف: آية 33. (¬3) ورد في ديوان الفرزدق (2/ 712) بلفظ: أنا الضامن الراعي عليهم وإنما ... يدافع عن أحسابهم انا أو مثْلي والفرزدق: هو أبو فراس همام أو هميم بن غالب توفي ستة (110) أو (111)، الوفيات (2/ 201).

وقال الزجاج: الذي أختار في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} (¬1) أن تكون "ما" هي التي تمنع، ويكون المعنى: ما حرَّم عليكم إلَّا الميتة؛ لأن "إنما" تأتي إثباتًا لما يذكر بعدها ونفيًا لما سواه، وقال أبو علي: التقدير في البيت: وما يدافع عن أحسابهم إلاَّ أنا أو مثلي. وقال ابن عطية: إنما: لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬2) وغير ذلك من الأمثلة وإذا كانت القصة لا يتأتي فيها الانحصار بقيت "إنما" للمبالغة والتأكيد فقط لقوله عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" (¬3)، وكقولهم: إنما الشجاع [عنترة] (¬4)، قال: وأما من قال: إن "إنما" لبيان الموصوف فهي عبارة [جائزة] (¬5). إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإِخبار دون إنما. وقال الشيخ تقي الدين: تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة تقتضي حصرًا مخصوصًا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، أي فالأول كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. الحصر ها هنا على إطلاقه لشهادة العقول والنقول بوحدانيته تعالى، والثانى كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 173، وفي ن ب زيادة (والدم ولحم الخنزير). (¬2) سورة النساء: آية 171. (¬3) سبق تخريجه في (ص 169). (¬4) في ن ب (غيره)، وج توافق الأصل. (¬5) في الأصل (فاترة)، والتصويب من ن ب.

مُنْذِرٌ} (¬1) أي بالنسبة لمن لا يؤمن وإلَّا فصفاته الجميلة [لا تحصر بالبشارة] (¬2) والشجاعة والكرم وغير ذلك، وكذا قوله عليه السلام: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ" (¬3) معناه حصر في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على مواطن الخصوم لا بالنسبة إلى كل شيء وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (¬4) باعتبار (¬5) أثرها، والله أعلم، وإلَّا فقد تكون سبيلًا إلى الخيرات أو يكون ذلك من باب التغليب بحال الأكثر أو الواقع كذلك، فاعتبر هذا الأصل فحيث دل السياق على الحصر في شيء مخصوص فقل به وإلَّا فالأصل الإطلاق، ومن هذا قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات". وقال السماكي في "إعجازه": الحصر في الحديث ليس عامًا فإن القاعدة أن المبتدأ والخبر إذا وقعا بعد "إنما" فالمحصور الثاني كيف كان، فإذا قلت: إنما المال لك، [فالمحصور المال لك] (¬6) وتقديره: لا لغيرك، وإذا قلت: إنما لك المال، فالمحصور المال وتقديره: لا غيره، فتأمله. ¬

_ (¬1) سورة الرعد: آيه 7. (¬2) في ن ب (انحصرت في البشارة)، وفي إحكام الأحكام (1/ 65) (جميلة كثيرة، كالبشارة وغيرها). (¬3) متفق عليه. (¬4) سورة محمد: آيه 36. (¬5) في ن ب زيادة (من). (¬6) ما بين القوسين زيادة من ن ب وج.

تنبيهات: أحدها: الأصل في "إنما" [أن] (¬1) تجيء بخبر لا يجهله المخاطب أو لما هو متنزل منزلته، كما نبه عليه ابن خطيب زملكان، مثال الأول قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} (¬2)، وقوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} (¬3) فإن كل عاقل يعلم أنه لا يكون استجابة إلَّا ممن يسمع، وأن الإِنذار إنما يجدي إذا كان مع من يصدق بالبعث، ومثال الثاني قوله: إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء ثانيها: (أنما) بالفتح كأنما كما قاله الزمخشري في قوله تعالي: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬4). قال شيخنا أبو حيان: وهذا شيء انفرد به، ودعوى الحصر هنا ممنوع؛ لاقتضائه أنه لم يوح إليه غير التوحيد. وفيما ذكره نظر فإن الخطاب مع المشركين، فالمعنى: ما أوحى إليَّ في أمر الربوبية إلَّا التوحيد لا الإِشراك. ثالثها: للحصر أدوات أخر: منها: حصر المبتدأ في الخبر، نحو: العالم زيد وصديقي زيد. ¬

_ (¬1) في الأصل (هل)، والتصحيح من ن ج. (¬2) سورة النازعات: آية 45. (¬3) سورة الأنعام: آية 36، وبعده في ن ب (فإنه). (¬4) سورة فصلت: آية 6.

ومنها: إلَّا، على اختلاف فيها. ومنها: تقديم المعمولات، على ما قاله الزمخشري وجماعة نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬1). ومها: لام كي، كقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (¬2) قاله الباجي. ومنها: السَّبر والتقسيم، نحو إن لم يكن زيد متحركًا فهو ساكن. رابعها: في الحديث صيغتا [حصر] (¬3) وهما (إنما، والمبتدأ والخبر الواقع بعده) وقد ورد بإسقاط (إنما) في رواية صحيحة كما سيأتي، فكل منهما إذا انفرد يفيد ما أفاده الآخر، واجتماعهما آكد. السادس عشر: وقع في كتاب الشهاب للقضاعي: "الأعمال بالنيات" بجمع "الأعمال" و"النيات" وحذف "إنما"، قال النووي في كتابه بستان العارفين (¬4)، وفي إملائه على هذا الحديث أيضًا ولم يكملهما، نقلًا عن الحافظ أبي موسى الأصبهاني أنه قال: "لا يصح إسناد هذا الحديث"، وأقره عليه. وفيما قاله نظر، فقد رواه كذلك حافظان وحكما بصحته: ابن حبان في صحيحه، والحاكم في ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: آية 5. (¬2) سورة النحل: آية 8. (¬3) في الأصل (خبر)، وما أثبت من ب ج. (¬4) قال النووي رحمه الله تعالى في بستان العارفين (25): وأما الذي وقع في أول كتاب الشهاب للقضاعي (الأعمال بالنيات) وحذف (إنما)، فقال الحافظ أبو موسى (الأصبهاني): لا يصح إسناد هذا- اهـ.

أربعينه، ثم حكم بصحته، وقد ذكرت إسنادهما إليه في تخريجي لأحاديث الرافعي فراجعه (¬1) منه، وكذا ساقه ابن دحية في كلامه على هذا الحديث من طريق النسائي عن ابن راهويه عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد به، ورواه ابن الجارود في المنتقى (¬2) بلفظ آخر: "إن الأعمال بالنية وإن لكل امرئ ما نوى". وفي رواية للبخاري: "العمل بالنية". وفي رواية له: "الأعمال بالنية". وفي رواية له: "يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية". السابع عشر: الأعمال: حركات البدن، ويتجوز بها عن حركات النفس وإنما عبَّر بالأعمال دون الأفعال؛ لئلا يتناول أفعال القلوب، ومنها النية ومعرفة الله تعالى، فكان يلزم أن لا يصحان إلَّا بنية لكن النية فيهما محال، أما النية فلأنها لو توقفت على نية أخرى لتوقفت الأخرى على أخرى ولزم التسلسل أو الدور وهما محالان، وأما معرفة الله تعالى فإنها لو توقفت على النية مع أن النية قصد ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن الملقن في البدر المنير (3/ 10): فيه نظر، فقد أخرجه كذلك حافظان وحكما بصحته: أحدهما: أبو حاتم ابن حبان فإنه أورده في وصحيحه (380)،الثانى: الحاكم أبو عبد الله، فإنه أورده في كتاب "الأربعين في شعار أهل الحديث" عن أبي بكر بن خزيمة، ثنا أبو مسلم، ثنا القعنبي، ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، كما ذكره ابن حبان سواء، ثم حكم بصحته، وهو في البخاري بلفظ "الأعمال بالنية" بحذف إنما، لكن بإفراد النية، انظر أيضًا الفتح (1/ 12) وأقره ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 55). (¬2) (31/ 64).

المنوى بالقلب لزم أن يكون الإنسان عارفًا بالله قبل معرفته وهو محال؛ ولأن المعرفة وكذا الخوف والرجاء مستمرة لله تعالى بصورتها، وكذا التسبيح وسائر الأذكار والأذان والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب به بل إلى مجرد القصد له، ولهذا لما كان الركوع والسجود في الصلاة غير ملتبس بغيرها لم تجب فيها ذكر، بخلاف القيام والقعود في التشهد فإن كلا منهما ملتبس بالعادة فوجب في القيام القراءة وفي القعود التشهد؛ ليتميز عن العادة، ثم اعلم أن الأعمال ثلاثة: بدني، وقلبي، ومركب منهما. فالأول: كل عمل لا يشترط فيه النية كرد الغصوب والعواري والودائع والنفقات وإزالة النجاسات ونحو ذلك. والثاني: كالاعتقادات والتوبة والحب في الله والبغض في الله، وما أشبه ذلك. والثالث: كالوضوء والصلاة والحج وكل عبادة بدنية، فيشترط في حصولها النية قولًا كانت أو فعلًا كما سيأتي، وبعض الخلافيين يخصص العمل [بما] (¬1) لا يكون قولًا، وفيه نظر للشيخ تقي الدين؛ لأن القول عمل خارجي أيضًا أما الأفعال فقد استعملت مقابلة للأقوال ولا شك أن هذا الحديث يتناول الأقوال. الثامن عشر: النيات: جمع نية بالتشديد والتخفيف، فمن شدد وهو المشهور كانت من نوى ينوي إذا قصد وأصله نِوْية قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء بعدها لتقاربهما، وانقلاب الواو [إلى ¬

_ (¬1) في ن ب (لما)، وفي (ج) كالأصل.

الياء] (¬1) بطريقين: أحدهما: انكسار ما قبلها فإنه يوجب قلبها إلى الياء. والثاني: أن من أصلهم أنه متى اجتمع واو وياء وأرادوا الإدغام قلبوا الواو إلى لفظ الياء لأنه أخف اعتلال من الواو والياء، وسواء كان [المتحرك هو الواو والياء وسواء كان] (¬2) المتقدم أو المتأخر قالوا: طويت طيًّا ولويته ليًّا أصله طويًا ولويًا [فتقدمت الواو] (¬3) ساكنة وقلبوها. وقالوا سيد وميت وأصله سيود وميوت؛ لأنه من ساد يسود ومات يموت فتأخرت الواو وتحركت ومع ذلك قلبوها إلى الياء ولم يقلبوا الياء إليها لما ذكرناه، ومن خفف الياء كانت من وَنِى يَني إذا أبطأ وتأخر، لأن النية تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتأخر يقال: نويت فلانًا وأنويته بمعنًى، ثم إنهم جعلوا مصدر نوى (نية) وَقَلّ ما يقولون نيًا كما قالوا شَوَى شَيًّا جآؤوا بالمصدر على الفعلة التي هي من نيا الهيئات، إذ القصد المعتمد هنا إنما هو صادر عن القلب فله هيئة متميزة فمن ها هنا جاء مصدرها على نيا الهيئات، نبّه عليه ابن دحية. فائدة: الباء في قوله "بالنيات" يحتمل أن تكون (باء) السبب ويحتمل أن تكون (باء) المصاحبة وينبني على ذلك: أن النية جزء من العبادة أم شرط؟ وستعلم ما فيه قريبًا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) مكرر في ن أ.

التاسع عشر: وجه إفراد (النية) على الرواية الأولى كونها مصدرًا وجمعت في الثانية (بالنيات) لاختلاف أنواعها ومعانيها؛ لأن المصدر إذا اختلفت أنواعه جمع، فمتى أريد مطلق النية من غير نظر لأنواعها تعين الإفراد ومتى أريد ذلك جمعت. تنبيه: أفردت "النية" في الرواية الأولى وجمعت (¬1) "الأعمال" لأن المفرد المعرف عام، وجمعًا في الثانية، والمراد: أن كل عمل على انفراده يعتبر فيه نية مفردة ويحتمل أن العمل الواحد يحتاج إلى نيات إذا قصد كمال العمل كمن قصد بالأكل دفع الجوع وحفظ الصحة والتقوي على العبادة وما أشبه ذلك وبسبب تعدد النيات بتعدد الثواب. العشرون: أصل النية: القصد، تقول العرب: نواك الله بحفظه، أي قصدك الله بحفظه، كذا نقله عنهم جماعة من الفقهاء، واعترض ابن الصلاح فقال: هذه عبارة منكرة؛ لأن المقصود مخصوص بالحادث فلا يضاف إلى الله تعالى، قال: وفي ثبوت ذلك عن العرب نظر؛ لأن الذي في الصحاح: نواك الله: أي: صحبك في السفر وحفظك. وقال الأزهري: يقال نواه الله أي حفظه، وهذا الذي أنكره عليهم غير منكر بل صحيح (¬2)، وقد قال هو في القطعة التي شرحها في أول صحيح مسلم: وقد ورد عن العرب أنها قالت: "نواك الله بحفظه" فقال فيه بعض الأئمة: معناه ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (واو)، وهي غير موجودة في ن ب ج. (¬2) انظر: معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد (ص 324).

قصدك [الله] (¬1) بحفظه، هذا كلامه، ومعلوم أن من أطلق القصد لم يرد القصد الذي هو من: [صفة الحادث] (¬2) بل أراد الإرادة. إذا تقرر هذا فالمراد هنا: قصد الشيء المأمور به تقربًا إلى الله تعالى مقترنًا بفعله، فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم، وكذا حدها الماوردي من أصحابنا في كتاب الأيمان، [وجعل الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي (¬3) في أربعينه: النية والإِرادة والقصد والعزم بمعنى، قال: وكذا أزمعت على النبلاء وعمدت إليه. قال: وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا يطلق عليه غيرها (¬4) مما ذكرناه، وقد علم بعد ذلك أن] (¬5) محلها القلب عند الجمهور كما جزمت به في الوجه التاسع لا اللسان؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة كذلك في ج. (¬2) بياض بالأصل، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) هو علي بن المفضل بن حاتم أبو الحسين مولده في سنة أربع وأربعين وخسمائة وتوفي في مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة. ترجمته في حسن المحاضرة (1/ 165)، والتاج المكلل (82)، والعبر (5/ 38، 39). (¬4) قال الشيخ بكر في المعجم (ص 324)، على لفظ النية: "لا يجوز إطلاقها على الله تعالى، فلا يقال: ناوٍ. ولكن يقال: يريد، طردًا لقاعدة التوقيف -أي في الأسماء الحسنى- على ما ورد به النص، والله أعلم" اهـ. وسيأتى كلام شيخ الإِسلام رحمنا الله وإياه بعد في -فائدة-. (¬5) في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأصل، وفي ج، إلَّا أن في ج آخرها (ثم اعلم بعد ذلك).

إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1) والإخلاص إنما يكون بالقلب، وقال تعالى: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلات مرات" (¬3) رواه مسلم من حديث أبي هريرة. إذا تقرر أن محلها القلب فإن اقتصر عليه جاز، إلَّا في الصلاة على وجه ضعيف للشافعية لا يعبأ به (¬4)، وإن اقتصر على ¬

_ (¬1) سورة البينة: آية 5. "فائدة": قال شيخ الإِسلام رحمه الله في الفتاوى (18/ 251): "لفظ النية في كلام العرب من جنس لفظ القصد والإِرادة ونحو ذلك، تقول العرب: نواك الله بخير، أي أرادك بخير ويقولون: نوى منوية، وهو المكان الذي ينويه، يسمونه نوى، كما يقولون: قبض بمعنى مقبوض، والنية يعبر بها عن نوع من إرادة ويعبر بها عن نفى المراد، كقول العرب: هذه نيتي، يعني: هذه البقعة هي الي نويت إتيانها. ويقولون: نيته قريبة أو بعيدة، أي: البقعة التي نوى قصدها، لكن من الناس من يقول: إنها اخص من الإرادة، فإن إرادة الإنسان تتعلق بعمله، وعمل غيره، والنية لا تكون إلَّا لعمله، فإنك تقول: أردت من فلان كذا، ولا تقول: نويت من فلان كذا" اهـ. (¬2) سورة الحج: آية 37. (¬3) مسلم والترمذي برقم (1927) من حديث أبي هريرة. (¬4) قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى (18/ 262): "والنية محلها القلب باتفاق العلماء، فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم. وقد خرج بعض أصحاب الشافعي وجهًا من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي، فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإِحرام، بأن الصلاة في أولها كلام، فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، وإنما أراد التكبير" اهـ.

اللسان لم يجز إلَّا في الزكاة [على وجه لهم شاذ، ومثله قول الأوزاعي: لا تجب النية في الزكاة] (¬1) وإن جمع بينهما فهو آكد. وعند المالكية: الأفضل أن ينوي العبادة بقلبه من غير نطق بلسانه إذ اللسان ليس محلًا للنية على ما تقرر، ونقل التلمساني منهم عن صاحب "الاستلحاق": استحباب النطق، وهو غير المعروف من مذهبهم. تنبيهات: الأول: جميع النيات المعتبرة في العبادات يشترط فيها المقارنة، إلَّا الصوم؛ للمشقة، وإلَّا الزكاة فإنه يجوز تقديمها قبل وقت إعطائها، قيل: والكفارات فإنه يجوز تقديمها على الفعل والشروع. الثاني. ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات أن يستحضر النية فينوي به وجه الله تعالى، وهل يشترط ذلك أول كل عمل وإن قلّ وتكرر فعله مقارنًا لأوله؟ فيه مذاهب: أحدها: نعم. وثانيها: يشترط ذلك في أوله ولا يشترط إذا تكرر، بل يكفيه أن ينوي أول كل عمل ولا يشترط تكرارها فيما بعد [ولا مقارنتها] (¬2) ولا الاتصال. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأصل وج. (¬2) في ن ب زيادة (ولا بقاء زمنها).

وثالثها: يشترط المقارنة دون الاتصال. ورابعها: يشترط الاتصال وهو أخف من المقارنة. وكأن هذه المذاهب راجعة إلى أن النية جزء من العبادة أم شرط لصحتها؟ مذهب الجمهور أنها جزء منها، ولأصحابنا وجه أنها شرط، والشرط لا يجب مقارنته ولا اتصاله ولا تكراره للمشروط، بل متى وجد ما يرفعه أو ينفيه وجب فعله. وقال الحارث بن أسد المحاسبي (¬1): الراجح عند أكثر السلف الاكتفاء بنية عامة ولا يحتاج إليها في كل جزء لما فيه من [الحرج] (¬2)، والمشقة. الثالث: النية وسيلة للمقاصد، والأعمال قد تكون وسيلة [وقد تكون] (¬3) مقصودة وقد يجتمعان. الرابع: الغرض المهم من النية: تمييز العبادات عن العادات، وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض، فمن أمثلة الأول: الوضوء والغسل والإمساك عن المفطرات ودفع المال إلى الغير [والذبح] (¬4)، ومن أمثلة الثاني: الصلاة. ¬

_ (¬1) هو الحارث بن أسد البغدادي المحاسبى مات سنة ثلات وأربعين ومئتين ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 110). (¬2) في الأصل (الخروج)، والتصويب من ن ج. (¬3) في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأصل وج. (¬4) زيادة من ن، ب.

الخامس: قد أسلفنا أن معنى النية القصد، وذلك لا يؤثر إلَّا إذا كان جازمًا بالمقصود بصفته الخاصة وإلَّا لم يكن قصدًا، فلو كان شاكًّا في وجود شرط ذلك الفعل أو علق النية على شرط لم يصح المنوي، نعم لو كان جازمًا بالوجوب ناسيًا صفته كمن تحقق أن عليه صومًا ولم يدر أنه من قضاء رمضان أو نذر أو كفارة فقد حكى صاحب (البيان) (¬1) عن الصيمري (¬2): أنه يصح إذا نوى الصوم الواجب عليه؛ قياسًا على من نسي صلاة من الخمس ولم يدر عينها فإنه يعذر في جزم النية للضرورة، ولو علق كما إذا قال: أصوم غدًا إن شاء الله تعالى، فالأصح أنه إن قصد الشك أو التعليق لم يصح، وإن قصد التبرك أو تعليق الحياة على مشيئة الله تعالى وتمكنه صح، ثم فى عدم الجزم بالنية صورٌ محلُّ الخوض فيها كتب الفروع. الحادي والعشرون: قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" وهو متعلق بالخبر المحذوف، ولا جائز أن يقدر وجودها لوجود العمل ولا نية، فتعين أن يقدر نفي الصحة أو نفي الكمال، وفيه مذهبان للأصوليين، والأظهر الأول؛ لأنه أقرب إلى حضوره بالذهن عند الإِطلاق فالحمل عليه أولى، وقد يقدرونه بالاعتبار أي اعتبار ¬

_ (¬1) هو يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد أبو الخير العمراني اليماني ولد سنة (489) وتوفي سنة (558) صاحب (البيان) و (الزوائد) ترجمته في طبقات ابن قاضي شهبة (1/ 327)، ومرآة الجنان (3/ 318). (¬2) هو عبد الواحد بن الحسين أبو القاسم الصيمري، وكانت وفاته بعد سنة ست وثمانين وثلاثمائة تهذيب الأسماء واللغات (2/ 265)، وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 184).

الأعمال بالنيات، وقرب ذلك تمثيل قولهم: "إنما الملك بالرجال" أي قوامة وجوده، و"إنما الرجال بالمال" و"إنما الرعية بالعدل" وكل ذلك يراد به أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور. وقدَّر بعض المحدثين: القبول، وهو راجع إلى ثواب الآخرة وهو مرتب على الصحة والكمال، وقد تنفك الصحة عن القبول بالنسبة إلى أحكام الدنيا فقط. وعلى تقدير إضمار الصحة أو الكمال وقع اختلاف الفقهاء. فذهب الشافعى ومالك وأحمد وداود وجمهور أهل الحجاز إلى تقدير الصحة، أي: الأعمال مجزية أو معتبرة بالنيات أو إنما صحتها أو اعتبارها بالنيات، فيكون قد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فلا يصح وضوء (¬1) ولا غسل ولا تيمم إلَّا بنية. وذهب أبو حنيفة ومن وافقه: إلى تقدير الكمال، أي كمال الأعمال بالنيات، فيصح الوضوء والغسل بغير نية ولا يصح التيمم إلَّا بنية. وذهب طائفة ثالثة: إلى أنه يصح الكل من غير نية حكاه ابن المنذر (¬2) عن الأوزاعي وغيره (¬3). احتج الأولون بأدلة: أحدها: هذا الحديث. ¬

_ (¬1) في ب زيادة (ولا صلاة). (¬2) في الأوسط (1/ 370). (¬3) في ن ب زيادة (واو).

ثانيها: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1). والإخلاص عمل وهو النية فالأمر به يقتضي الوجوب. ثالثها: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬2) أي للصلاة، وهذا معنى النية، وقاسه الشافعى رضي الله عنه على التيمم بجامع أنها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة. فإن قيل: التيمم ليس طهارة. فالجواب: أن الشرع سماه طهارة، فقال: "وتربتها طهورًا" (¬3). فإن قيل: التيمم فرع للوضوء فلا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع. فالجواب: أنه ليس فرعًا بل بدلًا. فإن قيل: إن التيمم تارة يكون بسبب الحدث وتارة بسب الجنابة فوجب فيه النية. فالجواب: أن الوضوء أيضًا تارة يكون عن نوم وتارة يكون عن بول. فإن قيل: الوضوء وإن اختلفت أسبابه فالواجب شيء واحد. ¬

_ (¬1) سورة البينة: آية 5. (¬2) سورة المائدة: آية 6. (¬3) سيأتي تخريجه تقريبًا.

فالجواب: أن التيمم كذلك فإن الواجب مسح الوجه واليدين في كل حال. فإن قيل: التيمم بدل، وشأن البدل [أن يكون] (¬1) [ضعف] (¬2) من المبدل فافتقر إلى النية ككنايات الطلاق. فالجواب: أن هذا ينتقض بصح الخف فإنه بدل أيضًا ولا [بد من مسح] (¬3) يفتقر إلى النية وإنما [افتقرت] (¬4) كنايات الطلاق إلى النية؛ لأنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالًا واحدًا، والصريح ظاهر في الطلاق، وأما الوضوء والتيمم فمستويان بل التيمم أظهر في إرادة القربة؛ لأنه لا يكون عادة بخلاف صورة الوضوء، فإذا افتقر التيمم المختص بالعبادة إلى النية، فالوضوء المشترك أولى. فإن قيل: التيمم نُص فيه على القصد وهو النية بخلاف الوضوء. فالجواب: أن المراد قصد الصعيد وذلك غير النية. فإن قيل: الماء مطهر بطبعه فاستغنى بقوته عن النية بخلاف التيمم. فالجواب: بالمنع؛ لأن الطهارة عبادة لا تأثير فيها للطبع. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في الأصل (افتقر).

فإن قيل: الوضوء ليس عبادة. فالجواب: أن هذا وهم، فإن العبادة: الطاعة، أو ما ورد التعبد به قربة إلى الله تعالى، وهذا موجود في الوضوء، والشرع سماه شطر الإيمان، فقال: "والطهور شطر الإِيمان" (¬1). ومعنى كونه شطرًا أن الإيمان مطهر الباطن وهو مطهر الظاهر، والأحاديث في فضل الوضوء وسقوط الخطايا به كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل هذا مصرح بأنه عبادة. فإن قيل: المراد بالوضوء الذي يترتب عليه هذا الفضل الوضوء الذي فيه نية ولا يلزم من ذلك أن ما لا نية فيه ليس بوضوء. فالجواب: أن الوضوء في هذه الأحاديث هو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬2). واحتج الآخرون بالكتاب والسنة والقياس، أما الكتاب فقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬3). والجواب: أن هذه حجة للأولين كما سلف. وجواب ثان: وهو أنها مطلقة مصرحة ببيان ما يجب غسله غير معترضة للنية وقد ثبت وجوبها بالآية الأخرى، وبالحديث الذي نحن فيه. ¬

_ (¬1) مسلم (223) في الطهارة باب فضل الوضوء، والبغوي (1/ 319)، والدارمي (1/ 167)، وأحمد في المسند (5/ 342، 343). (¬2) مسلم (224) في الطهارة باب وجوب الطهارة في الصلاة، والبغوي (1/ 329) السنن الكبرى (1/ 230). (¬3) سورة المائدة آية 6.

وأما السنة: فأحاديث كثيرة في الأمر بالغسل من غير نية ولو وجبت لذكرت. والجواب: عن مثل هذا ما سلف في الآية، ومن تلك الأحاديث حديث أم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال لها. "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" (¬1). والجواب عنه: أن السؤال كان عن نقض الضفائر فقط. وأما القياس فمن أوجه: الأول: إزالة النجاسة. الثاني: ستر العورة. الثالث: غسل الكتابية عن الحيض لتحل للمسلم. والجواب عن الأول: أنها من باب التروك ومن هنا تعلم أنه لا يشترط النية في ترك المعاصي، نعم إن نوى بإزالتها القربة لاداء الصلوات ونحو ذلك أثيب، وكذا إذا خطر بباله معصية فكف نفسه عنها لله تعالى أثيب على ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) النووي شرح مسلم (4/ 11)، والترمذي حديث رقم (105). (¬2) البخاري فتح (5/ 160) في الحق. قال ابن حجر في فتح البارى: (1/ 15): "والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر بباله المعصية أصلًا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفًا من الله تعالى، فرجع الحال أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله أعلم"- اهـ.

ومن الفوائد الغريبة: حكاية وجه ثالث عندنا في النجاسة: أنها إن كانت على البدن وجبت النية في إزالتها، وإن كانت على الثوب فلا. والجواب عن الثاني: أن المراد منها الصيانة عن العيون فليس عبادة محضة. وعن الثالث: أنها إنما صحت بالنسبة للزوج للضرورة، إذ لو لم نقل به لتعذر وطئها ونكاحها، ولهذا لا تصح طهارتها في حق الله فليس لها أن تصلي بتلك الطهارة إذا أسلمت. فإن قلت: الحديث المذكور عام مخصوص فإن أداء الدين ورد الودائع والأذان والتلاوة والأذكار وهداية الطريق وإماطة الأذى: عبادات، فتصح بلا نية فتضعف دلالته حينئذٍ وتخص عدم اعتبارها في الوضوء أيضًا. فالجواب: أن ما عُدَّ وادُّعِي فيه الصحة بلا نية إجماعًا ممنوع حتى يثبت الإِجماع ولن يقدر عليه، ثم نقول: النية تلازم هذه الأعمال فإن مُؤدّي الدين قصد براءة الذمة وذلك عبادة، وكذا الوديعة والأذكار والتلاوة والأذان بصورهن عبادة، ولا ينفك تعاطيهن عن القصد وذلك نية، ومتى خلون عن القصد لم يعتد بهن عبادة، والهداية والإِماطة مترددة بين القربة وغيرها وتتميز بالقصد، [وقد قال الرافعي في "الكفارات": وقول الغزالي في (الوجيز) يصح الإِعتاق والإِطعام من الذمي بغير نية القرب، فأما نية التمييز فتشبه أن يعتبر كما في قضاء الديون، وما قاله صحيح وقد

صرح به إمام الحرمين في باب صفة الوضوء في (نهايته) وكذا محمد بن يحيى (¬1) في كتاب الزكاة من (تعليقته في الخلاف) فذكر ما حاصله: أن نية التمييز في الدين ونحوه لا بد منها بخلاف نية القرب، وذكر نحوه في كتاب الصيام فقال: النية ضربان: تقربٌ وتمييز، أما التقرب فكما في العبادات من الصوم والصلاة وهو إخلاص العمل لله تعالى، وأما نية التمييز فكما في أداء الدين فإنه يحتمل التمليك هبة وقرضًا فافتقر إلى قصد وتمييز، وصرح به الشيخ عز الدين في "قواعده" في النوع الخامس والعشرين في أثناء قاعدة: في مثال متعلقات (¬2) الأحكام، ومثله أيضًا القراءة ونحوها وقد صرح به أيضًا في "القواعد" قبل الموضوع المذكور نحو ثلاث كراريس قال: ولكن لا يشترط نية التقرب] (¬3). وأما ابن دحية [فقال] (¬4): الحديث عام مخصوص؛ لأن الأعمال المفتقرة إلى النية إنما هي [المتقرب] (¬5) بها إلى الله ¬

_ (¬1) محمد بن يحيى بن منصور الإمام الشهيد أبو سعيد تلميذ الغزالي (476 - 548) له تصانيف منها "المحيط في شرح الوسيط"، و"الإنصاف في مسائل الخلاف"، والإسنوي (2/ 559، 560)، وابن قاضي شهبة (1/ 325)، والنجوم الزاهرة (5/ 305). (¬2) قواعد الأحكلام (167). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب ساقطة.

تعالى دون سائر الأعمال، فكأنه قال: لا عمل يتقرب [به] (¬1) إلى الله وينتفع به إلَّا بنية، فالألف واللام مع ذلك لاستغراق هذا النوع من الأعمال خاصة. تتمات تتعلق بالنية: الأولى: لو وطئ امرأة يظنها أجنبية فإذا هي مباحة له أثم، ولو اعتقدها زوجته أو أمته فلا إثم، وكذا لو شرب مباحًا يعتقده حرامًا أثم، وبالعكس لا يأثم، ومثله ما إذا قتل من يعتقده معصومًا فبان أنه مستحق دمه، أو أتلف مالًا يظنه لغيره فكان ملكه. قال الشيخ عز الدين في "قواعده" (¬2): ويجري عليه حكم الفاسق لجرأته على ربه تعالى، وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل ولا آكلٍ مالًا حرامًا؛ لأن عذاب الآخرة مرتب على ترتب المفاسد في الغالب [كما أن ثوابها مرتب على ترتب المصالح في الغالب] (¬3)، ثم قال: والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة، بل عذابًا متوسطًا بين الصغيرة والكبيرة. الثانية: لو قال لامرأته: أنت طالق، يظنها أجنبية، طلقت زوجته لمصادفته محله. وفي عكسه تردد لبعض العلماء مأخذه النظر ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قواعد الأحكام (21، 22). (¬3) في ن ب ساقطة، وأيضًا مثبت في القواعد.

إلى النية أو إلى فوات المحل، ولو قال لرقيق [له] (¬1): أنت حر، يظنه أجنبيًا، عتق، وفي عكسه التردد المذكور، وعلى هذا القياس في مسائل الشريعة والحقيقة والمعاملات الظاهرة والباطنة. الثالثة: ذهب بعض العلماء إلى وقوع الطلاق بالنية المجردة ولزوم النذر بها اعتمادًا على هذا الحديث، ولا يرد على هذا الحديث "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت [به نفسها] (¬2) ما لم تعمل به" (¬3)؛ لأن المعفو عنه في هذا الحديث هو الخطرات والهمم الضعيفة، بخلاف ما عقدت عليه العزائم، وهم إنما يوقعون الطلاق ونحوه بالنية إذا قويت وصارت عزيمة أكيدة. الرابعة: إذا نذر إعتكاف مدة متتابعة لزمه، وأصح الوجهين عند الشافعية أنه لا يجب التتابع بلا شرط، فعلى هذا لو نوى التتابع بقلبه ففي لزومه وجهان: أصحهما: لا، كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه، كذا نقله الرافعي عن تصحيح البغوي وغيره، قال الروياني: وهو ظاهر نقل المزني، قال: والصحيح عندي: اللزوم؛ لأن النية إذا اقترنت باللفظ عملت، كما لو قال: أنت طالق، ونوى ثلاثًا. الخامسة: في اشتراط نية الخطبة وجهان للشافعية كما في الأذان، قاله الروياني في "البحر"، وفي الرافعي في الجمعة أن ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (به نفوسها). (¬3) البخاري فتح (5/ 160) في العتق.

القاضي حسين حكى اشتراط نية الخطبة وفرضيتها كما في الصلاة، ونقله في "الشرح الصغير" عن بعضهم. السادسة: قال الروياني: قال القاضي أبو الطيب: قال البويطي: قد قيل: من صرَّح بالطلاق والظهار والعتق، ولم يكن له نية في ذلك، لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق، ويلزمه في الحكم، وحجته هذا الحديث: و"رفع القلم عن ثلاثة" (¬1) والإجماع على أن المجنون والنائم إذا تلفظا بصريح لفظ الطلاق لا يلزمهما، وقال: قال مالك: من طلَّق أو أعتق أو ظاهر بلا نية، يلزمه ذلك في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى، والحجة فيه لمن ذهب إليه: ما ذكر الله من إتلاف المؤمن خطأ، وما أجمع عليه العلماء أن من أتلف مال آدمي خطأ فذلك عليه وإن لم ينوِ، وذلك من حقوق الآدميين، وللمرأة حق في منعها نفسها، وللعبد حق في حريته، وللمساكين حق في الظهار، ولم يتعرض البويطي لواحد منها، فالظاهر أنه قصد تخريجه على قولين. السابعة: في مسند أبي يعلى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" يقول الله عز وجل للحفظة يوم القيامة: اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، ¬

_ (¬1) علقه البخاري في صحيحه (9/ 244) في الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق وهو حديث صحيح، وأبو داود (4399) في الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، والترمذي (1423) في الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وابن ماجه (2042) في الطلاق، والحاكم (1/ 258)، والنسائي (6/ 156)، وأحمد (6/ 100، 101، 144).

فيقولون: ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو فى صحفنا فيقول: إنه نواه إنه نواه" (¬1). ولهذا المعنى ونحوه ورد [الحديث] (¬2) الآخر: "نية المؤمن خير من عمله" (¬3)، وللناس فيه تأويلات: أحدها: أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه فيه. ثانيها: أن النية أوسع من العمل؛ لأنها تسبقه فيتعجل الثواب عليه. ئالثها: أن نيته خير من خيرات عمله. رابعها: أن النية المجردة عن العمل خير من العمل المجرد عن النية. خامسها: ما أسلفناه عن البيهقي فى الوجه الثامن (¬4). سادسها: أن معناه أن الإِنسان ينوي أن يعبد الله وإن عاش ألف سنة وأكثر فهو يثاب على ذلك وإن لم يدركه، فهو خير من عمل يسعه [ذلك] (¬5) الزمن. ¬

_ (¬1) قال العرافي: في "تخربج الإحياء" (4/ 363)، "أخرجه الدارقطني من حديث أنس بإسناد حسن". اهـ من حاشية "تطهير الطوية بتحسين النية" (30) للقاري، وهو في سنن الدارقطنى (1/ 51)، وجميع ألفاظ الحديث في المراجع المذكورة متقاربة، وأيضًا في حاشية مسند الفاروق لابن كثير (1/ 109). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) سبق تخريجه (ص 159) تعيق (1). (¬4) انظر: (ص 158). (¬5) في ن ب ساقطة.

سابعها: أنه ورد في رجل معين، وأنه عليه السلام قال: "من حفر بئرًا فله من الأجر كذا" فهمَّ رجل من المسلمين بحفرها فسبقه يهودي إلى ذلك فقال عليه السلام: "نية المؤمن أبلغ من عمله"، أي من عمل اليهودي. ثامنها: أن الأعمال المباحة إذا اقترنت بها نية جميلة بأن أكل ليتقوّى على الطاعة، ونكح ليستعف ونحو ذلك، كانت عبادة وقربة، فإذا خلت منها لم تكن عبادة، وكانت النية منفكة عنها خيرًا منها، حكاه المحب الطبري في أحكامه، وقال: إنه أحسن ما قيل فيه. تاسعها: أن ينوي أداء العبادة على الوجه الأكمل ثم لا يتأتى له ذلك فيأتي به على وجه دون المنوي، فتكون النية خيرًا من [هذا] (¬1) العمل. عاشرها: أنه حديث ضعيف (¬2) قاله ابن دحية، رواه يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه: "نية المؤمن أبلغ من عمله"، ويوسف ليس بشيء، ورواه عثمان بن عبد الله الشامي من طريق النواس بن سمعان، قال ابن عدي: عثمان هذا له أحاديث موضوعة وهذا من جملتها (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: (ص 159) ت (1). (¬3) سئل شيخ الإسلام فى الفتاوى (22/ 243) عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نية المرء أبلغ من عمله". فأجاب: (هذا الكلام قاله غير واحد وبعضهم يذكره مرفوعًا، وبيانه من وجوه: أحدها: أن النية المجردة من العمل يثاب عليها، =

الثاني والعشرون: قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنِّما لكل امرئ ما نوى"، يقال: امرؤ وَمَرْءٌ، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (¬1)، ويقول: هذا امرؤ، وهذان امرءان، ولا يجمع إلَّا قومًا ورجالًاَ، ومنهم من يقول: هذا مَرْآن، وأنثى [امرئ] (¬2) امرأة، وأنثى مَرْء مَرْأة، ومَرَة بغير همز. ¬

_ = والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك -وهو الوجه الرابع هنا-، ثانيًا: أن من نوى الخير وعمل منه مقدوره وعجز عن إكماله كان له أجر عامل -وهو الوجه السادس هنا-، ثالثًا: أن القلب ملك البدن، والاعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك، بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود. رابعًا: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة كتوبة المجبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف وغيره، وأصل التوبة: عزم القلب، وهذا حاصل مع العجز. خامسًا: أن النيّة لا يدخلها فساد، بخلاف الأعمال الظاهرة، فإن السنة أصلها حب الله ورسوله، وإرادة وجهه، وهذا هو نفسه محبوب لله ورسوله، مرضي لله ورسوله، والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها لم تكن مقبولة؛ ولهذا كانت أعمال القلب أفضل من أعمال البدن المجردة، كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه وضعفه في جمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه. وتفصيل هذا يطول)، والله أعلم. فيكون مجموع ما فسر به هذا الحديث ثمانية. (¬1) سورة الانفال: آية 24. (¬2) ساقطة من ب.

"وما" بمعنى الذي، وصلته "نوى" والعائد محذوف أي نواه، فإن قدرت "ما" مصدرية لم يحتج إلى حذف؛ إذ ما المصدرية عند سيبويه حرف، والحروف لا تعود عليها الضمائر، والتقدير: لكل امرئ نيته. الثالث والعشرون: قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" مقتضاه أن من نوى شيئًا يحصل له وما لم ينوه [لا] (¬1) يحصل له، ولهذا عظموا هذا الحديث وجعلوه [ثلث] (¬2) العلم، والمراد بالحصول وعدمه بالنسبة إلى الشرع، وإلَّا فالعمل قد حصل لكنه غير معتد به، وسياق الحديث يدل عليه بقوله: "ومن كانت هجرته إلى دنيا" إلي آخره. فإن قلت: ما فائدة ذكر هذا بعد الأول وهو يقتضي التعميم؟ فالجواب: أن له ثلاث فوائد: الأولى: اشتراط تعيين المنوي، "فمن" (¬3) كانت عليه مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة، بل لابد أن ينوي كونها ظهرًا أو عصرًا وغيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك، قاله الخطابي. الثانية: منع الاستنابة في النية، فإن اللفظ الأول إنما يقتضي اشتراط النية لكل عمل وذلك لا يقتضي منع الاستنابة في النية، إذ لو ¬

_ (¬1) في ن ج (لم). (¬2) في ن ب (ثبوت). (¬3) في ن ب ج (فيمن).

نوى واحد عن غيره لصدق عليه أنه عمل بنية وذلك ممتنع فأفاد بالثاني منع ذلك، وقد استثني من هذا نيَّة الولي عن الصبي في الحج، والمسلم عن زوجته الذمية عند طهرها من الحيض على القول بذلك، وحج الإِنسان عن غيره، وكذا إذا وكله في تفرقة الزكاة وفوض إليه النية ونوى الوكيل فإنه يجزئه كما قاله الإمام الغزالي في "الحاوي الصغير". الثالثة: أنه تأكيد لقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، فنفى الحكم بالأول وأكده بالثاني. تنبيهان: الأول: إذا أُشْرِكَ في العبادة غيرها من أمر دنيوي أو رياء: فاختار الغزالي [اعتبار] (¬1) الباعث على العمل، فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب [لم يكن فيه أجر، فإن كان القصد الديني هو الأغلب] (¬2) كان له أجر بقدره، وإن تساويا تساقطا. واختار الشيخ عز الدين بن عبد السلام (¬3): أنه لا أجر فيه مطلقًا سواء تساوى القصدان أو اختلفا. الثانى: مقتضى قوله عليه السلام: "إنما [لكل] (¬4) امرئ ما نوى" أن من نوى شيئًا لم يحصل له غيره، ومن لم ينو شيئًا لم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في قواعد الأحكام (124). (¬4) ساقطة من الأصل ون ج.

يحصل [وهي] (¬1) قاعدة [مطردة] (¬2) في جميع مسائل النية، نعم شذ [عن] (¬3) ذلك مسائل [يتأدى] (¬4) الفرض فيها بنية النفل، محل الخوض فيها كتب الفروع وقد أوضحتها في كتاب "الأشباه والنظائر" فليراجع منه. الرابع والعشرون: الهجرة في اللغة: الترك، والمراد بها هنا ترك الوطن والانتقال إلى غيره، وهي: في الشرع: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوفَ الفتنة وطلبَ إقامة الدين. وفي الحقيقة: مفارقة ما يكره الله إلى ما يحب، ووقعت الهجرة في الإسلام على خمسة أوجه: إحداها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة، وذكر الماوردي أن الهجرة من مكة إلى المدينة قبل هجرته عليه السلام كانت مباحةً لمن خاف على نفسه أودينه، معصيةً لمن أمن من ذلك، قال: وكانت الهجرة إلى الحبشة مباحة. الثانية: من مكة إلى المدينة عند مهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وفي هذه الهجرة نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} (¬5) الآية، وقال ¬

_ (¬1) في ج (وهذه). (¬2) في نسخة ب (مطولة). (¬3) في نسخة ب (على). (¬4) في ن ج (يتساوى). (¬5) سورة الأنفال: آية 72.

عليه السلام: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار" (¬1)، "وأشار" (¬2) إلى هذه الهجرة، وأفضل المسلمين أصحاب الهجرتين إلَّا ما خصه الدليل، وذكر الماوردي أن هذه الهجرة واجبة على من خاف على نفسه [ودينه] (¬3) وهو قادر على الخروج بأهله وماله؛ للآية، ومستحبة على من آمن على نفسه كالعباس، وذكر أبو عبيد (¬4) في كتاب "الأموال" أن الهجرة كانت على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا؛ لما في الصحيحين: "أن أعرابيًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الهجرة، فقال: ويحك، إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فاعمل من وراء [البحار] (¬5) فإن الله لن يترك من عملك شيئًا" (¬6)، ولأنه عليه السلام لم يأمر الوفود بها. الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح للاقتباس منه كوفد عبد القيس وغيرهم، ثم يرجعون إلى مواطنهم ويعلمون قومهم. الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إليها كفعل صفوان بن أمية ومهاجرة الفتح. ¬

_ (¬1) البخاري (7/ 86)، وفضائل الصحابة، ومسلم (1061)، والمسند (2/ 410/ 419/ 469). (¬2) في ن ب (وأشاد في). (¬3) في الأصل وب (وابنه)، والتصحيح من ج. (¬4) كتاب الأموال لأبي عبيد (279)، ط محمد خليل هراس. (¬5) في ج (التجار)، والذي في الصحيحين ما هو مثبت. (¬6) النووي مع مسلم (8/ 79) الإمارة، البخاري في الأدب.

الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه وهي المشار إليها بقوله عليه السلام: "المجاهد من جاهد نفسه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (¬1)، قال بعض متأخري المالكية: وهي الهجرة العظمى التي اندرج جميع الأقسام تحتها، ففيه: فائدة: ترجع للمهاجرين، لكيلا يتكلوا على نفس الهجرة، فبين لهم عليه السلام أن الهجرة التامة الكاملة هي هجران الفواحش، ففيه حض على التزام الطاعة وعدم الاغترار بالهجرة، وحث على الجد في الفضائل، وأن لا يعتمدوا على الهجرة ويتركوا العمل. وفيه فائدة ثانية: ترجع إلى من لم يهاجر، وهو إيناس لهم وتبيين أن سبل الخير باقية، وأعمال [الطاعات] (¬2) متلاحقة وأن اسم الهجرة باقٍ لهم [مقول] (¬3) عليهم عند هجران المحارم وجميع ما نهى الله عنه، بل هو أعظم هجرة وأكبر فضيلة. قلت: والهجرة باقية إلى يوم القيامة من دار الكفر إذا لم يمكنه إظهار دينه إلى دار الإسلام وينبغي أن تعد. سادسه (¬4): وحديث أنه عليه السلام قال يوم الفتح: "لا هجرة" ¬

_ (¬1) أحمد في المسند (6/ 10)، وأبو داود (2500)، والترمذى (1621)، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح. (¬2) في ب ج (الطاعة). (¬3) في ج (معول). (¬4) عدد المصنف رحمنا الله وإياه ستة من أنواع الهجرة ومن المناسب أن نأتي =

فأوِّل كما ستعلمه -في باب حرمة مكة حيث ذكره المصنف- إن شاء الله تعالى. ثم اعلم أن معنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن الحديث ورد على سبب كما سيأتي، والعبرة بعموم اللفظ. الخامس والعشرون: قوله عليه السلام: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" القاعدة عند أهل العربية أن الشرط والجزاء، والمبتدأ والخبر، لا بدَّ أن يتغايرا [وها هنا] (¬1) وقع الاتحاد في قوله: "فمن كانت هجرته" إلى آخره، فلا بدَّ أن يقدر له شيء وهو: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" نية وعقدًا "فهجرته إلى الله ورسوله" حكمًا وشرعًا. السادس والعشرون: قوله عليه السلام: "فمن كانت هجرته، إلى آخره، هو تفصيل لما سبق في قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، وإنما فرض الكلام في الهجرة لأنها السبب ¬

_ = بنوعين: الهجرة الثانية إلى بلاد الحبشة فتكون السابعة، وكذا الهجرة إلى بلاد الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، كما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها"، قال صاحب النهاية: يريد الشام؛ لأن إبراهيم لما خرج من العراق مضى إلى الشام وأقام به، وروى أبو داود من حديث أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة .. يقال لها: دمشق من خير مدائن الشام"!! فهذه ثمانية أقسام للهجرة. اهـ منتهى الآمال (157). (¬1) في ن ب (وهنا).

الباعث، وعلى هذا الحديث كما سيأتي وقوله: "فمن كانت هجرته" إلى آخره، هو على عمومه، لاختصاصها بالهجرة التي هي [من] (¬1) العبادات وهي متوقفة على النية. السابع والعشرون: قوله عليه السلام: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها". "الدنيا" بضم الدال على المشهور، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها وجمعها دنى ككبرى وكبر، وهي من دنوت، لدنوها وسبقها الدار الآخرة، وينسب إليها دنيوي ودُنْيِي وقال الجوهري وغيره: ودنياوي (¬2). وقوله "دنيا" هو مقصور غير منون على المشهور وهو الذي جاءت به الرواية ويجوز في لغة عربية تنوينها، وقال ابن دحية في كلامه على هذا الحديث في الجزء الذي سماه "جمع العلوم الكليات في الكلام على حديث إنَّما الأعمال بالنيات": وأكثر ما يتكلم فيه على الإسناد، الدنيا: تأنيث الأدنى، وصرفها أبو الهيثم في أصله من صحيح البخاري، قال: وأبو الهيثم لم يكن من أهل العلم، ولم يكن بالقوي أيضًا، وكان الحافظ أبو [ذر] (¬3) الهروي بآخرة يسقط أكثر روايته من كتابه لا سيما فيما انفرد به، قاله ابن مفوز الحافظ. فالدنيا: تأنيث الأدنى مثل حبلى لا ينصرفان؛ لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث آخره، ومعنى هذا أن الهمزة والألف ¬

_ (¬1) زيادة من ب ج. (¬2) مختار الصحاح (95). (¬3) في ن ب (داود)، وهو تصحيف.

لا يفارقان الكلمة وهاء التأنيث تفارق الكلمة، ألا ترى أنك تقول في قائمة: قائم، ولا تقول في حمراء [حُمر] (¬1)، ولا في حبلى: حُبلٌ، ولا في دنيا: دُنى (¬2). فائدة: في حقيقة الدنيا قولان للمتكلمين. أحدهما: ما على الأرض مع الجو والهواء. وأظهرهما: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة. تنببه: المراد بالإصابة: الحصول، شَبَّه محصل الدنيا بإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصرد. الثامن والعشرون: قوله عليه السلام: "أو امرأة يتزوجها"، أي ينكحها كما جاء في الرواية الأخرى، وقد يستعمل بمعنى الإِقران بالشيء ومنه قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (¬3) أي قرناهم، قاله الأكثرون. وقال مجاهد والبخاري وطائفة: أنكحناهم. التاسع والعشرون: إن قلت: كيف ذكرت "المرأة مع ¬

_ (¬1) في ن ب (أحمر). (¬2) في حاشية ن ج: "قال بعضهم: في استعمال دنيا مؤنثًا مع كونه منكرًا إشكال؛ لأن دنيا مؤنث الأدنى وهو أفعل التفضيل، وهو إذا ذكر لزم الإِفراد والتذكير وامتنع تأنيثه وتثنيته وجمعه، لكن دنيا لما خلع عنه الوصفية غالبًا وأُجريت مجرى ما لم يكن قط وصفًا مما وزنه هذا الوزن". اهـ من لوحة (26 ب). (¬3) سورة الطور: آية 20.

الدنيا] (¬1) مع أنها داخلة فيها؟ فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه لا يلزم دخولها في هذه الصفة؛ لأن لفظ الدنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها. ثانيها: أن هذا الحديث ورد على سبب وهو أنه لما أُمر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلف جماعة عنها فذمهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} (¬2) الآية، ولم يهاجر جماعة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} (¬3) [الآية] (¬4)، وهاجر المخلصون إليه فمدحهم في غير ما موضع في كتابه، وكان في المهاجرين جماعة خالفت نيتهم نية [المخلصين] (¬5)، منهم من كانت نيته أن يتزوج امرأة كانت بالمدينة من المهاجرين يقال لها أم قيس -وقال ابن دحية في كتابه السالف قريبًا: اسمها قيلة- فسمي [بها] (¬6): مهاجر أم قيس، ولا يعرف اسمه بعد البحث عنه ولعله للستر عليه، فكان قصده بالهجرة من مكة إلى المدينة نيته التزوج بها لا لقصد فضيلة الهجرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وبيَّن مراتب الأعمال والنيات، فلهذا ¬

_ (¬1) في ن ب (تقديم وتأخير). (¬2) سورة النساء: آية 97. (¬3) سورة النساء: آية 98. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في الأصل (المخلفين)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) زيادة من ن ب.

خص ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية لأجل تبيين السبب، كان كانت أعظم أي أسباب فتنة الدنيا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" (¬1)، وذكر الدنيا معها من أسباب زيادة النص على السبب كما أنه [لما] (¬2) سئل عن طهورية ماء البحر زاد "الحل ميتته"، ويحتمل أن يكون هاجر [لِمَالها] (¬3) مع نكاحها، ويحتمل أنه هاجر لنكاحها وغيره ليحصل دنيا من جهة (¬4) تعرض بهما. واعلم: أن بعض المتأخرين من أهل الحديث شرع في تصنيف في أسباب الحديث كما صنف في أسباب النزول للقرآن العزيز كالواحدي وغيره، كذا عزاه الشيخ تقي الدين لبعض المتأخرين، وعزاه ابن العطار في شرحه إلى ابن الجوزي وغيره، وسمعت من يذكر أن عبد الغني بن سعيد الحافظ صنف فيه تصنيفًا قدر "العمدة" [ومن تتبع الأحاديث] (¬5) قدر على إخراج جملة منها وأرجو أن أتصدَّى له إن شاء الله تعالى. ثالثها: أن ذكرها من أسباب التنبيه على زيادة التحذير منها كذكر الخاص بعد العام تنبيهًا على مزيته كما في ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة، وذكر الصلاة الوسطى بعد الصلوات في المحافظة، وذكر ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) في الأصل (لا)، والتصويب من ب ج. (¬3) في ن ب زيادة (لأجل مالها). (¬4) زيادة في ن ب (ما). (¬5) زيادة من ن ب ج.

محمد، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بحد ذكر النبيين في أخذ الميثاق عليهم، صلى الله عليهم أجمعين، وليس منه قوله تعالى: {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬1) بعد ذكر الفاكهة وإن كان قد غلط فيه بعض الناس فعده منه؛ لأن فاكهة نكرة في سياق الإِثبات فلا تعم، وقد جاء أيضًا في القرآن عكس هذا وهو ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، وقوله تعالى إخبارًا عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} (¬3) الآية. الثلاثون: إن قلت: لِمَ ذُمَّ على طلب الدنيا وهو أمر مباح، والمباح لا ذم فيه ولا مدح؟ فالجواب: أنه لم يخرج في الظاهر لطلب الدنيا وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة، فأبطن خلاف ما أظهر فلذلك توجه عليه الذم. الحادي والثلاثون: إن قلت: لم أعاد - صلى الله عليه وسلم - ما بعد الفاء الواقعة جوابًا للشرط بلفظ الأول، أعني قوله: "فهجرته إلى الله ورسوله" ولم يعده في قوله: "ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها"، بل قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه"؟ فالجواب: أن سر ذلك الإعراض عن تكرير ذكر الدنيا والغض ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: آية 68. (¬2) سورة إبراهيم: آية 41. (¬3) سورة نوح: آية 28.

منها وعدم الاحتفال بأمرها، وذلك مناسب لما قيل: "من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، وهو أبعد الناس عن حبها وهذا معنى لطيف، لكن يخدشه رواية ابن الجارود في "المنتقى" (¬1): "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ورواية البخاري في أول "صحيحه" مختصرة، ولفظه: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يذكر القطعة الأولى. الثاني والثلاثون: قال ابن الأنباري في كتاب "الورع": في الحديث دليل على أنه لا يجوز الاقدام على الفعل قبل معرفة حكمه، قال: ووجه الاستدلال منه أنه لا بدَّ للمكلف من الإِتيان بما أمر به على وجهه، وقد نفى - صلى الله عليه وسلم - أن يكون العمل منتفعًا به إلَّا بالنية أي نية التقرب لما طلبه الله من العبد، ولا يتصور ذلك إلَّا بعد معرفة المطلوب. خاتمة: قال الخطابي: قد يستدل بهذا الحديث بعد العبادات في أحكام المعاملات كالإِكراه على الطلاق والعتاق، وفي باب الأيمان: حتى لو حلف والله ما رأيت زيدًا وهو ينوي أنه لم يصب [رئته] (¬2)، وما كلمت محمدًا يريد ما جرحته، كان على ما نوى، ¬

_ (¬1) ابن الجارودي (1/ 65). (¬2) التصحيح من أعلام الحديث (1/ 117) للخطابي، قال ابن السكيت: يقال من الرنة: رأيته فهو مرئى، إذا أصبته في رئته. لسان العرب- مادة أرى.

وكذلك يدل على أن من باع واشترى بغش وخلابة أو ربًا [بحيلة] (¬1) فإنَّه محظور في حق الدين، فأما طلاق السكران فلا يدخل فيه؛ لأن صريح الطلاق لا يحتاج إلى النية إلَّا أن يكون [ذلك] (¬2) بلفظ كناية. وقال قوم: إن الاستدلال بهذا الحديث في غير العبادات لا يجوز لأنَّه غير ما قصد به. ¬

_ (¬1) في ن ب (يحتمله). (¬2) في ن ب (كذلك).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 2/ 2/ 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه: هو دوسي أزدي [يماني] (¬2) مكثر حافظ، وفي اسمه اختلاف شديد، أفرده بعض الحفاظ بجزء وأشهره: عبد الرحمن بن صخر، وقال الحاكم أبو أحمد: إنه أصح، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: عبد الله أو عبد الرحمن هو الذي يسكن القلب إلى اسمه في الإسلام، وقال النووي: الأصح أنه عبد الرحمن من نحو ثلاثين قولًا، وقال غيره أكثر من ذلك. وقال ابن حبان في ثقاته: الأشبه أن اسمه في الجاهية عبدنهم فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله وهو أول من كني بأبي هريرة لهرة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري برقم (135) في الوضوء (6954) في الحيل، ومسلم برقم (225). (¬2) ساقطة من ن ب.

كانت له يلعب بها صغيرًا و [أول] (¬1) من كناه بها فيه قولان: أحدهما: النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو عمر: وهو الأشبه. والثاني: والده، وكان يكره تصغيره ويقول: كناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هر، ذكره ابن عساكر، وقال ابن إسحاق وأبو عمر: إنه عليه السلام كناه بأبي هريرة، كذا قالاه بالتصغير، وكان يكنى في الجاهلية بأبي الأسود، قال الكلبي: ولأبي هريرة أخ اسمه أبو كريم، قال ابن دريد: وكان أبو هريرة ينتقل في الأحياء ويغيّر اسمه، أي لأنه كان عليه دم فكان إذا نزل على قبيلة غيّر اسمه؛ لئلا يفطن به فيؤخذ بمن قتله، فهذا سبب كثرة أسمائه في الجاهلية. أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة، وقال ابن هشام: سنة ست، حكاه عنه ابن الطلاع، وبه جزم الشيخ تقي الدين (¬2) في شرحه، وابن الرفعة في كفايته في باب زكاة النبات وجزم بالأول في قتال المشركين، واختلف في شهوده فتحها على ثلاثة أقوال: قيل: نعم، وقيل: لا، وإنما حضر بعد فتحها، وذكر البخاري (¬3) في "صحيحه" ما يدل لحضوره إياها، وقيل: إنه خرج معه إليها، رواه البخاري من طريق ثور، وقال موسى بن هارون: وهم ثور، إنما قدم بعد خروجه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) إحكام الأحكام (1/ 83). (¬3) البخاري رقم (4234).

قلت: والصحيح أنه قدمها بعد خروجه عليه السلام إليها وقبل الفتح. ومن صفته أنه كان أدم، بعيد ما بين المنكبين، صاحب ضفيرتين، أفرق الثنيتين، وكان يخضب بالحمرة، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطنه، وكان يدور معه حيث ما دار، وكان غيره يشغله الصفق بالأسواق، فقال عليه السلام مرة: "من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني" قال: فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليَّ، فوالذي نفسي بيده ما نسيت بعد شيئًا سمعته منه (¬1). وكان ذَكَر له قبل ذلك: إني اخشى أن أنسى ما أسمعه منك ففعل به [ذلك] (¬2)، وشهد له بالحرص على العلم. وروى سليم بن حيان عن أبيه عن أبي هريرة قال: نشأت يتيمًا وهاجرت مسكينًا وكنت أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا وأحتطب إذا نزلوا، [فالحمد لله] (¬3) الذي جعل الدين قوامًا وأبا هريرة إمامًا. وروى أبو يزيد الديني عنه أنه قام على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا دون مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينه، ثم قال: الحمد لله الذي هدى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري الفتح (5/ 21) في المزارعة، وفي الاعتصام، ومسلم برقم (2492) فضائل أبي هريرة. (¬2) في ن ب (كذلك). (¬3) في ن ب (والحمد لله).

أبا هريرة للإِسلام، الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي من على أبي هريرة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الحمد لله الذي أطعمني الخمير، وألبسني الحبير، الحمد لله الذي زوجني ابنة غزوان بعدما كنت أجيرًا لها بطعام بطني وعقبة رجلي، أرحلتني فأرحلتها كما أرحلتني (¬1). [وروى قيس بن أبي حازم عنه قال كنت أصرع بين القبر والمنبر من الجوع حتى يقولوا مجنون] (¬2) وخرج ابن جهضم في كتابه "بهجة الأسرار" أنه عليه السلام قال:" [لكل] (¬3) نبي حكيم وحكيم هذه الأمة أبو هريرة" (¬4)، وفي "الطبقات" دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحببه إلى كل مؤمن ومؤمنة (¬5)، وقال الإمام أحمد: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله ما روى أبو هريرة عنك حق؟ قال: نعم. قلت: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكثر، وهو أكثر الصحابة حديثًا، قال: حفظت [عن] (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث جُرُب أخرجت منها ¬

_ (¬1) يشير إلى قصة أوردها ابن سعيد في الطبقات (4/ 326/ 327)، بأنها قالت يومًا: لتردنه حافيًا ولتركبنه قائمًا. قال: فزوجنيها الله بعد ذلك فقلت لها: لتردينه حافية ولتركة قائمة. (¬2) البخاري الفتح (9/ 128)، وأحمد في الزهد (31)، والبخاري في الأدب المفرد شرح فضل الله الصمد (2/ 671)، وهي ساقطة من ن ب. (¬3) ساقطة من ب. (¬4) كنز العمال (32507) الديلمي عن ابن عباس. (¬5) طبقات ابن سعد (4/ 328). (¬6) في ن ب (من).

جرابين، وفي رواية: حفظت عنه وعائين فأما أحدهما فبثثته للناس وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، وليس لأحد من الصحابة هذا القدر ولا ما يقاربه، أخرج له في الصحيحين ستمائة حديث وتسعة أحاديث، اتفقا منهما على ثلاثمائة وستة وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري ثلاثة وتسعين ومسلم بمائة وتسعين، قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. قال أبو هريرة فيما يثبت عنه: ليس أحد أكثر حديثًا مني إلَّا فلانًا، كان يكتب وأنا لا أكتب. وأراد عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد عاش عبد الله أكثر منه إلَّا أن أبا هريرة كان مقيمًا بالمدينة ولم يخرج منها وكان الناس يأتونها من كل ناحية بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونها محط الركاب لأجل الخلافة ولزيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة في مسجده (¬1)، ولأجل العلم، وكان أبو هريرة متصديًا للرواية ونشر العلم، بخلاف عبد الله بن عمرو فإنه سافر إلى البلاد وغلب عليه العبادة فلهذا لم يشتهر حديثه ولم تكثر روايته، واشتهر وكثر حديث أبي هريرة، رضي الله عنهما. قال رضي الله عنه: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، والله لولا اثنان في كتاب الله ما حدثت شيئًا، وتلى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ ¬

_ (¬1) لو اقتصر عليها -رحمنا الله وإياه- لكان أولى؛ لحديت (لا تشد الرحال إلَّا لثلاثة مساجد ...) إلخ، والقبور لا يجوز أن تشد إليها الرحال، راجع كتاب الرد على البكرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.

الْبَيِّنَاتِ} (¬1) إلى قوله {الرَّحِيمُ} (¬2). وكان يقول: إخواننا من المهاجرين شغلهم الصفق في الأسواق، وإخواننا من الأنصار شغلهم العمل في أموالهم. رآه أبو بكر بن داود في المنام، وقال له: إني أحبك، فقال: أنا أول صاحب حديث كان في الدنيا. ولقي مرة كعبًا فجعل يحدثه ويسأله، قال كعب: ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة. وكان رضي الله عنه من أصحاب الصفة، قال أبو نعيم في الحلية: كان عريفهم وأشهر من سكنها، قال البخاري: روى [عنه] (¬3) أكثر من ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع. قلت: وكان أحد من يفتي بالمدينة مع ابن عمر وابن عباس. وكان يسبح في اليوم اثنتي عشر ألف تسبيحة، وكان يدمن من الصيام والقيام والضيافة. ولي المدينة لمعاوية ثم عزل بمروان، وكان يمر بالسوق يحمل الحزمة [من] (¬4) [الحطب] (¬5). وهو يقول: أوسعوا الطريق للأمير -كان فيه دعابة رضي الله عنه- قال له عمر: كيف وجدت الإِمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها. وأتاه بأربعمائة ألف ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 159. (¬2) سورة البقرة: آية 160. (¬3) زيادة من ن ج. (¬4) ساقطة من ب. (¬5) ساقطة من الأصل وج.

من البحرين وعزله، ثم أراده على العمل فأبى. ولم يزل يسكن المدينة، وكان ينزل ذا الحليفة وله بها دار تصدق بها على مواليه فباعوها من عمرو بن بزيغ. وصلى على عائشة رضي الله عنها وأم سلمة [زَوْجَي] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان يقول لبنته: "لا تلبسي الذهب فإني أخشى عليك اللهب". وقال أبو عثمان [النهدي] (¬2): تضيفت أبا هريرة سبعًا فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا يصلي هذا ثم يوقظ الآخر فيصلي ثم يوقظ الثالث. ومات بها، وقيل: بالعقيق، ودفن بالبقيع، وأما ما اشتهر [بأن] (¬3) قبره بقرية بسناجية (¬4) بالقرب من عسقلان، وعقد عليه الملك الأشرف ابن منصور قبة، ورأيته مرجعي من القدس الشريف فليس بصحيح، بل ذاك قبر جندرة بن حبشية أبي قرصافة (¬5) كما نص عليه ابن حبان في الصحابة في أول كتابه "الثقات"، فتنبه له. ولد رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين من الفيل، قاله [العتيقي] (¬6) في "تاريخه"، وفي وفاته أقوال: أحدها: [سنة سبع ¬

_ (¬1) في ن ب (زوجتي). (¬2) في ن ب ج (المهدي)، والصواب ما أثبته كما في كتب الرجال. (¬3) في ب (من أن)، وفي الأصل زيادة (من) قبلها. (¬4) اعتمدت على تصحيحه بثقات ابن حبان (3/ 64). (¬5) اختلف في ضبط اسمه كما في حاشية ثقات ابن حبان (3/ 64)، وما أثبت موافق لما في الثقات. (¬6) وكذلك في ن ج (العتيقي)، وفي ن ب (القعنبي).

وخمسين، وفيها ماتت عائشة رضي الله عنها. ثانيها: سنة ثمان. ثالثها] (¬1): سنة تسع قال النوي في "شرح مسلم" (¬2): وهو الصحيح. وقال ابن حبان في "ثقاته": مات [سنة] (¬3) سبع أو ثمان. وقيل: مات ستة خمس، وقيل: ست، حكاهما الذهبي في "تذكرته" (¬4). وقال الواقدي: صلى على عائشة في رمضان سنة ثمان وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع، ثم توفي بعدها في هذه السنة وله ثمان وسبعون سنة (¬5)، وكان يقول "اللهم لا تدركني سنة ستين" فتوفي فيها أو قبلها بسنة، وقد أوضحت ترجمته فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب وهذا القدر هنا كاف، والله الموفق. الوجه الثاني: قوله عليه السلام: "لا يقبل" هو بفتح الياء كيعلم، والماضي مكسور كعلم، والقبول: يراد به في الشرع: ¬

_ = هو الإمام المحدث الثقة أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن منصور العتيقي ولد سنة سبع وستين وثلاثمائة ومات في صفر سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 602). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) (1/ 68). (¬3) في الأصل (سبع)، وما أثبت من ب ج. انظر: الثقات لابن حبان (3/ 284). (¬4) (1/ 37) مع الاطلاع على كثير من مناقبه قد ذكرها فيه. (¬5) قال الحافظ في الإصابة (7/ 207): قلت: وهذا الذي قاله في أم سلمة وهم منه وإن تابعه عليه جماعة، فقد ثبت في الصحيح ما يدل على أن أم سلمة عاشت إلى خلافة يزيد بن معاوية كما سيأتي في ترجمتها، والمعتمد في وفاة أبي هريرة قول هشام بن عروة "أي سبع وخمسين". اهـ.

حصول الثواب، وقد تتخلف الصحة عن الثواب بدليل صحة صلاة العبد الآبق، ومن أتى عرَّافًا، وشارب الخمر إذا لم يسكر ما دام في جسده شيء منها، وكذا الصلاة في الدار المغصوبة على الصحيح عندنا، فأما ملازمة القبول للصحة، ففي قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة حائض إلَّا بخمار" (¬1)، صححه الأئمة ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. والمراد بها من بلغت سن الحيض فإنها لا تقبل صلاتها إلَّا بسترتها، ولا تصح ولا تقبل مع إنكشاف عورتها، والقبول مفسر بترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، يقال: قبل فلان عذر فلان، إذا رتب على عذره الغرض المطلوب منه وهو محو الجناية والذنب، فقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" هو عام في عدم القبول من جميع المحدثين في [جميع] (¬2) أنواع الصلاة، والمراد بالقبول وقوع الصلاة مُجْزِئة بمطابقتها للأمر، فعلى هذا يلزم من القبول الصحة في الظاهر والباطن، ومتى ثبت القبول ثبتت الصحة، ومتى ثبتت الصحة ثبت القبول. ¬

_ (¬1) أبو داود (641) الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار، وسنده قوي، والترمذى (377) في الصلاة، أسباب: ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلَّا بخمار، والحاكم (1/ 251)، وصححه على شرط مسلم، وابن ماجه (655)، وأحمد (2/ 150، 218، 259)، والبغوي (527)، والبيهقي (2/ 233)، وصححه ابن حبان (1711، 1712)، وابن خزيمة (775). (¬2) في ن ب ساقطة.

ونقل عن بعض المتأخرين أن القبول عبارة عن ترتب الثواب والدرجات على العبادة، والإِجزاء: عبارة عن مطابقة الأمر، فهما متغايران، أحدهما: أخص من الآخر، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فالقول على هذا التفسير أخص من الصحة، فكل مقبول صحيح ولا عكس، وهذا إن نفع في نفي القبول مع بقاء الصحة فيما سلف، ضَرَّ في نفي القبول مع نفي الصحة كما هو محكي عن الأقدمين، إلَّا أن يقال: [دَلَّ] (¬1) [الدليل على كون القبول من لوازم الصحة، فإن انتفى انتفت، فيصح الاستدلال] (¬2) بنفي القبول على نفي الصحة، ويحتاج في نفيه مع بقائها في تلك الأحاديث إلى تأويل أو تخريج جواب، [ويرد] (¬3) على من فسر القبول بكون العبادة مثابًا عليها أو مرضية، مع أن قواعد الشرع تقتضي أن العبادة إذا أتى بها مطابقة للأمر كانت سببًا للثواب، في ظواهر لا تحصى. [تنبيه] (¬4): الحكم مرتفع ومتجدد باعتبار تعلقه لا باعتبار ذاته، فيصح قولك: نويت رفع الحدث، وإن كان [بالمنع] (¬5) حكمًا قديمًا فلا يستحيل رفعه بهذا الاعتبار [كما] (¬6) نبه عليه القرافي رحمه الله. ¬

_ (¬1) في ج (دليل). (¬2) ساقط من ن ب. (¬3) في ن ب (ورد). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ب ج (المنع). (¬6) زيادة في ب ج.

[الثالث] (¬1): الحدث عبارة [عما ينقض] (¬2) الوضوء، ومحل الخوض في تفاصيله كتب الفروع، قد أوضحناها فيها، وقد فسره أبو هريرة (¬3) راوي الحديث بنوع من الحدث حين سئل عنه فقال: فساء أو ضراط، وكأنه أجاب السائل عما يجهله منها أو عما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر. والحدث بموضوعه يطلق على الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس. والأصغر: كنواقض الوضوء، وقد يسمى نفس الخارج حدئًا، وقد يسمى المنع المترتب عليه حدثًا، وبه يصح قولهم: رفعت الحدث، نويت رفعه، وإلاَّ استحال ما يرفع أن لا يكون رافعًا، وكأن الشارع جعل أمد المنع المرتب على خروج الخارج إلى استعمال [الطهر] (¬4) وبهذا يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث لكون المرتفع هو المنع وهو مرتفع بالتيمم لكنه مخصوص بحالة ما أو [بوقت] (¬5) ما، وليس ذلك ببدع؛ فإن الأحكام قد تختلف باختلاف محلها. وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبًا لكل صلاة فقد ثبت ¬

_ (¬1) في الأصل بياض بقدر لفظة (الثالث) كما في ب ج. (¬2) في الأصل (عن نقض)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) البخاري أطرافه (176). (¬4) في ن ب ج (المطهر). (¬5) في ن ب (لوقت).

أنه كان مختصًا بوقت مع كونه رافعًا للحدث [اتفاقًا، ولا (¬1) يلزم من انتهائه في ذلك الوقت بانتهاء وقت الصلاة أن لا يكون رافعًا للحدث] (¬2)، ثم نسخ في فتح مكة وصلى الشارع الخمس بوضوء واحد، ونقل عن بعضهم أنه مستمر ثم نسخ وهو مردود، لكن الحكم في الاستحباب باق؛ لأنه إذا نسخ الوجوب بقي الندب على ما تقرر في كتب الأصول. وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أن الحدث وصف حكمي مقدر قيامه في الأعضاء (¬3) على معنى الوصف الحسي، وينزلون الوصف الحكمي مزلة الحسي في قيامه بالأعضاء، كقولنا: الغسل والوضوء يرفع الحدث، أي يزيل الأمر الحكمي المرتب على المقدر الحكمي، [فمن] (¬4) يقول بأن التيمم لا يرفع الحدث يقول: إن الأمر المقدر الحكمي باقٍ لم يزل، والمنع الذي هو مرتب عليه زائل، ولا دليل من (¬5) حيث الشرع يدل عليه، وأقرب ما يذكر فيه كما قال الشيخ تقي الدين (¬6): أن الماء المستعمل قد إنتقل إليه مانع وذلك متنازع في طهارته أو طهوريته فلا يلزم انتقال المانع إليه فلا يتم الدليل، وهذا تحقيق منه فلينظر توجيه ¬

_ (¬1) في نسخة ج هامش (يرد ما ذكر هنا ما قالوا في سبب الوضوء. فتأمَّل). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ب ج (بالأعضاء). (¬4) في ن ب (لمن). (¬5) طمس في الأصل بمقدار كلمة لم يؤثِّر على المعنى. (¬6) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 91).

المشهور من مذهب مالك الشافعي أن التيمم لا يرفع الحدث. الرابع: قوله عليه السلام: "حتى يتوضأ" نفى القبول إلى غاية وهو الوضوء، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها؛ فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، ودخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيًا وتحققه أن [الصلاة] (¬1) اسم جنس وقد أضيف فعم، وهذا مجمع عليه في الوضوء. فائدة: أصل الوضوء: من الوضاءة، وهو الحسن والنظافة. وهو بالضم: الفعل. وبالفتح: الماء على أفصح اللغات. الخاص: هذا الحديث محمول عند العلماء على [أن] (¬2) ترك الوضوء بلا عذر، أما من [ترك] (¬3) بعذر وأتى ببدله فالصلاة مقبولة قطعًا؛ لأنه قد أتى بما أمر به قطعًا، على أن التيمم من أسمائه الوضوء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين" الحديث، صحح ابن القطان إسناده من حديث أبي هريرة، [وصححه] (¬4) الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث أبي ذر، رضي الله عنهما (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل (صلاة)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في ب ج (من). (¬3) في ب ج (تركه). (¬4) في الأصل (ورجحه)، والتصحيح من ن ب ج. (¬5) الترمذي رقم (124) من حديث أبي ذر، وأبو داود في الطهارة (332، =

السادس: هذا الحديث نص في وجوب الطهارة وشرطها في الصلاة وهو إجماع، واختلفوا: متى فرض الوضوء؟ فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء كان في أول الإِسلام سُنة، ثم نزل فرضه في آية التيمم. وقال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضًا. واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أو على المحدث خاصة. فذهب ذاهبون من السلف: إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (1) الآية. وذهب [قوم] (2): إلى أن ذلك [قد] (3) كان ثم نسخ. وقيل: الأمر به لكل صلاة على الندب. وقيل: بل [لم] (4) يشرع إلَّا لمن أحدث ولكن تجديده لكل

_ = 333)، والنسائي (1/ 171)، والحاكم (1/ 170)، والبيهقي في السنن (1/ 220)، وأحمد (5/ 155، 180)، والدارقطني (1/ 187)، والطيالسي (484)، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البزار (310)، وذكره في مجمع الزوائد (1/ 261)، كما نقل ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 154) تصحيح القطان. انظر: نصب الراية (1/ 149). (1) سورة المائدة: آية 6. (2) في ب (ذاهبون). (3) في ن ب ساقطة. (4) في الأصل ساقطة، وزيادة من ن ب ج.

صلاة مستحب، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ولم يبق بينهم خلاف، ومعنى الآية عندهم: إذا قمتم محدثين. وأما الوضوء لغير الفرائض فذهب بعضهم إلى أن الوضوء بحسب ما يفعل له من نافلة أو فريضة. قلت: وهو عجيب لا جرم، [رده] (¬1) بعض المالكية إلى أنه هل ينوي بالوضوء الفرض أو النفل؟ وذهب بعضهم: إلى أنه فرض على كل حال، حكى هذا كله القاضي عياض، وبعضه قدمناه في أثناء الوجه الثالث (¬2). السابع: استدلّ المتقدمون بهذا الحديث على أن الصلاة لا تجوز إلَّا بطهارة ولا [يلزم] (¬3) من انتفاء القبول انتفاء الصحة كما سلف، وقد تكون الصلاة مقبولة ولا تيمم في حق فاقد الطهورين فإنها صحيحة مقبولة، ولا تجب إعادتها على أحد الأقوال [عندنا] (¬4) وهو المختار عند جماعة من محققي أصحابنا وقول جماعة [من العلماء] (¬5)، فيكون الحديث خرج على الأصل والغالب، والإعادة والقضاء لا يجبان إلَّا بأمر جديد، وهذا كله على مذهب [من] (¬6) يقول: إن الطهارة شرط في الصحة، أما من يقول إنها شرط للوجوب ¬

_ (¬1) في ن ب (ذكره). (¬2) في ن ب (الثانى)، والتصويب من الأصل ون ج. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) ساقطة من ب. (¬6) هكذا في ن ب ج، وفي الأصل (وذهب بعضهم).

كمالك وابن نافع فإنهما قالا: فاقد الطهورين لا يصلي ولا يقضي إن خرج الوقت؛ لأن عدم قبولها لعدم شرطها يدل على أنه ليس مخاطبًا بها حال عدم شرطها، فلا يترتب في الذمة شيء فلا يقضي، لكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬1) يمنع هذا، فإنه أمر بالصلاة بشروط تعذرت، فيأتى بها، ولا يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط بالنسبة إلى أصل الوجوب، وهذه المسألة فيها أربعة أقوال عندنا وعند المالكية أيضًا، لكن عندهم قوله: إنه لا يصلي ولا يقضي، وليس عندنا، وقد نظمها بعض المالكية في بيتين فقال: ومن لم يجد ماء ولا متيمما ... فأربعة الأقوال يحكون مذهبا يصلي ويقضي عكس ما قال مالك ... وأصبغ يقضي والأداء لأشهبا الثامن: قد استدل بهذا الحديث على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختيارًا أم اضطرارًا؛ لعدم تفريقه عليه السلام بين حدث وحدث في حالة دون حالة، وقد حكي عن مالك والشافعي في القديم وغيرهما أنه إذا سبقه الحدث يتوضأ ويبني على صلاته، وإطلاق الحديث يرده. التاسع: قام الإجماع على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب لغير فاقد الطهورين، ولا فرق في ذلك بين الصلاة المفروضة والنافلة وسجود التلاوة والشكر. وحكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري أنهما أجازا ¬

_ (¬1) البخاري (4/ 422)، ومسلم (7/ 91)، وأحمد (2/ 258)، والنسائي (2/ 2).

صلاة الجنازة بغير وضوء، وهو باطل؛ لعموم هذا الحديث وللإجماع، ومن الغريب أنه [وجه] (¬1) عند الشافعية كما أفدته في "شرح المنهاج". فرع: لو صلى محدثًا متعمدًا بلا عذر أثم ولا يكفر عندنا وعند الجمهور. وحكي عن أبي حنيفة أنه يكفر لتلاعبه، دليل الجمهور أن الكفر بالاعتقاد وهذا المصلي اعتقاده صحيح، وأبدى بعضهم في هذا الاستدلال نظرًا؛ للاتفاق على تكفير من استهان بالمصحف استهانة مخصوصة في الصورة المخصوصة (¬2). فائدة: اختلف أصحابنا وغيرهم في موجب الوضوء ما هو؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجب بالحدث وجوبًا موسعًا. ثانيها: أنه يجب بالقيام إلى الصلاة؛ بدليل الآية السالفة. ثالثها: أنه يجب بالأمرين جميعًا، وهو أرجحها عندنا، وقطع بعضهم بأن الحدث سبب والوضوء شرط كالاستطاعة في الحج، ¬

_ (¬1) في الأصل (وجد)، وما أثبت من ن ب. أقول قد رد ذلك شيخ الإسلام في الفتاوى وقال: كل صلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فلا تجوز إلَّا بطهارة (21/ 268، 271، 276، 277) (26/ 195). (¬2) قال شيخ الإسلام رحمنا الله وإياه في الفتاوى: إن صلى مستحلًا كفر، وإن كان غير مستحلّ ذلك فيعاقب عقوبة غليظة، وإن كان لعجز فيصلي على حسب حاله. اهـ، بتصرف (21/ 295).

وقد ذكرت في "شرح المنهاج" فائدة هذا الخلاف فليراجع منه. العاشر: لا بد في الحديث من تقدير حذف وهو: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ويصلي؛ إذ يستحيل قبول صلاة غير مقبولة. الحادي عشر: قد يستدل بهذا الحديث على طرح الشك واستصحاب يقين الطهارة؛ لقوله عليه السلام: "إذا أحدث". ولا يقال (أحدث) إلَّا مع اليقين.

الحديث الثالث والرابع والخامس

الحديث الثالث والرابع والخامس 3، 4، 5/ 3، 4، 5/ 1 - عن [عبد الله] (¬1) بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للأعقاب من النار" (¬2). الكلام عليه من ثلاثة عشر وجهًا: [بعد أن يعلم أن حديث عائشة من أفراد مسلم كما نبه عليه عبد الحق في جمعه] (¬3): ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (165) في الوضوء، أسباب: غسل الأعقاب، ومسلم (241) في الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكاملهما، وأبو داود (97) في الطهارة، باب: في إسباغ الوضوء، والنسائي (1/ 77) في الطهارة، وابن ماجه (450) في الطهارة، وأحمد (2/ 193)، والبيهقي (1/ 69)، والطبرى (6/ 133)، والدارمي (1/ 179)، والبغوي (220)، وابن حبان (1055، 1059، 1088). (¬3) زيادة من ن ب ج، وفي ج (أحكامه) بدلًا من (جمعه)، وقد ذكر هذا الزركشي في تصحيحه على العمدة. انظر: إحكام الأحكام، فإنه ساق كلام الزركشي (1/ 103).

أحدها: [تعريف رواته] (¬1): أما عبد الله بن عمرو بن العاصي بإثبات الياء على [الأصح] (¬2) فهو أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن (¬3)، قرشي سهمي، أحد من هاجر هو وأبوه قبل الفتح، وأبوه أسن منه بأحد عشر عامًا، وأسلم قبل أبيه. وأمه: [ريطة] (¬4) بنت منبه بن الحجاج السهمية. وزوجته: عمرة بنت [عبيد الله] (¬5) بن العباس بن عبد المطلب، وهي أم ابنه محمد والد شعيب. وكان [رضي الله عنه] (¬6) غزير العلم، مجتهدًا في العبادة، يسرد الصوم ولا ينام الليل، فشكاه أبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عليه السلام [إن] (¬7) لعينك عليك حقًا" (¬8) الحديث، كما سيأتي في الصوم بكماله إن شاء الله تعالى، وكان كثير كتابة العلم والحديث وهو أكثر أقرانه حملًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرة أكثر رواية منه، وتقدم في الحديث ¬

_ (¬1) في ن ب (في التعريف برواته). (¬2) في ب ج (الأفصح). (¬3) في ن ب زيادة (وهو الحق). (¬4) الذي في الطبقات لابن سعد (8/ 286) ريطة، وفي سير أعلام النبلاء (3/ 80) رائطة. (¬5) في ن ب (عبد الله). (¬6) في ن ب (رحمه الله). (¬7) زيادة من ن ب ج. (¬8) مخرج في الصحيحين، وسيأتي تخريجه إن شاء الله في الصيام.

قبله سببه، وكان [رسول الله] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - يقول فيهم: "نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله" (¬2)، وقيل: كان اسمه العاصي (¬3)، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضله النبي - صلى الله عليه وسلم - على والده، وحفظ القرآن أجمع. قال عن نفسه: جمعت القرآن فقرأته كله في ليلة، قال عليه السلام: "اقرأه في شهر"، وذكر الحديث. وكان يقرأ كتب الأولين التوراة والإنجيل، وله حِكَم ومواعظ، حضر صفين مع والده خوف العقوق ولم يسل سيفًا وكانت بيده الراية يومئذ فندم ندامة شديدة، له بستان بالطائف يسمى الرهط قيمته ألف ألف درهم، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعمائة حديث، أخرج له منها في الصحيحين خمسة وأربعون، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين، وروى عنه جماعة من التابعين. قال ابن يونس: روى عنه من أهل مصر نيف وخمسون رجلًا، في وفاته أقوال، قال ابن حبان: أصحها سنة ثلاث وستين عام الحرة، قال: وكان يسكن مكة ثم خرج إلى الشام وأقام بها ومات بمصر. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 161) من طريق وكيع. حدثنا نافع بن عمرو بن عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة. قال طلحة بهذا الإسناد ورجاله ثقات. لكنه منقطع، لأن ابن أبي مليكة -وهو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله- لم يدرك طلحة، لأن وفاة طلحة سنة 36، ووفاة ابن أبي مليكة ستة 117. (¬3) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 80).

قلت: وفي موضع قبره أربعة أقوال: أحدها: بمصر، وبه جزم ابن حبان كما [ذكرته] (¬1) عنه، ثانيها: الطائف، ثالثها: بمكة، رابعها: بفلسطين، قال ابن حبان وغيره: وكان له يوم مات ثنتان وسبعون سنة، وأما أبو هريرة فتقدم التعريف به في الحديث قبله. أما عائشة: [فهي] (¬2) الصديقة بنت الصديق والحبيبة بنت الحبيب أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرة بن كعب بن سعد [بن] (¬3) تيم بن مرة بن كعب، أم المؤمنين. قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم أبيها وجدها وأن لقب أبي بكر عتيق. كنيتها: أم عبد الله، كنيت بابن أختها عبد الله بن الزبير بإذنه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل لسقط لها، وهو ضعيف، وعائشة: مأخوذة من العيش، وحكي عيشة بلغة فصيحة، وأمها: أم رومان -بفتح الراء وضمها- زينب بنت عامر، وقيل: بنت دهمان من بني مالك بن كنانة، وعائشة وأبوها وجدها صحابة وشاركها في ذلك جماعة من الصحابة لكنه قليل، نعم لا يوجد أربعة صحابة متوالدون إلَّا في آل أبي بكر الصديق: عبد الله بن أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة. وعائشة رضي الله عنها من أكبر فقهاء الصحابة، يرجعون إليها، قال القاسم بن محمد: اشتغلت بالفتوى في خلافة ¬

_ (¬1) في ن ب (ذكرناه). (¬2) في ن ب (فهو). (¬3) زيادة من ن ب.

[أبي] (¬1) بكر وعمر وعثمان وهلم جرا إلى أن ماتت. تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة بسنتين، وقيل: ثلاث، وقيل: غير ذلك، وهي بنت ست، وبنى بها في شوال بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة وهو الصحيح، قال الواقدي: في الأولى، وصححه الدمياطي، وأما ابن دحية فوهاه بالواقدي، فأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر [وتوفي رسول الله وهي ابنة ثمان عشرة] (¬2). وولدت ستة أربع من النبوة، نزلت براءتها من السماء، ولها عدة خصائص، عاشت خمسًا وستين سنة. بعث إليها معاوية بمائة ألف فما غابت عليها الشمس حتى فرقتها [فقالت] (¬3) مولاة لها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحمًا [فقالت] (¬4): ألا ذكرتيني. [كذا] (¬5) رواه هشام عن [أبيه] (¬6). وروى أبو معاوية عن هشام عن محمد بن المنكدر عن أم درة أن عائشة رضي الله عنها بعث إليها [ابن] (¬7) الزبير بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة ¬

_ (¬1) في ن ب (أبو). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (وقالت). (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) ساقطة من الأصل. (¬6) في ن ب (والده). (¬7) زيادة من ن ب ج.

[فجلست] (¬1) فقسمته فأمست وما عندها منه درهم، فقالت: يا جارية هلمي فطري فجاءتها بزيت وخبز، فقالت لها أم درة: أما استطعت أن تشتري لنا لحمًا بدرهم [نفطر عليه] (¬2)؛ قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتيني لفعلتُ، وروى ابن أبي مليكة أن عائشة بنت طلحة حدثته أن عائشة قتلت جنانًا فأُريت في المنام: والله لقد قتلت مسلمًا، فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لها: وهل دخل إلَّا وعليك ثيابك؟ فأصبحت فزعة فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلتها في سبيل الله. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[ألفي] (¬3) حديث ومائتي حديث وعشرة أحاديث، اتفقا منها على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين، [وقيل: بتسعة وستين] (¬4)، وروت عن خلق من الصحابة، وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين قريب من مائتين، وكانت عائشة مسماة لجبير بن مطعم [فصلها] (¬5) منهم الصديق وزوجها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى البخاري من حديث عروة مرسلًا أنه عليه السلام خطب عائشة إلى أبي بكر فقال أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال: "أنت أخي في الله وكتابه، وهي لي حلال". [وروى الإِمام أبو بكر الإسماعيلي في معجمه عن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (ألفًا)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) في ن ج (فسلها)، والذي في الطبقات (8/ 57): (فسلها).

عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: جاء الصديق وأم رومان حتى دخلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما جاء بكما"؛ قالا: يا رسول الله لتستغفر لعائشة ونحن شهود، قال: "اللهمَّ اغفر لعائشة بنت أبي بكر مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبًا" فلما رأى سرورهما بذلك قال: "ما زالت هذه [هي] (¬1) دعوتي لمن أسلم من أمتي من لدن بعثني الله عز وجل إلى يومي هذا"] (¬2) (¬3). ماتت رضي الله عنها بعد الخمسين، إما ستة خمس أو ست أو سبع أو ثمان، في رمضان، وقيل: شوال، وأمرت أن تدفن ليلًا بعد الوتر [بالبقيع] (¬4)، وصلى عليها أبو هريرة، وترجمتها بسطتها في العدة في [معرفة] (¬5) رجال هذا الكتاب، يتعين عيك مراجعتها منه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، وزيادة من المعجم. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 11) في معرفة الصحابة من طريق أبي بكر بن حفص عن عائشة أنها جاءت هي وأبوها وأمها، به نحوه. وتعقبه الذهبي في التلخيص فقال: منكر على جودة إسناده، وعزاه الهيثمي إلى مسند البزار من حديث عائشة: أنها طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها، فذكر نحوه بلفظ آخر. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة. اهـ، من مجمع الزوائد (9/ 243) في المناقب. (¬4) في ن ب (في البقيع). (¬5) في ن ب ساقطة.

فائدة: مات - صلى الله عليه وسلم - (¬1) عن تسع نسوة وعائشة أفضلهنَّ قطعًا، وهل هي أفضل من خديجة بنت خويلد؟ فيه وجهان في التتمة، وترجح من فضَّل خديجة عليها بأنها أول الناس إسلامًا، كما نقل الثعلبي الإِجماع عليه. الوجه الثاني: كلمة "وَيْلَ" من المصادر التي لا أفعال لها، ومثلها: ويح، وويب، وويس، ويقال: ويل وويله، قال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ} (¬2) والأصل [يا ويلتي] (¬3) فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفًا [كيا] (¬4) غلامًا في إحدى اللغات الست، وتستعمل مفردًا مضافًا فإذا أفرد فالأكثر الرفع وإذا أضيف فالأكثر النصب، فالرفع على الابتداء، والنصب: إما على المصدرية كأنه قال: ألزمه الله ويلًا ونحو ذلك، ويقال: ويل له، وويل عليه، وويل منه، قال الشاعر: قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويل عليك وويلي منك يا رجل ¬

_ (¬1) في الأصل (وكرم)، وليست في ب ج. (¬2) في الأصل (يا ويلتا)، وهو مخالف لرسم المصحف، والتصويب من ب ج. سورة هود: آية 72. (¬3) في الأصل (يا ويلتا)، وما اثبت من ن ب. أقول: ذكره الزجاج في معاني القرآن (3/ 63)، وقال: "والأصل: "يا ويلتي" فأبدل من الياء والكسرة الألف، لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة. اهـ. قال النيسابوري رحمنا الله وإياه في كتابه (إيجاز البيان عن معاني القرآن) (11/ 418) "وألف "ويلتي" ألف ندبة، أو متقلبة من ياء الإضافة". اهـ. (¬4) في ج (كما).

و "ويل" كلمة عذاب وحزن وهلاك وحكى [القاضي عياض فيها ستة أقوال (¬1): أحدها: أنها تقال لمن وقع في الهلاك. ثانيها: لمن استحقه. ثالثها: [أنها] (¬2) الهلاك نفسه. رابعها: مشقة العذاب. خامسها: الحزن. سادسها: واد في جهنم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره، وقال ابن مسعود: منها صديد أهل [النار] (¬3). ولعله المراد هنا؛ لقوله: "من النار" (¬4). قال البغوي: وتكون تفجعًا، وتكون تعجبًا، ومنه قوله عليه السلام: "ويله مسعر حرب". الثالث: "الأعقاب": جمع عقب، وهي مؤخر القدم، وعقب كل شيء: آخره، وهي مؤنثة، وتسكن القاف وتكسر، وجاء أيضًا في الصحيح "ويل [للعراقيب] (¬5) من النار"، وهي جمع: عرقوب بضم العين في الفرد وفتحها في الجمع، وهو العصب الغليظ الموتر فوق ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (2/ 297، 298). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في ن ب (أنه). (¬4) في الأصل (النهار)، والتصويب من ن ب ج. (¬5) في ن ب (للأعقاب).

عقب الإنسان، وعرقوب الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يديها، قال الأصمعي: وكل ذي أربع عرقوباه في رجليه وركبتاه في يديه. الرابع: خص النبي - صلى الله عليه وسلم - (الأعقاب) بالعقاب بالنار؛ لأنها التي لم تغسل غالبًا، وقيل: أراد صاحب الأعقاب، فحذف المضاف؛ لأنهم كانوا [لا] (¬1) يستقصون غسل أرجلهم في الوضوء (¬2). الخامس: هذا الحديث مما ورد على سبب، فإنه عليه السلام رأى أقوامًا وأعقابهم تلوح فقال ذلك (¬3). السادس: الألف واللام في الأعقاب يحتمل أن تكون للعهد [فيختص] (¬4) الذكر بتلك الأقدام المرئية التي لم يمسها الماء، ويحتمل أن تكون للجنس فلا تختص بها، بل الأعقاب التي هذه صفتها لا تعم بالمطهر، وهو الأظهر؛ لأن الأول فيه تخصيص العموم [بسببه] (¬5) ولا يجوز أن يكون للعموم المطلق في كل الأقدام ومسحها، بل يكون [للعموم] (¬6) المطلق فيها يراد بالتضمين بالتنبيه بالأدنى على الأعلى. السابع: في الحديث دليل على وجوب تعميم الأعضاء ¬

_ (¬1) زيادة من ب ج، وهو الصواب. (¬2) انظر: شرح السنة للبغوي (1/ 429). (¬3) انظر المرجع السابق. (¬4) في ن ب (ويختص). (¬5) في ن ب (لسببه). (¬6) في ن ب (العموم).

بالمطهر، وأن ترك البعض منها غير مجزىء، ونصه إنما هو في الأعقاب وسبب التخصيص أنه ورد على سبب كما سبق. الثامن: استدّل به أيضًا على أن العقب محل التطهير بالغسل وجوب كل المتوعد بالنار على تركه عند رؤيته يلوح من غير غسل، وقال عليه السلام في بعض طرقه: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" (¬1). قال البيهقي: وصح من حديث عمرو بن عنبسة التصريح بأن الله [تعالى] (¬2) أمر بالغسل فإن لفظه: "ثم يغسل رجليه كما أمره الله". وصح من حديث عثمان الآتي في الباب وجماعة أنه عليه السلام: "غسل"، فانضمَّ القول إلى الفعل وتبين أن المأمور به الغسل، وهذا من أحسن الأدلة، واستدلَّ برواية "أسبغوا" على أن المسح لا يجزئ فيه، وهذا إجماع ووراءه مذاهب باطلة: أحدها: وجوب مسح الرجلين وهو مذهب الشيعة. وثانيها: وجوب الجمع بين المسح والغسل وهو قول بعض أهل الظاهر. وثالثها: أنه مخير بينهما وهو قول محمد بن جرير الطبري، وعزاه الخطابي إلى الجبائي المعتزلي [فليحرر] (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه (3/ 128، 130) وأحمد في مسنده من طرق (6528، 6809، 6883)، والنسائي (1/ 77، 78). (¬2) ساقطة من الأصل. انظر: السنن الكبرى (1/ 71). (¬3) انظر: معالم السنن (1/ 93). ويأتي في آخر تعليق لهذا الحديث جمع ابن جرير -رحمه الله تعالى- =

وقد صنف في المسألة الشيخ أبو إسحاق الشيرازي (¬1)، وسليم الرازي (¬2) فأفادا، وقراءة الخفض في قوله تعالى {وأرجلكم} عنها أجوبة. منها: أنها عطف على الرأس (¬3) فهما [يمسحان] " (¬4) لكن إذا ¬

_ = في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين، لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق وهما من المغسولات بلا نزاع، وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل يعني الدلك باليد أو غيرها. والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما: أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتها الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف. اهـ، من أضواء البيان (2/ 15)، ومن أراد الاستزادة فيراجع تفسير الطبري رحمه الله (10/ 52 إلي 80). وما بين القوسين ساقط من ن ب. (¬1) هو إبراهم بن علي بن يوسف بن عبد الله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي شيخ الإسلام علمًا وعملًا وورعًا وزهدًا ولد في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ومات في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربعمائة ترجمته طبقات السبكي (4/ 215). (¬2) هو سليم بن أيوب بن سليم أبو الفتح الرازي مات غرقًا في صفر سنة سبع وأربعين وأربعمائة ترجمته في طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 225). (¬3) في اللفظ والمعنى، ثم نُسخ بالسنة، أو بدليل التحديد إلى الكعبين. قد ذكر هذا كل من أبي علي الفارسي في الحجة (3/ 215، 216)، وابن عطية في المحرر الوجيز (4/ 371)، والزجاج في معاني القرآن (2/ 154)، وأبو عبيدة في مجاز القرآن (1/ 155). (¬4) في الأصل (مسحان)، في ن ب (المسحان)، وما أثبت من ن ج.

كان عليهما [خفان] (¬1) وتلقينا هذا القيد من فعله عليه السلام، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلَّا وعليهما خفان، والمتواتر عنه غسلهما، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - علة الحال التي تغسل فيها الرجل، والحال التي تُمسح فيها. ومنها: [أن] (¬2) العطف على الجوار لكنها لغة شاذة (¬3)، قال الأمام في البرهان: وكل تأويل يؤدي إلى حمل القرآن على [دليل] (¬4) شاذ في اللغة لا يقبل، ويعد متأوله معطلًا [لا مأولًا] (¬5). ومن الغريب أن بعض من يقول بالمسح يدعي أن ذلك بنص القرآن، وأن من يقول بالغسل متعلقه خبر واحد، ولا يصح نسخ القرآن بخبر الواحد، وهذا إنما يلزم أن لو كان القرآن نصًا فيما [ادعاه] (¬6) لا يحتمل التأويل، وهو قابل له كما قررناه، ويعضد هذا التأويل أنه عليه السلام لما علمهم الوضوء غسل رجليه، وكل من وصف وضوءه لم يذكر في الرجلين غيره. التاسع روى البخاري من حديث ابن عمر أنه قال عليه السلام قوله: "ويل للأعقاب من النار" لما رآهم مسحوا على أرجلهم، ¬

_ (¬1) في ن ب (خفاف). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو كما في السبعة لابن مجاهد (243)، والتبصرة لمكي (186). (¬4) في ن ب ج (ركيك). (¬5) في ن ب (لما ولا). (¬6) في ن ب (ادعى).

وترجم عليه: غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين (¬1) قال الشيخ تقي الدين (¬2): فهم البخاري من هذا الحديث أن القدمين لا يمسحان بل يغسلان، وهو عندي غير جيد، لأنه مفسر في الرواية الأخرى أن الأعقاب كانت تلوح لم يمسها الماء، ولا شك أن هذا موجب للوعيد بالاتفاق، والذين استدلوا على أن المسح غير مجزٍ إنما اعتبروا لفظه فقط، فقد رَتَّب الوعيدَ على مسمى المسح، وليس فيها ترك بعض العضو، والصواب -إذا جمعت طرق الحديث- أن يستدل ببعضها على بعض، ويجمع ما يمكن جمعه، فبه يظهر المراد. العاشر: في وجوب تعليم الجاهلين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحادي عشر: استدلَّ بعضهم بهذا الحديث على نزع الخاتم في الوضوء فإنه عَقِب من جهة المعنى، والبخاري قال: باب غسل الأعقاب، ثم قال: وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ، ثم ذكر [موضع] (¬3) هذا الحديث [فكأنه ترجم به عليه واستدل بالحديث] (¬4). ¬

_ (¬1) انتزع البخاري رحمه الله ترجمة الباب من نص الحديث قوله: "أو نمسح على أرجلنا" أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل فلهذا قال في الترجمة: ولا يمسح على القدمين. وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها. فتح البارى (1/ 265) وما بعده. انظر: إحكام الأحكام (1/ 102) مع الاطلاع على زيادة في الكلام. (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشيه (1/ 101، 102). (¬3) ساقطة من ن ب ج. (¬4) زيادة من ن ب ج. انظر: فتح البارى (1/ 267).

الثاني عشر: فيه حجة لأهل السنة أن المعذب الأجساد (¬1). الثالث عشر: فيه التعذيب على الصغائر؛ لما قد علمت من الاختلاف في فرض الرجلين، فابن جرير يقول: إنه مخير بين الغسل والمسح (¬2). واستدلَّ به بعضهم على تعميم الرأس بالمسح؛ لأن ¬

_ (¬1) عذاب القبر ونعيمه يحصل على الروح والبدن جميعًا، قال بعضهم: ونؤمن أن الموت حق وأننا ... سنبعث حقًا بعد موتتنا غدا وأن عذاب القبر حق وأنه ... على الجسم والروح الذي فيه الحدا وللروح بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به في البطن جنينًا. ثانيًا: تعلقها من بعد خروجه إلى الأرض. ثالثًا: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقه من وجه. رابعها: تعلقها به فى البرزخ. فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم نفارقه فراقًا كليًا لا يبقى لها إليه التفات البتة، فإنه ورد ردها إليه وقت إسلام المسلم. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله. اهـ، من الكواشف الجلية للسلمان (551، 552). (¬2) قوله: وابن جرير يقول: إنه مخير بين المسح والغسل ... أقول: قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 98) فى توجيه الإشكال الوارد في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه والمخرج في سنن أبي داود، وبيَّن مسالك الناس ومذاهب العلماء فيه، ثم قال: المسلك السابع: أنه دليل على أن فرض الرجين المسح، وحكى عن داود الجواري -لعله الظاهري- وابن عباس، وحكى عن ابن جرير أنه مخير بين الأمرين. وأما حكايته عن ابن عباس فقد تقدمت، ورأيه رضي الله عنه: الغسل، كما أخرجه البخاري عنه في الصحيح- وأما حكايته عن ابن جرير فغلط بيَّنٌ، وهذه كتبه وتفسيره كله يكذب هذا النقل عليه، وإنما دخلت الشبه؛ =

التبعيض فيه عقب من جهة المعنى، وليس المراد في الحديث خصوص العقب الحقيقي، بدليل ما صنع البخاري في استدلاله به على نزع الخاتم وهو استدلال عجيب. ¬

_ = لأن ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة يوافقه في اسمه واسم أبيه وقد رأيت له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم، فهذه سبعة مسالك للناس في هذا الحديث. انظر: تعليق رقم (3) (ص 237)، وتوجيه ابن جرير في تفسيره لقراءة النصب والجر.

الحديث السادس

الحديث السادس 6/ 6/ 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل [الماء] (¬1) في أنفه، ثم لينتثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن [يدخلهما في الإناء ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري] (¬2) أين باتت يده". وفي لفظٍ لمسلم: "فليستنشق بمنخريه من الماء". وفي لفظ: "من توضأ فليستنشق" (¬3). الكلام عليه من ثمانية وعشرين وجهًا: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) البخاري (162) في الوضوء، أسباب: الاستجمار وترًا، ومسلم (237) في الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، ومالك في الموطأ (1/ 19) في الطهارة، والنسائى (1/ 65، 66) في الطهارة، وأبو داود (140) في الطهارة، وابن ماجه (409) في الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق، وابن خزيمة (75)، والحميدي (957)، وأحمد (2/ 242، 463)، وابن حبان (1438، 1439).

الأول: في التعريف يراويه وقد سلف في الحديث الثاني. قال ابن منده في مستخرجه: وروى قوله عليه السلام: "فليستنثر ومن استجمر فليوتر" مع أبي هريرة من الصحابة ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله. الثاني: قول الراوي ["أن" هو] (¬1) عند الإطلاق محمول على السماع خصوصًا إن كان الراوي صحابيًا وقد أدرك الواقعة، وقد أسلفنا ذلك في الوجه الثاني عشر في الكلام على الحديث الأول. الثالث: قوله عليه السلام: "إذا توضأ" أي [إذا] (¬2) أراد الوضوء، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (¬3) أي إذا أردت القراءة. الرابع: قوله عليه السلام: "فليجعل في أنفه": أي ماء، فحذف ذلك للعلم به، ففيه دلالة على جواز حذف المفعول إذا دل الكلام عليه، [وورد] (¬4) ذكر المفعول في [رواية] (¬5) أخرى. الخامس: معنى "يجعل" هنا ملغى "ولجعل" ستة معان: ¬

_ (¬1) في ن ب (أنه). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة النحل: آية 98. (¬4) في ن ب (وقد). (¬5) في الأصل (الرواية).

أحدها: أوجده، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬1) فيتعدى إلى مفعول واحد. ثانيها: صيّر، ومنه: جعلت البصرة بغداد، فيتعدى إلى مفعولين بنفسه. ثالثها: ألقى، ومنه: جعلت المتاع بعضه على بعض، فيتعدَّى إلى [مفعولين] (¬2)، [الأول] (¬3) بنفسه والثاني بحرف الجر. رابعها: اعتقد، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (¬4) فيتعدى إلى مفعولين. خامسها: أوجب، كقولهم: جعلت للعامل كذا، فيتعدى إلى واحد. سادسا: شرع، ومنه: جعل زيد يقول كذا، فيكون من أفعال المقاربة يرفع الاسم وينصب الخبر إلَّا أن خبره لا يكون فعلًا مضارعًا [فيه ضمير] (¬5) يعود على اسمها كما مثلناه. السادس: الانتثار: هو دفع الماء للخروج من الأنف، مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف، وقال الخطابي: [هي] (¬6) الأنف. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 1. (¬2) ساقطة من ن ج. (¬3) زيادة من ب ج. (¬4) سورة الزخرف: آية 19. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (هو). انظر: معالم السنن (1/ 93).

ومنهم من جعله جذب الماء إلى الأنف وهو الاستنشاق [وهو أعني الاستنشاق] (¬1) مأخوذ من النشق، وهو جذب الماء بريح الأنف إلى داخله. [وقيل] (¬2): هو مشترك بينهما، وهو قول ابن الأعرابي (¬3) وابن قتيبة (¬4) والصواب الأول، ويدل له حديث عثمان الآتي في الباب وكذا حديث عبد الله بن زيد الآتي فيه أيضًا، أنه عليه السلام: "استنشق واستنثر" فجمع بينهما وذلك يقتضي التغاير. ومنهم من قال: سهمي جذب الماء استنشاقًا بأول الفعل واستنثارًا بآخره وهو استدخال الماء بنَفَس الأنف للدخول والخروج، وقال الفراء (¬5): يقال: نثر الرجل واستنثر، إذا حرك النثرة في الطهارة. السابع: الاستجمار: مسح جميع محل البول والغائط ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، والزيادة من ن ب ج. (¬2) في الأصل (وقال). (¬3) محمد بن زياد أبو عبد الله ابن الأعرابي من موالي بني هاشم قال الجاحظ كان نحويًا عالمًا باللغة والشعر، له من الكتب: النوادر، والأنوار، ومعاني الشعر، والخيل (150 - 231 هـ). بغية الوعاة (1/ 105). (¬4) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري النحوي اللغوي. له معاني القرآن، غريب القرآن، غريب الحديث وغيرها. (213 - 267 هـ). بغية الوعاة (2/ 63، 64). (¬5) يحيى بن زياد بن عبد الله أبو زكريا المعروف بالفراء، صنف معاني القرآن، واللغات، والنوادر توفي سنة 207 هـ. بغية الوعاة (2/ 333).

بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ومنه الجمار التي يرمى بها في الحج، قال ابن حبيب: وكان ابن عمر يتأول الاستجمار هنا على إجمار الثياب بالمجمر (¬1)، ونحن نستحب الوتر في الوجهين جميعًا، أي فإنه يقال في هذا تجمر واستجمر، فيأخذ ثلاث قطع من الطيب أو يتطيب مرات واحدة بعد الأولى، وحكي عن مالك أيضًا (¬2)، والأظهر الأول. الثامن: الإِيتار: أن يكون الاستجمار بوتر، لكن هو عند الشافعى لا يجوز بأقل من ثلاث وإن حصل الإِنقاء بدونه، لأن الواجب عنده أمران: [إمكان] (¬3) إزالة العين، واستيفاء ثلاث مسحات، فإن حصل الإنقاء بثلاث فلا زيادة وإن لم يحصل وجبت، وهذا الحديث يدل على وجوب الإيتار، لكن بالثلاث من دليل آخر وهو نهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (¬4). ووافقنا أحمد على وجوب استيفاء ثلاث مسحات وإن حصل الإنقاء بدونها، وبه قال القاضي أبو الفرج والشيخ أبو إسحاق من المالكية (¬5)، وقد يقال: لا دلالة في هذا الحديث؛ لأن الإيتار ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (18/ 226). (¬2) انظر: المنتقى للباجي (1/ 40، 41). (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) من حديث سلمان الفارسي وفيه "أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار". مسلم (1/ 223)، وأبو داود (7)، والترمذي (16)،والنسائي (1/ 38)، وابن ماجه (316). (¬5) انظر: رأي الشافعى وأحمد وأبو الفرج. الاستذكار (2/ 43).

[أعم] (¬1) أن يكون بواحد أو ثلاث أو بغير ذلك ولا يلزم في وجود الأعم وجود الأخص، وقال الخطابي: فيه دليل على ذلك إذ معقول أنه لم يرد الوتر الذي هو واحد [فرد؛ لأنه زيادة وصف على الاسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد] (¬2) فعلم أنه قصد به ما زاد على الواحد وأقله الثلاث. ومذهب مالك وأبي حنيفة أن الواجب الإنقاء لا غير (¬3)، واستدل القاضي عبد الوهاب (¬4) بهذا الحديث نفسه على عدم التعداد معللًا بأن أقل ما يقع عليه الاسم مرة واحدة، ثم استدلَّ بحديث: "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" (¬5). ولا دلالة في هذا لما سيأتي قريبًا، ثم استدلَّ بأقية معارضة للنص السالف. ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب ج. (¬2) زيادة من ب ج. انظر: أعلام الحديث (1/ 252). (¬3) انظر: الاستذكار (2/ 42)، والتمهيد (11/ 20). (¬4) هو أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي من جلة علماء المالكية له الكتاب الشهير بـ"التلقين" في الفقه المالكي الذي شرحه المازري (362 - 422 هـ). الوفيات (3/ 219)، وفوات الوفيات (2/ 419)، والديباج (2/ 26). (¬5) أبو داود (35) في الطهارة، باب: الاستتار في الخلاء، وابن ماجه (337) في الوضوء (3498) في الطب، والدارمي (1/ 169، 170)، وأحمد (2/ 371)، وابن حبان (1410). قال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (1/ 868) فهذا وإن كان قد أخرجه أبو داود في كتابه، فليس بالقوي، وهو محمول -إن صح- على وتر يكون بعد الثلاث. اهـ.

فرع: المراد بالإيتار: عندنا أن يكون عدد المسحات ثلاثًا أو خمسًا أو فوق ذلك من الإِيتار (¬1)، [ومذهبنا] (¬2) أنه فيما زاد على الثلاث سُنة، فإن حصل الإنقاء بثلاث فلا زيادة وإن لم يحصل وجبت، ثم إن حصل بوتر فلا زيادة، وإن حصل بشفع كأربع أو ست استحب الإِيتار. وقال بعض أصحابنا: يجب الإِيتار مطلقًا لظاهر هذا الحديث، وحجة الجمهور الحديث السالف: "من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" (¬3). حملًا له على ما زاد على الثلاث جمعًا بينه وبين حديث نهيه عليه السلام عن أن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. التاسع: فيه دلالة على أن شرعية غسل اليدين وكراهة غمسهما في الإناء في الوضوء ليس مختصًا بنوم الليل، بل لا فرق فيه بين نوم الليل والنهار ولإطلاقه عليه السلام النوم من غير تقييد. وقال أحمد: يختص بنوم الليل دون نوم النهار؛ لقوله: "أين باتت يده"، والمبيت لا يكون إلَّا بالليل، وقد صح أيضًا مقيدًا بالليل، فقال عليه السلام: "إذا قام أحدكم من الليل". رواه أبو داود وصححه الترمذي (¬4)، وعنه رواية أخرى [ووافقه] (¬5) عليها أبو داود أن ¬

_ (¬1) في ن ب ج زيادة (الأوتار). (¬2) زيادة من ب ج. (¬3) انظر ت (3) ص 243. (¬4) أبو داود في الطهارة (103)، باب: في الرجل يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، والترمذي (24). (¬5) في الأصل (وأوقفه)، وما أثبت من ن ب ج.

كراهة الغمس إن كانت من نوم اليل فهي للتحريم، وإن كانت من نوم النهار فهي للتنزيه، لكنه محمول على الغالب لا للتقييد، كيف وقد علل بأمر يقتضي الشك وهو "فإنه لا يدري أين باتت يده"، فدلَّ على أن اليل والنوم ليس مقصودًا بالتقييد. وقال الرافعي في شرحه للمسند (¬1): يمكن أن يقال: الكراهة في الغمس إذا نام ليلًا أشد من نوم النهار؛ لأنَّ احتمال التلويث أقرب لطوله. العاشر: فيه دلالة على كراهة غمس اليد في الإناء قبل [غسلها] (¬2) ثلاثًا إذا قام من النوم، وأما غير المستيقظ فيستحب له غسلها قبل إدخالها في الإناء؛ لأن صيغة النهي تقتضي الكراهة على أقل الدرجات، ولا يلزم من الكراهة في الشيء الاستحباب في غيره؛ لعدم التلازم بينهما، بدليل عكسه في صلاة الضحى وكثير من النوافل، فان [غسلها] (¬3) مستحب وتركها غير مكروه كما صرح به الشيخ تقي الدين (¬4). فلذلك غسلهما للمستيقظ قبل إدخالهما الإناء من المستحبات وتركه له من المكروهات، وبذلك فرق أصحابنا بين المستيقظ وغيره، وظاهر كلام المالكية بل صريحه أنه لا فرق بينهما وإن كانوا يفرقون بين المكروه وترك الأولى. ¬

_ (¬1) قال ابن قاضي شهبة (2/ 77) "وشرح المسند" -مجلدان ضخمان- أي مسند الشافعي. (¬2) في ن ب (غسلهما). (¬3) في ن ب (فعلها). (¬4) إحكام الأحكام (1/ 115).

الحادي عشر: قال جماعة من العلماء: [يجب] (¬1) غسل اليدين قبل إدخالهما الإِناء في إبتداء الوضوء عند الاستيقاظ من النوم؛ أخذًا من الأمر لظهوره في الوجوب. وقال مالك والشافعي والجمهور: لا يجب والأمر أمر ندب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "توضأ كما أمر (¬2) الله". حسنه الترمذي وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وليس فيه غسل اليدين في ابتداء الوضوء، ولأن الأمر يُصرف عن الوجوب عند الإطلاق؛ لقرينة ودليل، وهي هنا تعليله عليه السلام بما يقضي الشك في نجاسة اليد. وقواعد الشرع (¬3): تقضي أن الشك لا يقضي وجوبًا في الحكم إذا كان الأصل فلتستصحب على خلافه موجدًا، والأصل الطهارة في اليد والماء، فلتستصحب، ودليلهم على ندبيته في ابتداء الوضوء مطلقًا وروده في صفة وضوئه عليه أفضل الصلاة والسلام، ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، وما أثبت من ب ج. وهذه المسألة ساقها من إحكام الأحكام بمعناه (1/ 109، 111). (¬2) في الأصل (أصل)، وما أثبت من ب ج. والحديث من رواية رافع بن رفاعة الزرقي، أخرجه أبو داود (857 - 861) في الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (302)، والنسائي (2/ 193، 225)، وابن الجارود (194)، والبيهقى في السنن (2/ 133، 134، 373، 374، 380)، وصححه ابن حبان (1787)، وابن خزيمة (545)، والحاكم (1/ 241، 242)، ووافقه الذهبي. (¬3) قال شيخ الإِسلام رحمنا الله وإياه في القواعد النورانية (93): إن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله، ولا يستحب تركه، بل يستحب فعله احتياطًا.

من غير تعرض لسبق نوم، والمعنى المعلل به في الحديث هو جولان اليد حال اليقظة فيعم الحكم لعموم علته (¬1). فرع: لو خالف وغمس يده لم يأثم الغامس ولم يفسد الماء (¬2)، وحكي عن الحسن (¬3) البصري أنه ينجس الماء في القيام من ¬

_ (¬1) قد ورد الأمر بغسل اليد عند الاستيقاظ من رواية ابن عمر ولفظه "قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يُدْخِل يده في الإناء حتى يغسلها". أخرجه ابن ماجه (1/ 139)، وابن خزيمة (75/ 1)، والدارقطني (1/ 49)، وزاد: "فقال له رجل: أرأيت إن كان حوضًا؟ فحصبه ابن عمر، وجعل يقول: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: أرأيت إن كان حوضًا. قال الدارقطني إسناده حسن. انظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/ 46). رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم من النوم، فأراد أن يتوضأ فلا يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها". أخرجه ابن ماجه (1/ 139)، والدارقطني (1/ 49) وقال: إسناده حسن. رواية عائشة رضي الله عنها من حديث أبي سلمة عنها مرفوعًا: "إذا استيقظ أحدكم من النوم، فليغرف على يده ثلاث غرفات قبل أن يُدخلها في وضوئه، فإنه لا يدرى حيث باتت يده". أشار إلى هذه الرواية الترمذي في السنن (1/ 36)، وأخرجها ابن أبي حاتم في العلل (1/ 62) قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عنه فقال: "إنه وهم [والصواب حديث أبي هريرة]. ما بين القوسين زيادة ليست في العلل. انظر: البدر المنير (1/ 265). (¬2) انظر: الأوسط لابن المنذر (1/ 372، 373). (¬3) الحسن بن يسار، مصري تابعي كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه أحد العلماء الفصحاء النساك، ولد بالمدينة عام (21 هـ) وشب في كنف علي بن أبي طالب، توفي سنة (110 هـ)، الأعلام (2/ 242).

نوم الليل، وهو رواية ضعيفة عن أحمد، ونقل عن إسحاق بن راهويه (¬1) ومحمد بن جرير الطبري (¬2)، وهو ضعيف جدًا. الأصل طهارة الماء وعدم التنجس بالشك، ولا يمكن أن يقال: الظاهر في اليد النجاسة، وقال ابن حبيب المالكي (¬3): يفسد الماء، وأطلق، قال سند (¬4): ويستحب إراقة ذلك الماء؛ لأن قوله عليه السلام: "لا يدري أين باتت يده" يقتضي كراهة ذلك الماء إن لم يغسلهما، وقد طرح سؤر الدجاج -وإن لم يتيقن نجاسته- وقال بإراقته الحسن البصري وأحمد (¬5). ¬

_ (¬1) إسحاق بن إبراهيم أبو يعقوب الحنظلي المروزي، ولد عام (161) وتوفي سنة (238 هـ). تاريخ بغداد (6/ 345). قال ابن العماد من مؤلفاته تفسيره المشهور ومسنده في الحديث، كتاب السنَّة في الفقه ومسائله في الفقه، وشذرات الذهب (2/ 89). (¬2) محمد بن جرير الطبري أبو جعفر مؤرخ ومفسر ولادته (224)، وفاته (310) له جامع البيان في التفسير وتاريخ الأمم والملوك واختلاف الفقهاء والمسترشد في علوم الدين والقرآن هـ الأعلام للزركلي (6/ 294). (¬3) ابن حبيب هو أبو مروان عند الملك بن حبيب السلمي القرطبي البيري الفقيه الأديب إمام في الفقه والحديث واللغة والنحو، ألف كتبًا منها: "الواضحة" في الفقه والسنن، وفضل الصحابة، وتفسير الموطأ مولده (174) وتوفي (238 هـ)، شجرة النور الزكية (ص 74). (¬4) أبو علي سند بن عنان بن إبراهيم الأسدي المصري الإِمام الفقيه، ألف الطراز شرح به المدونة نحو ثلاثين سطرًا ومات ولم يكمله. توفي سنة (541). شجرة النور الزكية (ص 125). (¬5) انظر: سنن الترمذي (24)، والأوسط لابن النذر (1/ 373).

قلت: إنما قالاه في نوم الليل كما علمته، وروى ابن عدي الأمر [بإراقته] (¬1). وقال: إنها زيادة منكرة. وفي "شرح الموطأ لابن حبيب": إذا نام جنبًا فإنه لا يدري: أوضع يده على الجنابة أم لا، فأما من بات على غير جنابة فيستحب له الغسل، فإن أدخلها قبله فليس يفسد وضوءه. فرع: ما أسلفنا من الكراهة هو فيما إذا شك في نجاسة يده، فإن تيقن طهارتها فقيل: يكره أيضًا؛ لأن أسباب النجاسة قد تخفى في حق معظم الناس فيجري عليه حكمه؛ لئلا يتساهل فيه من لا يعرف، وصححه الماوردي (¬2) ونسبه إلى الجمهور الإِمام (¬3)، والأصح أنه لا يكره ونقله النووي في شرحه عن المعظم (¬4)، بل هو بالخيار بين الغمس أو لا والغسل؛ لأنه عليه السلام ذكر النوم ونبه على العلة وهو الشك فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، ولو كان النهي ¬

_ (¬1) في الأصل (بقرابه). انظر: الكامل (6/ 2372)، والبدر المنير (1/ 261). (¬2) الحاوي الكبير (1/ 118، 120). (¬3) هو أحمد بن محمد بن أحمد أبو جعفر المعروف بالإمام والد أبي بكر لم تذكر المصادر تاريخ وفاته ولا ولادته. ذكره ابن الصلاح في طبقاته (370)، والإِسنوي (1/ 82)، أو لعلها يكون المراد به الإمام أبو المعالي الجويني كما صرح بذلك النووي في شرح المجموع (1/ 350). (¬4) المجموع (1/ 350)، وذكر أنه سنة باتفاق العلماء في شرح مسلم (3/ 105).

عامًا لقال: إذا أراد أحدكم استعمال الماء فلا يغمس يده حتى يغسلها، وكان أعم وأحسن. قال النووي في تصحيحه: ولا استحباب أيضًا في تقديم غسلها قبل الغمس على الصحيح. قال ابن الصلاح: وما أوهمه كلام الوسيط وصرح به مجلي (¬1) من حكاية الوجهين في أصل غسل اليد فهو غلط، واستحباب غسل اليد ثلاثًا والحالة هذه ثابت قطعًا. فرع: عند المالكية [حكاية] (¬2) خلاف في أن هذا الغسل: هل هو تعبد [أو] (¬3) معلل؟ فمن نظر إلى العدد قال بالتعبد؛ لأن هذا الغسل إما للنجاسة وإما للشك في وجودها، وكلاهما لا يقتضي حصرًا مخصوصًا، ومن نظر إلى قوله عليه السلام: "فإنه لا يدري أين باتت يده". قال بالتعليل، قالوا: وتظهر فائدة هذا الخلاف في موضعين: الأول: من انتقض وضوءه وهو قريب عهد بغسل يديه، فعلى التعبد يعيده، وعلى الآخر لا (¬4). ¬

_ (¬1) هو مجلي بن جميع بن نجا، قاضي القضاة أبو المعالي، صنف كتاب الذخائر وغيره ترجمته في السبكي (7/ 277، 284)، وابن هداية الله (206 - 207). (¬2) ساقطة من ب. (¬3) في ن ب (أم). (¬4) في ن ب زيادة (واو).

الثاني: من قال بالتعبد قال بغسلهما متفرقتين؛ لأن صفة التعبد في غسل الأعضاء أن لا يشرع في عضو حتى يكمل غسل ما قبله، قال [المازري] (¬1) وهو ظاهر حديث عبد الله بن زيد؛ لأنه ذكر في صفته لوضوئه عليه السلام أنه غسل [يده] (¬2) مرتين مرتين، وإفراد كل واحدة بالذكر يدل على إفرادها بالغسل، ومن قال بالتعليل قال: يغسلان مجتمعين؛ لأنه أبلغ في النظافة. وعلى القولين جميعًا: فالغسل ليس بواجب، وهل هو سنة أو فضيلة؟ قولان عندهم. وهل يفتقر غسلهما إلى نية؟ قال الباجي (¬3) ما معناه: أن من جعلهما من سنن الوضوء -كابن القاسم- اشترط النية في غسلهما، ومن رأى النظافة فيهما -كأشهب ويحيى بن يحيى- لم يشترطها. الوجه الثاني عشر: قال الشافعى في البويطي: وتبعه الأصحاب، لا تزول الكراهة إلَّا بغسل اليدين ثلاثًا قبل الغمس؛ لرواية المصنف، لكن ينبغي أن يعلم أنها من أفراد مسلم لا كما أوهمه إيراد المصنف أنها من المتفق عليه. وقال ابن خزيمة في صحيحه بعد أن ساقه بدون (ثلاثًا): [لا أدري هذه اللفظة في الخبر أم لا؟ ثم ساقه بعد ذلك بأوراق ¬

_ (¬1) في ب ج (الماوردي). انظر: المعلم (1/ 359). (¬2) في ن ب (يديه). (¬3) المنتقى (1/ 50).

بالسند المذكور وفيه لفظ (ثلاثًا)] (¬1)، وفي رواية للترمذي والنسائي "مرتين أو ثلاثًا" قال الترمذي: حسن صحيح (¬2) وقال الدارقطني في علله: رفعه صحيح. الثالث عشر: قوله عليه السلام: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" هو بيان (¬3) [لسبب] (¬4) الأمر بالغسل عند استيقاظه من النوم، وحكمه ومعناه: أنه لا يأمن نجاسة يده بطوافها حال نومه على بدنه فتصادف بثرة أو قتل قملة أو قذرًا أو نحو ذلك. قال الشافعي وغيره: وأهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار غالبًا، وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق، فلا يأمن أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس، فإذا وضعها في الماء القليل نجسته، والماء غالبًا إنما يكون في الأواني والغالب فيها القلة (¬5). الرابع عشر: فيه استعمال الكنايات فيما يستحى من التصريح به، فإنه عليه السلام قال: "لا يدري أين باتت يده". ولم يقل: فلعل يده وقعت على دبره أو على ذكره أو على نجاسة أو نحو ذلك، وإن كان هذا في معنى قوله عليه [أفضل الصلاة] (¬6) والسلام، ولهذا نظائر ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. صحيح ابن خزيمة (1/ 52، 75) وصححه الألباني فيه. (¬2) الترمذي (24). (¬3) في الأصل (من)، وهى ساقطة من ن ب. (¬4) في الأصل (سبب)، وما أثبت من ن ب. (¬5) نقله في شرح المهذب (1/ 348). (¬6) ساقطة من الأصل.

كثيرة في القرآن (¬1) والأحاديث الصحيحة، وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح لينفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء في ذلك مصرحًا به. فائدة حديثية: روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما (¬2) في هذا الحديث زيادة "منه" ولفظهما: "فإنه لا يدري أين باتت يده منه" (¬3). وأخرجها البيهقي من جهة ابن خزيمة وقال: قوله: "منه" تفرد بها محمد [بن] (¬4) الوليد البسري وهو ثقة. وقال الدارقطني في علله: تفرد بها شعبة. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (العزيز). (¬2) ابن حبان (1065)، وابن خزيمة (1/ 52)، قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، والدارقطني (1/ 49)، والبيهقي (1/ 46). انظر: الفتح (1/ 265). (¬3) قال الصنعاني رحما الله وإياه في حاشية إحكام الأحكام (1/ 113): وهذه الزيادة -أي أين باتت يده منه- تبطل النكتة التي ذكرها النووي في شرحه لمسلم وتبعه عليها الحافظ ابن حجر أنه كنى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أين باتت" تحاشيًا عن التصريح بلفظ (دبره أو ذكره -أقول المذكورة في الوجه الرابع عشر هنا- ولا يخفاك أن هذه الزيادة التي في رواية ابن خزيمة تخدش من كون العلة وقوع اليد على المحل المذكور. اهـ. (¬4) في ن ب: ساقطة، والبُسْري بضم الباء الموحدة، وسكون المهملة، القرشي، البصري، يلقب "بحمدان" توفي سنة (250) خ، م، س، ق. انظر: التقريب (2/ 216).

وقال ابن منده: فهذه الزيادة رواتها ثقات، ولا أراها محفوظة. الخامس عشر: الفائدة في قوله: "من نومه" فإن من المعلوم أن الاستيقاظ لا يكون إلَّا من النوم، أنه لا ينحصر الاستيقاظ [من] (¬1) النوم لمشاركة الغفلة والغشية في ذلك، ألا ترى أنه يقال: استيقظ فلان من غشيته ومن غفلته، وفائدة إضافة النوم إلى ضمير "أحدكم" ولم يقل من النوم أو [من] (¬2) نوم، وإن كان من المعلوم أن أحدًا لا يستيقظ من نوم غيره، أن فيه التنبيه والإِشارة على أن نومه عليه السلام مغاير لنومنا "إذ كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه" نبه على ذلك الفاكهي رحمه الله، ثم قال: فإن قلت قوله: "أحدكم" يعطي هذا المعنى المذكور؟ قلت: أجل [ولكن] (¬3) جاء على طريق المبالغة والتأكيد وربما سمى أهل علم البيان هذا نظرية، وهو أن يكون المعنى [مستقبلًا] (¬4) بالأول [ويؤتى] (¬5) بالثاني لما ذكر. السادس عشر: في (¬6) الحديث دليل على الفرق بين [ورد] (¬7) ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (ولكنه). (¬4) هكذا في الأصل، وفي ب ج (مستقلًا). (¬5) في ن ج (يأتي). (¬6) في ن ب زيادة (هذا). (¬7) في ن ب ج (ورود).

الماء على النجاسة وورودها عليه، فإذا ورد عليها الماء أزالها وإذا وردت عليه [نجسته] (¬1) إذا كان قليلًا؛ لنهيه عليه السلام عن إيرادها عليه وأمره بايراده عليها، وذلك يقتضي أن ملاقاة النجاسة إذا كان الماء واردًا عليها غير مفسدٍ له وإلَّا لما حصل المقصود من التطهير. السابع عشر: فيه دليل على أن الماء القليل ينجس بملاقاة النجاسة ووقوعها فيه، فإنه عليه السلام إذا منع من إدخال اليد فيه لاحتمال النجاسة فمع تيقنها أولى، لكن قد يعترض على هذا بأن [مقتضى] (¬2) الحديث: أن ورود النجاسة على الماء تؤثر فيه، ومطلق التأثير بالمنع لا يلزم منه التأثير بالتنجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص المعين، [فإذا] (¬3) سلَّم الخصم أن الماء القليل [ينجس] (¬4) بوقوع النجاسة فيه يكون مكروهًا، [فقد] (¬5) ثبت مطلق التأثير ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجيس، نبه [عليه] (¬6) الشيخ تقي الدين ثم قال: وقد يورد عليه أن الكراهة ثابتة عند [التوهم] (¬7) فلا يلزم أن يكون أثر اليقين هو للكراهة، قال: ويجاب عنه بأنه يثبت عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة. ¬

_ (¬1) في الأصل (نجستها). (¬2) في ب (معنى). (¬3) في الأصل (إذا). (¬4) زيادة من ب ج. (¬5) في ن ب (وقد). (¬6) في ن ب (على ذلك). انظر: إحكام الأحكام (1/ 117). (¬7) في ن ب (أكثرهم).

الثامن عشر: فيه دليل على كراهة غمس اليدين في الإِناء قبل غسلهما ثلاثًا سواءً كان في الإِناء ماء قليل أو طعام أو غيره من الأشياء الرطبة، لكن جاء في رواية ابن حبان: "قبل أن [يدخلهما] (¬1) في وضوئه" (¬2)، وهو يشعر بأن السياق له، نعم الحكم لا يختلف. التاسع عشر: فيه دليل على استحباب التثليث في غسل النجاسة؛ لأنه أمر به في المتوهمة ففي المتحققة أولى. العشرون: [فيه دليل أيضًا على رد ما يقوله أحمد أن الغسل سبعًا عام في جميع النجاسات؛ لتنصيصه عليه السلام في التثليث، والتسبيع خاص في ولوغ الكلب. الحادي والعشرون] (¬3) فيه دليل أيضًا على أن النجاسة المتوهمة يستحب الغسل فيها دون الرش؛ للأمر بالغسل دون الرش، فإنه في بول الرضيع الذي لم يطعم غير اللبن، وفي اللباس ونحوه إذا توسوس فيه. الثاني والعشرون: فيه دليل أيضًا على العفو عن أثر النجاسة في محلها وإذا انتقل منه لم يعف عنه. الثالث والعشرون: فيه أيضًا دلالة على استحباب الأخذ ¬

_ (¬1) في الأصل (يدخلها)، وما أثبت من ن ب ج، وصحيح ابن حبان. (¬2) البخاري (162)، والموطأ (1/ 21)، والشافعي (1/ 27)، وأحمد (2/ 465)، والبيهقي في السنن (1/ 45)، وفي المعرفة (1/ 194)، والبغوي (207)، وابن حبان (1063). (¬3) في ن ب ساقط.

بالاحتياط في العبادات [وغيرها] (¬1) عند الإشتباه والشك ما لم يخرج إلى حد الوسوسة. الرابع والعشرون: قوله عليه السلام: "فليستنشق بمنخريه من الماء". تمسك به من قال بوجوب الاستنشاق وهو رواية عن أحمد، وقال مالك والشافعي وغيرهما بعدم الوجوب، وحملوا الأمر على الاستحباب؛ بدليل حديث الأعرابي السالف فإنه أحاله على الآية وليس مذكورًا فيها، ولأن المأمور به حقيقة إنما هو الانتثار وليس بواجب اتفاقًا (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب (وغيرهما). (¬2) استدلوا على أن الأمر في قوله: (فليستنثر) للندب بما حسنه الترمذي وصححه الحاكم من قوله الأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنثار. قال الحافظ: (وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء فقد أمر الله سبحانه بطاعة نبيه، وهو المبين عن الله أمره. ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وقد ثبت الأمر بها في سنن أبي داود بإسناد صحيح [(143) في الطهارة باب في الاستنثار). اهـ من فتح البارى (1/ 262). وعلى هذا فالراجح في المضمضة والاستنثاق الوجوب في الوضوء والغسل؛ لأنهما من جملة الوجه الذي أمر القرآن بغسله، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا قولًا وفعلًا وفعلهما على المواظبة وداوم عليهما، ولم يحفظ أنه أخل بهما مرة واحدة، كما حكى ذلك عنه اثنان وعشرون نفرًا من أصحابه. وقد ورد الأمر بذلك كما =

الخامس والعشرون: الاستنشاق (¬1) تقدم بيانه في الانتثار. قال القاضي عياض: وهما عندنا سنتان، وقيل: واحدة (أي) لأنهما وسيلتان إلى تطهير عضو واحد. السادس والعشرون: ذهب أحمد وإسحاق وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق في الوضوء والغسل [دون المضمضة، بدليل هذا الحديث، وأكثر العلماء على الندب فيهما، وملخص ما في المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل] (¬2) مذاهب أربعة: أحدها: السنية فيهما، وإليه ذهب مالك والأوزاعي وربيعة الشافعي والجمهور. ثانيها: الوجوب فيهما، وإليه ذهب ابن أبي ليلى وغيره وهو المشهور عن أحمد. ¬

_ = أخرجه الدارقطني رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق. انظر أيضًا: الاستذكار (2/ 11، 12 - 41). (فائدة): المراد بالاستنثار في الوضوء: التنظف؛ لما فيه من المعونة على القراءة، لأن بتنقية مجرى النفس تصحيح مخارج الحروف، ويزاد للمستيقظ بأن ذلك لطرد الشيطان كما ثبت في الحديث الصحيح. (¬1) الاستنثار: دفع الماء من الأنف، والاستنشاق أخذه بريح الأنف. اهـ. الاستذكار (2/ 11). (¬2) زيادة من ب ج. انظر: الاستذكار للاطلاع على أقوال أهل العلم في ذلك (2/ 12، 13).

ثالثها: وجوبهما في الغسل دون الوضوء، وإليه ذهب الكوفيون. رابعها: وجوب الاستنشاق فيهما دون المضمضة، وهو رواية عن أحمد [كما أسلفناه] (¬1)، قال ابن المنذر (¬2): وبه أقول. قال ابن حزم (¬3): وهو الحق؛ لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المضمضة أمر، وإنما هي فعل فعله، وأفعاله ليست فرضًا وإنما [هي] (¬4) فيها التأسي به. وفيما قاله نظر؛ فقد صحَّ الأمر بها على شرطه من حديث لقيط بن صبرة مرفوعًا: "إذا توضأت فمضمض" رواه أبو داود (¬5). السابع والعشرون: قوله عليه السلام: (بمنخريه) هو بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة وبكسرهما جميعًا لغتان معروفتان، وهو نقب الأنف، والكسر على الاتباع، لكسرة الخاء كما قالوا مِنْتِنٌ، وهما نادران كما قال الجوهري؛ لأن مفعلًا ليس من الأبنية، ¬

_ (¬1) في ب ج ساقطة. (¬2) انظر: الأوسط (1/ 379) وقد ذكر هذه الأقوال مفصلة. (¬3) المحلي (2/ 49). (¬4) في ن ب ساقطة، وموجودة في المحلى (2/ 49، 50) (¬5) في السنن (1/ 100)، وقد صحح حديث لقيط: الترمذي والنووي وغيرهما، ولم يأت من أعله بما يقدح فيه. قال ابن حجر رحمنا الله وإياه في الفتح (1/ 262) إسناده صحيح، وفي تلخيص الحبير (1/ 81)، وتحفة الأحوذي (1/ 40). وانظر: ت (3) ص (243) حديث أبي هريرة رضي الله عنه -أي حديث الباب-.

والمنخور لغة في المنخر، قال الشاعر (¬1): من لد لحييه إلى منخوره ومثله فيما كسر للاتباع قولهم: المغيرة (¬2) ورغيف، بكسر أولهما. تنبيه: الاستنشاق لا يكون إلَّا في [المنخرين] (¬3) فما فائدة ذكرهما؟ وليس لقائل أن يقول: إن ذلك من أسباب قوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (¬4)؛ لأن ذلك جاء لدفع المجاز كما قيل، أو كما يقال: فلان يطير في جناحك ونحو ذلك، وقد استغني عن ذكرهما [في الرواية] (¬5) الأخرى وهي: "من توضأ فليستنشق" (¬6). الثامن والعشرون: أنه لا يصير الماء مستعملًا إذا أدخل يده وأراد بذلك غسلها، كذا رأيت هذا الوجه في كتاب "الخصال" لأبي بكر الخفاف من قدماء أصحابنا، فإنه قال: إن حديث "لا يدخل يده في الإناء"، فيه ستة دلائل: التفرقة بين إيراد النجاسة ¬

_ (¬1) هو غيلان بن حريث، البيت كاملًا: "يستوعب البوعين من جريره ... من لد لحييه إلى منخوره" في الأصل (لدن)، والتصحيح من الصحاح (2/ 824). (¬2) في الصحاح (2/ 775). (¬3) في ن ب (الأنف). (¬4) سورة الأنعام: آية 38. (¬5) في ن ب (بالرواية). (¬6) سنن الدارقطنى من رواية ابن عباس، وعائشة (1/ 100). وسكت عنه الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف.

على الماء (¬1) وعكسه، وأن القليل من الماء ينجس، وأنه لا يصير مستعملًا إذا أدخل يده وأراد بذلك غسلها، وأنه على وجه الاستحباب، لقوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده"، وأنه إذا درى أين باتت يده فلا غسل عليه، وأن الأصل إذا لم يكن واجبًا فالأعداد ليست واجبة. هذا ما ذكره ومنه نقلته، وقد منَّ الله وله الحمد بأكثر من ذلك في الحديث المذكور كما قررته لك، ونسأل الله الزيادة من فضله العميم، والنظر إلى وجهه الكريم. ¬

_ (¬1) في ن ب (الماء على النجاسة).

الحديث السابع

الحديث السابع (¬1) 7/ 7/ 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" (¬2). ولمسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" (¬3) الكلام عليه من خمسة عشر وجهًا: ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوطة: (السابع) وعدتها خمسة، ولعله عدَّ رواية عبد الله بن عمرو وعائشة وأبي هريرة ثلاثًا فيكون سبعًا. (¬2) رواه البخاري برقم (239) في الوضوء، أسباب: البول في الماء الدائم، ومسلم برقم (282) في الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، ورواه أيضًا أبو داود برقم (69) و (70) في الطهارة، باب: البول في الماء الراكد، والترمذي برقم (68) في الطهارة، باب: كراهة البول في الماء الراكد، وفي آخره عنده: (ثم يتوضأ منه) بدلًا من (يغتسل)، والنسائي (1/ 49) في الطهارة، أسباب: الماء الدائم، وأحمد في المسند (2/ 346، 362). (¬3) رواه مسلم برقم (283) في الطهارة، باب: النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، ورواه أيضًا النسائى (1/ 197) في الغسل والتيمم.

الأول: هذا النهي حمله مالك على الكراهة؛ لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلَّا بالتغيير (¬1)، وحمله غيره على التحريم تارةً، والتنزيه أخرى، وسيأتي ذلك بعد. الثانى: الدائم: الراكد الساكن، من دام يدوم دَوْمًا إذا سكن، وأدمته: سكنته، يقال للطائر إذا صف جناحيه وسكنها ولم يحركها: قد دوم الطائر يديمًا، وجاء في رواية: "الماء الراكد" رواها ابن ماجه (¬2)، ورواها أحمد أيضًا بزيادة: "ثم يتوضأ منه" (¬3)، وأصله من الاستدارة، وذلك أن أصحاب الهندسة يقولون: إن الماء إذا كان في مكان فإنه يكون مستديرًا في الشكل. قلت: والدائم أيضًا الدائر، قيل: هو من الأضداد (¬4)، ويقال له: دوام بالضم أي دوار وهو من دوران الرأس، قال الجوهري: وتدويم الطير: تحليقه، وهو دورانه في تحليقه (¬5) ليرتفع إلى السماء، وقال بعضهم: تدويم الكلب: إمعانه في الهرب. الثالث: قوله عليه السلام: "الذي لا يجري" فيه قولان: أحدهما: أنه تأكيد لمعنى الدوام وتفسير له، وبه جزم الشيخ ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (2/ 198). (¬2) في السنن (1/ 124). (¬3) في المسند (2/ 288، 532)، وابن حبان (1251). (¬4) انظر: ثلاثة كتب في الأضداد (129). (¬5) في الصحاح (طيرانه) (5/ 1922)، وكذا نقل عنه في لسان العرب (1/ 1037).

تقي (¬1) الدين وغيره، وفي رواية الحاكم في تاريخ نيسابور: "الماء الراكد الدائم". الثاني: أنه للاحتراز من المياه التي تجري بعضها دون بعض كالبرك ونحوها، وأوضح من هذا أن يقال: لا يمتنع أن يطلق على البحار والأنهار الكبار التي لا ينقطع ماؤها أنها دائمة، بمعنى أنها غير منقطع ماؤها، والإجماع [على] (¬2) أنها غير مرادة في هذا الحديث، فيكون قوله: "لا يجري" مخرج لها من حيث وإن يطلق عليها أنها دائمة بالمعنى المذكور، وهذا أولى من حمله على التأكيد [الذي] (¬3) الأصل عدمه، ولأن حمل الكلام على فائدة [جديدة] (¬4) أولى من التأكيد، لا سيما كلام الشارع (¬5)، بل ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 121). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل (جيدة)، والتصحيح من ن ب ج. (¬5) قال الشيخ بكر في معجم المناهي اللفظية في لفظة الشارع (ص 194)، وفي لفظة المشرع (ص 303، 304)، نقلًا عن تاج العروس: أن الشارع في اللغة هو: العالم الرباني المعلم، وقاله ابن الأعرابي، وقال الزبيدي أيضًا في تاج العروس: (ويطلق عليه - صلى الله عليه وسلم - لذلك). وقيل لأنه شرع الدين أي أظهره وبينه، أما في لغة العلم الشرعي فإن هذا المعنى اللغوي لا تجد إطلاقه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في حق عالم من علماء الشريعة المطهرة. فلا يقال لبشر: شارع، ولا مشرع، وفي نصوص الكتاب والسنة إسناد التشريع إلى الله تعالى، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. وفي الحديث أن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: =

[لو] (¬1) لم يأت قوله الذي لا يجري لكان مجملًا بحكم الاشتراك بين الدائم والدائر، فلا يصح العمل على التأكيد. الرابع: أصل الماء: موه، بدليل مُوَيْه وأمواه تصغيرًا وتكبيرًا، فحركنا الواو وانفتح ما قبلها فقلبت الفًا، فاجتمع خفتان الألف والهاء، فقلبت الهاء همزة. والماء ممدود، وحكى ابن سيده عن (¬2) بعضهم (اسقني ما) مقصورًا وهو غريب. الخامس: الألف واللام فى الماء لبيان حقيقة الجنس، ويقال فيهما أيضًا للمح الحقيقة، كما يقال ذلك فى نحو: أكلت الخبز، وشربت الماء، وليست للجنس الشامل، إذ لا ينهى الإنسان عن البول في جميع مياه الأرض إذ النهي إنما يتعلق بالممكن دون المستحيل، ويجوز أن تكون للعهد الذهني. واعلم أن الألف واللام لها تسعة أقسام: الأول: للجنس، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬3). ¬

_ = "إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى" رواه مسلم وغيره، لهذا فإن قصر إسناد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى أخذ في كتب علماء الشريعة على اختلاف فنونهم في صفة التقعيد. فلا نرى إطلاقه على نشر حب التتبع، ولا يلزم من الجواز اللغوى الجواز الاصطلاحي. (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) في المخصص له (9/ 130). قال أبو علي: وحكى الفراء عن الكسائي: اسقني ما -مقصورًا- وقد دفع سيبويه أن يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين. (¬3) سورة العصر: آية 2.

ثانيها: للعهد، نحو قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (¬1). ثالثها: لبيان حقيقة الجنس وللمح الحقيقة كما قدمناه. رابعها: للحضور، نحو "يا أيها الرجل"، و"خرجت هذا الوقت". خامسها: للمح الصفة، كالفضل والحارث. سادسها: بمعنى [الذي] (¬2)، نحو الضارب (¬3) والمضروب، أي الذي ضرب والذي ضُرب. سابعها: للغلبة، كالعقبة. ثامنها: للتزين، في نحو الذي والتي على الصحيح عند النحاة، لا للتعريف، وهي كذلك عند بعض الأصوليين في قولهم: دل الدليل على كذا. تاسعها: زائدة، كقولهم، أدخلوا الأول فالأول، وزيادتها على ضربين: لازمة وغير لازمة، ومحل الخوض في ذلك كتب العربية. السادس: قوله عليه السلام: "ثم يغتسل منه". كذا أخرجه مسلم (¬4). وللبخاري (¬5) "فيه" بدل "منه" ومعناهما مختلف، يفيد كل منهما حكمًا بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط، ولو لم يرد لاستويا لما ستعلمه على الأثر. السابع: النهي عن الاغتسال لا يخص الغسل بل الوضوء، كذلك كما أسلفناه عن رواية الإمام أحمد، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما بلفظ: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم ¬

_ (¬1) سورة المزمل: آية 16. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (الذي). (¬4) في الصحيح (3/ 187) (نووي). (¬5) في الصحيح (1/ 346) (فتح).

يتوضأ منه أو يشرب" (¬1). ولو لم يرد لكان معلومًا قطعًا استواؤها في هذا [الحكم] (¬2) لفهم المعنى المقصود وهو التنزه عن التقرب إلى الله تعالى بالمستقذرات. الثامن: قوله: "ثم يغتسل". الرواية فيه بالرفع كما قاله النووي. وقال القرطبي (¬3) أيضًا: إنه الرواية الصحيحة أي هو يغتسل فيه أي شأنه الاغتسال منه، ومعناه النهي عن البول فيه سواء أراد الاغتسال منه أم لا. وقال ابن مالك (¬4): يجوز جزمه على النهي، ونصبه على [تقدير] (¬5) "أن"، وتكون "ثم" بمعنى [الواو للجمع] (¬6). كقوله: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، أي لا تجمع بينهما. وقال النووي: الجزم ظاهر، وأما النصب فلا يجوز؛ لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما ولم يقله أحد، بل ¬

_ (¬1) صحيح ابن خزيمة (1/ 50)، وابن حبان (1256)، شرح معاني الآثار (1/ 14)، وفي تلخيص الحبير ذكر الروايات بألفاظها (1/ 105). (¬2) في ن ب (الفعل). (¬3) المفهم (2/ 638). (¬4) هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك، ولد سنة ستمائة، وكانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وستمائة. اهـ. من ترجمة في شواهد الإيضاح (164). (¬5) في الأصل (التقدير)، والتصحيح من ن ب. انظر: فتح الباري (1/ 347). (¬6) في شواهد الإيضاح (164) (واو الجمع).

البول (¬1) منهي عنه سواء اراد الاغتسال فيه أو منه أو لا (¬2). أي والاغتسال فيه منهي عنه على انفراده وهذا التعليل الذي علل به النصب ضعيف؛ لأنه ليس فيه أكثر من كون هذا الحديث لا يتناول النهي عن البول في الماء الراكد بمفرده، وليس [بألزم] (¬3) أن يدل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد فيؤخذ النهي عن الجميع من هذا الحديث، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر، ومثل هذا الحديث على القول بجواز النصب قوله تعالي: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} (¬4) على أحد الوجهين وهو النصب لا الجزم، فإن النهي في الآية أيضًا عن شيئين: أحدهما: لبس الحق بالباطل وهو زيادتهم في التوراة ما ليس فيها. والثاني: كتمان الحق وهو جحدهم ما فيها من نعوته عليه السلام وغير ذلك، حتى يقال في الآية أيضًا على وجه النصب: إنه يؤخذ منها النهي عن الجمع ويؤخذ النهي عن الإِفراد من دليل آخر، وقد صرح بذلك ابن يعيش (¬5) في (شرح المفصل) (¬6)، قال: وجرت ¬

_ (¬1) في النووي (3/ 187) زيادة (منه). (¬2) إلى هنا ينتهي كلام النووي. (¬3) في ن ب (يلزم). (¬4) سورة البقرة: آية 42. (¬5) يعيش بن علي بن يعيش وكان يعرف بابن الصائغ، ولد سنة 553 بحلب، توفي 643 هـ من كبار أئمة العربية صنف "شرح المفصل" و"شرح تصريف ابن جني". "بغية الوعاة" (2/ 351). (¬6) شرح المفصل (7/ 33).

هذه المسألة يومًا في مجلس قاضي القضاة بحلب، فقال أبو الحزم الموصلي: لا يجوز النصب في الآية؛ لأنه لو كان منصوبًا لكان من قبيل لا تأكل السمك وتشرب اللبن. [وكان مثله في الحكم يجوز تناول كل واحد منهما كما يجوز ذلك في: لا تأكل السمك وتشرب اللبن] (¬1) فقلت: يجوز أن يكون منصوبًا ويكون النهي عن الجمع بينهما [و] (¬2) كون كل واحد منهيًا عنه بدليل آخر، ونحن إنما قلنا في قولهم "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" إنه يجوز تناول كل واحد منهما مفردًا؛ لأنه لا دليل إلَّا هذا، ولو قدرنا دليلًا آخر للنهي عن كل واحد منهما مفردًا لكان كالآية، فانقطع الكلام عند ذلك. واعلم أن القرطبي (¬3) في (المفهم) (¬4) منع رواية النصب أيضًا في هذا الحديث فقال: لا يجوز النصب، إذ لا ينصب بإضمار "أن" بعد "ثم"، وهي الجزم الذي ادَّعى النووي ظهوره، فقال: وبعض الناس قيّده بالجزم على العطف [على] (¬5) (يبولن)، وليس بشيء، إذ لو أراد ذلك لقال: "ثم لا يغتسلنَّ"، لأنه إذ ذاك عطف فعل [على ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أحمد بن عمر بن إبراهيم أبو العباس الأنصاري القرطبي، فقيه مالكي من رجال الحديث كان مدرسًا بالإِسكندرية وتوفي بها، ومولده بقرطبة 578، وفاته 656. من كتبه المفهم شرح مختصر مسلم، ومختصر الصحيحين. الأعلام للزركلي (1/ 179). (¬4) المفهم (2/ 648)، والفتح (1/ 347) مع تعقب ابن حجر له. (¬5) زيادة من ن ب ج.

فعل] (¬1) لا عطف جملة على جملة، وحينئذٍ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عهما، وتأكيدهما بالنون المشددة، فإن المحل الذي تواردا عليه هو شيء واحد، [و] (¬2) هو الماء، [فعدوله] (¬3) عن ثم [لا يغتسل] (¬4) دليل على أنه لم [يرد] (¬5) العطف، وإنما جاء "ثم يغتسل" على التنبيه على الحال، ومعناه: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله؛ لما أوقع فيه من البول، وهذا مثل قوله عليه السلام: "لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجحها" (¬6) برفع يضاجعها، ولم [يروه] (¬7) أحد [بالجزم] (¬8) ولا تخيله [فيه] (¬9)؛ لأن المفهوم منه إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاج إلى مضاجعتها في ثاني [حال] (¬10) فيمتنع عليه بما أساء من معاشرتها ويتعذر عليه المقصود لأجل الضرب، وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها، وثم هو يغتسل .. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (وعدوله). (¬4) فى الأصل (يغتسل)، والتصويب من ن ب ج. (¬5) في ن ب (لمجرد). (¬6) متفق عليه، في البخاري (9/ 302) (فتح)، وفي مسلم (17/ 188) (نووي). (¬7) في ن ج (يره). (¬8) في ن ب (بالجمع). (¬9) في ن ب ساقطة. (¬10) في ن ب (الحال).

فائدة أصولية (¬1): النهي المعلق بعدد تارةً يكون عن الجمع، أي الهيئة الاجتماعية دون المفردات على سبيل الانفراد، كالنهي عن نكاح الأختين، وتارةً يكون عن الجمع أي عن كل واحد (¬2)؛ كالزنى والسرقة، وهذا الحديث يحتمل أن يكون من الأول وأن يكون من الثاني كما أسلفنا. ورواية أبي داود (¬3) والدارقطني (¬4) وابن حبان: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل [فيه] (¬5) من الجنابة" ظاهرة في الثاني، وهذه الرواية تقتضي عموم النهي في القليل والكثير؛ لكن في الكثير للتنزيه، وأما القليل فستعلم ما فيه، وعبَّر بعضهم عن هذه القاعدة بعبارة أخرى، فقال: النهي [عن] (¬6) شيئين: تارةً يكون على الجمع وتارةً يكون عن الجمع، فأما الأول: فيقتضي المنع من كل واحد، وأما الثاني: فمعناه المنع من فعلهما معًا، قال: وهذا الحديث من الثاني أي لا يجمع بين البول في الماء والاغتسال منه، يؤيده الرواية المذكورة. التاسع: هذا النهي في بعض المياه للتحريم وفي بعضها ¬

_ (¬1) انظر: المحصول (2/ 507). (¬2) في ن ب زيادة (أبي). (¬3) في سنن أبي داود (1/ 57). (¬4) السنن (1/ 52)، وقال: إسناده صحيح، ابن حبان (1257)، والبغوي (285). (¬5) في ن ب (منه). (¬6) في ن ب ساقطة.

للتنزيه، ويؤخذ ذلك من حكم المسألة، فإن كان الماء كثيرًا جاريًا لم يحرم البول فيه؛ لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه، وإن كان قليلًا جاريًا، فقال جماعة من أصحابنا: [يكره] (¬1)، والمختار [كما] (¬2) نبه عليه النووي (¬3) أنه [يحرم] (¬4)؛ لأنه [يقذره] (¬5) وينجسه (¬6)، [و] (¬7) إن كان قليلًا راكدًا [فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه] (¬8)، [والصواب المختار كما نبه عليه النووي التحريم، لأنه ينجسه ويغر غيره باستعماله] (¬9)، وإن كان كثيرًا راكدًا فقال أصحابنا يكره، ولو قيل: يحرم، لم يبعد؛ فإن النهي يقتضي التحريم على المختار عند المحققين والأكثرين من الأصوليين، فالمختار في هذه المسألة: التحريم في القليل وإن لم يتغير جاريًا كان أو راكدًا، والكراهة في الكثير البخاري إن لم يتغير، فإن تغير حرم، وفي الكثير الراكد ما أسلفته لك. فرع: الكراهة في البول الراكد ليلًا أقوى؛ لأنه قيل: إن ¬

_ (¬1) في ن ب (مكروه). (¬2) في ن ب (ما). (¬3) شرح مسلم (3/ 187). (¬4) في ن ب (أنه التحريم). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب زيادة (ويغرّ غيره باستعماله). (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) عبارة ن ب (فقال أصحابنا: يكره). (¬9) كأن في العبارة تكرار وهو كثير موجود في ن ب ج.

الماء بالليل للجِنِّ، فلا ينبغي أن يبال فيه ولا يغتسل خوفًا من أن يصاب من جهتهم (¬1). فرع: التغوط في الماء كالبول فيه وأقبح، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه فيه، خلافًا للظاهرية [فيهما] (¬2) كما ستعلمه بعد (¬3). فرع: يكره البول والتغوط بقرب الماء وإن لم يصل إليه؛ لعموم النهي عن البراز في الموارد. فرع: انغماس المستنجي في القليل حرام لتنجسه، فإن كان كثيرًا جاريًا فلا، وكذا إن كان راكدًا فلا يكره؛ لأنه ليس في معنى البول ولا يقاربه، ولو تركه فحسن، قاله النووي في شرح مسلم (¬4). العاشر: يقتضي الحديث تحريم البول في الراكد مطلقًا كما قررناه، وبه استدلَّ أبو حنيفة على تنجيس الغدير الذي يتحرك طرفه بتحرك الآخر [بوقوع] (¬5) النجاسة فيه، فإن الصيغة عموم، وهو عند الشافعية وغيرهم مخصوص، والنهي محمول على ما دون القلتين وعدم تنجيس القلتين، (فما) (¬6) زاد إلَّا بالتغير مأخوذ من حديث القلتين وهو حديث صحيح كما شهد له بذلك الأئمة كابن معين وابن ¬

_ (¬1) لم يورد عليها -رحمنا الله وإياه- دليلًا. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: المجموع شرح المهذب (1/ 119). (¬4) مسلم (3/ 188). (¬5) في الأصل (ووقوع)، والتصويب من ب ج. (¬6) في ن ب (وما).

خزيمة وابن حبان والحاكم (¬1) وغيرهم؛ جمعًا بين الحديثين، فحديث القلتين خاص وهذا الحديث مقتضاه العموم، والخاص مقدم على العام. ولأحمد رحمه الله طريقة أخرى وهي الفرق بين بول الآدمي: [وما في معناه من العذرة المائعة وغير ذلك من النجاسات، فأما بول الآدمي] (¬2) وما في معناه فينجس الماء، وإن كان أكثر من قلتين، ما لم يكثر كالمصانع التي بطريق مكة، وأما غيره من النجاسات فتعتبر فيه القلتان، وكأنه رأى أن الخبث المذكور في حديث القلتين عام بالنسبة إلى الأنجاس وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي، فيقدم الخاص على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير، ويخرج بول الآدمي وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين؛ لخصوصية تنجيس الماء دون غيره من النجاسات، ويلحق بالبول المنصوص [عليه] (¬3) ما يعلم أنه في معناه. ¬

_ (¬1) أبو داود في الطهارة (63)، أسباب: ما ينجس الماء، والنسائي (1/ 46)، والمنتقى لابن الجارود (45)، والدارقطني (1/ 14، 15)، والبيهقي (1/ 260، 261)، والترمذي (67)، وابن ماجه (517)، وأحمد (2/ 3)، وصححه ابن خزيمة (92)، والحاكم (1/ 133)، وأحمد شاكر في الترمذي (991)، وتلخيص الحبير (1/ 16، 20)، ونصب الراية (1/ 104، 111). (¬2) في ن ج ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة.

ومالك رحمه الله حمل النهي على الكراهة للتنزيه مطلقًا؛ لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلَّا بالتغير بالنجاسة كما هو مذهب بعض الصحابة والأوزاعي وداود، وقول لأحمد نصره بعض المتأخرين من أتباعه، واختاره الروياني من أصحابنا، [فخرج] (¬1) الحديث عن الظاهر عند الكل بالتخصيص أو التقييد؛ للإِجماع على أن الماء الكثير المستبحر [لا تؤثر فيه النجاسة، وأنه إذا غيرته النجاسة ولو كان يسيرًا امتنع استعماله، ولأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا: خرج عنه المسبحر الكثير] (¬2) بالإجماع فيبقى فيما عداه على حكم النص؛ فيدخل تحته ما زاد على القلتين. ولأصحاب الشافعي أن يقولوا يقول أبي حنيفة في خروج المستبحر بالإِجماع [ويخرج] (¬3) القلتان فما زاد بمقتضى حديث القلتين، فيبقى ما نقص عنهما داخلًا تحت مقتضى الحديث. ولأصحاب أحمد أن يقولوا: خرج ما ذكرتموه، وما دون القلتين داخل تحت نص الحديث، وما زاد عليهما عام في الأنجاس فيخصص ببول الآدمي، ولمخالفهم أن يقول: معلوم جزمًا أن النهي إنما هو [لمعنى] (¬4) النجاسة وعدم التقرب إلى الله تعالى بما خالطها؛ وهذا المعنى يتجه فيه سائر الأنجاس [فلا] (¬5) يتجه فرق بين بول ¬

_ (¬1) في ن ب (وخرج). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (فيخرج). (¬4) في ن ب (بمعنى). (¬5) في ن ب (ولا).

الآدمي وغيره في هذا المعنى، ولا يقال: إن بول الآدمي أشد استقذارًا من غيره من سائر النجاسات فيكون أوقع وأنسب في المنع، فإنه ليس كذلك بل قد يساوي غيره أو يرجح عليه غيره في الاستقذار والنفرة منه، فلا يبقى لتخصيصه معنى في المنع دون غيره، فحينئذٍ يحمل الحديث على أنه ورد من باب: [التنبيه] (¬1) على ما يشاركه في معناه من الاستقذار، واذا وضح المعنى شمل الكل، والجمود عل خلافه، ظاهرية محضة. وللمالكية أن يقولوا: وجب إعمال الحديث فيما يمكن إعماله فيه من كراهة التنزيه في القليل والكثير، مع وجود الإِجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول، وذلك [يلقيك] (¬2) إلى مسألة أصولية: وهي جواز حمل اللفظ [الواحد] (¬3) على معنيين مختلفين، فإذا جعلنا النهي للتحريم كان استعماله في كراهة التنزيه والتحريم من باب استعمال اللفظ الواحد في حقيقته [ومجازه] (¬4)، والأكثرون -كما نقله الشيخ تقي الدين- على منعه، والشافعي وغيره يقولون بجوازه، وقد يقال: حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، وهو ظاهر، إلَّا أنه يلزم [منه] (¬5) تخصيص الحديث بمجرده ولا بدَّ في الحديث من التخصيص كما أسلفناه. ¬

_ (¬1) في ن ب (التشبيه). (¬2) في ن ب ج (يلتفت على). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب ج، وفي إحكام الأحكام (1/ 130). (¬5) في ن ب ساقطة.

[الحادي عشر] (¬1): ارتكبت الظاهرية الجامدة [ههنا] (¬2) مذهبًا شنيعًا واخترعوا في الدين أمرًا فظيعًا، منهم ابن حزم القائل: إن كل ماء راكد قل أو كثر من [البرك] (¬3) العظام وغيرها بال فيه إنسان لا يحل لذلك البائل خاصة، الوضوء منه ولا الغسل، إن لم يجد غيره، وفرضه التيمم، وجائز لغيره الوضوء منه والغسل وهو [طاهر] (¬4) [مطهر] (¬5) لغير الذي بال فيه، قال: ولو تغوط فيه أو بال خارجًا منه [فسال] (¬6) البول إلى الماء الراكد، أو بال في إناء وصبه في ذلك الماء ولم يغير له صفة: فالوضوء منه والغسل جائز لذلك المتغوط فيه والذي سال بوله [ولغيره] (¬7). وهذا [مما] (¬8) يعلم بطلانه قطعًا [واستشباعه] (¬9) واستشناعه عقلًا وشرعًا لا جرم أخرجهم بعض الناس من أهلية الاجتهاد ومن اعتبار الخلاف في الإجماع، بل من العلم [مطلقلًا] (¬10)، ووجه بطلان ما ادعوه -وهو من أجمد ما لهم- استواء الأمرين في الحصول في الماء وأن ¬

_ (¬1) في الأصل (الخامس عشر)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) في الأصل (فيها)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) في ن ب (برك). (¬4) في الأصل (مطاهر)، والتصحيح من ن ب ج. (¬5) ساقطة من الأصل، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) في ن ب (وسال). (¬7) في ن ب (وغيره). (¬8) في ن ب (ما). (¬9) في الأصل الكلمة مكررة. (¬10) في ن ب الكلمة مبتورة (مطقًا).

المقصود اجتاب ما وقعت فيه النجاسة من الماء، وليس هذا من محال الظنون، بل هو مقطوع به، وما أحسن كلام الحافظ [أبي] (¬1) بكر [بن] (¬2) مُفَوَّز (¬3) في تشنيعه على ابن حزم، حيث قال بعد حكاية كلامه: (تأمل أكرمك الله ما جمع في هذا القول من السخف وحوى من الشناعة، ثم يزعم أنه الدين الذي شرعه الله تعالى وبعث به رسوله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬4)، واعلم أكرمك الله أن هذا الأصل الذميم مربوط على ما أقول، ومخصوص على ما أُمثل: أن البائل على الماء الكثير ولو نقطة أو جزء من نقطة فحرام عليه الوضوء منه، وإن تغوط فيه حملًا أو جمع بوله في إناء شهرًا ثم صبه فيه فلم يغير له صفة جاز له الوضوء منه، فأجاز له الوضوء [منه] (¬5) بعد حمل [غائط] (¬6) أنزله به أو صب من [بول] (¬7) صبه فيه، وحرمه عليه لنقطة بول بالها فيه، جل الله تعالى عن قوله وكرَّم دينه عن إفكه). ¬

_ (¬1) في ن ب (أبو). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) هو الحافظ البارع المجود، أبو بكر محمد بن حيدرة بن مفوز بن أحمد المعافري، ولد عام موت ابن عند البر سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وتوفي سنة خمس وخمسمائة. ترجمته: الصلة (2/ 567)، وطبقات الحفاظ (456)، وسير أعلام النبلاء (19/ 421). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة، وموجودة في إحكام الأحكام. (¬6) في إحكام الأحكام "من الغائط". (¬7) في إحكام الأحكام بوله الذي أقول: انظر: الحاشية فإن فيها مبحث مفيد (1/ 132، 133).

الثاني عشر: يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلًا كان أو كثيرًا، وكذا العين الجارية، كما نص عليه البويطي، ولفظه: أكره للجنب أن يغتسل في البئر معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد وسواءً قليل الراكد وكثيره، أكره الاغتسال فيه. انتهى. وهذا كله على كراهة التنزيه لا [التحريم] (¬1). فرع: في حكم الماء الذي انغمس فيه الجنب بعد إنفصاله منع، وفيه تفصيل: فإن كان قلتين فصاعدًا لم يَصِرْ مستعملًا، سواء اغتسل فيه واحد فيكرر، أو جماعات في أوقات، وإن كان دون [قلتين] (¬2) فإن نوى [تحته] (¬3) ارتفعت جنابته وصار مستعملًا في حق غيره على الصحيح، وقيل: لا، حتى ينفصل (¬4)، وفيه إشكال للرافعي، وإن نوى قبل تمام الانغماس ارتفعت جنابة الجزء الملاقي قطعًا، ولا يصير الماء مستعملًا بل له أن يتم الانغماس ويرتفع عن الباقي على الصحيح، والمسألة مبسوطة في شرح المنهاج وغيره فليراجع. الثالث عشر: استدل بعض الشافعية بالرواية الثانية التي ذكرها المصنف على خروج المستعمل عن التطهير به، إما لنجاسته كما نقل عن أبي حنيفة ونقل عنه الرجوع عن ذلك، وإما لعدم طهوريته ¬

_ (¬1) في ن ب (التحريم). (¬2) في ن ب (القلتين). (¬3) أي وهو تحت الماء. (¬4) في ن ب ج زيادة (أما في حق نفسه فحتى ينفصل).

وهو القول الجديد للشافعي؛ لأن النهي وارد على مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده، وهي خروجه عن كونه أهلًا للتطهير، ومع هذا فلا بدَّ من التخصيص فإن الماء [الكثير] (¬1)، أما القلتين فما زاد على مذهب الشافعى، أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة: لا يؤثر فيه الاستعمال. ومالك رحمه الله لما رأى أن الماء المستعمل طهور غير أنه مكروه حمل هذا النهي على الكراهة، وقد يرجحه أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص بالتطهير، والحديث عام في النهي، فإذا حمل على التحريم لمفسدة خروج الماء عن طهوريته لم يناسب ذلك؛ لأن بعض مصالح الماء يبقى بعد كونه خارجًا عن الطهورية، وإذا حمل على الكراهة كانت المفسدة عامة؛ لأنَّ الماء يستقذر بعد الاغتسال فيه، وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في طهارة أو شرب، فيستمر النهي بالنسبة إلى المفاسد المتوقعة، إلَّا أن فيه حمل اللفظ على المجاز، أعني حمل النهي على الكراهة، فإنه حقيقة في التحريم، [وما أسلفناه] (¬2) عن [مالك] (¬3) هو المشهور من مذهبه، وكرهه لأجل اختلاف العلماء [فيه] (¬4) أو لشبهه بالماء المضاف، وإن كانت الإضافة لا تغيره إذ الأعضاء في [الأغلب] (¬5) لا تخلو عن ¬

_ (¬1) في ن ب (القليل)، والصواب كما في الأصل، وتوافقه ج. (¬2) في ن ب (كما اسلفناه). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) ساقطة من ن ب. (¬5) في ن ب (الغالب).

الأعراق والأوساخ، لا سيما أعضاء الوضوء؛ لأنها بارزة للغبار غالبًا فتخالط الماء. وقال أصبغ: إنه غير طهور، كقول الشافعي (¬1) الجديد، وقيل: مشكوك فيه، فيتوضأ به ويتيمم. وما أسلفناه عن أبي حنيفة هو إحدى الروايتين عنه، فقيل: إنه نجس نجاسة مخففة، وقيل: مغلظة، إلَّا أنه يقول على هذا أن [ما يترشرش] (¬2) منه على الثوب وما يعلق بالمنديل عند التنشف من بلله طاهر، وإنما يحكم بنجاسته عند استقراره متصلا إلى الأرض [و] (¬3) إلى الإِناء. والرواية الثانية: أنه طاهر غير مطهر، والخلاف عند أحمد أيضًا في طهارته وطهوريته فقط. الرابع عشر: مادة الجنابة: البعد، هذا أصلها في اللغة. وهي في عرف حملة الشرع: تطلق على إنزال الماء والتقاء الختانين أو ما يترتب على ذلك. قال الراغب في مفرداته (¬4): وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬5)، أي أصابتكم الجنابة [وذلك] (¬6) بإنزال الماء أو بالتقاء ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (في). (¬2) في الأصل (ما يترشش)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في ن ب مكررة. (¬4) من 99. (¬5) سورة المائدة آية 6. (¬6) زيادة من ن ب.

الختانين، قال: وسميت الجنابة بذلك [لكونها] (¬1) سببًا [لتجنب] (¬2) الصلاة في محكم الشرع أي والقرآن. قلت: [ولما] (¬3) بعد عنهما أمر بالإِبعاد عن الماء الدائم؛ لئلا يقذره [كما] (¬4) يقذره البول، ويقال للرجل: جنب، وللمرأة وللاثنين والجمع كله بلفظ واحد، قال تعالى: {كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬5)، وسيكون لنا عودة إلى ذلك أيضًا في أسباب الجنابة. الخامس عشر: يؤخذ من الحديث أن حكم البخاري يخالف حكم الراكد؛ لأن الشيء إذا ذكر بأخص أوصافه كان حكم ما عداه بخلافه، والمعنى فيه أن الجاري إذا خالطه النجس دفعه الجزء الثاني الذي يتلوه منه، فيغلبه فيصير في معنى المستهلك الذي لم يخالطه النجس، والماء الراكد القليل لا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه، لكن يداخله [فمهما] (¬6) أراد استعمال شيء منه كان النجس فيه قائمًا والماء في حد القلة، وهذا يقوي ما أسلفناه [في] (¬7) تحريم البول فيه. ¬

_ (¬1) في ن ب (لأنها). (¬2) في ن ب (للتجنب). (¬3) في الأصل (ما)، والتصويب من ب ج. (¬4) في الأصل (ما)، والتصويب من ن ب ج. (¬5) سورة المائدة: آية 6. (¬6) في ن ب (ومهما). (¬7) في ن ب (من).

الحديث الثامن والتاسع

الحديث الثامن والتاسع 8، 9/ 8، 9/ 1 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا" (¬2). ولمسلم: "أولاهن بالتراب" (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) رواية أبي هريرة أخرجها البخاري (172)، ومسلم (279)، ومالك (1/ 34)، والشافعي في المسند (1/ 21)، والنسائي (1/ 52)، وابن ماجه (364)، وأبو عوانة (1/ 207)، وابن الجارود (50)، والبغوي في السنة (288)، والبيهقي (1/ 240)، والدارقطني (1/ 65)، وعبد الرزاق (335)، وابن خزيمة (96)، وأحمد (2/ 245، 271، 360، 398، 460، 482)، وابن حبان (1294، 1295، 1296، 1297). (¬3) مسلم (280)، والنسائي (1/ 54، 177)، وابن أبي شيبه (1/ 174)، وأبو داود (74)، وابن ماجه (365)، والدارمي (1/ 188)، والدارقطني (1/ 65)، وأبو عوانة (1/ 208)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 23)، والبغوي (11/ 27)، والبيهقي في السنن (1/ 241، 242)، وأحمد (4/ 86، 5/ 56)، وابن حبان (1298).

وله [من] (¬1) حديث عبد الله بن مغفل (¬2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ (¬3) الكلب في الإناء فاغسلوه سبعًا وعفّروه الثامنة بالتراب". الكلام عليهما من أربعة وعشرين وجهًا: الأول: في التعريف بمن رواهما: أما أبو هريرة: فتقدم في الحديث الثاني. وأما عبد الله: فهو ابن مغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة ثم فاء مشددة، ويقال: المغفل بالألف واللام، ذكره مسلم في صحيحه (¬4)، ابن عبد نهم (¬5) بن عفيف، أبو زياد، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو عبد الرحمن المزني من مزينة مضر، من ¬

_ (¬1) في النسخ (في)، وما أثبت من العمدة. (¬2) وقوله "وله من حديث عبد الله بن مغفل" صريح في انفراد مسلم بهذه الرواية، ووهم ابن الجوزي في كتاب "التحقيق" (1/ 73)، كتاب الطهارة، ح (56) انفرد بها البخاري، وهو سبق قلم. اهـ. وقد قلده ابن عبد الهادي رحمهم الله في ذلك في كتابه "التنقيح" على التحقيق، نبه عليه الزركشي في كتابه "تصحيح العمدة". وسيأتي للمؤلف هذا الاستدراك فتنبه في الوجه السابع عشر، وبعدها، فائدة. (¬3) في تصحيح العمدة: "إذا لغلب" ثم ساق الألفاظ، وبعدها: كذا رأيته في نشرة عليها خط المصنف، وإنما رواه البخاري بلفظ "شرب"، ورواه مسلم أيضًا وروى "ولغ" وهذا الذي يعرفه أهل اللغة. (¬4) مسلم (280) عبد الباقي. (¬5) في الإِصابة (4/ 132) ذكر: ابن عبد غنم أولًا، ثم: قيل: ابن عبد نهم. وفي التقريب (1/ 453) ابن عبيد بن نَهْم.

أصحاب الشجرة، نزل البصرة، روى [عنه الحسن] (¬1) وجماعة، قال الحسن: كان أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلينا يفقهون الناس، وهو أول من دخل تَسْتُر حِينَ فتحت، وهو أحد البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالي: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ} (¬2) الآية. أمه: [عبلة] (¬3) بنت معاوية، من مزينة. ووالده صحابي، قاله أبو عمر، مات [بطريق مكة] (¬4) قبل أن يدخلها سنة ثمان عام الفتح قبل الفتح بقليل، قال: ومغفل هو أخو عبد الله ذي البجادين، ولعم عبد الله بن مغفل: خزاعي بن عبد نهم صحبة أيضًا. روي لعبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حدثًا، اتفقا منها على أربعة، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر. مات ستة ست وخمسين، قاله أبو عمر، وقال ابن حبان: سنة تسع، في ولاية عبيد الله بن زياد، قال: ويقال: سنة إحدى وستين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي بوصية منه، وأن لا يصلي عليه عبيد الله بن زياد، وقيل: صلى عليه عائذ بن عمر (¬5)، وحكاه ابن حبان. ¬

_ (¬1) في ن ب ج ساقطة. (¬2) سورة التوبة: آية 91. (¬3) في ن ب (غسلت)، والتصويب من ن ج. (¬4) في ن ب (بمكة). (¬5) كذا في الطبقات لابن سعد (7/ 13). انظر أيضًا: الثقات لابن حبان (3/ 236).

فائدة: مغفل والد عبد الله بفتح الغين المعجمة كما سلف، وهو من الأفراد [يشتبه] (¬1) بمغفل بإسكانها، وهو حبيب بن غفل (¬2) صحابي فرد أيضًا، [ويشتبه بمعقل بإسكان العين المهملة وبقاف، وهم عدة منهم عبد الله بن معقل (¬3) الذي ذكره المصنف في أسباب الفدية] (¬4) ويشتبه (¬5) بمعقل بفتح القاف والعين المهملة وهو والد عبد الله في [العرب] (¬6). "فائدة ثانية": يقال في الصحابي ابن الصحابي: رضي الله عنهما، قراءة وكتابة، فتنبه له، وعبد الله بن مغفل من هذا القسم وجماعة، فتنبه لذلك. الثاني: يقال: شرب الكلب وولغ (¬7)، والظاهر تغايرهما. ¬

_ (¬1) في ن ب (شيبة). (¬2) هبيب بن مغفل الغفاري -كذا ذكره في المسند وهو يخالف ما ذكره المؤلف- كان بالحبشة وأسلم وهاجر. اهـ. من تعجيل المنفعة (429) له رواية في مسند الإمام (3/ 437)، (4/ 237) حيث ذكر في الموضع الأول هبيب بن عقل بالعين المهملة والقاف فيصحح؛ لأنه ذكر في الموضع الثاني صحيحًا مع ذكر نفس الأحاديث بأسانيدها ومتونها، ويعتبر اسم الصحابي من الأفراد كما ذكر المؤلف. (¬3) ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب (6/ 41) وليس له صحبة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (شبيه). (¬6) كذا في النسخ، ولعله (القرب). (¬7) في ن ب زيادة (الكلب).

وقال صاحب المطالع: الشرب أعم من الولوغ، فكل ولوغ شرب ولا عكس. ونقل النووي (¬1) عن أهل اللغة أنه يقال: ولغ الكلب في إلاناء يلغ -بفتح اللام فيهما- ولوغًا، إذا شرب بطرف لسانه. وفي الصحاح عن أبي زيد: ولغ [الكلب] (¬2) بشرابنا [وفي شرابنا] (¬3) ومن شرابنا. وقال ثعلب (¬4): ولغ الكلب في الإِناء يلغ، وَيُولَغُ إذا أولغه صاحبه، والولوغ من الكلاب والسباع كلها هو أنه يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع [فيحركه فيه] (¬5)، قال المطرز: قليلًا كان التحريك أو كثيرًا. قال مكي؛ فإن كان غير مائع قيل: لَعِقَهُ ولَحسه. قال المطرز (¬6): فإن كان الإناء فارغًا يقال: لحس، فإن كان ¬

_ (¬1) شرح مسلم (3/ 184). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب ج، وهي مذكورة في الصحاح (4/ 329)، وفي لسان العرب (1/ 982). (¬4) انظر: التلويح شرح الفصيح (5). (¬5) زيادة من ن ب ج. (¬6) هو أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن هاشم الزاهد المطرز غلام ثعلب. توفي ستة (345). ترجمته في الوفيات (4/ 329)، وبغية الوعاة (1/ 164).

فيه شيء قيل: وَلَغ. وقال ابن دَرَستُويه (¬1): معنى ولغ: لَطَعَه بلسانه، شرب فيه أولم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن. قال المطرز: ولا يقال: ولغ شيء من جوارحه سوى لسانه. قلت: ولا يكون الولوغ لشيء من الطير إلَّا للذباب. وقال ابن جني: في شرح المتنبي (¬2): أصل الولوغ: شرب السباع بألسنتها الماء، ثم كثر فصار الشرب مطلقًا. وذكر المطرز عن ثعلب أنه يقال: وَلِغ بكسر اللام، ولكنها لغة غير فصيحة، وسكن بعضهم اللام فقال: وَلْغ، حكاه أبو حاتم السِجِسْتاني، قال ابن جني: ومستقبله يلَغ بفتح اللام وكسرها، وفي مستقبل ولِغَ بالكسر يَلَغُ بالفتح، زاد ابن القطاع الكسر أيضًا كما في الماضي. الثالث: قال ابن عبد البر (¬3): مالك يقول في هذا الحديث: "إذا شرب"، وغيره من الرواة يقولون: "إذا ولغ" وهذا الذي تعرفه أهل الغة، وكذا استغرب هذه اللفظة الحافظان: الإِسماعيلي وابن منده. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن جعفر أبو محمد الفارسي النحوي له مؤلفات منها "غريب الحديث" و"شرح الفصيح و"كتاب الأزمنة" و "الاشتقاق" و"الرد على المفضل في الرد على الخليل" وغيرها. توفي سنة (347). ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 531). (¬2) قد ذكر محقق كتاب الخصائص لابن جني بأنه شرح ديوان المتنبي بشرحين الكبير والصغير، والأخير هو الباقي لنا (22) من المقدمة. (¬3) الاستذكار (1/ 258)، (2/ 207). وانظر كلام المعلق عليه.

ولم ينفرد مالك بها فقد تابعه (¬1) عليها المغيرة (¬2) بن عبد الرحمن، وورقاء بن عمر (¬3) عن أبي الزناد، روى الأول أبو الشيخ الحافظ (¬4)، والثاني أبو بكر الجوزقي (¬5) في "كتابه". ورواه هشام بن حسان (¬6) عن محمد بن سيرين (¬7) عن أبي هريرة وفيه أيضًا: "إذا شرب". وقد اختلف على مالك في لفظ "الشرب" و"الولوغ". قال الشيخ تقي الدين في [الإِمام] (¬8): والمشهور عنه ما قال أبو عمر. ¬

_ (¬1) انظر: تخريج هذه المتابعات في تلخيص الحبير (1/ 23)، وكذا فتح الباري (1/ 274، 275)، ونصب الراية (1/ 132). (¬2) هو ابن عبد الله بن خالد بن حزام الحزامي، المدني، لقبه قصي، ثقة، له غرائب. التقريب (2/ 269). (¬3) اليشكري الكوفي نزيل المدائن أبو بشر، صدوق. التقريب (2/ 330). (¬4) هو الإِمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ. التذكرة (3/ 945). (¬5) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني توفي رحمه الله سنة (388). التذكرة: (3/ 1013). (¬6) أبو عبد الله الأزدي القردوسي البصري، ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال، لأنه قيل: كان يرسل عنهما، من السادسة. التقريب (2/ 318). (¬7) أبو بكر بن أبي عمرة الأنصاري ثقة ثبت عابد، مات ستة (110 هـ). التقريب (2/ 169). (¬8) في ن ج (الإِلمام)، وما أثبت من الأصل وب والبدر المنير (2/ 324)، وكذا في نصب الراية (1/ 132) (الإِمام).

قلت: والإِسماعيلي (¬1) نفسه رواها من طريق مالك بلفظ: "إذا ولغ" فقد رد بنفسه على نفسه. الرابع: الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب أو شرب ظاهر في تنجيس الماء، وأقوى من هذا [في] (¬2) الدلالة على ذلك الرواية الثانية: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" (¬3) والمصنف ذكر منها القطعة الأخيرة فإن لفظة (طهور) تُستَعمل إما عن حدثٍ أوخَبث، ولا حدث على الإِناء [بالضرورة] (¬4) فتعين الخَبثُ، وفي هذا شيء سيعرف في التيمم إن شاء الله، ويبعد الحمل على الطهارة اللغوية؛ لأن الشرعية مقدمة عليها. [وحمل] (¬5) مالك رحمه الله: هذا الأمر على التعبد؛ لاعتقاده طهارة الماء والإِناء، وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد ¬

_ (¬1) معجم الإِسماعيلي (1/ 492). (¬2) في ن ساقطة. (¬3) مسلم (279)، وأحمد (2/ 265، 427، 508)، وابن خزيمة (95)، وأبو داود (71، 72، 73)، وأبو عوانة (1/ 207، 208)، والترمذي (91)، والنسائي (1/ 177، 178). تنبيه: وقد اختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التثريب. فبعضها (أولاهن) كما ورد هنا، وبعضها (إحداهن)، وبعضها (السابعة). انظر: الجمع بن الروايات في فتح الباري (1/ 275). انظر تعليق (5/ 308). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في الأصل (وحكى)، والتصحيح من ن ب ج.

المخصوص وهو السبع؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفى بما دون السبع فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذر وقد اكتُفي فيها بما دون السبع، والحمل على التنجيس أولى؛ لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدًا أو معقول المعنى كان حمله على [كونه] (¬1) معقول المعنى أولى؛ لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى، وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذر فممنوع عند القائل بنجاسته، نعم ليس [بأقذر] (¬2) من العذر ولكن لا يتوقف التغليظ على زيادة الاستقذار، وأيضًا إذا كان أصل المعنى معقولًا [قُلنا به] (¬3) وإذا وقع في التفاصيل ما لا يعقل سقناه في التفصيل ولم ينقض لأجله التأصيل، نبه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬4)، قال وله نظائر في الشريعة، ولو لم [يظهر] (¬5) زيادة التغليظ في النجاسة لكنا نقتصر [في] (¬6) التعبد على العدد ونمشي في الأصل على معقولية المعنى. الخامس: إذا ظهر أن الأمر بالغسل للنجاسة: فقد استدل بذلك على نجاسة عين الكلب، وهو مذهب الشافعي والجمهور، ولهم في ذلك طريقان: ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ج (بأقل). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) الأحكام (1/ 26، 27). (¬5) زيادة من ن ب ج. (¬6) في ن ب (على).

الأول: أنه إذا ثبتت نجاسة فمه من نجاسة لُعَابه فإنه جزء من فمه، وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى. الثانى: أن لعابه نَجِس واللُّعاب عرق الفم فعَرقُ فمه نجس فعرق كله نَجِس، فتبين بهذا الحديث إنما دل على النجاسة فيما يتعلق بالفم وأن نجاسة بقية البدن بطريق الاستنباط. قال الشيخ تقي الدين (¬1): وفيه بحث وهو أن يقال: الحديث إنما دل على نجاسة الإِناء بسبب الولوغ، وذلك قدر مشترك بين نجاسة عين اللعاب وعين الفم (¬2)، وتنجيسهما باستعمال النجاسة غالبًا، والدَّالُ على المشترك لا يدل على أحد الخاصين، فلا يدل الحديث على نجاسة عين الفم أو عين اللعاب، فلا تتم الدلالةُ على نجاسة عين الكلب كله، وقد يعترض على هذا بأن يقال: لو كانت العلة تنجيس الفم أو اللعاب كما أشرتم إليه لزم أحد أمرين وهو: إما وقوع التخصيص في العموم، أو ثبوت الحكم بدون علته؛ لأنا إذا فرضنا سلامة فم الكلب من النجاسة الطارئة إما بالتطهير منها أو بأي وجه كان، فولغ في الإناء فإما أن يثبت وجوب غسله [أو لا] (¬3) فإن لم يَثْبت وَجَبَ تخصيص العموم [وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته، وكلاهما على خلاف الأصل] (¬4). ¬

_ (¬1) الأحكام (1/ 148، 149)، وأيضًا ما قبله. (¬2) في ن ب (أو). (¬3) في الأصل (أم لا)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) في ن ب ساقطة، وهي ثابتة في الأحكام.

والذي يمكن أن يجاب عن هذا السؤال أن يقال: الحكم منوط بالغالب، وما ذكرتموه من [الصورة] (¬1) نادر لا يلتفت إليه، وهذا البحث إذا انتهى إلى ها هنا يقوي قول من [يرى] (¬2) أن الغسل لأجل قذارة الكلب. وعن مالك ثلاثة أقوال في الكلب: أحدها: نجاسته، كمذهب الجمهور. وثانيها: طهارته، وإليه ذهب أهل الظاهر، وقالوا: غسله تعبد، وتقدّم فساده. وثالثها: طهارة الماء دون (¬3) غيره. وحكى [الخطابي] (¬4) عنه قولًا رابعًا: أنه إذا لم يجد ماءً غيره توضأ به، [وبه] (¬5) قال الثوري، لكن قال: ثم يتيمم بعده، جعله كالماء المشكوك فيه. وقال عبد الملك بن الماجشون المالكي: كلب البدوي كثير نجس وكلب الحضري نجس، والأظهر العموم؛ لأن الألف واللام ¬

_ (¬1) في ن ب (الصور). (¬2) في ن ب (يقول). (¬3) في ن ب ج زيادة (فيه دون). (¬4) في ن ب (الحناطي). انظر: معالم السنن (1/ 77)، والاستذكار (2/ 212). (¬5) زيادة من ن ب ج.

إذا لم يقم دليل على صرفها [إلى] (¬1) المعهود المعين فهما للعموم، ومن يرى الخصوص يصرفه عنه بقرينة أنهم نُهوا عن اتخاذ الكلاب إلَّا لوجوه مخصوصة، والأمر بالغسل مع المخالطة عقوبة تُناسبها الاختصاصُ بمن ارتكب النهي في اتخاذها، [وأما] (¬2) من اتخذ ما أبيح له اتخاذه فإيجاب الغسل عليه مع المخالطة عسر وحرج، ولا يناسبه الاذن والإِباحة في الاتخاذ، وهذا يتوقف على أن تكون هذه القرينة موجودة عند الأمر بالغسل، ونقل الطحاوي (¬3) عن الأوزاعي: أن سؤر الكلب في الإناء نجس، وفي الماء المستنقع ليس بنجس. السادس: قدمنا عن مالك رحمه الله (¬4) أن غسل الإناء تعبد وأن أصحابه رجحوه، وعندهم قول آخر: أنه معقول المعنى، واختلف فيه عندهم على أقوال: فقيل: لنجاسته [وهو قول عبد الملك وسحنون. وقيل: بل لاستقذاره لكرة ملابسة النجاسة] (¬5) ولأن في اتخاذه مخالفة [دأب] (¬6) [أهل] (¬7) المروءات لما فيه من الترويع للمسلمين. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن (فأما). (¬3) انظر: الاستذكار (2/ 211). (¬4) انظر: الاستذكار (2/ 208، 209). (¬5) في ن ساقطة. (¬6) في ن ب (ذات)، ولعلها (أدب). (¬7) في ن ساقطة.

وقيل: تشديدًا للمنع. وقيل: نهوا فلم ينتهوا، حكاه ابن الحاجب. وقيل: خشية أن يكون الكلب كلِبًا فيؤذي بسُمه، واحتج على ذلك بذكر السَّبع والسبُعُ، وردت كثيرًا في الشرع في أسباب العلاج والمداواة [واعترض على هذا القول بأن الكلب الكلِب لا يرد المياه] (¬1) (¬2). وأجيب عنه: بأنه إنما يمنع من ورود الماء بعد استحكام ابتداء فيه، وأما في أول الأمر فإنَّه يردها. قالوا: فإن قلنا: العلة النجاسة، فلا يجب الغسل إلَّا على من أراد استعمال ذلك الإِناء كالوضوء للنافلة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ورد في تعريف الكلِبْ في لسان العرب (3/ 282): كلِب الكَلْب كلبًا فهو كَلِب: أكل لحم الإنسان فأخذه لذلك سعار وداءٌ شبه الجنون. فائدة: قال ابن الجوزي في غريب الحديث (1/ 510) على قوله: "نهى عن السوم قبل طلوع الشمس": قال الزجاج: السوم أن يساوم بالسلعة في ذلك الوقت؛ لأنه وقت ذكر الله عز وجل لا تشتغل فيه بشيء، قال: ويجوز أن يكون من رعي الإبل لأنها إذا رعت حينئذ وهو ندٍّ أصابها منه الوباء وربما قتلها؛ لأنه يُنزِلُ في الليل على النبات داءً فلا ينحلُّ إلَّا بطلوع الشمس، وهذا أظهر الوجهين وهو اختيار الخطابي. وحكى الأزهري عن المفضِّل أنه قال: يقع داءٌ على الزرع فلا ينحل حتى تطلع عليه الشمس فيذوب فإن أكل منه بعير قبل ذلك مات، فيأتي كلب فيأكلُ من لحمه فَيَكْلَبُ، فإن عض إنسانًا؛ كُلب المعضوضُ؛ فإذا سمع نباح كلب أجابه.

وإن قلنا: علته غيرها أو هو تعبد فهل الغسل واجب أو مستحب؟ فيه قولان عندهم منشأهما الاختلاف الأصولي [في] (¬1) أن صيغة الأمر المطلقة تحمل على الوجوب أو على الندب؟ (¬2) وهل يفتقر الغسل إلى نية؟ فمن قال بالتعبد اعتبرها ومن قال بالتعليل لم يعتبرها. السابع الحديث نص في اعتبار السبع في عدد الغسلات، وهو مذهب الشافعي وأحمد [ومالك] (¬3) والجمهور [وهو] (¬4) حجة على أبي حنيفة في قوله: يُغْسلُ ثلاثًا، كما نقله عنه النووي في شرح مسلم (¬5) وهو خلاف ما نقل عنه في شرح المهذب (¬6) أنه لا يعتبر عدد، بل يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة كسائر النجاسات، وهذا مناقض [لظاهر] (¬7) هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب اعتبار العدد، وكأنها لم تبلغه، فإن استدل بحديث الدارقطني (¬8) وغيره عن أبي هريرة ¬

_ (¬1) في ن ب (واو). (¬2) انظر: المحصول (2/ 422، 425). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) في ن ب (وهي). (¬5) شرح مسلم (3/ 185). (¬6) شرح المهذب (2/ 586). (¬7) في ن ب (له ظاهر). (¬8) في السنن (1/ 65)، ثم قال بعده: تفرد به عبد الوهاب عن إسماعيل وهو متروك الحديث، وغيره يرويه عن إسماعيل بهذا الإسناد: (فاغسلوه سبعًا) وهو الصواب.

مرفوعًا "في الكلب يلغ في الإِناء أنه يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو [سبعًا] (¬1) [فهي] (¬2) ضعيفة باتفاق الحفاظ، وقد بين البيهقي ضعفها واضحًا في سننه (¬3) وخلافياته، وعلى تقدير الصحة "فأو" تحتمل الشك والتخيير ولعلها من الراوي، فيجب التوقف عن العمل به، وإن احتج بالقياس على سائر النجاسات فلا تصح؛ لأنه قياس مع وجود النص وهو قياس شبه، وفي قبوله خلاف، وإن قبلناه فخبر الواحد مقدم على القياس المظنون، وإن كان جليًا كما صححه الأصوليون (¬4) وادَّعى الأمام أبو المعالي الإِجماع فيه، فإن احتج بأن راويه [أبو] (¬5) هريرة كان يغسل ثلاثًا والعبرة بما رأى الراوي لا بما روى. ¬

_ (¬1) في ن ب (سبعة). (¬2) في ن ب ساقطة. وضعفها الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف في الدارقطني (13). (¬3) وقال في السنن (1/ 240): وهذا ضعيف بمرة، عبد الوهاب بن الضحاك متروك وإسماعيل بن عياش لا يحتج به خاصة إذا روى عن أهل الحجاز، وقد رواه عبد الوهاب بن نجدة عن إسماعيل عن هشام عن أبي الزناد (فاغسلوه سبع مرات) كما رواه الثقات. اهـ. وقال عنه النووي في شرح المهذب (2/ 587): إنه حديث ضعيف، لأن راويه عبد الوهاب مجمع على ضعفه وتركه، قال الإمام العقيلي والدارقطني: هو متروك الحديث، وهذه العبارة هي أشد العبارات توهينًا وجرحًا بإجماع أهل الجرح والتعديل، وانظر بقية الكلام عليه هناك. (¬4) في ن ب زيادة (إن). (¬5) في ن ب (أبي).

فالجواب: أن الصحيح عند الأصوليين أن العبرة بما رواه، بل قال النووي في شرح المهذب (¬1): هذا ليس بثابت عنه بل نقل ابن المنذر عنه وجوب الغسل سبعًا (¬2). ومن الغرائب ما نقله الرافعي في [الشرح] (¬3) الصغير عن الروياني أنه اختار الاكتفاء فيه بمرة. الثامن: هل يلحق الخنزير بالكلب أم لا؟ قولان منشأهما: هل الغسل تعبد فلا يقال على الكلب غيره، أو معلل بالإبعاد [أو] (¬4) التنجيس فالخنزير بذلك أولى؟ والأظهر عندنا الإِلحاق وهو رواية (¬5) مطرف عن مالك، والمشهور من مذهب مالك عدم الإلحاق، وهو القوي من جهة الدليل وهو قول أكثر العلماء، كما عزاه النووي في شرح مسلم (¬6) إليهم، والخلاف جارٍ في [المتولدة] (¬7) منهما [أو من أحدهما] (¬8). التاسع: هل يختص وجوب غسل الإناء بالكلب المنهي عن ¬

_ (¬1) في شرح المهذب (2/ 586). (¬2) الأوسط لابن المنذر (1/ 305)، ورواه الدارقطني في سننة (1/ 64)، وقال بعده: صحيح موقوفًا. (¬3) في الأصل مكرر. (¬4) في ن ب (واو). (¬5) في ن ب زيادة (عن). (¬6) شرح مسلم (3/ 185). (¬7) في ن ب (المتولد). (¬8) زيادة من ن ب.

اتخاذه، أم هو عام في جميع الكلاب؟ فيه قولان لمالك منشأهما التعبد أو التعليل، فعلى التعبد هو عام وهو [على] (¬1) المشهور عندهم، وهو مذهب جمهور العلماء، وعلى التعليل بالإبعاد يخرج منه المأذون في اتخاذه، وهو قول أحمد بن المعذل (¬2) منهم، وفيه نظر؛ لأنه يؤدي إلى تخصيص العموم بالمعنى المستنبط من محل النص، والأكثرون على المنع منه. العاشر: في الحديث دليل على عموم الإِناء والأمر بغسله للنجاسة وذلك لتنجيس مافيه، فيقتضي المنع من استعماله، والمشهور من مذهب مالك أنه يغسل إناء الماء دون إناء الطعام؛ لأن الطعام مصون عنها بخلافه، فيفيد اللفظ بذلك الأمر ولأنه ورد الأمر بإراقته كما سيأتي، والطعام لا تجوز إراقته؛ لحرمته ولنهيه عليه السلام عن إضاعة المال، قال في المدونة (¬3): ورآه عظيمًا أن تعمد إلى رزق من رزق الله فيراق لكلب ولغ فيه، ورَوى عنه ابنُ وهب أنه يُؤكل الطعام ويغسل الإِناء، ورجح القاضي عبد الوهاب واللخمي (¬4) ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) هو أحمد بن المعذل بن غيلان بن حكم شيخ المالكية قال أبو إسحاق الحضرمي: كان ابن المعذل من الفقه والسكينة والأدب والحلاوة في غاية ترجمته طبقات الشعراء (368، 370)، والوافي بالوفيات (8/ 184). (¬3) في المدونة (1/ 5). (¬4) هو أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي قيرواني نزل صفاقس له التبصرة قال ابن فرحرن: وهو كتاب مفيد حسن، الديباج (2/ 104).

أن يغسل إناء الطعام والماء منه، لعموم الحديث، ويجوز أن يُبنى ذلك على الخلاف الأصولي وهو: تخصيص العموم بالعادة؛ لأن الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام، لكن من عادتهم أنهم لا يضعون في أوانيهم التي تصل إليها الكلاب إلَّا الماء. قال القرافي: والظاهر انعقاد الإجماع في [أنه لا يخصص] (¬1) بالعادة الفعلية. فرع: هل يغسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه؟ قولان في مذهب مالك حكاهما ابن بشير، منشأهما التعليل بالنجاسة [فلا] (¬2) يغسل به، أو التعبد فيغسل به. الحادي عشر: في صحيح مسلم (¬3): الأمر بإراقة ما ولغ فيه، ولفظه: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع [مرار] (¬4) ". قال ابن منده: هذه الزيادة وهي (فليرقه) تفرد بها علي بن مسهر (¬5)، ولا تعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلَّا من هذه الرواية. ¬

_ (¬1) بياض في الأصل، والمثبت من ن ب ج. (¬2) في ن ب (ولا). (¬3) (3/ 182) الشرح للنووي. (¬4) في ن ب ج (مرات). (¬5) القرشي قاضي الموصل ثقة له غرائب بعدما أضر، مات سنة (189). التقريب (2/ 44).

قلت: لا يضر تفرده بها فإن علي بن مسهر إمام حافظ متفق على عدالته والاحتجاج به، ولهذا قال الدارقطني (¬1) بعد أن رواها: إسناده حسن [ورواتها ثقات] (¬2)، ورواها إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه (¬3) ولفظه: "فليُهْرِقْهُ" وظاهر هذه الرواية: وجوب إراقة الماء والطعام، وهو مبني على التعليل بالنجاسة، وهو مذهبنا وقول في مذهب مالك. وفي قول آخر: لا يراقان، وبنوه على التعبد فالإراقة مندوبة، وكأنه لما اعتقد طهارة الكلب بالدليل الذي دل عليه جعله صارفًا له من الوجوب إلى الندب، والأمر قد يصرف عن ظاهره بدليل. وقول ثالث: أنه يراق الماء لتيسره دون الطعام لحرمته وماليته، وصوبوه. وقول رابع: إن شرب من لبن وكان بدويًا أُكل، وإن كان حضريًا طُرح، بخلاف الماء فإنه يطرح مطلقًا، فإن عجن به طعام تنجَّس؛ لأنه أذن للبدوي في اتخاذه دون الحضري، وهو قول عبد الملك، واستشكلوه بأن الكلب عنده نجس فكيف يبيح للبدوي ¬

_ (¬1) السنن (1/ 64). (¬2) في ن ب الكلمة مبتورة. قال ابن عبد البر في التمهيد (18/ 263) لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش، كأبي معاوية وشعبة، وقال النسائي في اللسان (1/ 53): "لا أعلم أحدًا تابع علي بن مسهر على قوله فليرقه"، وقد ذكر ابن حجر في الفتح (1/ 275) هذا وصحح ورود الأمر بالإراقة عن أبي هريرة موقوفًا عليه أخرجها عنه ابن عدي والدارقطني. (¬3) ابن خريمة (98).

أكل لبن فيه نجاسة؟ إلَّا أن يكون راعَى الخلاف في [البدوي في الطعام؛ لماليته والضرورة إليه. وعندهم قول خامس: عزوه إلى مطرف أن] (¬1) البدوي والحضري سواء، إن كان الطعام كثيرًا أكل، وإن كان قليلًا طرح؛ إذ لا ضرورة في القليل بخلاف الكثير. الثانى عشر: إذا تعدد الولوغ من كلب واحد أو من كلاب: هل يغسل للجميع سبعًا، أو يتكرر الغسل يتكرر الولوغ فيه؟ [فيه] (¬2) وجهان عندنا وقولان في مذهب مالك، منشأهما أن الألف واللام في الكلب جنسية أو عهدية أي الإشارة إلى كلب واحد، والمشهور عندهم الأول وهو الأصح عندنا، ويعتضد بأن الأسباب إذا اتحد موجبها تداخلت وكانت كالسبب الواحد، وعندنا وجه ثالث: أنه إن تكرر من كلب كفى سبع، أو من كلاب فلكل كلب سبع. الثالث عشر: لو لم يرد استعمال الإناء سُنَّت إراقته على [الأصح] (¬3) عند الشافعية، وقيل: يجب؛ لظاهر الرواية التي أسلفناها، لأن الأمر المطلق يقتضي الوجوب على المختار وهو قول أكثر الفقهاء، والأول قَاسَهُ على سائر النجاسات فإنه لا يجب إراقَتُها بلا خلاف. وقد يجاب من ذلك: بأن المراد في الإراقة الزَّجرُ والتغليظ والمبالغة في التنفير عن الكلاب. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة.

وقال المازِريُّ (¬1) المالكي: الجمهورُ على أن غسله عند إرادة الاستعمال، وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يُرِد استعماله، أي بناءًا على أن الأمر المطلق يقضي [الفورية] (¬2). الرابع عشر: لم يرو مالك رحمه الله رواية زيادة "التراب" [فلذلك] (¬3) لم يقل بها، وقد رواها مسلم كما ذكره المصنف، وهي [من] (¬4) طريق ابن سيرين عن أبي هريرة، وهي زيادة من ثقة فقبلت، لا جرم قال بها الشافعي وأصحاب الحديث. قال القرافي: والعجب من المالكية في ذلك مع ورود الأحاديث الصحيحة به. قلت: لكن هذه الرواية هي من طريق ابن سيرين (¬5) كما ¬

_ (¬1) محمد بن علي بن عمر التميمي المازري محدث. من فقهاء المالكية ولادته 453 - 536 هـ، له المعلم لفوائد مسلم، أو التلقين في الفروع، الكشف والإِنباء في الرد على الإِحياء. الأعلام (7/ 164). (¬2) في ن ب (الفور). (¬3) في ن (فكذلك). انظر: الاستذكار (2/ 207). (¬4) زيادة من ب ج. (¬5) فطريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال: (إحداهن) مبهمة (وأولاهن والسابعة) معينة. إلى أن قال: فيبقى النظر في الترجيح بين رواية أولاهن ورواية السابعة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيث المعنى أيضًا؛ لأن ترتيب الأخيرة تقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه. وقد نص الشافعى في حرملة على أن الأُولى أَولى والله أعلم. اهـ، من الفتح بتصرف (1/ 276).

أسلفناه واختلف عنه، فرواية (¬1) هشام (¬2) وحبيب بن الشهيد (¬3): "أولاهنَّ بالتراب"، ورواية حمَّاد بن زيد عن أيوب عنه بدون ذكر التراب (¬4)، ورواية قتادة عنه: "السابعة بالتراب" (¬5)، ورواية خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة: "أولاهن بالتراب" (¬6)، قال البيهقي (¬7): وهو حديث غريب (¬8)، إن كان حفظه معاذ عن أبيه عن قتادة عن خلاس فهو حسن؛ لأن التراب باقي هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين عن أبي هريرة، وإنما رووه عن هشام عن قتادة عن ابن سيرين. ورواه ابن أبي عروبة عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة: "أولاهن"، وفي رواية أبان وغيره عن قتادة عنه: "السابعة"، وفي رواية يزيد (¬9) بن إبراهيم عن ابن سيرين: "إحداهن". ¬

_ (¬1) في الأصل (راويه). (¬2) في صحيح مسلم (1/ 183) (نووي). (¬3) ذكرها أبو داود في السنن (1/ 59). (¬4) أخرجه الدارقطني (1/ 64) وقال: صحيح موقوف، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 275): عن أبي هريرة موقوفًا وإسناده صحيح، أخرجه الدارقطني وغيره. اهـ، وفي أبي دود (1/ 59) بزيادة: (وإذا ولغ الهرُّ غُسل مرة). (¬5) في السنن لأبي داود (1/ 59)، وفي الدارقطني (1/ 64)، وقال: وهذا صحيح، وفي السنن للبيهقي (1/ 241). (¬6) في السنن للنسائي (1/ 177)، وفي السنن للدارقطني (1/ 65)، وقال: هذا صحيح. (¬7) في السنن (1/ 241). (¬8) في ن ج زيادة (حسن غريب). (¬9) في ن ب زيادة (بن هادر).

قلت: قوله "لم يروه عن أبي هريرة ثقة غير ابن سيرين" فيه نظر، فقد رواه الحسن (¬1) عنه مرفوعًا: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب" رواه الدارقطني وفي سماعه من أبي هريرة خلاف، قال أبو حاتم: لا، وقال جماعات: نعم. فرع: هل الأمر بالتراب تعبد محض لا يعقل معناه، [أو] (¬2) معلل بالاستطهار بغير الماء ليكون فيه زيادة كلفة وتغليظ، أو معلل بالجمع بين نوعي [الطهور] (¬3)؟ فيه معان استنبطها أصحابنا وليس فيها سوى مجرد مناسبة ليس بأمر قوي، فإذا دخلها الاحتمال رجع إلى النص. وأيضًا فالمعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال [أو تخصيص] (¬4) مردودٌ عند جمبع الأصوليين (¬5)، [فإن] (¬6) عاد بالتخصيص ففيه نظر، [كذا قاله الشيخ تقى الدين، وقال غيره: إنه ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 275): وعبد الرحمن والد السدي عند البزار ... إلى أن قال: وفي رواية السدي عند البزار: (إحداهن) وكذا في رواية هشام بن عروة عن أبي الزناد وعنه. اهـ. وانظر: كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 45). (¬2) في ن ب (أم). (¬3) في الأصل (طهور)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) الأحكام (1/ 31). (¬6) في ن ب (وإن).

مردود أيضًا عند جميعهم] (¬1). وتظهر فائدة هذه المعاني في مسائلَ محلُّ الخوض فيها كتب الفقه، وقد ذكرتها في شرح المنهاج وغيره، منها: أن الصابون والأشنان وكذا النخالة -كما قال الروياني- هل تقوم مقام التراب؟ فيه أربعة أقوال: أصحها: لا، وثانيها: نعم، وثالثها: تقوم عند عدم التراب دون وجوده. ورابعها: تقوم فيما يفسده التراب كالثياب دون الأواني [وغيرها] (¬2). الخامس عشر: [اختلفت] (¬3) الروايات في غسله [بالتراب] (¬4)، ففي مسلم: "أولاهن" كما تقدم، وفي أبي داود (¬5) بإسناد كل رجاله ثقات: "السابعة بالتراب"، وفي رواية للشافعي (¬6): "أولاهن أو أخراهن"، وفي الدارقطني (¬7) وغيره: "إحداهن". قال الشيخ تقي الدين (¬8): والمقصود عند الشافعي وأصحابه حصول التتريب في مرة من المرات، وقد يرجح كونه في الأولى فإنه إذا تربّ أولًا فعلى تقدير أن يلحق بعض المواضع الطاهرة رشاش بعض الغسلات ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في في ب ج (ونحوها). (¬3) في ب (أسفلت). (¬4) في ن ب (التراب). (¬5) السنن (1/ 59). (¬6) في المسند (من 8). (¬7) السنن (1/ 241). (¬8) الأحكام (1/ 29).

لا يحتاج إلى تتريبه، وإذ أخرت غسلة التتريب احتيج إليه، فالأُولى أرفق بالمكلف [فكانت] (¬1) أَوْلى، وكذا قال النووي: إن [في] (¬2) هذه الروايات دلالة على أن التقييد بالأُولى [وبغيرها] (¬3) ليس على الاشتراط، بل المراد: [إحداهن]. وقال القرافي: [سمعت] (¬4) قاضي القضاة [صدر] (¬5) الدين الحنفي يقول: إن الشافعية تركوا أصلهم لغير موجب؛ لأن رواية "إحداهن" مطلقة، ولم يحملوها على المقيد وهي "أولاهن وأخراهن". فقلت له: هذا لا يلزم؛ لقاعدة أصولية وهي أن المطلق إذا دار بين مقيدين متضادين وتعذَّر الجمع فإن اقتضى القياس تقييده بأحدهما [قيده، وإلَّا سقط اعتبارهما معًا وبقي المطلق على إطلاقه، فكذا هنا دار الأمر المطلق بين مقيدين ولم يقتضِ القياس تقييده بأحدهما] (¬6) فبقيت الرواية المطلقة على إطلاقها، فبقي على إطلاقه وهو أن ينزّل اللفظ على واحدة منهن بتراب مع الماء. قلت: لكن نص الشافعى في البويطي على أنه يتعين الأولى ¬

_ (¬1) في ب ساقطة. (¬2) ساقطة من الأصل، وما أثبت من ن ب ج. (¬3) في ب (وغيرها)، وما في الأصل يوافق ما في شرح مسلم للنووي (3/ 185). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (بدر). (¬6) في ن ب ساقطة.

أو الأخرى، فقال: وإذا ولغ الكلب في الإِناء غسل سبعًا أولاهن أو أخراهن بالتراب، ولا يطهره غير ذلك، وكذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الأم نحوه، وجزم به المرعشي في [ترتيب] الأقسام (¬1) ونحوه في الرونق. وهذا نص غريب لم ينفله أحد من الأصحاب فيما علمت (¬2)، وعن نصه في حرملة أن الأُولى أَوْلى، ونقل ابن الرفعة (¬3) عن بعضهم أن الأَوْلى أن تكون في الثانية. السادس عشر: الأصح عندنا في قدر التراب ما يعم [على] (¬4) المحل، وقيل: ما ينطلق عليه الاسم. السابع عشر: [رواية] (¬5) مسلم التي فيها: "وعفروه الثامنة بالتراب" تقتضي زيادة مرة ثامنة، وبه قال الحسن البصري قال أبو عمر (¬6): [و] (¬7) لا أعلم أحدًا أفتى بذلك غيره، وتبعه الشيخ تقي الدين، فقال: قيل: لم يقل به غيره، ولعل المراد بذلك: ¬

_ (¬1) انظر: تلخيص الحبير (1/ 24)، وما بين القوسين زيادة منه. (¬2) في ن ب (علمته). (¬3) انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي (9/ 24)، وطبقات الأسنوي (1/ 601). (¬4) ساقطة فى ن ب. (¬5) في الأصل (رواه)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) الاستذكار (2/ 207). (¬7) في ن ب ساقطة.

[من] (¬1) المتقدمين [أي لأنه رواية عن مالك وأحمد بن حنبل] (¬2) والحديث قوي فيه، ومن لم يقل به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه. قال الفاكهي: لم أدر الاستكراه الذي أراده، ولعله أراد قول من ترك استعمال التراب في غسلة من الغسلات بمنزلة غسلة أخرى. قلت: هو كذلك [و] (¬3) قد صرحوا به وجمعوا بذلك بين الأخبار. وقال العجلي (¬4) من متأخري أصحابنا في "شرح الوسيط": الأولى أن يغسل ثمان غسلات إحداهنَّ بالتراب لهذا الحديث، وأما البيهقي فإنه أجاب عن هذه الرواية بأن قال: أبو هريرة [أحفظ] (¬5) من روى الحديث في دهره [فروايته] (¬6) أَوْلى. قلت: وقد يقال: بل رواية ابن مغفل أولى؛ لأنه زاد الغسلة ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) ليست في الأحكام (1/ 29). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) هو أسعد بن محمود بن خلف بن أحمد منتخب الدين أبو الفتوح العجلي الأصبهاني مصنف التعليق على الوسيط والوجيز -وهو جزءان- ولد سنة خمس عشرة وخمسمانة وتوفي في صفر سنة ستمائة. ترجمته: الأعلام (1/ 294)، والعبر (4/ 311). (¬5) في ن ب (أكثر)، وما في الأصل يوافق السنن (1/ 241). (¬6) في ن ب (وروايته)، وما في الأصل يوافق السنن (1/ 241).

الثامنة والزيادة مقبولة خصوصًا من مثله. وقد قال ابن منده لما أخرجها: إسنادها مجمع على صحته. فائدة: هذه الرواية من أفراد مسلم كما [أسلفه] (¬1) المصنف، ووقع في كتاب التحقيق في أحاديث التعليق لابن الجوزي الحافظ أنها من أفراد البخاري [وهو] (¬2) سبق قلم، فتنبه [له] (¬3). فرع: لو غسل ثامنة بالماء وحده فأصح الأوجه عندنا: أنه لا يقوم مقام التراب بالحديث المذكور وغيره. وثانيها: يقوم، لأنه أبلغ منه، وشذ المتولي من أصحابنا فصححه. وثالثها: يقوم عند عدم التراب لا عند وجوده. الثامن عشر: التعفير: التمريغ ومعناه: مرغوه بالتراب. وقال صاحب المطالع: عفروه اغسلوه بالتراب، أي مع الماء يقال فيه: [عفره] (¬4) مخفف الفاء [يعفره] (¬5) عفرًا [وأعفره] (¬6) تعفيرًا أي مرغه تمريغًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (أفرده). (¬2) في الأصل (وقد)، والتصحيح من ن ب. (¬3) في ن ب (منه). انظر: التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (1/ 73). (¬4) في ن ب (غفر). (¬5) في ن ب (يعفروه). (¬6) في ن ب (وعفره).

فائدة: التراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع، وقال المبرد: هو جمع واحدته ترابة، وله من الأسماء نحو خمسين اسمًا ذكرتها مفصلة في "الإشارات إلى ما وقع [في] (¬1) المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات" فمن أراد راجعه منه، واقتصر النحاس منها على خمسة عشر، وتبعه النووي وغيره، فسارع إلى استفادة ذلك. التاسع عشر: فيه دلالة على أن ذر التراب على المحل لا يكفي، بل لا بد من خلطه بالماء ثم إيصاله إلى المحل من إناء أو ثوب، ووجه الدلالة أنه جعل مرة التتريب داخلة في مسمى الغسلات، وذر التراب لا يسمى غسلًا، وفيه احتمال كما قال الشيخ تقي الدين (¬2) من حيث إن ذر التراب على المحل وإتباعه الماء يصح أن يقال: غسل بالتراب، ولا بد من مثل هذا [في] (¬3) أمره عليه السلام في غسل الميت بماء وسدر عند من يرى أن المتغير بالطاهر غير طهور، وإن جرى [على] (¬4) ظاهر الحديث في الاكتفاء [بغسلة] (¬5) واحدة، إذ بها يحصل مسمى الغسل [وهذا جيد] (¬6)، إلَّا أن قوله: "وعفروه" قد يشعر بالاكتفاء بالتتريب بطريق ذر التراب ¬

_ (¬1) في الأصل (من)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) في الأحكام (1/ 29). (¬3) في ن ب (من). (¬4) في ن ب ساقطة، وما في الأصل يوافق ما في الأحكام. (¬5) في ن ب (في غسله). (¬6) زيادة من الأحكام.

على المحل، فإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرًا لغة فلا ينافي ما قالوه (¬1)؛ لأن لفظ التعفير حينئذ يطلق على ذر التراب على المحل وعلى إيصاله بالماء إليه، والحديث الذي دلَّ على اعتبار مسمى الغسل دل على خلطه بالماء وإيصاله إلى المحل به، فذلك أمر زائد على مطلق التعفير على تقدير شموله للصورتين: ذر التراب وإيصاله. العشرون: فيه دلالة على أن الماء القليل إذا حلت فيه نجاسة يفسد. الحادي والعشرون: فيه دلالة أيضًا على تحريم بيع الكلب إذا كان نجس الذات، كما قررناه فيما سلف كغيره من النجاسات. الثاني والعشرون: لا فرق عند الشافعية بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه كدمه وبوله وروثه وعرقه وشعره ولعابه وعضو من أعضائه، إذا كان رطبًا [و] (¬2) أصحاب شيئًا طاهرًا في حال رطوبته ويبوسة أجزائه في وجوب الغسل سبعًا مع التعفير بالتراب، وحكوا وجهًا أنه يكفي غسله في غير الولوغ مرة كسائر النجاسات، ووصفه النووي في الروضة بالشذوذ، ومراده: من حيث المذهب؛ لأنه قال في شرح المهذب: إنه القوي والمتجه من حيث الدليل اقتصارًا على محل النص لخروجه عن القياس. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (فتدبر ما قالوه)، وفي الأحكام (فثبت ما قالوه)، وهو يوافق ن ج. (¬2) ن ب ج (أو).

الثالث والعشرون: الأرض الترابية إذا تنجست بلعاب الكلب ونحوه هل يحتاج في طهارتها إلى تتريب؟ فيه وجهان لأصحابنا: [أحدهما] (¬1) [لا] (¬2)؛ لأن استعمال التراب في التراب لا معنى له، [وظاهر] (¬3) الحديث قد يُخرج هذه [الصور] (¬4)؛ لذكر الإِناء فيه. الرابع والعشرون: سؤر الهر سائر الحيوان [الطاهر] (¬5) طاهر عندنا ولا كراهة، ورواية الغسل من ولوغها مرة موقوفة كما قاله أبو داود، أو مدرجة من بعض الرواة كما قاله البيهقي، وأما الترمذي فصححها (¬6). فروع متعلقة بالولوغ: لو وقع في الإِناء المولوغ فيه نجاسة ¬

_ (¬1) ن ب (أصحهما). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ب (فظاهر). (¬4) في ب (الصورة). (¬5) زيادة من ج. (¬6) أخرجه أبو داود برقم (65)، وقال البيهقي في السنن (1/ 247): أدرجه بعض الرواة في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووهموا فيه. والصحيح أنه في ولوغ الكلب مرفوع وفي ولوغ الهرة موقوف. قال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 325): لا أعلم لمن كره سؤر الهر حجة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة وبلغه حديث أبي هريرة. انظر: معرفة السنن والآثار (2/ 1783)، ومشكل الآثار (3/ 267)، والاستذكار (2/ 120). وانظر: كلام ابن الملقن رحمنا الله وإياه في الإجابة على الحديث (2/ 364).

أخرى كفى غسله سبعًا. ولو [ولغ] (¬1) في ماء كثير بحيث لم ينقص بولوغه عن قلتين لم ينجسه. ولو ولغ في [ماء] (¬2) مائع أو ماء قليل أو كثير متغير بالنجاسة فأصاب غيره؛ غسل سبعًا، أو في جامد؛ ألقى ما أصابه والباقي طاهر. ولو كانت نجاسة الكلب عينية كدمه وروثه فلم يزل إلَّا بست غسلات مثلًا فهل يحسب ذلك غسلةً أم ستًا أم لا يحسب شيئًا؟ فيه أوجه: أصحها في الروضة وغيرها أولها، وأصحها في الشرح الصغير ثانيها. وفروع الباب كثيرةٌ محلٌ الخوض فيها كتب الفروع، وقد بسطناها فيها ولله الحمد. ¬

_ (¬1) في الأصل (وقع)، والتصحيح من ب ج. (¬2) في ن ب ساقطة.

الحديث العاشر

الحديث العاشر (¬1) 10/ 10/ 1 - عن حمران مولى عثمان بن عفان: أنه رأى عثمان دعا بوَضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وُضوئي هذا وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬2). الكلام عليه من سبعة وثلاثين وجهًا: وهو أصل عظيم في صفة الوضوء: ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوطة وحسب ما قبله، وفي إحكام الأحكام (السابع)، وفي متن العمدة (الثامن). (¬2) أخرجه البخاري برقم (159) في الوضوء، أسباب: المضمضة في الوضوء، وفي المواضع الآتية: (160، 164، 1943، 6433)، ومسلم برقم (226) في الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله، ورواه أيضًا أبو داود برقم (106، 110) في الطهارة، والنسائي (1/ 64، 65)، والدارمي (1/ 176)، وابن حبان (360، 1060).

الأول: في التعريف براويه: أما عثمان فهو ابن عفان بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يجتمع [مع النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) في عبد مناف. في كنيته ثلاثة أقوال، أشهرها: أبو عمرو، وثانيها: أبو عبد الله، وثالثها: أبو ليلى. وقال ابن الأثير في جامعه: كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولدت له رقيةُ عبدَ الله؛ كني به، قال: وكان إسلامه في أول الإسلام على يد الصديق. ولد في السنة السادسة من عام الفيل وهاجر الهجرتين وتزوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم، زوجه الله أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها، لهذا سهمي ذو النورين، ولم يعرف أحد من لدن آدم - صلى الله عليه وسلم -، تزوج [ابنتي] (¬2) نبي غيره (¬3). وهو أول من خرج إلى الحبشة وهاجر إليها وسائر من هاجر إليها تبع له. وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحي منه أكثر من غيره (¬4)، وهو أكثر أمته حياء، وأخبر أن الملائكة تستحي منه (¬5)، وجمع القرآن بعد الاختلاف فيه وجمع الناس عليه، وشهد له [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬6) بالجنة، واشترى موضع ¬

_ (¬1) في ن ب (رسول الله). (¬2) في ن ب ساقطة، وفي ج (بنتي). (¬3) انظر: معرفة الصحابة لأبي نعيم (1/ 245)، والسنن الكبرى (7/ 73). (¬4) مسلم (4/ 1866 - 1867). (¬5) مسلم (4/ 1866)، وأحمد في المسند (6/ 62). (¬6) في ن ب ساقطة.

خمس سوار فزاده في المسجد، وجهز جيش العسرة (¬1) بتسعمائة وخمسين بعيرًا وبخمسين فرسًا وذلك في غزوة تبوك، وقيل: بألف بعير وسبعين فرسًا، فدعا له - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة ما أسر وما أعلن وما أبدى وما أخفى وما هو كائن إلى يوم القيامة، وقال: "ما يبالي عثمان ما عمل بعدها"، واشترى بئر رومة بعشرين ألفًا وسبلها للمسلمين (¬2)، وكان عليه السلام قال قبل ذلك: "من يشتريها ويجعلها للمسلمين وله بها مشربة في الجنة"، وتخلف عن بدر لتمريض رقية فضربَ له منها بسهمه وأجره، وبايعَ عنه في بيعة الرضوان؛ لأنه بعثه إلى مكة في أمر الصلح. وكان يحيي الليل بركعة يقرأ فيها القرآن، وكان يصوم الدهر، وكان من الذين: {اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} (¬3) الآية، كما قاله علي رضي الله عنه، وافتتح نوابه إقليم خراسان والمغرب، قال ابن سيرين: وكثر المال في زمنه حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم ونخلة بألف درهم، [قلت] (¬4): وشبهه - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيم خليل الرحمن، وهو أحد العشرة [المشهود] (¬5) لهم بالجنة كما تقدم، وأحد الذين كانوا معه بأحد فارتج فقال: "أثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"، وثالث الخلفاء الراشدين، وأكبرهم سنًا، ¬

_ (¬1) البخاري (2778). (¬2) البخاري (2778). (¬3) سورة المائدة: آية 93. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (المقطوع).

وأكثرهم إقامة في الخلافة، بويع له بها أول [سنة] (¬1) أربع وعشرين بعد دفن عمر بثلانة أيام، وقتل شهيدًا مستسلمًا للقتل صبرًا وهو صائم في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين عن ست وثمانين سنة، فكانت مدة خلافته ثنتي عشرة سنة إلَّا أيامًا عشرة أو نحوها، وصلى عليه جبير بن مطعم، ودفن بالبقيع ليلًا، ومناقبه ومآثره أكثر من أن تحصى، وقد بسطت ترجمته فيما أفردته من الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعها منه، وقد أفردته بالتصنيف أيضًا. واسم أمه: أروى بنت كريز، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، قال البيهقي: والذي حُفظ عنه نحو من أربعين حديثًا. وقال أبو نعيم: أسند ستًا وستين [سوى] (¬2) الطرق، وقال عبد الغني: روى مائة وستة وأربعين حديثًا، اتفق على ثلاثة أحاديث، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة. وكان في يده خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من سنتين ثم سقط في بئر أريس بقباء، فاتخذ خاتمًا من فضة ونقش عليه "آمنت بالذي خلق فسوى"، قال سهم بن [حبيش] (¬3): لما حملنا نعشه غشينا سواد من خلفنا، فهبناهم، فنادى مناديهم: أن لا روع عليكم اثبتوا فإنا جئنا نشهده، وكان [ابن] (¬4) حبيش يقول: هم ملائكة الله تعالى. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (غيره). (¬3) مكررة في الأصل. (¬4) ساقطة من ب.

وأما مولاه حُمران: فهو بضم الحاء المهملة، ابن أبان، وقيل: ابن (¬1) وقيل: (¬2) أبي، مدني قرشي أموي، مولاهم، تابعي، كان من سبي عين التمر، كان للمسيب ابن نجبة فابتاعه عثمان وأعتقه، أدرك أبا بكر وعمر وروى عن عثمان ومعاوية، وعنه: عروة بن الزبير وغيره، وهو أول من دخل المدينة من سبي المشرق، ذكره البخاري في الضعفاء، واحتج به في صحيحه، وكذا مسلم والباقون، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، لم أرهم يحتجون بحديثه، مات سنة خمس وسبعين، أغرمه الحجاج مائة ألف؛ لأنه [كان] (¬3) ولي نيسابور، ثم رد عليه ذلك بزيادة بشفاعة عبد الملك. الوجه الثاني: قوله "دعا بوضوء" الوَضُوء بفتح الواو: الماء، وبالضم: اسم لفعل الوضوء، وقيل بالفتح فيهما وهو قليل، وحكي ضمهما وهو شاذ، والطهور كالوضوء فيما ذكرناه، وأصل الوضوء من الوضاءة وهي النظافة والحسن، وذكر الشيخ تقي الدين أن الوضوء بالفتح إذا قلنا إنه الماء هل هو اسم لمطلق الماء أو للماء بقيد الوضوء به [أو (¬4) إعداده] (¬5) [للوضوء] (¬6) له، فيه نظر يحتاج ¬

_ (¬1) في ن ب ج زيادة (أبا). (¬2) في نسخة ب (ابن). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) زيادة من ب (به)، والعبارة كما في إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 165) بقيد كونه متوضئًا به. (¬5) في إحكام الأحكام (1/ 32) (معدًا). (¬6) زيادة من إحكام الأحكام (1/ 32).

إلى كشف [وبيان] (¬1) ينبني عليه. فائدة فقهية: وهو أنه في بعض الأحاديث التي استدل بها على طهورية الماء المستعمل قول جابر: "فصب عليَّ من وضوئه (¬2) فإنا إن جعلنا الوضوء اسمًا لمطلق الماء لم يكن في قوله "فصب عليَّ من وضوئه" دلالة على ذلك؛ لأنه يصير التقدير: فصب عليَّ من مائه، ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الذي استعمله في أعضائه؛ لأنا نتكلم على أن الوضوء اسم لمطلق الماء، فإذا لم يلزم ذلك جاز أن يكون المراد بوضوئه: فضلة مائه الذي توضأ ببعضه، لا ما استعمله في أعضائه، فلا يبقى دليل من جهة اللفظ على ما أراده من طهارة الماء المستعمل، وإن جعلنا الوضوء بالفتح مقيدًا بالإضافة [إلى الوضوء بالضم، أعني (¬3) استعماله في الأعضاء أو إعداده كذلك. فها هنا يمكن أن يقال في الدليل] (¬4): إن وضوءه بالفتح متردد بين مائه المعد للوضوء بالضم، وبين مائه المستعمل في الوضوء، وحمله على الثاني أَوْلَى؛ لأنه الحقيقة، واستعماله بمعنى المعد مجاز، والحمل على الحقيقة أَوْلَى. ¬

_ (¬1) غير موجود في الإحكام (1/ 32). (¬2) البخاري أطرافه (194)، ومسلم (1616)، وأبو داود (2886، 2887)، والترمذي (2097)، والحميدي (1229)، وابن ماجه (2728)، وابن خزيمة (106). (¬3) في ن ب (أي). (¬4) هذا السطر مكرر في الأصل.

قلت: ولا يؤخذ من ذلك كونه [طهورًا] (¬1) [بل كونه طاهرًا] (¬2) والإجماع قائم عليه، وما نقل عن أبي حنيفة من نجاسته ثبت عنه رجوعه، ويجوز أيضًا أن يكون عليه السلام استعمله للتبريد أيضًا فلا دلالة فيه أيضًا، كذلك فيقال حينئذ: حَمْله على مطلق الماء أولى، وهذا البحث راجع إلى أن الماء المطلق يسمى وضوءًا عند إطلاقه أو لا بد أن يقصد به الوضوء ويعد له، وحينئذ يرجع إلى تأثير النيات في الأعيان وتغيير أحكامها وهو مرجوح. الوجه الثالث: قوله: "دعا بوضوء" فيه جواز الاستعانة في إحضار الماء وهو مجمع عليه من غير كراهة. الرابع: قوله: "فأفرغ على يديه" أي قلب وصب عليهما ليغسلهما، واليدان تثنية يد وهي مؤنثة. الخامس: يؤخذ من هذا: الإفراغ على اليدين معًا، وجاء في رواية أخرى "أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما" وهو قدر مشترك بين غسلهما مجموعتين أو مفترقتين؛ والفقهاء اختلفوا: أيهما أفضل [كما] (¬3) قال الشيخ تقي الدين. قال صاحب "الجواهر" (¬4): تكرار الثلاث يدل على غسلهما ¬

_ (¬1) في الأصل (ظاهرًا)، وما أثبت من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. انظر: إحكام الأحكام (1/ 168). (¬4) لعله: يكون العلامة شيخ المالكية جلال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس مصنف كتاب "الجواهر الثمينة في فقه أهل المدينة" وضعه =

[متفرقتين، وعدم تكرارهما يدل على غسلهما] (¬1) مجتمعتين والاجتماع يدل على التنظيف، والافتراق يدل على التعبد. قلت: والذي يظهر أنه إن أمكن غسلهما معًا فهو أفضل هنا، وإلَّا قدم الكف اليمنى، كما إذا غسل يده اليمنى إلى المرفق فإن الأفضل تقديمها بلا شك. فرع: أدب الوضوء أن يكون الإناء عن يساره إن لم يغترف [منه] (¬2) إلَّا أن يكون واسعًا كما قاله العبادي (¬3) في "الزيادات" والمحاملي (¬4). ونقل ابن الصلاح في "القطعة التي له على المهذب" عن ¬

_ = على ترتيب "الوجيز" للغزالي مات غازيًا بثغر دمياط في جمادى الآخرة أو في رجب سنة ست عشر وستمائة، ترجمته: الديباج المذهب (1/ 443)، وشجرة النور (165). وانظر: فهارس طبقات ابن قاضي شهبة (4/ 238). (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) ساقطة من ن ب. (¬3) هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عباد أبو عاصم العبادي الهروي مصنف كتاب "الزيادات" مات في شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمائة عن ثلاث وثمانين سنة. ترجمته: طبقات الأسنوي (315)، ووفيات الأعيان (3/ 351). (¬4) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، له مؤلفات منها "المقنع" و"المجرد" ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة ومات في ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة. ترجمته في: تاريخ بغداد (4/ 372)، والنجوم الزاهرة (4/ 262).

صاحب "الأمالي" (¬1): أنه إذا فرغ من غسل اليمنى حوله بيمينه وصب منه على اليسرى حتى يفرغ، ولم يوافق عليه لكنه حسن، فإن غرف منه فيكون عن يمينه. السادس: قوله: "ثلاث مرات" فيه استحباب التثليث في ذلك، ولعله إجماع. تنبيه: لم يذكر في هذا الحديث التسمية، وهي سنة عند الأئمة الأربعة، وعن أحمد رواية بوجوبها. وقال إسحاق: إن تركها عامدًا أعاد، وعن مالك [رواية بالتخيير ورواية بالكراهة] (¬2). السابع: قوله: "ثم أدخل يمينه في الوضوء" فيه استحباب غسل اليدين قبل إدخالهما في الإِناء في ابتداء الوضوء مطلقًا، والحديث السادس المتقدم يعطي استحبابه عند القيام من النوم، وقد مضى ما فيه هناك وأن الحكم عند عدم القيام الاستحباب، وعند القيام تارة يكون مكروهًا وتارة لا يكون مكروهًا، فراجعه منه. الثامن: فيه جواز إدخالهما الإناء بعد غسلهما وأنه لا يفتقر إلى نية الاغتراف. التاسع: قوله: "ثم تمضمض واستنشق واستنثر" لفظة (ثم) تفيد الترتيب بين غسل اليدين والمضمضة، والأصح عند الشافعية أن ¬

_ (¬1) انظر: فهارس طبقات ابن شهبة (4/ 220)، وطبقات ابن الصلاح (1051). (¬2) تقديم وتأخير في العبارة بين النسختين أب.

ذلك على وجه الاشتراط، وكذا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق أيضًا وإن كان المأتي به في هذا الحديث بينهما "الواو" دون "إثم"، وعبر الماوردي عن الخلاف بأن في وجوب الترتيب في المسنونات وجهين. فائدة: قال الشيخ عز الدين: قدمت المضمضة على الاستنشاق لشرف منافع الفم على منافع الأنف، [فإنه] (¬1) مدخل الطعام والشراب اللذين بهما قوام الحياة، وهو محل الأذكار الواجبة والمندوبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فائدة ثانية: الحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق على [غسل] (¬2) الوجه المفروض؛ لأن المعتبر في صفات الماء للتطهير: لون يُدرك بالبصر، وطعم يُدرك بالذوق، وريح يُدرك بالشم، فقدمت هاتان السنتان لاخبار حال الماء قبل فعل الفرض به، أفاده القاضي عياض، ولا ينتقض ما ذكره بمن لا يشم وبمن لا يبصر وبمن علم سلامة الماء [لئلا] (¬3) يخفى، مما لا يحتاج إلى تسطيره. العاشر: المضمضة أصلها مشعر بالتحريك، ومنه: مضمض النعاس في عينيه، إذا تحرك، واستعمل في المضمضة لتحريك الماء في الفم، والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط الإِدارة ولا المج، ومن اشترط المج جرى على الأغلب فإن العادة عدم ابتلاعه. ¬

_ (¬1) ن ب (وإنه). (¬2) في الأصل (غير)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) فى ن ب (لم)، وفي ن ج (لما لا).

الحادي عشر، والثانى عشر: الاستنشاق والاستنثار قد أسلفنا بيانهما في الحديث [السادس] (¬1) وأن بعضهم جعلهما بمعنى، وأن هذا الحديث يرد عليه فإنه عليه السلام عطف بعضهما على بعض والعطف يقتضي [المغايرة] (¬2). تنبيهان: الأول: لم يصرح في هذا الحديث بأن المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو بأكثر، وقد يؤخذ [منه] (¬3) الأول؛ لأنه ذكر تكرار غسل الوجه والكفين وأطلق أخذ الماء للمضمضة والاستنشاق، وهو أحد الأوجه الخمسة في ذلك، وحديث عبد الله بن زيد الآتي بعده صرَّح فيه بالعدد وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله [تعالى] (¬4). الثاني: [الاستنثار] (¬5) يكون باليسرى، وليس في الحديث ما يقتضي أنه باليمين فتأمله (¬6). الثالث عشر: جمهور الأمة على أن المضمضة والاستنشاق سنة ¬

_ (¬1) في ن ب (السالف فإن). (¬2) في ن ب (التغاير). (¬3) في ن ب (الأول). (¬4) زيادة من ن ب. انظر: المجموع (1/ 365)، والحاوي الكبير (1/ 124، 125). (¬5) في ن ب (الاستنشاق). (¬6) بل قد ورد في حديث علي ما يصرح أنه باليد اليسرى.

في الوضوء كما [أسلفته] (¬1) في الحديث المذكور [هناك] (¬2) فراجعه مع خلاف العلماء فيه. الرابع عشر: قوله "ثم غسل وجهه ثلاثًا" الغسل في اللغة كما قال ابن عطية (¬3): إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء والتقليل منه، [فغسل] (¬4) الوجه في الوضوء وهو نقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، وهذا فيه إشعار بإيجاب الدلك في الوضوء، وهو مذهبه خلافًا للشافعية. الخامس عشر: الوجه: من من المواجهة، وقد اعتبر الفقهاء هذا الاشتقاق وبنوا عليه أحكامًا، وجمهورهم على أن حد الوجه ما بين منابت [الشعر] (¬5) غالبًا ومنتهى لحييه وما بين أذنيه، وتفصيل القول في ذلك محله كتب الفروع، وقد بسطناها فيها ولله الحمد. السادس عشر: (ثم) هنا للترتيب بين المسنون (¬6) والمفروض، وهما المضمضة وغسل الوجه، وبعض الفقهاء رأى ¬

_ (¬1) في ن ب (أسلفت). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) المحرر الوجيز (5/ 43). (¬4) في الأصل (بغسل)، وما أثبت من ن ب. (¬5) في الأصل (الرأس)، وما أثبت من ن ب. (¬6) في ن ب زيادة (كما أسلفناه).

الترتيب في المفروض دون [المسنون] (¬1) كما أسلفناه وهو مذهب مالك كما أفاده الفاكهي. واختلف أصحاب مالك في الترتيب في الوضوء على ثلاثة أقوال: الوجوب، والندب، والاستحباب، والمشهور عندهم أنه سنة. ومذهب الشافعية: وجوبه. وخالف المُزَني فقال: لا يجب، واختاره ابن المنذر (¬2) والبندنيجي، وحكاه البغوي (¬3) عن أكثر العلماء، وحكاه [الدِزْمارِي] (¬4) قولًا عن القديم، وعزاه إلى صاحب [الترتيب] (¬5)، وفيه رد لقول الفاكهي المالكي: لا يختلف قول الشافعى في وجوبه، قال إمام الحرمين (¬6): لم ينقل قط أحدٌ أنه عليه السلام نكّس وضوءه، فاطرد الكتاب والسنة على وجوب الترتيب. ¬

_ (¬1) في ن ب (السنن). (¬2) الأوسط لابن المنذر (1/ 386). (¬3) في شرح السنة (1/ 414). (¬4) في ن ب (الدرماري)، وفي الأصل (البدرماري)، وضُبط من كتب التراجم. هو أحمد بن كشاسب بن علي بن أحمد، له مصنفات منها "رفع التمويه عن مشكل التنبيه" في مجلدين. توفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق. ترجمته في: طبقات ابن قاضي شهبة (2/ 100). (¬5) انظر: فهارس طبقات ابن قاضي شهبة (4/ 228). (¬6) نقل عنه النووي في المجموع (1/ 447).

قال صاحب القبس (¬1): ما أحسن هذا السياق لولا أنكم قلتم: يجوز تقديم اليمنى على اليسرى، ولم ينقل ذلك من فعله عليه السلام قط، فعذركم عن هذا هو عذرنا عن ذلك. قلت: مذهبك أن تقديم [باليمين] (¬2) سنة، ولم يقل بالوجوب إلَّا الشيعة فلا يلزم ذلك. (فرع): الموالاة [سنة] (¬3) عند أكثر العلماء؛ وبه قال الشافعي وأحمد خلافًا لمالك. [السابع عشر: قوله "ثلاثًا" يفيد استحباب هذا العدد في كل ما ورد فيه. الثامن عشر: قوله "ويديه إلى المرفقين" المرفق: بفتح الميم وكسر الفاء وعكسه لغتان، وكذلك المرفق من الأمر الذي يرتفق وينتفع به الإنسان، وهما قراءتان في السبع، قرأ نافع وابن عامر بالأولى وقرأ الباقون بالثانية، والمراد به موصل الذراع في العضد لكن اختلف قول الشافعي رضي الله عنه هل هو اسم لإِبرة الذراع أم [لمجموع] (¬4) عظم رأس العضد مع الإِبرة؟ على قولين: وبنى على ذلك أنه [لوصل الذراع من العضد هل يجب غسل رأس العضد ¬

_ (¬1) القبس (1/ 174)، مع اختلاف في العبارة. (¬2) في ن ب (اليمنى). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) في الأصل (المجموع)، وما أثبت يستقيم به المعنى.

أم يستحب؟ فيه قولان أشهرهما وجوبه] (¬1). [التاسع عشر] (¬2): اختلف العلماء في [وجوب] (¬3) إدخال المرفقين في الغسل على قولين. فذهبت الأئمة الأربعة -كما عزاه ابن هبيرة إليهم- والجمهور إلى الوجوب. وذهب زفر وأبو بكر بن داود: إلى عدم الوجوب، ورواه أشهب عن مالك وزيفه القاضي عبد الوهاب. ومنشأ الخلاف: أن كلمة (إلى) لانتهاء الغاية وقد ترد بمعنى "مع"، والأول هو المشهور فمن قال به لم يوجب إدخالهما في الغسل، ومن قال بالثاني أوجب، وفرق بعضهم بين أن تكون الغاية من جنس ما قبلها أو لا، فإن كانت من الجنس دخلت كما في الوضوء، وإن كانت من غيره لم تدخل كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬4) ومنهم من قال: إن كانت الغاية [لإِخراج] (¬5) ما دخل قبلها لم يخرج فإن اسم اليد يطلق عليها إلى المنكب، حتى قال أصحاب الشافعي: لو طالت [أظفاره] (¬6) ولم يقلمها وجب ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (السابع عشر). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) سورة البقرة: آية 187. (¬5) في ن ب (بإخراج). (¬6) في ن ب ج (أظافيره).

غسلها قطعًا لاتصالها باليد ودخولها فيه، ولذلك: لو نبت في محل الفرض يد أخرى أو سلعة وجب غسلها (¬1). فلو لم ترِد هذه الغاية لوجب غسل اليد إلى المنكب، فلما دخلت أخرجت عن الغسل ما زاد على المرفقين فانتهى الإِخراج إلى المرفقين فدخل في الغسل. وقال آخرون: لما تردد اللفظ بين أن تكون للغاية أو بمعنى (مع) فاقتضى الإِجمال، فبيّنه فعله عليه السلام، حيث أدار الماء على "مرفقيه"، وفعله أصل في بيان المجمل خصوصًا في الوجوب. قال الشيخ تقي (¬2) الدين: وهذا عندنا ضعيف؛ لأنَّ "إلى" حقيقة في انتهاء الغاية مجاز بمعنى "مع" ولا إجمال في اللفظ بعد تبين حقيقته، ويدل على أنها حقيقة في انتهاء الغاية كثرة نصوص أهل العربية على ذلك، ومن قال بأنها بمعنى (مع) لم ينص على أنها حقيقة في ذلك فيجوز أن يريد المجاز. وقال أبو البقاء في "إعرابه" (¬3): الصحيح أنها على بابها، وأنها لانتهاء الغاية، وإنما وجب غسل المرافق بالسنة، وليس بينهما تناقض؛ لأن "إلى" تدل على انتهاء الفعل ولا تعرض لنفي المحدود إليه ولا لإِثباته؛ لأنك إذا قلت: سرت إلى الكوفة فغير ممتنع أن ¬

_ (¬1) ينبغي لمن أراد الوضوء أن يتنبه عند غسل اليد فإن اليد مبدؤها من أطراف الأصابع إلى المرفقين. فغالب الناس لا يغسل الكفين مكتفيًا بغسلهما في بداية الوضوء، فإن الغسل في البداية سنة فلو لم يغسل لم يؤمر بذلك، وغسل اليد فرض من فروض الوضوء. (¬2) إحكام الأحكام (1/ 176). (¬3) إملاء ما مَنَّ به الرحمن في إعراب القرآن. مع حاشية الجمل (2/ 389).

تكون بلغت أول حدودها ولم تدخكها وأن تكون دخلتها، فلو قام الدليل على أنك دخلتها لم يكن مناقضًا لقولك: سرت إلى الكوفة. تنبيهان: الأول: ملخص ما في "إلى" خمس مذاهب للأصوليين (¬1): أحدها: أن ما بعدها ليس داخلًا، وهو مذهب الشافعي. وثانيها: أنه داخل. وثالثها: إن كان من الجنس دخل، وإلَّا فلا. ورابعها: إن لم [يكن] (¬2) معه من دخل، وإلَّا فلا. وخامسها: إن كان منفصلًا عما قبله بمفصل معلوم بالحس كآية الصوم السالفة فإنه لا يدخل، وإلَّا فيدخل كآية الوضوء. وفي المحصول والمنتخب أن هذا التفصيل هو [الأولى] (¬3)، ومذهب سيبويه أنه [إن] (¬4) اقترن "بمن" فلا يدخل وإلَّا فيحتمل الأمرين، واختار الآمدي أن التقييد بالغاية لا يدل على شيء، وفي دخول غاية الابتداء أيضًا مذهبان. الثاني: (إلى، وحتى) يكونان لانتهاء الغاية مع كونهما جارتين، ويفترقان من وجهين: ¬

_ (¬1) انظر: المحصول (1/ 530). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (الأول)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) زيادة من ج.

الأول: أن ما بعد (إلى) غيرُ داخلٍ فيما قبلها على الصحيح إلَّا أن تقترن به قرينة دالة على دخوله، و (حتى): على العكس من ذلك، وهذا إذا كانت (حتى) عاطفة، فإن كانت غاية بمعنى إلى فلا يدخل، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} (¬1). والثاني: أن (إلى) تجر الظاهر والمضمر، و (حتى) لا تجر [إلَّا] (¬2) الظاهر دون المضمر في الأمر العام. فائدة: ادعى [الحكيم] (¬3) الترمذي في علله أن يبدأ في غسل اليد [بالذراع] (¬4) إلى المرفق ثم يمده على باطن الذراع إلى الكف، وفي المرة الثانية عكسه، وفي الثالثة [يعممها] (¬5) فإنه السنة، ولا يسلم له ذلك، نعم السنة أن يبدأ [بأصبع يديه وكذا رجليه] (¬6) لكن قال الصيمري والماوردي (¬7): إن كان غيره يصب عليه؛ بدأ من كعبه. العشرون: قوله: "ثم مسح برأسه" ظاهره: استيعاب الرأس بالمسح؛ لأن اسم الرأس حقيقة في العضو كله، لكن الاستيعاب هو هو على سبيل الوجوب أو الندب؛ اختلف الفقهاء فيه، وليس في ¬

_ (¬1) سورة القدر: آيه 5. (¬2) في الأصل (إلى)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) في ن ب (الحليمي). (¬4) في ن ب (الذراع). (¬5) في ن ب (يعمها). (¬6) في ن ب عكس تقديم وتأخير باللفظ. (¬7) الحاوي الكبير (1/ 129).

الحديث ما يدل على الوجوب لمسح جميعه لجواز أن يكون الثواب المخصوص المذكور في آخره على هذه الأفعال، إذ لا يلزم منه عدم الصحة عند عدم كل جزء من تلك الأفعال كما رتبه فيه على المضمضة والاستنشاق وإن لم يكونا واجبين عند الجمهور، وادعاء الإِجمال فيه كما في المرفقين وأن الفعل بيان له ليس بصحيح؛ لأن الظاهر من الآية مبين: إما على مطلق المسح كما يقول الشافعى بناء على أن "الباء" في الآية للتبعيض أو لغير ذلك. أو على الكل كما يقول مالك في المشهور عنه بناء على أن اسم الرأس حقيقة في الكل والتبعيض لا يعارضه، وكيف ما كان فلا إجمال (¬1)، خلافًا للحنفية، وهذا قوي وهو المشهور [عن] (¬2) المزني من الشافعية، وحكاه في "البيان" عن أبي نصر البندنيجي، ونقله الإمام فخر الدين في مناقب الشافعي عن البغوي (¬3)، وادَّعى بعض شراح هذا الكتاب من الشافعية أنه قول عن الشافعي، [والمعروف ما ذكرته. ونقل صاحب المحصول عن الشافعي] (¬4) أن مسح الرأس ¬

_ (¬1) إلى هنا نقله من إحكام الأحكام مع تصرف في العبارة (1/ 683). (¬2) في ن ب (عند). (¬3) انظر: السنة للبغوي (1/ 439) حيث قال الشافعى: يجب أن يمسح قدر ما ينطلق عليه اسم المسح وإن قل. اهـ. (¬4) زيادة من ن ب.

حقيقة فيما ينطق عليه اسم المسح وهو القدر المشترك بين الكل والبعض؛ لأن هذا التركيب تارة يأتي لمسح الكل وهو واضح وتارة يأتي لمسح البعض، كما يقال: مسحت بيدي برأس اليتيم، وإن لم يمسح منها إلَّا البعض، فإن جعلناه حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك، وإن جعلناه حقيقة في أحدهما فقط لزم المجاز في الآخر فيجعله حقيقة في [القدر المشترك] (¬1) دفعًا للمحذورين، قال البيضاوي: وهذا هو الحق. ثم نقل في المحصول (¬2) عن بعض الشافعية أن الباء تدل على التبعيض فلذلك اكتفينا بالبعض، وأنكر ابن جِنِّي (¬3) ورودها للتبعيض وقال: إنه شيء لا يعرفه أهل اللغة. وهو عجيب منه فقد ورد في أشعارهم، ونص عليه الأصمعي والقتبي والفارسي في "التذكرة" وابن مالك (¬4)، وحكاه ابن القواس (¬5) في شرح "ألفية ابن معطي" (¬6) ¬

_ (¬1) في ن ب (هذه الكلمة)، وما قبلها مكررة. (¬2) (1/ 532، 533). (¬3) هو عثمان بن جني، تلميذ الفارسي، من نحاة البصرة، توفي سنة (392). انظر: النزهة (332)، وبغية الوعاة (1/ 132). (¬4) انظر: ابن هشام في المغني (1/ 95، 103). (¬5) هو أبو حفص عمر بن عبد المنعم ناصر الدين الطائي المتوفى سنة (698). انظر: شذرات الذهب (5/ 442). (¬6) هو يحيى بن عبد المعطي أبو الحسين الزواوي المغربي "صاحب ألفية النحو" مات في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وستمائة. ترجمته: الجواهر المضيئة للقرشي (2/ 214)، والفلاكة والمفلوكون (93).

عن ابن كيسان (¬1) وحكاه ابن الخباز (¬2) عن العبدي. فائدة: أُلخصُ لك فيها مذاهب العلماء في مسح الرأس: فذهب الشافعى رضي الله عنه أن الواجب ما يقع عليه الاسم ولو بعض شعره، قال القاضي حسين: ولو على قدر رأس إبرة، ووراثه آراءٌ لأصحابه: [أحدها] (¬3): أن أقل ما يجزىء ثلاث شعرات قياسًا على الحلق في الإِحرام، وادَّعى الماوردي (¬4): أنه المذهب. [وهل] (¬5) يختص هذا الوجه بما إذا مسح الشعر أم يجزئ في مسح البشرة ويشترط مسح قدر ثلاث شعرات؟ قال الرافعي: في كلام الائمة ما يشعر بالاحتمالين والأول أظهر. ثانيها: يجب مسح الجميع، وقد أسلفناه (¬6). ¬

_ (¬1) هو علي بن محمد بن أحمد أبو الحسن الحربي وله أخ اسمه "الحسن". ترجمته في: سير أعلام النبلاء (16/ 329). (¬2) هو محمد بن أبي بكر بن علي ولد سنة سبع وخمسين وخمسمائة وتوفي بحلب فى ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة. طبقات ابن شهبة (2/ 83). (¬3) في ن ج (احدهما). (¬4) الحاوي الكبير (1/ 118). (¬5) في ن ب (وقيل). (¬6) والحديث: "ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". البخاري (1/ 251، 255)، باب: مسح الرأس كله، ومسلم برقم (235)، ومالك في الموطأ (1/ 18).

ثالثها: أنه ينبغي (¬1) ألا يجزي أقل من الناصية، قاله البغوي (¬2) معللًا بأنه، عليه السلام لم يمسح أقل منها، وفيه نظر لدخول الباء عليها كما في الآية، وقال الماوردي: عندي أن أقله أن يمسح بأقل شيء من إصبعه على أقل شيء من رأسه لأنه أقل ما يقتصر عليه في العرف، ووقع في (المحلى) (¬3) لابن حزم الظاهري أن أصحاب الشافعي حدوا ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين ولم أره في كلام أصحابنا. وأما مذهك مالك رضي الله عنه فنقل صاحب (البيان والتقريب) فيه أربعة أقوال: أشهرها: وجوب استيعاب جميعه، وحده: من منقطع الوجه إلى ما تحوزه الجمجمة. وقال ابن شعبان: بل إلى آخر منبت الشعر من القفا. قال اللخمي: وليس يحسن؛ لأن ذلك من العنق وليس من الرأس. وثانيها: يجزئ مسح الثلثين، قاله محمد بن مسلمة (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (أن). (¬2) شرح السنة (1/ 438، 440). (¬3) (2/ 52). (¬4) محمد بن مسلمة بن محمد بن هشام، توفي سنة (216)، ترجمته في ترتيب المدارك (1/ 358)، والديباج (2/ 156). انظر قوله في: الاستذكار (2/ 30 - 32).

وثالثها: يجزئ مسح الثلث [قاله] (¬1) أبو الفرج القاضي عمرو بن محمد الليثي. ورابعها: إجزاء الناصية، قاله أشهب (¬2) في رواية، وعنه رواية أنه إن لم [يعم] (¬3) رأسه أجزأه، ولم يقدر ما لا يضر تركه. وهذه الأقاويل مذاهب أصحابه مخرجة على مذهبه، وأولها نص مذهبه. ونقل اللخمي عن مالك في العتبية: إن مسح المقدم أجزأه، قيل له: فإن مسح بعض رأسه ولم يعم؟ قال: يعيده، أرأيت لو غسل بعض وجهه أو بعض ذراعيه؟ وذهب إلى التفرقة بين المقدم والمؤخر، فهذه خمسة أقوال عدهم. وأما مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، فعنه (¬4) ثلاث روايات: الربع، قدر الناصية، قدر ثلاث أصابع، والأولى أشهرها. وعن أبي يوسف: نصف الرأس، وعنه: الربع بثلاث أصابع، فإن مسح بثلاث أصابع دون ربع الرأس لم [يجزىء] (¬5)، وإن مسح ¬

_ (¬1) في ن ب (قال ابن أبو)، وأبو الفرج هو: عمرو بن محمد بن عمرو الليثي، ويقال: ابن محمد بن عبد الله البغدادي، مات سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، له مصنفات "الحاوي"، وكتاب "اللمع". ترجمه: شجرة النور الزكية (1/ 79)، والديباج المذهب (1/ 129). وانظر قوله هذا في: الاستذكار (2/ 30 - 32). (¬2) انظر: الاستذكار (2/ 30). (¬3) في ن ب (يعمم). (¬4) في ن ب (ففيه). انظر: الاستذكار (2/ 35). (¬5) في ن ب ج (يجزه).

بأصبعين ربع الرأس [لم يجزئه، فحد الممسوح به والممسوح. وعن زفر أن الفرض منه ربع الرأس] (¬1) سواء مسحه [بثلاث] (¬2) أصابع أو دونها فحد الممسوح دون ما يمسح به، وهذا يرجع إلى أحد أقوال أبي حنيفة المتقدمة. وأما مذهب أحمد رضي الله عنه، فعنه روايتان: الأولى: يجب مسح الجميع، وهي المشهورة عنه. وثانيها: يجب مسح أكثره، فإن ترك [الثلث] (¬3) فما دونه أجزأه. وحكى ابن الصباغ عن ابن عمر (¬4) موافقة المشهور عن الشافعى، وحكاه غيره عن الحسن البصري وسفيان الثوري وداود، ومحل الخوض في البحث في ذلك كتب الخلافيات، وقد أسلفت لك فيما مضى مأخذ ذلك. فرع: لا تتعين اليد للمسح، وبه قال الأوزاعي والنخعي والثوري وصاحب (عيون المجالس) من المالكية والشافعية أيضًا، ولا أعلم في ذلك خلافًا. فرع: الماسح مخير في المسح بين الاقتصار على مسح الشعر ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في الأصل (بثلاث)، وما أثبت من ن ب ج. (¬3) في ن ب (الثلاث). (¬4) ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (2/ 34).

أو البشرة (¬1) مع وجوده، هذا هو الأصح عند الشافعية، وفي وجه عندهم: أنه لا يجزئ مسح البشرة التي تحت الشعر، ومن العجيب نقل بعض شراح هذا الكتاب من الشافعية اتفاق العلماء على أن المسح لا يتعين على الشعر ولا على البشرة في حق من له شعر، بل أيهما مسح عليه أجزأه، ولا نقول: إن مسح الشعر بدل عن البشرة كما يقول في الخف، وهذا غريب منه، [فالخلاف] (¬2) ثابت في مذهبه كما حكيته لك. الحادي والعشرون: قوله: "ثم غسل كلتا رجليه" فيه الصراحة بوجوب غسلهما، والرد على من أوجب المسح، وقد تقدم في الحديث الثالث إيضاح ذلك. الثاني والعشرون: "كلا وكلتا" إذا أضيفتا إلى مضمر أُعربتا إعراب التثنية بالألف رفعًا وبالياء جرًا ونصبًا، وإذا أضيفتا كما هو هنا أُعربتا إعراب المقصور نحو: عصى، ورحى. الثالث والعشرون: قوله "ثلاثًا" فيه استحباب التثليث في غسل الرجلين، وبعض الفقهاء كما نقله الشيخ تقي الدين (¬3) لا يراه، واستدَّل بأنه ورد في بعض الروايات غسل رجليه حتى أنقاهما ولم يذكر عددًا، وأكد من جهة المعنى بقرب الرجل من ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (وهذا). (¬2) في ن ج (فإن الخلاف). (¬3) في ن ب زيادة (واو)، وهي ساقطة من إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 183).

الأرض في المشي وكثرة مباشرتها الأوساخ والأدران فاقتضى الإنقاء من غير عدد، لكن هذا لا ينافي العدد؛ لما في [ذكر] (¬1) العدد من الزيادة عليه، [فتعين] (¬2) العمل به لدلالة لفظ الحديث عليه من غير وجه. فائدة: أجمع العلماء على أن تثليث الطهارة [مستحب] (¬3) إلَّا الرأس، فالمشهور [عن] (¬4) الشافعي أنها كغيرها في الاستحباب خلافًا لباقي الأئمة الثلاثة، دليل الشافعى ما رواه أبو داود بإسناد جيد من حديث حمران عن عثمان أنه عليه السلام "مسح رأسه ثلاثًا" وإن كان أبو داود (¬5) [قد] (¬6) قال: أحاديث عثمان الصحاح تدل على أن مسح الرأس كان مرة، فهذا [إسناده] (¬7) حسن وله شواهد ومتابعات، وقد بسطت ذلك في تخريج أحاديث الرافعي فليراجع منه (¬8). وقول أبي عبيد القاسم بن سلام: لا يعلم أحدٌ من السلف جاء ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (فبقي). (¬3) في ن ب (مستحبة). (¬4) في ن ب (من). (¬5) السنن (1/ 80). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب (إسناد). (¬8) انظر: تلخيص الحبير (1/ 84)، فإنه ذكر الحديث وتكلَّم عليه. وانظر: مبحث مسح الرأس فى البدر المنير (3/ 356، 393)، والطهور لأبي عبيد (361)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 15، 16).

عنه استعمال الثلاث، يعني الذي ذهب إليه الشافعي إلَّا عن إبراهيم التيمي، عجيب، فقد فعله أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وزادان وميسرة، [كما] (¬1) ذكره عنهم ابن أبي شيبة ومصرف [أبي] (¬2) عمرو، كما ذكره ابن السكن، ومن الغرائب ما حكاه الشيخ أبو حامد وغيره أن بعض الناس أوجب الثلاثة، وحكاه صاحب (الإبانة) عن ابن أبي ليلى (¬3) وهو باطل. قال مالك: ولا أحب الواحدة إلَّا من العالم بالوضوء، وعندهم أن الاقتصار على الواحدة مكروه. واختلفوا في وجه الكراهة فقيل: لتركه الفضيلة، وقيل: مخافة ألا يعم بها. ولو خالف بين الأعضاء فغسل [بعضها] (¬4) مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثًا جاز بالإِجماع والأخبار. الرابع والعشرون: قوله: "نحو وضوئي هذا" اعلم أن لفظ "نحو" لا يطابق لفظة مثل، فإن المثل: تقتضي ظاهر المساواة من كل وجه إلَّا من الوجه الذي يقع به الامتياز بين الحقيقتين بحيث يخرجهما عن الوحدة، ولفظة "نحو" لا تعطي ذلك وإن استعملت كذلك لغة لا اصطلاحًا عرفيًا، فيكون استعمالها فيها مجازًا، ولهذا ¬

_ (¬1) زيادة من ن ج. (¬2) في ن ب ج (ابن). (¬3) راجع تلخيص الحبير (1/ 85). (¬4) في ن ب ساقطة.

فرق المحدثون بين "نحو" و"مثل"، فقالوا: فيما كان مثل الإسناد [أو] (¬1) المتن من كل وجه: "مثله" كما استعمله مسلم في [صحيحه] (¬2) في غير موضع، وقالوا "نحوه" فيما قارب الإسناد أو المتن، حتى استدلوا على الذين قالوا بالفرق بينهما وألزموهم بمنعهم الرواية بالمعنى، ولعل واصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروايته عنه لفظه "نحو وضوئي هذا" لحظ الفرق بينهما من حيث أنّ مثليه وضوئه - صلى الله عليه وسلم - لا تتأتى لأحد إلَّا من حيث امتثال الأمر وحصول الثواب المناسب للمتوضئ على قدر تبعيته فيه؛ لأنه قد يكون في وضوئه عليه السلام أشياء لم يكلف بها، فتكون ملغاة بالنسبة إلينا، فيكون ذلك بيانًا للفعل الذي يحصل الثواب الموعود به، وعليه فلا بد أن يكون الوضوء المفعول موصوفًا لأجل الغرض المطلوب؛ فلهذا استعمل "نحو" في حقيقتها العرفية مع فوات المقصود لابمعنى "مثل"، أو يكون ترك ما علم قطعًا أنه لا يخل بالمقصود، مع أن لفظة "مثل" ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي داود، وهذا لفظه: "ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ مثل وضوئي هذا ثم صلى ركعتين ... " (¬3) الحديث، وثابتة أيضًا في ¬

_ (¬1) في ن ب بالواو. (¬2) في ن ج ساقطة. (¬3) السنن برقم (109)، وفي صحيح البخاري في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن بن حمران عن عثمان ولفظه "من توضأ مثل وضوئي هذا". وله في الصيام من رواية معمر "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران "توضأ مثل وضوئي هذا". وعلى هذا =

صحيح أبي حاتم ابن حبان، وهذا لفظه عن حمران قال: "رأيت عثمان قاعدًا في المقاعد فدعا بوضوء فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يتوضأ] (¬1) في مقعدي هذا مثل وضوئي هذا ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ مثل وضوئي هذا غفر له ما تقدم من ذنبه"، ثم قال عليه السلام: "ولا تغتروا" (¬2). وهذه الرواية أخرجها البخاري أيضًا كما سيأتي، ولم يعثر الشيخ تقي الدين عليها بل قال: يمكن أن يقال إن الثواب يترتب على مقاربة ذلك الفعل؛ تسهيلًا وتوسيعًا على المخاطبين من غير تضييق وتقييد بما ذكرناه، إلَّا أن الأول أقرب إلى مقصود البيان. وقال الفاكهي: لا بدَّ من ذلك لتعذر الإِتيان بمثل وضوئه عليه ¬

_ = فالتعبير بـ"نحو" من تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية مجازًا. ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرًا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. اهـ، فتح الباري (1/ 260). (¬1) في ن ج (توضأ). (¬2) هذه اللفظة أخرجها البخاري برقم (6433)، ومعناه: لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب فسترسلوا في الذنوب اتكالًا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه .. وظهر لي جواب آخر وهو: أن المُكَفَّر بالصلاة هي الصغائر فلا تغتروا تعملوا الكبيرة بناءً على تكفير الذنوب بالصلاة فإنه خاص بالصغائر، أو: لا تستكثروا من الصغائر فإنها بالإِصرار تعطى حكم الكبيرة فلا يكفرها ما يكفر الصغيرة، أو أن ذلك خاص بأهل الطاعة فلا يناله مرتكب المعصية. وانظر: ابن حبان (360، 1060).

السلام، وذلك مما تقتضيه الشريعة السمحة من التوسعة وعدم التضييق على المكلف، ولم يعثر على الرواية التي أسلفناها أيضًا، [وكذا] (¬1) النووي في (شرح مسلم) فإنه قال: إنما أتى "بالنحو" دون "المثل" لأنَّ حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره؛ ثم رأيت بعد ذلك [الحُميدي] (¬2) في (جمعه بين الصحيحين) عزى رواية "مثل" إلى مسلم من رواية زيد بن أسلم، أن عثمان "توضأ" ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيته إلى المسجد نافلة"، وعزاه ابن أبي أحد عشر في (جمعه بين الصحيحين) [إليه] (¬3) أيضًا، وراجعت صحيح مسلم فرأيت الرواية المذكورة فيه بلفظ: "نحو" لا بلفظ "مثل" (¬4)، وعزى ابن أبي أحد عشر إليه أيضًا من طريق آخر لفظة "مثل" ولفظة [ثم] (¬5) قال: "من توضأ مثل الوضوء" ولم أرها من الوجه الذي ذكره أيضًا في مسلم فتنبه لذلك. وفي البخاري في كتاب الصيام "توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال ¬

_ (¬1) في ن ب (وكذلك). انظر: شرح مسلم (3/ 108). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) الذي في صحيح مسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران مولى عثمان (مثل). (3/ 113) النووي، أما الطريق الآخر عن عطاء بن يزيد الليثي عن حمران مولى عثمان (نحو) (3/ 109، 110)، وأتيت بطريق زيد بن أسلم؛ لأن المصنف رحمنا الله وإياه نص عليها. اهـ. (¬5) في ن ب ساقطة.

من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين" (¬1) إلخ، وفي (¬2) كتاب الرقاق في أسباب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (¬3)، عن ابن أبان قال: أتيت عثمان بطهور وهو جالس على المقاعد فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في هذا المجلس فأحسن الوضوء ثم قال: "من توضأ مثل هذا الوضوء ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه" قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تغتروا" (¬4). وما أسلفناه في تفسير المثل هو ما ذكره الشيخ تقي الدين هنا (¬5)، وقال في أسباب الأذان في قوله عليه السلام "فقولوا مثل ما يقول" إن فيه دلالة على أن لفظ "مثل" لا تقتضي المساواة من كل وجه، وستقف عليه هناك إن شاء الله مع زيادة. الخامس والعشرون: "قوله" (¬6): "ثم صلى ركعتين" فيه استحباب ركعتين بعد الوضوء، [قال في (شرح مسلم) فأكثر] (¬7) وتفعل كل وقت حتى وقت النهي عند الشافعية، خلافًا للمالكية قالوا: وليست هذه من السنن، قالوا: وحديث بلال في ¬

_ (¬1) انظر: تعليق (2) ص (323). (¬2) في الأصل زيادة (في)، وهي ساقطة من ن ب ج. (¬3) سورة فاطر: آية 5. (¬4) انظر: تعليق (2) من (323). (¬5) إحكام الأحكام مع الحاشيه (1/ 184). (¬6) في الأصل (قولهم)، والتصحيح من ن ب ج. (¬7) زيادة من ن ب. انظر: شرح مسلم (3/ 108).

البخاري (¬1): إنه كان متى توضأ صلى، وقال: إنه أرجى عمل له، يجوز أن يخُصَّ بغَيْرِ أوقات النهي. فرع: هل تحصل هذه الفضيلة بركعة؟ الذي يظهر المنع، وهل يجري فيه الخلاف الذي ذكره أصحابنا في التحية ونظائرها؟ فيه نظر. السادس والعشرون: الثواب الموعود به مرتب على أمرين: الأول: وضوؤه على النحو المذكور. الثاني: صلاة ركعتين عقبه بالوصف المذكور في الحديث، والمرتب على مجموع أمرين لا يلزم ترتيبه على أحدهما إلَّا بدليل خارج، وقد يكون المشي فضيلة بوجود أحد جزئيه؛ فيصبح كلام من أدخل هذا الحديث في فضل الوضوء فقط لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة بالوصف المذكور. السابع والعشرون: قوله: "لا يحدث فيهما نفسه" [فيه] (¬2) إثبات حديث النفس وهو مذهب أهل الحق، ثم حديث النفس قسمان: ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1149)، ومسلم (2458)، والبغوي (1011)، وأحمد (2/ 333، 439)، وقد ورد من طريق أخرى مطولًا عند الترمذي (3689)، والبغوي (1012)، وأحمد في المسند (5/ 354، 360)، وفضائل الصحابة له (713). (¬2) في الأصل (في)، والتصحيح من ن ج.

الأول: ما يهجم عليها ويتعذر دفعه عنها. والثاني: ما يسترسل معها ويمكن [وقفه] (¬1) وقطعه، فيحمل الحديث عليه دون الأول؛ لعسر اعتباره، ولفظ الحديث يقتضيه بقوله: "لا يحدث" فإنه يشهد بتكسب وتفعل كحديث النفس [لا] (¬2) الخواطر التي ليست من جنس مَقدُور العَبد معفوٌّ عنها، [ويمكن أن يحمل على القسمين؛ لتعلق العُسْر بالتكاليف في وجوب دفعه، فالحديث إنما يقتضي ترتب ثواب مخصوص على عمل مخصوص] (¬3) فمن حصل له ذلك العمل حصل له ذلك الثواب، ومن لا فلا، ولا يكون ذلك من باب التكاليف حتى يلزم دفعُ العُسر عنه، نعم لا بدَّ أن تكون الحالة المرتب عليها الثواب المخصوص ممكنة الحصول وهي التجرد عن شواغل الدنيا وغلبة ذكر الله تعالى على القلب وتعميره به، وذلك حاصل لأهل العناية ومحكي عنهم. ونقل القاضي عياض (¬4) عن بعضهم أن ما يكون من غير قصد يرجى أن تقبل معه الصلاة ويكون دون صلاة من لم يحدث نفسه بشيء؛ لأنه عليه السلام إنما ضمن الغفران لمراعي ذلك، لأنه قلَّ من تسلم صلاته من حديث النفس، وإنما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنه ومحافظته عليها حتى ¬

_ (¬1) في ن ب ج (دفعه). (¬2) في ن ب ج (لأن). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) ذكره في شرح مسلم (3/ 109).

لم يشتغل عنها طرفة عين، [وسلم] (¬1) من الشيطان باجتهاده وتفريغه قلبه. ولم يرتضِ النووي (¬2) هذا، قال: [و] (¬3) الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. الثامن والعشرون: حديث النفس يعم الخواطر الدنيوية [والأخروية] (¬4)، والحديث محمول على المتعلق بالدنيا فقط؛ لأنه مأمور بالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز والذكر والدعوات وتدبرها، وذلك لا يحصل بحديث النفس، وليس كل أمر محمود أو مندوب بالنسبة إلى غير وقته وحاله من أمور الآخرة، بل قد يكون أجنبيًا عنها مثابًا عليه، وقد كان عمر رضي الله عنه يجهز الجيوش وهو في الصلاة (¬5)، واستعجل - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاة وفراغه منها وسئل ¬

_ (¬1) في ن ب (يسلم). (¬2) انظر: شرح مسلم (3/ 108). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) ساقطة من ن ب. (¬5) قال شيخ الإِسلام رحمه الله تعالى، في الفتاوى (22/ 609): وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة؛ فذاك لأن عمر كان مأمورًا بالجهاد، وهو أمير المؤمنين، فهو أمير الجهاد، فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة ومأمور بالجهاد، فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإِمكان. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}. ومعلوم أن طمأنينة القلب حال =

عن ذلك، فقال: "كان عندي شيء [من] (¬1) تبر فكرهت أن يحبسني فقسمتُه" (¬2)، وكل ذلك قربة خارجة عن مقصود الصلاة. وفي كتاب (الصلاة) للحكيم الترمذي قال سعد رضي الله عنه: "ما قمت في ¬

_ = الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قدر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته، ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن ولما ذكر سبحانه صلاة الخوف قال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}، فالإِقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف، ومع هذا فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة مع تدبره للأمور بها، وعمر قد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ... إلى أن قال: ولا ريب أن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة، فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة؟ وبالجملة فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته، ليس كتفكره فيما ليس بواجب أو فيما لم يضق وقته، وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلَّا في تلك الحال وهو إمام الأمة والواردات عليه كثير، ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائمًا يذكر في الصلاة ما لم يذكره خارج الصلاة. اهـ. انظر: القبس (1/ 256)، حيث قال على قول عمر رضي الله عنه (إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة" وفي مثل عمر تعزب النية إلى عبادة أخرى، فأما أمثالنا فإنما تعزب نياتنا بالاشتغال بالدنيا فاحفظوا رحمكم الله قلوبكم عن الخواطر في الصلاة كما تحفظون جوارحكم عن الأعمال من غيرها. اهـ. (¬1) زيادة من ب ج. (¬2) أخرجه البخاري (851).

صلاة فحدثت نفسي فيها بغيرها" [فقال] (¬1) الزهري: رحم الله سعدًا، إن كان لمأمونًا على هذا، ما ظننت أن يكون هذا إلَّا في نبي. قلت: ويؤيد ما سلف أنه جاء في رواية: "لا يحدث فيها نفسه بشيء من الدنيا ثم دعا إلَّا استجيب له" (¬2) ذكرها الحكيم الترمذي أيضًا في الكتاب المذكور. فرع: إذا تعمد حديث النفس وتشاغل به، فهل تبطل صلاته أم لا يفرق بين القليل (¬3) والكثير؟ قال الفاكهي: لم أقف على نص صريح في ذلك لأصحابنا -يعني المالكية- لكن ذكر [ابن] (¬4) العربي في مسألة النية ما ظاهره البطلان. ¬

_ (¬1) في ن ب (قالا). (¬2) قال الصنعاني في حاشية إحكام الأحكام (1/ 190): وهي في الزهد لابن المبارك ومصنف ابن أبي شيبة. قال العراقي رحمنا الله وإياه في تخريج "أحاديت الإِحياء": أخرجه ابن أبي شيبة من حديث صلة بن أشيم مرسلًا وهو في الصحيحن من حديث عثمان بزيادة في أوله دون قوله: "بشيء من الدنيا" وزاد الطبراني في الأوسط: "إلَّا بخير". اهـ. قال الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (3/ 35): قال تلميذه الحافظ: لفظ ابن أبي شيبة في المصنف: "لم يسأل الله شيئًا إلَّا أعطاه". اهـ. (¬3) سئل شيخ الإِسلام عن ذلك فأجاب: (الحمد لله رب العالين، الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلًا باتفاق أهل العلم، بل ينقص الأجر، كما قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلَّا ما عقلت منها). الفتاوى (22/ 603). (¬4) زيادة من ن ب ج. ذكر هذا في القبس (1/ 256).

وعند الشافعية: وجه أن حديث النفس إذا كثر (¬1) أبطل الصلاة، وقال القاضي [حسين] (¬2): يُخاف لمن فكر في أمور الدنيا أن يُحرم فضيلة الجماعة؛ لقوله عليه السلام: "لا صلاة لامرىء لا يُحضر قلبه". وقال غيره: اختلف الفقهاء والزهاد في قبول الصلاة مع استرسال الخواطر المشغلة عن حضور القلب فيها، فمال الفقهاء إلى قبولها، ومال الزهاد إلى عدم قبولها، والأولى بنا والأقوى في أدلتنا: أنه إن كان الخاطرُ عَرضًا عَرضَ فأعرض فالمسالة كما قال الفقهاء، وإن كان سببه التعلق بفضول الدنيا الذي يستغنى عنه فالمسألة كما قاله الزهاد؛ لأن ذلك العارض من سببه، وواقع باختياره [وكسبه] (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) وأما الوسواس الذي يكون غالبًا على الصلاة فقد قال طائفة- منهم أبو عبد الله بن حامد وأبو حامد الغزالي وغيرهما- إنه يوجب الإعادة أيضًا؛ لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بن المرء ونفسه، يقول اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم" وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة مع الوسواس مطلقًا ولم يفرق بين القليل والكثير. اهـ. الفتاوى (22/ 604)، وراجع التعليق الآتي فإن فيه زيادة تفصيل. (¬2) في ن ب (الحسين). (¬3) في ن ج (بكسبه). (¬4) سئل شيخ الإسلام عن وسواس الرجل في صلاته وما حد المبطل؟ وما =

.............................................................. ¬

_ = حد المكروه منه؟ ... إلخ السؤال، فأجاب: الوسواس نوعان: أحدهما: لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بمنزلة الخراطر فهذا لا يبطل الصلاة، لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته، الأول شبه حال المقربين، والثاني شبه حال المقتصدين، وأما الثالث فهو ما منع الفهم وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلًا فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو دارد في سننه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلَّا نصفها، إلَّا ثلثها، إلَّا ربعها، إلَّا خمسها، إلَّا سدسها، حتى قال: "إلَّا عشرها" فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه قد لا يكتب له منها شيء إلَّا العشر، وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلَّا ما علقت منها، ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة؛ فيه تفصيل: فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور والغالب الحضور لم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنما يجبر بعضه بسجدتي السَّهو، وأما إن غلبت الغفلة على الحضور ففيه للعلماء قولان: أحدهما: لا تصح في الباطن وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يحصل، وهذا قول أبي عبد الله بن حامد، وأبي حامد الغزالي، وغيرهما. الثاني: تبرأ الذمة فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان أجر له فيها ولا ثواب، بمنزلة صوم الذي لم يدع قول الزور العمل به فليس له من صيامه إلَّا الجوع والعطش، وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد؛ واستدلوا بالحديث المذكور "في تعليق ما قبل هذا" فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يذكره بأمور حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره =

التاسع والعشرون: قوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه" الظاهر فيه العموم في الكبائر والصغائر، لكنهم خَصُّوا (¬1) بالصغائر وقالوا: إنما تكفر الكبائر بالتوبة، وكان مستندهم في ذلك وروده مقيدًا في مواضع كقوله عليه السلام: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" (¬2). فجعلوه في هذه الأمور المذكورة مقيدًا للمطلق في غيرها، والمعنى: أن الذنوب "كلها" (¬3) تغفر إلَّا الكبائر فإنها لا تغفر، وليس المرادُ أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة فإن كانت فلا يغفر شيء من الصغائر، فإن هذا وإن كان مجملًا فسياق الحديث يأباهُ، وهذا مذهب أهل السنة: أن الذنوب تغفر ما لم [تكن] (¬4) ¬

_ = بالإعادة، ولم يفرق بين القليل والكبير، وهذا القول أعدل الأقوال فإن النصوص والآثار إنما دلت على أنَّ الأجر والثواب مشروط بالحضور، لا تدل على وجوب الإعادة لا باطنًا ولا ظاهرًا، والله أعلم. اهـ. (22/ 611، 612، 613). انظر: القبس (1/ 254). (¬1) في حاشية ن ج: قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرحه فتح الباري على البخاري في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غفر له ما تقدم من ذنبه": ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيدًا باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له الكبائر والصغائر، فمن ليس له إلَّا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلَّا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته. اهـ. (¬2) رواه مسلم. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ج (يؤت).

كبيرةً، وأن الكبائر إنما تُكفرُ بالتوبة، ثم كل واحدة من المذكورات من الخمس (¬1) والجمعة ورمضان صالح للتكفير، فإن لم يجد ما يُكَفَّر كتب به حسنات ورفع به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن تخفف من الكبائر (¬2). الثلاثون: يؤخذ من الحديث شرعية التعليم بالفعل فإنه أبلغ وأضبط في حق المتعلم. الحادي والثلاثون: فيه أيضًا استحباب التثليث فيما ذكر من أعمال الوضوء، وأما الرأس فقد سلف حكمها. الثاني والثلاثون: فيه وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء فإنه رتبه الراوي "بثم" في معرض البيان وهي للترتيب، وقد سلف ما فيه (¬3). ¬

_ (¬1) المقصود بها الصلوات الخمس. (¬2) راجع التعليق ت (2) من (348). (¬3) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والأمر المنكر أن تتعمد تنكيس الوضوء، فلا ريب أن هذا مخالف لظاهر الكتاب للسنة المتواترة، فإن هذا لو كان جائزًا لكان قد وقع أحيانًا، أو تبين جوازه، كما في ترتيب التسبيح لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيتهن بدأت". ومما يدل على ذلك شرعًا ومذهبًا أن من نسي صلاة صلاها إذا ذكرها، بالنص. اهـ. الفتاوي (21/ 413). والحديث الذي أخرجه أبو داود من رواية عمرو بن شعيب: "توضأ كما أمرك الله". ولأبي داود وغيره: "إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ =

الثالث والثلاثون: فيه الاستدلال بفعله عليه السلام على الأحكام الشرعية، ومتابعته وتحري مقارنة فعله، وأن المرجع إليه عليه السلام في جميعها. الرابع والثلاثون: فيه استحباب تناول ماء الوضوء باليمين، ولم يتعرض [في] (¬1) هذا الحديث لتقديم اليمين على اليسار، لكنه ثابت في غيره في اليدين والرجلين، وأما الأذنان والخدان والكفان والمنخران والعينان وجانبا الرأس، فقال العلماء: لا يستحب تقديم اليمين [منهما] (¬2)، بل يستحب غسلهما ومسحهما دفعة واحدة، فلو تعذَّر غسلهما أو مسحهما دفعة واحدة بأن كان له يد واحدة قدَّم [اليمين] (¬3) منهما في الأذنين والخدين وباقيهما، وفي الأذن وجه للشافعية أنه يقدم اليمنى على اليسرى، والأصحّ الأول. الخامس والثلاثون: فيه دفع حديث النفس في الأمور الدنيوية وما لا يعني. ¬

_ = الوضوء كما أمره الله، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم يصح برأسه ورجليه إلى الكعبين" قال الخطابي وغيره: فيه من الفقه أن ترتيب الوضوء وتقديم ما قدمه الله في الذكر منه واجب، وذلك معنى قوله: "حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله" ثم عطف عليه بحرف الفاء الذي يقتضي الترتيب من غير تراخٍ، وكل من حكى وضوءه حكاه مرتبًا، وفعله محمول على الوجوب، وهو مفسر للآية. وانظر الخلافيات للبيهقي (1/ 467). (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) في ن ب ج (منها). (¬3) في ن ب (اليمنى).

[وما أعده] (¬1) الله تعالى لهذه الأمة من الثواب على الطاعات وغفر السيئات، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬2). السادس والثلاثون: فيه أيضًا حصول المغفرة مع الوضوء المذكور وصلاة ركعتين عقبه، وصح أنه تخرج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من ذنوبه، وصح حصولها مع المشي إلى الصلاة، وجمع بينهما بأن الوضوء بمجرده سبب مغفرة ذنوبه والمشي والصلاة نافلة، كما جاء في الحديث الصحيح السالف: "وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة" [و] (¬3) أن سببها [الوضوء] (¬4) مع الصلاة؛ لأن المتوضئ بنية الصلاة في [صلاة] (¬5)، كما أن المتوضئ مع المشي [بنية] (¬6) الصلاة في صلاة وأولى؛ لأن [عمل] (¬7) الوضوء بنية [الصلاة] (¬8) أشرف من عمل المشي بنية الصلاة، لا سيما وقد صح أن الوضوء شطر الإيمان (¬9)، وقيل: إن ¬

_ (¬1) في ن ب (وما أعد). (¬2) سورة هود: آية 114. (¬3) في ن ب (أو). (¬4) في الأصل (الوضع)، والتصحيح من ن ب ج. (¬5) في الأصل (الصلاة)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) في ن ج (نيته). (¬7) في الأصل (عدم)، والتصحيح من ن ب ج. (¬8) في الأصل (الوضوء)، والتصحيح من ن ب ج. (¬9) أخرجه الترمذي برقم (3517).

ذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص، فشخص يتوضأ ويحصل له ذلك عند إتمام توضئه، وآخر لا يحصل له ذلك حتى يصلي. السابع والثلاثون: أدخل البخاري هذا الحديث في باب السواك الرطب واليابس للصائم، فليتأمَّل وجه استنباطه منه، [وخطر لي] (¬1) أنه أخذه من المضمضة (¬2) فإنها في معنى السواك ولم [يخص] (¬3) الحديث بصوم ولا غيره. ¬

_ (¬1) في ن ب (وحضر لي). (¬2) فإنه قال: "من توضأ مثل وضوئي هذا"، وقد ذكر المضمضة والاستنشاق ولم يفرق بين الصائم والمفطر. فتح الباري (4/ 158). (¬3) في ن ب (يحصل).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر (¬1) 11/ 11/ 1 - عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: "شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بتور (¬2) من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ (¬3) على يديه من التور، فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده فى التور فمضمض واستنشق ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوطة، وفي إحكام الأحكام (الثامن)، وفي المتن (9)، فليتنبه لزيادة العدد عند آخر الحديث. (¬2) قال الزركشي رحمنا الله وإياه: ليست هذه اللفظة في شيء من رواية البخاري، وإنما هي من أفراد مسلم. اهـ، قال الصنعاني: مرادهم بهذه اللفظة أنها من أفراد مسلم دون البخاري في كلامه، وقد تبين له أنها من أفراد البخاري دون مسلم، وقال: لعله سبق قلم من الناسخ أو الزركشي. اهـ بتصرف، حاشية إحكام الأحكام (1/ 194). (¬3) هكذا بهمزتين وسكون الكاف في هذه الرواية، وفي رواية سليمان بن حرب: فكفأ، بفتح الكاف وبدون همزة، وهما لغتان بمعنى، يقال: كفأ الإناء وأكفأه: إذا أماله، وقال الكسائي: كفأت الإناء: كببته، وأكفأته: أملته، والمراد في الموضعين: إفراغ الماء من الإِناء كما صرح به في رواية مالك (185)، والبخاري، فتح البارى (1/ 291). انظر: حاشية الصنعاني (1/ 195).

واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات، ثم أدخل [يده (¬1) في الوضوء] (¬2) فغسل وجهه (¬3) ويديه فغسلهما إلى المرفقين مرتين (¬4)، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه (¬5) ". وفي رواية: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". وفي رواية: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماءً [من] (¬6) تور من صفر". ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (1/ 195): قال الحافظ: "يده" مقدمة لأنها لأكثر الرواة الحفاظ. قال: "ثم أدخل يده" كذا بالإِفراد في رواية مسلم وأكثر ألفاظ البخاري وفي بعضها "يديه" بالتثنية. اهـ. (¬2) زيادة من ن ب، وفي إحكام الأحكام ساقطة. (¬3) يلاحظ فيه سقط "ثم أدخل يده في التور"، (ويديه) تكون زائدة. (¬4) قال في الحاشية (1/ 195) للصنعاني: "إلى المرفقين مرتين" كذا في نسخة العمدة لفظ مرتين، ولفظ البخاري في كذا الحديث "مرتين مرتين". قال الحافظ: كذا بتكرار مرتين. قلت: وكذا هو في مسلم مكرر ولم ينبه الزركشي على هذا. اهـ. (¬5) رواه البخاري برقم (185)، وفي مواضع مختلفة من كتابه (186، 191، 192، 197، 199)، ومسلم برقم (235)، وأبو داود برقم (118، 119، 120)، والترمذى برقم (35، 47)، والنسائي (1/ 71/ 72)، ومالك في الموطأ (1/ 18) لكن فيه زيادة "وهو جد عمرو بن يحيى المازني"، قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جميع رواته وانفرد به مالك ولم يتابعه عليه أحد ... إلخ. انظر: تنوير الحوالك (1/ 31). (¬6) في ن ب (في).

التور: شبه الطست. الكلام عليه من ثلاثين وجهًا: الأول: في التعريف برواته، وهم أنصاريون مازنيون. أما عمرو بن يحيى: فثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ابن بنت عبد الله بن زيد بن عاصم، روى عن أبيه وعباد بن تميم وغيرهما، وعنه: يحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن أبي كثير -وهما من أقرانه- وخلق، مات سنة أربعين ومائة، وأمه أم النعمان بنت أبي [حية] (¬1). وأما والده: يحيى، فهو ابن عمارة بن أبي حسن واسمه تميم بن عبد عمرو بن قيس [بن محارب] (¬2) بن الحارث بن ثعلبة مازن بن النجار، وقيل: اسمه كنيته، مازني أنصاري مدني تابعي، روى عن أبي سعيد الخدري وغيره، وعنه الزهري وغيره، أخرج له الستة، ووثقه النسائي وابن خراش، وعمارة بن أبي حسن جد عمرو صحابي عقبي بدري، وقال أبو نعيم: ذكره بعض المتأخرين، يعني ابن منده، وفيه نظر، وقال [أبو] (¬3) عمر: له صحبة ¬

_ (¬1) (حنَّه) كما في طبقات ابن سعد القسم المتمم، ت: د. زياد منصور (292)، وقد ذكر في التعليق حيه، وكذا في الفتح (1/ 290). وانظر: الاختلاف في اسمها والرد على من قال إنها بنت عبد الله بن زيد: تنوير الحوالك (1/ 31). (¬2) في ن ب (مَحُرِّث)، كما في طبقات ابن سعد. القسم المتمم، ت: د. زياد منصور (291). (¬3) في ن ب ج (ابوا).

ورواية، ووقع في كلام ابن العطار شارح هذا الكتاب: أنه لا تعرف له رواية، قال أبو عمر: وأبوه أبو [حسن] (¬1)، كان عقبيًا بدريًا. وأما عمرو بن أبي حسن: فذكره أبو موسى المديني في الصحابة، فقال عمرو بن أبي حسن الأنصاري: ثم أسند [من] (¬2) حديث عمرو بن يحيى بن عمارة عن [عمه] (¬3) [(¬4)] عمرو بن أبي حسن قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمضمض واستنشق مرة واحدة. وقال الشيخ شرف الدين الدمياطي: عمرو بن أبي حسن تميم بن عبد عمرو، ثم ساق نسبه كما تقدم، قال: وأبو حسن له صحبة ومشاهدة وليس بجد [لعمرو] (¬5) بن يحيى بن عمارة ابن أبي حسن، وإنما هو [عمرو] (¬6) [عن] (¬7) أبيه يحيى بن عمارة، وقد جاء مبينًا في باب الوضوء من التور من صحيح البخاري (¬8) عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان [عمي] (¬9) يكثر من الوضوء، قال ¬

_ (¬1) في ن ب (الحسن). (¬2) في ن ب (في). (¬3) في الأصل (عمره)، والتصحيح من ب ج. (¬4) في الأصل (عن)، وفي ن ب ج محذوفة. ولا يستقيم الكلام إلَّا بحذفها؛ لأنه بوجودها يكون في الإِسناد زيادة راوي. (¬5) في ن ب (لعمر). (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) في الأصل (عم)، ولعله تصحيف، وما أثبت من ب. (¬8) في الصحيح برقم (199) الفتح. (¬9) في الأصل (عمرو)، والتصحيح من ب ج.

لعبد الله بن زيد: "أخبرني كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ" الحديث، وعمارة وعمرو وعمر أولاد أبي حسن، وفي البخاري (¬1): في باب مسح الرأس كله عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد -وهو جد عمرو بن يحيى (¬2) -: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فذكر الحديث، ورواه في أسباب غسل الرجلين (¬3) إلى الكعبين، وفي أسباب مسح الرأس مرة (¬4) كما رواه المصنف، ورواه في باب من [مضمض] (¬5) واستنشق من غرفة واحدة (¬6)، ¬

_ (¬1) برقم (185). (¬2) قال السيوطي -رحمنا الله وإياه- في تنوير الحوالك (1/ 31): هذا وهم قبيح من يحيى بن يحيى أو من غيره، قال: وأعجب منه أنه سئل عنه ابن وضاح وكان من الأئمة في الحديث والفقه، فقال: هو جده لأمه، ورحم الله من انتهى إلى ما سمع ووقف دون ما لم يعلم، وكيف جاز هذا على ابن وضاح والصواب في المدونة التي كان يقرؤها ويرويها عن سحنون وهي بين يديه ينظر فيها كل حين، قال: وصواب الحديث "مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد -وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن المازني وهو جد عمرو بن يحيى المازني-. اهـ قال الشيخ ولي الدين العراقي في شرح أبي داود: وهو حسن. (¬3) برقم (186) الفتح. (¬4) برقم (192) الفتح. (¬5) في ن ج (توضأ)، وفي تبويب البخاري كما في الأصل. (¬6) برقم (191) الفتح.

بإسقاط عمرو بن أبي حسن، رواه عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد، والرجل المذكور في الرواية الأولى الظاهر أنه عمرو بن أبي حسن، وأسقطه [من] (¬1) الرواية الأخيرة؛ لأن والد عمرو بن يحيى شهد ذلك من عبد الله بن زيد. تنبيه: قوله "قال شهدت عمرو بن أبي حسن" كأنه قال: شهدت أبا عمرو، (¬2) نسبه إلى جده الصحابي تشريفًا له، [ولم ينسبه إلى نفسه أدبًا، كذا] (¬3) قاله ابن العطار في شرحه، وقد علمت أنه عمه لا جده؛ لأن أباه عمارة. وأما عبد الله بن زيد: فهو ابن عاصم الأنصاري المازني المدني، أمه: أم عمارة، [عم] (¬4) عباد بن تميم، له ولأبويه صحبة ولأخيه [خبيب] (¬5) بن زيد الذي قطّعه مسيلمه عضوًا عضوًا فقضى أن عبد الله هو الذي قتل مسيلمة، شارك وحشيًا في قتله، وروي من وجه غريب عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: أنا قتلت مسيلمة، فيحتمل أنه شاركه فيه، وقد شهد عبد الله أُحدًا هو وأمه: أم عمارة نسيبة بفتح النون وكسر السين بنت كعب ¬

_ (¬1) في ن ب (فيه). (¬2) في الأصل (أو)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في ن ج ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ج (جبير).

[التي قتلها] (¬1) مسيلمة الكذاب، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له يومئذ: "رحمة الله عليكم أهل البيت" (¬2) وعبد الله هذا راوي حديث [صلاة] (¬3) الاستسقاء الآتي في بابه، والحديث الآتي في باب المذي (¬4) وباب الزكاة أيضًا. وقد وهم ابن عيينة (¬5) فزعم أنه الذي أُري الأذان، فإن الذي رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج (¬6) أبو محمد الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا والعقبة، وكانت رؤياه الأذان في السنة الأولى من الهجرة بعد بناء [رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده] (¬7)، وقال عليه السلام: "هذه [رؤيا] (¬8) حق" (¬9)، ومات بالمدينة سنة اثنين وثلاثين وهو ابن أربع وستين سنة، وصلى عليه ¬

_ (¬1) هكذا العبارة في الأصل وباقي النسخ، ولعلها: التي قطعت يدها يوم مسيلمة أي في حرب الردة؛ لأنه موجود في الإصابة: وقطعت يدها (8/ 198)، وفي الطبقات (8/ 416) لابن سعد. (¬2) في الطبقات لابن سعد (8/ 415). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب زيادة (في)، وستأتي هذه الأحاديث في هذا الكتاب في أبوابها الثلاثة. (¬5) قال النسائي (3/ 155): هذا غلط من ابن عيينة، وعبد الله بن زيد الذي أُري النداء هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهذا عبد الله بن زيد بن عاصم. اهـ. (¬6) انظر: نسبه في مستدرك الحاكم (3/ 325). (¬7) في ن ب تقديم وتأخير. (¬8) زيادة من ن ب. (¬9) الترمذي (1/ 359).

عثمان بن عفان (¬1). قال البخاري: فيما نقله الترمذي لا يعرف له غير حديث الأذان. قلت: بل له حديث ثان وثالث، وقد ذكرتهما في تخريجي لأحاديث الرافعي فاستفدهما منه فإن ذلك يساوي رحلة (¬2)، وعبد الله هذا لم يُخرج له [الشيخان] (¬3) شيئًا، وقد نص على ذلك الحافظ أبو الحسن بن المفضل المقدسي. وأما راوي حديث الوضوء فأخرج له الستة، وجملة أحاديثه ثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا على ثمانية منها. روى عنه ابن أخيه عباد، وسعيد بن المسيب ويحيى بن عمارة زوج ابنته، وغيرهم. قتل بالحرة في ذي الحجة عن سبعين سنة، وكانت الحرة في آخر سنة ثلاث وستين، وقد ذكرت سبب تسميتها بالحرة فيما أفردته في معرفة رجال هذا الكتاب فراجعه منه فإنهما متفقان في الاسم ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة واو. (¬2) قال ابن حجر في الإِصابة (4/ 72) بعد كلام الترمذي هذا ونقل كلام ابن عدي: ولا نعرف له شيئًا يصح غيره، وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره وهو خطأ. فقد جاءت عنه عدة أحاديث، ستة أو سبعة جمعتها في جزء، ثم نقل أن له في السنن للنسائي حديثًا، وهو في المستدرك للحاكم (3/ 336)، وذكر حديثًا آخر في التاريخ الكبير للبخاري وهو في الطبقات لابن سعد وفي المسند (4/ 42). انظر: البدر المنير لابن الملقن رحمة الله علينا وعليه (3/ 425). (¬3) في ن ب (البخاري).

واسم الأب والقبيلة، ويفترقان في الجد والبطن من القبيلة فالأول مازني، والثاني حارثي، وكلاهما أنصاريان خزرجيان فيدخلان في نوع المتفق (¬1) والمفترق من علوم الحديث، ووهم أبو القاسم البغوي فجعلهم ثلاثة، فإنه ذكر عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب حديث الأذان، ثم ذكر بعده عبد الله بن زيد بن عمرو المازني وذكر له حديثًا في الأذان، وقال: ليس له غيره، وعقد لعبد الله بن زيد بن عاصم ترجمة ثالثة، وذكر [من] (¬2) حديثه، وحكى وفاته. الوجه الثاني: "المازني" بالزاي والنون نسبة إلى مازن قبائل وبطون أحدها مازن الأنصار، منهم عبد الله بن زيد هذا وأخوه تميم بن زيد وابن أخيه عباد بن تميم وجماعة من الصحابة والتابعين، وعمرو بن يحيى وأبوه وجده منهم، ثم اعلم أن هذه النسبة تشتبه بالمأربي بالهمزة والراء والباء الموحدة، نسبة إلى مأرب: ناحية باليمن، وهي التي [استقطع] (¬3) أبيض بن حمال النبي - صلى الله عليه وسلم - ملحها، وقد يقال في النسبة إليها مآربي بالمد على الجمع، وإليه ينسب جماعة، وذكر الأمير مع هاتين النسبتين المازني وقال هو محمد بن [الحسين] (¬4) النيسابوري. الثالث: الوضوء هنا بضم الواو كما أسلفته لك في الحديث قبله واضحًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه). (¬2) في ن ج (في). (¬3) في ن ب (استطع). (¬4) في ن ب (الحسن).

الرابع: معنى أكفأ: أمال وصب وهو مهموز، قال الجوهري: كفأت الإِناء: قلبته وكفيته فهو مكفوء. واختلف هل يستعمل رباعيًا وثلاثيًا بمعنى واحد، أو كفأت ثلاثيًا بمعنى قلبت، وأكفأت رباعيًا بمعنى أملت، وهو مذهب الكسائي وغيره. ومعنى دعا بتور: طلبه. الخامس (¬1): التور: بالتاء المثناة فوق [معرب فارسي] (¬2)، قاله أبو عبيد كما حكاه صاحب "المعرب"، وقال صاحب المحكم: هو عربي، وقيل: دخيل (¬3)، قال: وهو مذكر، وحكى الزمخشري في أساس (¬4) البلاغة: تأنيثه، [وقد] (¬5) فسره المصنف بأنه شبه الطست. [وعبارة] (¬6) الجوهري (¬7): هو إناء يشرب فيه، زاد المطرزي (¬8): صغير. ¬

_ (¬1) قال في حاشية ن ج: ينبغي تقديم الخامس على الرابع جزمًا على عادتنا في شرح الحديث متواليًا، قاله مؤلفه. (¬2) هذه الجملة فيها تقديم وتأخير عن ن ب. انظر: المعرب (86)، وشرح أحمد شاكر. (¬3) انظر: الجمهرة لابن دريد (2/ 14)، واللسان (4/ 96)، والمغرب (1/ 109). (¬4) (ص 85). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (وقال). (¬7) مختار الصحاح (40). (¬8) في ن ب ساقطة.

وعبارة العسكري في تلخيصه (¬1): يجعل فيه المحرضة، والجمع: أتوار. وعبارة أبي موسى في المغيث (¬2): هو إناء شبه إجانة من صفر أو حجارة، [يتوضأ فيه ويؤكل. وعبارة صاحب المطالع: هو مثل قدح من حجارة، وعبارة ابن الأثير: إناء من صفر أو حجارة] (¬3). وعبارة الشيخ تقي الدين (¬4): إنه الطست. وعبارة غيرهم: [إنه] (¬5) مثل الإِجانة يشبه القدر ويكون من حجارة ومن نحاس، وهي متقاربة. والتور: لفظ مئترك يطلق على [ما ذكرناه] (¬6) وعلى الرسول بين القوم. والطست: في كلام المصنف بفتح الطاء وكسرها وبحذف التاء والطسة أيضًا لغات. السادس: قوله: "من ماء" الظاهر أنه من باب تسمية الشيء بما يجاوره كالراوية، "ومن" هنا لبيان الجنس ليس إلَّا، وعبارة الشيخ تقي الدين (¬7) في هذه الرواية مجاز أي من إناء ماء [أي] (¬8) على حذف مضاف. ¬

_ (¬1) التلخيص (1/ 298). (¬2) المجموع المغيث (1/ 246). (¬3) في ن ب ساقطة. انظر: النهاية (1/ 199). (¬4) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 196). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (ذكرنا). انظر: الجمهرة (2/ 14)، وتهذيب اللغة (14/ 310)، والمعرب (86). (¬7) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 208). (¬8) في ن ساقطة.

واستعمل الحقيقة في الرواية الثانية في قوله: "في تور من صفر" والصفر -بضم الصاد وكسرها والضم أفصح- وأشهر، [وانفرد أبو عبيدة بالكسر، وهو النحاس] (¬1)، وزعم ابن درستويه أنه سمي صفرًا لصفرته وهو الذي يصبغ بالنوشادر، وقال القزاز: هو النحاس الجيد، وفي المحكم: إنه ضرب من النحاس، وقيل: هو ما صُفر فيه واحدته صفرة، وسمي النحاس شبهًا بفتح الشين والباء وبكسر الشين وإسكان الباء؛ لأنه يشبه الذهب. السابع: قوله: "فتوضأ لهم وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -". تقديره: وضوءًا نحو وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فحذف المصدر وصفته وهو المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهذا من باب المبالغة في التشبيه، كقولهم: زيدٌ أسد. الثامن: قوله: "فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه: ثلاثًا"، فيه استحباب غسل اليدين في ابتداء الوضوء لغير المستيقظ. التاسع: قوله: "ثم أدخل يده في التور فمضمض ... " إلى آخره، فيه جواز الوضوء من آنية الصفر، وكره الغزالي في الإِحياء التوضي من إناء صفر، ورواه عن ابن عمر وأبي هريرة، ونقله القاضي عن عمر ونحا به ناحية الذهب؛ لأنه صفر، أصفر، وروى ابن أبي شيبة (¬2) عن معاوية: "نهيت أن ¬

_ (¬1) في ن ب (وهو النحاس وانفرد أبو عبيد بالكسر). (¬2) في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 38)، وفي ن ب (لنهيه أن يتوضأ في النحاس). قال في مجمع الزوائد: وفيه عبيدة بن حسان، وهو منكر =

أتوضا [في] (¬1) النحاس" رواه عن يحيى بن سليم عن ابن جريج عنه، وهذا الحديث يرد عليهم، لكن من قال بالكراهة خصها بوجدان غيره وليس في الحديث وجدان غيره ولا عدمه. وفي كتاب "الطهور" (¬2) لأبي عبيد القاسم بن سلام عن ابن سيرين: "كانت الخلفاء تتوضأ في الطست" وعن الحسن: "رأيت عثمان يُصب عليه من إبريق" (¬3) يعني نحاسًا. قال أبو عبيد: وعلى هذا أمر الناس في الرخصة والتوسعة في الوضوء في آنية النحاس وأشباهه من الجواهر [لا استثناء] (¬4) يروى عن ابن عمر في الكراهة (¬5). وقال ابن المنذر (¬6): رخص كثير من أهل العلم في ذلك، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي وأبو ثور، وما علمت أني رأيت أحدًا كره الوضوء في آنية الصفر والنحاس والرصاص وشبهه، والأشياء على الإِباحة، وليس يحرم ما هو ¬

_ = الحديث (1/ 215/ 4/ 292). وانظر: المعجم الكبير للطبراني (19/ 349). (¬1) ابن أبي شيبة (1/ 38)، وفي الأصل (من) وما أثبت من المصنف. (¬2) (ص 43). (¬3) ابن أبي شيبة (1/ 37)، والأوسط لابن المنذر (1/ 315). (¬4) في ن ب (إلَّا يروى). (¬5) انظر: سبب كراهة ابن عمر له من أجل ريحه. عبد الرزاق (1/ 59)، وابن أبي شيبة (1/ 37)، وحكاه ابن حجر في الفتح (1/ 303). (¬6) الأوسط (1/ 316).

مباح [بموقوف] (¬1) ابن عمر. قال ابن (¬2) بطال: وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه، وهذه [الرواية] (¬3) أشبه بالصواب، وكان الشافعي [وأبو ثور، وإسحاق] (¬4) يكرهون الوضوء في آنية الذهب والفضة وبه نقول، ولو توضأ فيه مُتَوَضيء أجزأه وقد أساء، وعن أبي حنيفة (¬5): أنه كان يكره الأكل والشرب في آنية الفضة، ولا يرى بأسًا بالمفضض، وكان لا يرى بالوضوء فيه بأسًا. وفي سنن أبي داود (¬6) بإسناد ضعيف عن عائشة: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تور من شبه"، وفي مسند أحمد بسند صحيح عن زينب بنت جحش أنه عليه السلام "كان يتوضأ [من] (¬7) ¬

_ (¬1) في الأصل (موقوف)، وما أثبت من ن ب. وفي الأوسط لابن المنذر (بوقوف). (¬2) قال عبد الرزاق: "كان ابن عمر يغسل قدميه في طست من نُحاس" ولما سئل عن الوضوء في النحاس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه في سطل من نحاس". (¬3) في ن ب ساقطة. أقول: ذكر هذه الرواية ابن المنذر في الأوسط (1/ 317). (¬4) في في ن ب تقديم وتأخير. أقول: ذكر هذا ابن المنذر في الأوسط (1/ 318). (¬5) انظر: مختصر الطحاوي (436، 437)، والأوسط لابن المنذر (1/ 318). (¬6) أخرجه أبو دارد برقم (98، 99) من طريقين إحداهما منقطعة وفيها مجهول، والثانية متصلة وفيها مجهول. (¬7) في ن ب (في).

مخضب [من] (¬1) صفر" (¬2). العاشر: تقدم الكلام على المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الحديث السادس والعاشر وذكر الخلاف في أحكامها، والكلام [هنا] (¬3) في كيفيتها فصلًا وجمعًا، وفي المسألة خمسة أوجه عندنا مبسوطة في (شرحَي المنهاج والتنبيه) وغيرهما، وصحح الرافعي أن الفصل بغرفتين أفضل (¬4)، وصححه النووي (¬5) أن الجمع بثلاث غرفات أفضل وهو ظاهر الحديث، [وإن كان يحتمل من حيث اللفظ غير ذلك، وهو أن تفاوت العدد بين المضمضة والاستنثاق مع اعتبار ثلاث غرفات، إلَّا أنه لا يعلم قائلًا بأفضليته، مثاله: أن يغرف غرفة فيتمضمض منها مرة مثلًا ثم أخرى فيتمضمض منها مرتين ثم أخرى فيستنشق ثلاثًا وغير ذلك من الصور التي تعطي هذا المعنى، فيصدق على هذا أنه تمضمض واستنشق ثلاثًا بثلاث غرفات] (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) المسند (6/ 324)، وابن ماجه (472)، وابن المنذر في الأوسط (1/ 315). (¬3) في ن ب ج (ها هنا). (¬4) انظر: البدر المنير لابن الملقن رحمنا الله وإياه (3/ 275)، حيث ذكر المسألة مفصلة بأدلتها. (¬5) المجموع (1/ 362، 363). (¬6) في ن ب ساقطة.

ومذهب مالك أن الفصل أفضل لحديث في سنن أبي داود (¬1) (¬2)، قال المازري (¬3): هذا هو المختار؛ لأنهما عضوان متعددان فيتعدد الماء لهما كبقية الأعضاء. قال: وقيل: يغسلان ثلاث مرات من غرفة واحدة؛ لأنهما كعضو واحد. وقيل: يجمعان في كل غرفة؛ لأنهما كالعضو الواحد فيتكرر فيه أخذ الماء. الحادي عشر: فيه دلالة على المغايرة بين الاستنشاق والاستنثار كما نبهنا عليه في الحديث السادس وغيره. الثاني عشر: [قوله: "غرفات"] (¬4) يجوز لك في قراءته فتح الغين والراء، وضمهما، وضم الغين مع إسكان الراء وفتحها، وهي لغات، نبّه على ذلك النووي في شرح المهذب (¬5). الثالث عشر: قوله: "ثم أدخل يده فغسل وجهه" كذا في ¬

_ (¬1) أي حديث الفصل بين المضمضة والاستنشاق، في السنن كتاب الطهارة، باب: الوضوء مرة مرة (1/ 96). وانظر تفصيل المسألة بأدلتها في البدر المنير لابن الملقن رحمنا الله وإياه (3/ 275). (¬2) في ن ب زيادة واو. (¬3) المازري: تقدمت ترجمته (من 308). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) المجموع (1/ 355).

صحيح مسلم (¬1) (يده) بالإفراد وكذا في أكثر روايات البخاري، وفي بعضها (يديه)، وفي بعضها "يده وضم إليها الأخرى"، وهي دالة على جواز الأمور الثلاثة وأن الجميع سنة، [ويجمع] (¬2) بين الأحاديث فإنه عليه السلام فعل ذلك في مرات، وهي ثلاثة أوجه عندنا: أصحها: -وهو منصوص البويطي والمزني- (¬3) أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعًا؛ لكنه [أشرف] (¬4)، ولأنه أقرب إلى الاستيعاب، وهذا الخلاف محكي عند المالكية أيضًا في أخذ الماء للرأس فقيل: باليمنى، وقيل: بهما، وقيل: مخير. الرابع عشر: قوله: "ثم غسل وجهه" تقدم الكلام على غسل الوجه وحدّه في الحديث قبله. الخامس عشر: قوله: "ويديه إلى المرفقين مرتين" كذا في شرح الشيخ تقي الدين (¬5)، [وفي] (¬6) الفاكهي وغيره "ثم أدخل يديه مرتين إلى المرفقين" وفيه حذف أي فغسلهما مرتين، فالعامل في مرتين "أدخل" و"إلى" متعلقة بالمحذوف. السادس عشر: قوله: "مرتين" فيه دلالة على جواز التكرار ثلاثًا في بعض الأعضاء واثنين في بعضها وهو إجماع. ¬

_ (¬1) انظر: أول الحديث. (¬2) في الأصل (وجمع)، والصحيح من ن ب ج. (¬3) مختصر المزني (من 2). (¬4) في ن ب (أشرفه). (¬5) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 199). (¬6) في ن ب (في).

السابع عشر: قوله: "ثم أدخل يده" يعني في التور، فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة: فيه دلالة لمن قال بعدم التكرار في المسح، وقد تقدم ما فيه في الحديث قبله. الثامن عشر: اختلف [الفقهاء] (¬1) في الإقبال والإدبار هل هو بالنسبة إلى الرأس، أو بالنسبة إلى الشعر، أو بالنسبة إلى الناصية إلى الوجه ثم إلى [مؤخر] (¬2) الرأس ثم إلى ما بدأ منه؟ على ثلاثة مذاهب، وهذا الحديث مطلق في الإِقبال والإِدبار من غير تحديد ابتداء غاية وانتهائها في الرأس، لكنه ذكر في الرواية الثانية في قوله "بدأ بمقدم الرأس حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه" فهذه الرواية ظاهرة في الأول وهو مذهب الشافعى ومالك رحمهما الله، فقالا: يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه [ويذهب] (¬3) إلى القفاء ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه. ولو لم ترد رواية التحديد بالابتداء والانتهاء لكان الإِطلاق في الرواية [الأولى] (¬4) جوابًا من حيث إنهم قالوا: الإِقبال لا يكون ابتداؤه إلَّا من مؤخر الرأس، والإِدبار لا يكون ابتداؤه إلَّا من مقدم الرأس، لو سلم، مع أنهم استدلّوا عليه برواية حسنة وردت في حديث الربيع -بضم الراء- بنت معوذ رضي الله ¬

_ (¬1) في ن ب (العلماء). (¬2) في الأصل (موضع)، والتصحيح من ن ج. (¬3) في ن ب (فيذهب). (¬4) في ن ب (أولى).

[عنهما] (¬1) رواها أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنها (¬2)، وقال: حديث عبد الله بن زيد أصح منها وأجود إسنادًا [وهي] (¬3) أنه بدأ بمؤخر رأسه ويمر إلى جهة الوجه ثم [رجع] (¬4) من مقدمه إلى المؤخر، وبه قال الحسن ابن حيي كما نقله [أبو] (¬5) عمر، وهي محمولة على الجواز لا على الأفضل أو على حالة أو وقت، [فلا] (¬6) ¬

_ (¬1) في ن ب (عنها). (¬2) الترمذي (33)، وابن ماجه (1/ 86)، وأبو داود مطولًا (1/ 48) عن مسند عن بشر، وأحمد (6/ 358، 359) بأسانيد وألفاظ مختلفة. وروى الحاكم منه مسح الأذنين فقط (1/ 152)، قال العلامة أحمد شاكر في الترمذي (1/ 48): حديث الربيع حديث صحيح، وإنما اقتصر الترمذي على تحسينه ذهابًا منه إلى أنه يعارض حديث عبد الله بن زيد، ولكنهما عن حادثتين مختلفتين فلا تعارض بينهما حتى يحتاج إلى الترجيح، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ بمقدم الرأس وكان يبدأ بمؤخره وكل جائز. وأما الشارح المباركفوري رحمه الله: فإنه فهم أن الترمذي حسنه للخلاف في عبد الله بن محمد بن عقيل، وليس كذلك؛ لأن ابن عقيل ثقة وقد سبق الكلام عليه في حديث رقم (3)، وآية ذلك أن الترمذي في الباب الآتي صحح حديث الربيع من طريق ابن عقيل وهو نفس هذا الحديث برواية أخرى. اهـ، وانظر البدر المنير (3/ 423). قال في التمهيد (20/ 125): وأصح حديث في هذا حديث عبد الله بن زيد. (¬3) في ن ب (وهو). (¬4) في السنن "ذهب"، ويتضح أن المصنف ساقه بالمعنى. انظر: البدر المنير (3/ 423). (¬5) في الأصل (ابن)، والتصحيح من ن ب ج. انظر: الاستذكار (2/ 28)، والتمهيد (20/ 125). (¬6) في ن ب (ولا).

يعارض ذلك الرواية المفسرة عن عبد الله بن زيد. والجواب عن رواية الإِطلاق في الإِقبال والإِدبار: أن "الواو" لا تدل على الترتيب [ففيه] (¬1) تقديم وتأخير، والتقدير: أدبر وأقبل، وقد جاء كذلك مصرحًا به في حديث عبد الله بن زيد المذكور في صحيح البخاري ولفظه" [فمسح برأسه فأدبر به] (¬2) وأقبل" (¬3) وابتدأ بالإِقبال في هذه الرواية [في الكتاب] (¬4) تفاؤلًا، وعكس هذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)} (¬5)، والمراد على ما قيل: ثم أقبل يسعى، كما نقول: أقبل فلان يفعل كذا [بمعنى] (¬6) أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل [لئلا] (¬7) يوصف بالإِقبال، قاله الزمخشري (¬8). ويصح أيضًا جعل الإِقبال من جهة الشعر من نباته من جهة القفا، والإِدبار إليه على معنى الفرق بين الذهاب إليه والوصول، وهو بعيد؛ للبدآة بالرأس لا بالشعر في رواية الكتاب. قال الشيخ تقي الدين: وعندي فيه جواب آخر وهو أن الإِقبال ¬

_ (¬1) في ن ب (فيه). (¬2) في ب (ومسح رأسه فأدبره بيده). (¬3) هذه رواية البخاري برقم (199). (¬4) زيادة من ج. (¬5) سورة النازعات: آية 22. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب (فلا). (¬8) في الكشاف (4/ 182).

والإِدبار من الأمور الاضافية [أعني] (¬1) أنه ينسب إلى ما تقبل [إليه] (¬2) وتدبر [عنه] (¬3)، والمؤخر [محل] (¬4) يمكن أن ينسب الإِقبال إليه والإِدبار عنه، قال: [ويحتمل] (¬5) أن يريد بالإِقبال: الإِقبال على الفعل لا [غيره] (¬6) ويضعفه قوله: "وأدبر". وصاحب المذهب الثالث: [قصر] (¬7) المحافظة على قوله: "بدأ بمقدم رأسه" فإن الناصية مقدم الرأس، ويصدق عليه أنه أقبل أيضًا فإنه ذهب إلى ناحية الوجه وهو القبل، إلَّا أن الرواية الثانية المفسرة قد تعارض هذا فإنه جعله بادئًا بالمقدم إلى غاية الذهاب إلى قفاه، وهذه الصفة التي لهذا القائل تقتضي أنه ذهب بمقدم رأسه غير ذاهب إلى قفاه بل إلى ناحية وجهه، وهي مقدم الرأس. قال الشيخ تقي الدين: ويمكن أن يقول هذا القائل: إن البداءة بمقدم الرأس تمتد إلى غاية الذهاب إلى المؤخر وابتداء الذهاب من حيث الرجوع من منابت الشعر من ناحية الوجه إلى القفا، والحديث إنما جعل البدأة بمقدم الرأس يمتد إلى غاية الذهاب إلى القفا [لا] (¬8) ¬

_ (¬1) في ن ب (غير)، وما أثبت يوافق الأحكام مع الحاشية (1/ 204). (¬2) في ن ب (ما يقبل عليه ويدبر)، هكذا في الأحكام. (¬3) في ن ب ساقطة، وهي موجودة في الأحكام. (¬4) في ب ج ساقطة، وهي موجودة في الأحكام. (¬5) في ن ب (فيحتمل)، وما أثبت يوافق الأحكام. (¬6) في ن ب (غير)، وما أثبت يوافق الأحكام. (¬7) في ن ب (قصد)، وما أثبت يوافق الأحكام. (¬8) في ن ب ساقط.

إلى غاية الوصول إلى القفا [وفرق بين الذهاب إلى القفا] (¬1) وبين الوصول إليه، وقد أسلفت هذا. وقال ابن بزيزة المالكي: حكي عن جدنا الفقيه العابد الولي المشهور محرز بن خلف: أن "أقبل" هنا مأخوذ من القبل في العين وهو ميل الناظر، وكثيرًا ما يكون في الخيل يقال: فرس أقبل، فمعنى أقبل بهما: أمالهما. فتحصلنا على خمسة أجوبة: أحدها: أن الواو لا تدل على الترتيب. ثانيها: أن الإِقبال من جهة الشعر من جهة القفا والإِدبار إليه. ثالثها: أنها من الأمور الإِضافية. رابعها: أنه يحمل الإِقبال على الإِقبال بالفعل [لا غيره] (¬2). خامسها: المعنى: أمالهما. التاسع عشر: الحكمة في الإِقبال والإِدبار مسح وجهي الشعر متلاقى في رد يديه [ملاقاة] (¬3) في إقبالهما، وعبارة بعضهم: لتقييم النائم وتنييم القائم لا جرم كان الذهاب والإياب مرة على الأصح، ثم إنما يستحب الرد لمن له شعر مسترسل، أما من لا شعر له أو حلق رأسه وطلع منه يسير فلا يستحب له الرد؛ لأنه لا فائدة فيه، ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة. (¬2) في ن ب (لا غير). (¬3) في ن ب (ما لاقاه).

وكذا لا يستحب الرد لمن له شعر كثير مضفور، ويكون الحديث خرج مخرج الغالب، فلو فعل في هذه الحالة لا يستحب له مرة ثانية، لأن الماء صار مستعملًا بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة، نقله الرافعي عن البغوي وجزم به النووي في الروضة (¬1) وشرح مسلم (¬2). العشرون: قوله: "ثم غسل رجليه" قد تقدم الكلام عليه في الحديث قبله فأغنى عن إعادته. الحادي والعشرون: قول المصنف: وفي [رواية] (¬3): "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماءًا في تور من صفر" وهي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماءًا في تور من صفر فتوضأ فغسل وجهه ثلاثًا ويديه مرتين مرتين ومسح رأسه فأقبل بهما وأدبر وغسل رجليه". كذا أخرجه البخاري في صحيحه (¬4)، ولم أر هذا الإِسناد ولا المتن هكذا في مسلم، فكان ينبغي للمصنف إذن أن يقول: وفي رواية للبخاري، فتنبه لذلك. الثاني والعشرون: لا دلالة في الحديث على وجوب استيعاب الرأس بالمسح؛ لأن الحديث وارد [إلى] (¬5) إكمال الوضوء لا في ما لا بد منه. ¬

_ (¬1) الروضة (1/ 60). (¬2) شرح مسلم (3/ 124). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) البخاري برقم (197). (¬5) في ج (في).

الثالث والعشرون: فيه دلالة على استئناف أخذ الماء لمسح الرأس، وجاء في صحيح مسلم (¬1) "فمسح بماء غير فضل يديه" وكلا الحديثين حجة على الحسن والأوزاعي وابن الماجشون حيث قالوا فيما حكاه القاضي عنهم: يجوز مسح الرأس بفضل ذراعيه، نعم إذا حملوا أفعاله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬2) التي ليست بيانًا للمجمل على الندب فلا يتم الاستدلال عليهم. الرابع والعشرون: لم يذكر المصنف في روايته حد الغسل في الرجلين، وفي البخاري في هذا الحديث في بعض طرقه: "ثم غسل رجليه إلى الكعبين" (¬3) وكذا هو في صحيح مسلم، والأصح أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، وقيل معقد الشراك، واختلف قول مالك في إدخالهما في الغسل كما اختلف قوله في دخول المرفقين. الخامس والعشرون: لم يجىء في هذا الحديث مسح الأذنين، ولا خلاف أن طهارتهما مشروعة وأن من اقتصر على مسحهما دون مسح رأسه لا يجزئه، والأصح عند الشافعية: أنهما عضوان مستقلان، وعند المالكية: أنهما من الرأس. ¬

_ (¬1) مسلم مع النووي (3/ 125)، وجاء في رواية أخرى (3/ 123): "ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه"، أي أدخل يده في الإناء، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب: في صفة وضوه النبي - صلى الله عليه وسلم - (19)، والترمذي في أبواب الطهارة، باب: ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماءً جديدًا (35). (¬2) زيارة من ن ب. انظر: الاستذكار (2/ 35). (¬3) البخاري برقم (186).

وقيل: إنهما من الوجه يغسلان معه. وقيل: ما أقبل من الوجه وما أدبر من الرأس. السادس والعشرون: قال القاضي عياض: لم يجىء في هذه الأحاديث تخليل شعر اللحية (¬1) فدلَّ على أنه غير مشروع، وبهذا احتج مالك على عدم تخليلها في مشهور قوله. قلت: هذا استنباط غريب، فليس فيه أيضًا تخليل الأصابع ويلزم أن لا يكون سنة عنده ولا قائل به (¬2)، وقد صح [من] (¬3) حديث عثمان رضي الله عنه أنه [- صلى الله عليه وسلم -] (¬4) خلل لحيته الكريمة، وله اثني عشر شاهدًا ذكرتها موضحة في تخريج أحاديث الرافعي فراجعها منه (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 87): الصواب أنه ليس في حديث عثمان الدلك ولا في حديث ابن عمر ذكر التخليل صريحًا. (¬2) قد جاء من حديث لقيط بن صبرة وفى الله عنه ولفظه: أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع" الحديث. أخرجه الشافعي في المسند (15)، وأبو داود (142)، والشافعي (1/ 66)، والترمذي (788)، والدارمي (711)، وابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 50)، وفي المعرفة (1/ 214)، وقال البغوي في مصابيح السنة (1/ 22) هو حديث صحيح. اهـ. (¬3) في ن ب (في). (¬4) في ن ب (عليه السلام). (¬5) أخرجه الترمذي (430)، وابن ماجه (1067)، والدارمي (710)، والدارقطني (1/ 91)، وابن خزيمة (151، 152). قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 87): فائدة: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس في =

السابع والعشرون: يؤخذ من الحديث جواز الاستعانة [بإ] (¬1) حضار الماء للطهارة بلا كراهة. الثامن والعشرون: يؤخذ منه أيضًا تعليم المتعلمين بالفعل إذا [كان] (¬2) الفعل أبلغ في الفهم من القول. التاسع والعشرون: يؤخذ منه أيضًا جواز إدخال اليد في الإِناء بعد غسلها وأن نية الاغتراف لا تجب، إذ لو وجبت لنقل. الثلاثون: فيه إتيان الكبير إلى أتباعه، وابتداؤهم إياه بإحضار ماء الوضوء إذا علموا أن به حاجة إليه. ¬

_ = تخليل اللحية شيء صحيح. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية شيء. انظر: البدر المنير لابن الملقن رحمة الله علينا وعليه (3/ 394، 415) للاطلاع على الشواهد. (¬1) في ن ب (في). (¬2) في ن ب ساقطة.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر (¬1) 12/ 12/ 1 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله" (¬2). الكلام عليه من عشرة أوجه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث الخامس من الباب واضحًا، وأن لها عدة خصائص، وفد فصلتها في (العدة ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوطة، وفي الأحكام (9)، وفي متن العمدة (10). (¬2) البخاري برقم (168) في الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل و (5854) في اللباس، يبدأ بالنعل اليمنى، ومسلم برقم (268) (67) في الطهارة، باب: التيمن في الطهور وغيره. وكذا أخرجه البخاري في المساجد (باب التيمن في دخول المسجد. وفي الأطعمة، باب: التيمن في الأكل)، والترمذي برقم (608)، والنسائي برقم (112)، وابن ماجه برقم (401)، وأبو داود برقم (4140)، والمسند (6/ 187، 188)، وابن خزيمة (179، 1440)، والطيالسي (2/ 127)، وابن حبان (1091).

في معرفة رجال العمدة) فزادت على الثلاثين، فراجعها منه فإنه من المهمات. الثاني: التيمن: معناه هنا: الابتداء باليمين قبل الشمال، وفي "المغرب" للمطرزي: يامن وتيامن [من] (¬1) أخد جانب اليمين، ومنه: كان عليه السلام يحب التيامن في كل شيء، وهذا اللفظ الذي ذكره رواه ابن حبان في صحيحه بزيادة: "حتى في الترجل والانتعال" (¬2) والتيمن من الألفاظ المشتركة، لأنه أيضًا مصدر تيمن بالشيء إذا تبرك به، مأخوذ من اليمن بضم الياء وهو البركة. والتيمن أيضًا النسبة إلى اليمن بفتح الياء والميم، يقال تيمن [إذا] (¬3) انتسب إلى اليمن. الثالث: التنعل: لبس النعل وهي الحذاء مؤنثة وتصغيرها نعيلة، قال الجوهري (¬4) تقول: نعلت فانتعلت، إذا احتذيت، وأهمل تنعلت أيضًا كما هو في الحديث؛ لأن التنعل مصدر تنعل كالتعلم مصدر تعلم. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. وأيضًا ساقطة من المغرب (2/ 400). (¬2) لفظ الحديث في الإِحسان بتقريب صحيح ابن حبان (2/ 210): كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله. (¬3) في الأصل (إلى)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) انظر: مختار الصحاح (279).

الرابع: الترجل: تسريح الشعر [يقال] (¬1): شعر مرجل أي مسرح، وشعرٌ رَجِل [ورَجَل، ورجله صاحبه: إذا سرحه ودهَّنه، وشعر رجَل ورَجِل] (¬2) ورَجْل: بين السبوطة والجعودة، وقد رجَّل رجلًا ورجلَّه وهو رجل [رجيل] (¬3) الشعر ورجل، وجمعهما أرجال ورجالًا، ذكره ابن سيده في محكمه، وفي الغريبين ومجمع الغرائب: المُرَجِّل والمُسرِّح المشط، وفي المغرب للمطرزي (¬4): رَجّلَ شعرَهَ: أرسله بالمِرجَل وهو المشط، وتَرَجَّلَ: فَعَل ذلك بنفسه، قال بعضهم: ومن الترجل: النزول عن الدابة على الرجل اليمنى، وادَّعى أن الترجل مشط الرأس والمشي راجلًا [وأن] (¬5) كلاهما مشهور في اللغة. الخامس: الطُّهور: بضم الطاء والمراد به فعل الطهارة، وأما بالفتح: فهو الماء الذي يتطهر به، [وقال] (¬6) سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معًا. السادس: معنى التيمن في النعل: البداءة بالرجل اليمنى، بخلاف النزع فإنه ينزع اليسرى أولًا؛ لأن الانتعال للرجل أفضل من ¬

_ (¬1) في ن ب (فقال). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (رجل). (¬4) (1/ 323). (¬5) في ن ب (فإن). (¬6) في ن ب (قال)، انظر: النهاية (3/ 147)، ولسان العرب (4/ 504 - 705)، وجامع الأصول (7/ 63)، والقبس (138).

الحفاء، ومعناه في الترجل: البدأة بالشق الأيمن من الرأس في تسريحه ودهنه، وفي الطُهور: البدأة بالشق الأيمن في الغسل، [وباليد] (¬1) اليمنى والرجل اليمنى في الوضوء. والضابط في ذلك: أن كل ما كان من باب التكريم والزينة كان باليمين وما كان بخلافه فباليسار، فمن الأول: لبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والانتعال وتقليم الأظفار والاكتحال وقص الشارب وترجيل الشعر ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام في الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج من الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك [مما] (¬2) هو في معناه كالاضطجاع. ومن الثاني: دخول الخلاء والأماكن المستقذرة والخروج من المسجد والمنزل والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف، وشبه ذلك، وذلك كله لكرامة اليمين وشرفها. ونقل ابن بطال عن عطاء: قال ابن عمر: "خير المسجد المقام ثم ميامن المسجد" [وكان أنس وابن المسيب يصلي في الشق الأيمن من المسجد] (¬3) وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإِمام، [وكذلك] (¬4) عن الحسن وابن سيرين. ¬

_ (¬1) في ن ب (وفي العيد وفي اليد). (¬2) في ن ب (ما). (¬3) في ن ب ساقط. (¬4) في ن ج (وكذا).

ويستثنى من القسم الأول الخدان والعينان [والأذنان] (¬1) والمنخران والكفان، فلا يشرع التيمن [فيهما] (¬2) كما أسلفناه في الحديث العاشر إلَّا أن يكون أقطع فيقدم اليمين. قال ابن المنذر (¬3): وأجمعوا [على أن لا إعادة] (¬4) على [من] (¬5) بدأ بيساره في الوضوء قبل يمينه، وروينا عن علي (¬6) وابن مسعود (¬7) أنهما قالا: لا تبالي بأي [يد] (¬8) بدأت، وفيه رد على الشيعة [فإنهم] (¬9) قالوا بوجوب تقديم اليمين ولا عِبرة بخلافهم، وزعم المرتضى الشيعي أن الشافعي كان في القديم يقول به، وهو عجيب، فهذا شيء لا يعرفه أصحابنا، وقد حكاها الإمام الرافعي وأنكرها، وأما النووى فإنه حذفها من الروضة وما قصّر في ذلك، وكأن سبب وهمه في هذا النقل أنه رأى [أن] (¬10) الشافعي يقول ¬

_ (¬1) في الأصل (الأذان)، والتصحيح من ب ج. (¬2) في ن ب (فيها). (¬3) في الأوسط (1/ 387). (¬4) في الأصل (على الإِعادة)، وفى ن ب (على أن الإِعادة). (¬5) في ن ب (بمن). (¬6) ابن أبي شيبة (1/ 39)، الأوسط لابن المنذر (1/ 388)، والدارقطني (1/ 87، 88)، وذكره في تلخيص الحبير (1/ 88). (¬7) الدارقطني (1/ 89)، وابن أبي شيبة (1/ 39)، والأوسط لابن المنذر (1/ 388). (¬8) في ن ج ساقطة. (¬9) في ن ج (وأنهم). (¬10) في ن ب ساقطة.

بوجوب الترتيب في أعضاء الوضوء، وهو عجيب فإنه وإن قال به فإن اليدين والرجلين كالعضو الواحد حيث جمعا في لفظ القرآن العزيز حيث قال: {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬1)، نعم نص الشافعي في الأم (¬2) على كراهته؛ وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - (¬3) قال: "إذا توضأتم [فابدأوا بميامنكم] (¬4) " صححه ابن خزيمة (¬5)، وابن حبان (¬6)، وظاهر الأمر فيه للوجوب فمخالفته محرمة، لكن انعقد الإِجماع على عدم التحريم فبقيت الكراهة. واعترض الفاكهي فقال: لِمَ لا يقال: إن ذلك من باب ترك الأولى ولا يتم الاستدلال على الكراهة؟ وجوابه ما رواه ابن حبان من حديث ابن عمر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن يتعاطى أحدنا شيئًا بشماله" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 124. (¬2) الأم (1/ 30). (¬3) في ن ج زيادة (أنه). (¬4) في ن ج (بأيمانكم)، وما أثبت يوافق ما في الإحسان بترتيب ابن حبان (2/ 209). (¬5) صحيح ابن خزيمة برقم (178). (¬6) وابن حبان في تقريب الإِحسان برقم (1087)، وزاد (وإذا لبستم)، وأخرجه أحمد (2/ 354)، وأبو داود برقم (4141)، وابن ماجه (402)، وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 88)، عن ابن دقيق: هو حقيق بأن يصحح. (¬7) تقريب الإحسان برقم (5307).

فرع: لو تعارض الانتعال والخروج من المسجد خرج [منه] (¬1) بيساره ووضعها على نعله اليسرى من غير لبس، ثم خرج باليمنى ولبسها ثم لبس اليسرى. [فائدة] (¬2): قسم بعضهم ما يستحب فيه التيامن وما لا يستحب خمسة أقسام: أولها: ما يستحب فيه التيامن فقط. ثانيها: ما يستحب فيه [التياسر] (¬3) فقط، وقد قدمنا أمثلتهما. ثالثها: ما اختلف فيه وهو الامتخاط والتنخم ومسح [القذا] (¬4). قلت: الذي ينبغي في هذا القطع باليسار. ورابعها: ما خُيِّر فيه بينهما وهو سد الفم عند التثاؤب، فإن سُد باليمنى يخير بين سده بظاهرها أو باطنها، وإن سُد باليسرى فليكن بظاهرها. خامسها: ما يجمع فيه بينهما، وذلك أكل كل حار ببارد كما جاء عنه عليه السلام "أنه أكل قثاء بِرُطَب (¬5) هذا بيده [وهذا ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في ن ج (قلت). (¬3) في الأصل (التيامن)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) في ن ج (العذرة)، والصحبح ما أثبت. (¬5) أخرجه البخاري (9/ 488) في الأطعمة، باب: القثاء بالرطب، ومسلم (2043) في الأشربة، باب: أكل القثاء بالرطب، من رواية أنس، وعن =

بيده] " (¬1) قال بعض العلماء: وهذا مستثنى من الأكل بالشمال. السابع: يدخل في عموم قولها: "وفي شأنه كله" الأحوال التي أسلفناها ومنها الأخذ والعطاء ومنها السواك كما قدمناه، ومذهب [أحمد] (¬2) استحبابه باليسار (¬3)؛ لأنه إزالة مستقذر فكان كالحجر في الاستنجاء، ونقل عن القرطبي أيضًا، ويرده رواية أبي داود في هذا الحديث في اللباس وسواكه، زادها مسلم بن إبراهيم أحد رواته عن شعبة، ثم قال [أبو] (¬4) داود: رواه عن [شعبة] (¬5) معاذ، لم يذكر سواكه. ¬

_ = عائشة، عند الترمذي (1843)، وفي الشمائل (199)، والبغوي (2894)، والحميدي (255). (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) قال شيخ الإِسلام رحمنا الله، وإياه في الفتاوى (21/ 108) في الإِجابة عن سؤال خامس بالسواك هل هو باليد اليسرى أولى من اليد اليمنى أو بالعكس؟ وهل يسوغ الإِنكار على من يستاك باليسرى؛ وأيما أفضل؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، الأفضل أن يستاك باليسرى، نص عليه الأمام أحمد في رواية منصور الكوسج، ذكره عنه في مسائله، وما علمنا أحدًا من الأئمة خالف في ذلك؛ وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى، فهو كالاستنثار والامتخاط ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى وذلك باليسرى، كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى- اهـ. مختصرًا. (¬4) أبو: ساقطة من جميع النسخ ولا يستقيم الكلام إلَّا بها. (¬5) في ن ب ساقطة.

وقال الترمذي الحكيم: والاستياك باليسار إلَّا من علة من [فعل] (¬1) الشيطان، قال: وقد روي مرفوعًا "الشيطان [يأكل بيساره] (¬2) ويشرب بيساره ويعمل الأعمال بيساره فاجتنبوا الأعمال بها إلَّا من علة". قلت: ولأن في السواك تعبدًا حيث أُمر به، ولا إزالة، فهو من باب التكريم فيُفعل باليمين كالأكل والشرب، فإن قلت: كان ينبغي التفصيل [بين] (¬3) حالة التغيير فيكون باليسار وبين عدمها فيكون باليمين. قلت: إطلاق الرواية السالفة التي قدمنا ترد هذا التفصيل. فرع: يستحب البداءة أيضًا بالجانب الأيمن من الفم بالسواك. الثامن: قولها: "وفي شأنه كله" هذا عام في كل شيء، لكن ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. وقد ورد في ذلك حديثٌ من رواية أبي هريرة ولفظه: "ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعطي بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطى بشماله، ويأخذ بشماله". أخرجه أحمد (2/ 325، 349) وعنده من لفظ آخر (5/ 311) (4/ 383)، وابن ماجه (2/ 303)، وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وعن ابن عمر مرفوعًا عند مسلم وأبي داود وأحمد (2/ 8، 33، 80، 106، 128، 135)، والدارمي (2/ 96)، وفي الموطأ، ومن حديث جابر عند مسلم وابن ماجة وأحمد (2/ 334، 387). (¬3) في الأصل (من).

خُص منه دخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء [وما شابه] (¬1) ذلك، فقد روى أحمد وأبو داود عنها وصححه ابن حبان والحاكم، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعل يمينه لطعامه وشرابه ويجعل شماله لما سوى ذلك" (¬2). وروى أحمد وأبو داود عنها أيضًا قالت: "كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى" (¬3). [ورواية] (¬4) الطبراني بلفظ: "كان يُفرغ يمينه لطعامه وحاجته، ويفرغ شماله للاستنجاء وما هنالك". التاسع: فيه دلالة على أن التختم في اليمين دون اليسار؛ لأن لباس الخاتم من شأنه، وهو الصحيح عند الشافعية، وصح أنه عليه السلام تختم في اليسار أيضًا. العاشر: فيه دلالة على أن التأكيد لا يرفع المجاز؛ لأنه ورد هنا مؤكدًا للعموم مع الجزم بالخصوص بما ذكرناه (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب (وما شأنه). (¬2) الحاكم في المستدرك (4/ 109)، قال الذهبي: في سنده مجهول. (¬3) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، (ص 258)، وأخرجه أبو داود في كراهية مس الذكر باليمنى في الاستبراء، وأحمد (6/ 265)، ومن رواي حفصة عند أحمد (6/ 287، 288)، والطبراني (3/ 2023)، وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 26)، رجال ثقات. (¬4) في ن ب ج (ورواه). (¬5) في ن ب زيادة (فرع:) يستحب له إذا تثاءب أن يضع يده على فيه كما رواه مسلم في أواخر صحيحه من حديثه أبي سعيد الخدري، وهل يضع =

خاتمة: ورد الشرع بإكرام جهة اليمين وتفضيلها على الشمال في مواضع في الشرب "لمَّا شرب وعن يساره الصديق وعن يمينه الأعرابي فشرب ثم ناول الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن" (¬1)، وفي الصف الذي يلي يمين الإمام وفي غير ذلك ما تقدم وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} (¬2)، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)} (¬3)، وما في معنى ذلك من التيمن. ¬

_ = اليمين تبركًا وتيمنًا بها كما يفعل في مدخله وتنعله وترجله أو اليسرى؛ لأنها لتنحية الأذى كالاستنجاء وغسل النجاسة؟ فيه احتمالان للمحب الطبري ذكرهما في أحكامه في ذكر التثاؤب في الصلاة، ثم قال: والثاني أنسب، وقد تقدم قريبًا من فصّل في كيفية ذلك من (من 40 أ). (¬1) البخاري، رقم (5619). (¬2) سورة مريم: آية 52. (¬3) سورة الانشقاق: آية 7.

(الحديث الثالث عشر)

(الحديث الثالث عشر) (¬1) 13/ 13/ 1 - عن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" (¬2). وفي لفظ: "رأيت أبا هريرة توضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوطة وفي الأحكام (10) متن العمدة (11). (¬2) رواه البخاري (1/ 207) في الوضوء باب فضل الوضوء، والغر المحجلين من آثار الوضوء. ومسلم برقم (246) في الطهارة باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء برقم (250)، والنسائي أيضًا (1/ 94، 95) باب حلية الوضوء. وجملة "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" مدرجة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (1/ 236): المدرج على أقسام: أحدها مدرج في حديثه - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن يذكر الراوي عقيبة كلامًا لنفسه أو لغيره، فيرويه من بعده متصلًا بالحديث من غير فصل، فيتوهم أنه من الحديث كما حصل هنا.

من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" (¬1). وفي لفظ لمسلم: سمعت خليلي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - يقول (¬3): "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" (¬4). الكلام عليه من تسعة عشر وجهًا: أحدها: نعيم هذا هو ابن عبد الله، وقيل ابن محمد، أبو (¬5) عبد الله المدني القرشي العدوي، مولى عمر، تابعي ثقة، سمع ابن عمر وأنسًا، وجالس أبا هريرة عشرين سنة، وعنه: مالك والناس (¬6)، كان يجمر المسجد، قال له عمر يحسن تجمير المسجد [أي تبخيره، قال: نعم] (¬7) فكان يجمر المسجد فعرف به، وقيل: إن أباه كان يأخذ المجمر قدام عمر بن الخطاب إذا خرج إلى الصلاة في رمضان، وبه جزم ابن حبان، فالمُجمِّر: بضم الميم وإسكان الجيم وكسر الميم الثانية، ويقال: المُجَمِّر بفتح الجيم وتشديد الميم الثانية، على هذا القول صفة لعبد الله أبي نعيم لا لنعيم، وبه جزم النووي في شرح مسلم (¬8)، وعزى إلى صاحب ¬

_ (¬1) رواه مسلم برقم (246). (¬2) في ن ب (رسول الله). (¬3) في ن ب (قال). (¬4) رواه مسلم برقم (250). (¬5) في ن ب (ابن أبو عبد الله). (¬6) لعله: بن أنس. (¬7) زيادة من ن ب ج. (¬8) (3/ 134).

المطالع والأكثرين، قالوا: وأُطلق على [ابنه] (¬1) نعيم مجازًا، ويقال: إن عمر جعل نعيمًا على أجمار المسجد فسمي المجمر، ذكره عبد الغني في ترجمة كيسان، والله أعلم. وجزم الشيخ تقي الدين بأن الوصف لنعيم (¬2). "فائدة": مجمر تشتبه بمخمر بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الميم الثانية، وهم جماعة سردهم الأمير، منهم: [ذو] (¬3) مخمر ابن أخي النجاشي، له صحبة، ويقال: مخبر بالباء الموحدة بدل الميم (¬4). ثانيها: أبو هريرة، تقدم التعريف [به] (¬5) في الباب في الحديث الثاني. ثالثها: (أمة) جاءت على ثمانية أوجه ذكرها العزيزي رحمه الله: أمه: جماعة، كقوله تعالى: {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (أبيه). (¬2) قال ابن حجر رحمنا الله وإياه في الفتح (1/ 235): هو وصف لهما، وقول من زعم أنه وصف لعبد الله حقيقة ووصف لأنه مجازًا. فيه نظر، فقد جزم إبراهيم الحربي بأن نعيمًا كان يباشر ذلك. اهـ. (¬3) في ن ب (ذوا). (¬4) المشتبه للذهبي (572). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) سورة القصص: آية 23.

وأمة: أتباع الأنبياء عليهم السلام؛ كما نقول: نحن أمة محمد، عليه أفضل الصلاة والسلام. وأمة: رجل جامع للخير يقتدى به، كقوله تعالى: [{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (¬1). وأمة: دين وملة، كقوله تعالى] (¬2): {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (¬3). وأمة: حين وزمان كقوله تعالى: {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} (¬6) أي بعد حين، ومن قرأ (بعد أمةٍ) بفتح الهمزة وتخفيف الميم فسيان. وأمة: قامة (¬7)، يقال: فلان حسن الأمة، أي القامة. وأمة: رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده" (¬8). ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 120. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) سورة الزخرف: آية 22. (¬4) سورة هود: آية 8. (¬5) في ن ب (وكقوله تعالى). (¬6) سورة يوسف: آية 45. (¬7) في ن ب (قائمة). (¬8) أخرجه أحمد (1/ 189، 190)، والحاكم (3/ 439، 440)، والطبراني (350)، وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 417)، ونسبه إلى الطبراني والبزار باختصار، وفي المسعودي وقد اختلط وبقية رجاله ثقات، كذا =

وأمة: أمّ، يقال: أمّة زيد. والمراد بالأمة إذا قلنا: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: المؤمنون خاصة، هذا هو الحق، وقد يطلق على غيرهم بعلاقة كونه مرسلًا إلى الناس (¬1) أجمعين (¬2). رابعها: قوله: "يوم القيامة" يوم: من الأسماء الشاذة لوقوع الفاء والعين فيه حرفي علة فهو من باب ويل وويح، والقيامة: فعالة من قام يقوم، أصله القوامة فقلبت الواو فيه ياء لانكسار ما قبلها. خامسها: قوله: "غرًا محجلين" [أهما] (¬3) منصوبان على الحال من الضمير في يدعون وهو الواو. والأصل يدعوون بواوين تحركت الأولى وانفتحَ ما قبلها قلبت ألفًا، اجتمع ساكنان الألف والواو بعدها فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار يُدعون، ومعناه -والله أعلم-: يُدعون إلى موقف الحساب أو إلى الميزان أو إلى غير ذلك. ¬

_ = قال. وكذا أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 316، 317)، وصححه ووافقه الذهبي، وهو في المطالب العالية برقم (4057). (¬1) المراد بالأمة هنا أمة الإِجابة وهم المسلمون؛ لأنها قد تطلق ويراد بها أمة الدعوة وليت مرادة هنا. (¬2) وقد تأتي أمة: يعني أمره - صلى الله عليه وسلم - الكفار منهم خاصة. قال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} يعني الكفار خاصة. كشف السرائر لابن العماد (من 88). انظر: نزهة الأعين لابن الجوزي (142)، والأشباه والنظائر للثعالبي (71). (¬3) في ن ج ساقطة.

وقال الشيخ تقي الدين: [يحتمل] (¬1) أيضًا أن يكون مفعولًا ليُدعون بمعنى التسمية، أي يُسمّوُن غرًّا، قال؛ والأقرب أن تكون حالًا وتعدَّى يدعون في المعنى بالحرف كما قال تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} (¬2)، ويجوز أن لا [يعدى] (¬3) يدعون بالحرفية ويكون غُرًّا حالًا أيضًا، واقتصر الفاكهي على إعرابه حالًا [من] (¬4) الضمير في يدعون، ثم قال: وقد خلّط بعض الناس في إعراب هذا الموضع وليس من شأنه. سادسها: الغرة: بياض في [جبهة] (¬5) الفرس. والتحجيل: بياض في يديها ورجليها فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة: غرة وتحجيلًا، تشبيهًا بذلك. قال ابن سيده: الغرة بياض في [الجبهة] (¬6)، فرس أغر وغرا. وقيل: الأغر في الخيل: الذي غرته أكبر من الدرهم قد وسطت جبهته ولم تصب واحدة من العينين ولم تمل على واحدة من ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطه، إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 217). (¬2) سورة آل عمران: آيه 23. (¬3) في ن ب (يتعدى). (¬4) في ن ب (في). (¬5) في ن ب (جهة). (¬6) في ن ب (الجهة)، وما أثبت من الأصل والمخصص لابن سيده (6/ 154).

الخدين ولم تسل سفلى، [وهي] (¬1) أفشى من القُرْحة (¬2). وقال بعضهم: بل يقال للاغر: أغر أقرح؛ لأنك إذا قلت أغر فلا بد [من] (¬3) أن تصف الغرة بالطول والعرض والصغر والعظم والدقة، وكلهن غرر، فالغرة جامعة لهن، [وغرة] (¬4) الفرس: البياض يكون في وجهه، فإن كانت مدور فهي [وتيرة] (¬5)، وإن كانت طويلة فهي شارخة وعندي أن الغرة نفس القَدر الذي يشغله البياض، والأغر: الأبيض من كل شيء، وقد غَرَّ وجهه يَغَرُّ بالفتح غَرَرا وغُرّة وغِرَارةَ: صار ذا غُرّة. قال: والتحجيل: بياض يكون في قوائم الفرس كلها. وقيل: هو أن يكون البياض في ثلاث قوائم منهم دون الأخرى، في رجل ويدين، فلا يكون التحجيل في اليدين خاصة إلَّا مع الرجلين ولا في يد واحدة دون الأخرى إلَّا مع الرجلين. والتحجيل: بياض قل أو كثر حتى يبلغ نصف الوطيف ولون سائره ما كان، وفي الصحاح (¬6): يجاوز الأرساخ ولا يجاوز الركبتين ولا العرقوبين، وفي المغيث (¬7) لأبي موسى: ¬

_ (¬1) في ن ب (وهو). (¬2) القرحة: قدر الدرهم فما دونه. لسان العرب (10/ 43). (¬3) زيادة من ن ب ج، وهي في اللسان (10/ 43). (¬4) في ن ب (وغراه). (¬5) في ن ب (وشيرة)، والصحيح ما أثبت كما في اللسان (10/ 43). (¬6) مختار الصحاح (60). (¬7) المجموع المغيث (1/ 450).

فإذا كان البياض في طرف اليد فهو العصمة، يقال: فرس أعصم. [السابع] (¬1): المراد بالغرة: غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائدًا على الجزء الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه، وفي التحجيل غسل ما فوق المرفقين والكعبين. وادَّعى ابن بطَّال ثم القاضي عياض اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب وهي دعوى باطلة، فقد ثبت فعل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي هريرة، وعمل العلماء وفتواهم عليه، فهما محجوبان بالإجماع واحتجاجهما بقوله عليه السلام: "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" (¬2) غير صحيح؛ لأن المراد به الزيادة في عدد [المرات] (¬3) أو النقص عن الواجب أو الثواب المرتب على [بعض] (¬4) العدد لا الزيادة ¬

_ (¬1) في الأصل (سابعها). (¬2) أبو داود رقم (135) الدعاس، والنسائي برقم (140) ولفظه: فقد أساء وتعدَّى وظلم، ومسند أحمد الفتح الرباني (2/ 50)، وابن ماجه برقم (1/ 146)، قال ابن حجر: من طريق صحيحة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وانظر: البدر المنير (3/ 334). تنبيه: قال ابن حجر في التلخيص وما قبله (1/ 83): يجوز أن تكون الإِساءة والظلم وغيرهما مما ذكر مجموعًا لمن نقص، ولمن زاد، ويجوز أن يكون على التوزيع، فالإِساءة: في القص، والظلم في الزيادة، وهذا أشبه بالقواعد، والأول أشبه بظاهر السياق، والله أعلم، وقد استوفى ابن الملقن رحمنا الله وإياه تفسيرها في البدر المنير (3/ 337). (¬3) في الأصل (المراتب)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) في ن ج (نقص).

على تطويل الغرة والتحجيل. وأما حد الزائد فغايته: استيعاب العضد والساق. [وقال جماعة من أصحابنا: يستحب إلى نصف العضد والساق] (¬1). وقال البغوي: نصف العضد فما فوق، ونصف الساق فما فوقه. وجمعها النووي في شرح مسلم [فقال] (¬2): اختلف أصحابنا في القدر المستحب على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيت. وثانيها: إلى نصف العضد والساق. وثالثها: يستحب إلى المنكب والركبتين، قالا: والأحاديث تقتضي ذلك كله. وقال الشيخ (¬3) تقي الدين: ليس في الحديث تقييد ولا تحديد لمقدار ما يغسل من العضدين والساقين، وقد استعمل أبو هريرة الحديث على إطلاقه، وظاهره في طلب إطالة الغرة، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في الأصل (فقد)، والتصحيح من ن ب ج. انظر: النووي مع مسلم (3/ 134)، والمجموع (1/ 339، 440). (¬3) إحكام الأحكام مع الحاشيه (1/ 220).

[فغسل] (¬1) إلى قريب من المنكبين ولم ينقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر استعماله في الصحابة والتابعين، [فلذلك] (¬2) لم يقل به الفقهاء ورأيت بعض الناس قد ذكر أن حد ذلك نصف العضد ونصف الساق، هذا آخر كلامه. وقوله: (لم يقل به الفقهاء) عجيب مع ما قدمناه عنهم. ومن أوهام ابن بطال (¬3) والقاضي أيضًا إنكارهما على أبي هريرة بلوغه الماء إبطيه وأن أحدًا لم يتابعه عليه، فقد قال [به] (¬4) القاضي حسين وآخرون من أصحابنا (¬5) أيضًا، وفي (مصنف ابن أبي شيبة) حدثنا وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان ربما بلغ بالوضوء إبطه في الصيف" (¬6)، ثم روى عن ¬

_ (¬1) في ن ب (فيغسل). (¬2) في ن ب (ولذلك). (¬3) في شرح البخاري لابن بطال (1/ ق 48 أ) قال: وهذا شيء لم يتابع عليه أبو هريرة، والمسلمون مجمعون على أنه لا يتعدى بالوضوء ما حد لله ورسوله، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أبدر الناس إلى الفضائل وأرغبهم فيها، لم يتجاوز فقط موضع الوضوء فيما بلغنا. ويحتج على أبي هريرة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وبحديث: "فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وظلم". اهـ، من البدر المنير (3/ 422). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) وقال النووي: وأحاديث الباب تقتضي هذا كله أي الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تقدير وإلى نصف العضد والساق وإلى العضد والمنكبين. (¬6) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 55).

وكيع أيضًا عن عقبة بن أبي صالح عن إبراهيم أنه كرهه (¬1). قلت: وهذا مردود بما سلف، وما أبعد مَنْ أوّل الاستطاعة [في] (¬2) الحديث على إطالة الغرة والتحجيل بالمواظبة على الوضوء لكل صلاة وإدامته فتطول غرته بتقوية نور أعضائه (¬3). الثامن: قوله: "من آثار الوضوء". هو بضم الواو [وهذا] (¬4) هو المعروف، ويجوز أن يقال بفتحها (¬5)، ويكون المراد آثار الماء المستعمل في الوضوء، فإن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء فيجوز أن ينسب إلى كل منهما. التاسع: قوله: "فمن استطاع إلى آخره" اقتصر فيه على ذكر الغرة دون التحجيل، وإن ذكر معها في رواية أخرى في الصحيحين (¬6) [للعلم] (¬7) به وكأنه من باب قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (¬8). ولم يذكر البرد للعلم به. ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 55). (¬2) في ن ب (على). (¬3) اعترض عليهم بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، كيف وقد صرح برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فتح الباري (1/ 237). (¬4) (وهذا) زيادة من ب. (¬5) انظر: القبس (138). (¬6) قد جاء مصرحًا به في رواية لمسلم بلفظ: "فليطل غرته وتحجيله". فقد ذكر التحجيل. (¬7) في الأصل (العلم)، وما أثبت من ن ب. (¬8) سورة النحل: آية 81.

وقال الشيخ تقي لدين (¬1): كأن ذلك من باب التغليب بالذكر لأحد السببين على الآخر وإن كانا سبيل واحد للترغيب فيه، وقد استعمل الفقهاء ذلك أيضًا، فقالوا: يستحب تطويل الغرة، ومرادهم الغرة والتحجيل، وفي هذا نظر كما قال الفاكهي؛ لأن القاعدة في التغليب أن يغلب المذكر على المؤنث لا العكس والأمر هنا بالعكس؛ [لتأنيث] (¬2) الغرة وتذكير التحجيل، وأيضًا [فمثل] (¬3) هذا لا يسمى تغليبًا إذ لم يؤت فيه إلَّا بأحد الاسمين، والتغليب اجتماع الاسمين أو الأسماء وتغليب أحدهما على الآخر، نحو [العُمرين] (¬4) والأبوين وشبههما. ويجاب أيضًا بأنها خُصت بالذكر؛ لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، ولأنه أول ما يقع عليه البصر يوم القيامة. العاشرة: ادَّعى بعضهم أن قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" من قول أبي هريرة أدرجه آخر الحديث، ذكره في رواية البخاري عن نعيم قال: "رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد فتوضأ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". وفي هذه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 219). (¬2) في ن ب (أما تأنيث). (¬3) في الأصل (فمن)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب (القمرين).

الدعوى عندي بُعد. فليتأمل (¬1). (فائدة): قال ابن منده في مستخرجه حديث: "أمتي الغر [المحجلين] (¬2) من آثار الوضوء". رواه [مع] (¬3) أبي هريرة من الصحابة ابن مسعود (¬4) وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو أمامة الباهلي وأبو ذر الغفاري وعبد الله بن بسر المازني (¬5) وحذيفة بن اليمان [رضي الله عنهم] (¬6). الحادي عشر: المنكب: مجمع عظم العضد والكتف، قاله الجوهري (¬7). وقال غيره: هو مجمع رأس العضد والكتف وطرف الترقوة، والساقان تثنية ساق وهي مؤنثة غير مهموزة وفيها لغة قليلة بالهمز وقد قرئ بهما (¬8) في السبع في قوله تعالى: {وكشفت عن ساقيها} (¬9) وغيره. ¬

_ (¬1) انظر تعليق ت (2) ص (400). (¬2) في ن ب (المحجلون). (¬3) في الأصل (عن)، وما أثبت من ب ب. (¬4) ابن حبان (2/ 274)، وابن ماجه (1/ 204)، وحسن إسناده في مجمع الزوائد (1/ 42). انظر: ت (3) من (414). (¬5) سيأتي تخريجه في: ت (5) من (414). (¬6) زيادة من ن ب ج. (¬7) إسماعيل بن حماد الإمام أبو نصر الفارابي صاحب الصحاح. مات سنة 393، بغية الوعاة (1/ 446). (¬8) في ن ب (بها). (¬9) سورة النمل: آية 44.

الثاني عشر: استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة زادها الله شرفًا، وبه [جزم] (¬1) الحليمي في (منهاجه) وفي الصحيح أيضًا: "لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون [عليَّ] (¬2) غرًا محجلين من أثر الوضوء" (¬3)، وقال آخرون: ليس الوضوء مختصًا بها (¬4) وإنما الذي اختصت به الغرة والتحجيل، قال ابن العطار: في شرحه في باب التيمم في الكلام على حديث جابر: وهو المشهور من قول العلماء، واحتجوا بالحديث الآخر. "هذ وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي" وأجاب [الأولون] (¬5) عن هذا بوجهين: أحدهما: أنه حديث ضعيف (¬6). والثاني: أنه لو صح لاحتمل اختصاص الأنبياء دون أممهم بخلاف هذه الأمة، وفي هذا شرف عظيم لهذه الأمة حيث استووا مع ¬

_ (¬1) في ن ب (قال). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) مسلم، نووي (3/ 135)، وتقريب الإِحسان لابن حبان برقم (1045). (¬4) وليس من خصائص هذه الأمة الوضوء لحديث: قصة سارة -وهو في البخاري- مع الملك الذي أعطاها هاجر: أن سارة لما هم بها الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي. وفي قصة جريج الراهب أيضًا أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلمه الغلام. فالظاهر الذي اختمت به الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء. اهـ، فتح الباري (1/ 236). (¬5) في ن ب (الأولين). (¬6) انظر تخريجه: في البدر المنير (3/ 316، 329).

الأنبياء في هذه الخصوصية وامتازت بالغرة والتحجيل. ونقل الزناتي المالكي شارح الرسالة عن العلماء: أن الغرة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة، من توضأ منهم ومن لم يتوضأ (¬1)، كما قالوا: لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة، إن أهل القبلة كل من آمن به من أمته سواء صلى أو لم يصل، وهذا نقل غريب، وظاهر الأحاديث تقتضي خصوصية ذلك بمن توضأ منهم، وفي صحيح ابن حبان: "يا رسول الله: كيف تعرف من لم تر (¬2) من أمتك، قال: غرٌ محجلون بلق من آثار الوضوء" (¬3). [الثالث عشر] (¬4): في جامع الترمذي مصححًا: "أمتي يوم القيامة غر من السجود محجلون من الوضوء" (¬5)، ولا تضاد بينه وبين ¬

_ (¬1) سئل شيخ الإِسلام رحمه الله تعالى عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تأتون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" وهذه صفة المصلين، فبم يعرف غيرهم من التاركين والصبيان فأجاب: الحمد لله رب العالمين، هذا الحديث دليل على أنه إنما يعرف من كان أغر محجلًا، وهم الذين يتوضؤون للصلاة، وأما الأطفال فهم تبع للرجال، وأما من لم يتوضأ قط ولم يصل فإنه دليل على أنه لا يعرف يوم القيامة. اهـ، من الفتاوى (21/ 171). وظاهر الحديث يدل على أن من لم يتوضأ لا يكون أغر ولا محجلًا لأن لفظه "غرًا محجلين من آثار الوضوء". (¬2) في الأصل زيادة (هن)، والتصحيح من تقريب ابن حبان الإِحسان. (¬3) تقريب الإِحسان في ترتيب صحيح ابن حبان (2/ 274)، وسبق تخريجه. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) الترمذي برقم (607) عن عبد الله بن بسر، وأحمد في المسند (4/ 189).

ما نحن فيه فنوّرت وجوههم بسببين وأرجلهم بسبب واحد. [الرابع عشر] (¬1): قال صاحب المعلم (¬2): قد استوفى - صلى الله عليه وسلم - بذكر الغرة والتحجيل جميع أعضاء الوضوء، فإن الغرة: بياض في الوجه، والتحجيل: بياض في اليدين والرجلين أي والرأس داخلة في مسمّى [الغرة] (¬3). [الخامس عشر] (¬4): المراد بالحلية في هذا: حلية أهل الجنة، وقد روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "تبلغ حلية أهل الجنة مَبلغ الوضوء" (¬5)، [فقوله] (¬6): تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، يحتمل أن يكون المراد به ما في هذا الحديث فيُحلى في الجنة في مواضع الوضوء تحلية تبلغ حيث بلغ الماء فيها، تقول منه: حليته احليه تحلية إذا ألبسته الحلية. السادس عشر (¬7): أصل الخليل: الصديق، فعيل بمعنى مفعول، وهو المحبوب الذي تخللت محبته القب فصارت خلاله أي في باطنه، والمخاللة مفاعلة وهي لا تكون إلَّا من اثنين غالبًا، وقد اختلف الناس في الخليل فقيل: إنه الصاحب، وقيل: إنه الخالص ¬

_ (¬1) في ن ب (الثالث عشر). (¬2) انظر: المعلم بفوائد مسلم (1/ 351). (¬3) في ن ب (الرأس). (¬4) في ن ب (الرابع عشر). (¬5) تقريب الإِحسان برقم (1045). (¬6) في ن ب (قوله). (¬7) في ن ب (الخامس عشر).

في [الصحبة] (¬1) وهو أخص من الصاحب، واختلفوا أيضًا: هل الخلة أرفع درجة من المحبة (¬2)، أو عكسه، أو هما سواء، على أقوال، واختلفوا أيضًا في اشتقاقه على أقوال: أحدها: أنه من الخَلة بفتح الخاء وهي الحاجة. ثانيها: من الخُلة بضمها وهي تخلل المودة في القلب فلا يدع ليه خلا إلَّا ملا به، قاله ثعلب. ثالثها: من الخلة وهي نبت يستحليه الإِبل ومن أمثالهم، الخلة خُبْز الإِبل والحَمْض فاكهتها، وقال القاضي عياض: الخلة عبارة عن صفاء المودة، قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا [فذا ما نطقت كنت حديثي ... وإذا ما سكت كنت العليلا] (¬3) وقال الزجاج: معنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل. [وقيل] (¬4): معناه الذي يُوالي فيه ويُعادي. ¬

_ (¬1) في ن ب (في المحبة). (¬2) قال ابن القيم: وأما ما يظنه من أن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حبيب الله، فمن جهلهم، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة. قال: وقد أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن الله قد اتخذه خليلًا ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-. وأيضًا فإن الله يحب الصابرين والتوابين والمتطهرين، وخلته خاصة بالخليلين. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) الكلمة في الأصل مبتورة.

وقيل: الخليل هو المختص بشيء دون غيره، ولا يجوز أن يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا بشيء من الديانات دون غيره، قاله النحاس. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن صاحبكم خليل الرحمن، يعني نفسه" (¬1) فهذا منه عليه السلام قطع للمخاللة بينه وبين غيره، وحينئذ فما الجواب عن قول أبي هريرة: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم -؟ فإن أجيب بأن المنفي أن يتخذ هو خليلًا، وما نفى أن يتخذ غيره خليلًا، ورد عليك ما قدمناه من أن المخاللة مفاعلة وهي غالبًا لا تكون إلَّا من اثنين، وقد يجيب بأن هذا من ذلك النادر، أو أنه أراد مجرد الصحبة فقط فعبّر عنها بالخُلة مجازًا، ولا شك أنه يُحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبة تخالط القلب والبدن مقدمة على النفس والمال والولد والناس أجمعين. ويجوز إطلاق ذلك [منا] (¬2) بهذا المعنى فيقول أحد الصحابة أو كلهم: سمعت خليلي، وقال خليلي، وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فلم يتخذ أحدًا خليلًا؛ لأن خلته كانت مقصورة على حب الله تعالى، فليس فيها متسع لغيره، ولا ينال ذلك إلَّا بفضل الله لمن يشاء من عباده، وقد وقع من جماعة من الصحابة غير أبي هريرة [إضافة خلتهم له تشرفًا بها ولم ينكر عليهم وهو دال على جوازه] (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1/ 377، 378)، والبخاري في باب لو كنت متخذًا خليلًا، والترمذي برقم (3656) بلفظ (ولكن صاحبكم خليل الله). (¬2) في الأصل (هنا)، والصحيح من ن ب ج. (¬3) في ن ب ج ساقطة.

السابع عشر: في الحديث استحباب المحافظة على الوضوء وسننه [الشرعية] (¬1) فيه. الثامن عشر: فيه أيضًا ما أعد الله تعالى من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة. التاسع عشر: فيه أيضًا ما أطلعه الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من المغيبات المستقبلة التي لم يطلع عليها نبيًا غيره من أمور الآخرة وصفات ما فيها. ¬

_ (¬1) في ن ب (المشروعة).

2 - باب الاستطابة

2 - باب الاستطابة (¬1) الباب: ضرب من الكتاب تتقارب مسائله وهو مجاز من الباب الصوري الذي يُدخل منه إلى الشيء، والأصح: أنه المنفذ لا الخشب المركب عليه، وإنما سُمي الخشب بابًا لملازمته له، وهو في [العلوم] (¬2) للتمييز بينه وبين ما بعده وهو مستعمل هنا لافتتاح أحكام مندرجة تحت اسم خاص. ¬

_ (¬1) في متن العمدة، باب: دخول الخلاء والاستطابة، وفي الأحكام، باب: الاستطابة. تنبيه: اختلفت عبارات العلماء في هذه الترجمة. فبعضهم عبر بقضاء الحاجة. وهي كناية عن خروج البول والغائط أخذًا من حديث "إذا قعد أحدكم لحاجته": وبعضهم بالاستطابة كما فعل المصنف أخذًا من قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يستطيب أحدكم بيمينه". وبعضهم بالتخلي أخذًا من حديث: "إذا دخل أحدكم الخلاء". والبعض بالتبرز أخذًا من قوله: "البراز في الموارد". والعبارات كلها صحيحة. من حاشية إحكام الأحكام. (¬2) في ن ج (العلم).

والاستطابة: إزالة الأذى عن المخرجين بحجر ونحوه، أو مأخوذ من الطيب؛ لأن إزالة الفضلة تطيب المحل وتذهب عنه القذر، يقال: استطاب الرجل فهو مستطيب، وأطاب فهو مطيب. وذكر المصنف رحمه الله في الباب ستة أحاديث:

الحديث الأول

الحديث الأول 14/ 1/ 2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" (¬1). [الخُبُث: بضم الخاء والباء جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم] (¬2). الكلام عليه من ثلاثة عشر وجهًا: الأول: في التعريف براويه: هو أنس بن مالك بن النضْر بضاد معجمة ساكنة، ابن ضمضم بضاد معجمة ثم ميم، ابن زيد بن حرام بالحاء المهملة والراء، وجميع ما في الأنصار من الأسماء كذلك وفي ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (142) في الوضوء، باب: ما يقول عند الخلاء، و (6322) في الدعوات، باب: الدعاء عند الخلاء، ومسلم برقم (375) في الحيض، وأبو داود برقم (4) في الطهارة، والترمذي برقم (7)، والنسائي (1/ 20) في الطهارة، وابن ماجه برقم (296)، وأحمد في المسند (3/ 99 و 101) و (4/ 369 و 373)، والدارمي (1/ 17). (¬2) موجود في بعض النسخ كإحكام الأحكام، وفي بعضها ساقط كمتن العمدة.

قريش بكسر الحاء المهملة والزاي، الأنصاري الخزرجي النجاري. كنيته: أبو حمزة، كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلة كان يجتنيها، قال الأزهري: البقلة التي جناها أنس كان في طعمها لذع فسميت حمزة بفعلها. يقال: رمانة حامزة [أي] (¬1) فيها حموضة. خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد بدرًا، جاءت به أمه أم سليم بنت مِلحان -بكسر الميم وفتحها- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخدمه حين قدم المدينة، فقالت: يا رسول الله أنس غلام كاتب [لبيب] (¬2) يخدمك، فقبله وخدمه عشر سنين، وكان عمره عشرًا، وقيل ثمانية، ودعا له بكثرة المال والولد وطول الحياة ودخول الجنة، فكان له كَرْم يحمل في السنة مرتين. وفي الترمذي عن أبي العالية أنه عليه السلام دعا له وكان له بستان يحمل في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك، ثم قال: حديث حسن (¬3)، ورأى من أولاده وأحفاده عددًا كثيرًا. وكان يقول: إني لمن أكثر الأنصار مالًا وولدًا، ويقال: إنه ولد له ثمانون ولدًا (¬4) ليس فيهم أنثى إلَّا اثنتين حفصة وأم عمرو، وفي البخاري أنه دفن لصلبه مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) الترمذي (3833). (¬4) في ن ب زيادة واو.

ومائة. وفي الطبراني الكبير عنه قال: لقد دفنت بيدي هاتين (مائتين) (¬1) [من] (¬2) ولدي، لا أقول سقطًا ولا ولدَ ولدٍ. وفي مسند عبد بن حميد لمَّا دعا له بكثرة المال والولد قال: وبارك له فيه، وروي عنه أنه قال: رأيت كثرة المال والولد وأرجو دخول الجنة (¬3). قلت: ومات له في طاعون [الجارف] (¬4) ثلاثة وثمانون ابنًا، ويقال ثلاثة وسبعون. وكان من أكثر الصحابة أيضًا حديثًا، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثًا، أخرج له في الصحيحين ثلاثمائة حديث وثمانية عشر حديث، اتفقا منها على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثمانين، ومسلم بسبعين، حكاه ابن الجوزي. وقال المقدسي: انفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وسبعين. روى عنه أبو أُمامة، ومن أولاده موسى والنضر وأبو بكر، وأحفاده، وخلق كثير من التابعين. وكان يصلي فيطيل القيام حتى تفطر قدماه دمًا، وأُتي به إلى الحجاج فآذاه -آذاه الله-. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أمه أم سليم فيصلي في بيتها غير المكتوبة ويدعو لهم بخير الدنيا والآخرة. وهو من أطول الصحابة عمرًا، توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ¬

_ (¬1) في الأصل مكررة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) الترمذي (3827). (¬4) في ن ب (الطارف).

عشرين سنة، وبقي بعده دهرًا، سكن البصرة، ومات بقصره بألطف على فرسخين منها، وقيل فرسخ ونصف، ودفن هناك سنة ثلاث وتسعين على الصحيح الذي عليه الجمهور كما نقله عنهم النووي. وقيل: سنة خمس، وقيل: سنة إحدى، وقيل: اثنين. وصلَّى عليه قطن بن مدرك الكلابي، وهو آخر الصحابة موتًا بالبصرة لا موتًا على الإطلاق، فلا التفات إلى من أطلق ذلك، وكان يقول: لم يبق على وجه الأرض ممن صلَّى [إلى] (¬1) القبلتين غيري (¬2). قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا مات بعده ممن رأى [النبي] (¬3) - صلى الله عليه وسلم - إلَّا أبا الطفيل يعني عامر بن واثلة القائل: وبقيت سهمًا في الكنانة واحدًا ... سيُرمى به أو يكسر السهم ناضله وكانت وفاته سنة مائة وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمانية أعوام. قال: واختلف في سِنِّه -يعني من أنس- يوم مات، وأصح ما فيه أنه عمّر مائة إلَّا سنة. [واعترض] (¬4) عليه النووي فقال: هذا شاذ مردود، فقد ثبت في الصحيح أنه كان له قبل الهجرة عشر سنين [فعمّر] (¬5) فوق المائة. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب زيادة واو. (¬3) في ن ب (رسول الله). (¬4) في ن ب (واعرض). (¬5) في ن ب (فعمره).

قلت: قيل: زاد على المائة ثلاث سنين، وقيل: سبعًا، وقيل: عشرين (¬1). وقد ذكر أبو عمر أيضًا في وفاة [محمود] (¬2) بن الربيع قولين: أحدهما: سنة تسع وتسعين، والثاني: سنة ست، فهذا بعد أنس، فكيف يقول: لا أعلم أحدًا مات بعده ممن له رواية إلَّا أبا الطفيل؟. [قال] (¬3) مورق العجلي لما مات أنس: ذهب اليوم نصف العلم، قيل له: كيف [ذلك] (¬4)؛ قال: كان رجل من [أهل] (¬5) الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا: تعال إلى من سمعه من رسول الله. فائدة مهمة: في الرواة أنس بن مالك خمسة، أولهم هذا. وثانيهم: أبو أمية الكعبي، له حديث: إن الله وضع عن المسافر ... إلى آخره. وثالثهم: أنس بن مالك بن أبي عامر والد مالك بن أنس الفقيه. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (وقيل). (¬2) في ن ب (محمد). (¬3) في ن ب (وقال). (¬4) في ن ب ج (ذاك). (¬5) في ن ب ساقطة.

ورابعهم: شيخ حمصي. وخامسهم: كوفي حدث عن الأعمش وغيره. فائدة [ثانية] (¬1): أنس [في] (¬2) الرواة [تشتبه] (¬3) بأتش بالمثناة فوق بدل النون ثم شين معجمة، وهو محمد بن الحسن بن أتش الصنعاني المتروك (¬4) وأخوه علي بن الحسن، فاعلم ذلك. الوجه الثاني: قوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (كان) هنا هي التي تدل على الملازمة والمداومة. الثالث: (إذا دخل) معناه: إذا أراد الدخول، وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬5) وقد ثبت هذا المعنى صريحًا في رواية البخاري تعليقًا: "كان إذا أراد أن يدخل" (¬6)، قال الشيخ تقي (¬7) الدين: ويحتمل أن يريد به ابتداء الدخول، وذكر الله تعالى مستحب في ابتداء قضاء الحاجة. ¬

_ (¬1) في ن ب ج (أيضًا) بدل ثانية. (¬2) في ن ب ج (من). (¬3) في ن ب (يشبه). (¬4) مشتبة النسبة للذهبي (34)، معاصر لعبد الرزاق. (¬5) سورة النحل؛ آية 98. (¬6) البخاري برقم (142)، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال، فذكره، قال الحافظ: وأفادت هذه الرواية تبيين المراد من قوله: "إذا دخل الخلاء" أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول لا بعده. (¬7) إحكام الأحكام (1/ 224).

قلت: يضعف هذا رواية البخاري التي [ذكرناها] (¬1). ثم قال: فإن كان المحل الذي يقضي فيه الحاجة [غير] (¬2) سعد لذلك كالصحراء مثلًا جاز ذكر الله تعالى في ذلك المكان، وإن كان معدًا لذلك كالكُنف ففي جواز الذكر فيه خلاف بين الفقهاء، فمن كرهه [فهو] (¬3) يحتاج إلى أن يؤوِّل قوله: "إذا دخل" بمعنى أراد؛ لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح، أو لأنه قد بين في حديث آخر المراد حيث قال عليه السلام؛ "إن هذه الحشوش محتضرة -أي للجان والشياطين- فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث" (¬4). [أي] (¬5) وهو حدث صحيح كما شهد له بذلك ابن حبان والحاكم من حديث زيد بن أرقم، [وإن] (¬6) تكلم فيه غيرهما، قال: وأما من أجاز ذكر الله تعالى فلا يحتاج إلى هذا التأويل، ويحمل [دخل] (¬7) على حقيقتها. ¬

_ (¬1) في ن ب (ذكرها). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) أخرجه أحمد (1/ 269)، وأبو داود برقم (6) في الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، وابن ماجه برقم (296) في الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2/ 341)، ومعنى محتضرة: أي تحضرها الشياطين. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (فإن). (¬7) في ن ج (ذلك).

وحديث: "إن هذه الحشوش محتضرة" فيه بيان لمناسبة هذا الدعاء المخصوص لهذا المكان المخصوص، وما ذكره رحمه الله من الجزم بجواز الذكر في المكان غير المعد لقضاء الحاجة وحكاية الخلاف في غيره هو مذهب مالك كما ستعلمه، وتبعه الفاكهي على ذلك وزاد نفي الخلاف في الأول، قال: وحملُ الحديث على أن المراد: إذا أراد الدخول، أولى من حمله على ظاهره؛ لأنه لا خلاف في جواز الذكر قبل الوصول إلى المكان المعد لقضاء الحاجة (¬1)، وأما فيه نفسه فقد اختلف فيه المذهب على قولين، وحملُه على المجمع عليه أولى من المختلف فيه؛ لأن الخلاء المذكور في الحديث هو المعد لقضاء الحاجة [فلا] (¬2) إشكال، أما غير المعد فلا خلاف في جواز الذكر فيه. وعبارة صاحب (الجواهر) (¬3) منهم: إذا كان [المكان] (¬4) غير معد لقضاء الحاجة جاز تقديم الذكر وتأخيره، وإن كان معدًا لها ففي جواز الذكر بعد الدخول قولان مبيان على جواز الاستنجاء بالخاتم فيه اسم الله تعالى. [وهذا] (¬5) الذي بناه عليه ستعرف ما فيه في الحديث ¬

_ (¬1) راجع التعليق (6) من (426)، وت (4) ص (427). (¬2) في ن ب ج (بلا). (¬3) سبق التعريف به تعليق (4) (ص 326). (¬4) في الأصل (المعد)، والتصحيح من ن ب. (¬5) في الأصل (وهو)، وما أثبت من ن ب.

[الخامس] (¬1) إن شاء الله (¬2)، [فأما] (¬3) أصحابنا فجزموا بالكراهة وأطلقوا، قال ابن العطار: ولا أعلم أحدًا من العلماء ذكر هذه الجملة التي ذكرها الشيخ تقي الدين في الجواز والاختلاف والمناسبة، بل كلهم ذكروا الكراهة فيه، حتى صرح بعض العلماء في الصحراء بالكراهة إذا أراد قضاء الحاجة، وأراد اتخاذ مكان فيه أنه يصير حكمه حكم المكان المتخذ في البنيان، قال: ورأيت بعض المتأخرين ينقل تحريم استصحاب ذكر الله تعالى فيه المكتوب، فكيف بالنطق به؟ ولم أره. ولكنهم صرحوا بالكراهة سواء كان غير قاضٍ حاجته [أم] (¬4) قاضيها. ومناسبة الاستعاذة تقتضي ذلك أما إنها تقتضي جواز ذكر الله تعالى فيه، فلا. قلت: وبقية الخلاف قد علمته. الرابع: الخلاء: بفتح الخاء المعجمة والمد: موضع قضاء الحاجة، سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، وهو الكنيف، وسمي به للتستر فيه، والكنيف الستر وهو المرحاض (¬5)، والمرفق والحش أيضًا، وأصله المكان الخالي ثم كثر استعماله حتى ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (تعالى). (¬3) في ن ب (وأما). (¬4) في ن ب (أو). (¬5) في ن ب (الرصاص).

تُجوز به عن ذلك، وأما الخلى بالقصر فهو الحشيش الرطب، والكلام الحسن أيضًا، ومنه قولهم: هو حسن الخلاء، وقد يكون خلا مستعملًا في باب الاستثناء، وللعرب فيه حينئذٍ مذهبان: منهم من يجعله حرفًا، ومنهم من يجعله فعلًا، فإن كسرت الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كالحران في الخيل، وفي الصحيح "ما خلأت القصواء ولكن حبسها حابس الفيل" (¬1). وفي حديث أم زرع أنه عليه السلام قال لها: "كنتُ لكِ كأبي زرع لأم زرع" (¬2) في الألفة والوفاء لا في الفرقة والخلاء، وانتصب (الخلاء) في الحديث على أنه مفعول به لا على الظرف [لأنه] (¬3) [دخيل] (¬4) عدته العرب بنفسه إلى كل ظرفِ مكانٍ مختص (¬5)، تقول: دخلت الدار، ودخلت المسجد ونحو ذلك، كما عُدَّتْ: ذهب إلى الشام خاصة، فقالوا: ذهبتَ الشامَ، ولا يقولون: ذهبت العراق ولا اليمن. الخامس: [قوله] (¬6) "اللهم" فيه لغتان، أفصحهما: أن يستعمل بالألف واللام. الثانية: (لاهم) بحذفهما والميم في آخره زائدة، زيدت لتجعل عوضًا من حرف النداء وهو ياء، وشدِّدت [لتكون] (¬7) ¬

_ (¬1) البخاري برقم (2731، 2732). (¬2) البخاري، الفتح (11/ 165). (¬3) في النسخ (لآن)، وما أثبت يقتضيه السياق. (¬4) في ن ب ج (دخل). (¬5) في ن ب زيادة (كما). (¬6) في الأصل (قولهم)، والتصحيح من ن ب ج. (¬7) في ن ج (ليكون).

على حرفين كالمعوض منه، ولما كانت الميم المشددة [عوضًا] (¬1) من ياء لم يجز الجمع بينهما فلا يقال: يا اللهم، في فصيح الكلام. السادس: أعوذ أصله: أعْوُذ بسكون العين وضم الواو، واستثقلت الضمة على الواو فنقلت إلى العين فبقيت الواو ساكنة، ومصدره: عوذ وعياذة ومعاذ، [فمعنى] (¬2) الاستعاذ: الاستجارة والاعتصام، فمعنى أعوذ بالله: أستجير بالله وأعتصم، وفي رواية لمسلم "وأعوذ بالله" بدل "أعوذ بك". السابع: الخبث: بضم الخاء والباء كما ذكره المصنف. وذكر الخطابي (¬3) في أغاليط المحدثين (¬4) رواية لهم بإسكانها. قال الشيخ تقي الدين: ولا ينبغي أن يعد هذا غلطًا؛ لأن [فعلًا] (¬5) بضم الفاء والعين وتخفف عينه قياسًا، [أي] (¬6) وكذلك فعل بالكسر قال: ولا يتعين أن يكون المراد بالخبث بسكون الباء مالا يناسب [المعنى] (¬7)، بل يجوز أن يكون -وهو ساكن الباء- ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ج (ومعنى). (¬3) حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب من ولد زيد بن الخطاب: له غريب الحديث، وشرح البخاري، وشرح أبي داود، والعزلة. مولده 319 مات 388 هـ. "بغية الوعاة" 1/ 546. (¬4) إصلاح غلط المحدثين (22). (¬5) في ن ب (فعل)، انظر؛ إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 226). (¬6) في ن ب (أتى)، وهى غير مرجودة في إحكام الأحكام. (¬7) في ن ب ساقطة، وموجودة في إحكام الأحكام.

بمعناه، وهو مضموم الباء؛ نعم من حمله -وهو ساكن الباء- على ما لا يناسب فهو غالط في الحمل على هذا المعنى، لا في اللفظ. قلت: وهو كما (¬1) قال فالإِسكان على سبيل التخفيف قياس مقرر عند أئمة التصريف، كما في كُتُب ورُسُل وعُنُق وأُذُن. ولعل الخطابي أنكر أن الأصل الإِسكان فيه، وممن صرَّح بالإِسكان إمام هذا الفن والعمدة فيه أبو عبيد القاسم بن سلام (¬2)، وحكاه أيضًا الفارابي (¬3) في (ديوان الأدب)، والفارسي (¬4) في (مجمع الغرائب)، وقال القرطبي (¬5): رويناه به أيضًا، ونقله القاضي عياض (¬6) عن الأكثرين، لكن لا نسلم له في ذلك، فإن الأكثر على الضم. وقد فسر المصنف الخبث والخبائث كما أسلفناه عنه وأنه يريد ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (هو)، وما أثبت من ن ب. (¬2) غريب الحديث (2/ 192). (¬3) هو أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن الحسين الفارابي المتوفى سنة (350). (¬4) هو الحسين بن أحمد بن عبد الغافر أبو علي الفارسي المشهور، من تصانيفه: الحجة، والتذكرة، وتعليقة على كتاب سيبويه. توفي ببغداد عام 377 هـ. بغية الوعاة 1/ 496، وكتابه هذا ما زال مخطوطًا. (¬5) المفهم (2/ 610). (¬6) عياض بن موسى بن عياض عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته. ولد 476، مات 544 هـ. له الشفاء، وترتيب المدارك، وشرح مسلم. انظر الأعلام للزركلي 5/ 282.

ذكران الشياطين وإناثم، ورجحه [المازري] (¬1)؛ لأن هذه الأماكن محلها. وقيل: الخبث: الشر، وهو قول أبي عبيد. وقيل: الكفر، قاله ابن الأنباري. وقيل: الخبث: الشيطان، والخبائث: المعاصي، قاله الداودي. وقيل: الخبث: الشيطان، وكأنه استعاذ من فعلها، والخبائث: البول والغائط، وكأنه استعاذ من ضررهما. قال القاضي (¬2): ولا يبعد أن تستعيذ من الكفر والشياطين ومن جميع الأخلاق الخبيثة والأفعال المذمومة، وهي الخبائث، وإنما جاؤوا بلفظ الخبث لمجانسة الخبائث. وقال ابن الأعرابي (¬3): الخبث في كلام العرب: المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. فائدة: اختلف في وجود الجن والشياطين مع الإِطباق على أنهم ليسوا أشخاصًا جثمانية يبعد ويجيء ويذهب، [بل هي] (¬4) كما قيل: أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لها عقول ¬

_ (¬1) في ن ب (الماوردي). انظر: المعلم (1/ 386). (¬2) في ن ب زيادة (عياض). (¬3) انظر: إصلاح غلط المحدثين للخطابي (22). (¬4) زيادة من ن ب ج.

وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة، وقد تكون خيرة وهم صالحو الجن، وقد تكون شريرة [وهم الشياطين] (¬1) فاستُعيذ منهم. الثامن: زاد سعيد بن منصور وأبو حاتم وابن السكن (¬2) في صحاحه في أول هذا الحديث: "باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وصرَّح أصحابنا باستحبابها مع التعوذ، وصرح جماعات منهم باستحباب تقديم البسملة على التعوذ، وفرقوا بين هذا وبين التعوذ في الصلاة بأن التعوذ هناك للقراءة والبسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها بخلاف هذا (¬3). التاسع: ظاهر الحديث أنه عليه السلام جهز بهذه الاستعاذة ضرورة كونها لو لم تسمع لم تنقل، ويبعد أن يكون ذلك جاء على طريق إخباره عليه السلام عن نفسه (¬4). العاشر: الظاهر أنه عليه السلام قال ذلك إظهارًا للعبودية وتعليمًا للأمة، وإلَّا فهو عليه السلام محفوظ من الجن والإنس، وقد ربط عفريتًا في سارية من سواري المسجد ... الحديث بطوله، ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي، نزيل مصر، أبو علي، ت (353). تذكرة الحفاظ (3/ 937) وكتابه مفقود اسمه "السنن الصحاح". (¬3) لحديث: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث". فهذا الحديث قدم التسمية على التعوذ. وإسناد هذا على شرط مسلم من رواية العمري عن عبد العزيز بن المختار بن صهيب. (¬4) يرده ما ذكرته في التعليق السابق حيث جاء الحديث على سبيل الأمر.

[ففيه] (¬1) دليل على مراقبته عليه السلام لربه ومحافظته على ضبط أوقاته وحالاته، واستعاذته عند ما ينبغي أن يستعاذ منه، ونطقه بما ينبغي أن ينطق به، وسكوته عند ما ينبغي أن يسكت عنده، وقد صح أنه عليه السلام كان إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" (¬2) كما صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، أي سألتك غفرانك على حالة شغلتني عن ذكرك، [فختم] (¬3) بالذكر كما ابتدأ به، قال الشاعر: وآخر شيء أنت أوله هجعه ... وأول شيء أنت عند هبوبي الحادي عشر: صيغة التعوذ: [أعوذ بك] (¬4) [و] (¬5) أعوذ بالله" كما تقدم. وفي سنن ابن ماجه (¬6) بإسناد ضعيف من حديث أبي ¬

_ (¬1) في ن ب (فيه). (¬2) إسناده في سنن أبي داود (30) في الطهارة، وأخرجه أحمد (1/ 269)، والدارمي (1/ 174)، والترمذي برقم (7) في الطهارة. وقال النووي في شرح المهذب؛ هو حديث حسن صحيح، وابن ماجه برقم (300)، وكذا صححه ابن خزيمة (1/ 48)، وابن حبان 2/ 354)، والحاكم (1/ 158) ووافقه الذهبي. (¬3) في ن ب ج (فيختم). (¬4) في ن ب ج ساقطة. (¬5) في ن ب ج (أو). (¬6) ابن ماجه (299)، وقال في مصباح الزجاجة (1/ 44): هذا إسناد ضعيف، قال ابن حبان: إذا اجتمع في إسناد خبر، عبد الله بن زخر، وعلي بن زيد، والقسم، فذاك مما عملته أيديهم. ورواه الترمذي برقم (12) وهذا لفظه: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" بدون "الرجس والنجس". قال =

أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس [الخبيث] (¬1) المخبث الشيطان الرجيم" ورواه أبو داود في مراسيله (¬2) عن الحسن: أنه عليه السلام كان إذا أراد دخول الخلاء قال ... ، فذكر مثله سواء، والرجس بكسر [الراء] (¬3) [و] (¬4) سكون الجيم، والنجس [بكسر] (¬5) النون وإسكان الجيم اتباعًا للرجس، كما ضبطه الشيخ تقي الدين في كتابه [الإمام] (¬6). وقال الغزالي: يقول ذلك ولم يذكر الرجس النجس. وقال الإمام في (النهاية) يقول: "باسم الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". الثاني عشر: هذه الاستعاذة مجمع على استحبابها وسواء فيها البنيان والصحراء؛ لأنه يصير مأوى لهم بخروج الخارج، [وقبل] (¬7) مفارقته إياه. لكن في (البيان) عن الشيخ أبي حامد أن ذكر الدخول ¬

_ = أحمد شاكر: رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. (¬1) في الأصل (الخبث)، والصحيح من ن ب ج. (¬2) المراسيل رقم (1). (¬3) في ن ب ج (الجيم). (¬4) في ن ب ج (أو). (¬5) في ن ب (بسكون). (¬6) في ن ب ج (الإِلمام). (¬7) في ن ب (وقيل).

خاص بالبنيان، لأن الموضع لم [يَصِرْ] (¬1) مأوى الشيطان بعد. (فرع): لو نسي التعوذ ودخل، فذهب ابن عباس وغيره إلى كراهة التعوذ [له] (¬2) وأجازه جماعة منهم ابن عمر وقد أسلفنا عن مالك. الثالث عشر: في الحديث ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضبط أموره عليه أفضل الصلاة والسلام، وأحواله، وأقواله، وأفعاله، وأذكاره، وغير ذلك، رضي الله عنهم أجمعين. ¬

_ (¬1) في ن ب (يضر). (¬2) زيادة من ن ب ج.

الحديث الثاني

الحديث الثاني (¬1) 15/ 2/ 2 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" (¬2). قال أبو أيوب: فقدما الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل. [قال المصنف] (¬3): الغائط: [الموضع] (¬4) المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهة لذكره بخاص اسمه، والمراحيض جمع مرحاض وهو المغتسل، وهو أيضًا كناية عن موضع التخلي. ¬

_ (¬1) في متن العمدة رقمه (14). (¬2) رواه البخاري برقم (144) في الصلاة، ومسلم برقم (264) في الطهارة، باب: الاستطابة، وأبو داود برقم (9) في الطهارة، والترمذي برقم (8) في الطهارة، والنسائي (1/ 21، 22) في الطهارة، ومالك في الموطأ (1/ 193)، والدرامي (1/ 170) في الصلاة. (¬3) غير موجود في المتن ولا في إحكام الأحكام. (¬4) في ن ب ج ساقطة.

الكلام عليه من خمسة عشر وجهًا: الأول: في التعريف براويه وهو: أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي النجاري، غلبت عليه كنيته، شهد بدرًا والمشاهد كلها، وهو أحد السبعين الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة الثانية، [وعليه] (¬1) نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة شهرًا حتى بني مسجده ومساكنه، قال أبو أيوب: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو، قال: فقلت له: بأبي أنت وأمي إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون [تحتي] (¬2) فكن أنت في العلو وننزل نحن فنكون في [أسفل] (¬3) فقال: "يا أبا أيوب إنه أرفق بنا [ومن] (¬4) يغشانا أن نكون في أسفل البيت" قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفله وكنا فوقه في المسكن فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف [غيره] (¬5) ننشف بها الفاء تخوفًا أن يقطر على [رأس] (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء، وفي رواية: فنزلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا [مشفق] (¬7) فقلت: يا رسول الله ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه). (¬2) في ن ب (تحتك). (¬3) في ن ب (السفل). (¬4) في ن ب (وبمن). (¬5) في الأصل (وعليها)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) زيادة من ن ب ج.

[إنه] (¬1) ليس ينبغي أن نكون فوقك، انتقل إلى الغرفة، فأمر بمتاعه فنقل ومتاعه قليل، وفي رواية: لما قدم علينا نزل في دارنا [فقلنا] (¬2): العلو يا رسول الله، فقال: " [السفل] (¬3) أهون علينا وعلى من يغشانا" فقالت أم أيوب حين أمسينا: يا أبا أيوب ننام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسفل منا؟ فلم ننم حتى أصبحنا، فنزلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت الذي قالت أم أيوب. آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بينه] (¬4) وبين مصعب بن عمير، وقيل: بينه وبين طلحة. وهو أحد الصحابة الذين وافقت كنيتهم كنية زوجهم، فإن كنية زوجه أم أيوب. وقد أفرد ذلك الحافظ أبو الحسن محمد بن عبد الله بن حيوية النيسابوري، وعددهم اثنى عشر: أولهم أبو أيوب، وثانيهم أبو أسيد الساعدي، ثالثهم أبو الدحداح، ورابعهم: أبو بكر الصديق كنية زوجته أم بكر، خامسهم: أبو الدرداء، سادسهم: أبو ذر، سابعهم: أبو رافع الأسلمي، ثامنهم: أبو سلمة المخزومي زوجته أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومية، تاسعهم: أبو سيف القين، عاشرهم: أبو طَلِيْق، الحادي عشر: أبو الفضل العباس بن عبد المطلب، الثاني عشر: أبو مَعْقِل الأسدي. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (والله). (¬2) في ن ب (فعلوا). (¬3) في ن ب (أسفل). (¬4) في ن ب ساقطة.

ولمَّا تُحُدِّث في الإِفك وقالت له أم أيوب: ألم تسمع ما يتحدث به الناس؟ [وأخبرته] (¬1)، فقال رضي الله عنه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، فأنزل الله الآية: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} (¬2) إلى آخرها. روى عنه البراء بن عازب وخلق، وكان من نجباء الصحابة، وأمه [هند] (¬3) بنت قيس بن عمرو بن امرئ القيس، قاله ابن حبان في ثقاته. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسون حديثًا، اتفقا منها على سبعة وانفرد البخاري بحديث ومسلم بخمسة، وقال البرقي: حُفظ عنه نحو من خمسين حديثًا. شهد مع علي حروبه كلها ثم سكن دمشق. ولم يزل يغزو الروم حتى قبض في غزوة غزاها يزيد بن معاوية في خلافة معاوية بالقسطنطينية سنة خمسين، وقال أبو زرعة: سنة خمس وخمسين، وقال الواقدي وجماعة: سنة اثنين وخمسين، وقل: إنه المشهور، وقيل: سنة إحدى، وكان يقول: قال الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (¬4) فلا أجدني إلَّا خفيفًا أو ثقيلًا، وكذلك كان المقداد بن الأسود وأبو طلحة يتأولان هذه الآية، [وروى ابن سيرين أنه غزا زمن معاوية فمرض فقال لهم: قدموني في ¬

_ (¬1) في ن ب (وأخبر به). (¬2) سورة النور: آية 12. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) سورة التوبة: آية 41.

أرض الروم ما استطعتم] (¬1). وروى المدائني أنه دخل عليه يزيد بن معاوية فقال: ما حاجتك؟ قال: تعمق قبري وتوسعه، وقال ابن حبان في ثقاته: إن أبا أيوب قال لهم: إذا أنا مت فقدموني في بلاد الروم ما استطعتم ثم ادفنوني فمات، وكان المسلمون على حصار القسطنطينية فقدموه حتى دفن إلى جانب حائطها، وروى غيره عنه أنه قال: إذا قبضت فلتركب الخيل [ثم القوا] (¬2) العدو [فيردنكم] (¬3) حتى لا تجدوا متقدمًا فاحفروا حينئذ لي قبرًا ثم سووه وليطأ الخيل والرجال عليه حتى لا يعرف. وروى أنهم لما أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن، فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - والله لئن نبش لأضربن بناقوس في بلاد العرب، فكانوا إذا قحطوا كشفوا عن قبره فأمطروا، وبنى الروم على قبره بناء وعلقوا عليه أربعة قناديل بسرج (¬4)، قال [الواقدي] (¬5): وصلى عليه يزيد. وكان قد أتى ابن عباس بالبصرة وقد وليها لعلي، فقال: يا أبا أيوب إني أخرج عن [مسكني] (¬6) كما خرجت عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أهله فخرجوا وأعطاه كل شيء أغلق عليه الدار فلما كان انطلاقه قال: حاجتك، قال: حاجتي عطائي وثمانية أعبد يعملون في ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن (فليرونكم). (¬4) هذا لا يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المتخذين عليها المساجد والسرج. (¬5) الأصل (الواحدي)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) في ن ب (مسكن).

أرضي، وكان عطاؤه أربعة آلاف فأضعفها له مرات فأعطاه عشرين ألفًا وأربعين عبدًا. وقدم على معاوية فأجلسه معه على السرير، فجعل معاوية يتحدث ويقول: فعلنا وفعلنا، وأهل الشام حوله، فقال: يا أبا أيوب من قتل صاحب الفرس البلقاء يوم كذا؟ فقال أبو أيوب: أنا قتلته إذ أنت وأبوك على الجمل الأحمر معكما لواء الكفر، فنكّس معاوية وتنمر أهل الشام، فرفع معاوية رأسه وقال: مه مه وإلَّا فلعمري ما عن هذا سألتك ولا هذا أردنا منك. الثاني: أبو أيوب رضي الله عنه أنصاري كما نسبه المصنف، وهو نسبة إلى الأنصار، واحدهم نصير كشريف وأشراف، وقيل: ناصر كصاحب وأصحاب، قبيلتان: الأوس، والخزرج، والخزرج أشرفهما لكون أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم وهو وصف لهم [إسلامي] (¬1). وقيل لهم ذلك: لنصرتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى البخاري في صحيحه عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه "أرأيت اسم الأنصار أكنتم تسمون به، أم سماكم الله به، قال: بل سمانا الله تعالى". وقد ذكرت جملة من فضائلهم في "الإِشارات لغات المنهاج" (¬2)، واعلم أن الأوس والخزرج هما أبناء حارثة بن ثعلبة العنقاء (¬3) بن عمرو مُزَيْقَياءَ بن عامر ماء السماء بن حارثة الغِطْريف بن ¬

_ (¬1) في ن ب (إسلام). (¬2) الإِشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات. (¬3) العنقاء، ومزيقياء، وماء السماء، والغطريف: هي ألقاب أتت بعد الأسماء.

[قيس] (¬1) ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن [كهلان] (¬2) بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن شالخ (¬3) بن أَرفَخْشَدَ بن سام بن نوح عليه السلام، وقحطان أصل عرب اليمن وهو يقطن، وقيل: يقطان، وسمي قحطان؛ لأنه كان أول من تجبر وظلم وقحط أموال الناس من ملوك العرب، قال ابن ماكولا: اسمه مهرم. وأما عرب الحجاز: وهم العرب المستعربة: فمن ذرية إسماعيل، وأما العرب العاربة: [فهم] (¬4) عاد وثمود وجرهم والعماليق [وأميم] (¬5)، وقيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل، والمشهور ما ذكرنا. فائدة: أيوب في الرواة يشتبه بأثوب بالمثلثة بدل المثناة تحت، وهو [أثوب] (¬6) بن عتبة (¬7)، ذكره ابن قانع في الصحابة؛ ¬

_ (¬1) لم يرد في جمهرة أنساب قبائل العرب (332 - 484) ابن حزم. (¬2) في الأصل (كهان)، والصحيح من جمهرة أنساب العرب لابن حزم، وفي ن ب (كهلان). (¬3) في الأصل (عابر بن شامخ)، وفي التعليق على جمهرة العرب: عابر بن شالح، وما أثبت من الجمهرة (ص 8). (¬4) في ن ب (فهو). (¬5) في الأصل (أمم)، وفي ن ب (واهم)، والتصحيح من جمهرة أنساب العرب لابن حزم رحمه الله (ص 9). (¬6) في ن ب (أيوب). (¬7) قال في مشتبه النسبة للذهبي (36): ورد ذكره في الديك الأبيض، ولا يصح.

والحارث بن [أَثوَبَ (¬1)] (¬2)، تابعي، كذا قاله عبد الغني، والصواب: ثوب بوزن صوغ [وأثوب بن أزهر] (¬3) (¬4). الثالث: قوله عليه السلام: "إذا أتيتم الغائط". استعمل في قضاء الحاجة كيف كان؛ لأن [هذا] (¬5) الحكم عام في جميع صور قضاء الحاجة وهو إشارة إلى استعمال هذه اللفظة مجازًا، وقد [سبق] (¬6) كلام المصنف في تفسير الغائط. وفي (المحكم) الغائط والغوط: المتسع من الأرض مع طمأنينة، وجمعه أغواط وغياط وغيطان، وكل ما انحدر من الأرض فقد غاط، ومن بواطن الأرض الميتة: الغيطان، الواحد منها غائط، وزعموا أن الغائط ربما كان فرسخًا. والغائط: اسم العذرة نفسها؛ لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان، وقيل: لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط، وتغوط الرجل: كناية عن الخرأة، والغوط أغمض من الغائط وأبعده. وفي (الصحاح) جمع الغائط: غوط، وفي (المخصص) (¬7) أن ¬

_ (¬1) في ن ب (أيوب). (¬2) قالا في مشتبه النسبة للذهبي: وصوابه (بن ثوب) بلا ريب، وهم فيه عبد الغني، وشفى فيه الأمير. (¬3) في ن ب (أتوب بن الدهر)، وفي ن ج (أيوب بن أزهر). (¬4) التصحيح من المؤتلف والمختلف لعبد الغني (ص 5)، قال في حديث قيلة: وهو زوج قيلة بنت مخرمة. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (سلف). (¬7) (5/ 59).

قراءة الزهري: (أو جاء أحد منكم من [الغيط] (¬1)) (¬2) مخففة الياء وأصله الغوط. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): الغائط في الأصل: [المطمئن] (¬4) من الأرض، كانوا يقصدون لقضاء الحاجة، ثم استعمل في الخارج وغلب على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية، لكن لا يقصد به إلَّا الخارج من الدبر فقط لتفرقته بينهما، وقد تكلموا في أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (¬5) لما كانت العادة أن يقصد لأجله وهو الخارج من الدبر (¬6)، ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلًا، أو يقال: إنه يقصد به الخارج من القبل والدبر كيف كان. الرابع: الحديث دال عل المنع من استقبال القبلة واستدبارها، وللفقهاء في ذلك أربعة مذاهب: أحدها: المنع المطلق في البنيان والصحراء، وهو قول أبي أيوب الأنصاري راوي هذا الحديث، ومجاهد (¬7) وإبراهيم النخعي (¬8) ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في الأصل (الغائط)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 238). (¬4) في ن ب (المطهر). (¬5) سورة المائدة: آية 6. (¬6) في ن ج زيادة (فقط). (¬7) ابن أبي شيبة (1/ 150)، والأوسط (1/ 325). (¬8) المرجع السابق.

التابعيين، وسفيان الثوري (¬1)، وأبو ثور (¬2) وأحمد في رواية (¬3)، وهؤلاء حملوا النهي على العموم وجعلوا العلة فيه التعظيم والاحترام للقبلة؛ لأنه معنى مناسب ورد النهي [على] (¬4) وفقه فيكون علة له، وقد روي من حديث سلمة بن وهرام عن سراقة مرفوعًا: "إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله عز وجل" (¬5). وهذا ظاهر قوي في هذا التعليل فلا فرق فيه بين الصحراء والبنيان، ولو كان الحائل كافيًا في جوازه في البنيان لكان في الصحراء من الجبال والأودية ما هو أكفى. وفي الدارقطني عن الشعبي من قوله بإسناد ضعيف أنه علل ذلك: "إن لله تعالى خلقًا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم". [وأما بيوتكم هذه الي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها، عيسى بن أبي الخياط وهو عيسى بن ميسرة وهو ضعيف] (¬6). ¬

_ (¬1) التمهيد (1/ 309)، وشرح السنة لبغوي (1/ 358)، والأوسط لابن المنذر (1/ 325). (¬2) التمهيد (1/ 309)، والأوسط (1/ 327). (¬3) انظر: التمهيد (1/ 309)، والأوسط (1/ 325). (¬4) في ن ج (عن). (¬5) أخرجه الدارقطني (1/ 57)، وقال الدارقطني: لم يروه غير مبشر بن عبيد وهو متروك الحديث، وحكم عليه الغساني بالضعف في تخريج الأحاديث الضعاف من الدارقطني برقم (16)، وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 105): أخرجه الدارمي وغيره، وإسناده ضعيف. (¬6) زيادة من سنن الدارقطني (1/ 61)، فقد ظهر بهذه الزيادة الحكم على الحديث. سنن البيهقى (1/ 93)، ورواه ابن ماجه مختصرًا (1/ 117). =

وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان بالصحراء واستتر بشيء فمن علل باحترام القبلة منع الاستقبال والاستدبار، ومن علل برؤية المصلين أباح، وضعف صاحب القبس (¬1) التعليل بذلك، وقال: لم يتعبدنا [به] (¬2) الله إلَّا بما نرى. قلت: ثم هذا كله مبنيٌّ على أن العلة المستنبطة معتبرة أما إذا لم [يعتبرها] (¬3) فلا كلام. المذهب الثاني: أنهما جائزان مطلقًا وهو قول عروة بن الزبير، وربيعة الرأي شيخ مالك، وداود الظاهري (¬4) ورأى هؤلاء حديث أبي أيوب منسوخًا، وزعموا أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها". حسنه الترمذي مع الغرابة (¬5)، ونقل عن البخاري تصحيحه كما نقله البيهقي في (خلافياته) عنه (¬6)، وصححه أيضًا ¬

_ = انظر: تهذيب التهذيب (8/ 224، 225)، والمجروحين (2/ 117) للاطلاع على ترجمة عيسى بن ميسرة. (¬1) القبس (1/ 394) وذكر معناه في عارضة الأحوذي (1/ 24). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (تعتبرها). (¬4) في الأصل زيادة (وهو). انظر: الأوسط لابن المنذر (1/ 326)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 311)، والحازمي في الاعتبار (38). (¬5) الترمذي برقم (13). (¬6) تحفة الأحوذي (1/ 64) برقم (10).

ابن حبان (¬1)، وشيخه ابن خزيمة (¬2)، والحاكم وصححه على شرط مسلم (¬3)، واستدلالهم بالنسخ ضعيف لأنه لا يصار إليه إلَّا بعد تعذر الجمع وهو ممكن كما ستعلمه. المذهب الثالث: أنه لا يجوز الاستقبال فيهما ويجوز الاستدبار فيهما، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو ضعيف جدًا، ويكفي في الرد عليه حديث أبي أيوب هذا. المذهب الرابع: وهو قول الجمهور وبه قال مالك (¬4) والشافعي (¬5) وإسحاق (¬6)، وأحمد في إحدى الروايتين، أنه يحرم الاستقبال في الصحراء دون البنيان، وهو مروي عن اللباس وابن عمر، ورأى هؤلاء الجمع بين الأحاديث وأنه لا يصار إلى النسخ إلَّا بالتصريح به أو بمعرفة تاريخه، وأن الجمع أولى من إلغاء بعض الأحاديث، واستدلوا بحديث ابن عمر الآتي وبأحاديث أخر، ولما ¬

_ (¬1) ابن حبان برقم (1417). (¬2) ابن خزيمة برقم (58). (¬3) المستدرك (154)، ووافقه الذهبي، وأبو داود (13) في كتاب الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، وابن ماجه (325)، والدارقطني (2/ 58)، والبيهقي (1/ 92)، وقال النووي في شرح مسلم (3/ 155): إسناده حسن. (¬4) المدونة الكبرى (1/ 7). (¬5) روضة الطالبين (1/ 65). (¬6) البغوي في شرح السنة (1/ 359)، والحازمي في الاعتبار (40)، والتمهيد (1/ 309).

في المنع [في] (¬1) البنيان من المشقة والتكلف لترك القبلة بخلاف الصحراء، [ويتعلق] (¬2) بذلك فروع يأتي بعضها في الحديث الآتي مختصره، ومحل بسطها كتب الفروع وقد بسطتها فيها ولله الحمد. فرع: هل الجماع كقضاء الحاجة أم لا؟ يبني على محل [العلة] (¬3) أيضًا، هل هو الخارج؛ فيجوز الجماع إذ لا خارج، أو كشف العورة؟ فيمتنع إذا كشف وقد حكى الخلاف الشيخ تقي الدين (¬4) أيضًا، وتبعه الفاكهي. ونقل النووي (¬5) عن ابن القاسم الجواز. وعن [ابن] (¬6) حبيب الكراهة. وبعض المالكية منعه على العلتين جميعًا لأجل الكشف وخروج المني فإنه نجس عندهم، وصرَّح أصحابنا بأنه لا يكره فضلًا عن الجواز، وبجوازه قال أبو حنيفة وأحمد وداود، وهو الصواب؛ لأن التحريم إنما [ثبت] (¬7) بالشرع ولم يرد فيه نهي. الخامس: قوله عليه السلام: "ولكن شرقوا أو غربوا". هذا الخطاب لأهل المدينة ومن في معناهم كأهل الشام واليمن وغيرهم ¬

_ (¬1) في ن ب (من). (¬2) في ن ب (وما يتعلق). (¬3) في ن ب (العلتين). (¬4) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 237). (¬5) شرح مسلم (3/ 156). (¬6) في ن ج أبي. (¬7) في ن ب (يثبت).

ممن قبلته على هذا السمت، فأما من كانت قبلته من جهة المشرق أو المغرب فإنه يتيامن أو يتشأم. السادس: الشأم: مهموز ويجوز تسهيله، ويقال: الشام بالمد وفتح الشين في لغة قليلة، وهو يُذكّر وقد يؤنث فيقال: الشام مبارك ومباركة، وسمي به لأن سام بن نوح سكنه أولًا فعرف بالسين. وقيل: لكثرة قراه ودنو بعضها من بعض كالشامات. وقيل: لأن باب الكعبة مستقبل مطلع النفس فمن استقبله كان اليمن عن يمينه والشام عن شماله، وهي السوما (¬1) فسميا بذلك. وحَدُّهُ في الطول: من [العريش] (¬2) إلى الفرات، وقيل: [من] (¬3) بالسن، وفي العرض قال السمعاني: هو بلاد بين الجزيرة و [الغور] (¬4) إلى الساحل. وقوله: "فقدمنا الشام" وهو منصوب على الظرفية لا على المفعولية. السابع: قوله: "قد بنيت" يعني في الجاهلية وبناؤها نحو الكعبة ليس قصدًا لها، ولا لقبلة أهل الشام إذ ذاك وهي بيت المقدس، وإنما هو مجرد جهل ومصادفة. الثامن: الكعبة: سميت بذلك لاستدارتها، من التكعب وهو الاستدارة، وهذا مما يدل على أن القبلة التي روي النهي عنها هي ¬

_ (¬1) في معجم البدان (3/ 312): وكان اسم الشام الأول "سُوري". (¬2) في ن ب (العراش). (¬3) في ن ب (إلى). (¬4) في الأصل (الغول)، والتصحيح من ن ب ج.

الكعبة، وفي حديث مالك (¬1): "فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة" فالألف واللام فيها للعهد ولا يجوز أن تكون للجنس. وإن كان ورد النهي عن استقبال بيت المقدس في مسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه (¬2) من حديث معقل بن أبي [معقل] (¬3) الأسدي، وزعم ابن حزم أنه لا يصح (¬4)، ولأن القبلة عند الإطلاق تصرف إلى الكعبة في شرعنا لا على القبلة المنسوخة، ولأن النهي في الكعبة عن الاستقبال والاستدبار، وذلك إنما ورد في الاستقبال فقط، على أن مذهبنا أنه يكره الاستقبال والاستدبار وفي بيت المقدس أيضًا، وأغرب ابن أبي الدم فحكى وجهًا أنه يحرم، وهو قول ابن سيرين والحسن والنخعي (¬5). التاسع: قول أبي أيوب "فقدمنا الشام" إلى آخره ففيه دلالة على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين، والمعنى به استعمال صيغة العموم في بعض أفراده كما فعله الجمهور في حديث أبي أيوب هذا. قال الشيخ تقي الدين: وأولى بعض أهل العصر، وما يقرب ¬

_ (¬1) البخاري (144)، والحميدي (378)، ومسلم (59/ 264). (¬2) أحمد (4/ 210)، وسنن ابن ماجه رقم (319)، قيل: أبو زيد مجهول الحال فالحديث ضعيف به. ولفظه "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلتين ... " الحديث، القبلة الأولى بيت المقدس. (¬3) في ن ب (مغفل). (¬4) المحلي (1/ 194). (¬5) الذي في الاستذكار عنهم الكراهة (7/ 177).

به، [بأن] (¬1) قالوا: صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلًا أو على الأفعال كانت عامة في ذلك مطلقة في الزمان والمكان، والأحوال والمتعلقات. ثم [يقال] (¬2): المطلق يكفي في العمل [به] (¬3) صورة واحدة فلا يكون حجة فيما عداه. وأكثروا من هذا السؤال [فيما لا] (¬4) يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة وصار ذلك ديدنًا لهم في الجدال، وهذا عندي باطل، بل الواجب أن ما دل على العموم في الذوات مثلًا يكون، وإلا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ، ولا يخرج عنها ذات إلَّا بدليل يخصه، فمن أخرج شيئًا من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم، نعم يكفي في العمل بالمطلق مرة كما قالوه، ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإِطلاق، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات، فإن كان المطلق لا يقتضي العمل به مرة مخالفة لمقتضى صيغة العموم اكتفينا [في العمل] (¬5) به بمرة واحدة، [وإن] (¬6) كان العمل به مرة واحدة مما يخالف مقتضى صيغة العموم قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته لا من حيث أن المطلق يعم، مثال ذلك: إذا قال: من دخل ¬

_ (¬1) في الأصل (فإن)، وما أثبت من ن ب ج وإحكام الأحكام (1/ 240). (¬2) في ن ب (قالوا). (¬3) زيادة من ن ب ج، وموجودة في إحكام الأحكام. (¬4) في الأصل (فلا)، والتصحيح من ن ب ج. (¬5) في ن ب (بالعمل). (¬6) في ن ب (فإن).

داري فأعطه درهمًا، فمقتضى الصيغة العموم في كل [ذات] (¬1) صدق عليها أنها الداخلة. فإذا قال قائل: هو مطلق في الأزمان فأعمل به في الذوات الداخلة في أول النهار مثلًا، ولا أعمل به في غير ذلك الوقت؛ لأنه مطلق في الزمان وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به أخرى لعدم عموم المطلق. قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات، دخلت الدار ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر النهار، فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات. وهذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلناه فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع، وقد استعمل قوله: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها" عامًا في الأماكن وهو مطلق فيها، وعلى ما قاله هؤلاء المتأخرون لا يلزم العموم، وعلى ما قلناه يعم؛ لأنه إذا خرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار، هذا آخر كلامه، وهو نفيس. وكأن كلامه مع القرافي فإنه كان يناظره وهو المكثر من ذلك. وقوى بعضهم كلام القرافي من أوجه: أحدها: من القرآن: قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2) فلو كان العام في المشركين عامًا في المكان لكان ¬

_ (¬1) في الأصل (دار)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) سورة التوبة: آية 5.

قوله (حيث وجدتموهم) تكرارًا، و (حيث) من صيغ العموم في المكان، قاله القاضي عبد الوهاب. [و] (¬1) ثانيها: من هذا الحديث نفسه، [فإن] (¬2) المكان هو الغائط معرف بالألف واللام، فعم جميع الأماكن، ونزاع القرافي إنما هو فيما إذا لم يكن العموم إلَّا في الأشخاص أو [في] (¬3) الأفعال، وأما إذا كان في اللفظ ما يدل على العموم في المكان والزمان مثلًا فإنه ليس محل النزاع، وكذا نص عليه في تصانيفه، فالحديث حجة له؛ لأنه لو كان عموم الفعل في سياق النهي يقتضي العموم في المكان لما كان لتعريف المكان بالألف واللام فائدة. ثالثها: أن الشيخ تقي الدين قال في حديث بيع الخيار: إن الخيار عام [ومتعلقه] (¬4) -وهو ما يكون فيه الخيار- مطلق، فيحمل على خيار [الفسخ] (¬5) وهذا اعتراف. [و] (¬6) رابعها: أن أبا حنيفة في مسألة الفعل في سياق النفي يقول بعدم العموم في المفعول في الزمان والمكان، ووافقه الشافعي على عدم العموم في الزمان والمكان، وخالفه في المفعول به، واحتج عليه أبو حنيفة بقياس المفعول به على الزمان والمكان الذي ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (فكان). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) ن ب (ومنطقه). (¬5) في ن ب (النسخ). (¬6) زيادة من ن ب.

[سلَّم] (¬1) الشافعي عدم العموم فيهما، وهذا مثل مقالة القرافي. العاشر: قوله: "ونستغفر الله عز وجل" قال صاحب المفهم (¬2): هذا دليل على أنه لم يبلغه حديث ابن عمر -يعني الآتي- أو لم يره مخصصًا، وحمل ما رواه على العموم. انتهى، فإن صح هذا الثاني فهو يضعف المقالة السالفة إن العموم في الذوات مطلق في الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات. قال الفاكهي: وهو قول بعض الأصوليين، والراجح عند جماعة من المحققين خلافه. قال الشيخ تقي الدين: وهذا الاستغفار قيل: لباني الكنيف على الصفة الممنوعة [عنده] (¬3)، وحملهم على هذا التأويل أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعًا فلا يحتاج إلى الاستغفار، والأقرب أنه استغفار لنفسه أي [فالذنب] (¬4) يذكر بالذنب؛ ولعل ذلك لأنه بسبب موافقته لمقتضى البناء سهوًا أو غلطًا فيتذكر وينحرف ويستغفر الله. فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثمًا فلا حاجة للاستغفار. فالجواب: أن أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد ¬

_ (¬1) في ن ب (سلمة). (¬2) (2/ 608). (¬3) في ن ب (عندهم). انظر: إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 247). (¬4) في ن ج (فالذي).

يفعلون مثل هذا بناء على نسبتهم [التقصير] (¬1) إلى أنفسهم في التحفظ ابتداءً. وقال غيره: استغفار أبي أيوب؛ لأن مذهبه تحريم الاستقبال في البنيان كما سلف، ولا يتأتى له الانحراف الكامل في قعوده إلَّا بحسب إمكانه، فاستغفر احتياطًا، ولا يظن به أنه كان يفعل ما يعتقد تحريمه. ومن قال: إن استغفاره لبانيها، ففيه بُعد لوجهين: أحدهما: أن تعقيب الوصف بالفاء والعطف عليه يشعر [بالعلة] (¬2) فالحكم المنع من الجلوس إلى القبلة، والوصف الانحراف المتعقب بالفاء، والعطف عليه الاستغفار. ثانيهما: [أن الظاهر] (¬3) أن المراحيض بناء الكفار في الجاهلية فكيف يجوز الاستغفار لهم؟ ويحتمل أن استغفاره لمن بناها من المسلمين جاهلًا على اعتقاده. الحادي عشر: [في الحديث] (¬4): ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من القيام بالبيان والإِيضاح لأمته. ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) في الأصل (العلية)، والتصحيح من ن ب. (¬3) في ن ج ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة.

الثاني عشر: فيه أيضًا ابتداء العالم أصحابه بالعلم خصوصًا إذا علم أنه بهم حاجة إلى العمل به. الثالث عشر: فيه أيضًا أنه ينبغي للعالم التنبيه على الوقائع المخالفة للعلم والرجوع عنها، أو الاستغفار والتوبة منها. [إن كان تلبس بها ملتبس] (¬1). الرابع عشر: فيه الكناية عن المستقذرات بألفاظ غير [شنعة النطق بها] (¬2). الخامس عشر: فيه أيضًا تعظيم جهة القبلة وتكريمها والنهي عما يلزم منه عدم ذلك كما في الاستدبار. ¬

_ (¬1) ساقط من ن ج. (¬2) في ن ب (شعة المنطق بها).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 16/ 3/ 2 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: "رقيت يومًا على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة" (¬1). الكلام عليه من ثلاثة عشر وجهًا: الأول: في التعريف براويه [هو] (¬2): أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبقية نسبه تقدم في ترجمة والده في أول الكتاب، وهو معدود [من] (¬3) المكيين المدنيين، وكان فقيهًا عالمًا زاهدًا ورعًا، أحد الأعلام، قال ابن الحنفية: كان خير هذه الأمة، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد، وهو من أهل بيعة الرضوان، وقيل: إنه أول من بايع بها، ولا يصح، واستصغره يوم ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (145، 148، 149، 3102)، ومسلم برقم (266) في الطهارة، والترمذى برقم (11)، وابن خزيمة (60)، وابن ماجه (322)، وابن حبان (1415)، والدارقطني (1/ 61). (¬2) في ن ب (وهو). (¬3) في ن ب ج (في المكيين والمدنيين)، وفي الأصل (الملكيين).

أحد؛ لأن سنه كان ثلاث عشرة فمولده قبل الوحي بسنة، قاله ابن حبان، وفي الصحيح أن سنه يوم أحد أربع عشرة، وقال الواقدي: استصغر عام بدر وأجازه عام أحد، والأول أصح، قال الموفق الحافظ: ولم يشهد بدرًا لصغره، أسلم قديمًا مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم، وبايع قبل أبيه وبعده [أدبًا] (¬1)، وكان ينكر على من يقول إنه أسلم قبل أبيه، وهاجر معه ومع أمه زينب، وقيل: بل هاجر قبل أبيه، وصححوه، وهو شقيق حفصة أم المؤمنين، وأمهما زينب بنت مظعون، وقال ابن حبان: أمه ريطة بنت مظعون. عين للخلافة يوم الحكمين مع وجود مثل الإمام علي وسعد وغيرهما، وروى نافع قال: دخل ابن عمر الكبة فسمعته يقول في سجوده: ما يمنعني من مزاحمة قريش في هذا الأمر إلَّا خوفك، وقال ابن المسيب: أتوا ابن عمر فقالوا: أنت سيد الناس [وابن سيد الناس] (¬2) والناس بك راضون، اخرج فنبايعك، فقال: لا والله ما يراق [فيّ] (¬3) محجمة دم، ثم زوى عمرو بن العاص الأمر عنه لما رأى أنه لا يوليه شيئًا إن استخلف، ولما قتل عثمان دخل مروان بن الحكم عليه في نفر فعرضوا عليه أن يبايعوه فقال: كيف لي بالناس؟ قال: تقاتلهم، فقال: والله لو اجتمع الناس أهل الأرض إلَّا أهل فدك ما قاتلتهم، فخرج مروان وهو يقول: "والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا". ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في ن ب (في).

أثنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالصلاح لو أنه يقوم الليل فما تركه بعد، وهو من أكثر الصحابة حديثًا وكان ضابطًا لها لا يزيد فيها ولا ينقص، روي له عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ألف [حديث] (¬1) وستمائة وثلاثون حديثًا اتفق البخاري ومسلم على مائة وثمانية وستين حديثًا، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين، روى عنه أولاده وأحفاده ومولاه نافع وأكثر عنه وخلق كثير من التابعين. وهو أحد العبادلة الأربعة أيضًا وباقيهم: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص. ولا يطلق العبادلة اصطلاحًا على غيرهم وإن كان في الصحابة من يسمى عبد الله جماعات كثيرين، وخصوا هؤلاء من بينهم بالذكر لكونهم من أصاغر الصحابة وفقهاء وتأخروا وأُخذ عنهم العلم والرواية واحتيج إلى علمهم. روى ابن وهب عن مالك أنه قال: بلغ ابن عمر ستة وثمانين سنة وأفتى في الإِسلام ستين سنة، وقيل: لأن كل واحد صحابي ابن صحابي، قيل: للإِمام أحمد: فابن مسعود؛ قال: ليس من العبادلة. قال البيهقي في سننه: [إن] (¬2) ابن مسعود تقدمت وفاته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم فإذا اتفقوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة أو فعلهم أو مذهبهم. ونبه النووي رحمه الله في كتابه (المبهمات) وغيره على شيء سبق القلم [منه] (¬3) فيه فإنه ¬

_ (¬1) في الأصل (من)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب.

قال: وأما قول الجوهري في صحاح اللغة (¬1): أن ابن مسعود منهم، وحذف ابن [عمرو] (¬2) فليس مقبولًا منه، وكيف يعارض بقوله قول الإِمام أحمد وغيره؟ هذا لفظه. وتبعه تلميذه ابن العطار في شرحه جازمًا بذلك، وكنت تبعته أيضًا في بعض التصانيف ثم رجعت ولله الحمد، فإن هذا ليس في الصحاح أصلًا، والذي فيها: والعبادلة ابن عباس وابن عمرو وابن عمر، وهذا لفظه فلم يذكر ابن مسعود أصلًا، وذكر ابن عمر. نعم يعترض على صاحب الصحاح لكونه حذف عبد الله بن الزبير وهو معدود منهم قطعًا، فتنبه لذلك فإنه [من] (¬3) طغيان القلم. ووقع للرافعي أيضًا في كتاب الجنايات عند ابن مسعود في العبادلة وحذف ابن الزبير وابن عمرو بن العاصي وهو عجيب منه (¬4). ولعبد الله بن عمر فضائل شهيرة ومناقب كثيرة، وكان صوّامًا قوّامًا متواضعًا بكّاءً خشاعًا، لا يأكل حتى يُؤتى بمسكين فيأكل معه، ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (175)، قال الرازي: فسَّر رحمه الله العبادلة في باب الألف اللينة عند ذكر أقسام الهاء بخلاف ما فسر به هنا. (¬2) ما أثبت من ن ب ج. وكتاب المبهمات للنووى (609)، وفي الأصل (عمر). (¬3) في ن ب (عمرو). (¬4) في ن ب زيادة (ووقع في كفاية ابن الرفعة في صفة الصلاة إثبات ابن مسعود وحذف ابن عمرو بن العاصي، وقد علمت ما فيه، ووقع له في كتاب الديات كما وقع للرافعي، والرافعي قلد الزمخشري في المفصل فإنه ذكره كذلك في أوائله في الكلام على علم الغلبة).

لم تَمِلْ به الدنيا، وكان إذا أعجبه شيء من ماله قربه لربه، وكان رقيقه يتزينون له بالعبادة وملازمة المسجد، فيعتقهم فيقول له أصحابه: ما بهم إلَّا خديعتك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له، قال مالك: قال ليس ابن شهاب: لا تعدلن برأي ابن عمر فإنه أقام ستين سنة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يخف عليه شيء من أمره ولا من أمر أصحابه، وقال الداروردي: عن مالك: أفتى ستين سنة وحج سبعين حجة، وأعتق ألف رأس، وحبَّس ألف فرس، وكان لا ينام من الليل إلَّا قليلًا، حكاه ابن دحية في كتابه (مرج البحرين) عنه، قال: وذكر عنه ابن شعبان أنه اعتمر ألف عمرة، وكان من أكرم أهل زمانه، [قال] (¬1) ميمون بن مهران: أتت ابن عمر اثنان وعشرون ألف دينار في مجلس فلم يقم حتى فرقها. قلت: وكان رضي الله عنه يتحفظ ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسأل عما غاب عنه من قول أو فعل من حضره ويتبع آثاره حتى [موضع] (¬2) صلاته عليه أفضل الصلاة والسلام سفرًا وحضرًا، قال نافع: لو نظرت إليه إذا اتبع أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت: إنه مجنون (¬3)، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في ن ب (أثر). (¬3) قال العلامة ابن باز حفظه الله؛ والحق أن عمر رضي الله عنه أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء، سد الذريعة إلى الشرك وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه رضي الله عنهما وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر وليس في قصة عتبان ما يخالف ذلك، لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسى به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، بخلاف آثاره في الطرق ونحوها فإن التأسي به فيها وتتبعهما لذلك غير =

ولم يمت حتى أعتق ألف إنسان (¬1) وزيادة، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفًا، وبعث إليه معاوية بمائة ألف فلم يحل حول وعنده منها شيء، وكان إذا تلى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) الآية، يبكي حتى يغلبه، وإذا تلى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} (¬3) يبكي ويقول: إن هذا الإِحصاء لشديد (¬4). قال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحدٍ أنه من أهل الجنة في الدنيا لشهدت لابن عمر. وكان رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة فلم يقاتل مع أحد من الفريقين تورعًا لمَّا أشكل عليه الأمر، ثم ندم على ترك القتال مع علي لمَّا تبينت [له] (¬5) الفئة الباغية وقال لمن سأله، عففت يدي فلم أقاتل والمقاتل على الحق أفضل، وقال عند موته: لا آسى على شيء من الدنيا إلَّا تركي قتال الفئة الباغية. [حكاه] (¬6) أبو عمر، ولم يكن يتخلف عن سرية من سرايا ¬

_ = مشروع كما دل عليه فعل عمر، رربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلو والشرك كما فعل أهل الكتاب والله أعلم. اهـ. من تعليقه على فتح الباري (1/ 569). (¬1) في ن ب زيادة (كما سلف). (¬2) سورة الحديد: آية 16. (¬3) سورة البقرة: آية 284. (¬4) في ن ب زيادة واو. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في الأصل (حكى)، والتصحيح من ن ب ج، و (أبو عمر) في ن ب ساقطة.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أولع بالحج في الفتنة وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك، وكان يصفر لحيته، وعمي في آخر عمره. وروى ابن أبي [الزناد] (¬1) عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر فقالوا: تمنوا، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة. وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم. وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين. وقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة، فنالوا كلهم ما تمنوا ولعل ابن عمر قد غُفر له. مات رضي الله عنه بمكة سنة ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين بعد موت ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: سنه ابن أربع -وقيل: ست، وقيل: سبع- وثمانين سنة، وكان مولده قبل الوحي بسنة كما سبق، ودفن بالمحصب، وقيل: بسرَف، وقيل: بفخ بالخاء المعجمة، وكلها مواضع بقرب مكة بعضها أقرب إلى مكة من بعض، وأوصى أن يدفن [في الحل] (¬2) فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج، [وكان ابن عمر يتقدم الحجاج] (¬3) في المواقف وغيرها، وقال له وقد خطب يومًا فأخر الصلاة: إن الشمسى لا تنتظرك، فقال: لقد هممت أن أضرب الذي فيه عيناك، فقال: إن تفعل فإنك سفيه ¬

_ (¬1) في ن ج (الزياد). (¬2) في ن ب (بالحل). (¬3) زيادة من ن ب ج.

مسلط، فعز ذلك عليه. وقيل: إنه أخفى ذلك عن الحجاج فلم يسمعه، فأمر رجلًا فسم زج (¬1) رمحه ورمحه في الطواف فوقع الزج على قدمه. وروي أنه وقع ذلك به لما دفع من عرفة وأنه أَمَرَّه على ظهر قدمه وهي في غرز راحلته، فمرض منها أيامًا فدخل عليه الحجاج فقال: من فعل بك يا أبا عبد الرحمن؛ فقال: وما تصنع به؟ قال: قتلني الله إن لم أقتله، قال: لست بفاعل، قال: ولم؟ قال: لأنك الذي أمرت به، فقال: لا تفعل يا أبا عبد الرحمن، وخرج عنه، وروي أنه قال: قتلني الذي أمر بإدخال السلاح الحرم ولم يكن يُدخل به، فمات من ذلك الجرح وصلى عليه الحجاج قاتله الله. الوجه الثاني: قوله: "رقيت" بكسر القاف أي صعدت، يقال رقي بكسر القاف يرقى بفتحها، إذا صعد منبرًا وسلمًا أو نحو ذلك، وهذا هو الفصيح المشهور، ولغة طي بفتح القاف. وحكى صاحب المطالع: الفتح مع الهمزة، واختيار ثعلب الكسر هنا. والفتح من الرقة رقيت الرجل أرقيه. وقال الزمخشري (¬2): حكى بعضهم رقيت في السلم بفتح القاف ولا أعلم صحته. وفي الجامع: رقات ورقيت أفصح وخالف كراع (¬3) فقال: ¬

_ (¬1) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح. اهـ. المصباح المنير (ص 215). (¬2) في أساس البلاغة (364). (¬3) هو أبو الحسن علي بن الحسن الهنائي الأزدي الملقب بكراع النمل، المتوفى سنة (310) بحثت في كتابه "المنتخب" و"المنجد" فلم أجد =

[رقأت] (¬1) بالهمز أجود. الثالث: حفصة: هي أخته شقيقته أم المؤمنين رضي الله عنها، وسيأتي التعريف بها في باب فضل الجماعة حيث ذكرها المصنف هناك، إن شاء الله. الرابع: اطِّلاع ابن عمر رضي الله عنه لم يكن تحسسًا وإنما كان اتفاقًا من غير قصد ولم ير إلَّا أعاليه فقط. قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون عن قصد للتعلم مع أمنه من الاطلاع على ما لا يجوز له الاطلاع عليه. قلت: يبعده رواية البخاري (¬2): "ارتقيت فوق [بيت] (¬3) حفصة لبعض حاجتي". الخامس: جاء في رواية الصحيحين: "فرأيته قاعدًا على لبنتين". قال القاضي عياض: يحتمل أن تكونا مبنيتين، فتكون فيه حجة لمن قال أنه لا يتكلف الانحراف في الكنف المبنية إلى القبلة، خلافًا لما ذهب إليه أبو أيوب كما مضى في الحديث قبله. قلت: وفي رواية صحيحة لابن حزم (¬4): "رأيته يقضي حاجته ¬

_ = شيئًا، ولعله في أحد كتبه المخطوطة "المنضد" "المجرد" "المنظم" "المصحف". (¬1) في ن ب (رقيت). (¬2) البخاري (148). (¬3) في الأصل (ظهر)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب أبو محمد، ابن حزم =

محجر عليه باللبن"، وفي رواية [للبزار] (¬1): "رأيته في كنيف مستقبل القبلة" قال (¬2) البزار: لا نعلم رواها عن نافع إلَّا عيسى الحناط، قلت: وهو ضعيف. السادس: قوله: ["مستقبل الشام مستدبر الكعبة"، كذا هو في الصحيحين، وفي رواية لهما] (¬3) "مستقبل بيت المقدس"، ووقع في صحيح ابن حبان (¬4): "مستقبل القبلة مستدبر الشام" (¬5)، [فالله أعلم] (¬6). والشام، والكعبة، تقدم الكلام عليهما في الحديث قبله. السابع: اختلف العلماء في كيفية العمل بهذا الحديث؟ فمنهم من [رآه] (¬7) ناسخًا لحديث أبي أيوب السالف واعتقد الإِباحة مطلقًا، وقاس الاستقبال على الاستدبار وطرح حكم تخصيصه بالبنيان ورأى أنه وصف ملغي لا اعتبار فيه. ¬

_ = المولود سنة (384)، والمتوفى سنة (456). سير أعلام النبلاء (18/ 184). (¬1) في ن ب (البزار). (¬2) في الأصل زيادة كلمة (ابن)، والصحيح من ن ب ج. (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) ابن حبان (1415). (¬5) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 104): وهي خطأ تعد من قسم المقلوب في المتن. (¬6) مكررة في الأصل. (¬7) في الأصل (رواه).

ومنهم: من رأى العمل بحديث أبي أيوب وما في معناه واعتقد هذا خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم: من جمع بينهما وأعملهما كما تقدم في الحديث قبله. ومنهم: من توقف في المسئلة. ولمن خصه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستدل بأن نظر ابن عمر [كان] (¬1) اتفاقًا كما مر، وكذا جلوسه عليه السلام من غير قصد لبيان حكم الأمة؛ لأنه لو كان ذلك حكمًا عامًا لبينه عليه السلام بالقول كغيره من الأحكام، فلما لم يقع ذلك دل على الخصوص، وفيه بعد ذلك بحث [كما قال] (¬2) الشيخ تقي الدين (¬3): ثم إن حكم العام إذا خص أن يقتصر على موضع التخصيص ويبقى العام فيما عداه على عمومه فيما بقي من الصور، إذ لا معارض له في ذلك، وحديث ابن عمر هذا لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معًا بل دل على الاستدبار فقط، فالمعارضة بينه وبين حديث أبي أيوب إنما هي في الاستدبار فيبقى الاستقبال لا تعارض فيه، فيجب العمل به في المنع منه مطلقًا، لكن أجازوهما معًا في البنيان، وعليه هذا السؤال كما نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬4) قال: وهذا إذا كان في حديث أبي أيوب لفظ يعم وليس كذلك، بل هما جملتان: إحداهما عامة في محلها، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) انظر: إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 248). (¬4) إحكام الأحكام مع الحاشيه (1/ 251).

تَنَاولَ حديث ابن عمر بعض صور عمومها بالخصوص، والأخرى لم يتناولها فهي باقية على حالها، وتقديم القياس على العام فيه كلام أصولي، وشرط صحة القياس مساواة الفرع للأصل أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم، [ولا تساوي] (¬1) [ها هنا] (¬2) لزيادة قبح الاستقبال على الاستدبار على ما يشهد العرف بذلك، وقد اعتبر أبو حنيفة هذا [المعنى] (¬3) في إحدى الروايتين عنه كما أسلفنا عنه، [فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار، وإذا كان أقبح من الاستدبار فلا يلزم من إلغاء الناقص في القبح] (¬4) إلغاء الزائد فيه وحكم جوازه. قلت: وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن عراك عن عائشة قالت: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة، فقال: "أراهم قد فعلوها استقبلوا [بمقعدتي] (¬5) القبلة" (¬6). قال ¬

_ (¬1) في ن ب (يساوي). (¬2) في ن ب (هنا). (¬3) في ن ب (للمعنى). (¬4) في ن ج ساقطة. (¬5) في ن ب (المقعدي)، وفي الأصل (بمقعدي)، وما أثبت من الدارقطني، ون ج، وسنن ابن ماجه. (¬6) الدارقطني (1/ 59)، وابن ماجه (324)، والبيهقي (1/ 92، 93)، والمحلي (1/ 195)، وأحمد (6/ 137، 183، 184، 219، 227، 237)، وحسن إسناده النووي رحمنا الله وإياه في شرح مسلم (3/ 154)، وفي المجموع (2/ 78): "إسناده حسن لكن أشار البخاري إلى أن فيه علة"، وقال السندي رحمنا الله وإياه في شرح ابن ماجه: رجاله ثقات =

الإمام [أحمد] (¬1): هذا أحسن ما روي في الرخصة وإن كان مرسلًا فإن خرجه حسن، وقد قدمنا حديث جابر في الاستقبال أيضًا في الحديث الذي قبله. الثامن: يؤخذ من الحديث تتبع أحواله - صلى الله عليه وسلم - كلها ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعية. التاسع: يؤخذ منه أيضًا [جواز] (¬2) استقبال القبلة في البنيان، وأنه مخصص لعموم النهي. العاشر: يؤخذ منه أيضًا استعمال الكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط. الحادي عشر: يؤخذ منه أيضًا جواز قضاء الحاجة في مكان غير معدّ له [من] (¬3) سطح وغيره، سواء كان مضطرًا إلى ذلك أم لا، كذا استنبطه منه ابن العطار، ورواية البزار وابن حزم المتقدمين ظاهرهما (¬4) أن المكان [المذكور] (¬5) معد لذلك. الثاني عشر: فيه أيضًا جواز الإِخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل. ¬

_ = معروفون وأخطأ من قال خلاف ذلك، إلخ كلامه، وقد بسط العلامة أحمد شاكر الكلام عليه في المحلى فليراجع (1/ 195، 196). (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (في). (¬4) في ن ب زيادة (في). (¬5) في ن ب ساقطة.

الثالث عشر: فيه أيضًا [جواز] (¬1) تبسط أقارب الزوجة [في بيت] (¬2) الزوج حالة الاحتشام وكف البصر عما يستحى عن رؤيته، فإنه الظاهر من ابن عمر. خاتمة: قال أصحابنا: إنما يجوز استقبال القبلة واستدبارها في البنيان بشرطين: أحدهما: [أن يكون بينه وبين الساتر ثلاثة أذرع فما دونها. الثاني]: (¬3) أن يكون الساتر مرتفعًا بحيث يستر أسافل الإِنسان، وقدروه بآخرة الرحل وهو نحو ثلثي ذراع؛ فإن فقد أحد الشرطين فهو حرام إلَّا إذا كان في بيت بني لذلك فلا حرج فيه؛ قالوا: ولو كان في صحراء وتستر بشيء على الشرط المذكور زال التحريم، فالاعتبار بالساتر وعدمه، فيحل في الصحراء والبنيان بوجوده ويحرم فيهما لعدمه، هذا هو الصحيح، ولا فرق في الساتر بين الوهدة والدابة وكثيب الرمل والجدار، والأصح حصول الستر بإرخاء الذيل أيضًا، وحيث جوزنا الاستقبال والاستدبار، قال المتولي: يكره، ونقله النووي في شرح مسلم (¬4) عن جماعة من الأصحاب، ثم قال: ولم يذكر الجمهور الكراهة، والمختار: أنه إن كان عليه مشقة في تكلف التحرف عن القبلة فلا كراهة [وإن لم يكن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (وبنت). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) (3/ 155).

مشقة فالأولى تجنبه خروجًا من خلاف العلماء، ولا يطلق عليه الكراهة] (¬1) للأحاديث الصحيحة. فرع: إذا تجنب الاستقبال والاستدبار حالة خروج الفضلة جاز له ذلك حال الاستنجاء بلا كراهة، وكذا إخراج الريح إلى القبلة. فائدة: التغوظ مستقبل القبلة من الصغائر كذا ذكره الرافعي في الشهادات [نقلًا] (¬2) عن صاحب العدة [وأقره] (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) في ن ب (نقله). (¬3) زيادة من ن ب ج، وصاحب العدة هو أبو المكارم الروياني ابن أخت صاحب البحر أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل، وقف عليها الرافعي، ونقل عنه في النفاس موضعين وفي استقبال القبلة موضعين .. إلخ. ترجمته: طبقات ابن قاضي شهبة (1/ 315)، وطبقات ابن الصلاح (689)، وكشف الظنون (923)، وطبقات ابن هدايةُ الله (209).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 17/ 4/ 2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وكلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء" (¬1). العنزة: الحربة [الصغيرة] (¬2). الكلام عليه من اثني عشر وجهًا. والتعريف براويه [سبق] (¬3) في الباب وعادتنا أن لا نكرر شيئًا سبق طلبًا للاختصار فاعلم ذلك. الوجه الأول: معنى [كان يدخل الخلاء] يريد دخوله، وقد تقدم أن الخلاء ممدود، وأنه الخالي المتخذ لقضاء الحاجة، وظاهره ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) في ن ب (سلف). (¬3) رواه البخاري برقم (152)، ومسلم (271)، والنسائي (271)، وابن حبان (1439) بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من حاجته أجيء أنا وغلام من الأنصار بإدواة من ماء فيستنجي به"، وابن خزيمة (87) رواية البخاري بأرقام (150، 151، 152، 217، 500).

هنا البراح من الأرض دون البنيان لقرينة حمل العنزة، فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث يخشى المرور بين يديه؛ ولأنه لو كان المراد البنيان لكان الذي يناسب ذلك خدمة أهله من نسائه ونحوهن (¬1) دون الرجال. الثاني: قوله: "وغلام نحوي" أي مقارب ليس في السن والحرية، لا أنه مثله من كل وجه، وفي البخاري "وغلام منا" -أي من الأنصار (¬2) - وكذا أخرجه الإسماعيلي في صحيحه وفيه "معنا عنزة أو عصا أو عكازة" (¬3). وقوله: "أحمل أنا وغلام نحوي" يحتمل أن يكون أحدهما يحمل العنزة، والآخر يحمل الإِدواة، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار حالين، والله أعلم. الثالث: "الغلام" هو الذي طرّ شاربه. وقيل: هو من حين يولد إلى أن يشب. والجمع: أغلمة وغلمة وغلمان. والأنثى: غلامة. وفي المخصص (¬4): هو غلام من لدن فطامه إلى سبع سنين. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (من). (¬2) وهي رواية ابن حبان (1439). (¬3) ابن خزيمة (86). (¬4) (1/ 33).

وعن أبي عبيد (¬1): هو المترعرع المتحرك. وفي الجامع (¬2) عن الخليل: الغلومة والغلامية والغلام هو الذي طرَّ شَارِبُهُ. وفي الصحاح: استغنوا بغلمة عن أغلمة، وتصغير الغلمة اغيلمة على غير مكبرة، كأنهم صغروا أغْلِمَة وإن كانوا لم يقولوه. وزعم الزمخشري في أساس البلاغة [أن الغلام] (¬3) هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن أجري عليه بعدما صار ملتحيًا اسم الغلام فهو مجاز. ويروى عن علي بن أبي طالب في بعض أراجيزه: "أنا الغلام الهاشمي المكي" وقالت [الأخيلية] (¬4) في الحَجّاج: "غلام إذا هز القناة رماها" (¬5). قال: وقال بعضهم: يستحق هذا الاسم إذا ترعرع وبلغ الاحتلام؛ لشهوة النكاح، كأنه يشتهي النكاح في ذلك الوقت، ¬

_ (¬1) ذكره في المخصص عنه (1/ 34). (¬2) هو لأبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي القيرواني المعروت بالقزاز، عمّر تسعين عامًا، ومات بالقيروان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. بغية الرعاة (1/ 71)، ومرآة الجنان (3/ 27)، وسير أعلام النبلاء (17/ 326)، ومعجم الأدباء (18/ 107). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) في ن ب ج (الأخليلة). وهى ليلى بنت عبد الله، الأخيلية، الشاعرة المشهورة، توفيت في عشر الثمانين للهجرة. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 448)، وفوات الوفيات (3/ 226). (¬5) وصدر البيت كما في وفات الوفيات (3/ 227): شفاها من الداء العضال الذي بها. وفيه بدل: "رماها" "سقاها".

ويسمى الغلام قبل ذلك تفاؤلًا، وبعده مجازًا. وقال صاحب الموعب (¬1): لا يقال [للأنثى] (¬2) غلامة إلَّا في كلام قد ذهب في ألسنة الناس. وقال صاحب الجمهرة (¬3): غلام رعرع ورعراع، ولا يكون ذلك إلَّا مع حسن الشباب. ونقل الفاكهي عن أهل اللغة: أن الغلام من فطم إلى سبع سنين. قال أبو جعفر أحمد بن محمد النحوي (¬4) في "خلق الإنسان" (¬5) له [حكى باب] (¬6) ما دام الولد في بطن أمه فهو جنين، فإذا ولد [سمي] (¬7) صبيًا ما دام رضيعًا، فإذا فطم سمي غلامًا إلى ¬

_ (¬1) تأليف أبي غالب تمام بن غالب القرطبي المعروف بابن التياني المتوفى سنة (436) الصلة (1/ 120). (¬2) في ن ب (لأنثى). (¬3) تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي البصري المتوفى سنة (321). سير أعلام النبلاء (15/ 96). (¬4) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري المعروف بابن النحاس المتوفى سنة (338)، له مؤلفات منها: الناسخ والمنسوخ، الاشتقاق، اشتقاق أسماء الله وغيرها. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 401). (¬5) نسبه إليه خليفة في كشف الظنون. (¬6) في ن ب (حكايات). (¬7) في ن ج ساقطة.

سبع سنين، ثم يصير يافعًا إلى عشر، ثم حزوَّرًا إلى [خمس] (¬1) عشرة، ثم قهدًا إلى خمس وعشرين، ثم غُطِيًّا إلى ثلاثين، ثم صُمُلٌّ إلى أربعين، ثم كهلًا إلى خمسين، ثم شيخًا إلى ثمانين، ثم يصير بعد ذلك [وَهِمٌّ] (¬2). فانيًا كبيرًا. الرابع: "الإِداوة" بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد يتخذ الماء كالسطيحة ونحوها والجمع إداوى. قال الجوهري (¬3): الإِداوة: المطهرة، والجمع: الأداوى مثل المطايا، قال: وكأن قياسه أداوى مثل رسالة ورسائل فتجتبوه وفعلوا به ما فعلوا بالمطايا والخطايا فجعلوا فعايل [فعالى] (¬4) وأبدلوا هنا الواو لتدل على أنه [قد] (¬5) كانت في الواحدة واوًا ظاهرة، فقالوا: أداوى، فهذه الواو بدل من الألف الزائدة في إداوة، والألف التي في آخر الإداوى بدل من الواو التي في إداوة، وألزموا الواو [هنا] (¬6) كما ألزموا الياء في [مطايا] (¬7). الخامس: العَنَزَة: بفتح العين والنون والزاي. ¬

_ (¬1) في ن ب (خمسة). (¬2) في الأصل (هما)، والتصحيح من المنتخب من غريب كلام العرب (1/ 146)، مع اختلاف وزيادة فيه. (¬3) مختار الصحاح (12). (¬4) في ن ب ج (فعالاً). (¬5) زيادة من ن ب ج. (¬6) زيادة من ن ب ج. (¬7) في ن ب ج (المطايا).

قال المصنف: إنها الحرية، وفي شرح الشيخ تقي (¬1) الدين شيئًا: إنها الحربة القصيرة، وقال في باب الأذان في حديث ركزت له عنزة، قيل: إنها عصا في طرفيها زُجُّ، وقيل: الحربة [القصيرة] (¬2) وصحح النووي في شرح مسلم (¬3) الأول [فقال] (¬4): هي عصا طويلة في أسفلها زُجُّ، قال: ويقال: رمح قصير. وعكس القاضي (¬5) فقال: هي رمح قصير، وقيل: عصا في طرفها زج (¬6). وفى [المغازي] (¬7) قال الزبير بن العوام: رأيت [عُبيدة بن] (¬8) سعيد بن العاصي وفي يدي عنزة فأَطعنُ بها في ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 253). (¬2) في ن ب (الصغيرة)، والصحيح ما أثبت. (¬3) (3/ 163). (¬4) في ن ب (وقال). (¬5) مشارق الأنوار (2/ 92). (¬6) في ج ب زيادة: (وقال القرطبي في مفهمه، باب: من قدم من سفر فلا يعجل بالدخول إلى أهله: العنزة: عصا مثل نصف الرمح أو أكبر وفيها زج، قاله أبو عبيد، قال الثعالبي: فإن طالت شيئًا فهي البنزك ومطردًا، فإذا أراد طولها وفيها شأن عريض فهي آلة وحربة). (¬7) في الأصل (المعافري)، وما ائبت من ن ب ج. أما في البخاري (3998) فهر عُبيدة بن سعيد بن العاصي. وفي السيرة النبوية لابن إسحاق بحاشية الروض الأنف (3/ 102). (¬8) زيادة من المغازي وهذه الزيادة توافق البخاري والسيرة لابن إسحاق كما سيأتي في التعليق الآتي.

عينه (¬1) حتى أخرجتها متعقفة عليها حدقته، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت تُحمل بن يديه وبعده بن يدي أبي بكر وعمر. وقال الخوارزمي (¬2) في "مفاتيح العلوم": [هي] (¬3) الحربة وتسمى العنزة، وكان النجاشي أهداها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت تقام بين يديه إذا خرج إلى المصلى وتوارثها من بعد الخلفاء. وفي الطبقات (¬4): أهدى النجاشي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عنزات فأمسك واحدة لنفسه، وأعطى عليًّا واحدة، وأعطى عمر واحدة. السادس: إنما كان - صلى الله عليه وسلم - يستصحب هذه العنزة معه؛ لأنه كان إذا توضأ صلَّى فيحتاج إلى نصبها بين يديه لتكون حائلًا يصلي إليه، وقد ورد في حديث أنه عليه السلام كانت توضع له فيصلي إليها، وهذا إنما يناسب البراح من الأرض دون البنيان كما أسلفناه في الوجه الأول. قيل: ويحتمل أن يكون فعلها ليتقي بها من يكيده من المنافقين ¬

_ (¬1) في المغازي (1/ 85، 86)، زيادة "ووقع، وأطأ برجلي على خدّه حتى أخرجتُ العنزة من حدقته -قال في هامش المغازي- هكذا في الأصل. وي ب، ت "منعقفة"، وفي ح "متعقفة"- وأخرجت حدقته. وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العنزة" إلخ. وهو يوافق ما ذكره المصنف. (¬2) في مفاتيح العلوم (140)، والخوارزمي: هو محمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي المتوفى سنة (387) أو (380). (¬3) في الأصل ون ب (هذه)، والتصحيح من ن ج. (¬4) لابن سعد (3/ 235).

واليهود فإنهم كانوا يرومون قتله واغتياله بكل حيلة، ومن أجل هذا الحديث اتخذ الأمراء المشي أمامهم بالحربة، وذكر بعض شراح المصابيح أن للعنزة فوائد: الأولى: دفع العدو واتقاء السبع. الثانية: نبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خشية الرشراش. الثالثة: تعليق الأمتعة بها. الرابعة: [السترة] (¬1) بها في الصلاة. الخامسة: التوكؤ عليها، وفيها مآرب أخرى. فإن قلت: هل كان عليه السلام يستتر بها حال قضاء الحاجة؟. قلت: لم أره منقولًا ويبعد؛ لأن ضابط السترة ما يستر الأسافل كما صرح به النووي في شرح مسلم (¬2) نقلًا عن الأصحاب، وقد أسلفته أيضًا في الحديث قبله (¬3) لكن من تراجم البخاري (¬4) على هذا الحديث "باب: حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء" فتأملها. ¬

_ (¬1) في ن ب (الستر). (¬2) (3/ 155). (¬3) انظر: (ص 472). من هذا الجزء. (¬4) الفتح (1/ 252).

السابع: في الحديث خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك (¬1)، وتفقد حاجاتهم خصوصًا المتعلقة بالطهارة، [ومن] (¬2) تراجم البخاري (¬3) على هذا الحديث "باب من حمل معه الماء لطهوره". الثامن: فيه أيضًا استخدام الرجل الفاضل بعض أتباعه الأحرار خصوصًا إذا أُرصدوا لذلك، والاستعانة في مثل هذا. قال الروياني (¬4) من أصحابنا: ويجوز أن يُعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه، ويؤيده قصة أنس التي أسلفناها في ترجمته. وقال صاحب العدة (¬5): للأب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه؛ لأن ذلك هبة لمنافعه فأشبه إعارة ماله. ¬

_ (¬1) معناه التشرف بخدمة العلماء وأهل الفضل في حياتهم، ليس التبرك البدعي. (¬2) في ن ب (من). (¬3) البخاري مع الفتح (1/ 251). (¬4) هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد فخر الإِسلام أبو المحاسن الروياني الطبري صاحب البحر. واستشهد بجامع آمل عند ارتفاع النهار بعد فراغه من الإِملاء. ولد في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة وتوفي يوم الجمعة حادي عشر المحرم سنة اثنتين، وقيل سنة إحدى وخمسمائة قتلته الباطنية لعنهم الله تعالى. وفيات الأعيان (2/ 369)، ومرآة الزمان (8/ 29)، والعبر (4/ 4)، وشذرات الذهب (4/ 4). (¬5) ترجمته في (ص 473).

[قال] (¬1) النووي في الروضة: وهذا محمول على خدمة تقابل بأجرة، أما ما كان محتقرًا لا يقابل بأجرة فالظاهر والذي تقتضيه أفعال السلف أن لا منع منه إذا لم يضر بالصبي. وقال غيره من المتأخرين: ينبغي تقييد المنع بما إذا انتفت المصلحة، أما إذا وجدت كما لو قال لولده الصغير: اخدم هذا الرجل في كذا، ليتمرن على التواضع ومكارم الأخلاق، فلا [منع] (¬2) منه، وهذا حسن متجه. التاسع: فيه أيضًا التباعد لقضاء الحاجة عن الناس لقرينة حمل العنزة والإِداوة، وقد صح الإِبعاد من فعله - صلى الله عليه وسلم -. العاشر: فيه أيضًا جواز الاستنجاء بالماء وقد ترجم عليه البخاري بذلك، فقال: باب الاستنجاء بالماء ولفظه فيه: "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء يعني فيستنجي به". وزعم الأصيلي: أن الاستنجاء بالماء ليس بالبين في هذا الحديث، لأن قوله (فيستنجي به) ليس من قول أنس إنما هو من قول [أبي] (¬3) الوليد شيخ البخاري (¬4) وقد رواه سليمان بن حرب (¬5) عن ¬

_ (¬1) في ن ب (قاله). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ج ساقطة. (¬4) البخارى برقم (150) الفتح. (¬5) البخاري برقم (151) الفتح.

شعبة لم يذكر "فيستنجي به" (¬1) يعني رواية البخاري الثانية تحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه. وقال ابن التين مثله (¬2)، زاد: وقال أبو عبد الملك [البوني] (¬3): هو قول أبي معاذ الراوي عن أنس، قال: وذلك [أنه] (¬4) لم يصح أنه عليه السلام استنجى بالماء، وهذا عجيب من الكل ففي البخاري من حديث أبي معاذ [وهو] (¬5) عطاء بن أبي ميمونة عن أنس كان - صلى الله عليه وسلم - "يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام إدواة من ماء وعنزة يستنجي بالماء" (¬6) وفيه باب غسل البول (¬7)، من حديثه أيضًا: كان عليه السلام: "إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به"، وفي رواية لمسلم (¬8): "دخل حائطًا وتبعه غلام معه ¬

_ (¬1) يرد هذا الاحتمال رواية برقم (217) عند البخاري "إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به". ولمسلم عن أنس "فخرج علينا وقد استنجى بالماء. وقد بان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس راوي الحديث. اهـ، فتح البارى (1/ 251). (¬2) في التعليق السابق رد عليه حيث أنه زعم أن لفظة "فيستنجي به" مدرجة من قول عطاء عن أنس فيكون مرسلًا، فإن رواية مسلم تدل على أنه من قول أنس. (¬3) زيادة من فتح البارى (1/ 251). (¬4) في ن ج ساقطة. (¬5) في ن ج (عن)، وفي الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب. (¬6) البخاري برقم (152). (¬7) فتح البارى (1/ 321). (¬8) مسلم (1/ 270)، باب الاستنجاء بالماء من التبرز (من كتاب الطهارة)، وقد ضبط لفظ الحديث منه.

ميضأة [هو] (¬1) أصغرنا فوضعها عند رأسه فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء"، وفيه غير ذلك من الأحاديث الصحيحة. وقول الإمام أحمد أيضًا: لم يصح في الاستنجاء بالماء حديث، غريب منه مع جلالته. وزعم ابن بطال (¬2) أن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب كرها الاستنجاء بالماء، وكان المهاجرون يستحبون الاستنجاء بالأحجار والأنصار بالماء (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب (وهو). (¬2) انظر: أثر حذيفة وسعيد في المصنف لابن أبي شيبة (1/ 152، 155)، والاستذكار (2/ 55). (¬3) قال ابن القيم في زاد المعاد: وكان -يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يستنجي بالماء تارة، ويستجمر بالأحجار تارة، ويجمع بينهما تارة. اهـ. فأما الأولان فثابتان. وأما الجمع بينهما فلم يثبت من فعله وإنما وردت رواية عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال البزار. لا نعلم أحدًا رواه عن الزهري إلَّا محمد بن عبد العزيز، ولا عنه إلَّا ابنه. ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال: ليس له ولأخويه عمران وعبد الله حديث مستقيم. قال النووي في شرح المهذب: المعروف في طرق الحديث أنهم كانوا يستنجوا بالماء وليس فيها أنهم كانوا يجمعون بين الماء والأحجار، ولو ثبت لما احتاج من قال: إن الأفضل الجمع بينهما، إلى الاستدلال بحديث أهل قباء الذي أخرجه البزار مع ضعفه، ولكان دليلًا على الأفضلية لو ثبت، والله أعلم. انظر أيضًا: الاستذكار (2/ 55)، والدر المنثور (4/ 290).

وفي المصنف أيضًا عن سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب (¬1) وعبد الله بن الزبير، ومجمع بن يزيد، وعروة بن الزبير، والحسن بن أبي الحسن، وعطاء، شيء من ذلك، والإجماع يقضي على قولهم، وكذا امتنان الله تعالى به في كتابه التطهيرَ به؛ ولأنه أبلغ في إزالة العين. وأجيب عن قول سعيد بن المسيب وقد سئل عن الاستنجاء بالماء: إنه وضوء النساء، أنه لعل ذلك في مقابلة غلو من أنكر الاستنجاء بالأحجار، وبالغ في إنكاره [بهذه] (¬2) الصيغة ليمنعه من الغلو، وحمله ابن نافع على أنه في حق النساء، وأما الرجال فيجمعون بية وبين الأحجار، حكاه الباجي (¬3) عنه. قال القاضي: والعلة عند سعيد كونه وضوء النساء [معناه] (¬4) أن الاستجاء في حقهن بالحجارة متعذر. [وشذ ابن] (¬5) حبيب فقال: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء، والسنة قاضية عليه، استعمل - صلى الله عليه وسلم - الأحجار وأبو هريرة معه ومعه إداوة من ماء، ومقابلة هذا في الشذوذ ما ذهب إليه بعض ¬

_ (¬1) قد ورد في الموطأ (1/ 20) أنه كان يتوضأ بالماء لما تحت إزاره، وفي مصنف ابن أبي شيبة (1/ 153). انظر: الاستذكار (2/ 54). (¬2) في ن ب (هذه). (¬3) المنتقى للباجي (1/ 73). (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) في ن ب (فشذ ابن أبي). انظر: المنتقى للباجي (1/ 73)، والمفهم (2/ 615).

السلف من أن الأفضل الحجر، حكاه النووي في شرحه (¬1)، قال: وربما أوهم كلام بعضهم أن الماه لا يجزئ. قلت: وبه صرَّح القاضي والقرطبي (¬2) فقالا: فيه حجة على من كره الاستنجاء بالعذب؛ لأن ماء المدينة عذب، تعلقًا بأنه مطعوم، وليس بشيء، لأن الماء ليس من قبيل المطعوم. قلت: ومذهب جمهور السلف والخلف والذي أجمع عليه أئمة الفتوى من أهل الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر [فيقدم الحجر] (¬3) أولًا ثم يستعمل الماء، فتخف النجاسة ويقل مباشرتها بيده [ويكون] (¬4) أبلغ في النظافة (¬5) فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لكونه يزيل عين النجاسة وأثرها والحجر يزيل العين دون الأثر، لكنه معفو عنه في حق نفسه وتصح الصلاة معه كسائر النجاسات. الحادي عشر: الألف واللام في (الماء) تحمل على المعهود وهو المطلق المحدود في كتب الفقه، فلو استنجى [بغيره] (¬6) من المائعات لم يصح، ويتعين بعده الاستنجاء بالماء ولا يجزيه الحجر، وأجرى صاحب البيان من أصحابنا خلافًا في ذلك وهو غلط. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (3/ 163). (¬2) المفهم (2/ 615). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) في ن ب (وتكون). (¬5) راجع: ت (3/ 485). (¬6) في ن ج (أنه)، وساقطة من ن ب.

الثاني عشر: استدلَّ بعض العلماء بهذا الحديث على (¬1) أن المستحب أن يتوضأ من الأواني دون البرك ونحوها، وهو [غير] (¬2) مقبول. قال القاضي: ولا أصل له [لأنه] (¬3) لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وجد البرك والمشارع ثم عدل عنها إلى الأواني (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل ون ج زيادة (أنه). (¬2) زيادة من ن ب ج. انظر: شرح مسلم (3/ 163). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) أقول: جاء ما يخالف ذلك بما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 203)، والبيهقى في "الجامع" (6/ 80) عن ابن عمر قال: قيل: يا رسول الله الوضوء من جرّ مجمّر أحبّ إليك أم من المطاهر؟ قال: "لا بل من المطاهر، إن دين الله الحنيفية السمحة". قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى المطاهر فيؤتي بالماء فيشربه أو قال: فيشرب يرجو بركة أيدي المسلمين". والجزء الأخير من الحديث: "إن دين الله ... " حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير (4770) للألباني. والدين والحمد لله يسر لم يأتي نص في ذلك بل المسلم إذا وجد ماء طاهرًا توضأ وأدى عبادة ربه.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 18/ 5/ 2 - عن أبي قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمسكنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء" (¬1). الكلام عليه من تسعة أوجه: الأول: في التعريف براويه: هو أبو قتادة الحارث بن ربعي بن [بلدمة] (¬2) -بفتح الباء الموحدة والدال المهملة وسكون اللام بينهما-، ويقال: بضمهما، ويقال: بالذال -المعجمة المضمومة-، بن خناس -بضم الخاء المعجمة [ثم] (¬3) نون ثم ألف ثم سين مهملة-، بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (153، 154، 5630) في الوضوء، ومسلم برقم (267) في الوضوء، وأبو داود برقم (31)، والنسائي (1/ 43)، وأحمد في المسند (4/ 383) (5/ 296 و 309 و 310 و 311)، وابن ماجه برقم (310). (¬2) في ن ب (تلمذنه). (¬3) في ن ب بالواو.

كعب بن سَلِمة بكسر اللام، السلمي -بفتحها- ويجوز في لغة كسرها، المدني، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد أحدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد واختلف في شهوده بدرًا فلم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق فيهم، وذكره بعضهم فيهم ولم يصح. والمشهور في اسمه: ما ذكره المصنف. وقيل: النعمان، قال الواقدي: وهو أثبت. وقيل: عمرو. واشتهر بكنيته. روى عنه ابنه عبد الله وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وخلق من التابعين، وروى أيضًا عن عمرو ومعاذ، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعون حديثًا، انفرد البخاري بحديثين ومسلم بثمانية واتفقا على أحد عشر. قال إياس بن مسلمة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير فرساننا أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة" (¬1)، وقال له عليه السلام يوم ذي قرد أيضًا: "اللهم بارك له في شعره وبشره"، وقال: "أفلح وجهك ما هذا [الذي] (¬2) بوجهك؟ قلت: سهم رميت به يا رسول الله (¬3) قال فبصق عليه فما ضرب ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (32) الجهاد والسير (ص 1435)، وابن حبان (9/ 154)، والبيهقي في الدلائل (4/ 185) الفصة بكاملها. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (- صلى الله عليه وسلم -).

عليَّ [ولا قاح] (¬1) (¬2)، قال العسكري: وشَكَّ أبو قتادة اثنين في رمح يوم ذي قرد، وفي دلائل النبوة للبيهقي: أنه عليه السلام قال له يوم ذي قرد: "أبو قتادة سيد الفرسان، بارك الله قيس [يا أبا قتادة] (¬3) وفي ولدك وفي ولد ولدك [وفي ولد ولد ولدك] " (¬4). وفي وفاته أقوال: أحدها: سنة أربع وخمسين عن سبعين سنة، قاله ابن حبان وغيره. ثانيها: أنه مات في خلافة علي، وصلى عليه وكبر سبعًا، حكاه ابن حبان، قال بعضهم: سنة ثمان وثلاثين، ابن [اثنين] (¬5) وسبعين. ثالثها: سنة أربعين، حكاه أبو [عمر، ويرجح] (¬6) القول الأول ما علقه البخاري أن مروان أرسل لما كان على المدينة من قبل معاوية إلى أبي قتادة ليريه مواقف [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬7) وأصحابه. وأما ابن القطان فقال في كتاب الوهم والإِيهام: الصحيح أنه توفي [في] (¬8) ¬

_ (¬1) في ن ب (الأوقاح). (¬2) المستدرك (3/ 480). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ج ساقطة. (¬5) في ن ب (اثنتين). (¬6) في ن ب (عمرو ورجح). (¬7) في ن ب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬8) في ن ب (ساقطة).

زمن علي وهو صلَّى عليه. وفي موضع قبره قولان، أشهرهما: بالمدينة. (¬1) ثانيهما: بالكوفة وهو غريب. الثاني: هذا الحديث من [الآداب] (¬2) النبوية الجامعة. وفي الحلية لأبي نعيم الحافظ عن عثمان رضي الله عنه قال: ما تغنيت (¬3) ولا تمنيت -يعني كذبت- ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من التقوى والأدب الذي يؤتيه الله من يشاء من عباده. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: يميني لوجهي وشمالي لحاجتي. وقد امتخط ابنه الحسن بيمينه عند معاوية فقال له: بشمالك. وروى الترمذي الحكيم في علله عن أبي العالية قال: ما مسست فرجي بيميني منذ ستين سنة أو سبعين سنة. وفيه عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من استنجى بيمينه فقد جعل للشيطان سلمًا إلى نفسه وفقد عقله حتى يذهب منه دينه وهو لا يشعر". الثالث: ظاهر النهي عن مس الذكر باليمين في هذا الحديث خصوصية بحال البول، وورد في حديث آخر النهي عن مس الذكر باليمين مطلقًا، لكن في تقييده بحالة البول تنبيه على رواية الإِطلاق، ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة واو. (¬2) في الأصل (الأدوات)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في الحلية (1/ 60): وايم الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام وما ازددت في الإِسلام إلَّا حياء، [ولا تمنيت يعني كذبتٍ غير موجودة، والنص موجود بكامله في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 152) (12/ 53)، ومعجم أبي يعلى الموصلي (178)، والأوسط لابن المنذر (1/ 338) وأحمد (6/ 165).

وأولى؛ لأنه إذا كان النهي عن المس باليمين حالة الاستنجاء مع مظنة الحاجة إليها فغيره من الحالات أولى، ومن العلماء مَن خصَّ النهي عن مس الذكر باليمين بحالة البول أخذًا بظاهر الحديث كما ذكرنا، ومنهم من أخذ بالنهي عن مسه مطلقًا أخذًا بالرواية المطلقة، وقد يسبق إلى الفهم أن المطلق يحمل على المقيد أو العام على الخامس فيخُص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث أصولي نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬1) وهو: أن القاعدة أن حمل العام على الخاص أو المطلق على المقيد ليس هو في باب المناهي وإنما في باب الأمر والإثبات؛ لما يلزم منه [من] (¬2) الإِحلال باللفظ الدال على الخصوص أو المقيد، وأما في باب النهي فيلزم منه الإِخلال باللفظ الدال على الإِطلاق أو العموم مع تناول النهي وهو غيرُ سائغ، وهذا أيضًا بعد مراعاة النظر في روايتي الإِطلاق والتقييد أو العموم والخصوص: هل هما حديثان أو حديث مخرجه واحد؟ فإن كانا حديثين فالأمر على ما ذكرناه أولًا، وإن كان حديثًا واحدًا مخرجه واحد، اختلف عليه الرواة فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون زيادةً مِن عَدْل وهي مقبولة عند الأصوليين والمحدثين، وهذا يكون أيضًا بعد النظر في دلالة المفهوم وما يعمل به منه وما لا يعمل به وبعد أن ينظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم. (تنبيه): إن قلت: قد نهي عن الاستنجاء باليمين وعن مس ¬

_ (¬1) ما قبله وما بعده من أحكام الأحكام بتصرف منه (1/ 258، 261). (¬2) في ن ج (في).

الذكر باليمين ولا بد للمستجمر من أحد [اليدين] (¬1) لأنه إن أمسك ذكره بيمينه دخل في النهي عن مسه، وإن أمسك الحجر بها دخل في النهي عن الاستنجاء باليمين؟ والجواب: أنه لا يلزم منه أن يمسك الحجر بها بل يمكنه الاستجمار بحجر ضخم لايزول عن مكانه أو بجدار هو ملكه لا يتأذَّى مارّ بالتنجيس به حين استناده إليه إذا كان رطبًا ويمسك ذكره بيساره [فيحركه] (¬2) بها من غير تكرار وضعه في الموضع الذي [وضعه] (¬3) [أولًا] (¬4) عليه؛ لئلا يتنجس رأس ذكره بوضعه ثانيًا عليه فلا يجزيه حينئذِ إلَّا الماء، [فلو] (¬5) كان الحجر صغيرًا جعله بين عقبيه وفعل ما ذكرنا بالصفة المذكورة، فلو عجز أو شق عليه أخذ الحجر باليمين وجعله بمزلة حائط أو حجر كبير وحرك اليسار دون اليمين ومتى حرك اليمين دخل في النهي، وغلط من قال من أصحابنا: يمسك ذكره بيمينه والحجر يساره ويحركها. فائدة: يستحب أن [لا] (¬6) يستعين باليد اليمنى في شيء من أمور الاستنجاء إلَّا لعذر، وإذا استنجى بالماء صبَّ باليمين ومسح ¬

_ (¬1) في ن ب ج (النهيين). (¬2) في ن ب (ويحركه). (¬3) في الأصل ساقطة، والزيادة من ن ب ج. (¬4) في الأصل (أولى)، والتصحيح من ن ب ج. انظر المبحث في المفهم (2/ 606). (¬5) في الأصل (واو)، وما أثبت من ن ب. (¬6) زيادة من ن ب ج.

باليسار، [وإن] (¬1) كان بالحجر مسح باليسار أيضًا. الرابع: الأصل في النهي التحريم إلَّا أن يدل على إرادة الكراهة، وقد حمله في هذا الحديث وأمثاله داود (¬2) الظاهري وكذا ابن (¬3) حزم على التحريم مطلقًا فقالا: لا يجوز مس الذكر باليمين إلَّا من ضرورة، والعجيب منهما أنهما أجازا مس المرأة فرجها بيمينها وشمالها، وأجازا لها مس [ذكر زوجها بيمينها وشمالها] (¬4)، وأجاز مس الخاتن ذكر الصغير للختان باليمين، وكذا الطبيب، وحرموا مس الإِنسان ذكره. وحكى القاضي عياض عن بعض أهل الظاهر: أنه لو استنجى بيمينه لا يجزئه، وبه صرَّح الحسين بن عبد الله الناصري منهم في كتاب البرهان. وجمهور الفقهاء: حملوا النهي هنا على الكراهة. وبعض الشافعية كصاحب المهذب وغيرهم: اشاروا إلى التحريم. وعن مالك: أنه مُسيء ويجزئه. فائدة: الحكمة في النهي عن مس الذكر باليمين احترامها وصيانتها، أو لأنه إذا باشر النجاسة بها ربما تذكَّر عند تناوله الطعام ¬

_ (¬1) في ن ب (فإن). (¬2) ذكره في معجم فقه السلف (1/ 28). (¬3) المحلي (1/ 95 مستلة 122). (¬4) زيادة من ن ج.

[أو الشراب] (¬1) ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك. فرع: المرأة كالرجل في حكم مس القبل والدبر باليمين؛ لأنَّ سبب النهي إكرام اليمين وصيانتها عن الأقذار ونحوها كما أسلفناه، وقد علمت تلك المقالة الغريبة العجيبة عن الظاهرية. الخامس: يؤخذ من الحديث أنه إذا كان في يده خاتم فيه اسم الله تعالى، لا يستنجي وهو في يده؛ لأنه إذا نزهت اليمنى عن ذلك فذكر الله أولى وأعظم، وقد [كره] (¬2) مالك أن يدفع الدراهم التي فيها اسم الله تعالى لكافر، فهذا أولى. قال ابن بزيزة في شرح الأحكام لعبد الحق: وقعت في العتبية رواية منكرة [مستهجنة] (¬3)؛ قال مالك: لا بأس أن يستنجي بالخاتم وفيه اسم الله تعالى، وهذه رواية لا يحل سماعها فكيف العمل عليها؛ وقد كان الواجب أن تطرح العتبية كلها لأجل هذه الرواية وأمثالها مما حوته من شواذ الأقوال التي لم تكن في غيرها، [ولذلك] (¬4) أعرض عنها المحققون من علماء المذهب [حتى قال أبو بكر بن العربي -حيث حكى أن من العلماء من كره بيع كتب الفقه- فإن كان ففي العتبية] (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (أو الشراب). (¬2) في ن ب (ذكره). (¬3) في ن ب (مستحبة). (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) في ن ج ساقطة.

قال ابن العربي: وقد كان لي خاتم [فيه] (¬1) منقوش محمد بن العربي فتركت الاستنجاء به إجلالًا لاسم [رسول الله -تعالى-] (¬2). قال الفاكهي: وروى الأوزاعي مثل ما وقع في العتبية. وقال الحسن: لا بأس أن يدخل الرجل الخلاء وفي إصبعه الخاتم. وقال النخعي: يدخل الناس الخلاء بالدراهم للضرورة، وكره ذلك مجاهد في الدراهم والخاتم قال: وهذا الذي وقع في العتبية، إنما هو بناء على أن الخاتم يحبس في الشمال وهو رواية عن أنس (¬3)، والصحيح أنه عليه السلام كان يتختم في يمينه، والأصح من مذهب مالك: أنه يحبسه في الشمال ولا يستنجي به، وقد صح عن مالك أنه كان لا يقرأ الحديث إلَّا على طهارة دون الفقه، وهو يناقض ما وقع في العتبية. قلت: والأصح عند الشافعية أنه يتختم في اليمين (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل وفي ن ج (الله تعالى)، والتصحيح من ن ب، أي اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو اسم محمد بن العربي، ساقطة من ن ج رسول. (¬3) مسلم (2/ 242)، وسنن أبي داود (2/ 408). (¬4) ذكر ابن رجب رحمنا الله وإياه في كتابه أحكام الخواتيم (83) خلاف العلماه وأدلتهم مفصلة فارجع إليه.

السادس: قوله عليه السلام: "ولا يتمسح [من] (¬1) الخلاء بيمينه". [المسح] (¬2) هنا الاستنجاء وسمي الخارج من القبل والدبر خلاء لكونه يفعل في المكان الخالي ويلازم ذلك غالبًا، ولفظ الحديث يتناول القبل والدبر، وقد أسلفنا أن الخلاء بالمد وأسلفنا أيضًا كيفية مسح القبل. وأما الدبر: فأصح الوجهين عندنا أن كل حجر لكل مسحة وفيه عسر. وقيل: يوزع على الجانبين والوسط وهو أسهل. السابع: "اليمين"، فقيل: من اليمن، وقيل: من القوة قال تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} (¬3). وقال [نفطويه] (¬4): أي لأخذنا بيمينه فمنعناه من التصرف. وفي الصحاح (¬5): أن تصغيرها يُمَيِّنٌ بالتشديد بلا هاءٍ. وفي الجمهرة: الجمع: أيمن. الثامن: قوله عليه السلام: "ولا يتنفس في الإِناء". التنفس ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) في ن ب (التمسح). (¬3) سورة الحاقة: آية 45. (¬4) في ن ب (يعطمونه)، ونفطويه هو أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي الملقب بنفطويه المتوفى سنة (323). طبقات النحويين واللغويين للزبيدي (154). (¬5) الصحاح (2221).

شيئًا: خروج النفس من الفم، يقال: يتنفس الرجل، ويتنفس الصعداء، وكل ذي رئة [متنفس] (¬1)، ودواب الماء لا رئات لهما كما قاله الجوهري (¬2). ويستعمل التنفس أيضًا مجازًا: كقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} (¬3) وكذا سميت القوس إذا تصدعت، وتنفس النهار إذا زاد (¬4)، وكذا الموج إذا نضح الماء. ومعنى "لا يتنفس في الإِناء". أي في نفس الإِناء [فإنه] (¬5) مكروه، بل يتنفس خارجه فإنه سنة ثابتة وأدب شرعي في الشرب؛ لما يحصل بالنفس في الإِناء من نتنه وغير ذلك [مما] (¬6) سيأتي. ويكون ثلاثًا. والحكمة في النهي عن التنفس في الإِناء: أنه أبعد عن تقدير الإِناء والماء، فإنه من ألطف الجواهر وأقبلها للتغير بالريح، وعن خروج شيء تعافه النفس من الفم فإذا أبانه عند إرادة [التنفس] (¬7) أمن ذلك، وقد ثبت إبانة الإِناء للتنفس ثلاثًا (¬8) وهو في هذا الحديث ¬

_ (¬1) في ن ب (يتنفس). (¬2) مختار الصحاح (281). (¬3) سورة التكوير: آية 18. وانظر: الصحاح (981). (¬4) انظر: عمدة الحفاظ (587). (¬5) زيادة من ن ب ج. (¬6) في ن ب (ما). (¬7) في ن ب (النفس). (¬8) سيأتي في ت (8) ص (500).

مطلق، ولأن إبانة الإناء أهنأ في الشرب (¬1)، وأحسن في الأدب، [وأبعد عن الشره] (¬2) [وأخف] (¬3) للمعدة، وإذا تنفس في الإناء واستوفى ريه حمله ذلك على فوات ما ذكرناه من حكمة النهي، وتكاثر الماء في حلقه وأثقل معدته وربما شرق به وآذى كبده. وقيل: علة الكراهة أن كل عبة شربة مستأنفة فيستحب الذكر في أولها والحمد في آخرها، فإذا وصل ولم يفصل [بينها] (¬4)، فقد أخلَّ بسنن كثيرة (¬5). قال ابن وضاح (¬6): رأيت سحنون إذا شرب سمى فيتناول من الماء ثم يبين القدح فيحمد الله ثم يفعل ذلك مرارًا عدة في الشربة الواحدة، قال (¬7): وهو حسن وليس سنة (¬8). ¬

_ (¬1) قد جاء في حديث من رواية أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشرب في ثلاثة أنفاس أمرأ، واشفأ، وأشهى، وأبدأ" وسيأتي في ت (8) تحت. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (افخذ). (¬4) في ن ب (بينهما). (¬5) قد ذكر هذا ابن عبد البر وقال إنه تأويل ضعيف، منه لم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يسمي على طعامه، ألَّا في أوله ... إلخ وساق ما يأتي في ت 5. (¬6) انظر: التمهيد (1/ 393). (¬7) أي ابن عبد البر. (¬8) في التمهيد [بسنة]. أخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإِناء إلى فيه يسمي الله، فإذا آخره =

تنبيه: لا يختص النهي المذكور [بالشراب] (¬1)، بل الطعام مثله فيكره النفخ [فيه] (¬2)، والتنفس في معنى النفخ، يدل على ذلك ما في الترمذي من حديث أبي سعيد] (¬3) الخدري رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإِناء؟ فقال: [اهرقها] (¬4)، قال: فإني لا أروى من نفس واحد، [قال: فأبن القدح إذًا عن فيك" قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬5). وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله ¬

_ = حمد الله، يفعل ذلك ثلاثًا". وأصله في ابن ماجه، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزار والطبراني، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس المشار إليه قبل: "وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم". الترمذى برقم (1885) وهذا يحتمل أن يكون شاهدًا لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط، والله أعلم-. اهـ. فتح الباري (10/ 94). (¬1) في الأصل (للشراب)، وما أثبت من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب ج، أقول: وأصرح من استدلال المؤلف حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه)، أخرجه ابن ماجه (4328)، وأبو داود (3728)، الترمذي (1888)، وأحمد (1/ 220). الاستذكار (26/ 276). (¬3) في ن ب (أبي مسعود)، والخدري ساقطة م ن ب. (¬4) في ن ب (فاهرقها). (¬5) الترمذي (1887)، والموطأ (925)، وأحمد (3/ 26، 32)، والدارمي (2/ 119)، ابن أبي شيبة (8/ 220)، وصححه الحاكم (4/ 139)، ووافقه الذهبي.

عنه أنه عليه السلام: "كان يتنفس في الشراب ثلاثًا" (¬1) فمعناه خارج الإِناء. فائدة: اختلف العلماء في هذه الأنفاس الثلاثة أيُّها أطول؟ على قولين: أحدهما الأول، فيمحص، الثاني والثالث للسنة، فإنه إذا أطال المرة الأولى حصل الري منها فيبقى ما عداها اتباعًا للسنة. الثاني: أن الشربة الأولى: أقصر، والثانية: أزيد منها، والثالثة: أزيد منها ليجمع بين السنة [والطب] (¬2)؛ لأنه إذا شرب قليلًا وصل إلى جوفه من غير إزعاج. التاسع: في الحديث جواز الشرب في نفس واحد؛ لأنه إنما نهى عن التنفس في الإِناء، والذي يشرب في نفس واحد] (¬3) ولم يتنفس في الإناء فلا يكون مخالفًا للنهي، وهو مقتضى حديث [أبي سعيد] (¬4) الذي أسلفناه قريبًا أيضًا فإنه أقره عليه. قال المازري: ومذهبنا جوازه. وحكاه القاضي عن ابن المسيب وعطاء وعمر بن عبد العزيز (¬5) ¬

_ (¬1) البخاري برقم (5631). مسلم (2028). (¬2) في ن ج (الطب). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (أبي مسعود) ذكر هذا ابن عبد البر في التمهيد (1/ 392)، الاستذكار (26/ 273). (¬5) كذا ذكره في فتح البارى ولم يسنده (10/ 94)، وقد ذكر هذه الآثار ابن =

قال: وكرهه ابى عباس وطاوس وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان (¬1). ¬

_ = أبي شيبة في مصنفه برقم (4218) (4219)، وأخرجه عبد الرزاق (10/ 426). (¬1) ابن أبي شيبة (4215) (4126) (4217)، والاستذكار (26/ 271)، وقد ضعفها ابن عبد البر في التمهيد (1/ 393) بقوله: (وليس منها شيء تجب به حجة. وقال في حديث ابن عباس في أحد رواته: ضعيف لا يحتج به، ولو صح كان المصير إلى المسند أولى من قول الصاحب). اهـ.

الحديث السادس

الحديث السادس 19/ 6/ 2 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" (¬1). الكلام عليه تسعة وعشرين وجهًا: الأول: في التعريف براويه. هو أبو العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخي أبيه، وحبر الأمة، وبحر العلم وأبو الخلفاء وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة كما قدمناه في الحديث الرابع في ترجمة ابن عمر رضي الله عنهما دعا له ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (216)، ومسلم مع النووي (3/ 200)، وأبو داود برقم (20)، والنسائي (1/ 28، 30)، والترمذي برقم (70)، وابن ماجه برقم (349)، والدارمي (1/ 188)، والمسند (1/ 225) وعن أبي بكرة مثله في المسند (5/ 35، 36).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والتفقه في الدين وتعلم التأويل أي تأويل القرآن فأخذ عنه الصحابة رضي الله عنهم ذلك، ودعا له أيضًا، فقال: "اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين، اللهم زده علمًا وفقهًا". وهي أحاديث صحاح كلها كما قال [أبو] (¬1) عمر قال: وقال مجاهد عن ابن عباس: رأيت جبريل عليه السلام مرتين، ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين. وكان عمر بن الخطاب يحبه ويدنيه ويقربه ويدخله مع كبار الصحابة ويشاوره ويعده للمعضلات ويقول: هو فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول. وقال ابن مسعود: هو ترجمان القرآن لو أدرك أسناننا ما عاشره منا رجل. وقال القاسم بن محمد ومجاهد: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس إلَّا أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [وقال طاووس: أدركت نحو خمسمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) إذا خالفوا ابن عباس لم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله. وقال يزيد بن الأصم: خرج ابن عباس حاجًا مع معاوية فكان لمعاوية موكب ولابن عباس موكب [ممن] (¬3) يطلب العلم. وقال مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، وإذا تكلم، قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس. وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلًا قط، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت ¬

_ (¬1) في ن ب ج (ابن). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في ن ج ساقطة.

مجلسًا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، الحلال والحرام والعربية والأنساب- وأحسبه قال: والشعر. [وقال] (¬1) أبو وائل شقيق: خطبنا ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو رأته فارس والروم (¬2) لأسلمت. وقال [عبيد الله] (¬3) بن عبد الله: ما رأيت أحدًا كان أعلم بالسنة ولا أجلد رأيًا ولا أثقب نظرًا من ابن عباس، ولقد كان عمر يعده للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين، قال الحسن: وهو أول من عرف بالبصرة فقرأ سورة البقرة ففسرها آية آية. وعن الشعبي أن عليًا استخلفه على البصرة، ولما قتل عليٌّ حمل ابن عباس مبلغًا من المال ولحق بالحجاز واستخلف على البصرة عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي. وقال أبو عبيدة: كان على ميسرة علي يوم صفين. وقال كريب: رأيت ابن عباس كان يعتم بعمامة سوداء ويرخيها شبرًا. وكان قد عمي في آخر عمره، قال الطبراني في أكبر معاجمه: كأبيه وجده [فيما بلغني] (¬4). وروى أنه رأى رجلًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعرفه فسأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيته؟ قال: نعم. قال: ذاك جبريل، أما أنك [ستفقد] (¬5) ¬

_ (¬1) في ن ب (قال). (¬2) في ن ب زيادة (والترك). (¬3) في الأصل (عبد الله)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) في ن ب (سيفقد).

بصرك، فعمي بعد ذلك في آخر عمره وفي ذلك يقول: إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دغل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور [وإن أحسن شيء أنت تظهره ... صبرًا إذا ما جرى بالكره مقدور] (¬1) ولد رضي الله عنه وبنو هاشم في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين. وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة قد ناهز الاحتلام، وقيل ابن عشر، وقيل ابن خمس عشرة، قاله أحمد بن حنبل، وقال: هو أصح. والذي عليه أهل التاريخ هو الأول، وروي عنه أنه قال: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ختين. رواه البخاري في صحيحه في باب الختان بعد الكبر، وقيل إنهم كانوا يختنون للبلوغ، ووقع في كلام الحافظ أبي الفضل المقدسي في [أربعينه] (¬2) وتبعه الفاكهي أنه قال: إن ذلك غير ثابت وهو عجيب، فقد أخرجه البخاري من حديث سعيد بن جبير عنه. ومن مناقبه أنه بات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة خالته وتهجد معه كما سيأتي في الكتاب في موضعه. وأردفه يومًا وقال: ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ... الحديث. وكان من أكثر الصحابة حديثًا، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وستمائة وستين حديثًا، اتفقا منها على خمسة وسبعين، ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) في ن ب (اراخيرة).

وانفرد البخاري بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين، قاله الحميدي والحافظ عبد الغني، وقال ابن الجوزي: أخرجا له في صحيحيهما مائتي حديث وأربعةً وثلاثين حديثًا، اتفقا منها على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمائة وعشرة، ومسلم بتسعة وأربعين، روى عنه جماعة من الصحابة منهم أنس وابن عمر وخلق من التابعين: وروى عنه أيضًا أخوه كثير بن العباس. ووقع في [أثناء] (¬1) النصف الثاني من المستصفى للغزالي أن ابن عباس مع كثرة روايته، قيل: إنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلَّا أربعة أحاديث لصغر سنه، وصرَّح بذلك في حديث "إنما الربا في النسيئة" وقال: حدثني به أسامة بن زيد، ولما روى حديث [قطع] (¬2) التلبية حين رمي جمرة العقبة قال: حدثني به أخي الفضل، والذي حكاه غيره أن له تسعة أحاديث، قاله يحيى القطان وأبو داود، وغيره، كما قاله غندر. مات رضي الله عنه بالطائف، وقبره بها مشهور (¬3) يزار، سنة ثمان وستين، ابن إحدى وسبعين سنة على الصحيح، في أيام ابن الزبير، وكان قد اعتزله ولم يبايعه، [رحل] (¬4) إلى الطائف وصلى عليه محمد بن الحنفية وكبَّر عليه أربعًا، وقال: اليوم مات رباني هذه ¬

_ (¬1) في الأصل (أنهما)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في ن ب زيادة (بها). (¬4) في ن ب ج (وتحول).

الأمة، وضرب على قبره فسطاطًا، ولما ادرج في كفنه دخل فيه طائر أبيض فما رؤي حتى الساعة، فلما سوِّي عليه سمع من يقرأ هذه الآية ولا يرى شخصه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} (¬1) الآية، قاله ميمون بن مهران، وقال أبو عمر: روي أن طائر (¬2) خرج من قبره فتأولوه علمه خرج إلى الناس، ويقال: بل دخل قبره طائر [أبيض] (¬3) فقيل: إنه بصره في التأويل. وكان للعباس بن عبد المطلب عشرة أولاد: الفضل، وقثم، وعبد الله، [وعبيد الله] (¬4)، وعبد الرحمن، ومعبد -وأمهم أم الفضل لبابة الصغرى- وعون، والحارث، وكثير، وتمام، وهو أصغرهم، فكان العباس يحمله ويقول: تموا بتمام فصاروا عشرة ... يا رب فاجعلهم كرامًا بررة اجعلهم [ذكرى] (¬5) وأنم الثمرة ومات كثير بينبع، أخذته الذبحة، واستشهد الفضل بأجنادين، وعبد الرحمن ومعبد بأفريقية، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقيل: بالشام، وقثم بسمرقند، أخذته الذبحة، قال مسلم المكي: ما رأيت مثل بني أم واحدة أشراف ولدوا في دار واحدة أبعد قبورًا ¬

_ (¬1) سورة الفجر: آية 27. (¬2) في ن ب زيادة (أبيض). (¬3) في ن ب ج ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (دلاي).

من بني أم الفضل، وقد أفردت سيرته رضي الله عنه بالتصنيف. وهذا القدر كاف هنا والله الموفق. الوجه الثاني: قوله: "مرّ بقبرين" أي بصاحب قبرين، فعبر بالقبرين عن صاحبهما مجازًا من باب تسمية الشيء بمحله. الثالث: القبر: جمعه قبور في الكثرة وأقبر في القلة، واستعمل مصدرًا، قالوا: قبرته [أقبره] (¬1) قبرًا، قال صاحب العين (¬2): القبر مدفن الإِنسان [والمَقْبر والمقْبرةَ موضع القبر، وقال ابن السكيت (¬3): هي المقبر والمقبرة] (¬4) وسيأتي في باب التشهد كسر الباء أيضًا. وقال سيبويه: ليست المقبرة على المفعل ولكنه اسم كالمشربة. قال ابن السكيت: وقد يقال أقبرته: صيرت له قبرًا يدفن فيه. وفي المحكم: قبره يقبره وتقبره: دفنه، وفي الجامع: أقبرته إقبارًا إذا أعنت على دفنه، وفي المغرب للمطرزي (¬5): المقبرة بالضم موضع القبر، والفتح لغة، والمقبر بالفتح لا غير، والمقابر جمع لهما. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ج. (¬2) انظر: المخصص (6/ 133). (¬3) انظر: المرجع السابق. قال في المشوف المعلم في ترتيب إصلاح المنطق (2/ 620) يقال: مَقْبَرَةٌ، ومَقْبُرَةٌ وهو المَقبَرِيُّ بالضم والفتح -أي الباء- والقُبَّرَةُ بتشديد الباء والجمع قُبَّرٌ. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) (2/ 155).

قلت: وللقبر أسماء أحدها: الرَّمْسُ بالراء، ثانيها: الجَدَثُ، ثالثها: الجَدَفُ، رابعها: البيت، خامسها: الضريح، سادسها: الرَّيْمُ، سابعها: الرجم، ثامنها: البلد. قال الشاعر: كل امرئ تارك أحبته ... ومسلم نفسه إلى البلد ذكرهن صاحب المخصص (¬1)، التاسع: الختان، ذكره ابن السكيت والعسكري، العاشر: الجامور، ذكره [الهنائي] (¬2) في المنتخب (¬3)، الحادي عشر: الدمس بالدال، الثاني عشر: المنهال، ذكرهما ابن السكيت والعسكري (¬4). الرابع: إن قلت: هل عرف تعيين مكان هذين القبرين؟ قلت: في صحيح البخاري (¬5) في كتاب الأدب أنهما بالمدينة في بعض حيطانها، وفي رواية له في الطهارة: "أنه مَرَّ بحائط [من] (¬6) حيطان مكة أو المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان ... " ¬

_ (¬1) انظر: (6/ 133، 135). (¬2) في الأصل (العبادي)، وفي ب (الهباني)، وفي ج (الهنادي). (¬3) المنتخب للهنائي (1/ 346). (¬4) بحثت في إصلاح المنطق لابن السكيت والتلخيص للعسكري، ومعجم بقية الأشياء فلم أجد ما ذكره هنا. والزيادة على هذه المعاني ذكر في التلخيص (731) النَّاوُوس إن كان عربيًا فهو من قولهم: نوَّس بالمكان إذا أقام به. اهـ. (¬5) البخاري برقم (6055). (¬6) زيادة من ن ب.

الحديث (¬1). وفي الترغيب والترهيب لأبي موسى المديني من حديث [ابن] (¬2) لهيعة عن أسامة بن زيد عن [أبي] (¬3) الزبير عن جابر قال: "مرّ نبي الله على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية فسمعهما يعذبان في البول والنميمة"، ثم قال: حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي، لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن ييبسا معنى، ولكن لما رآهما يعذبان لم يستجز (¬4) من لطفه وعطفه حرمانهما [في] (¬5) ذلك فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في [أصغر] (¬6) معاجمه [بلفظ] (¬7) أنه عليه السلام مرّ على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية فسمعهنَّ يعذبن في النميمة. قال: لم يروه عن (¬8) أسامة إلَّا ابن لهيعة. قلت: ورواه عيسى بن طهمان عن أنس أنه عليه السلام "مرّ ¬

_ (¬1) البخاري برقم (216). (¬2) في ن ب (أبي). (¬3) في الأصل (ابن)، والتصحيح من ن ب ج. (¬4) فتح الباري (1/ 321)، مع اختلاف في بعض العبارات ولا يؤثر على المعنى وقد ضعف الحديث أيضًا، ثم قال: وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه سبب التعذيب فهو من تخليط ابن لهيعة. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن ب (أوسط). (¬7) في ن ب (ولفظه). انظر: مجمع الزوائد (3/ 55) ومثله عند أحمد، قال الهيثمي: رجال أحمد الصحيح إلَّا في إسناد الطبراني ابن لهيعة. (¬8) في الأصل زيادة (ابن)، والتصحيح من ن ب ج. انظر: مجمع الزوائد (3/ 55).

بقبرين من بني النجار يعذبان في النميمة والبول" وفي بعض طرق حديث ابن عباس: "مرّ بقبرين من قبور الأنصار" ولعله بالمعنى إذ بنو النجار من الأنصار، ورواه أبو موسى من حديث أبي هريرة بلفظ: "قبرين: رجل لا يتطهر من البول، وامرأة تمشي بالنميمة". ولابن أبي شيبة [ما فيهما] (¬1) نداوة، وفي رواية لابن حبان: مر بقبر فوقف عليه وقال: "ائتوني بجريدتين" فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه. وفي تاريخ بخشل (¬2) من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: "دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - حائطًا لأم ميسرة فإذا بقبرين ... " الحديث، وفي آخره: ثم قال: "لا يرفعان عنهما حتى يجفا". قال الدارقطني: تفرد به أبو إسرائيل عن الأعمش، كذا قال. وقد رواه ابن أبي الدنيا (¬3) من حديث النضر بن (¬4) شميل عن أبي العوام (¬5) عن أبي الزبير (¬6) عن جابر به. ¬

_ (¬1) في ن ب ج (ما فيها)، وفي ابن شيبة (3/ 376) (ما بقيت فيه ندوة) مع الاطلاع على بقية ألفاظه هناك. (¬2) تاريخ واسط لبخشل (250)، ولفظه (ترفّه عنهما حتى يجفا). (¬3) في الصمت وأدب اللسان (309)، وذم الغيبة والنميمة (52). (¬4) أبو الحسن النحوي ثقة مات وله (82) سنة عام (204)، من كبار التاسعة تهذيب التهذيب (10/ 437، 438). (¬5) هو عبد العزيز بن ربيع الباهلي، ثقة، تقريب التهذيب (1/ 509). (¬6) هو محمد بن تدرس المكي، أبو الزبير مدلس مات سنة (126)، تقريب (2/ 207).

ورواه أبو الفضل الجوزي في ترغيبه وترهيبه (¬1) من حديث عطاء عن جابر. الخامس: قال القرطبي (¬2): اختُلف في هذين المعذبين هل كانا من أهل القبلة أم لا؟ فإن كانا منها فالمرجو نخفيف العذاب عنهما [بذلك] (¬3) مطلقًا، وإلاَّ فالمرجو تخفيف العذاب المطلق بهذين الذنبين المذكورين. قلت: حديث جابر الذي أسلفناه يدل للثاني. وقال ابن العطار في شرحه: لا يجوز أن يقال إنهما كانا كافرين أو منافقين؛ لأنهما لو كانا كذلك لم يَدْعُ لهما بتخفيف العذاب أو لم يرجه لهما، ولو كان من خواصه في حقهما لبينه. قلت: وردّ بعضهم على المرجئة القائلين بأن المعصية لا تضر مع الإِيمان وأن الإِيمان يمحو أثرها بهذا الحديث (¬4). وقال: كانا ¬

_ (¬1) (3/ 134) قال إبراهيم الحربي: قول أبي بكر بن نافع عن عطاء خطأ، وإنما هو عن الزبير. اهـ، وقوله: (أبوالفضل) خطأ، وإنما هو أبو القاسم. (¬2) أشار إليه في المفهم (2/ 651) بأنه سوف يشرحه في حديث جابر الطويل الذي في آخر مسلم. (¬3) في ن ب (لذلك). (¬4) اعلم أن المرجئة والوعيدية من القدرية بين طرفي نقيض، فالمرجئة المنسوبون إلى الإِرجاء لتأخيرهم الأعمال عن الإِيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، وقالوا: لا يضر مع الإِيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مس الإِيمان، =

مؤمنين ولذلك استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلاَّ فهو [منهي عن] (¬1) الاستغفار للمشركين. السادس: قوله عليه السلام عند مروره بهما: "إنهما ليعذبان" هو من الضمير الذي يفسره سياق الكلام إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه الضمير فهو من باب قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} (¬2)، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} (¬3) وأشباه ذلك وورد مصرحًا به عند ابن أبي شيبة (¬4) ¬

_ = وأن الإِيمان لا يتبعض وأن مرتكب الكبيرة كامل الإِيمان غير معرض للوعيد، ومذهبهم باطل ترده أدلة الكتاب والسنة. أما الوعيدية فهم القائلون بإنفاذ الوعيد وأن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب منها فهو خالد مخلد في النار، وهو أصل من أصول المعتزلة -أي إنفاذ الوعيد- وبه تقول الخوارج، قالوا؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، وقد توعد العاصين بالعقوبة، فلو قيل: إن المتوعد بالنار لا يدخلها لكان تكذيبًا لخبر الله. وأهل السنة توسطوا في ذلك فقالوا: إن مرتكب الكبيرة ناقص الإِيمان آثم وهو معرض نفسه للعقوبة وهو تحت مشيئة الله إذا مات من غير توبة إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه، ولكنه لا يخلد في النار بل يخرج منها بعد التطهير والتمحيص من الذنوب- اهـ. الكواشف الجلية للشيخ عبد العزيز السلمان (500/ 501). (¬1) في الأصل (مبني على)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) سورة ص: آية 32. (¬3) سورة القدر: آيه 1. (¬4) ابن أبي شيبة (3/ 376)، والمسند (4/ 172)، والطبراني (22/ 265، 275)، وقال ابن حجر في الفتح (10/ 471) ورواته موثقون والموجود =

لكن من حديث يعلى بن سيابة: "مرَّ عليه السلام بقبر يعذب صاحبه في غير كبيرة" وأن يجوز [أن] (¬1) تكون مبتدأ ويجوز أن تكون جوابًا لقسم محذوف، أي: والله إنهما ليعذبان. السابع: فيه دلالة على إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل السنة وجمهور المعتزلة كما ستعلمه، وهو [ما] (¬2) يجب اعتقاد حقيقته، وهو مما نقلته الأمة متواترًا. فمن أنكر عذاب القبر أو نعيمه فهو كافر؛ لأنه كذَّب الله تعالى ورسوله في خبرهما. وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي في طبقاته: إنما أنكر ذلك أولًا: ضرار بن عمرو (¬3) لما كان من أصحاب واصل ظُن ذلك ¬

_ = في المصنف يعلى بن شيابة، وأيضًا فتح البارى (10/ 471) بخلاف الموجود في تجريد أسماء الصحابة للدارقطني (2/ 144): يعلى بن سيابة الثقفي، وضبطه البخاري في تاريخه (2/ 314) هكذا: يعلى بن سَيَابة. وضبطه في التعجيل بالكسر، وهو مختلف في صحبته كما في الثقات لابن حبان (3/ 441). وانظر: الاختلاف في الاسم (الثقات) لابن حبان (3/ 440)، والإِصابة (6/ 353)، والتهذيب (11/ 401، 404). وللحديث شواهد عند أبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند جيد، وعند الطبري في التفسير عن أبي أمامة، وأكل لحوم الناس يصدق على الغيبة والنميمة. (¬1) في ن ب (بأن). (¬2) في ن ب (مما). (¬3) في ن ب ساقطة، ويستقيم الكلام بدونها.

مما أنكرته المعتزلة وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان: أحدهما: يجوّز ذلك كما وردت به الأخبار. والثاني: يقطع بذلك، قال: وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما ينكرون قول جماعة سنن الجهلة إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع سنن ذلك، ونقل القرطبي (¬1) عن الملحدة ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة إنكاره، ثم قال: والإِيمان به واجب حسب ما أخبر به الصادق - صلى الله عليه وسلم - وأن الله يحيي العبد ويرد إليه الحياة والعقل، بهذا نطقت الأخبار وهو مذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك يكمل العقل للصغار ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن الأرض تنضم [عليه] (¬2) كالكبير، وصار أبو الهذيل وبشر إلى أن سنن خرج عن سمة الإِيمان فإنه يعذب بين النفختين، ولأن المساءَلة إنما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخي والجبائي وابنه عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمن وأثبتوه للكافر والفاسق. وقال أكثر المعتزلة: لا يجوز تسمية الملائكة بمنكر ونكير (¬3) ¬

_ (¬1) التذكرة: (107). (¬2) في ن ب (عليهم). (¬3) تسمية الملكين بمنكر ونكير: ورد في حديث أبي هريرة مرفوعًا وهو مخرج في سنن الترمذي برقم (1071) وقال: حسن غريب. وابن أبي عاصم، في السنة برقم (2/ 402). والآجرى في الشريعة (365) قال الألباني في السلسة الصحيحة (3/ 380): جيد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وفي ابن إسحاق العامري كلام لا يضر. =

وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه إذا سئل، وتقريع الملكين له هو النكير. وقال بعضهم: عذاب القبر جائز وأنه يجري على [الموتى] (¬1) من غير رد أرواحهم إلى أجسادهم وأن الميت يجوز أن يألم ويحس وهذا مذهب جماعة من الكرامية. وقال بعض المعتزلة: إن الله يعذب [الموتى] (¬2) في قبورهم ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون فإذا حُشروا وجدو تلك الآلام، كالسكران والمغشي عليه، لو ضربوا لم يجدوا ألمًا (¬3) فإذا عاد ¬

_ = ووردت أحاديث كثيرة في مسألة رد الحياة والعقل منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقررانه ... " الحديث، وحديث البراء الطويل، وحديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر فتاني القبر، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أترد علينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال: "نعم كهيئتكم اليوم" قال: فبقيه الحجر. أخرجه ابن حبان (3105) فهذا دليل على إرجاع العقول والحياة. أما الصغير فالعلماء على قولين: أحدهم يقول: إنهم يمتحنون، وهو قول أكثر أهل السنة، والثاني: أنهم لا يمتحنون، وقالوا: إن المحنة لا تكون إلَّا لمن كلف في الدنيا. راجع الفتاوى (4/ 277 - 281). (¬1) في الأصل (المؤمن)، والتصحيح سنن ن ب ج. (¬2) في الأصل (المؤمنين)، والتصحيح سنن ن ب ج. (¬3) قال شيخ الإِسلام رحمه الله في الفتاوى (4/ 276): لا يجوز أن يقال ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب، مثلما يجده النائم في منامه، بل ذلك النعيم والعذاب أكمل وأبلغ وأتم، وهو نعيم حقيقي، أو عذاب =

عقلهم إليهم وجدوا تلك الآلام. وأما الباقون سنن المعتزلة مثل ضرار (¬1) بن [عمرو] (¬2) وبشر (¬3) المريسي ويحيى (¬4) بن أبي كامل وغيرهم: فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا. وهذه أقوال كلها فاسدة تردها الأحاديث الثابتة، والله الموفق. وإلى الإِنكار أيضًا ذهبت الخوارج وبعض المرجئة. ثم المعذب عند أهل السنة: الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه [أو] (¬5) إلى جزء منه، وخالف في ذلك محمد بن [حزم] (¬6) ¬

_ = حقيقي، ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان ذلك، إذا قال السائل: الميت لا يتحرك في قبره، والتراب لا يتغير، ونحو ذلك، مع أن هذه المسألة لها بسط يطول. (¬1) ضرار بن عمرو من رؤوس المعتزلة شيخ الضرارية، قال ابن حزم: كان ضرار ينكر عذاب القبر. الفهرست لابن النديم (214، 215)، الفرق بين الفرق (201)، وسير أعلام النبلاء (10/ 544). (¬2) في ن ب (عمر). (¬3) بشر بن غياث المريسي، نسبة إلى "مريس" قرية من قرى مصر- من المرجئة توفي سنة (218)، طبقات الإِسنوي (1/ 143)، الضعفاء (916). (¬4) يحيى بن أبي كامل من متكلمي الخوارج. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (جرير). قال ابن حزم رحمنا الله وإياه في المحلى (1/ 21، =

وابن كرام (¬1) وطائفة، فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهو فاسد توضحه الرواية السالفة (سمع صوت إنسانين يعذبان) فإن الصوت لا يكون [إلَّا] (¬2) من جسم حي (¬3) أجوف (¬4). فائدة: اختلف في فتنة القبر هل هي للمسلمين أو للكافرين؟ فذهب ابن عبد البر (¬5) إلى أنها لا تكون إلَّا لمؤمن أو منافق من ¬

_ = 22) مسألة 39: مسُاءلةُ الأرواح بعد الموت حق، ولا يحيا أحد بعد موته إلى يوم القيامة، ولا ترد الروح إلَّا لمن كان ذلك له آية، ولم يَروِ أحدٌ، أن في عذاب القبر تردُّ الروح إلى الجسد إلَّا المنهال بن عمرو .. إلخ. أقول: كلامه خلاف ما وردت به الأحاديث عن عدد من الصحابة، ويكفي في الرد هذا الحديث الذي سمع فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - صوت إنسانين. وانظر كتابه الدرة فيما يجب اعتقاده (206، 215، 282). (¬1) هو أبو عبد الله محمد بن كرام السجستاني توفي في سنة (255) بالقدس. انظر: مقالات الإِسلاميين (1/ 205)، الفصل لابن حزم (4/ 5، 111) (5/ 74، 75)، والملل والنحل (1/ 99، 104). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (أو). (¬4) انظر: ت 1 ص 241 من الحديث الثالث من كتاب الطهارة، والحديث في المسند من رواية أبي سعيد (3/ 3)، وأنس بن مالك (3/ 233)، وجابر بن عبد الله (3/ 346). (¬5) قال ابن عبد البر رحمنا الله وإياه في التمهيد (22/ 252) الآثار في هذا الباب إنما تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلَّا لمؤمن أو منافق، ممن كان في الدنيا منسوبًا إلى أهل القبلة ودين الإِسلام ممن حقن دمه بظاهر الشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل، فليس ممن يسأل عن ربه ودينه =

أهل القبلة ممن حقن الإِسلام دمه، وكذا قاله الحكيم الترمذي، ويدل له قوله عليه السلام: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فيقال: ما تقول في هذا الرجل؟ " يعني نفسه عليه السلام، والكافر مجاهر بعدم الاتباع. وزعم أبو محمد عبد الحق (¬1) أنه يعم المؤمن والمنافق والكافر، واختاره القرطبي لرواية "فأما المنافق أو الكافر -لا أدري أيهما قال-" (¬2). الثامن: في إضافة عذاب القبر إلى البول خصوصية دون غيره من المعاصي مع العذاب بسبب غيره أيضًا، إن أراد الله تعالى ذلك في حق بعض عباده، فإنه جاء في الحديث بإسناده [جيد] (¬3): ¬

_ = ونبيه، وإنما يسأل عن هذا أهل الإِسلام- والله أعلم. وقال في الاستذكار (7/ 120). أن الفتنة للمؤمن والعذاب للمنافق والكافر. اهـ. (¬1) هو أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسين الأشبيلي، ويعرف بابن الخراط ولد سنة عشر وخمسمائة، ومات في أواخر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. بغية الملتمس (378)، وتكملة الصلة (647)، وعنوان الدراية (3/ 10)، والإِعلام (4/ 52)، وما ذكره المصنف في كتابه العاقبة في ذكر الموت والآخرة (246). (¬2) الصحيح أنه يعم المؤمن والمنافق والكافر لحديث قتادة عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا وضع في قبره أتاه ملكان ... -وفيه- وأما المنافق فيقال له؛ ما كنت تقول في هذا الرجل؟ ... " إلخ، وهو مخرج في الصحيحين. (¬3) زيادة من ن ب ج.

"تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" (¬1)، وجاء أن بعضهم ضمه القبر أو ضغطه فسئل [أهله عنه] (¬2) فذكروا أنه كان فيه تقصير في الطهور. التاسع: قوله عليه السلام: "وما يعذبان في كبير". فيه (¬3) تأويلات: أحدها: ليس بكبير عندكم، وهو عند الله كبير، ومعناه أنه كبير في الذنوب وإن كان صغيرًا عندكم، يدل عليه رواية البخاري في كتاب الأدب (¬4) في باب: النميمة من الكبائر (وإنه لكبير كان أحدهما .. إلى آخره) وذكره هنا بلفظ: "وما يعذبان في كبير، بلى" أي بلى إنه كبير عند الله، مثل قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} (¬5). وسبب كبرهما أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة، وتركها كبيرة بلا شك، والمشي بالنميمة والسعي بالفساد من أقبح القبائح لا سيما مع قوله: "كان يمشي بالنميمة" بلفظ كان التي هي للحال المستمرة غالبًا. ثانيها: أنه ليس بأكبر الكبائر وإن كان كبيرًا، إذ الكبائر متفاوتة ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (من 47)، والآجري في الشريعة (362، 363)، والحاكم (1/ 183)، وأحمد في مسنده (2/ 326، 388، 389)، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة. ووافقه الذهبي. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في ن ب زيادة (ثلاث). (¬4) حديث رقم (6055). (¬5) سورة النور: آيه 15.

فيحمل كبير على أكبر، ويكون المراد به الزجر والتحذير لغيرهما، أي لا يتوهم (¬1) أن التعذيب لا يكون إلَّا في الكبائر الموبقات، فإنه يكون في غيرهما (¬2). ثالثها: أنه ليس كبيرًا في زعمهما دون غيرهما. رابعها: أنه ليس كبيرًا تركه عليهما، إذ التنزه من البول وترك النميمة لا يشق، قال [المازري] (¬3): الذنوب تنقسم إلى ما يشق تركه طبعًا كالملاذ المحرمة، وإلى ما ينفر منه طبعًا كتناول السموم، وإلى ما لا يشق تركه طبعًا كالغيبة والبول. خامسها: أن النميمة من الدناءات المستحقرة بالإِضافة إلى المروءة ولذلك التلبس بالنجاسة لا يفعله إلَّا حقير الهمة، فلعل قوله: "وما يعذبان في كبير" إشارة إلى حقارتهما بالنسبة إلى الذنوب، وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: "عذابًا شديدًا في ذنب هين". سادسها: أنه يحتمل أن جبريل عليه السلام نزل عليه إثر هذه الكلمة وأعلمه أن ذلك كبير فقاله، حكاه ابن التين في شرح البخاري. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (أحد). (¬2) استدلَّ ابن بطال برواية الأعمش على أن التعذيب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر، قال: لأن الاحتراز من البول لم يرد فيه وعيد، يعني قبل هذه القصة. اهـ. الفتح الرباني. (¬3) في الأصل ون ب (الماوردي)، وما أثبت من ج، انظر: المعلم (1/ 366).

سابعها: أنه ليس كبيرًا عند الله وهو كبير لو رأيتموه. ثامنها: أن معناه: وما يعذبان معًا في كبير، وإنما المعذب في الكبير أحدهما وهو صاحب النميمة، وفيه نظر. تاسعها: أنه ليس من الكبائر عند الله ويكون التعذيب عليه من باب التنبيه على التعذيب بالكبائر وأولى تحذيرًا من الذنوب مطلقًا. العاشر: "في" من قوله عليه السلام ["في كبير"] (¬1) للسبب، أي وما يعذبان بسبب أمر كبير، وقد أنكر أن تكون (في) للسبب جماعة من الأدباء، والتصحيح ثبوته لهذا الحديث وغيره من الأحاديث؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإِبل" (¬2). فإن النفس ليست ظرفًا للإِبل، وقوله عليه السلام: "دخلت امرأة النار في هرة" (¬3) [أي بسبب هرة] (¬4). وكذا قولهم: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) النسائي (2/ 252)، والدارمي (2/ 189، 190)، والحاكم (1/ 395، 397)، والبيهقي (8/ 28)، والصواب في الحديث الإِرسال، وإسناده مرسلًا صحيح. اهـ، من إرواء الغليل للألباني (7/ 268، 303). (¬3) ورد هذا الحديث من رواية ابن عمر عند البخاري (2365)، ومسلم (2022/ 4) (2242)، والدارمي (2/ 330)، والبيهقي (5/ 214) (8/ 13). ومن رواية أبي هريرة عند البخاري بالموضع السابق، ومسلم (4/ 2110) (2619)، وابن ماجه (4256)، والبغوي (1670، 4184)، وأحمد (2/ 261، 317، 457، 467، 479، 507). (¬4) زيادة من ن ج.

أحب في الله وأبغض في الله، أي أحب بسبب طاعة الله، وأبغض بسبب معصية الله. الحادي عشر: "أما" حرف تفصيل نائب عن حرف الشرط وفعله، تقول لمن قال: زيد عالم كريم مثلًا: أما زيد فعالم، أي: مهما يكن من شيء فزيد عالم، فناب (أما) مناب حرف الشرط وهو (مهما) والمجزوم وهو (يكن) وما تضمنه من الفاعل، فلذلك ظهر بعده الجواب دون الشرط لقيامه مقامه، وأجيب بالفاء كما يجاب بالشرط. وجوابه هنا: الفاء في قوله: "فكان يمشي بالنميمة" وقد تستعمل "أما" بمعنى "كان" فترفع الاسم وتنصب الخبر، ومنه قوله: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم [يأكلهم] (¬1) الضبع أي: لأن كنت ذا "نفر"، فأنت "اسمها"، وذا "خبرها" لقيامها مقام كان، وقوله تعالى: {أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)} (¬2). ليس من هذا، بل هما كلمتان "أم" المنقطعة و"ما" الاستفهامية، وأدغمت الميم في الميم للتماثل. الثاني عشر: قوله عليه السلام: "أما أحدهما فكان لا يستتر من البول". معنى (لا يستتر) على وجهين: ¬

_ (¬1) في ن ب (تأكلهم). البيت للعباس بن مرداس يخاطب فيه الخفاف بن ندبه أبا خراشة، من شواهد كتاب سيبويه (1/ 148). (¬2) سورة النمل: آية 84.

أحدهما: أن يحمل على حقيقتهما من الاستتار عن الأعين، ويكون العذاب على كشف العورة، وأقربهما كما قال الشيخ تقي الدين (¬1)، أنه لا يجعل بينه وبين القبلة حجابًا من ماء أو حجارة، فيكون مجازًا لكونه عبَّر بالتستر بالماء أو الأحجار في إزالة النجو عن الاستتار عن الأعين في كشف العورة إذ هو حقيقة فيه لما بين الحقيقة والمجاز هنا من العلاقة، وهي أن المستتر عن الشيء فيه بعد واحتجاب عنه، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول، قال: وإنما رجحتا المجاز وإن كان الأصل الحقيقة لوجهين: أحدهما: أنه لو كان المراد العذاب على مجرد كشف العورة لكان أمرًا خارجًا عن البول بحصول العذاب على كشفها وإن لم يكن بول، فتبقى خصوصية البول مطروحة عن الاعتبار، والحديث دال على خصوصية البول بعذاب القبر تصريحًا فالحمل عليه أولى. الثانى: أن لفظة "مِن" في قوله: "لا يستتر من البول" حين (¬2) أضيفت إليه لابتداء الغاية حقيقة أو مجازًا بمعنى ما يرجع إلى معنى ابتدائها، وهو أن عدم الاستتار سبب العذاب إلى البول، إذ هو ابتداء سببه من البول وحمله على كشفها فقط يزيل هذا المعنى. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 269). (¬2) العبارة هكذا في المرجع السابق: فإن لفظة "من" لما أضيفت إلى البول- وهي غالبًا لابتداء الغاية حقيقة، أو ما يرجع إلى معنى ابتداء الغاية مجازًا- تقتضي أن نسبة الاستتار- الذي عدمه سبب العذاب- إلى البول، بمعنى أن ابتداء سبب عذابه من البول، وإذا حملناه على كشف العورة زال هذا المعنى. اهـ.

[قلت] (¬1): وبعضهم أجاب عن تقييده بالبول بأنه الغالب في الناس. الثالث عشر: هذه اللفظة أعني "يستتر" رويت على وجوه [أُخر] (¬2): أحدها: "لا يستنزه" بالزاي والهاء. وثانيها: "لا يستبرىء من البول" بالباء الموحدة وبالهمز بعد الراء، ومعناهما [لا يمسحه] (¬3)، ولا يتحرز منه، قال النووي في شرح مسلم (¬4): والروايات الثلاث في البخاري وغيره، أعني رواية المصنف وما ذكرناه. ثالثها: "لا يستنثر " بنون ثم مثلثة، أي [لا] (¬5) ينثر البول عن محله كما ينثر الماء من أنفه بعد استنشاقه. رابعها: مثله إلَّا أنه بمثناة فوق بدل المثلثة، ومعناها: إمرار الأصابع على مجرى البول حتى يخرج ما فيه (¬6)، وروى وكيع بلفظ: ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) في ن ج ساقطة. (¬3) في ن ب غير واضحة. (¬4) (3/ 201). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) وفي ترتيب القاموس (4/ 319): النثر والنتر هو جذب بقية البول من ذكره بجفا، واستنتر من بوله: اجتذبه واستخرج بقيته من الذكر بعد الاستنجاء. وكذا مسح ذكره من حلقة دبره، فيضع إصبعه الوسطى تحت الذكر والإِبهام فوقه، ويمر بهما إلى رأسه، فما ذكر من النتر والمسح بدعة. وقد أنكره شيخ الإِسلام وابن القيم رحمهما الله وذكرا أنه يحدث السلس، الفتاوى (21/ 106). أما حديث: "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثًا" فقد =

"لا يتوقى" أي لا يتنزه منه، ورواه البرقي في تاريخه: "لا يتقي بوله"، ورواه أبو موسى أيضًا: "لا يتطهر من البول" فهذه ثمان روايات وكلها يقوي ترجيح الاستنزاه منه لا الاستتار، ويستدل بالرواية الأولى على اشتراط طهارة الخبث، وبالثانية على طلب الاستبراء. وكلام القاضي حسين والبغوي (¬1) يفهم وجوبه، والمعروف عندنا استحبابه. الرابع عشر: وقع في إحدى روايتي البخاري هنا: "لا يستتر من بوله"، قال ابن حزم (¬2): ورواية من روى "من بوله" يعارضها من هو فوقهم فقالوا: "من البول". قلت: لكنها فرد من أفراد ذلك العام موافق له وهو لا يقتضي التخصيص. الخامس عشر: قوله عليه السلام: "من البول" يؤخذ منه نجاسة الأبوال مطلقًا قليلها وكثيرها، لشمول البول وهو عام يتناول جميع الأبوال وأن القليل منها والكثير غير معفو عنه، سوى ما استثنى من أثر الاستنجاء في محله بعد الإِنقاء بالحجر على ما دلت عليه الأحاديث في ذلك، وهو مذهبنا ومذهب مالك وعامة الفقهاء، ¬

_ = ضعفه شيخ الإِسلام وغيره؛ لأنه من رواية عيسى بن يزداد بن فسأة. وقال النووي في شرح المهذب: اتفقوا على ضعفه، وكذا التنحنح والمشي بدعة، وتفقده الفيئة بعد الفيئة من الوسواس. (¬1) شرح السنة (1/ 372). (¬2) انظر: المحلى (1/ 177، 180).

وسهل فيه القاسم بن محمد، ومحمد بن علي، والشعبي. وصار أبو حنيفة وصاحباه: إلى العفو عن قدر الدرهم الكبير اعتبارًا بالمشقة وقياسًا على المخرجين. وقال الثوري: كانوا يرخصون في القليل من البول. ورخص الكوفيون: في مثل رؤوس الإِبر من البول (¬1). وحكي عن مالك أيضًا: أن غسل القليل للاستحباب. وقال صاحب الجواهر: عندهم البول والعذرة من بني آدم الآكلين الطعام نجسان، وطاهران من كل حيوان مباح، [ومكروهان] (¬2) من المكروه أكله. وقيل: نجسان (¬3). السادس عشر: قوله عليه السلام: "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة". قال أهل اللغة: يقال: ثم الحديث ينِمه وينُمه بالكسر والضم نَمًّا فهو [نامّ و] (¬4) نمام [ونموم] (¬5) (¬6) ونميمة ونم نم. ¬

_ (¬1) انظر هذا وما قبله في المفهم (2/ 650). (¬2) في الأصل وج (مكروهًا)، وما أثبت من ن ب. (¬3) انظر: شرح الآبي لمسلم (2/ 63)، للاطلاع على هذا وما قبله. (¬4) زيادة من عمدة الحفاظ (594). (¬5) في الأصل (نموه)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) في ترتيب القاموس (4/ 445) زيادة: ومِنم كمجن من قوم نمين وأنماء ونمٍّ وهي نمة. اهـ.

والاسم: النميمة (¬1)، ونما الحديث إذا ظهر، فهو لازم ومتعد. قال ابن سيده (¬2): وهي التوريش والإِغراء، ورفع الحديث على وجه الإِشاعة والإِفساد. وفي الجامع: نم الرجل، إذا أظهر ما عنده من الشر. وفي مجمع الغرائب (¬3): هو الساعي بين الناس بالشر. وقال النووي في شرح مسلم (¬4): حقيقتها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإِفساد. وهي محرمة بالنصوص والإِجماع، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} (¬5). وقال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} (¬6). ¬

_ (¬1) في المصباح المنير (626) زيادة "والنميم". (¬2) المخصص (3/ 90). (¬3) تأليف: أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي المتوفى سنة (529)، ذكره ابن خلكان في الوفيات. (¬4) (2/ 112) (3/ 201). (¬5) سورة الهمزة: آية 1. (¬6) سورة القلم: آية 11. وفي حاشية ن ج: "نزلت في الوليد بن المغيرة في أحد الأقوال، قاله الطرطوشي. والهماز: المغتاب. وقيل: الذي يغمز بأخيه في المجلس، وهي الهمزة اللمزة. وذكر الله تعالى في كتابه أصناف الكفر والإِلحاد والفسق والظلم وغيرهم ولم ينسب أحدًا منهم إلى النمام في هذه الآية".

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة نمّام" (¬1) متفق عليه من حديث حذيفة رضي الله عنه. وفي لفظٍ "قتات" وهو النمام. وحُمل على ما إذا استحل [بغير] (¬2) تأويل مع العلم بالتحريم، أو لا يدخلها دخول الفائزين (¬3)، أما إذا كان فعلها نصيحة في ترك مفسدة أو دفع ضرر وإيصال خير يتعلق بالغير لم تكن محرمة ولا مكروهة بل قد تكون واجبة أو مستحبة، كما يقول في الغيبة إذا كانت نصيحة [لدفع] (¬4) مفسدة أو تحصيل مصلحة شرعية، ولو كان (¬5) شخصًا اطَّلع من آخر على قول يقتضي إيقاع ضرر بإنسان وإذا نقل ذلك القول إليه احترز عنه وجب عليه ذكره له، [ويقال] (¬6) من هذا: نمَى، بالتخفيف، ومن الأول: نَمّى، بالتشديد كما أسلفناه، ولا اختلاف في هذا كما قاله الهروي. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث حذيفة، البخاري (10/ 294) في الأدب، باب: ما يكره من النميمة، ومسلم (105) (109) في الإِيمان، باب: بيان غلظ تحريم النيمة. (¬2) في ن ب (من غير)، وما أثبت يوافق ما في شرح مسلم (2/ 112). ذكر هذا النووي. (¬3) والأولى عدم تفسيرها ولذلك كان سفيان رحمه الله يكره قول من يفسره بليس على هدينا ويقول بئس هذا القول، يعني بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر والله أعلم. اهـ. من شرح مسلم (2/ 108). (¬4) في ن ب (رفع). (¬5) في ن ب (ولو أن). (¬6) في الأصل مكررة.

وقال الغزالي (¬1) رحمه الله: النميمة إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول عنه، كقوله: فلان يقول فيك كذا، وليست النميمة مخصوصة بذلك، بل حدها: كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإِيماء ونحوها، وسواء كان المنقول من الأعمال أو الأقوال، وسواء كان عيبًا أو غيره، فحقيقة النميمة: إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، قال: وينبغي للإِنسان أن يسكت عن كل ما يراه من أحوال الناس، إلَّا ما كان في حكايته فائدة لمسلم أو دفع مصيبة، وإذا رآه يخفي مال نفسه فذكره [فهو] (¬2) نميمة. قال: فكل من حُملت [إليه] (¬3) النميمة، وقيل له: قال فيك فلان كذا، لزمه ستة أمور: أولها: أن لا يصدقه؛ لأن النمام فاسق مردود الخبر .. ثانيها: أن تنهاه عن ذلك وتنصحه وتقبح فعله. ثالثها: أن تبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب. رابعها: أن لا يظن بالمنقول عنه السوء لقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره النووي في شرح مسلم عنه (2/ 112)، وإحياء علوم الدين مع شرحه إتحاف السادة المتقين (9/ 347) بمعناه. (¬2) في ن ب (فذلك). (¬3) زيادة من ن ب ج، ومثبتة في شرح مسلم (2/ 113). (¬4) سورة الحجرات: آية 12.

خامسها: أن لا يحملك ما حكى لك [على] (¬1) التجسس، والبحث عن تحقيق ذلك، قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} (¬2). سادسها: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا تحكي نميمته. لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم (¬3) وقد حكي أن رجلًا ذكر لعمر بن عبد العزيز [رجلًا] (¬4) بشيء، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬5)، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} (¬6)، وإن شئت عفونا عنك، [قال] (¬7): العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (عن). (¬2) سورة الحجرات: آية 12. (¬3) نسبه سيبويه في "كتابه" (3/ 41)، باب الواو للأخطل. قال عبد السلام هارون فيه: والمشهور أنه لأبي الأسود الدؤلي، ملحقات ديوانه (130)، ونسب أيضًا إلى سابق البربري، والطرماح، والمتوكل الليثي. انظر: الخزانة (3/ 617)، وشرح شواهد المغني (261)، والعيني (4/ 393)، والمقتضب (2/ 16)، وابن يعيش (7/ 24)، والتصريح (2/ 238)، والأشموني (2/ 207)، والمؤتلف (179)، ومعجم المرزباني (410). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) سورة الحجرات: آية 6. (¬6) سورة القلم: آيه 11. (¬7) في ن ب (فقال).

وحكى: أن إنسانًا رَفع إلى الصاحب [بن] (¬1) عباد رقعة يحضه فيها على أخذ مال يتيم، وكان مالًا كثيرًا، فكتب على ظهرها: النميمة قبيحة، وإن كانت صحيحة، والميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمَّره الله، والساعي لعنه الله. وذُكر السعاة عند المأمون فقال: لو لم يكن من عيبهم إلَّا أنهم أصدق [ما يكونون] (¬2) أبغض [ما يكونون] (¬3) عند الله. فائدة: قال كعب الأحبار: أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى عليه السلام فخرج موسى يستسقي ببني إسرانيل فلم يسقوا (¬4)، حتى خرج الثالثة فأوحى الله إليه: إني لا أستجيب لك ولا لمن معك فإن فيكم نمامًا، فقال موسى: من هو يا رب حتى نخرجه من بيننا؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أنهاكم عن النميمة وآتيها، فباتوا فأرسل الله عليهم الغيث. وقال يحيى بن زيد: قلت للحسن بن علي لمَّا سُقي السم: أخبرني من سقاك؟ فدمعت عيناه وقال: أنا في آخر قدم من الدنيا وأول قدم من الآخرة تأمرني أن أغمز. ولما لقي أسقف نجران عمر بن الخطاب فقال: يا أمير ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في إحياء علوم الدين وذكرها هنا مختصرة. (¬2) في ن ب (ما يكون). (¬3) انظر الحاشية السابقة. (¬4) في ن ب زيادة (فخرجوا فلم يسقوا)، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل.

المؤمنين احذر قاتل الثلاثة، فقال عمر: ومن هو؟ قال: الرجل [يلقى] (¬1) الإِمام [بالحديث] (¬2) الكذب فيقتله الإِمام يكون قد قتل نفسه وصاحبه وإمامه، فقال عمر: ما أراك أبعدت. السابع عشر: روى أحمد في مسنده من حديث أبي بكرة بإسناد على شرط الصحيح أن عذابهما كان من الغيبة والبول (¬3). وفي تاريخ البرقي (¬4) من حديث يعلى بن سيابة: "أحدهما يأكل لحوم الناس ويغتابهم، والآخر لا يتقي بوله"، فذكرت الغيبة هنا بدل النميمة لاشتراكهما في ذكر المرء بسوء من ورائه، وإلى هذا يشير قتادة: عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول (¬5). الثامن عشر: الجريدة: السعفة، كما جاء في بعض الروايات من حديث أنس، وجمعها جريد، والعسيب من الجريد: ما لم ينبت عليه خوص، فإن نبت فهو سعف، وفي صحيح مسلم (¬6): "فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين"، و"الباء" في هذه الرواية زائدة ¬

_ (¬1) في ن ب ج (يأتي). (¬2) في ن ب (الحديث). (¬3) مسند أحمد (5/ 35، 36)، وصححه ابن حجر في الفتح (10/ 470). (¬4) انظر التعليق رقم ت (4) ص (515). (¬5) قال ابن عبد البر في التمهيد رحمنا الله وإياه (22/ 252) بعد ذكره: وهذا لا حجة فيه، لانه ليس بمسند ولا متصل؛ ولا يحتج بمثله. اهـ، محل المقصود منه. انظر: إتحاف السادة المتقين (9/ 293، 345). (¬6) مسلم، النووي (3/ 200).

للتوكيد، واثنين: منصوب على الحال، وزيادة "الباء" في الحال صحيحة معروفة، وقد أسلفنا رواية ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام: "مر بقبر فوقف عليه وقال: ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه والاُخرى عند رجليه" (¬1) والظاهر أن هذه قصة أخرى. التاسع عشر: وضعه - صلى الله عليه وسلم - الجريدتين على القبر يحتمل أوجهًا: أحدها: أنه سأل الشفاعة لهما ورجا [إجابتها] (¬2) وارتفاع العذاب أو تخفيفه عنهما مدة رطوبتهما لبركته - صلى الله عليه وسلم - فأجيبت [شفاعته] (¬3) [بالتخفيف] (¬4) عنهما إلى أن ييبسا، ويؤيده رواية مسلم في آخر كتابه في الحديث الطويل، حديث جابر في صاحبي القبرين: "فأحببت بشفاعتي أن [يرفه] (¬5) عنهما ما دام [الغصنان] (¬6) رطبين" (¬7) وإن كانت قضية أخرى فيكون المعنى فيهما واحدًا. ثانيهما: أنه كان يدعو لهما تلك المدة. ثالثها: أنه أوحِي إليه التخفيف عنهما في تلك المدة، قاله الماوردي. ¬

_ (¬1) أحمد في مسنده، الفتح الرباني (8/ 132). (¬2) في ن ب (إجابتهما). (¬3) في ن ب (شفاعتي). (¬4) في ن ب (أن ترد). (¬5) في الأصل وب (ترد)، وفي ج (ترقد)، وصُحح من مسلم. (¬6) في ن ج (القضيان)، وصُحح من مسلم. (¬7) مسلم، النووي (18/ 145).

رابعها: أنه بتسبيح الجريدتين ما دامتا رطبتين (¬1)، ويؤيده ¬

_ (¬1) الصحيح أن حديث وضع الجريدة على القبر من خصائصه وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها من عدة أمور: 1 - حديث جابر المخرج في آخر صحيح مسلم وفي: "إذ إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين" فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسب شفاعته - صلى الله عليه وسلم - ودعائه لا بسبب النداوة، وسواء اتحدت قصة ابن عباس مع جابر، أو تعددت، فإنه على كلا الاحتمالين فالعلة واحدة في القصتين للتشابه الموجود بينهما، ولأن كون النداوة سببًا لتخفيف العذاب عن المسند مما لا يعرف شرعًا ولا عقلًا، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذابًا في قبورهم الكفار الذين يدفنون في مقابر أشبه ما تكون في الجنان. 2 - قولهم: إن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله، فإذا يبست انقطع تسبيحها، فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. فعم كل شيء مخلوق. 3 - في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في النداوة وبالأحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب، وذلك قوله: "ثم دعا بعسيب فشقه اثنين"، يعني طولًا، فإنه من المعلوم أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة. 4 - لو كانت النداوة مقصودة بالذات، لفهم ذلك السلف الصالح ولحملوا بمقتضاه، ولو ضعوا الجريد والآس ونحو ذلك على القبور عند زيارتهم لها، ولو فعل ذلك لاشتهر ونقل عن الثقات إلينا. 5 - أن حصول العذاب على المسند وعدمه من الأمور الغيبية التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه الله، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. اهـ من كتاب الجنائز للألباني بتصرف (ص 201، 202).

رواية ابن عمر من عند الطبراني " [ولن يعذبا] (¬1) ما دامت هذه رطبة" (¬2)؛ لأن اليابس لا تسبيح له على قول كثيرين من المفسرين وأكثرهم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬3) فإنهم قالوا: معناه: وإن من شيء حي، وحياة كل شيء تسبيحه، فحياة الخشب ما لم ييبس (¬4) والحجر ما لم [يقطع] (¬5)، وقُدم إلى الحسن مائدة فقيل له: يا أبا سعيد هل يسبح هذا الخشب؟ قال: كان يسبح وأما الآن فلا (¬6). وذهب المحققون منهم إلى أنه على عمومه. ثم اختلف هؤلاء: هل يسبح حقيقة أم [] (¬7) فيه دلالة على [الصانع] (¬8) فيكون مسبحًا منزهًا بصورة [حاله] (¬9)؟ والمحققون على ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) قال في مجمع الزوائد (1/ 213): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جعفر بن ميسرة وهو منكر الحديث. (¬3) سورة الإِسراء: آية 44. (¬4) انظر: شرح مسلم للنووي (3/ 202). (¬5) في ن ج (الشجر). (¬6) ذكر هذا البغوي في شرح السنة (1/ 372)، والأبي في شرح مسلم (4/ 73). (¬7) في الأصل زيادة (لا)، وما أثبت من ن ب، ويوافق ما في شرح النووي (3/ 202). (¬8) في ن ب (السامع)، وما أثبت يوافق شرح مسلم. (¬9) في الأصل (حالية)، وما أثبت من ن ب ج، ويوافق شرح النووي (3/ 202).

الأول، وقد أخبر الله تعالى عن الحجارة أن منها ما يهبط من خشية الله، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به [فوجب] (¬1) المصير إليه. العشرون: استحب العلماء كما نقله النووي وغيرهم عنهم: قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث؛ لأنه إذا رُجي التخفيف بتسبيح الجريد [فالقرآن] (¬2) أولى (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب (يوجب). انظر: عمدة الحفاظ (229). (¬2) في ن ب (القراءة). (¬3) أولًا: قراءة القرآن عند زيارة القبور مما لا أصل له في السنة، بل الأحاديت المذكورة في المسألة السابقة تشعر بعدم مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة لفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلمها أصحابه، لا سيما وقد سألته عائشة رضي الله عها وهي من أحب الناس اليه - صلى الله عليه وسلم - عما تقول إذا زارت القبور، فعلمها السلام والدعاء، ولم يعلمها أن تقرأ الفاتحة ولا غيرها، فلو كانت القراءة مشروعة لما كتم ذلك عنها. ومما يقوي عدم المشروعية الأحاديث الآتية: منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة". أخرجه مسلم، ففي هذا الحديث إشارة إلى أن المقابر ليست موضعًا للقراء شرعًا، فلذلك حض على قراءة القرآن في البيوت، ونهى عن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها شيءٌ. ثانيًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا". ففي هذا الحديث إشارة إلى أنها ليست موضعًا للصلاة وهو الذي قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". فاستثنى من الأرض أماكن المقابر، قال شيخ الإِسلام رحمه الله: "أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند =

وفي وصول القرآن للميت خلاف بين العلماء وقد أفرد بالتصنيف، ومذهب أبي حنيفة [وأحمد] (¬1) وصوله (¬2)، ولهما ¬

_ = القبور" عكس ما يفعله المشركون والنصارى ومن تشبه بهم، ولذلك كان مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك الشافعي وغيرهم كراهة القراءة عند القبور، وهو مذهب الإِمام أحمد، قال أبو داود في مسائله (ص 158): سمعت أحمد سئل عن القراءة: عند القبر؟ فقال: لا". فائدة: حديث: "من مر بالمقابر فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} إحدى عشر مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات"، فهو حديث باطل موضوع. اهـ، من كتاب الجنائز للألباني (ص 192). (¬1) زيارة من ن ب. (¬2) سئل شيخ الإِسلام رحمنا الله وإياه عن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. وقوله: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث ... " إلخ السؤال، فأجاب: الحمد لله رب العالمين، ليس في الآية ولا في الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له وبما يعمل عنه من البر، بل أئمة الإِسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإِسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإِجماع. فمن خالف في ذلك كان من أهل البدع. وقال في موضع آخر عن الاستئجار لقراءة القرآن وإهداء الثواب: لا يصح ذلك فإن العلماء تنازعوا في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، إلى أن قال: فإن هذه لا يجوز إقاعها إلَّا على وجه التقرب إلى الله عز وجل. وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه، لا ما فعل من أجل عروض الدنيا. للاستزادة: راجع الفتاوى من =

أحاديث وآثار في ذلك، وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (¬1) إما منسوخة بقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬2) أو أن السلام في الإنسان بمعنى "على" أو غير ذلك من أقوال المفسرين فيها. والمشهور من مذهبنا عدم وصول ثواب القراءة إليه كما بسطته في شرح المنهاج، والمختار الوصول. وقيل: إن قرئ عند القبر وقيل وإلا فلا. وكذا حكى الخلاف الفاكهي المالكي في شرح الرسالة قال: وذهب بعض الشافعية -وأظنه الإِمام أبا المعالي- إلى أن القارئ إن نوى في أول قراءته [أن يكون] (¬3) ثواب ما يقرأه لفلان الميت، كان ذلك له وإلاَّ فلا [إذ ليس له] (¬4) أن ينقل ثوابه لغيره. الحادي والعشرون: ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن ¬

_ = (ص 306/ 324/ م 24). قال شيخ الإِسلام رحمنا الله وإياه في الفتاوى (24/ 312): أما الآية فللناس فيها أجوبة متعددة منها: إنها تختص بشرع من قبلنا، قيل: إنها مخصوصة، وقيل: إنها منسوخة. وقيل إنها تنال السعي مباشرة وسببًا والإِيمان من سعيه الذي تسبب فيه. أي إيمان ذريته، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك؛ بل ظاهر الآية حق فإنه قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. ولا تخالف بقية النصوص. (¬1) سورة النجم: آية 39. (¬2) سورة الطور: آية 21.، وفي الأصل (ولأتبعناهم ذرياتهم). (¬3) زيارة من ن ب. (¬4) في ن ب (فليس له).

الحصيب الصحابي رضي الله عنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان، ففيه أنه رضي الله عنه (¬1) تبرك بفعل مثل (¬2) فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي: وقد عمل الناس في بعض الآفاق تبسيط الخوص على القبر، لعلهم فعلوه اقتداء بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) وصية بريدة ثابتة عنه، قال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا عفان ثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا عاصم الأحول، قال: قال مورق: أوصى بريدة أن توضع "في قبره" جريدتان فكان أن مات في أدنى خراسان فلم توجد إلَّا في جوالق حمار، وعلقه البخاري في صحيحه مجزومًا، (3/ 222) فتح الباري. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: كأن بريدة حمل الحديث على عمومه ولم يره خاصًا بذينك الرجلين. قال ابن رشد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاصٌّ بهما، فلذلك عقّبه بقول ابن عمر: إنما يظله عمله. قال الألباني في كتاب الجنائز (203): ولا شك أن ما ذهب إليه البخاري هو الصواب لما سبق بيانه، وراى بريدة لا حجة فيه؛ لأنه رأى، والحديث لا يدل عليه حتى لو كان عامًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع الجريدة في القبر، بل عليه كما سبق "وخير الهدي هدي محمد". اهـ. قال ابن باز حفظه الله في تعليقه على الفتح (1/ 320): الصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي من استنكار الجريد ونحوه على القبور؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إلَّا في قبور مخصوصة اطلع على تعذيب أهلها، ولو كان مشروعًا لفعله في كل القبور، وكبار الصحابة كالخلفاء لم يفعلوه، وهم أعلم بالسنة من بريدة، رضي الله عن الجميع، فتنبه. (¬2) في ن ب زيارة (ما).

وأما الخطابي (¬1): فإنه أنكر ما يفعله العوام في كثير من البلدان [من] (¬2) فرش الخوص في القبور متعلقين بهذا الحديث، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه، قال: والذي وقع في هذا الحديث إنما كان من ناحية التبرك بأثره ودعائه بالتخفيف عنهما وليس ذلك من [أجل] (¬3) أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس. وكذا قال الطرطوشي (¬4) في سراج الملوك: لما ذكر هذا الحديث، قال عقبه: وذلك لبركة يده، وكذا قال في [كتابه] (¬5) "تحريم النميمة"، والقاضي عياض لما نقل كلام الخطابي وفعل بريدة قال: جعل الجريدة والخوص اليوم استنانًا بهذا الحديث لا يصح؛ لأنه عليه السلام علّل غرزها على القبر بعلة معينة لا يُطلع عليها [وهي] (¬6) قوله: "إنهما ليعذبان" [وعلم] (¬7) عليه السلام إنهما ليعذبان فلذلك فعل ما فعل، ولا نفعله نحن الآن؛ لأنا لا نعلم هل الميت يعذب أو هو ممن غفر له، كما قلناه في حديث المحرم: ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 27). (¬2) في ن ج (في). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) هو الإِمام أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب المعروف بابن أبي رندقة، توفي رحمه الله ليلة السبت لأربع بقين من جمادى الأولى سنة (520) بالإِسكندرية. سير أعلام النبلاء (19/ 490). (¬5) في ن ب (كتاب). (¬6) في ن ب (وقو). (¬7) في ن ب (فعلم).

"لا تمسوه طِيبًا لأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، وصوّب مقالة الخطابي. وتبعهم ابن الحاج المالكي أيضًا فقال: ذلك راجع إلى بركة ما وقع في لمسه عليه الصلاة والسلام لتلك الجريدة، قال: فليحذر من غرس شجرة أو ريحان أو [غيرهما] (¬1) عند قبره، قال: وما نقل عن أحد الصحابة فلم يصحبه عمل ما، فهم إذ لو فهموا ذلك لبادروا بأجمعهم إليه ولكان يقتضي أن يكون الدفن في البساتين مستحبًا. قلت: وأما القرطبي [فذكر] (¬2)، وفي تذكرته (¬3) عن علمائهم أنه مستفاد من هذا -يشير إلى وضع الجريدتين- غرس الأشجار وقراءة القرآن على [القبور] (¬4)، وإذا خفف عنهم بالأشجار بقراءة الرجل المؤمن القرآن؟ قال: والعجب من الخطابي في قوله: لا أصل له ولا وجه له، مع هذا [الحديث] (¬5) المتفق عليه، [ثم رأيت] (¬6) [الحافظ أبو عبد الله الجوزقاني استنبط ذلك أيضًا في أثناء كتابه في الموضوعات: في الحديث دلالة على استحباب وضع الجريدة الرطبة على ما فعله - صلى الله عليه وسلم -] (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) في ن ب (ونحو ذلك). (¬2) في ن ب ج (فنقل). (¬3) التذكرة في أحوال الموتى والآخرة (67). (¬4) في الأصل (القبول)، والتصحيح من ن ب ج والتذكرة. (¬5) زيادة من ن ب ج. (¬6) زيادة من ن ب ج. (¬7) زيادة من ن ج. (¬8) الأباطيل والمناكير (1/ 361). وانظر: التعليق (4/ 348) (1/ 352).

الثاني والعشرون: قوله عليه السلام: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا". "لعل" حرف لتوقع مرجوٍ أو مخوف، وفيها لغات: عن، وعلّ، وعنَّ، وأنَّ، ولأنَّ. و (ييبسا) مفتوح الباء ويجوز كسرها لغتان، وقد حصل ما ترجاه في الحال - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ابن الجوزي: أن الغصنين أورقا من ساعتهما ففرح النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: رفع عنهما العذاب بشفاعتي. الثالث والعشرون: يؤخذ من الحديث تحريم النميمة، إذ هي القاطعة بين المتواصلين والمباعدة بين المتقاربين وأنها سبب العذاب، وهو محمول على النميمة المحرمة كما سلف، وأنها من الكبائر لا سيما إذا تعددت كما يشعر به لفظ (كان)، وقال بعضهم: ليست من الكبائر فيكون العذاب عليها تنبيهًا على التعذيب بالكبائر وأولى تحذيرًا من الذنوب مطلقًا، وقد أسلفنا ذلك. فائدة: قال بعض العلماء: يُفسدُ النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر، ولترغيب الشارع في الإِصلاح بين الناس أباح الكذب فيه، ولزجره [على] (¬1) الإِفساد حرم الصدق فيه. فائدة ثانية: قال العلماء: لا يكون الشخص نمَّامًا إلَّا وفي نسبه شيء، فإن من جملة أوصافه في الآية "زنيم" (¬2) وهو الدعي الذي لا يعرف من أبوه على أحد القولين، قال أبو موسى الأشعرى: ¬

_ (¬1) في ن ب ج (عن). (¬2) انظر: إتحاف السادة المتقين (9/ 342، 343).

"لا يسعى على الناس إلَّا [ولد] (¬1) بغي" (¬2). وسعى رجل إلى بلال بن أبي بردة برجل، وكان أمير البصرة فقال له: انصرف حتى أكشف عنك، فكشف عنه فإذا هو لغير رشده، يعني -ولد زنا (¬3) -. الرابع والعشرون: يؤخذ منه أيضًا التنزه عن النجاسات كما سلف فيجب إزالتها؛ لوقوع التعذيب بسبب تركها، وهي حجة على من جعلها سنة إلَّا إنْ تأوله بأنه ترك التنزه عمدًا أو استخفافًا وتهاونًا، وقد قال ابن القصار المالكي: إن متعمد ترك [التنزه] (¬4) بغير عذر ولا تأويل مذموم. ¬

_ (¬1) في ن ب (وقد). (¬2) قال العراقي: رواه الحاكم من حديث أبي موسى ولفظه: "من سعى بالناس فهو لغير رشده". أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 103)، قال الذهبي: ما صححه ولم يصح قلت -أي العراقي- فيه سهل بن عطية. قال ابن طاهر في تذكرته (396) ح (1020) منكر الرواية، والحديث لا أصل له. ورواه الطبراني بلفظ "لا يسعى على الناس إلَّا ولد بغي" وإلاَّ من فيه عرق منه. وزاد بين سهل وبين بلال بن أبي بردة أبا الوليد القرشي. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 236) (6/ 260): أبو الوليد القرشي مجهول، وبقية رجاله ثقات. قال العراقي: ورواه ابن عساكر والديلمي بلفظ، "إلاَّ ولد زنا". اهـ. من إتحاف السادة المتقين (9/ 353). (¬3) انظر هذا: في سبب ذكر الحديث الذي قبله في المستدرك (4/ 103)، ومجمع الزوائد (5/ 236) (6/ 260). (¬4) في ن ب ج (السنن).

الخامس والعشرون: يؤخذ منه أيضًا وجوب ستر العورة كما سلف. السادس والعشرون: يؤخذ منه أيضًا جواز ذكر الموتى إذا كان في ذكرهم بالمعاصي مصلحة وأنه ليس غيبة وجواز تعيينهم بالذكر، وأن هذا الحديث مخصص لعموم الحديث الآخر: "اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم" (¬1)، وقد تقدم استبعاد كونهما كافرين أو منافقين (¬2). السابع والعشرون: من تراجم البخاري على هذا الحديث: من الكبائر أن لا يستتر من بوله (¬3) "وما جاء في غسل البول" (¬4). الثامن والعشرون: ادعى بعض الأئمة في قوله: "ما لم ييبسا" أن شفاعه عليه السلام المؤيدة إنما تحصل بشرطين: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4900) في الآداب، باب: في النهي عن سب الموتى، والترمذي رقم (1019) في الجنائز، باب: ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة، والحاكم (1/ 385) قال الترمذي: حديث غريب، وسمعت محمدًا (يعني البخاري) يقول: عمران بن أنس المكي (أحد رواته) منكر الحديث. (¬2) حقق ابن حجر في فتح البارى أن المقبورين كانا مسلمين وإنهما دفنا بالبقيع ولم يحضرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول - صلى الله عليه وسلم -: "من دفنتم اليوم ها هنا" ولم يعلم اسمهما ولا اسم أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد التستر عليهما، وهو عمل مستحسن، وينبغي لكل مسلم أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به، والله أعلم. (¬3) البخاري مع الفتح (1/ 317). (¬4) البخاري مع الفتح (1/ 321).

أحدهما: طلب الاستشفاع من المشفوع له. ثانيهما: الاستئذان من المشفوع عنده فيها، فإن فقدا كانت مؤقتة كما في هذا الحديث لقوله: (ما لم ييبسا). التاسع والعشرون: استنبط منه الحافظ أبو عبد الله الجوزقاني إباحة المشي بين المقابر، ذكره في أثناء الكتاب السالف قريبًا. قال: وفيه [دليل] (¬1) على أن الله قد يعذب على غير الكبائر، والله أعلم، إذ قال: "وما يعذبان في كبير"، وهذا فيه تأويلات أسلفناها فراجعها. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في الأباطيل والمناكير (1/ 361).

3 - باب السواك

3 - باب السواك قال أهل اللغة: السِّواك بكسر السين يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به، وهو مذكر، وقيل: يؤنث أيضًا، حكاه اليث [وغلطه] (¬1) الأزهري، وذكر صاحب المحكم تأنيثه أيضًا. ويقال: ساك فاه يسوكه سوكًا، فإن قلت: استاك أو يسوك لم تذكر الفم، ومثل استاك: استن وشاص فاه، كما ستعلمه في الباب. وجمع السواك: سُوُك بضمتين [] (¬2) ككتاب وكتب ونظائره، وهو القياس في كل واو مضمومة ضمة لازمة نحو وقيت وأقيت، وسماع في المفتوحة اتفاقًا، قالوا: ولم يجىء من ذلك إلَّا كلمتان: أحد في واحد، وأناة في وناة وهي المرأة البطيئة القيام، وهل ذلك في [المكسورة] (¬3) سماع أو قياس؟ خلاف. ¬

_ (¬1) في ن ب (غلط). انظر: تهذيب اللغة (10/ 316). (¬2) في ن ب زيادة (الثانية مهموزة) انظر: مختار الصحاح (139). (¬3) في ن ب (الملواة).

[ثم قيل] (¬1): إن السواك مأخوذ من ساك إذا دلك. وقيل: مِنْ جاءت الإِبل تتساوك أي تتمايل هزالًا. وهو في الاصطلاح: استعمال عود أو نحوه في الأسنان ليذهب الصفرة وغيرها عنها، وذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج.

الحديث الأول

الحديث الأول 20/ 1/ 3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬1). الكلام عليه من ثلاثة عشر وجهًا: الأول: "لولا" حرف يدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، أو امتناع الشيء لوجود غيره؛ لأنها نفت وجوب السواك لأجل المشقة، أو منعت ذلك [لذلك] (¬2) ولا يليها إلَّا الأسماء، تقول: لولا زيد لأكرمتك [أي امتنع إكرامي] (¬3) إيَّاك لوجود زيد، وتستعمل لولا أيضًا حرف تحضيض بمعنى هلّا، فلا يليها إلَّا الأفعال نحو لولا صلّيت، ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (887، 724)، في الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، ومسلم برقم (252) في الطهارة، باب: السواك، ورواه مالك في الموطأ (1/ 66)، وأبو داود برقم (46)، والترمذي برقم (22)، والدارمي (1/ 174) في الصلاة، والنسائي (1/ 12) في الطهارة. وفي الكبرى (1/ 64) (2/ 196) ابن أبي شيبة (1/ 168) من رواية زيد بن خالد الجهني، ومن رواية عبد الله بن الزبير. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) زيادة من ن ب ج.

لولا تصدّقت. ومنه قوله تعالى: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} (¬1)، {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (¬2)، وأشباه ذلك من الآي وهذه لا يليها إلَّا الأفعال عكس الأولى. الثاني: "عِند" بكسر العين على أصح اللغات وأشهرها، ويجوز ضمها وفتحها، حكاهما الجوهري (¬3). ومعناها: حضور الشيء ودنوه، وهي ظرف [زمان ومكان] (¬4) ولا يدخل عليها من حروف الجر إلَّا من. الثالث: استدلَّ بهذا الحديث بعض الأصوليين على أن الأمر للوجوب، وهو قول الأكثرين من الفقهاء والمتكلمين، [ووجه] (¬5) ما ذكرنا من دلالة لولا ومعناها فيدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة [والمنتفي لأجل المشقة] (¬6) إنما هو الوجوب لا الاستحباب؛ لأنه ثابت عند كل صلاة فاقتضى أن الأمر للوجوب، ولولا أن الأمر للوجوب لم يكن لقوله عليه الصلاة والسلام معنى؛ لأنه إذا أمر به ولم يجب كيف يشق عليهم؟ فثبت أنه للوجوب ما لم يقم دليل على خلافه، وهذا الاستدلال يحتاج [إلى] (¬7) تمامه، إلى دليل على ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 15. (¬2) سورة المجادلة: آية 8. (¬3) انظر: مختار الصحاح (194). (¬4) بين النُّسَخ تقديم وتأخير. (¬5) في ن ب (وجهه). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب (في).

أن السواك كان مسنونًا حالة قوله عليه السلام ذلك. نعم مذهب جميع العلماء استحبابه. قال الشافعى رضي الله عنه: لو كان واجبًا لأمرهم به شق أو لم [يشق] (¬1). حكى الشيخ أبو حامد والماوردي عن داود الوجوب، لكن قال صاحب الحاوي (¬2) عنه: إن تركه لا يبطل الصلاة. وحكي عن إسحاق بن راهويه أنه واجب، وإن تركه [عمدًا أبطلها] (¬3)، وأنكر أصحابنا المتأخرون عليهما هذا النقل عن داود، فإن [المنقول] (¬4) عنه أنه سنة، نعم نقله عنه القاضي عياض تمسكًا بظاهر الأخبار لقوله "استاكوا": أو "عليكم بالسواك" (¬5)، وهذا الحديث يبين المراد بتلك الظواهر، ثم على تقدير صحته عنه لم يكن خارقًا للإِجماع على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون، نعم ابن حزم الظاهري (¬6) قال: إنه سنة إلَّا يوم الجمعة فإنه فرض لازم، وأما إسحاق: فلم يصح هذا النقل عنه. ¬

_ (¬1) زيادة في ن ب ج. (¬2) (1/ 83) في الحاوي الكبير. (¬3) في ن ب ج (عمد يبطلها). (¬4) في ن ج (المأثور). (¬5) الموطأ لمالك (1/ 65) مرسلًا، ووصله ابن ماجه في كتاب إقام الصلاة، باب: ما جاء في الزينة يوم الجمعة، وذكره ابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي أيوب بلفظ: "عليكم بالسواك"، وأعله أبو زرعة بالإرسال. (¬6) المحلي (2/ 8، 218) (5/ 75).

ووقع في الانتصار لابن أبي عصرون (¬1) حكاية وجه: يوافق إسحاق أن السواك شرط في صحة الصلاة، وغلطه ابن أبي الدم (¬2) في حكايته، وفي بعض نسخ الحلية للشاشي أن أبا إسحاق قال بذلك، ولعله تصحف بإسحاق بن راهويه. الرابع: فيه دلالة أيضًا لمسألة ثانية أصولية: وهي أن المندوب ليس مأمورًا به، وفيه خلاف لهم. قال القرطبي (¬3): والتصحيح: أنه مأمورٌ به لأنه مطلوب بالاتفاق. الخامس: فيه دلالة أيضًا لمسألة ثالثة أصولية: وهي جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهو مذهب الفقهاء وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المختار عندهم، وجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل المشقة سببًا لعدم أمره ولو كان الحكم موقوفًا على النص لكان سبب انتفاء أمره عدم ورود النص به لا وجود ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهر ولد في ربيع الأول سنة اثنتين -وقيل: ثلاث- وتسعين وأربعمائة، توفي بدمشق في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ترجمته في الأعلام (4/ 268) طبقات الشافعية للسبتي (4/ 237) ابن قاضي شهبة (2/ 27). (¬2) هو إبراهيم بن عبد الله بن عند المنعم أبو إسحاق الهمذاني بإسكان الميم، الحموي، ولد بحماة في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة توفي في حماة جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وستمائة. طبقات الشافعية للسبكي (5/ 47)، ابن قاضي شهبة (2/ 99). (¬3) المفهم (2/ 595).

المشقة، وفي المسألة أقوال أُخر للأصوليين: أحدها: المنع، وهو قول أبي علي الجبائي وابنه. وثانيها: أن له أن يجتهد في الحروب والآراء دون الأحكام. وثالثها: التوقف في هذه الثلاثة، ونقله في المحصول (¬1) عن أكثر المحققين، وإذا قلنا بالجواز فالمختار أنه وقع. وقيل: لا. وقيل: بالوقف، ومحل الخلاف على ما قاله القرافي (¬2) في شرح المحصول في الفتاوى، أما الأقضية فيجوز الاجتهاد فيها بالإجماع. السادس: فيه دلالة أيضًا لمسألة رابعة أصولية: وهي أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وهو المختار، لأنه لو أفاده لم يكن لقوله: "عند كل صلاة" فائدة، كذا استنبطه بعضهم. وعكس غيره فقال: فيه دلالة على أن الأمر للتكرار، لأنه لا مشقة في مرة واحدة، فلو لم يكن الأمر به للتكرار لما كانت المشقة مانعة (¬3): ¬

_ (¬1) المحصول (6/ 9). (¬2) هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة (684) واسم شرحه "نفائس الأصول في شرح المحصول" وهو مخطوط يوجد في دار الكتب المصرية برقم (472) انظر الديباج (62، 63)، طبقات الأصوليين (2/ 86). (¬3) انظر: المحصول (2/ 162، 178).

السابع: فيه [دلالة] (¬1) أيضًا لمسألة خامسة أصولية: وهي جواز تعليل الحكم العدمي بالمانع، ولا يتوقف على وجود المقتضى، ومثله قول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإِعدام قتال كذا استنبطه ابن التلمساني (¬2) في شرح المعالم. الثامن: فيه دلالة أيضًا لمسألة نحوية: وهي الرد على من قال من النحاة: إن من شرط اسم "لولا" أن يكون موجودًا حسًّا [لقول عمر في علي "لولا علي لهلك عمر"، "فعلي" موجود حسًّا] (¬3). ووجه الرد: أن المشقة لم تقع في الوجود ولا تقع، وإنما هي واقعة على تقدير ورود الأمر، والأمر لم يقع. فلم تقع، نبّه عليه القرافي. وقد يقال: الإِضمار المقدر في الحديث وهو خوف المشقة واقع وموجود في النفس، فلا ردّ إذن. التاسع: فيه دلالة أيضًا على مسألة فقهية: وهو استحباب السواك عند كل صلاة سواء كانت فريضة عينًا أو كفاية أو نافلة ¬

_ (¬1) في ن ب (مسألة)، انظر الأحكام للآمديّ (3/ 206)، وابن الحاجب في شرح المختصر (2/ 214)، والمحصول (5/ 400، 405). (¬2) هو عبد الله بن محمد بن علي شرف الدين أبو محمد الفهري المصري، توفي في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة، طبقات الأسنوي (112) طبقات السبكي (5/ 60) ابن قاضي شهبة (2/ 107). (¬3) في ن ب ساقطة.

[بوضوء] (¬1)، أو تيمم، حتى في حق فاقد الطهورين، فإن ما يأتي به صلاة على الأصح. وقيل: لا بل يشبهها، والسر في ذلك أنا مأمورون في كل حالة من أحوال التقرب إلى الله تعالى أن يكون على [] (¬2) حال كمال ونظافة شرفًا للعبادة، وأيضًا فالعبد "إذا تسوك ثم قام يصلي قام المَلَك خلفه يسمع القرآن فلا يزال عجبه [بالقرآن يدنيه] (¬3) حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلَّا صار في جوف ذلك الملك" كما رواه البزار [وأبو نعيم من حديث علي مرفوعًا، قال البزار] (¬4): وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي بأحسن من هذا الإسناد، وروي عنه موقوفًا عليه أيضًا (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب (الوضوء). (¬2) في الأصل ون ج زيادة (كل) وساقطة من ن ب. (¬3) في ن ب زيادة (بدنيه في القرآن)، و (حتى) ساقطة من الأصل. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/ 43) الإِسناد: حدثنا محمد بن عبد العزيز حدَّثنا مسلم بن إبراهيم حدَّثنا بحر بن كنيز عن عثمان بن ساح عن سعيد بن جبير عن علي بن أبي طالب قال: إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك. هذا إسناد ضعيف لانقطاعه بين سعيد وعلي لضعف بحر راويه. ورواه البزار (2/ 214) بسند جيد لا بأس به مرفوعًا ولعل من وثقه أشبه. ورواه البيهقي في الكبرى من طريق عبد الرحمن السلمي عن علي موقوفًا. السنن الكبرى للبيهقي (1/ 38)، وابن ماجه (291)، وانظر تمام تخريجه في البدر المنير (3/ 200).

قلت: ورجال المرفوع رجال الصحيح، فسن السواك لأن الملائكة تتأذى من الرائحة الكريهة. العاشر: فيه دلالة أيضًا بعمومه على مسألة أخرى فقهية وهي استحبابه للصلاة الواقعة بعد الزوال، ولذا ترجم عليه النسائى فقال: السواك للصائم [بالغداة والعشي] (¬1)، وهو قول الشافعي حكاه الترمذي في بعض نسخه عنه أنه لم [ير] (¬2) بأسًا بالسواك أول النهار وآخره. قال النووي في شرح (¬3) المهذب: وهو نقل غريب عنه وإن كان [قويًا] (¬4) من جهة الدليل، وبه قال المزني ومالك وأكثر العلماء وهو المختار. قلت: لا غرابة فيه فقد نص عليه الشافعي في البويطي أيضًا، فقال في كتاب الصيام، ومنه نقلت: لا بأس بالسواك للصائم في الليل والنهار، نعم نصه في المختصر على الكراهة بعد الزوال وعليه جمهور أصحابه لقوله عليه السلام (¬5): "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (¬6). متفق عليه من حديث أبي هريرة. وأما ¬

_ (¬1) في ن ب بياض، وفي السنن (1/ 12): الرخصة في السواك بالعشي للصائم. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) المجموع (1/ 276). (¬4) في ن ب (قليلًا). (¬5) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬6) البخاري ومسلم.

الشيخ عز الدين فإنه مال إلى استحبابه فقال: لا يلزم من الثناء عليه أفضلية غيره بدليل ركعتي الفجر مع الوتر، قال: وثبت أن الصلاة بسواك تفضل على صلاة بغير سواك سبعين ضعفًا (¬1). قلت: وهو كما قال، وإن اعترضوا على الحاكم في تصحيحه فقد ذكرته من طريق صحيحة في (تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج) وثبت أن في الخلوف أجر مقدر، فيجوز أن يقدر ما زاد على الفضل بسبب السواك أو فوقه أو دونه، فلا يترك الفضل المحقق لأمر يحتمل أن يكون أنقص منه. قلت: ويُسئل عن الحكمة في تحريم إزالة دم الشهيد مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك، وعدم تحريم إزالة الخلوف مع كونه أطيب من ريح المسك. الحادي عشر: فيه أيضًا بيان ما كان عليه الصلاة والسلام من الرفق بأمته. ¬

_ (¬1) قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى في صحيحه (1/ 71): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفًا". قال ابن خزيمة: أنا استثنيت صحة هذا الخبر؛ لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من محمد بن مسلم وإنما دلسه عنه. انظر: الفتح الرباني (1/ 44/ 294)، وانظر: تلخيص الحبير (1/ 67)، وضعفه ابن القيم في المنار المنيف وأطال عليه الكلام (ص 19 - 20). وانظر: البدر المنير لابن الملقن رحمنا الله وإياه: فإنه استوعب طرق هذا الحديث بالتفصيل (3/ 149، 163).

الثاني عشر: فيه أيضًا دلالة على فضل السواك. الثالث عشر: في هذا الحديث ذكر السواك "عند كل صلاة" وفي رواية للبخاري (¬1) تعليقًا: "عند كل وضوء" وهي في الموطأ (¬2) أيضًا. وادَّعى بعضهم أنها من قول ابن شهاب وهو غريب. ورجح بعض المالكية رواية "عند كل وضوء" على الأولى تقريرًا لقاعدتهم فإن السواك عندهم من فضائل الوضوء، وفيه عندهم قبله قالوا: لأن "عند" ظرف مبهم يصح للقبلية والبعدية [والمعية] (¬3) في المضمضة والسواك، في جميعها صحيح [فهي رواية] (¬4) مطلقة، بخلاف رواية "عند كل صلاة" لا يصح السواك فيها إلَّا قبلها دون المعية والبعدية فيه مقيدة مرجوحة؛ [ولأنه] (¬5) طهارة للفم كما أن الوضوء طهارة للأعضاء بضم الشكل إلى شكله وفعله مع فعله أولى. ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 158). (¬2) الذي في الموطأ رواية يحيى بن يحيى (1/ 66) " مع كل وضوء"، ولم يذكر في الاستذكار (3/ 368) سوى لفظي "مع كل وضوء"، "مع كل صلاة" وهي كذلك عند ابن خزيمة (1/ 73)، إلَّا أنه قال: هذا الخبر في الموطأ عن أبي هريرة، "لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك عند كل وضوء" وعند النسائي (2/ 196، 198). انظر: تحفة المحتاج (1/ 175، 176). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (ففي الرواية). (¬5) في الأصل (ولا)، وما أثبت من ن ب.

قال: وبه يقع الرد على من قال بالاستياك في المسجد، وكل هذا عجيب من هذا القائل، وكيف يرد رواية الصحيحين وهي "عند كل صلاة" برواية معلقة للبخاري وحده، وفي رواية للنسائي (¬1) من طريق مالك "مع كل صلاة". فوائد مهمة: الأولى: يستحب أن يكون السواك باليمين كما قدمته في الحديث التاسع من كتاب الطهارة مبسوطًا، وأن ذلك ورد منصوصًا عليه وهو من الفوائد الجليلة التي لم يعثروا عليها. الثانية: يستحب السواك أيضًا ويتأكد في مواضع: الأول: عند قراءة القرآن. الثاني: عند اصفرار الأسنان. الثالث: عند دخول الإِنسان منزله. الرابع: عند إرادة النوم. الخامس: عند الاستيقاظ منه. السادس: عند الأكل. [السابع] (¬2): بعد الوتر. الثامن: في السحر، ذكر هذه الثلاثة الأخير ابن عبد البر. التاسع: عند تغير الفم. العاشر: عند الوضوء. ¬

_ (¬1) النسائي (2/ 196، 196)، وانظر: الاستذكار (3/ 368). (¬2) في ن ب ساقطة.

وفي النسائي (¬1) من حديث ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين ثم ينصرف فيستاك. وهذا يدل على فعله عقب الصلاة، قال ابن الحاج (¬2) المالكي: ويستاك في الليلة ثلاثة مرات قبل النوم، وبعده عند القيام لوِرْدِه، وعند الخروج لصلاة الصبح. قلت: وروى أبو نعيم (¬3) من حديث أبي أيوب أنه عليه الصلاة والسلام كان يستاك في الليلة مرارًا، ومن حديث ابن عباس: ربما استاك - صلى الله عليه وسلم - في الليلة أربع مرات. الثالثة: للسواك منافع وقد ذكرتها في تخريجي لأحاديث الرافعي (¬4) فزادت على الثلاثين فسارع إليه فإنه يرحل إليه، وله أيضًا آداب ستأتي [وقد] (¬5) ذكرتها أيضًا في شرحي للمنهاج الذي سميته (عجالة المحتاج) (¬6) وهو شرح الصغير فراجعها منه، والله الموفق. الرابعة: أحسن ما يستاك به الأراك، لحديث ابن مسعود ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (1/ 424) مع سياق الاختلاف بين الرواة عن ابن عباس، ابن أبي شيبة (1/ 169). (¬2) انظر: ابن أبي شيبة (1/ 169). (¬3) ابن أبي شيبة (1/ 170)، ومسند أحمد (5/ 417)، والطبراني في الكبير (4/ 178)، وذكره في المجمع (2/ 99، 272) وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه واصل بن السائب وهو ضعيف: وقد ورد من حديث ابن عباس في مسلم: "كان يستاك في الليل مرارًا". (¬4) البدر المنير لابن الملقن رحمنا الله وإياه (3/ 164، 170). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) انظر تحفة المحتاج لأدلة المنهاج (1/ 85)، حيث إن هذا الكتاب مخطوط.

[في] (¬1) (صحيح ابن حبان) وحديث أبي خيرة الصنابحي في (تاريخ البخاري) (¬2)، وفيه منافع كثيرة ويقوم مقامه كل خشن إلَّا إصبعه في الأصح وبه جزمت المالكية، وعندهم أنه يكره للصائم أن يستاك بالأخضر الذي يجد له طعمًا، قالوا: وأما الجوزة المحمرة فحرام للصائم. وعند الشافعية وجه: أنه يكره الرطب للصائم قبل الزوال، والأصح لا كاليابس. الخامسة: ذكر الحكيم الترمذي في علله -ومنه نقلت- في كيفية الاستياك: أن تجعل الخنصر من يمينك أسفل السواك تحته والبنصر والوسطى والسبابة فوق السواك، قال: ولا تقبض القبضة على السواك فإن ذلك يورث البواسير (¬3)، وقال: وابلع ريقك من أول ما تستاك فإنه ينفع الجذام والبرص وكل داء سوى الموت، ولا يبلع بعده ¬

_ (¬1) في الأصل (فيه)، وما أثبت من ن ب. ولفظه "كنت أجتني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكًا من أراك" الطبراني الكبير (9/ 75)، ومجمع الزوائد (9/ 289)، قال الهيثمي: وأمثل طرقها فيه عالم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه أحمد (1/ 420) موقوفًا على ابن مسعود، وإسناده جيد. وانظر تلخيص الحبير (1/ 72). (¬2) قال البخاري في التاريخ، كتاب الكنى (8/ 28): قال خليفة بن خياط: حدَّثنا عون بن كهمس، قال: أنا داود بن المساور، عن مقاتل بن همام عن أبي خيرة الصنابحي قال: كنت في الوفد الذين أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبد القيس فزودنا الأراك نستاك به، فقلنا: يا رسول الله عندنا الجريد، ولكنا نقبل كرامتك وعيطك، قال "اللهم اغفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير مكرهين إن بعض الناس لم يسلموا إلَّا خزايا موتورين". (¬3) ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة، وأيضًا ما بعده.

شيئًا فإنه يورث الوسوسة، برواية زياد بن علاقة. [ونقل] (¬1) بعض المالكية عن الغزالي أنه نص على أن ما ينفصل بالسواك من الطعام المتغير المتعلق بالأسنان محرم أكله، وهو غريب. قال -أعني الترمذي [الحكيم] (¬2) -: ولا يمس بالسواك شيئًا فإن ذلك يورث العمى. قال: ولا تضع السواك إذا وضعته عرضًا وانصبه نصبًا، فإنه يروى عن سعيد بن جبير قال: من وضع سواكه بالأرض فجن [من ذلك] (¬3) فلا يلومنَّ إلَّا نفسه. وهذه آداب حسنة ينبغي استعمالها فإنه لا تجلب إلَّا خيرًا. السادسة: قال الترمذي أيضًا يروى عن كعب أنه قال: "من أحب أن يحبه الله تعالى [فليكثر] (¬4) من السواك والتخلل فالصلاة بهما مائة صلاة". قال: وروى خالد عن أبيه قال: "السواك شطر الوضوء، والوضوء شطر الصلاة، والصلاة شطر الإيمان"، ونقل ابن عبد البر عن الأوزاعي (¬5) أيضًا: "أنه شطر الوضوء". السابعة: مذهب مالك كراهية الاستياك في المسجد خشية أن يخرج من فيه دم ونحوه مما ينزه المسجد عنه، قال صاحب المفهم (¬6): لم يثبت قط أنه عليه الصلاة والسلام استاك في المسجد ¬

_ (¬1) في ن ب (قال). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (فليوتر). (¬5) انظر: المصنف لابن أبي شيبة (1/ 170). (¬6) في المفهم شرح مسلم للقرطبي (2/ 596) قال: ولم يُرْوَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تسوك في المسجد ولا في محفل من الناس؛ لأنه منه من باب إزالة القذر ولا يليق بالمساجد ولا =

فلا يشرع [] (¬1) لما فيه من زوال الأقذار فيه، والمساجد منزهة عنها وأهل الهيئات والمروءات يمنعون من زوال الأقذار في المحافل والجماعات، قال: ومعنى قوله: "عند كل صلاة": عند كل وضوء، وما قاله عجيب؛ فإن السواك يستحب كونه متوسطًا بين الليونة واليبوسة حينئذٍ فالخشية السالفة مأمونة ولئن حصلت فعدم تنزيه المسجد إنما يحصل إذا بصقه فيه، [دون ما إذا بصقه] (¬2) [فيما] (¬3) معه [من] (¬4) خرقة ونحوها، ودعواه عدم الثبوت من فعله لا يلزم منه على صحته عدم فعله، بل ترغيبه فيه بقوله "عند كل صلاة" يشمله، وكان السواك من أذنه - صلى الله عليه وسلم - موضع القلم من أذن الكاتب كما رواه البيهقي (¬5) من حديث جابر، وكذا كان زيد بن خالد الجهني يفعله وكلما قام إلى الصلاة استاك كما رواه الترمذي وصححه (¬6). وروى الخطيب [في] (¬7) كتاب "من روى عن مالك" عن أبي هريرة (¬8) أن ¬

_ = محاضر الناس ولا يليق بذوي المروءات فعل ذلك في الملأ من الناس. اهـ. (¬1) في الأصل زيادة (فيه)، وما أثبت يوافق ن ب ج. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في الأصل ون ب: (في ماءٍ)، ولا وجه له. (¬4) في ن ب (في). (¬5) السنن الكبرى (1/ 36). انظر: تخريج هذا الحديث وما بعده في البدر المنير لابن الملقن (3/ 221، 223). (¬6) سنن الترمذي (1/ 34، 35)، وابن أبي شيبة (1/ 168)، أبو داود (47)، وأحمد (4/ 116). (¬7) في ن ب (من). (¬8) من رواية عبادة بن الصامت عند ابن أبي شيبة (1/ 169).

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أسوكتهم خلف آذانهم يستنون بها لكل صلاة. وقوله: إنه من باب إزالة الأقذار، لا يسلّم، بل هو من باب الطيب، وفعله أيضًا من المروءة لا كما قاله؛ لأنه فيه إظهار شعار هذه السنة، وسيأتي في الحديث الرابع من هذا الباب أن بعضهم ترجم عليه: استياك الإِمام بحضرة رعيته، وترجم [ابن حبان] (¬1) أيضًا في صحيحه (¬2): الإِباحة للإِمام أن يستاك بحضرة رعيته إذا لم يكن يحتشمهم، ثم روى حديث أبي موسى الأشعري الثابت في الصحيحين قال: "أقبلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي رجلان من الأشعرين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك فكأني انظر إلى سواكه تحت شفتيه وقد قلصت". قلت: وأما التأويل السالف -الصلاة بالوضوء- فمن الأعاجيب، بل يؤخذ من الحديث المذكور أنه لا كراهة في فعله في المسجد [لإِطلاق] (¬3) قوله: "عند كل صلاة". ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ابن حبان (2/ 203)، وبوب عليه النسائي (1/ 9)، وفي الكبرى له (1/ 64) هل يستاك الإِمام بحضرة رعية؟ (¬3) في ن ب (الطلاق).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 21/ 2/ 3 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك" (¬1). الكلام عليه من خمسة أوجه: وتقدم أولًا أن هذا اللفظ الذي ذكره المصنف لم يذكر الحميدي في جمعه بين الصحيحين سواء وكذا رواه البخاري هنا، ورواه في كتاب الجمعة بلفظ: "كان إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك". ورواه مسلم [بلفظ المصنف] (¬2) وبلفظ: "كان إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك". ووقع في بعض نسخ الكتاب "إذا قام من النوم" بدل "من الليل" وكذا وقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬3) لكنه ¬

_ (¬1) البخاري (245، 889، 1136)، ومسلم (255) الطهارة، والدارمي (1/ 175)، وأبو داود برقم (55)، وابن ماجه (1/ 152)، ومسند أحمد (5/ 382، 390، 397، 402، 407)، والنسائي (1/ 8)، والدارمي (691). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) إحكام الأحكام مع الحاشيه (1/ 284).

قال في كلامه على الحديث: وقوله: "من الليل" ظاهره تعليق الحكم بمجرد القيام، ويحتمل أن يكون المراد: إذا قام من الليل للصلاة، وهذا الكلام منه يقتضي إنما [أراد] (¬1) لفظ الحديث إنما هو "من الليل" بدل "من النوم" لكن لما ذكر هذا الحديث في كتابه الإِمام (¬2) أورده بلفظ "النوم" بدل "الليل"، وقال: أخرجوه إلَّا الترمذي. وإنما ذكرت هذا كله لأن ابن العطار قال: إن لفظ الحديث في رواية البخاري ومسلم: "كان إذا استيقظ من النوم" وهو غريب. [قلت] (¬3): فلم أر هذه اللفظة في واحد منهما ولفظهما كما ذكرته لك. الوجه الأول من الكلام على الحديث: في التعريف براويه: وهو صحابي ابن صحابي. واليماني: يكتب بالياء على الأفصح كما قدمت مثله في عبد الله بن عمرو بن العاصي. وكنية حذيفة: أبو عبد الله. وقيل: أبو سريحة، وهو معدود في أهل الكوفة. [واليمان] (¬4) اسمه حُسيل بضم الحاء وفتح السين المهملتين ثم ¬

_ (¬1) في ن ب (إن إيراد). (¬2) هكذا هنا، واطلعت عليه في الإِلمام (16). وفي الاهتمام بتلخيص كتاب الإِلمام لم يورد هذه اللفظة (31). (¬3) زيادة من ن ج. (¬4) في ن ب ساقطة.

مثناة تحت ثم لام، تصغير حِسل بكسر الحاء وإسكان السين، ويقال فيه: غير مصغر. ولقب باليمان؛ لأن جده جروه [أصاب] (¬1) دمًا في قومه فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليماني [لحلفه] (¬2) اليمانية فلقب بلقبه، ويقال في نسبه: عبسي قطعي وهو من حلفاء الأنصار. وأمه: اسمها الرباب بنت كعب بن عدي بن كلب بن عبد الأشهل. شهد حذيفة وأخوه صفوان وأبوهما أحدًا وقتل أبوهما يومئذ، قتله بعض المسلمين خطأ وهو [يحسبه] (¬3) من المشركين فتصدق بدم أبيه وديته على المسلمين، يقال: إن الذي قتله عتبة بن مسعود، وأراد هو وأبوه أن يشهدا بدرًا فاستحلفهما المشركون أن لا يشهدا فحلفا ثم سألا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم". وكان حذيفة من [المهاجرين] (¬4)، ومن كبار الصحابة ومشاهيرهم، وهو الذي بعثه ينظر إلى قريش يوم الخندق فجاء بخبر رحيلهم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن المنافقين ¬

_ (¬1) في الأصل (أصحاب)، وما أثبت من ن ب ج. (¬2) في ن ب (بحلقه). (¬3) في ن ب (تحسبه). (¬4) في ن ب (المتأخرين).

ويقتدي به في الصلاة عليهم، فمن صلى عليه حذيفة صلى عليه عمر ومن لم يصل عليه لم يصل عليه، وكان معروفًا في الصحابة بصاحب السر لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسر إليه ويعلمه بأسماء المنافقين وأعيانهم، وكان أعلم الصحابة بذلك، وفي صحيح مسلم عنه: "لقد حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يكون حتى تقوم الساعة غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها، وإني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة". وخيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إليه بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة، وكان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشر [فيجتبه] (¬1). وسأله عمر عن الأيام التي بين يدي الساعة: من يعقلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنا، فقال له عمر رضي الله عنه: هات فلعمري إنك عليها لجريء، ثم ذكر له منها. وسئل حذيفة: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تركب؟ وقال رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها. قال ابن عبد البر: وشهد نهاوند مع النعمان بن مقرّن فلما قتل النعمان أخذ الراية ففتح الله على يديه نهاوند والري والدينور وذلك كله سنة اثنين وعشرين. قال ابن سيرين: وكان عمر رضي الله عنه إذا بعث أميرًا كتب [إليهم] (¬2) ليسمعوا له ويطيعوا، فلما بعث حذيفة ركبوا إليه ليتلقوه فلقوه على بغل تحته أكاف وهو معترض عليه فلم ¬

_ (¬1) في ن ب ج (ليجتنبه). (¬2) في الأصل (إليه)، والتصحيح من ن ب.

يعرفوه فأجازوه، فلقيهم الناس فقالوا: أين الأمير؟ قالوا: هو الذي لقيتم، قال: فركضوا في أثره فأدركوه وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق وهو يأكل، [فسلموا عليه] (¬1) فنظر إلى عظيم منهم [فناوله] (¬2) العرق والرغيف فلما غفل ألقاه أو أعطاه خادمه. وكان عمر قد ولاه المدائن فأقام بها إلى أن مات سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة، وقيل: سنة خمس وثلاثين. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكثر ولم يذكر عدتها بقي بن مخلد، وفي الصحيحين له سبعة وثلاثون حديثًا، اتفقا على اثنى عشر، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعة عشر، روى عنه جماعة من الصحابة منهم أبو الطفيل وعمار بن ياسر وجندب بن عبد الله، وخلق من التابعين، قال ابن حبان: وكان فص خاتمه ياقوتة أسمانجونية فيها [كوكبان] (¬3) متقابلان بينهما مكتوب الحمد لله (¬4)، قال: كذا قاله ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في ن ج (فناولوه). (¬3) في ن ج (كركيان)، وكذا في سير أعلام النبلاء (2/ 367)، وفي الأصل (كريكان)، وما أثبت من الثقات لابن حبان (3/ 80). (¬4) هذا ورد في مصنف عبد الرزاق برقم (19470) عن معمر عن قتادة عن أنس أو أبي موسى الأشعري: كان نقش خاتمه كركي له رأسان، والكركي هو الطائر. اهـ. ولعل حذيفة لم يبلغه النهي عن لبس الذهب، وقد ورد النهي عن لبسه للرجال من حديث أبي هريرة وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. البخاري (10/ 266، 11/ 266)، ومسلم (2078، 2089، 2091). انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 367). وانظر: كتاب الثقات لابن حبان (3/ 80)، ومعى أسمانجوية (أي على لون السماء). =

جرير عن الأعمش عن موسى بن عبد الله الله بن يزيد عن أم سلمة بنت حذيفة. قلت: وكذا رواه علي بن يونس عن الأعمش أيضًا، أورده البغوي في معجمه، فإن صح [عنه] (¬1) فيحمل على أنه لم يبلغه النهي عن خاتم الذهب إن كان ذهبًا وهو الظاهر. فائدة: في الرواة حذيفة ابن اليمان اثنان: أحدهما: هذا. وثانيهما: واسطي حدَّث عن الشعبي وغيره وعنه شعبة بن الحجاج وغيره. الوجه الثاني: "كان" هذه دالة على الملازمة والاستمرار. وقوله: "إذا قام من الليل" ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام، ويحتمل كما قال الشيخ تقي الدين (¬2): إذا قام من الليل للصلاة، فتعود إلى معنى الحديث الأول. ويؤيده رواية الصحيحين التي أسلفناها: "إذا قام ليتهجد" فتفسر هذه تلك، لكن قال ابن منده: قوله "للتهجد" لا يرويه غير حصين وحديث الأعمش ومنصور مشهور وليس في حديثهما هذه الرواية. قلت: ورواه حصين مرة بدونها، كذا رواه البخاري (¬3) عنه في ¬

_ = وانظر: اختلاف الألفاظ في الثقات. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 284). (¬3) البخاري (889).

كتاب الجمعة، ورواه الطبراني (¬1) من حديث أبي حفص الأبّار عن منصور والأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشوص فاه بالسواك" ولم يذكر القيام من الليل. الثالث: قوله "من الليل" أي "في الليل" "فمن" هنا بمعنى "في" وهو نظير قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬2) أي في يوم الجمعة. الرابع: قوله: "يشوص" هو -بفتح أوله وضم ثانيه وهو بشين معجمة ثم واو ساكنة ثم صاد مهملة- واختلف في تفسيره على خمسة أقوال متقاربة: أحدها: الغسل: وكل شيء غسلته فقد شصته، قاله الهروي [وهو ما في الجامع أيضًا، وجزم به المصنف في الكتاب حيث قال: يشوص معناه: يغسل، يقال: شاصه يشوصه وماصه يموصه إذا غسله، وتبع في ذلك الهروي] (¬3) فإنه قال: الشوص والموص بمعنى واحد، وفي الصحاح (¬4): الشوص: الغسل والتنظيف. قال ابن سيده: شاص الشيء شوصًا: غسله، وشاص فاه بالسواك شوصًا (¬5): غسله عن كراع. ¬

_ (¬1) المعجم الصغير للطبراني (2/ 98). (¬2) سورة الجمعة: آية 9. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) مختار الصحاح (351)، طبعة الهيئة المصرية. (¬5) في ن ب زيادة (أي).

القول الثانى: أنه التنقية: قاله أبو عبيد (¬1) والداودي يقول: شصت الشيء إذا نقيته. الثالث: أنه الدلك: قاله ابن الأنباري. قال الشيخ (¬2) تقي الدين: وهو الأقرب، وظاهر كلامه في كتاب الإِمام (¬3) تصحيحه. وقال ابن الأعرابي وإبراهيم الحربي (¬4) والخطابي (¬5) وآخرون: إنه دلك الأسنان عرضًا أي عرض الأسنان. وقيل: عرض الفم، والموص قريب منه. وقيل: بل هو غسل الشيء في بين ورفق. وقال [المازري] (¬6): قال رجل لأعرابية اغسلي ثوبي، قالت: نعم وأموصه، تريد غسله ثانية برفق (¬7). الرابع: أنه الحك: قاله ابن حبيب. الخامس: أنه بالإِصبع: وأنه يغني عن السواك، حكاه ¬

_ (¬1) في غريب الحديث (1/ 158)، طبعة دار الكتب العلمية. (¬2) إحكام الأحكام في الحاشية (1/ 284). (¬3) هكذا هنا، واطلعت عليه في الإِلمام (14). (¬4) غريب الحديث (2/ 362)، وتهذيب اللغة (11/ 385). (¬5) معالم السنن (1/ 41)، وأعلام الحديث (1/ 293). (¬6) في النسخ الماوردي وهو غلط. انظر: المعلم (1/ 354). (¬7) انظر: أعلام الحديث (1/ 293). ذكر هذه الثلاثة ابن حجر في الفتح (1/ 356).

أبو عمر (¬1)، ويرده قوله في الحديث: "بالسواك". قال النووى في شرح (¬2) مسلم: وأظهر هذه الأقوال الثالث، يعني مقالة الخطابي ومن وافقه وما في معناه، ولما ذكر ابن سيده أنه الغسل، قال وقيل: إنه الإِمرار على الأسنان من [أسفل] (¬3) إلى علو، وهذا يأتي على قول من فسر العرض بعرض الفم، وهو قول ابن دريد، ومته الشَّوْصةُ: [هي] (¬4) ريح ترفع القلب عن موضعه، قال: وقيل: هو أن يطعن به فيها. قال: وقد شاصه شوصًا وشوصانًا، وشاص الشيء شوصًا [إذا] (¬5) دلك، وشاص الشيء: زعزعه. الخامس: فيه استحباب السواك في حال القيام من النوم، وعلته أن النوم مقتضى لتغير الفم وهو آلة تنظيف الفم فيسن لاقتضائه التغيير، وإذا كان كذلك فلا فرق بين نوم الليل والنهار فتخصيصه بالليل للغلبة أي لكون تغير الفم فيه أكثر، وأبدى الحكيم الترمذي استحباب السواك عند القيام من النوم فإنه قال ما معناه: إن الإِنسان إذا نام ارتفعت معدته وانتفخت وصعد بخارها إلى الفم والأسنان فتنتن وتغلظ. ويروى أن الشيطان ذلك طعامه ويمسح لسانه عليه ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (11/ 211)، والاستذكار (3/ 272). (¬2) (1/ 538) طبعة الشعب. (¬3) في الأصل (سفل)، وما أثبت من ن ب. (¬4) زيادة من ن ج. ذكره في المفهم (2/ 597)، وأيضًا في الفتح (1/ 356). (¬5) زيادة من ن ب.

ويرمي [به] (¬1). قال: واحرص على الاستياك أول النهار ووسطه إن كنت تتوضأ. فعن عائشة [رضي الله عنها] (¬2) مرفوعًا: "من استاك أول النهار وآخره كان مع المقربين في الفردوس"، قال: ولا يستاك بين ذلك إلَّا من علة أو حاجة، وقيل: من فعل ذلك عقم وذهب ماء وجهه [وحيائه] (¬3)، يروى ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: وإذا قمت من الليل فاستك شديدًا، كذلك السنة فيه؛ لأنه عليه السلام (¬4): "كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك" [والشوص] (¬5): ما يوجع فمه منه. قال: واجعله أول النهار ووسطه أخف من الأول وآخره أخف من وسطه، كذلك السنة (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (عليه). (¬2) في الأصل ساقطة. (¬3) في ن ب (وحياته)، ما قبل هذا وما بعده ليس عليه دليل. (¬4) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) يحتاج هذا إلى دليل من الكتاب أو السنة، فإن من هديه - صلى الله عليه وسلم - الاستياك عند إرادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة الفجر وهي أول صلاة النهار وصلاة العشاء وهي آخر صلاة اليل، وأيضًا لم يرد الأمر بالتخفيف بالسواك عند القام للتهجد في صلاة الليل.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 22/ 3/ 3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره فأخذت السواك فقضمته، فطيبته، ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استنانًا أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع [يديه] (¬1) -أو إصبعه- ثم قال: في الرفيق الأعلى -ثلاثًا- ثم قضى، وكانت تقول: مات [بين] (¬2) حاقنتي وذاقتني". وفي لفظ: "فرأيته ينظر إليه، [وعرفت] (¬3) أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟ [فقال] (¬4) برأسه: أن نعم". لفظ البخاري (¬5)، ولمسلم نحوه. ¬

_ (¬1) في ن ب (يده). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (فعرفت). (¬4) في ن ب (فأشار). (¬5) البخاري برقم (890، 1389، 3100، 3774، 4438، 4446، 4449، 4450، 4451، 5217، 6510)، مسلم (2443)، وأحمد في =

الكلام عليه من سبعة عشر وجهًا: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في الطهارة، وعبد الرحمن هذا هو أخو عائشة لأبويها وهو أسن أولاد الصديق. كنيته: أبو عبد الله. وقيل: أبو محمد، حضر بدرًا وأحدًا مع الكفار، ثم أسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه وهاجر قبل الفتح مع معاوية فيما قيل، وكان اسمه عبد الكعبة فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الرحمن، وكان من أشجع قريش وأرماهم بسهم، حضر اليمامة مع خالد بن الوليد، وقتل سبعة من كبارهم وهو الذي قتل محكّم اليمامة ابن طفيل رماه بسهم في نحره فقتله. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أحاديث، اتفقا منها على ثلاثة، روى عنه جماعة من التابعين [وابنه] (¬1) أبو عتيق محمد ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو صحابي بهذا الاعتبار ابن صحابي ابن صحابي [ابن صحابي] (¬2) وهذا من خصائص بيت الصديق، ولا يعرف في غيره كما قدمناه في ترجمة عائشة رضي الله عنها. مات رضي الله عنه بالحبشى، وهو جبل بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: نحو عشرة فنقله ابن صفوان إلى مكة، ووقع في ثقات ¬

_ = المسند (6/ 48، 77، 121، 200، 274)، والنسائي (4/ 6، 7)، وابن حبان (6582)، والحاكم (4/ 7)، والطبراني (23/ 78، 81، 89). (¬1) في الأصل (اسمه)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) زيادة من ن من ج ب.

ابن حبان أنه مات بالحبشة ولعله غلط من الناسخ. وكانت وفاته سنة ثلاثة [وخمسين، وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، وقال ابن حبان: سنة ثمان، قبل عائشة، ثم حكى قول من قال سنة ثلاث] (¬1) قال: وكان يخضب بالحناء والكتم، قال القاسم: توفي في مقيل قاله على غير وصية، فأعتقت عائشة رقيقًا من رقيقه عسى أن نفعه الله به، ولما اتصل موته بها ظعنت من المدينة حاجة حتى وقفت على قبره فبكت عليه وتمثلت: وكناكندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتفرقا (¬2) فلما تفرَّقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلَّا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك. وترجمته مبسوطة أكثر من هذا فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب وذكرت فيه أن في الرواة عبد الرحمن بن أبي بكر ثلاثة، هذا أحدهم فاستفد الباقي منه. الوجه الثاني: [بقولها] (¬3): "ومع عبد الرحمن سواك رطب" فيه الاستياك بالسواك الرطب وقد قدمت في الحديث الأول ما فيه للصائم. ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) في ن ب ج (يتصدعا)، وايضًا ابن كثير في البداية. انظر الكلام على حكم زيادة النساء للقبور في حديث (163/ 7/ 32)، كتاب الجنائز، في هذا الكتاب المبارك. (¬3) زيادة من ن ب ج.

الثالث: معنى "يستن به": يستاك. قال الخطابي (¬1): وأصله من السن وهو إمرار الشيء الذي فيه حروشه على شيء آخر، [ومنه] (¬2) المسن: الذي يستحد عليه الحديد ونحوه، يريد أنه كان يدلك به أسنانه، وكان سواكه - صلى الله عليه وسلم - تارة من أراك وتارة جريدة النخل، وفي البخاري (¬3) في هذا الحديث أن هذا السواك كان من جريد رطبة، وفي صحيح الحاكم (¬4) أنه كان من أراك رطب، ثم قال: صحيح الإِسناد ولم يخرجاه، وقال ابن دحية في كتابه مرج البحرين (¬5): أنه كان من عسيب النخل فيما رواه أبو القاسم بن الحسين (¬6). قلت: وهو الجريد ما لم ينبت عليه خوص كما سلف في الباب قبله، قال: والعرب تستاك بالعسيب، قال: وكان أحب السواك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرع الأراك، واحدها صريع وهو قضيب ينطوي من الأراك حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها [فهو] (¬7) ألين من ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 39). (¬2) في ن ب (ومثله). (¬3) الفتح (4451). (¬4) في ن ج (الحكم). انظر: المستدرك (4/ 6). (¬5) هو عمر بن حسن بن علي الملقب بالجميل -بتشديد الياء المفتوحة- انظر: تذكرة الحفاظ (4/ 1420، 1422). (¬6) هو أبو القاسم علي بن الحسين المعروف بابن عساكر. انظر: تذكرة الحفاظ (4/ 1328، 1334). (¬7) في ن ب (وهو).

[فرعها] (¬1). الرابع: قولها: فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره [معنى] (¬2) أيده بالباء الموحدة ثم الدال المهملة: نظر إليه طويلًا؛ لقوله في الرواية الأخرى: "فرأيته ينظر إليه"، [يقال] (¬3): أبددت فلانًا النظر إذا طولته إليه، فكان أصله من معنى التبديد الذي هو التفريق، وكأنه عليه الصلاة والسلام أعطاه بدته من النظر أي حظه. ويروى أن عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلَّا الله، ثم رفع رأسه فأبد النظر، ثم قال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قبض (¬4). وما ذكرته من أن أصله من معنى التبديد الذي هو التفريق هو ما ذكره الشيخ تقي الدين (¬5) ونازعه فيه الفاكهي، وقال: بل هو بالجمع أولى منه بالتفريق [فإنه] (¬6) من أطال نظره إلى الشيء فقد جمع نظره فيه، وكذا فيه الحكاية المذكورة معناه: جمع نظره في الحضرة لا أنه فرق نظره وردده، وتبعه بعض من [أدركناه] (¬7) فقال: ¬

_ (¬1) في ن ب (فروعها). انظر: البدر المنير (3/ 220). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (قال). (¬4) انظر: سيرة عمر بن العزيز لابن الجوزي (284). (¬5) إحكام الأحكام مع الحاشيه (1/ 287). (¬6) في ن ب (لأن). (¬7) في ن ب (أدركاه).

يحتمل أن يكون أصله التأبيد وهو طول المكث وهو أنسب لتطويل البصر، قال: فإن كان من التأبيد فتكون الباء مشددة، وإن كان من التبديد فتكون الدال مشددة. الخامس: فيه العمل بما يفهم من الإِشارة والحركات، وقد أعملها الفقهاء في غير ما مسألة من الأخرس وغيره. السادس: قولها "فقضمته": هو بالضاد المعجمة المكسورة، قال الجوهري: القضم هو الأكل بأطراف الأسنان، والخضم يعني بالخاء المعجمة: الأكل بجميعها. وقولهم: "يبلغ الخضم" (¬1) أي: يدرك السبع بالأكل [أي] (¬2) بأطراف الفم، وإن الغاية البعيدة تُدْرك بالرفق، قال الشاعر: تبَلَّغ بأخلاق الثياب جديدها ... وبالقضم حتى [تبلغ] (¬3) الخضمَ بالقضْم وقال ابن هشام: القضم: لكل شيء يابس كالتبن والشعير، والخضم لكل شيء رطب كالقثاء وغيره. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (بالقضم)، وأيضًا في مختار الصحاح (227). وإنظر: غريب الحديث للهروي (1/ 305)، والفائق (3/ 200)، وعمدة القاري (5/ 266). (¬2) في ن ب زيادة (أي). (¬3) في لسان العرب (11/ 208) (تدرك)، وأيضًا في مختار الصحاح (227)، وفي المشوف المعلم (245).

وذكر ابن جني: أن العرب اختصت اليابس بالقاف والرطب بالخاء؛ لأن في القاف شدة وفي الخاء رخاوة. وقيل: إن القضم لمقدم الأسنان والخضم بالفم كله (¬1)، وقالوا في تعريف اسمه: خضم بفتح الضاد وكسرها. وذكرهما صاحب المطالع في باب: القاف مع الصاد المهملة فقال: قولها "فقضمته" يعني بفتح الضاد أي شققت السواك بأسناني، وفي كتاب التميمي: فقضمته أي قطعت رأسه، والقضم القص، وفي البخاري (¬2) في الوفاة، ومثله للقابسي، وابن السكن، وكذلك اختلف فيه عن أبي ذر. ثم قال بعد ذلك: قولها "فقصمته ثم مضغته" كذا لأكثرهم، ولابن السكن والمستملي والحموي بضاد معجمة (¬3)، فالقصم الكسر، والقضم القطع بالأسنان، والمضغ التليين. ولما ذكره ابن الجوزي (¬4) في الضاد المعجمة قال: وبعض المحدثين يقوله بالمهملة، وبالمعجمة أصح. ¬

_ (¬1) ذكره في المشوف المعلوم (244، 245، 646). (¬2) الفتح (8/ 138). (¬3) انظر: الفتح (2/ 377). (¬4) بحثت عنه في كتابه "غريب الحديث" ولم أجده ولعله في كتابه "مشكل الصحاح" نسبه إليه ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة أو "مشكل الصحيحين".

وقال ابن التين في شرح البخاري: هو في [الكثير] (¬1) بصاد غير معجمة وقاف، وضبطه بعضهم بالفاء، والمعنى يصح في ذلك كله؛ لأن الفصم بالفاء: الكسر. وصوابه بقاف وصاد غير معجمة وهو الكسر والقطع وكذا رويناه، وقد صح بالضاد المعجمة لأنه الأكل بأطراف الأسنان. وقال ثعلب (¬2): قضمت الدابة شعيرها، بكسر ثانية يقضم. وحكى الليلي (¬3) فتح ثانية، ولم يزد الشيخ تقي الدين (¬4): في شرحه على قوله: القضم بالأسنان. وأما ابن العطار: فلم يتكلم على هذه اللفظة رأسًا. ويتلخص مما ذكرنا ثلاث روايات: الأولى: بالقاف والصاد المهملة. الثانية: بالفاء (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب (الكتب). (¬2) شرح الفصيح لابن الجبان (107)، والتلويح شرح الفصيح للهروي (7). (¬3) هو أبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي الفهري المتوفى سنة (691) مؤلفاته: البغية في اللغة، بغية الآمال بمعرفة النطق بجميع مستقبلات الأفعال، تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح. (¬4) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 288). (¬5) قال القالي رحمنا الله وإياه في أماليه (2/ 30): والقَصْم، والفَصم: الكسر، وبعضهم يفرق بينهما فيقول: القصم: الكسر الذي فيه بينونة، والفصم: الكسر الذي لم يبين. اهـ. وقد قال: البطليوسي بالتفريق، ومرة قال هما سواء. انظر: الحروف الخمسة (370، 532).

الئالثة: بالقاف والضاد المعجمة المكسورة ويجوز فتحها أيضًا كما سلف فاستفد ذلك (¬1). ولما حكى المحب الطبري في أحكامه عن ابن الأثير (¬2) أنه قال: قولها "فقضمته" هو بكسر الضاد المعجمة أي مضغته ولينته وطيبته، قال: فيكون قولها "فطيبته" تكرارًا للتأكيد. قال: ولا يبعد أن يكون بالصاد المهملة وهو الكسر، فيكون معناه كسرته لطوله أو لمعنى آخر [و] (¬3) قد علمت أن ذلك رواية وأن بعضهم صوبها. السابع: قولها "فطيبته" يحتمل أن تريد غسلته، ويحتمل أن تريد أنعمته ولينته وهو أظهر لعطفها بالفاء السببية، إذ التليين والتنعيم مسبب عن القضم وليس الغسل كذلك، ولذلك لما لم يكن الدفع مسببًا عن القضم أثبت "بثم" التي لا تسبب فيها ولما بين الأخذ و [الدفع] (¬4) من التراخي. الثامن: فيه إصلاح السواك وتهيئته للاستياك. التاسع: فيه الاستياك بسواك الغير من غير كراهة. قال الخطابي (¬5): على من يذهب [إليه] (¬6) بعض من يتقزز. ¬

_ (¬1) انظر إلى معانيها في عمدة القاري (5/ 266). (¬2) انظر: جامع الأصول (11/ 66)، وفتح الباري (8/ 139). (¬3) في الأصل ساقطة، والزيادة من ن ب ج. (¬4) في ن ب (الرفع). (¬5) قال الخطابي في معالم السنن (1/ 41) رحمنا الله وإياه: وفيه استعمال سواك الغير ليس بمكروه، على ما يذهب إليه من يتقزز. (¬6) في ن ب ساقطة.

وفي كلام الترمذي الحكيم ما يشعر بكراهة ذلك فإنه قال: [ولا تستاك] (¬1) بسواك [غيرك] (¬2) وإن غسلته، فإن ابن عمر قال: "من استاك بسواك غيره فقد" [الحفظ] " ((¬3) وهذا الحديث يرده. قال [الخطابي] (¬4): إلَّا أن السنة أن يغسله ثم يستعمله. تنيه: من المنكر ما رواه العقيلي عن عائشة قالت: لما مرض عليه الصلاة السلام مرضه الذي مات فيه قال: "يا عائشة ائتيني بسواك رطب امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك لكي يهون (به) (¬5) عليّ عند الموت". قال العقيلي (¬6): روى هذا سهيل بن إبراهيم الجارودي ولا يتابع عليه. العاشر: قوله "إصبعه" فيه عشر لغات: [بتثليث] (¬7) الهمزة ¬

_ (¬1) في ن ب (يستاك). (¬2) في ن ب (غيره). (¬3) في الأصل (الحظ). (¬4) في المرجع السابق. أقول: ومن كره ذلك فلا دليل له من كتاب ولا سنة. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) الضعفاء الكبير (2/ 249). (¬7) في ن ب (تثليث). قال في المطلع (15) قال وذكر شيخنا رحمه الله -أي ابن مالك- فيها عشر لغات: فتح الهمزة مع فتح الباء وضمها وكسرها. وضم الهمزة مع ضم الباء وفتحها وكسرها. وكسر الهمزة مع فتح الياء وضمها وكسرها. والعاشرة: "أصبوع" بضم الهمزة والباء وبعدها واو.

والباء، والعاشرة (أصبوع) حكاه ابن سيده (¬1) وغيره، وقد جمعها ابن مالك في بيت فقال: تثليث با أصبع مع [شكل] (¬2) همزته ... من غير [قيد] (¬3) مع الأصبوع قد كملا قال ابن سيده: [وأصحها] (¬4) كسر الهمزة وفتح الباء. قال القرطبي في تفسيره: وروي عن أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المشيرة [منها] (¬5) كانت أطول من الوسطى ثم الوسطى [أقصر] منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى] (¬6)، ثم روى من حديث ميمونة بنت كردم أنها قالت: لقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول إصبعه التي تلي الإِبهام على سائر أصابعه. كذا ذكره، والذي في دلائل النبوة للبيهقي (¬7) أن ذلك في أصابع رجليه لا في يديه، وقد ذكرت ذلك في اختصاري لتفسيره وتهذيبه، أعان الله على إكماله. ¬

_ (¬1) المخصص (2/ 7). (¬2) في ن ب (كسر). (¬3) في ن ج (واو). (¬4) في ن ب ج (وأفصحها). (¬5) زيادة من ن ب ج. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) الدلائل للبيهقي (1/ 246)، وأحمد (6/ 366)، والطبراني (25/ 40)، وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 280)، وعزاه للطبراني وقال: "فيه من لم أعرفهم".

وقولها: "رفع يده أو إصبعه" ظاهره الشك فيجوز أن يكون منها أو من الراوي عنها، والله أعلم بذلك. الحادي عشر: "الرفيق الأعلى" الرفيق: هنا موحد في معنى الجمع كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} (¬1). والأعلى: على بابها من التفضيل. وقيل: بمعنى العالي. قال القاضي عياض (¬2): وفيه أربع روايات "في الرفيق الأعلى" و "الرفيق" و"بالرفيق" و"مع الرفيق"، قال: وفي معناها أربع تأويلات: أحدها: أنه من أسماء الله تعالى (¬3)، وأنكره الأزهري ولا سيما مع رواية "مع". ثانيها: أنه جماعة الأنبياء [عليهم الصلاة والسلام] (¬4) يدل عليه ¬

_ (¬1) سورة غافر: آية 67. (¬2) مشارق الأنوار (1/ 296، 297). (¬3) سباق الكلام في المشارق "وألحقني بالرفيق الأعلى" قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وخطأ هذا الأزهري -أي في تهذيب اللغة (9/ 110، 111) - وقال: بل هم جماعة الأنبياء ويصححه قوله في الحديث الآخر: "مع النبيين والصديقين" إلى قوله: "وحسن أولئك رفيقا".اهـ. أقول: وأما إطلاق "الأعلى" اسمًا له فقد ورد في القرآن بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، واسمه الأعلى أي صفته على أعلى الصفات. انظر: لسان العرب (15/ 83، 95) دار صادر. تهذيب اللغة (3/ 186). (¬4) ساقطة من الأصل.

قوله في الحديث الآخر: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ...} (¬1) الآية، وهو لفظ عام يقع على الواحد والجمع بلفظ واحد. ثالثها: أنه مرتفق الجنة. رابعها: أنه اسم لكل سماء، قاله الداودي: ووهم فيه؛ لأن السماء إنما هو الرفيع بالعين، ويبعد مع رواية "الرفيق". وقال الشيخ تقي الدين (¬2): الرفيق الأعلى إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (¬3) فيكون معناه: الأعلى من نوع البشر، وقد ذكر بعضهم أن قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬4) إشارة إلى ما في هذه الآية وهي قوله تعالى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، فكان هذا تفسيرًا لتلك، قال: وبلغني أنه صنف في ذلك كتاب تفسير فيه القرآن بالقرآن. [قلت] (¬5): صنف السهيلي (¬6) كتابًا في مبهمات القرآن (¬7) وذكر ¬

_ (¬1) سيأتى في هذا الحديث ص (591) تعليق (4). (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 290). (¬3) سورة النساء: آية 69. (¬4) سورة الفاتحة: آية 7. (¬5) في ن ب (قد). (¬6) هو الفقيه المحدث أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسين الخثعمي السهيلي المولود سنة (508)، والمتوفى سنة (581). (¬7) في ن ب زيادة (وقد). اسمه التعريف والإِعلام، فيما أبهم من الأسماء والأعلام في القرآن الكريم، (ص 17).

أن المنعم عليهم في الفاتحة هم المذكورون في الآية السالفة التي في سورة النساء. قال الشيخ (¬1): ويجوز أن يكون (الأعلى) من الصفات اللازمة التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (¬2) وليس ثمة داع إلهًا آخر له به برهان، وكذلك {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (¬3) ولا يكون قتل النبيين إلَّا بغير الحق، كذا ذكره [الشيخ] (¬4)، والزمخشري (¬5) يخالفه فإنه قال: إن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلَّا [بغير] (¬6) حق، فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أن قتلهم بغير حتى عندهم [لأنهم] (¬7) لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض ولا استوجبوا القتل بسبب يكون شبهة [لهم] (¬8) ومستندًا، بل نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، ولو أنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهًا يوجب عندهم القتل. ثم قال الشيخ: فيكون "الرفيق" لم يطلق إلَّا على الأعلى الذي ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 290). (¬2) سورة المؤمنون: آية 117. (¬3) سورة آل عمران: آيه 21. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) الكشاف (1/ 72) مع اختلاف في بعض الكلمات. (¬6) في ن ب (لغير). (¬7) زيادة من ن ب. (¬8) زيادة من ن ب.

اختص الرفيق به، ويقوي هذا ما ورد في الروايات: "وألحقني بالرفيق" ولم يصفه بالأعلى، وذلك دليل أنه المراد بلفظ الرفيق. ويحتمل أن يعم الأعلى وغيره، ثم ذلك على وجهين: أحدهما: أنه يختص [الرفيقان] (¬1) معًا بالمقربين المرضيين، ولا شك أن مراتبهم متفاوتة، فطلب عليه الصلاة والسلام أن يكون في أعلى مراتب الرفيق وإن كان الكل من السعداء المرضيين. الثاني: أن يطلق "الرفيق" بالمعنى الوضعي الذي يعم كل رفيق، ثم يخص منه "الأعلى" بالطلب، وهو مطلق المرضيين، ويكون "الأعلى" بمعنى العالي، ويخرج عنه غيرهم، وإن كان [اسم] (¬2) "الرفيق" منطلقًا عليهم، قال الفاكهي، والوجه الأول أليق بمحله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن العطار: وما ذكر من المجوزات في الرفيق الأعلى هو إذا لم يكن فيه بيان منه - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت البيان فيه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "أغمي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجري فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال عليه الصلاة والسلام: لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل واسرافيل" (¬3) رواه ابن حبان في صحيحه بإسناده الصحيح (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل (الفريقان)، والتصحيح من إحكام الأحكام (ص 291/ م 1). قال الصنعاني: المذكور أحدهما بالمنطوق والآخر بالمفهوم، الرفيق الأعلى، والرفيق غير الأعلى ... إلخ. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ابن حبان (8/ 199). (¬4) في ن ب زيادة (وهو كما قال)، وروى أيضًا في صحيحه (8/ 199) عنها =

الثانى عشر: قولها: "ثم قضى" أي مات - صلى الله عليه وسلم - بعد تكرار هذه الكلمة ثلاثًا، وذلك حين خير - صلى الله عليه وسلم -، ويؤخذ من ذلك التلقين باللهم الرفيق الأعلى، وفي رواية لابن حبان أنه قال: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" (¬1). لكن صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - في حقنا أنه قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلَّا الله" كما أخرجه مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة وأبي (¬3) سعيد الخدري، وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله دخل الجنة". كما رواه أبو داود والحاكم من حديث ¬

_ = قالت: "كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير بن الدنيا والآخرة، قالت: فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات عنه وأخذته بُحَّةٌ فجعل يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، فنظننت أنه خير حينئذ". عزاه إليه المحب في أحكامه في كتاب الجنائز وجزم بأن الرفيق الأعلى جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، قال: وهو اسم جاء على فعيل ومعناه الجماعة كالصديق والخليط، يقع على الواحد والجمع، ومنه قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}، والرفيق أيضًا: المرافق في الطريق، وقيل: معنى ألحقني بالرفيق الأعلى: بالله تعالى، والله رفيق بعباده، من الرفق والرأفة، فهو فعل بمعنى فاعل. (¬1) ابن حبان (6584). (¬2) رواية أبي هريرة: مسلم (917)، وابن الجارود (513)، وابن ماجه (1444)، وابن أبي شيبة (3/ 237)، والبيهقي (3/ 383). رواية أبي سعيد: مسلم (916)، والنسائي (4/ 5)، وأبو داود (3117)، والترمذى (976)، والبغوي (1465)، وأحمد (313)، وابن ماجه (1445). (¬3) في الأصل (وأبو).

معاذ (¬1)، قال الحاكم: صحيح الإِسناد (¬2). الثالث عشر: "الحاقنة": الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق. وعبارة الجوهري (¬3): هي ما بين الترقوة وحبل العاتق. والعاتق: موضع الرداء قال: [هما] (¬4) حاقنتان. وقيل: إنهما ما سفل من البطن. والمراد: يحقن الطعام [أي] (¬5) يجمعه، ومنه المحقنة بكسر الميم التي يحتقن بها وجمعها حواقن، ومن كلام العرب: لأجمعن دين حواقنك وذواقنك. وأما الذاقنة ففيها أقوال: أحدها: الذقن. ثانيها: طرف الحلقوم، قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) المستدرك للحاكم (1/ 351، 500)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. أبو داود (3116) وإسناده حسن. (¬2) في حاشية ن ج: (في رواية لابن حبان: فاستن كأحسن ما رأيت مستنًا ثم ذهب يرفعه فسقط من يده، فأخذت أدعو بدعاء كان يدعو به جبرائيل -أو يدعو به إذا مرض، ولم يدع به في مرضه ذلك- فرفع بصره إلى السماء فجعل يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، وفاضت نفسه، فقلت: الحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة). (¬3) مختار الصحاح (39). (¬4) في ن ب (إنهما). (¬5) ساقطة من ن ب.

ثالثها: ما يناله الذقن من الصدر. وعبارة بعضهم أنها نقرة النحر. رابعها: أعلى البطن. خامسها: أسفله. وجاء في رواية أخرى: "ما بين سحري ونحري" (¬1) بالسين والحاء المهملتين وبالمعجمتين وبالسين المهملة مع الجيم ومعنى الأول: الرئة وما يتعلق بها، ومعنى الثانية: الضم إلى الصدر مع تشبيك الأصابع، ومعنى الثالثة: ما بين اللحيين. الرابع عشر: يستفاد من الحديث دخول أقارب الزوجة على الزوج في مرضه وغيره. الخامس عشر: فيه أيضًا جواز أن يكون الذي قربت وفاته جالسًا مستندًا إلى زوجته ونحوها ممن يعز عليه. ولا يشترط أن يوجه إلى القبلة على جنبه الأيمن أو على قفاه على العادة. السادس عشر: أيضًا نقل أحواله إلى أمته ليُتبع. السابع عشر: فيه أنه عليه السلام كان يحب السواك وقد فعله في مثل هذه الحالة وهي آخر الأمر، وقد صحيح أصحابنا وجوبه عليه ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (8/ 144) (6/ 210)، وأحمد (6/ 200، 48)، وابن حبان (6582).

كما أوضحته في "غاية السول في خصائص الرسول" (¬1) وفيما نقل عن ابنِ سُبع أن السواك يسهل الموت. خاتمة: توفي - صلى الله عليه وسلم - سنة إحدى عشرة من الهجرة بعد حجة الوداع باثنتين وثمانين يومًا. وقيل: إحدى وثمانين. قيل: لثمان خلت من ربيع الأول وهو الراجح عند جماعة، منهم ابن حزم (¬2). وقال الواقدي: يوم الاثنين الثاني عشر منه، وعليه [جمهور] (¬3) العلماء كما جزمت به في أول الكتاب. وقال السهيلي (¬4) وأبو ربيع بن سالم: هذا لا يصح؛ لأن وقفة حجة الوداع كانت يوم الجمعة تمت الشهور كلها أو نقصت أو تم بعضها أو نقص بعضها، وتبعهما ابن دحية في المولد فقال: لا يصح بوجه إلَّا أنه توفي في أول يوم منه أو ثانيه أو ثالث عشرة أو رابع عشرة أو خامس عشرة؛ للإِجماع على أن وقفة عرفة كانت يوم الجمعة. وقال الطبري (¬5): توفي يوم الاثنين لليلتين مضتا منه. ¬

_ (¬1) طبع هذا الكتاب في جزء مسقل. (¬2) جوامع السيرة النبوية (211). (¬3) في ن ب (جماعة). ذكره الذهبي عنه في السيرة النبوية (397). (¬4) الروض الأنف (4/ 272). (¬5) تاريخ الطبري (3/ 197، 198).

وقال أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي (¬1): في أول يوم منه، وكلاهما ممكن. وكان ابتداء مرضه الذي مات فيه (وجع الرأس) في بيت عائشة. وقيل: في بيت ميمونة (¬2). وقيل: في بيت زينب. وقيل: في بيت ريحانة، وذلك يوم الأربعاء [ثاني عشر] (¬3) ثاني من شهر صفر. وقيل: لليلتين بقيتا، منه. وقيل: لليلة بقيت منه. وكان له - صلى الله عليه وسلم - من العمر يومئذ ثلاث وستون. وقيل: خمس وستون. وقيل: ستون. والأول: أكثر وأصح، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح. ¬

_ (¬1) ذكره في وفيات الأعيان دون تعريف به (3/ 74) (4/ 79، 355). توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة، وقد دُعي إلى القضاء مرارًا فامتنع رحمه الله. دول الإِسلام (1/ 242)، والجواهر المضية (2/ 135)، والفوائد البهية (201، 202). (¬2) ذكره ابن حزم في كتابه السابق. (¬3) في الأصل مكررة.

قال العلماء: والجمع بين الروايات أن من روى ثلاثًا وستين لم يعد معهما الكسور، ومن روى خمسًا وستين عند سنّي المولد والوفاة، ومن قال: ستين لم يعدهما، والمنقول عن الأكثرين أنه عليه السلام (¬1) توفي حيث اشتد الضحى يوم الاثنين وبه جزم عبد الغني. وفي صحيح البخاري (¬2) أنه توفي في آخر ذلك اليوم. وصحح الحاكم في الإِكليل أنه توفي حين زاغت الشمس من يوم الاثنين ودفن تلك [الساعة] (¬3) وقال: إنه أثبت الأقاويل. وقيل: [دفن] (¬4) ليلة الثلاثاء. وقيل: ليلة الأربعاء وسط الليل، ورجحه جماعة من العلماء، وقيل: دفن يوم الأربعاء - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬2) الفتح رقم (680). وانظر إلى الجمع بين الروايات (8/ 143). (¬3) في ن ب (الليلة). (¬4) في ن ب ساقطة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 23/ 4/ 3 - عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك [بسواك] (¬1)، قال: وطرف السواك على [لسانه] (¬2) يقول: أُعْ أُعْ، والسواك في فيه، كأنه يتهوع" (¬3). الكلام عليه من ستة أوجه: وتقدم عليها أن قوله: أُعْ أُعْ إلى آخره [من] (¬4) أفراد البخاري كما بينه الحميدي في جمعه بين الصحيحين. أحدها: في التعريف براويه واسمه عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح أوله وتشديد ثانيه معجمًا على الأكثر. الأشعري: نسبة إلى الأشعر، واسمه: بنت بن أدد. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام زيادة (رطب). (¬2) في إحكام الأحكام زيادة (وهو). (¬3) البخاري برقم (244)، ومسلم (254)، والنسائي (1/ 9)، وأبو داود برقم (49)، وابن خزيمة برقم (141)، وابن حبان برقم (1070)، والبيهقي (1/ 35)، وأحمد (4/ 417)، والبغوي (1/ 396). (¬4) في الأصل (في)، والتصحيح من ن ب ج.

وقيل: إلى الأشعر بن سبأ أخي حمير بن سبأ. وأمه: ظبية بنت وهب بن علي أسلمت وماتت بالمدينة. وكان هو [وأبو عامر] (¬1) وأبو بردة وأبو رهم [بنو] (¬2) قيس إخوة أربعة أسلموا كلهم في موضع واحد، صحابيون. وكان أبو موسى حليفًا لبني عبد شمس، واختلف فيمن حالف منهم على قولين: أحدهما: أنه حالف بعد قدومه مكة مع إخوته في جماعة الأشعريين أبا أُحيحة سعيد بن العاص بن أمية، ثم أسلم بعد ذلك وهاجر إلى أرض الحبشة، قاله الواقدي: ثانيهما: أنه حليف آل عتبة بن ربيعة، قاله ابن إسحاق وذكره فيمن هاجر من حلفاء بني عبد شمس إلى الحبشة. واختلف في هجرة أبي موسى وقومه إلى أرض الحبشة على قولين: أحدهما: أنه لما قدم مكة وحالف من حالف انصرف إلى بلاد قومه ولم يهاجر إليها، ثم قدم مع إخوته [فصادف] (¬3) قدومه قدوم السفينتين من الحبشة، قاله جماعة من أهل السير والنسب، وأصحهما كما قال أبو عمر: أنه لم يهاجر إليها وإنما رجع بعد مخالفته إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين نحو خمسين رجلًا في سفينة، فألقتهم الريح إلى النجاشي بأرض الحبشة فوافقوا ¬

_ (¬1) في ن ج ساقطة. (¬2) في ن ب (بن). (¬3) في ن ب (وصادف).

خروج جعفر وأصحابه منها فأقاموا معهم، وقدمت السفينتان معًا سفينة الأشعريين وسفينة جعفر وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر فأسهم لهم ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر غيرهم. وقيل: إنهم أقاموا بالحبشة بعد رمي الريح لهم إليها مدة ثم خرجوا منها بعد خروج جعفر فذكروا فيمن هاجر إليها. عمل أبو موسى للنبي - صلى الله عليه وسلم - على زبيد وعدن إلى الساحل، ثم ولاه عمر البصرة حين عزل عنها المغيرة، فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان فعزله عنها فانتقل إلى الكوفة، فسأل أهلُها عثمانَ أن يوليه عليهم فأقره عليها إلى أن قتل، فعزله [علي] (¬1) عنها، وكان في نفسه من ذلك إلى أن جاء منه ما قال حذيفة فيه مما يكره ذكره، ثم كان من أمره يوم الحكمين ما كان [قاله] (¬2) أبو عمر. وذكر غيره أنه ولي الكوفة لعمر وتبعته فيما أفردته في رجال هذا الكتاب، وشهد رضي الله عنه وفاة [أبي عبيدة] (¬3) بالأردن، وخطبة عمر بالجابية، وقدم دمشق على معاوية. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وستون حديثًا، اتفقا منها على خمسين، قاله الحافظ عبد الغني. وقال ابن الجوزي: على تسعة وأربعين. وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر، وروى عنه من الصحابة أنس بن مالك، وخلق من التابعين، وأولاده أبو بردة ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) في ن ب (قال). (¬3) في ن ب (أبي عبيد)، والأُرْدُنَّ: انظر معجم البلدان (1/ 147).

وأبو بكر وإبراهيم وموسى. وروى عن جماعة من الصحابة، وكان من فقهائهم ومشاهيرهم ونساكهم، وهو معدود من أهل البصرة. سئل علي رضي الله عنه عنه فقال: صُبغَ في العلم صبغة. وكان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن. قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوتي مزمارًا من مزامير [آل] (¬1) داود" (¬2). وكان عمر إذا رآه يقول: ذكرنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده. وقال الشعبي: كانت القضاة أربعة: عمر وعلي وزيد بي ثابت [وأبو] (¬3) موسى رضي الله عنهم. وكان رضي الله عنه قصيرًا خفيف اللحم [أثَطَّ] (¬4)، وفي الحديث "يقدم عليكم الأشعريون" فلما أن قدموا تصافحوا فكانوا أول من أحدث المصافحة. وقال الشعبي: كنت عمر في وصيته أن لا يتولى عامل أكثر من سنة وأقرها الأشعري أربع سنين. ويروى أنه عليه السلام استغفر له، فقال: "اللهم اغفر [لعبد الله] (¬5) بن قيس ذنبه وأدخله مدخلًا كريمًا". وفي وفاته ستة أقوال: أحدها: سنة اثنتين وأربعين. ثانيها: سنة أربع وأربعين في ذي الحجة عن ثلاث وستين سنة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) متفق عليه. (¬3) في ن ب (وأبي). (¬4) في ن ب بياض بمقدار كلمتين. (¬5) في ن ب (لعبد).

ثالثها: سنة خمسين. رابعها: سنة ثلات وخمسين. خامسها: سنة إحدى وخمسين. سادسها: سنة اثنين. وفي موضع قبره قولان: أحدهما: بداره بالكوفة، وقال بعضهم: دفن بالثوبة على ميلين من الكوفة. ثانيهما: بمكة، يقال: إنه خرج إلى مكة حياء من علي فمات بها. ومناقبه وفضائله مستوفاة في تاريخ دمشق. الوجه الثاني: قوله: "يقول أُعْ أُعْ" الضمير في (يقول) يحتمل أن يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الظاهر فيكون القول حقيقة. ويحتمل على بُعد- أن يعود إلى السواك ويكون من باب: امتلأ الحوض وقال: قطني. ووجه بعده: إن السواك ليس له صوت يسمع ولا قرينة حال تشعر بذلك. الثالث: "أُعْ أُعْ" هو بضم الهمزة وسكون العين المهملة (¬1) وفيه ثلاث روايات أخرى: الأولى: "عا عا" رواه النسائي وابن خزيمة (¬2) وابن حبان. ¬

_ (¬1) في العدة حاشية إحكام الأحكام (1/ 286)، وروي بفتح الهمزة. (¬2) انظر: ت (3) ص (598).

الثانية: "إخ إخ" بكسر الهمزة وخاء معجمة، رواه الجوزقي في صحيحه. الثالثة: "أُهْ أُهْ" بهمزة مضمومة، وقيل: مفتوحة، والهاء ساكنة، رواه أبو داود (¬1)، وكلها عبارة عن إبلاع السواك إلى أقاصي الحلق. الرابع: قوله: "كأنه يتهوع" أي يتقيأ، أي له صوت كصوت التهوع الذي يتقيأ لا أنه يتقيأ، قال ابن التياني (¬2) في الموعب: عن صاحب العين: هاع الرجل يهوع هوعًا وهواعًا: جاءه القيء من غير تكلف فما خرج من حلقة هواعه، وهوعته ما أكل، استخرجته من حلقي، وعن إسماعيل: الهوعا [مثال عسرا] (¬3) من التهوع. وعن قطرب (¬4): [الهيعوعة] (¬5) من الهواع. قال ابن [سيده] (¬6): ¬

_ (¬1) انظر: ت (1) ص (602). (¬2) سبق التعريف به ت (1) من (477). (¬3) في ن ب (مبدلاّ عرًا)، وفي ن ج (مثل). بحثت في الصحاح (3/ 1309)، وفي المحيط في اللغة (2/ 77)، ولم أجد هذه الكلمة التي بين قوسين. (¬4) هو أبو علي محمد بن المستنير بن أحمد المعروف بقطرب المتوفى سنة (206)، له مؤلفات منها: غريب الحديث، المثلث، النوادر، خلق الإِنسان، خلق الفرس، كتاب الوحوش، كتاب الازمة، كتاب الصفات، الغريب المصنف في اللغة وغيرها. (¬5) في ن ج: الهيوعة. (¬6) في الأصل ون ب (ابن السيد)، والتصحيح من ن ج، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن إساعيل المرسي المعروف بابن سيده، المتوفي سنة =

هيعوعة في باب الواو، ولا يتوجه اللهم إلَّا أن يكون محذوفًا. الخامس: في الحديث الاستياك على اللسان [لقوله: "وطرف السواك على لسانه يقول: "أُعْ أُعْ" وذلك إنما يتأتى بالاستياك على اللسان] (¬1)، وقول الشيخ تقي الدين (¬2): إن اللفظ الذي أورده صاحب الكتاب وإن كان ليس بصريح في الاستياك على اللسان فقد ورد مصرحًا به في بعض الروايات ليس بجيد فإنه صريح في ذلك كما قررته لك. وفي مسند الإِمام أحمد عن أبي موسى قال: "دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق" فوصف حماد كأنه يرفع سواكه. قال حماد: ووصفه لنا غيلان، قال: كأنه يستاك طولًا (¬3). وفي رواية للطبراني في أكبر معاجمه عنه قال: "أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستحمله فرأيته يستاك على لسانه". والعلة المقتضية للاستياك على الأسنان موجودة في اللسان، بل هي أبلغ وأقوى لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة لكن ذكر الفقهاء أنه يستحب أن يستاك عرضًا. قال الشيخ (¬4) تقي الدين: ¬

_ = (458) هـ له مؤلفات منها: المخصص، المحكم، شاذ اللغة، العويص في شرح إصلاح المنطق، تقريب الغريب المصنف، كتاب التذكير والتأنيث وغيرها. (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) إحكام الأحكام (1/ 292). (¬3) المسند (4/ 417). (¬4) إحكام الأحكام (1/ 292).

[وذلك] (¬1) في الأسنان وأما اللسان فقد ورد منصوصًا عليه في بعض الروايات: الاستياك فيه طولًا. قلت: كأنه يشير إلى رواية الإمام أحمد التي أسلفناها، وقد وردت أحاديث ضعاف في الاستياك عرضًا: الأول: حديث عطاء بن أبي رباح رفعه: "إذا استكتم فاستاكوا عرضًا" رواه أبو داود في مراسيله، وفيه أيضًا من لا يعرف حاله (¬2). الثاني: حديث بهز بن حكيم "كان عليه السلام يستاك عرضًا" (¬3). الثالث: حديث ربيعة بن أكثم مثله (¬4). الرابع: حديث عائشة: كان عليه السلام يستاك عرضًا ولا يستاك طولًا (¬5). وهذه الأحاديث قد بينتُ من خرجها بعللها في تخريجي ¬

_ (¬1) في ن ب (وهذا). (¬2) المراسيل لأبي داود رقم (5)، ضعفه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 40)، والنووي في المجموع (1/ 280). (¬3) انظر: تلخيص الحبير فإنه قد حكم عليه بالضعف (1/ 65)، والاستذكار (1/ 394، 395). (¬4) تلخيص الحبير، قال: إسناده ضعيف جدًا (1/ 65)، والاستذكار (1/ 394، 395). (¬5) انظر: تلخيص الحبير (1/ 65، 66).

لأحاديث الرافعي (¬1)، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث وحديث الباب بأنها في استياك الأسنان وهو عرضًا، وحديث الباب في استياك اللسان وهو طولًا فلا تعارض بينها. السادس: ترجم هذا الحديث باستياك الإِمام بحضرة رعيته [وقدمتُ في آخر الحديث الأول من باب السواك أن ابن حبان في صحيحه ترجم على الإباحة للإِمام أن يستاك بحضرة رعيته] (¬2) إذا لم يكن يحتشمهم، ثم ساق حديثًا من طريق أبي موسى (¬3). [وأكثر] (¬4) التراجم التي يترجم بها أصحاب التصانيف على الأحاديث، إشارة إلى المعاني المستنبطة منها، على ثلاث مراتب: منها [ما هو ظاهر في الدلالة على المعنى المراد، ومنها ما هو [خفي] (¬5) الدلالة على المراد بعيد مستكره لا يتمشى إلَّا بتعسف] (¬6)، ومنها ما هو [ظاهر] (¬7) الدلالة على المعنى [المراد] (¬8) إلَّا أن فائدته قليلة لا تكاد تستحسن، مثل ما ترجم البخاري في صحيحه (¬9) باب ¬

_ (¬1) انظر: البدر المنير لابن الملقن رحمنا الله وإياه (3/ 123، 132). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) ابن حبان (2/ 203). (¬4) في ن ب (أيضًا)، بدل (أكثر)، وهي ساقطة من الأصل، وما أثبت من ن ج. (¬5) في الأصل (خفيها). (¬6) هذه ساقطة في النسخ، وصححت من إحكام الأحكام (1/ 70). (¬7) في الأصل ون ب (ظاهرها). (¬8) ساقطة من جميع النسخ. (¬9) البخاري (124)، والزيادة من الصحيح.

"السواك [والفتيا] (¬1) عند رمي الجمار". وهذا القسم يحسن إذا كان لمعنى يخص الواقعة لا يظهر لكثير من الناس في بادئ الرأي كترجمة هذا الحديث، فإن الاستياك [من] (¬2) أفعال البذلة والمهنة، ويلازمه أيضًا من إخراج البصاق وغيره ما لعلّ بعض الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاءه وتركه بحضرة بعض الرعية، وقد اعتبر الفقهاء ذلك في مواضع كثيرة كالأكل والشرب في المواضع التي لم تجبر العادة بالأكل والشرب فيها كالطرق والأسواق [وهو] (¬3) الذي يسمونه بحفظ المروءة (¬4). فأورد هذا الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يطلب إخفاؤه ويتركه الإِمام بحضرة الرعايا إدخالًا له في باب العبادات والقربات، ويحسن هذا القسم أيضًا إذا كان فيه رد على مخالف في المسألة لم تشتهر مقالته، مثل ما ترجم على أنه لا يقال: ما صلينا، فإنه نقل عن بعضهم أنه كره ذلك، فرد عليه بقوله عليه السلام "ما صليتها" (¬5)، ويحسن أيضًا إذا كان سبب الرد على فعل شائع بين ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري. (¬2) في ن ساقطة. (¬3) في ن ب (وهذا). (¬4) في ن ج "حاشية": عن بعضهم كراهية السواك في الطريق. وقيل: إنه من جملة ما أحدثه قوم لوط وأنكر عليهم، أقول: "فيه نظر". (¬5) قال البخاري في صحيحه، الفتح (2/ 123) قال ابن حجر عليه في شرح الترجمة "باب قول الرجل ما صلينا" قال: قال ابن بطال: فيه رد لقول إبراهيم النخعي: يكره أن يقول الرجل لم نصلِّ، ويقول نصلي، قلت: =

الناس لا أصل له فيذكر الرد على من فعل ذلك الفعل، كما اشتهر بين الناس في هذا المكان التحرز عن قولهم: ما صلينا، إذ لم يصح أن أحدًا كرهه، نبه على ذلك الشيخ تقي الدين. ¬

_ = وكراهة النخعي إنما هي في حق منتظر الصلاة، وقد صرح ابن بطال بذلك، ومنتظر الصلاة في صلاة كما ثبت بالنص، فإطلاق المنتظر: ما صلينا، يقضي نفي ما أثبته الشارع فلذلك كرهه، والإطلاق الذي في حديث الباب إنما كان من ناسٍ لها أو مشتغلٍ عنها بالحرب، فافترق حكمهما وتغايرا.

4 - باب المسح على الخفين

4 - باب المسح على الخفين ذكر فيه المصنف حديث المغيرة، وحديث حذيفة، أما حديث المغيرة فلفظه: الحديث الأول 24/ 1/4 - عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليهما" (¬1). والكلام عليه من وجوه تسعة: أولها: في التعريف براويه وهو أبو عيسى المغيرة بضم الميم، وحُكِي كسرها، ابن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب الثقفي، أسلم عام الخندق وقدم مهاجرًا وشهد الحديبية. وأمه: أُمامة بنت الأنعم بن أبي عمرو، قال ابن حبان: وهو أول من سُلِّم عليه بالإِمرة، أحصن في الإِسلام ثلاثمائة امرأة. وقيل: ألف امرأة. ¬

_ (¬1) البخاري رقم (206) في الوضوء، ومسلم في الطهارة برقم (274)، وأبو داود رقم (1395)، والدارمي (1/ 181)، والبيهقي (1/ 281)، والنسائي (1/ 32)، وابن ماجه (1/ 155)، وأحمد في المسند (4/ 255)، وأبو عوانة (1/ 255)، وابن خزيمة رقم (190).

قال مالك: وكان نكّاحًا للنساء، وكان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا. وقص له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاربه على سواك وهذه منقبة لا نعرفها لغيره من الصحابة. رُوي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وستة وثلاثون حديثًا، اتفقا على تسعة أحدها يجمعُ أحاديث، وانفرد البخاري بحديث يجمع حديثين، ومسلم بحديثين، وهو ابن أخي عروة بن مسعود. روى عنه ابنه حمزة وعروة وعفان، وكاتبه وزاد والشعبي وجماعة من التابعين، وكان يقال له: مغيرة الرأي؛ لكمال عقله ودهائه. بعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف لهدم الربة وشهد اليمامة وأُصيبت عينه يوم اليرموك. وروي عن عائشة قالت: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام المغيرة بن شعبة فنظر إليها فذهبت عينه (¬1). وشهد أيضًا فتح الشام، والقادسية، وفتح الأهواز، وهمذان، ونهاوند، وكان على ميسرة النعمان بن مقرّن. وولي لعمر فتوحًا. قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو بن العاصي، والمغيرة، وزياد. فأما معاوية فللحلم والأناءة (¬2)، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. وقال [الزهري] (¬3): دهاة الناس [في الفتنة] (¬4) خمسة: ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير: وذهبت عينه باليرموك (4/ 407). (¬2) في ن ب (وللأناءة). (¬3) في الأصل (الزبيدي)، وفي ن ب (الزبيري)، وفي ن ج (الزبير)، وما أثبت من البداية والنهاية (8/ 50)، ولعله أقرب إلى الصواب. (¬4) في ن ب ساقطة.

عمرو، ومعاوية، وقيس بن سعد، والمغيرة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي. وكان مع علي: ابن بديل، وقيس واعتزل المغيرة. وقال (¬1) داود بن [أبي] (¬2) هند فيما نقله ابن زولاق في تاريخ عمرو بن العاصي [بعد أن ذكر أن الدهاة أربعة: وإذا رأيت وردان غلام عمرو بن العاصي] (¬3) لم تدر أيهما أدهى، ولقد كان عمرو كثيرًا [ما يفزع] (¬4) إلى غلامه وردان في رأيه. وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلَّا بمكر [لخرج] (¬5) من أبوابها كلها. قال المغيرة ما غلبني أحد قط إلَّا غلام من بني الحارث بن كعب فإني خطبت امرأة منهم فأصغى إليّ الغلام، وقال: أيها الأمير لا خير لك فيها إني رأيت رجلًا يقبلها. فانصرفت عنها فبلغني أن الغلام تزوجها فقلت: ألست زعمت كيت وكيت؟ قال: ما كذبت، رأيت أباها يقبلها. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (ابن) وهي ليست في كتب الرجال. راجع كتاب الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى (1/ 526). (¬2) زيادة من المرجع السابق. (¬3) زيادة من ن ب ج. تداخلت على المصنف رحمنا الله واياه ترجمة المغيرة وترجمة عمرو بن العاصي. (¬4) في ن ج (ما ينزع). وكلام المغيرة اسمه (وراد) كما في الترجمة فليتنبه. وتكون العبارة: وإذا رأيت ورّاد غلام المغيرة لم تدر أيهما أدهى، ولقد كان المغيرة كثيرًا ما يفزع إلى غلامه وراد في رأيه. (¬5) زيادة من ن ب ج.

[قال] (¬1) ابن عبد البر: [لما] (¬2) شُهِدَ على المغيرة عند عمر عزله عن البصرة وولاه الكوفة إلى أن قُتل عمر فأقره عثمان ثم عزله عثمان فلم يزل كذلك، واعتزل صفين، فلما كان حين الحكمين لحق بمعاولة فولاه الكوفة. قال أبو عبيد: توفي وهو أميرها سنة تسع وأربعين. قال الخطيب: مات سنة خمسين بالإِجماع. وكذا قال ابن حبان: مات سنة خمسين بالطاعون في شعبان وهو ابن سبعين سنة، وقيل: سنة إحدى وخمسين. قال عبد الملك بن عمير: رأيت زيادًا (¬3) واقفًا على قبر المغيرة وهو يقول: إن تحت الأحجار حزمًا [وعزمًا] (¬4) ... وخصمًا ألدًّا ذا معلاقِ حية في الوجار أربد لا ... ينفع منه السليم نفث الراقي واستخلف عند موته ابنه عروة، وقيل: بل جريرًا، فولى معاوية حينئذ الكوفة زيدًا مع البصرة، وجمع له العراقين. الوجه الثاني: قوله: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر" هو في غزوة تبوك قبل الفجر كما ثبت في بعض طرقه في الصحيح، وكانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع. الثالث: قوله: "أهويت" يقال: أَهْوَى إلى كذا بيده ليأخذه. وقال الأصمعي: أهويت بالشيء إذا أومأت به، ويقال: أهويت له ¬

_ (¬1) في ن ب (وقال). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) الذي في أسد الغابة (4/ 407): (مصقلة بن هبيرة الشيباني). (¬4) في أسد الغابة (4/ 407): (وجودًا).

بالسيف، هذا في الرباعي، وأما في الثلاثي: فهوَى بفتح الواو وهوى إذا سقط. قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} (¬1) يهوي بالكسر، وهوي بالكسر يهوَى بالفتح إذا عشق. الرابع: قوله "لأنزع" هو بكسر الزاي. والضمير في قوله عليه السلام "دعهما" للخفين وفي "أدخلتهما" للرجلين فالضميران مختلفان. ومعنى "طاهرين" أي بطهر الوضوء، إذ ذاك من شرط صحة المسح عليهما كما ستعلمه. وقوله: "فمسح عليهما" فيه إضمار تقديره (فأحدث فمسح عليهما) لأن وقت جواز المسح بعد الحدث ولا يجوز قبله، لأنه على طهارة الغسل وإنما قلنا ذلك لأن في بعض طرقه في الصحيح أنه عليه السلام "تبرز قِبَلَ الغائط [وأنه] (¬2) اتبعه بالإِداوة" (¬3) فتعين حمله على أن المراد: فأحدث فمسح عليهما [لا] (¬4) أنه جدّد الوضوء. الخامس: في الحديث دلالة على جواز المسح على الخفين ¬

_ (¬1) سورة النجم: آيه 1. (¬2) في ن ب (وأنا). (¬3) مسلم رقم (274) في الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإِمام، وأحمد في المسند (4/ 251)، وأبو داود برقم (151). (¬4) في النسخ (إلَّا).

وهو جائز بإجماع من يعتد به في السفر لهذا الحديث، [وفي الحضر] (¬1)؛ لحديث حذيفة الآتي بعده. نعم، هل الأفضل غسل الرجلين إذ هو الأصل والغالب، أم المسح على الخف ردًّا على الخوارج، أم متساويان لتقابلهما؟ فيه [ثلاث] (¬2) مذاهب: ذهب إلى الأول جماعة من الصحابة وبه قال أصحابنا. وذهب جماعة من التابعين إلى الثاني وهو الصحيح عن أحمد. وذهب إلى الثالث أحمد في رواية، واختاره ابن المنذر. وحكى المحاملي (¬3) [في] (¬4) المجموع وغيره من أصحابنا عن مالك ست روايات: أحدها: يجوز المسح. ثانيها: يكره. ثالثها: يجوز أبدًا وهي الأشهر (¬5) والأرجح عند أصحابه. رابعها: يجوز [مؤقتًا] (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (وفي هذا). (¬2) في ن ب (ثلاثة). (¬3) هو محمد بن أحمد بن القاسم أبو الفضل ولد سنة ست وأربعمائة، ومات في رجب سنة سبع وسبعين وأربعمائة. المنتظم (9/ 13)، والوافي بالوفيات (2/ 86). (¬4) في ن ب (أن). (¬5) في ن ب زيادة (عنه). (¬6) في ن ب (يومًا).

خامسها: يجوز للمسافر دون الحاضر. سادسها: عكسه، وكل هذا الخلاف مردود، وقد نقل ابن المنذر في كتابه (الإِجماع) (¬1) إجماعَ العلماء على الجواز، ودليله الأحاديث المستفيضة فيه فعلًا، حضرًا وسفرًا، وأمره بذلك وترخيصه فيه واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه. قال الإِمام أحمد: ليس في قلبي منه شئ، فيه أربعون حديثًا عن [أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) ما رفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما وقفوا. وقال [الميموني] (¬3) عن أحمد: سبعة وثلاثون صحابيًا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه: أربعون، وكذا قال البزار في مسنده، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون، وقال ابن عبد البر (¬4): روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة وأنه استفاض وتواتر. قلت: وبلغتهم في [تخريج] (¬5) أحاديث الرافعي إلى ثمانين صحابيًا فاستفده منه فإنه من المهمات. وقال ابن المنذر (¬6): روينا عن الحسن البصري: حدثني ¬

_ (¬1) الإِجماع (35). تح/ د/ صغير حنيف. (¬2) في ن ب (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في ن ب (المأموني). (¬4) التمهيد (11/ 137)، والاستذكار (2/ 239). (¬5) في ن ب (تخريجي). (¬6) الأوسط (1/ 430)، والاستذكار (2/ 239)، والمجموع (1/ 477).

سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين. وعبارة الماوردي (¬1) في حكاية هذا عنه: حدثني سبعون بدريًا. قال: وأراد أنه سمع ذلك من بعضهم، وروي له ذلك عن بعضهم؛ لأنه لم يدرك سبعين بدريًا. قلت: ومن أشهر الروايات فيه حديث المغيرة الذي ذكره المصنف. قال الشيخ تقي الدين في الإِمام: [بلغني] (¬2) عن الحافظ أبي بكر البزار أنه ذكر [أن] (¬3) حديث المغيرة بن شعبة يروى عنه من نحو ستين طريقًا، ومن أصحها رواية جرير بن عبد الله البَجَلي بفتح الباء والجيم معًا. قال البيهقي في سننه: روينا عن إبراهيم بن أدهم قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسن منه (¬4). وقال البخاري: قال إبراهيم (¬5): كان يعجبهم -يعني هذا الحديث- لأن جريرًا كان من آخرهم إسلامًا، أي لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة كما ثبت عنه في الصحيح. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (1/ 429). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) السنن الكبرى (1/ 270). (¬5) الاستذكار (2/ 238).

وفي الطبراني عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على خفيه بعدما نزلت سورة المائدة (¬1). وفي لفظ: وذلك بحجة الوداع. وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم الأخذ بحديثه لتأخره ورده على من ظن أنه منسوخ أو شك في جوازه وإزالته الإِشكال فيه واللبس على [من] (¬2) التبس عليه، فصار حديث جرير مبينًا للمراد من الآية في غير صاحب الخف وأنه خصصها، فاشتهر بحمد الله جواز المسح وعد شعارًا لأهل السنة (¬3) وعد ترك القول به شعارًا لأهل البدع حتى إن الواحد منهم [ربما] (¬4) تآلى فيقول: برئت من ولاية أمير المؤمنين ومسحت على خفي إن فعلت كذا. وروى الخطابي في معالمه (¬5) ¬

_ (¬1) الطبراني في الكبير برقم (2282)، ورواه البخاري برقم (387)، ومسلم (272)، وأبو داود برقم (154)، والنسائي (1/ 18)، والترمذى برقم (93)، وابن ماجه (543)، وأحمد في مسنده (4/ 358، 361، 364، 365، 366). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في الرد على الرافضة، المخالفين لهذه السنة المتواترة، أولًا: المسألة متواترة في المسح على الخفين وغسل الرجلين: ثانيًا: أنه لو كان لفظ يغاير معناه لسألوا. ثالثًا: أنه لو كان المسح مقصودًا لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويل للأعقاب من النار. رابعًا: أن المسح على الخفين كان بعد نزول آية المائدة والتي فيها صفة الوضوء. انظر: العقيدة الطحاوية، الشرح (435). تنبيه: مسألة المسح على الخفين تأتي في كتب العقيدة؛ لأنه رد للتواتر. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) معالم السنن للخطابي (1/ 95) قال: حدثني إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي المروزي حدثنا ابن أبي الجوال أن الحسين بن زيد ...

عن الحسن بن زيد أنه [مقت] (¬1) على كاتب له فحبسه وأخذ ماله فكتب إليه من الحبس: أشكو إلى الله ما لقيت ... أحببت قومًا بهم بليت لا أشتم الصالحين جهرًا ... ولا [تشيعت] (¬2) ما بقيت أمسح خفي ببطن كفي ... ولو على جيفة وطيت قال: فدعا به من الحبس ورد عليه ماله وأكرمه. السادس: قوله عليه السلام: "فإني أدخلتهما طاهرتين". يعني الطهارة الشرعية بكمالها، لأنه لا يسمى متطهرًا من تطهر في جميع الأعضاء إلَّا لمعة، فكيف من ترك عضوًا كاملًا؟ ولهذا قال أصحابنا: لو غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها الخف لم يجز المسح حتى ينزع الأولى ثم يلبسها ولا يحتاج إلى نزع الثانية لأنها ليست بعد كمال الطهارة. وشذ بعض أصحابنا فأوجب نزع الثانية أيضًا. ومشهور مذهب مالك أنه لا يمسح في هذه الصورة. وقال مطرف: يمسح. وهذا الذي ذكرناه من اشتراط الطهارة في اللبس هو مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وإسحاق، ووجه الدلالة من هذا الحديث أنه علق الحكم بالمسح عليهما بإدخالهما طاهرتين وذلك لا يقتضي ¬

_ (¬1) في ن ب (عتب). (¬2) بياض في الأصل، والتصحيح من ن ج ومن المعالم، وفي ن ب غير واضحة.

إدخال إحداهما طاهرة دون الأخرى، والحكم المرتب على التثنية غير المرتب على الوحدة فيكون حالًا منهما لا من كل واحد منهما. وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ويحيى بن آدم، والمزني، وأبو ثور، وداود: يجوز اللبس على الحدث ثم يكمل طهارته، واختاره ابن المنذر فيما إذا غسل إحدى رجليه ثم لبس ثم غسل الأخرى. وقال القاضي عياض: قال داود: يجوز المسح عليهما إذا كانتا طاهرتين وإن لم يتسبح [الصلاة] (¬1). قال: والفقهاء على خلافه، وبناءً (¬2) على حمل كلامه عليه السلام على الطهارة اللغوية أو الشرعية وهو مختلف فيه بين الأصوليين: هل يقدم العرف على اللغة أم لا؟ كما وقع الخلاف في وضوئه عليه السلام مما مست النار. انتهى. والأصح عند الأصولِيين العمل على الشرعي دون اللغوي. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): استدل بهذا الحديث بعضهم على اشتراط الطهارة في اللبس لجواز المسح، فإنه علل عدم نزعهما بإدخالهما طاهرتين وذلك يقتضي أن إدخالهما غير طاهرتين موجب للنزع، قال: وقد استدلَّ به بعضهم على أن إكمال الطهارة [فيهما] (¬4) شرط، حتى لو غسل إحدى الرجلين وأدخلها الخف ثم غسل ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (الحديث). (¬3) إحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 296) بتصرف. (¬4) في ن ب (فيها).

الأخرى وأدخلها الخف لم يجز المسح، وفي هذا الاستدلال عندنا ضعف أعني في دلالته [في] (1) حكم هذه المسألة، [فلا] (2) يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة، بل ربما يدعي أنه طاهر في ذلك فإن الضمير في قوله "أدخلتهما" يقتضي تعليق الحكم بكل واحد منهما، نعم من روى "فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" فقد يتمسك برواية هذا القائل من حيث إن قوله "أدخلتهما" إذًا يقتضي كل واحدة منهما، فقوله "وهما طاهرتان" حال من كل واحدة منهما فيصير التقدير: أدخلت كل واحدة في حال طهارتها، وذلك إنما يكون بكمال الطهارة، وهذا الاستدلال بهذه الرواية من هذا الوجه قد لا يتأتى في رواية من روى "أدخلتهما وهما طاهرتين". وعلى كل حال فليس الاستدلال بذلك القوي جدًا، لاحتمال الوجه الآخر في الروايتين معًا، اللهم إلَّا أن يضم إلى هذا دليل يدل على أنه لا تحصل الطهارة لأحدهما إلَّا بكمال الطهارة في جميع الأعضاء، فحينئذ يكون ذلك الدليل مع هذا الحديث مستندًا لقول القائلين بعدم الجواز، أعني أن يكون المجموع هو المستند فيكون هذا الحديث دليلًا على اشتراط طهارة كل واحد منهما ويكون ذلك الدليل دالًا على أنها لا تطهر إلَّا بكمال الطهارة، ويحصل من هذا المجموع حكم المسألة المذكورة في عدم الجواز. هذا كلامه، ولا يخلو [بعضه من نظر كما نبّه عليه الفاكهي

_ (1) في ن ب (على). (2) في ن ب (قال).

فليتأمل، وأَصْرَحُ من هذا الحديث] (1) في الدلالة حديث أبي بكرة وحديث صفوان بن عسال -بفتح العين والسين المهملتين- أما حديث أبي بكرة رضي الله عنه فلفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص للمسافر ثلاثة أيام [ولياليهن] (2) وللمقيم يومًا وليلة إذا [تطهر] (3) فلبس خفيه أن يمسح عليهما" حديث صحيح رواه ابن خزيمة (4) وابن حبان (5) في صحيحيهما، وقال الشافعي: إسناده صحيح، وقال البخاري (6): حديث حسن، فَشَرط إكمال الطهارة وعقبه بحرف الفاء.

_ (1) في ن ب ساقطة، وموجودة في ن ج سوى (واصرح من). (2) في ن ب (بلياليهن). والحديث رواه ابن ماجه (556)، والدارقطني (1/ 194)، وابن الجارود (87)، والبيهقي (1/ 276، 282)، والبغوي (237)، وابن أبي شيبة (1/ 279). (3) في الأصل (طهر)، وما أثبت من ن ب. (4) صحيح ابن خزيمة رقم (192)، وموارد الظمآن حديث (184)، وابن حبان رقم (1321). انظر: تلخيص الحبير (1/ 157). (5) ابن حبان رقم (1325)، وابن خزيمة رقم (193)، وموارد الظمآن (186). (6) قال الترمذي رحمنا الله وإياه في السنن (1/ 159): هذا حديث حسن صحيح، قال محمد بن إسماعيل: أحسن شيء في هذا الباب حديث صفوان بن عسال المرادي. وقال أيضًا في العلل (1/ 175): سألت محمدًا، فقلت: أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح على الخفين؟ قال: صفوان بن عسال وحديث أبي بكرة. وقال أيضًا في العلل (1/ 176) قال البخاري: حديث أبي بكرة حسن.

وأما حديث صفوان رضي الله عنه فرواه الدارقطني بلفظ: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثًا إذا سافرنا يومًا وليلة إذا أقمنا" (¬1). قال ابن خزيمة: ذكرت هذا للمزني فقال: حدَّث به أصحابنا [إنه] (¬2) [ليس] (¬3) للشافعي حجة أقوى من هذا (¬4). السابع: استدلَّ بعض المالكية بقوله: "فإني أدخلتهما طاهرتين" على ما [إذا] (¬5) نكس وضوءه (¬6) فغسل رجليه ابتداءً ولبس الخف ثم كمل وضوءه فهل يمسح بعد ذلك؟ قال مالك في العتبية: لا يفعل فإن فعل فلا شيء عليه. قال صاحب البيان [والتعريف] (¬7): والمشهور من المذهب عدم المسح، واستدلَّ به أيضًا على ما إذا غسل رجليه ثم لبس الخف ثم نام قبل كمال طهارته هل يمسح عليهما في وضوء ثان أم لا؟ وفيه روايتان عن مالك حكاهما ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (1/ 197)، والدارقطني (1/ 197)، والترمذي (96)، والبيهقي (1/ 289)، وأحمد (4/ 239، 240)، وعبد الرزاق (792، 795)، وابن أبي شيبة (1/ 177)، وابن ماجه (1/ 47)، والنسائي (1/ 83، 84)، والمحلى (2/ 83) .. والحديث مطولًا ومختصرًا. انظر: التعليق (1) من (627). (¬2) في ن ب (فإنه). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) صحيح ابن خزيمة (ص 97). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب زيادة (ثم). (¬7) في ن ب ج (التقريب).

الباجي (¬1)، والرِّجلان في الصورتَين أُدْخِلتَا بعد طهارتهما، وما أبعد هذا الاستدلال فإن هذا إخبار منه عليه السلام عما فعله، ولم ينقل قط أنه توضأ منكوسًا (¬2). الثامن: استدلَّ به بعضهم أيضًا على المسح على الخف في طهارة التيمم لأنها طهارة شرعية، وعند المالكية حكاية قولين في ذلك، وعند أصحابنا أنه إن كان التيمم لإِعواز الماء لزمه النزع والوضوء، كان لم يكن لإِعوازه مسح واستباح فرضًا واحدًا ونوافل. التاسع: استدلَّ بعضهم بقوله " [فمسح] (¬3) عليهما" على أن المشروع مسح الأعلى وهو الظاهر؛ لأن لفظة "على" ظاهرة في ذلك، ومشهور مذهب مالك وجوب مسح الأعلى واستحباب مسح الأسفل، لكن إن اقتصر على الأعلى استحب له الإِعادة في الوقت. وقال أشهب: أيهما مسح أجزأه. وقال ابن نافع: يجب مسحهما (¬4). ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يسن مسح أعلاه وأسفله خطوطًا وأنه يكفي مسمى مسح يحاذي الفرض إلَّا أسفل رجل وعقبها وحرف الخف فإنه لا يكفي. خاتمة: لا فرق في جواز المسح بين أن يكون لحاجة أم لا، ¬

_ (¬1) المنتقي (1/ 77). (¬2) انظر: تعليق رقم ت 3 ص 359 في الحديث العاشر من كتاب الطهارة. (¬3) في الأصل بياض، وما أثبت من ب ج. (¬4) انظر: المنتقى للباجي (1/ 81)، والمحلى لابن حزم (1/ 153، 156)، ونيل الأوطار (1/ 231، 232).

حتى يجوز للمرأة الملازمة لبيتها والزَّمن الذي لا يمشي، ونقل النووي في شرحه لمسلم (¬1) الإِجماع عليه. وعند المالكية: أنه يشترط في جواز المسح على الخف أن يكون لبسه على الوجه المعتاد عند الناس في لباس الخفاف، فإن لبسه لا لغرض سوى الترخص بالمسح، أو كانت امرأة خضبت بالحناء فلبست للمسح ولئلا تغسل الحناء وشبه ذلك؛ فالمشهور عندهم أن هؤلاء لا يمسحون، فإن فعلوا ففي الإِعادة خلاف. واعلم أن محل الخوض في شروط المسح وصفته والواجب منه والمسنون وكم يصلي به فرضًا كُتُبُ الفروع، وقد بسطنا ذلك فيها ولله الحمد. ¬

_ (¬1) (3/ 164).

الحديث الثاني

الحديث الثاني (¬1) 25/ 2/ 4 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "كنت النبي - صلى الله عليه وسلم -[في سفر] (¬2) فبال، وتوضأ، ومسح على خفيه" (¬3). مختصر الكلام عليه من وجوه خمس: أحدها: في التعريف براويه، وقد تقدم في الباب قبله. ¬

_ (¬1) في الأصل (الثالث). (¬2) لفظة "في سفر" لم ترد في حديث حذيفة وإنما وردت في حديث المغيرة عند مسلم، والقصة تختلف تمامًا، ولفظ مسلم في هذا الحديث: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا، فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت منه حتى قمت عند عقبه فتوضأ" زاد مسلم "فمسح خفيه" قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين: ولم يذكر البخاري في رواية هذه الزيادة، وعلى هذا فلا يحسن من المصنف عد هذا الحديث في هذا الباب من المتفق عليه. اهـ. من النكت للزركشي. (¬3) البخاري برقم (224، 225، 226، 2471)، ومسلم برقم (273)، والترمذي (13)، والمستدرك (1/ 185)، والنسائي (1/ 19، 25)، وأبو عوانة (1/ 198)، والدارمي (1/ 171)، والبيهقي (1/ 100، 270، 274)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب: البول قائمًا (23)، وابن ماجه (305، 306، 540).

ثانيها: هذا الحديث لفظه في الصحيحين عنه قال: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت منه حتى قمت عند عقبه فتوضأ" زاد مسلم "فمسح خفيه" قال عبد الحق: في الجمع بين الصحيحين: ولم يذكر البخاري في روايته هذه الزيادة. وفي رواية للبيهقي "سباطة قوم بالمدينة". قال أبو عمر: لم يقل فيه (بالمدينة) غير عيسى بن يونس وهو ثقة فاضل، إلَّا أنه خولف في ذلك عن الأعمش، وسائر الرواة عن الأعمش لا يقولون فيه (بالمدينة). قلت: قد تابعه محمد بن طلحة بن مصرف وأبو [الأحوص] (¬1) فقالا فيه عن الأعمش (بالمدينة) كما ذكره الإِسماعيلي في جمعه لحديث الأعمش. ثالثها: قوله: " [فبال] (¬2) فتوضأ ومسح على خفيه" فيه بيان للإِضمار في الحديث قبله وقد أسلفناه هناك مبينًا في رواية أخرى. رابعها: فيه تصريح بجواز المسح [على حدث] (¬3) البول. وفي حديث صفوان بن عسال ما يقتضي جوازه [على] (¬4) حدث الغائط وعن النوم أيضًا ومنعه عن الجنابة، وهو حديث صحيح، قال ¬

_ (¬1) في ن ب (الأعوص). (¬2) في ن ب (قال). (¬3) في الأصل وفي ن ب (عن حديث)، والتصحيح من ن ج. (¬4) في الأصل وفي ن ب (عن)، والتصحيح من ن ج.

الترمذي فيه: حديث حسن صحيح (¬1). [خامسها] (¬2): ترجم البخاري على هذا الحديث: البول عند صاحبه والتستر بالحائط (¬3)، والبول عند سباطة قوم (¬4)، والبول قائمًا وقاعدًا (¬5)، وكأنه أخذ البول قاعدًا منه بطريق الأولى؛ لأنه إذا جاز البول قائمًا فقاعدًا أجوز. [سادسها] (¬6): السباطة المذكورة في الرواية التي ذكرناها: ملقى القمامة. وبوله عليه السلام قائمًا إما للاستشفاء لوجع الصلب أو الركبة، وإما أنه لم يجد مكانًا، وإما أن يكون لبيان الجواز، وإما أن يكون لأنها حالة يؤمن معها خروج الحدث من السبيل الآخر بخلاف القعود، ومنه قول عمر رضي الله عنه: "البول قائمًا أحصن للدبر" (¬7). قال المنذري: لعله كانت في السباطة نجاسات رطبة وهي رخوة يخشى أن تتطاير عليه. ¬

_ (¬1) أحمد في المسند (4/ 239، 240)، والنسائي (1/ 32)، والترمذي (1/ 159، 160)، وابن ماجه (1/ 176)، والبيهقي (1/ 114، 118، 276، 282، 289). انظر: ت (1) ص (622). (¬2) فيه تقديم وتأخير بأرقام المسائل بين الأصل ون ب، وما أثبت من ن ب. (¬3) ترجمة رقم (61). (¬4) ترجمة رقم (62). (¬5) ترجمة رقم (60). (¬6) فيه تقديم وتأخير بأرقام المسائل بين الأصل ون ب، وما أثبت من ن ب. (¬7) السنن الكبرى (1/ 102)، الاستذكار (3/ 263).

وفي صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة أنه فعل ذلك لجرح كان بمأبضه ثم قال: رواته كلهم ثقات (¬1) وهو يؤيد أن ذلك كان لوجع الركبة. قال العلماء: يكره البول قائمًا كراهة تنزيه (¬2). كان ابن سعد (¬3) لا يجيز شهادة من بال قائمًا (¬4). وقال مالك (¬5): إن كان في مكان يتطاير إليه شيء من البول فمكروه وإلاَّ فلا بأس به. وأما حديث عائشة: "من حدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائمًا فلا تصدقه، أنا رأيته يبول قاعدًا" صححه أبو عوانة (¬6)، وابن حبان (¬7)، ¬

_ (¬1) المستدرك (1/ 182) وتعقبه الذهبي بقوله: حماد ضعفه الدارقطني، والبيهقي (1/ 101) قال: "لا يثبت". وأما الحافظ فأورده في الفتح (1/ 263) من رواية الحاكم والبيهقي، وقال: ضعفه الدارقطني والبيهقي وأقرهما. (¬2) في ن ب زيادة واو. (¬3) هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قاضي المدينة توفي سنة خمس، وقيل: ست: وقيل: سبع وعشرين ومائة. تاريخ الفسوي (1/ 411، 681)، وتاريخ الإِسلام (5/ 77)، وخلاصة تهذيب الكمال (133). (¬4) شرح مسلم (3/ 166). (¬5) المدونة الكبرى (1/ 24). (¬6) مسند أبي عوانة (1/ 198). (¬7) ابن حبان رقم (1427).

والحاكم (¬1)، وقال الترمذي: هو أحسن شئ في الباب وأصح (¬2): فجعله أبو عوانة ناسخًا لحديث حذيفة (¬3). وقال البيهقي: مرادها ما بال قائمًا في منزله. وقال مجاهد (¬4): ما بال قائمًا إلَّا مرة واحدة في كثيب أعجبه، وهو غريب، فقد رواه حذيفة أيضًا. وقال ابن المنذر: البول جالسًا أحب إلىّ وقائمًا مباح (¬5)، وكل ذلك ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقال الباجي (¬6) للبائل أربعة أحوال: فإن كان الموضع رخوًا ¬

_ (¬1) المستدرك (1/ 185)، وقد أخرجه النسائى وابن ماجه، وأخرجه الترمذي برقم (12)، والنسائي (1/ 26)، وابن ماجه (307)، وأحمد (6/ 136، 192). (¬2) الترمذي، حديث رقم (12). (¬3) قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري (1/ 330) في الجمع بين حديث حذيفة وعائشة: "والصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظ حذيفة، وهو من كبار الصحابة". انظر: ابن حبان (2/ 350). وكلام البيهقي في السنن. (¬4) انظر: الاستذكار (3/ 262). (¬5) في الأوسط (1/ 338)، قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (1/ 330): لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عنه شيء -أي البول قائمًا-. (¬6) المنتقى (1/ 129).

طاهرًا جاز قائمًا وقاعدًا، وإن [كان] (¬1) صلبًاً نجسًا امتنعا، وإن كان صلبًاً طاهرًا جاز قاعدًا فقط، وإن كان رخوًا نجسًا جاز قائمًا فقط وعليه يحمل هذا الحديث، [وبوله] (¬2) عليه السلام في سباطة القوم لأنهم كانوا يؤثرون ذلك، وإنما [لم] (¬3) يبعد عليه السلام لأجل شغله بأمور المسلمين فلعله طال عليه المجلس حتى حصره البول ولم يمكنه التباعد كعادته وأراد السباطة لدمثها، وإنما استدناه عليه السلام عن أعين الناس ليستتر به عنهم. ولهذا قال بعضهم: السنة القرب في حق القائم، وفي حق القاعد الإِبعاد عنه (¬4)، حكاه القاضي عياض. ويستفاد من الحديث أيضًا أن الإِنسان إذا احتاج إلى البول لا يؤخره وهو مضر جدًا من جهة [الطب] (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (وقوله)، وما أثبت من ن ب ج. انظر: شرح مسلم للنووي (3/ 166). (¬3) هذه الزيادة من ن ب. (¬4) لقوله في الحديث "تنح". وانظر: الاستذكار (3/ 264). (¬5) في ن ب (الصلب).

5 - باب في المذي وغيره

5 - باب في المذي وغيره المذي بالذال المعجمة أفصح من المهملة [والأصح] (¬1) الأشهر إسكان الذال أيضًا، وفيه لغة ثانية وهي مشهورة أيضًا: بكسرها وتشديد الياء، وصوبها أبو عبيد، وفي لغة ثالثة: كسر الذال مع تخفيف الباء، وحكى المطرزي (¬2): مذى، وأمذى، ومذّى، الثالثة بالتشديد، وهو: ماء رقيق لزج يخرج عند شهوة لا بها ولا يحس بخروجه، وهو [من] (¬3) النساء أغلب منه في الرجال، يقال: كل ذكر يمذي وكل أنثى تمذي، يقال: وقذَت الشاه (¬4): ألقت بياضها من رحمها. وذكر المصنف رحمه الله في الباب ستة أحاديث: ¬

_ (¬1) في ن ب ج (الأفصح). (¬2) المغرب (2/ 262). (¬3) في ن ب (في). (¬4) انظر: ترتيب القاموس (4/ 640).

الحديث الأول

الحديث الأول 26/ 1/ 5 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كنت رجلًا مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته [مني] (¬1) فأمرت المقداد [بن الأسود] (¬2) فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ (¬3) وللبخاري "اغسل ذكرك وتوضأ". ولمسلم "توضأ وانضح فرجك" (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) ليست موجودة في نسخ الصحيحين، وزيادة من ن ب. (¬3) قال ابن حجر رحمنا الله وإياه في الفتح (1/ 380) على قوله "واغسل ذكرك": هكذا وقع في البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله، ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاري بالعكس، لكن الواو لا ترتب فالمعنى واحد، وهى رواية الإِسماعيلي، فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله، لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه شرط أن يكون ذلك بحائل. اهـ. (¬4) البخاري برقم (132، 178، 269)، ومسلم برقم (303)، والنسائي (1/ 112) والترمذي (1/ 196)، وأبو داود (عون المعبود) رقم (203)، والطيالسي رقم (145)، وأحمد في المسند (1/ 108)، وابن حبان (1098)، وابن ماجه رقم (504)، ومالك (1/ 40)، والسنن الكبرى (1/ 15).

الكلام عليه من ستة وعشرين وجهًا: الأول: في التعريف [براويه] (¬1) هو أمير المؤمنين أبو الحسن وأبو تراب. وقل: إنه يقال له وصي لاتصال نسبه [ونسمه] (¬2) بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسمه، ولا يحفظ هذا الاسم في حقه عن أحد من السلف المقدى بهم فإن صح ذلك [فهذا] (¬3) وجهه الذي ذكره أهل اللغة، فلا [يتعلق] (¬4) به ذو بدعة أنه عليه السلام وَصّى إليه بالخلافة لم يكن ذلك قط. واسم والده أبي طالب عبد مناف وافترى من ادَّعى من الشيعة أن اسمه عمران. وقيل: اسمه كنيته، ابن عبد المطلب ويقال [له] (¬5): شيبة الحمد بن هاشم واسمه عمرو بن قصي واسمه زيد، القرشي الهاشمي، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في ن ب (برواته). (¬2) في ن ب ج (ونسبه)، وقال في لسان العرب: لاتصال نَسَبِه وسببه وسمته بنسب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسببه وسمته. قلت: كرم الله وجه أمير المؤمنين عليّ وسلَّم عليه، هذه صفته عند السلف الصالح رضي الله عنهم. هـ (15/ 321). (¬3) في ن ب (هذا). (¬4) في الأصل (يطلق)، والتصحيح من ن ب ج. (¬5) في الأصل (ابن)، والتصحيح من ن ب ج.

أمه: فاطمة بنت أسَد بن هاشم بن عبد مناف وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، من كبار الصحابيات، هاجرت إلى المدينة وتوفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى عليها، ونزل في قبرها. وقيل: بل ماتت بمكة في الهجرة، والأول أشهر. وروى عنه أمم لا يحصون، منهم أولاده: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وفاطمة، وعمر، وابن أخيه عبد الله بن جعفر، وابن [عمه] (¬1) عبد الله بن عباس، وكاتبه عبد الله بن أبي رافع، وشريح القاضي، والشعبي. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفقا منها على عشرين، انفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر، قاله الحافظ عبد الغني. وقال ابن الجوزي: له خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثًا مثل عمر رضي الله عنه. وهو رابع الخلفاء وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأقضى الأمة وأول خليفة أبواه هاشميان ولم يل بعده ممن أبواه هاشميان غير محمد الأمين بن زبيدة. وهو من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى في الأخوة وشد الأزر -ليس في النبوة- في حياته وبعد موته. وكان علي يقول أنا عبد الله [و] (¬2) أخو رسوله لا يَقولها غيري إلَّا كذاب. وشبّهه عليه السلام بعيسى في كونه يهلك فيه طائفتان من ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة.

اليهود والنصارى، حيث جعلته إحداهما ولد زانية فكفروا بذلك، والأخرى ابن الله فكفروا بذلك، فكذلك هلك في علي طائفتان: محب مفرط، ومبغض مفرط، فمن كفّره أو بدّعه أو استنقصه فهو ضال هالك، ومن رقاه إلى الإِلهية أو النبوة أو التقدمة في الخلافة على من تقدمه من الخلفاء أو التفضيل عليهم فهو ضال هالك، فعيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وعلي ابن عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة البتول، ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة وأن يدور الحق معه حيث دار. وهو أول من أسلم وصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصبيان وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة على الأصح، وتزوج بفاطمة سنة اثنين من الهجرة، وقال زوجتك سيدًا في الدنيا والآخرة. وشهد معه - صلى الله عليه وسلم - مشاهده كلها إلَّا تبوك، خلّفه على المدينة وعلى عياله، فقال: يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنه لا نبي بعدي" رواه البخاري، قال ابن عبد البر وهو من أثبت الأحاديث. وقال في حقه: "من كنت مولاه فعلي مولاه" أي من كنت ناصره ومؤازره فعلي كذلك، وفي رواية: "اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه". وعن ابن عباس أنه عليه السلام قال لعلي: "أنت ولي كل مؤمن من بعدي" ذكره أبو عمر. وروى جماعة من الصحابة أنه عليه السلام قال يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس

بفرار، يفتح الله على يديه، ثم دعا بعلي وهو أرمد فتفل في [عينيه] (¬1) وأعطاه الراية ففتح الله عليه". وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وهو شاب ليقضي بينهم فقال: يا رسول الله إني لا أدري ما القضاء، فضرب صدره بيده وقال: "اللهم اهد قلبه وسدد لسانه" قال: فوالله ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين. وكان عمره مبدأ النبوة عشر سنين وبقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدها بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، ومدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وخلافته وجملتها ثلاثون سنة، وكان عمره ثلاثًا وستين، هذا هو الصحيح المختار في مدة عمره. وقال ابن حبان: اثنين وستين. وقد أفرد العلماء ترجمته بالتصنيف، قال الإِمام أحمد: لم يُروَ في فضائل الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائله مع قدم إسلامه. وكان رضي الله عنه من ينابيع [الخير] (¬2) [في الصحابة وأكثرهم علمًا وأعظمهم حلمًا، ومن كلامه: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك [ولكن] (¬3) [الخير] (¬4) أن يكثر علمك ويعظم حلمك وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلَّا لأحد رجلين: [رجل] (¬5) أذنب ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ج (الحكم). (¬3) ساقط من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) زيادة من ن ب ج.

ذنوبًا فهو يتدارك [منها] (¬1) بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يقلّ عمل في تقوى وكيف يقلّ ما تقبل (¬2). ومن كلامه "احفظوا عني خمسًا فلو ركبتم الإِبل في طلبهن لا تصيبونهن قبل أن تدركوهن، لا يرجو عبد إلَّا ربه، ولا يخافن إلَّا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له". ومن كلامه أيضًا: "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فيصد عن الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل". ومن كلامه أيضًا: "أشد الأعمال ثلاثة: إعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال، ومواساة الأخ في المال". وكان رضي الله عنه من الزهاد (¬3) يلبس ثيابًا رثة فعابوا عليه لباسه، فقال: تعيبون عليَّ لباسي وهو أبعد لي من الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم. وقال يومًا وفد فرق جميع ما في بيت المال على ¬

_ (¬1) في ن ب (ذلك). (¬2) إشارة إلى قوله تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)}. (¬3) في ن ب زيادة (و).

الناس حتى كنسه [ثم] (¬1) أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين رجاء أن يشهد له يوم القيامة: "يا صفراء ويا بيضاء غري غيري". وقال: "لقد رأيتني أربط الحجر على بطني من شدة الجوع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وإن] (¬2) صدقتي اليوم أربعون ألف دينار". وليَ رضي الله عنه الخلافة خمس سنين، وقيل: إلَّا أربعة أشهر، وقيل: إلَّا شهرين وأيامًا، وقال ابن حبان في ثقاته: خمس سنين وثلاثة أشهر إلَّا [أربعة عشر] (¬3) يومًا، ولم يقم بالمدينة بعد الخلافة غير أربعة أشهر، ثم سار إلى العراق في سنة ست وثلاثين. وكان ما كان وقتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي -وكان فاتكًا ملعونًا- ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وقيل غير ذلك، سنة أربعين وهو عام الجماعة. قال ابن حبان في ثقاته: واختلفوا في موضع قبره ولم يصح عندي شيء من ذلك فأذكره، وقيل: إنه دفن بالكوفة في قصر الإمارة عند مسجد الجامع وعمي قبره، وقيل: برحبة الكوفة، وقيل: بنجف الحرة، وقيل: نقل إلى المدينة ودفن بالبقيع، وقال أبو جعفر الباقر: جهل قبره، وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وحنط بحنوط فضل من حنوط ¬

_ (¬1) في ن ب (و). (¬2) في ن ب (فإن). (¬3) في ن ب (أربعة وعشرون).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى عليه الحسن وكبر أربعًا، وقيل تسعًا، ليلًا في المسجد. قال أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي: قال عبد الله بن سلام المشهود له بالجنة: ما قتلت أمة نبيًا إلَّا قتل به منهم سبعون ألفًا، ولا قتلوا خليفتهم إلَّا قتل به منهم خمسة وثلاثون ألفًا، وكان له رضي الله عنه من الولد أربعون [إلَّا] (¬1) ولدًا، خمسة (¬2) من فاطمة الزهراء: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم الكبرى وزينب الكبرى، [والنسل] (¬3) منهم بخمسة كما قال القضاعي في عيون الأخبار: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعمر الأكبر والعباس الأكبر. وكان علي رضي الله عنه أصغر ولد أبيه، كان أصغر من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر [سنين] (¬4)، [وكان] (¬5) عقيل أصغر من طالب بعشر، وأم الجميع فاطمة بنت أسد المقدم ذكرها. ومبارزته في بدر والخندق وغيرهما مشهورة، ولم يبارزه أحد إلَّا قتله، وشجاعته يضرب بها المثل، وكان ممن بذل نفسه في الله ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في معرفة الصحابة لأبي نعيم (تسعة وعشرون أربعة عشر ذكر وخمس عشرة أنثى) (1/ 309). (¬3) في الأصل (الفضل)، وما أثبت من ن ب ج. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (وقال).

ورسوله قام على فراشه وخلفه في مكانه حين أرادوا قتله فعلم الله مكانة صدقه فوقاه سيئات ما مكروا، ومناقبه ومآثره رضي الله عنه لا تحصى وقد ذكرت طرفًا منها فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب، وذكرت فيه أن في الرواة من اسمه علي بن أبي طالب ثمانية غيره فاستفدهم منه. الوجه الثاني: وقع في الحديث ذكر المقداد بن الأسود فينبغي ذكر طرف من حاله: هو المقداد بن [عمرو] (¬1) بن ثعلبة بن مالك الكندي الهراني، أبو عمرو، [ويقال: أبو الأسود] (¬2) ويقال: أبو معبد [المكي] (¬3) وهو حليف الأسود بن عبد يغوث الزهري، وكان الأسود قد تبناه وحالفه في الجاهلية فقيل ابن الأسود، ويقال: كان في حجره، ويقال: كان عبدًا حبشيًا [للأسود] (¬4) فتبناه، وقال ابن حبان: كان أبو المقداد حالف كندة فلذلك قيل الكندي، شهد المشاهد كلها، وكان فارس المسلمين يوم بدر باتفاق، واختلف في الزبير فقيل: كان فارسًا معه أيضًا، وقد هاجر قبل الحبشة، وكان من الرماة المذكورين، وهو أحد الستة الذين أظهروا إسلامهم. قال ابن عبد البر: وكان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار من الصحابة وهو أحد الأربعة عشر النجباء الوزراء الرفقاء الذين أعطيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان للأنبياء قبله. ¬

_ (¬1) في ن ب ج (عمر). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (المالكي). (¬4) في ن ب ساقطة.

روى عنه علي وابن عباس وآخرون من الصحابة وكبار التابعين، وروي له اثنان وأربعون حديثًا، اتفقا [منها] (¬1) على واحد، وانفرد مسلم ثلاثة. مات بأرضه بالجرف على عشرة أميال من المدينة فحمل ودفن بالمدينة، وصلى عليه عثمان سنة ثلاث وثلاثين عن نحو سبعين سنة، وأوصى للزبير بن العوام، وروي عنه أنه شرب دهن الخروع فمات، وعن كريمة ابنة المقداد أن أباها أوصى للحسن والحسين بستة وثلاثين ألف درهم، وأوصى لكل واحدة من أمهات المؤمنين بسبعة آلاف فقبلوا وصيته. روى بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرني [الله] (¬2) بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد" وسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ رافعًا صوته فقال: "أوّابٌ" وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين: لا نقول لك كما قال [قوم] (¬3) موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا أنا ها هنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وسرَّه، قال ابن مسعود: شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس، فذكره. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ج (ربي). (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) في ن ب زيادة (لذلك).

الوجه [الثالث] (¬1): الرواية الثانية التي عزاها المصنف للبخاري لفظه فيها: "فأمرت رجلًا يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فسأله فقال: توضأ واغسل ذكرك"، ونص الحميدي في جمعه أيضًا على أنها من أفراد البخاري، وترجم البخاري على هذه الرواية: باب: غسل المذي والوضوء منه (¬2)، وذكره أيضًا في باب (¬3): من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين، ولفظه فيه: "فسأله المقداد فقال: [فيه] (¬4) الوضوء" وهذه أخرجها مسلم، والرواية الثالثة التي عزاها المصنف إلى مسلم (¬5) رواها من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن سليمان بن يسار عن ابن عباس قال: قال علي بن أبي طالب: أرسلنا المقداد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فسأله عن المذي يخرج من الإِنسان كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضأ وانضح فرجك" ونص الحميدي في جمعه أيضًا على أنها من أفراد مسلم، واستدرك الدارقطني على مسلم هذا الإِسناد وقال: قال حماد بن خالد (¬6): سألت مخرمة (¬7): سمعت من أبيك؟ فقال لا. وقد خالفه الليث عن ¬

_ (¬1) في ن ج (الثاني). (¬2) الفتح (1/ 379). (¬3) الفتح (1/ 283). (¬4) في الأصل (له)، والتصحيح من ن ب والتتبع. وانظر: حاشية إحكام الأحكام (1/ 305). (¬5) مسلم (1/ 247). (¬6) في ن ب ج زيادة (هل). (¬7) في ن ب ج (من)، وفى الأصل (عمن) وليس لها معنى هنا، وما أثبت يوافق ما في الإِلزامات والتتبع (233، 417).

بكير فلم يذكر فيه ابن عباس، وتابعه مالك عن أبي النضر (¬1). قلت: وذهب بعضهم إلى أنه سمع من أبيه (¬2). وفي رواية للكجي (¬3) في سننه: "كل فحل يمذي وليس فيه إلَّا الطهور". الوجه الرابع: قوله: "كنت رجلًا مذاءً" فيه احتمالان: أحدهما: أن ذلك حكاية عما مضى وانقطع عنه حين إخباره به وهو بعيد، وأظهرهما (¬4): أن هذه حالة مستدامة له ويكون من باب قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)} (¬5). أي أنه لما علم الناس أنه تعالى عليم حكيم قيل لهم، ولذلك كان في الأول على ما هو عليه الآن. ¬

_ (¬1) انظر: الإِلزامات والتتبع للدراقطني (ص 417). (¬2) الذين قالوا: إنه لم يسمع من أبيه، قالوا: إنه حدث من كتاب أبيه وهذه وجادة قوية وهي أحد وجوه النقل. وانظر: حاشية إحكام الأحكام (1/ 305). (¬3) هو الشيخ الإِمام أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز صاحب "السنن" مات ببغداد في سابع المحرم، سنة اثنتين وتسعين ومئتين فنقل إلى البصرة ودفن بها وقد قارب المئة رحمه الله. تاريخ بغداد (6/ 120)، وطبقات المفسرين (2/ 11)، وسير أعلام النبلاء (13/ 423). والحديث قد جاء بلفظ "كل فحل يمذي فتغسل فرجك وأنثييك"، مسند أحمد (4/ 342) موضع أوهام الجمع والتفريق (1/ 109) التاريخ الكبير (5/ 29) وذكره في مجمع الزوائد (4/ 25). (¬4) هذا هو الاحتمال الثاني. (¬5) سورة النساء: آية 111.

الخامس: قوله: "مَذَّاء" أي كثير المذي وهو بفتح الميم وتشديد الذال المعجمة على الأفصح، وبالمد صيغة مبالغة على زنة فعال كضراب من الضرب، وفي رواية لأبي داود (¬1) والنسائي (¬2) وابن حبان (¬3) بعد مَذَّاء "فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -أو ذُكر له- فقال: لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة، فإذا فضخت الماء فاغتسل". [ومعنى] (¬4) "فضخت" بالفاء والخاء المعجمة: دفقت، وفي سنن البيهقي (¬5) من حديث ابن جريج عن عطاء أن عليًّا "كان يدخل في إحليله الفتيلة من كثرة المذي". السادس: قوله "فاستحييت" هذه اللغة الفصيحة فيه بيائين، ويقال (استحيت) أيضًا بياء واحدة. السابع: المراد بالحياء هنا: تغير وانكسار يعرض للإِنسان من تخوف ما يعاتب به أو يذم عليه، وأما الحياء الشرعي الممدوح عليه الذي لا يأتي إلَّا بخير فهو: رؤية النعم ورؤية التقصير فيتولد ¬

_ (¬1) أبو داود، عون المعبود، رقم (203). (¬2) النسائي (1/ 112). (¬3) ابن حبان (1107). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) السنن للبيهقي (1/ 356)، ولفظه: قال كان عليًّا رجلًا مذاء فكان يأخذ الفتيلة فيدخلها في إحليله.

بينهما حالة تسمى حياء، وتلك حالة حاملة على مزيد الشكر واستقصار الأعمال، والحياء المذموم كالحياء المانع من التعلم، وحياء علي رضي الله عنه لم يقض عليه ولهذا أرسل وسأل. الثامن: قوله: "أن أسأل" تقديره (من أن أسأل) وحرف الجر يحذف من أن وإن قياسًا. ثم اختلف: هل يكون أن وإن في موضع نصب أو جر؟ فيه خلاف للنحاة. التاسع: قوله: "لمكان ابنته" هو علة الاستحياء، فإن [المذي] (¬1) يكون غالبًا عند ملاعبة الرجل أهله وقبلتها ونحو ذلك من أنواع الاستمتاع، ففيه استعمال الأدب ومحاسن [العبارات] (¬2) في ترك المواجهة بما يستحيا منه عرفًا. العاشر: قوله: "فأمرت المقداد بن الأسود" وكذا هو في الصحيحين وفي رواية للبخاري أسلفناها: "فأمرت رجلًا" وفي رواية أحمد والنسائي وابن حبان "فأمرت عمار بن ياسر" وفي صحيح ابن خزيمة وغيره "أن عليًا سأل" من غير شك، وجمع ابن حبان (¬3) بينهما: بأن يحتمل أن يكون عليًا أمر عمارًا أن يسأل ثم أمر المقداد أيضًا، ثم سأل بنفسه، وهو جمع حسن، ويؤيده رواية عبد الرزاق ¬

_ (¬1) في ن ب (الذي). (¬2) في ن ب (العادات). (¬3) (3/ 390).

عن ابن جريج عن عطاء: أخبرني [عائش] (¬1) بن أنس قال: تذاكر علي وعمار والمقداد المذي فقال علي: إنه رجل مذّاء فسالا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال [عائش] (¬2): فسأله أحد الرجلين -عمارًا والمقداد- قال عطاء: وسقاه عائش، ونسيته" قال ابن عبد البر: حديث المذي صحيح ثابت عند أهل العلم له طرق شتى عن علي والمقداد وعمار وكلها صحاح (¬3)، أحسنها رواية عبد الرزاق (¬4) هذه. وأما النووي فجمع في شرح المهذب (¬5) بينها بأن قال رواية "فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -" المراد: أمرت من ذكر كما جاء في معظم الروايات، قال: وتحمل رواية "فأمرت المقداد" ورواية "فأمرت عمارًا" على أنه أمر أحدهما ثم أمر الآخر قبل أن يخبر الأول. قلت: وفي الفاصل للرامهرمزي "أنه عليه السلام هو السائل له لما رءاه شاحبًا، فقال له: يا علي لقد أشحبت، قلت: شحبت من اغتسال الماء وأنا رجل مذّاء [فإذا] (¬6) رأيت منه شيئًا اغتسلت، قال: ¬

_ (¬1) في النسخ (عباس، وعياش)، والتصحيح من مصنف عبد الرزاق (1/ 155)، وكتاب غوامض الأسماء لابن بشكوال، خبر رقم (170). (¬2) في النسخ (عباس، وعياش)، والتصحيح من مصنف عند الرزاق (1/ 155)، وكتاب غوامض الأسماء لابن بشكوال، خبر رقم (170). (¬3) في الاستذكار (3/ 11) زيادة (حسان). (¬4) المرجع السابق (1/ 155). (¬5) المجموع (2/ 143، 144). (¬6) زيادة من ن ب.

لا تغتسل منه يا علي" الحديث. [اعلم] (¬1) أن ابن [بشكوال] (¬2) صحيح أن السائل هو المقداد لا عمار بن ياسر (¬3)، وقد علمت أن كلاهما صح مع زيادة وجمع بينهما (¬4). الحادي عشر: [قوله] (¬5) "وانضح فرجك" هو بكسر الضاد المعجمة، نص عليه الجوهري وغيره فمن فتحها فقد أخطأ، وهي بالحاء المهملة أيضًا، كذا [بخطه] (¬6). قال الشيخ تقي الدين (¬7): وكذا الرواية لا يعرف غيره، قال: ولو روي بالخاء المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل فإن النضخ ¬

_ (¬1) في ن ب (واعلم). (¬2) في ن ب (بشكوان). (¬3) غوامض الأسماء المبهمة لابن بشكوال، خبر رقم (170). (¬4) قال أبو حاتم رضي الله عنه: يشبه أن يكون علي بن أبي طالب أمر المقداد أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الحكم فسأله وأخبره، ثم أخبر المقداد عليًا بذلك ثم سأل علي بن أبي طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أخبره به المقداد حتى يكونا سؤالين في موضعين مختلفين، والدليل على أنهما كانا في موضعين أن عند سؤال علي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالاغتسال عند المني، وليس هذا في خبر المقداد، يدلك هذا على أنهما غير متضادين. اهـ. من ابن حبان (3/ 386). وانظر: كلام ابن حجر في الفتح (1/ 379، 380). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن ب ج (يحفظه). انظر: مختار الصحاح (277). (¬7) أحكام الأحكام مع الحاشية (1/ 311).

بالمعجمة أكثر من المهملة (¬1). قلت: هذا قول كما ستعرفه في أثناء الحديث [الثالث] (¬2) إن شاء الله. الثاني عشر: المراد بالنضح هنا الغسل بدليل الرواية الأولى والثانية، وفي حديث أم قيس الآتي الرش كما ستعلمه هناك، قال أبو عمر (¬3): ورواية يحيى عن مالك وحده "فلينضح فرجه" (¬4) ورواية الكل -منهم ابن وهب عن مالك- (فليغسل فرجه)، وهذا هو الصحيح قال: ولو صحت الأولى فتفسرها الثانية، لأن النضح يكون في لسان العرب مرة الغسل ومرة الرش. وقال الدارقطني في كتاب أحاديث الموطأ: رواية الشافعى (¬5) ويحيى بن بكير ومصعب وابن وهب وجماعات عددهم "فلينضح" إلَّا ابن وهب فإن في بعض ألفاظه "فليغسل" وهذا عكس ما ذكره أبو عمر، قال الشيخ تقي الدين (¬6): ويؤيد أن المراد بالنضح هنا ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب اللغة (4/ 211)، والمحكم (5/ 27)، والنظم المستعذب (1/ 41)، والمغني في الإِنباء عن غريب المهذب (1/ 54)، وعمدة الحفاظ (578، 579). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) الاستذكار (3/ 14). (¬4) الموطأ لمالك (1/ 40). (¬5) في ن ب زيادة (رضي الله عنه). (¬6) إحكام الأحكام (1/ 311).

الغسل بأن غسل النجاسة المغلظة لا بد منه ولا يكتفي فيها بالرش الذي هو دون الغسل. قلت: إطلاقه النجاسة المغلظة على نجاسة المذي خلاف الاصطلاح. الثالث عشر: قوله "يغسل ذكره" هو برفع اللام، هذا هو المشهور في الرواية كما قال الشيخ تقي الدين (¬1)، وهو خبر بمعنى الأمر واستعماله بمعنى الأمر جائز مجازًا لما يشتركان فيه من معنى الإِثبات للشيء. قال: ولو روي مجزومًا على حذف اللام الجازمة وإبقاء عملها لكان جائزًا عند بعضهم على ضعف، ومنهم من منعه إلَّا لضرورة كقول الشاعر (¬2): محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت [في أمر تبالا] (¬3) تنبيه: جاء في القرآن الأمر بلفظ الخبر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} (¬4)، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} (¬5) وجاء أيضًا الخبر بلفظ الأمر كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (¬6) والسر في العدول عن الأصل فيهما ما أبداه الفاكهي: أما ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 310). (¬2) البيت قل قائله حسان بن ثابت، وقيل: أبو طالب، وقيل: الأعشى، وقيل مجهول. (¬3) في عمدة الحفاظ (416) "من شيء" وتكتب "تبالًا" هكذا وهكذا "تبالى". (¬4) سورة البقرة: آية 233. (¬5) سورة البقرة: آية 228. (¬6) سورة مريم: آية 75.

سر الأول: فلأن الخبر يستلزم ثبوت مخبره ووقوعه إذا كان مبينًا، بخلاف الأمر فإذا عبر عن الأمر بلفظ الخبر كان ذلك آكد، لاقتضائه الوقوع حتى كأنه واقع، ولذلك اختير [الدعاء بلفظ] (¬1) الخبر تفاؤلًا بالوقوع، وأما سر الثانى: فلأن الأمر شأنه أن يكون بما فيه داعية للأمر، وليس الخبر كذلك فإذا [عبر] (¬2) عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالداعية فيكون ثبوته وصدقه أقرب. الرابع عشر: في الحديث أن المذي لا يوجب الغسل وهو إجماع. الخامس عشر: فيه أيضًا أنه ناقض للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والجماهير قالوا: [ويوجوب] (¬3) الوضوء. وقال الفاكهي: لا أعلم بين الأمة في نقض الوضوء به خلافًا، ثم قال بعدُ بورقة: سلس المذي عند مالك لا يوجب الوضوء ولا ينقضه، قال: [فإن] (¬4) كان يعتريه المذي لطول عزبته وهو قادر على رفعه بالنكاح والتسري فلم يفعل فالمشهور إيجاب الوضوء، وإن لم يقدر فإن كان يلازم ولا يفارق فلا يجب الوضوء ولا يستحب، وقيل: يستحب، وإن استوت ملازمته ومفارقته فقولان، وإن كان ¬

_ (¬1) في ن ب (للدعاء لفظ). (¬2) في ن ب (غير). (¬3) في ن ب (يوجب). (¬4) في ن ب (وإن).

ملازمته أكثر فالمشهور استحبابه، [فإن] (¬1) كان عكسه فالمشهور وجوبه، ومنشأ الخلاف عندهم وجود الحرج وعدمه. فرع: إذا أنعظ (وهو قيام الذكر بشدة) فعند المالكية فيه أربعة [أحوال] (¬2): أن يخرج معه ماء فيجب الوضوء قطعًا. وأن يلتذ ولا يخرج منه ماء فالمشهور من القولين وجوبه، وأن يخرج منه ولا لذة فالمشهور أيضًا الوجوب إذ الغالب أن لا يعرى عنها، وأن لا يكون منه إلَّا مجرد إنعاظ وانكسر من غير ماء فقولان، وهذا الخلاف لا يعرفه أصحابنا، والمجزوم به عندهم وجوب الوضوء عند خروج المذي. السادس عشر: فيه أيضًا نجاسة المذي لإِيجاب غسل الذكر منه وهو إجماع، وقال ابن عقيل الحنبلي: قد قيل إنه -يعني المذي- من أجزاء المني؛ فيجب حينئذ أن يتخرج في نجاسته روايتان. واختلف العلماء: هل يغسل [منه] (¬3) كل الذكر أو محل النجاسة فقط؟ فالشافعي والجمهور قالوا بالثاني، والمشهور عن مالك [الأول] (¬4) كما [قال] (¬5) الفاكهي، قال: وإن غلّظ اللخمي (¬6) ¬

_ (¬1) في ن ب (وإن). (¬2) في ن ب (أقوال). (¬3) زيادة من ن ب ج. (¬4) في ن ب (الأقوال). (¬5) في ن ب (قاله). (¬6) هو أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي، قيرواني نزل صفاقس تفقه بابن محرز والتونسي وغيرهما اشتهرت فتاويه ونفع الله بعلمه =

القول به، وهو رواية عن أحمد؛ لكون الذكر حقيقة في العضو كله، وخرجه ابن بشير المالكي على الخلاف الأصولي [على] (¬1) أن الأسماء تحمل على أوائلها أو على أواخرها، وفي التخريج نظر. واختلفوا في معنى غسل الجميع: هل هو [لمعنى] (¬2) [تبريد] (¬3) العضو فيضعف المذي، أو هو تعبد؟ وبنوا على ذلك فرعًا وهو وجوب النية لغسله إن جعلناه تعبدًا، وجبت؛ لأن الطهارة التعبدية تفتقر إلى النية كالوضوء، وعدل جمهور العلماء عن استعمال الحقيقة في الذكر كله نظرًا إلى المعنى الموجب للغسل وهو خروج الخارج، فاقتضى الاقتصار عليه، ومن جعل الحكمة فيه [التبرد] (¬4) اقتضى عدم وجوبه أيضًا. السابع عشر: أوجب الإِمام أحمد [وجوب] (¬5) غسل الأنثيين أيضًا لرواية [في] (¬6) أبي داود (¬7) بالأمر بغسلهما مع الذكر، وهي منقطعة؛ لأنها من حديث عروة عن علي، وعروة لم يسمع من علي. ¬

_ = له كتاب "التبصرة" قال ابن فرحون: وهو كتاب مفيد حسن. اهـ. الديباج (2/ 104). (¬1) زيادة من ن ج، وقد أشار إلى ذلك في المعلم (1/ 371). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب ج (التبريد). (¬4) في ن ج (التبريد)، وفي الأصل (التبريد)، وما أثبت من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) أبو داود، عون المعبود، رقم (205).

لكن أخرجها أبو عوانة في صحيحه من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن [عبيدة] (¬1) السلماني عن علي، وفي هذا رد لما نقله أبو داود (¬2) عن أحمد بن حنبل [ما قال] (¬3) غسل الأنثيين إلَّا هشام بن عروة في حديثه، فأما الأحاديث كلها فليس فيها ذا. فائدة: قيل: إنما أمر بغسل الأنثيين؛ لأن الماء البارد إذا أصاب الأنثيين رد المذي وكسر حدته. الثامن عشر: فيه أيضًا وجوب غسل المذي بالماء، ولا يجوز فيه غيره مما يجوز الاستنجاء به في الغائط والبول؛ لكونه نادرًا فأشبه الدم، وهو أحد القولين عندنا، ومشهور مذهب مالك كما قاله ابن بشير منه وعلّله: بأنه يأتي مستحلبًا بخلاف البول والغائط فإنهما يخرجان [بطبع] (¬4) الغذاء. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (عتبة)، والتصحيح من مسند أبي عوانة (1/ 273). قال ابن القيم رحمنا الله وإياه في تهذيب السنن (1/ 358، 361)، وقد رواه أبو عوانة الإِسفرائيني في صحيحه من حديث سليمان بن حسان عن ابن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي، وفيه: "يغسل أنثييه وذكره" وهذا متصل. اهـ. عون المعبود. وقال الحافظ ابن حجر: وإسناده لا مطعن فيه ولا منافاة بين الروايتين لإِمكان الجمع بغسلهما مع غسل الفرج، اهـ، من عون المعبود. (¬2) السنن، عون المعبود (1/ 357). (¬3) في ن ب ج (قاله). (¬4) في الأصل (لطبع)، والتصحيح من ب ج.

وعلله سند في (طرازه) بما فيه من [اللزوجة] (¬1) فقد [ينتشر] (¬2) بالمسح إلى محل آخر فينجسه؛ ولأنه ليس في معنى الغائط حتى يلحق به. والتصحيح عندنا [إجزاء الحجر] (¬3) وما في معناه فيه قياسًا على المعتاد، والحديث خرج على الغالب [فيمن هو في بلد أن يستنجي بالماء] (¬4) أو يحمله على الاستحباب. ووقع في شرح مسلم للنووي: إن أصح القولين عندنا الأول (¬5)، وهو سبق قلم منه، فالصحيح عندنا الثاني ولذا [فالذي] (¬6) صححه هو في باقي كتبه وتبعه تلميذه ابن العطار في شرحه لهذا الكتاب، فقال: إنه أصح القولين عند الشافعي، فاحذر التقليد في النقول فإنه مذموم، ووقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬7): أنه الصحيح أيضًا لكنه لم يعزه لمذهب معين، فإنه قال: اختلفوا في أنه هل يجوز في المذي الاقتصار على الأحجار؟ والصحيح: أنه يجوز، قال: ودليله أمره بغسل الذكر منه، فإن ظاهره بعينه [والمعين] (¬8) ¬

_ (¬1) في ن ب (الزوجة). (¬2) في ن ب (تيسر). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) تصحيح العبارة وزيادة النقص من شرح مسلم للنوي (3/ 213)، حيث كلمة (أن يستنجي بالماء) ساقطة من جميع النسخ والرقم مكرر. (¬5) نفس المصدر السابق. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) إحكام الأحكام (1/ 315). (¬8) في ن ب (وللمعين).

لا يقع الامتثال إلَّا به. التاسع عشر: قد يستدل به من قال: يجب الوضوء على من به سلس البول لكون، المذّاء من كثر منه المذي وقد أمر بالوضوء منه [فكذلك] (¬1) من به سلس البول لكن المذاء الذي يكثر مذيه يكون لصحته وغلبة شهوته غالبًا، وقد يكون لمرضه واسترساله بحيث لا يمكن دفعه، ففي الأول يجب دون الثاني على تفصيل سلف عن المالكية، وليس في الحديث ما يعين أحد الوجهين كما قال الشيخ تقي الدين (¬2)، لكن رواية الموطأ التي نذكرها آخر الباب ظاهرة في الأول ثم هو نادر، بخلاف سلس البول فإنه مرض لا يزول غالبًا فافترقا. العشرون: فيه جواز الاستنابة في الاستفتاء للعذر سواء كان المستفتي حاضرًا أو غائبًا، وقد ترجم البخاري عليه في كتاب العلم من صحيحه: باب من استحى فأمر غيره بالسؤال (¬3)، وأغرب ابن القطان المالكي المتأخر فمنع الاستنابة في ذلك معللًا بتطرق الوهم إلى النائب، بخلاف الصحابة فإنهم ثقات فصحاء، [وهو ضعيف] (¬4). الحادى والعشرون: فيه أيضًا جواز الاعتماد على الخبر ¬

_ (¬1) في ن ب (ولذلك). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 309). (¬3) فتح الباري (1/ 230). (¬4) زيادة من ن ب ج.

المظنون مع القدرة على المقطوع به؛ لأن عليًّا اقتصر على قول المقداد في رواية المصنف مع تمكنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي عياض: وليس هذا كالاجتهاد مع القدرة على النص؛ لأن قضية علي احتفت بها قرائن [توجب] (¬1) القطع عنده بخبر من أرسله فلم ينتقل إلَّا من علم إلى علم، لا من علم إلى ظن. قلت: وقد ينازع في هذا ويقال: لعل عليًّا كان حاضرًا مجلس السؤال وإنما استحى أن يكون السؤال منه بنفسه. فإن قلت: يلزم من قبول قول المقداد من غير أن يكون علي حاضرًا مجلس السؤال إثبات خبر الواحد بخبر الواحد، وقد انتقد على بعضهم حيث استدلَّ في المسألة بأخبار آحاد. فقيل: أثبت خبر الواحد بخبر الواحد. فجوابه: أن المراد ذكر صورة من صور خبر الآحاد تدل على قبوله وهي فرد من أفراد لا تحصى، والحجة تقوم بجملتها لا بفرد معين منها، وإلاَّ لكان ذلك إثبات الشيء بنفسه وهو محال، لكنه يذكر للتنبيه على أمثاله لا للاكتفاء به، مع أن عليًّا إنما أمر المقداد بالسؤال استحياء، لا لأجل قبول خبره، فإن ثبت أن عليًّا أخذ هذا الحكم عن المقداد من غير حضوره ولا قرينة أوجبت قبول خبره ففيه الحجة. كيف وقد ثبت سؤاله بنفسه كما قدمناه؟ تنبيه: ادَّعى الجبائي (¬2) أنه لا بد في خبر الواحد من نقل اثنين ¬

_ (¬1) في ن ب (لوجب). (¬2) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب جده حمران بن أبان مولى =

له، أو يعضد الواحد ظاهرًا، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشرًا، ولا يسلم ذلك له (¬1). الثانى والعشرون: فيه أيضًا استحباب حسن العشرة مع [الأصهار] (¬2)، وأن الزوج ينبغي له أن لا يذكر ما يتعلق بأسباب الجماع ومقدماته والاستمتاع بالزوجة مع حضرة أبيها وأخيها وابنها وغيرهم من أقاربها، مع كون السؤال في الحديث عن حكم شرعي، فما ظنك بذكر ذلك لغير حاجة؟ وقد أثنى - صلى الله عليه وسلم - على نساء الأنصار لكونهن لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين لما سألنه عن أشياء تتعلق بأنفسهن مما يُستحى من ذكره عادة، كما ستعلمه في الحديث الخامس من باب الجنابة، فالعلم وتعلمه عبادة لا ينبغي أن تدخله النيابة وعدم مواجهة العلماء بالسؤال عنه، لكن تَرَكَهُ علي على رواية المصنف: لما ذكرناه. فرع: لا ينبغي لأحد الزوجين أن يذكر ما يجري بينهما من ملاعبة ونحوها لقريب ولا أجنبي، فإن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، نعم يجوز ذكر ذلك إذا دعت الحاجة إليه؛ لقول عائشة: فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا. الثالث والعشرون: "الفرج" في الحديث: الذكر [وهو] (¬3) ¬

_ = عثمان بن عفان رضي الله عنه كنيته أبو هاشم، ويقال له: الجبّائي توفي سنة (321)، العبر (2/ 187)، ومرآة الجنان (2/ 283). (¬1) ذكره في المحصول (4/ 599). (¬2) في ن ب (الاجتهاد). (¬3) زيادة من ن ب.

مأخوذ من الانفراج في اللغة فيدخل في عمومه الدبر، وقد تمسك به أصحابنا في انتقاض الوضوء بمسه في قوله عليه السلام "من مس فرجه فليتوضأ" (¬1). نعم العرف يغلب استعماله في القبل من الرجل والمرأة، فيحتمل أن يكون استدلالهم به؛ لأنه لم يثبت عندهم عرف يخالف الوضع ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأنه ممن يقدم الوضع اللغوي على الاستعمال العرفي. الرابع والعشرون: قد يؤخذ من قوله "توضأ وانضح فرجك" جواز تأخير الاستنجاء عن الوضوء، وهو الأصح عندنا إذا كان بحائل يمنع الانتقاض، لكن إنما يتم ذلك على قول من يقول الواو للترتيب وهو مذهب ضعيف. الخامس والعشرون: احتج بعض متأخري المالكية بقوله: "اغسل ذكرك وتوضأ" بأنه إنما يغسل ذكره عند إرادة الوضوء ولا يجزيه قبل ذلك؛ لأن "الواو" ظاهرة في المعية ومشهور مذهبهم خلافه. السادس والعشرون: قال [المازري] (¬2): لم يبين في هذه الروايات هل أمره أن يسأل سؤالًا عامًا أو خاصًا؟ فإن كان لا يلتفت إلى كيفية السؤال ففيه دلالة على أن قضايا الأعيان تتعدى وهي مسألة ¬

_ (¬1) انظر: تلخيص الحبير، وحكمه على حديث بسرة وطلق بن علي (1/ 125/ 127). (¬2) في جميع النسخ (الماوردي)، وما أثبت من المعلم (1/ 370) ساقه بمعناه.

أصولية مختلف فيها؛ لأنه لو كان يرى أنها لا تتعدى لأمره أن يسأله سؤالًا يخصه، ويسمي له السائل، [فإنه قد يفتح له ما لا يفتح لغيره] (¬1). قلت: رواية مسلم (¬2) التي أسلفناها في الوجه الثالث فسأله له عن (المذي) (¬3) يخرج من الإِنسان؟ فهذا [سؤال] (¬4) عام، وكذا رواية الموطأ (¬5): أن يسأل عن الرجل إذا دنى من أهله يخرج منه المذي؟ ¬

_ (¬1) في "المعلم "إذا قد يبيح له ما لا يبيح لغيره". (¬2) مسلم (1/ 247). (¬3) في ن ب (الذي). (¬4) في الأصل ساقطة. (¬5) الموطأ لمالك (1/ 40)، وقد أشار إليه في المعلم.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 27/ 2/ 5 - عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال: "شُكِي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل بخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا" (¬1). الكلام عليه من ثمانية أوجه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث الحادي عشر في كتاب الطهارة مستوفى. ثانيها: عباد هذا بفتح أوله وتشديد ثانيه، وهو تابعي مدني ثقة باتفاق، ووالده صحابي وكذا عمه [كما أسلفته، وهو عمه] (¬2) من ¬

_ (¬1) البخاري (137، 177، 2056)، ومسلم، النووي (4/ 49) في الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته. وأبو عوانة في صحيحه (1/ 238)، الشافعي (1/ 99)، وأبو داود برقم (176)، والنسائي (1/ 99)، وابن ماجه (1/ 185)، والبيهقي (1/ 114)، وأحمد (4/ 40). (¬2) زيادة من ن ب ج.

قبل أمه لا من قبل أبيه، وعباد كان يذكر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال: كنت يوم الخندق ابن خمس سنين كنت مع النساء أذكر أشمياء وأعيها" والخندق كانت سنة أربع أو خمس من الهجرة كما ستعلمه في باب المواقيت فينبغي إذن أن يعد في صغار [الصحابة] (¬1)، وقد عُد أصغر منه فيهم. واعلم: أن عباد بن تميم هذا يشتبه بعُبَاد بضم أوله وتخفيف ثانيه وهو قيس بن عباد وغيره، وبعِبَاد بكسر أوله وفتح ثانيه، وبعياذ بالياء المثناة تحت وذال معجمة، وبِعياد مثله إلَّا أن الدال مهملة، وبعناد بإبدال الباء نونًا [وكلٌّ] (¬2) موضح في كتابي مشتبه النسبة. ثالثها: الياء في (شكي) منقلبة عن واو، لأن من شكى يشكو، ويجوز أن تكون أصلية غير منقلبة في لغة من قال شكى يشكي، وشُكِي بضم أوله وكسر ثانيه مبني لما لم يسم فاعله، و (الرجل) مرفوع وهو القائم مقام الفاعل لشُكي، لا المجرور، لأنه مفعول به أعني الرجل وإذا وجد المفعول به لم يقم سواه عند الأكثرين، والجملة من قوله: "يخيل إليه" صفة [للرجل] (¬3) وإن كان فيه الألف والسلام وهو من [وادي] (¬4) قوله: ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) في ن ب (والكل). (¬3) في ن ب (الرجل). (¬4) في الأصل (ودي)، وفي ن ج (واوى)، وما أثبت من ن ب.

ولقد [أَمُرّ] على اللَّئيم يَسُبّنِي ... فمَضَيت ثُمَّتَ قلتُ [لا يَعْنِينِي] (¬1) فإنه لم يرد لئيمًا معينًا فهو نكرة في المعنى، نبه [عليه] (¬2) الفاكهي، والقائم مقام المفعول "ليخيل" إن وما عملت فيه. والشاكي هو عبد الله بن زيد الراوي، كذا جاء في صحيح البخاري في باب: "لا يتوضأ من الله حتى يستيقن" (¬3) وهذا لفظه عن عباد بن تميم عن عمه: أنه شكى إلى رسول الله الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: " [لا ينفتل] (¬4) -أو لا ينصرف- حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، قال النووي في شرحه (¬5): وينبغي أن [لا] (¬6) يتوهم [بهذا] (¬7) أن شُكى بفتح الشين والكاف ويجعل الشاكي هو عمه المذكور، فإن هذا الوهم غلط، [وهذا لفظه] (¬8) فتأمله. ¬

_ (¬1) البيت لشمر بن عمرو الحنفي أحد شعراء بني حنيفة باليمامة نسبه في "الأصمعيات" له (126)، وفيه "مررت" وفي ن ب "لا لعيني" انظر عمدة الحفاظ (228) خزانة الآداب (1/ 173)، الكامل (6/ 222). (¬2) في ن ب (على هذا). (¬3) فتح الباري (1/ 237). (¬4) في ن ب (ينتقل). (¬5) شرح مسلم، النووي (4/ 51). (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) في ن ب (في هذا). (¬8) زيادة من ن ب ج. قال في عون المعبود (1/ 299): ومعنى قول النووي: فإن هذا الوهم غلط، أي ضبط لفظ "شكي" في رواية -مسلم بالألف =

رابعها: "الشيء" المشار إليه هو الحركة التي يظن بها أنها حدث وليس كذلك، ولهذا [قال] (¬1) عليه السلام: "حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". ومعناه [يعلم] (¬2) وجود أحدهما يقينًا، ولا يشترط اجتماع السماع والشم بالإِجماع. وفي صحيحي ابن خزيمة (¬3) وابن حبان (¬4) ومستدرك الحاكم (¬5) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت، فليقل: كذبت، إلَّا ما وجد ريحًا بأنفه أو سمع صوتًا بأذنه". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وفي رواية ابن حبان "فليقل في نفسه [كذبت] " (¬6) وزعم بعض العلماء أنه عليه السلام ذكر الصوت لمن حاسة شمه معلولة [والريح لمن حاسة سمعه معلولة] (¬7). ¬

_ = قياسًا على رواية البخاري وغيره وهم، فإن في رواية البخاري بلفظ "أنه شكا" وليس هذه في رواية مسلم. اهـ. وانظر فتح الباري (1/ 237). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (فعلم). (¬3) ابن خزيمة رقم (29). (¬4) صحيح ابن حبان (2665، 2666)، وأبو داود (1029) في الصلاة. (¬5) المستدرك (1/ 134)، وضعفه الألباني في صحيح ابن خزيمة (1/ 19) وقال: إسناده ضعيف، لكن له متابع، إلى أن قال: ولكنه شاهد قاصر، ليس فيه "فليقل كذبت" ... إلخ، والمراد بالمتابع ما يأتي في التعليق (1) في (ص 664)، وت (4) ص (665). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) زيادة من ن ب ج.

وفي مسند أحمد من حديث أبي سعيد أيضًا: "إن الشيطان ليأتي إلى أحدكم وهو في صلاته فيأخذ شعرة من دبره فيمدها فيرى أنه أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا" (¬1)، وفيها علي بن زيد وهو ابن جدعان [وهو ذو غرائب] (¬2). قال الإِسماعيلي: هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن شك في خروج ريح منه لا [نفي] (¬3) الوضوء إلَّا من سماع صوت أو وجدان ريح، وقال الخطابي (¬4): معنى الحديث أنه يمضي في صلاته ما لم يتيقن الحدث، ولم يرد تخصيص هذين النوعين من الحدث وإنما هو جواب خرج [حذو سؤال السائل، ودخل] (¬5) في معناه كل ما يخرج من السبيلين من بول أو غائط أو مذي أو ودي أو دم وقد يكون بأذنه وقر فيخرج الريح ولا يسمع له صوتًا، وقد يكون أخشم فلا يجد الريح، والمعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم للمعنى، وهذا كما روي أنه عليه [الصلاة والسلام] (¬6) قال: "إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه" (¬7). لم يرد تخصيص الاستهلال الذي هو ¬

_ (¬1) مسند أحمد، الفتح الرباني (2/ 77). (¬2) زيادة من ن ج. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) معالم السنن (1/ 129). (¬5) العبارة في أعلام الحديث للخطابي (1/ 228): على حدود المسألة التي سأل عنها السائل وقد دخل ... إلخ. (¬6) ساقطة من الأصل. (¬7) أبو داود رقم (2920)، والبيهقي (6/ 257)، وابن حبان (7/ 609).

الصوت دون غيره من أمارات الحياة من حركة وقبض وبسط، وهذا أصل في كل ما ثبت يقينًا فإنه لا يرفع بالشك. خامسها: ترجم البخاري (¬1) على هذا الحديث: "لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن" ثم ذكره باللفظ الذي أسلفناه عنه، وترجم عليه أيضًا: "من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين" (¬2) ولفظه فيه: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". وذكره في البيوع (¬3) في، "باب: من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات" ولفظه فيه عن عباد بن تميم عن عمه قال: شُكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يجد في الصلاة شيئًا أيقطع الصلاة؟ قال: "لا، حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" ووجه تبويبه عليه أنه نهى عن العمل بمقتضى الوسواس؛ لأن تيقن الطهارة لا يقاومه الشك، ففي هذا تنبيه على ترك موافقة الوسواس في كل حال. ورواه البيهقي في معرفة السنن والآثار في باب: عدة زوجة المفقود (¬4)، ولفظه فيه "إن الشيطان ينقر عند عجُز أحدكم حتى يخيل ¬

_ (¬1) الفتح رقم (1/ 237). (¬2) فتح البارى (1/ 280). (¬3) برقم (2056). (¬4) في السنن الكبرى للبيهقي (2/ 254): "إن الشيطان يأتي أحدكم فينقر عند عجازه فلا يخرجن حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا أو يفعل ذلك متعمدًا". السنن والمعرفة (11/ 236).

له أنه [قد] (¬1) أحدث، فلا يتوضأ حتى يجد ريحًا يعرفه أو صوتًا يسمعه" وفي سنده ابن لهيعة. سادسها: في الحديث مشروعية سؤال العلماء عما يحدث من الوقائع وجواب السائل. سابعها: هذا الحديث أصل من أصول الإِسلام، وقاعدة من قواعد الفقه وهو: أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الله الطارئ عليها، والعلماء متفقون على هذه القاعدة، لكنهم مختلفون في كيفية استعمالها، مثاله مسألة الباب التي دل عليها الحديث، وهي: أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث [يحكم] (¬2) ببقائه على الطهارة سواء حصل الشك في الصلاة أو خارجها، وهو مذهب الشافعي وجمهور علماء السلف والخلف؛ إعمالًا للأصل السابق وهو الطهارة وإطراحًا للشك الطارئ، وأجازوا الصلاة في هذه الحالة، وهو ظاهر الحديث. وعن مالك -رحمه الله- روايتان: إحداهما: يلزمه الوضوء مطلقًا؛ نظرًا إلى الأصل الأول قبل الطهارة وهو ترتيب الصلاة في الذمة، فلا تزال إلَّا بطهارة متيقنة ولا يقين مع وجود الشك في وجود الحدث، ووقع في شرح ابن العطار أنه وجه شاذ عن بعض الشافعية، وهو غلط منه، وكان سببه انتقال ذهني منه إلى الرواية الثانية المنفصلة، فإنها حكيت وجهًا لنا وهو ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (حكم).

غلط أيضًا كما ستلعمه، وغلط أيضًا في حكايته ذلك عن الحسن البصري، وإنما حكى عنه الرواية الثانية، وليته تبع شيخه النووي (¬1) فإنه حكى ذلك عنهما أعني الرواية الثانية. وستعلم أن حكايته وجهًا عندنا غلط. الرواية الثانية: إن كان شكه في الصلاة لم يلزمه الوضوء، وإن كان خارجها لزمه، وحكاها الشيخ تقي الدين (¬2) عن بعض أصحاب مالك، وحكاها الرافعي في (شرحه الكبير) وجهًا وعزاه إلى صاحب (التتمة) (¬3) ولم يعزه في (الصغير)، وتابعه على حكاية هذا الوجه النووي في (الروضة وغيرها، [وابن الرفعه في (كفايته)] (¬4)، وهو غلط فإن الذي في (التتمة) حكاية ذلك عن مالك، كذا رأيته فيها، وحكاه الماوردي (¬5) عن الحسن البصري، فقد علمت بهذا إن هذا الوجه لا أصل لحكايته. ونقل القاضي والقرطبي (¬6) عن ابن حبيب المالكي أن هذا ¬

_ (¬1) شرح مسلم (4/ 49، 50). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 318). (¬3) هو عبد الرحمن بن مأمون بن علي بن إبراهيم النيسابوري أبو سعيد المتولي (426 - 478)، تفقه بمرو على الفوراني، وصنف (التتمة) وكان بارعًا في الفقه والأصول. ترجمته في السبكي (5/ 106، 108)، الإِسنوي (1/ 305 - 306)، ابن قاضي شهبة (1/ 264، 265). (¬4) زيادة من ن ج. (¬5) الحاوي الكبير (1/ 254)، وذكره في المجموع (2/ 64). (¬6) المفهم (2/ 727).

الشك في الريح دون غيره من الأحداث، وكأنه تبع ظاهر الحديث، واعتذر عنه بعض المالكية بأن الريح لا يتعلق بالمحل منه شيء بخلاف البول والغائط، ولا يخفى ما فيه، وسيأتي مقالة لهم أيضًا مفرقة بين الشك: أن يكون الشك في سبب حاضر أو متقدم. كأن قائل الرواية الثانية أخذ ذلك أيضًا من حديث أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" رواه مسلم (¬1) منفردًا [بل] (¬2) ورواه الترمذي (¬3) بلفظ: "إذا كان أحدكم في المسجد فوجد ريحًا بين إليتيه فلا يخرجن حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" وحمل الحديث على العموم في الصلاة إذا كان في المسجد [وإن كان المراد بالمسجد] (¬4) نفس الصلاة تسمية للصلاة باسم موضعها للزومها إيَّاه، ويؤيده رواية أبي داود (¬5) لهذا الحديث "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". ولما ذكر الشيخ تقي الدين الرواية الثانية التي عزاها إلى أصحاب مالك قال: لها وجه حسن، فإن القاعدة أن مورد النص إذا ¬

_ (¬1) مسلم، النووي (4/ 51). (¬2) في ن ب ج (به). (¬3) الترمذي رقم (75)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) أبو داود برقم (177).

وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبرًا في الحكم فالأصل يقتضي اعتباره وعدم إطراحه، وهذا الحديث بدل على إطراح الشك إذا وجد في الصلاة، وكونه موجدًا في الصلاة معنى يمكن أن يكون معتبرًا فإن الدخول إلى الصلاة مانع من إبطالها على ما اقتضاه من استدلالهم في مثل هذا بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} (¬1)، فصارت صحة [الصلاة] (¬2) أصلًا سابقًا على [صحة] (¬3) حالة الشك مانعًا من الإِبطال، ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع، وصحة العمل [ظاهرًا] (¬4) معنى يناسب عدم الالتفات إلى الشك، عكس اعتباره فلا ينبغي إلغاؤه. ومن أصحاب مالك من قيد هذا الحكم -أعني إطراح هذا الشك- بقيد آخر وهو أن يكون الشك في سبب حاضر كما في الحديث، حتى لو شك في تقدم الحديث على وقته الحاضر لم يبح له الصلاة، وهذا مأخذه ما ذكرناه من أن مورد النص ينبغي اعتبار أوصافه التي يمكن اعتبارها، ومورد النص اشتمل على هذا الوصف وهو كونه شكًّا في سبب حاضر فلا يلحق به ما ليس في معناه من الشك في سبب متقدم، إلَّا أن هذا القول أضعف من الأول؛ لأن صحة العمل ظاهر وانعقاد الصلاة مانع مناسب لإِطراح الشك، وأما ¬

_ (¬1) سورة محمد: آية 33. (¬2) في ن ب ج ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (في).

كون السبب [تأخر] (¬1) فإما غير مناسب وإما مناسب مناسبة ضعيفة. قال الشيخ: فالذي يمكن أن يقرر به قول هذا القائل أن يرى أن الأصل الأول وهو ترتب الصلاة في ذمته معمول به، فلا يخرج عنه إلَّا ما ورد فيه النص، وما بقي يعمل فيه بالأصل، ولا يحتاج في المحل الذي خرج على الأصل بالنص إلى مناسب كما في صور كثيرة عمل فيها العلماء هذا العمل، أعني أنهم اقتصروا على مورد النص إذا خرج عن الأصل أو [القياس من غير اعتبار مناسبة والسبب فيه أن [إعمال] (¬2) النص في مورده لا بد منه، [والعمل] (¬3) بالأصل أو القياس المطرد مسترسل لا يخرج منه إلَّا بقدر الضرورة، ولا ضرورة فيما زاد على مورد النص، ولا سبيل إلى إبطال النص في مورده سواء كان مناسبًا أو لم يكن، وهذا يحتاج معه إلى إلغاء وصف كونه في صلاة، ويمكن هذا القائل منع ذلك بوجهين: الأول: أن يكون هذا القائل نظر إلى ما في بعض الروايات، وهو أن يكون الشك [لمن] (¬4) هو في المسجد، يعني التي أسلفناها، وكونه في المسجد أعم من كونه في الصلاة، فيؤخذ من هذا إلغاء ذلك القيد الذي اعتبر القائل الآخر وهو كونه في الصلاة، ويبقى كونه ¬

_ (¬1) في ن ب (ناجز)، وأيضًا في إحكام الأحكام. (¬2) في الأصل (الأعمال)، وفي ن ب (الِإعمال)، والتصحيح من إحكام الأحكام. (¬3) في ن ج ساقطة. (¬4) في ن ب (بمن).

شكًا في سب [ناجز] (¬1)، إلَّا أن القائل الأول له أن يحمل كونه في المسجد على كونه في الصلاة، [أي] (¬2) كما أسلفته، فإن الحضور في المسجد يراد للصلاة فقد يلازمها فيعبر عنها، وهذا وإن كان مجازًا إلَّا أنه يقوى إذا اعتبر الحديث وكان حديثًا واحدًا مخرجه من جهة واحدة، فحينئذٍ يكون ذلك الخلاف اختلافًا في عبارة الراوي فنفسر أحد اللفظين بالآخر ويرجع إلى أن المراد كونه في الصلاة. قلت: الحديث غير متحد ومخرجهما مختلف كما أسلفته لك، وإن رواية أبي داود صرح فيها بذكر الصلاة. الوجه الثاني: وهو أقوى من الأول: ما ورد في الحديث "إن الشيطان ينفخ بين إليتي الرجل" (¬3) وهذا المعنى يقتضي مناسبة السبب الحاضر لإِلغاء الشك، قال الشيخ: وإنما أفردنا هذه المباحث ليلمح الناظر مآخذ العلماء في أقوالهم فيرى ما ينبغي ترجيحه فيرجحه وما ينبغي إلغاؤه فيلغيه، والشافعي رضي الله عنه ألغى القيدين معًا، أعني كونه في الصلاة وكونه في سبب [ناجز] (¬4) واعتبر أصل الطهارة، ورجح القرافي ما ذهب إليه مالك وقال: لأنه احتاط للصلاة التي هي مقصد، وألغى الشك في [السبب] (¬5)، والشافعي ¬

_ (¬1) في الأصل (تأخر). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) انظر: تلخيص الحبير (1/ 128). (¬4) في الأصل (تأخر)، وما أثبت من ن ب ج، وإحكام الأحكام (1/ 324). (¬5) في الأصل (سبب)، والتصحيح من ن ب ج.

احتاط للطهارة وهي وسيلة، وألغى الشك في [الحدث] (¬1) الناقض لها، والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل. قلت: لكن في الأول خروج عن [الحديث] (¬2) جملة فإنه أمره بعدم الانصراف إلَّا أن يتحقق. تذنيب: هذه القاعدة تعرف في الأصول باستصحاب الحال، وهي أدلة الشريعة الثلاثة التي هي: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال، ونعني بالأصل: الكتاب، والسنة، والإِجماع. وبمعقول الأصل: فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب على ما تقرر في الأصول. ونعني باستصحاب حال الأصل: البقاء عليه حتى يدل دليل على خلافه، وهو على ضربين: استصحاب حال العقل، واستصحاب حال الإِجماع. فالأول: [نحو] (¬3) أن يدعي أحد الخصمين حكمًا شرعيًا في مسألة، ويدعي الآخر البقاء على حكم العقل، مثل أن يدعي من أوجب الوتر، فيقال: الأصل براءة الذمة، وطريق شغلها الشرع، فمن ادعى شرعًا يوجب ذلك فعليه الدليل. والثاني: مثل استدلال داود على أن أم الولد يجوز بيعها، بأنا قد أجمعنا على جواز بيعها قبل العمل، فمن ادَّعى المنع من ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل (الحديث)، وما أثبت من ن ب ج. (¬2) في الأصل (الحدث)، وما أثبت من ن ب ج. (¬3) في ن ب ج (يجوز).

بعده فعليه الدليل، وهذا غير صحيح من الاستدلال؛ لأن الإِجماع لا يتناوله موضع الاتفاق، وما كان حجة فلا يصح الاحتجاج به في الوضع الذي لا يوجد فيه، كألفاظ صاحب الشرع إذا تناولت موضعًا خاصًا لا يجوز الاحتجاج بها في الوضع الذي يتناوله. تنبيهات: أحدها: قال أصحابنا: لا فرق في الشك بين تساوي الاحتمالين في وجود الحدث وعدمه، أو ترجح أحدهما ويغلب على ظنه فلا وضوء عليه، نعم يستحب احتياطًا فلو بان بعدُ حدثه فوجهان: أصحهما: لا يجزئه هذا الوضوء؛ لتردده في نيته، بخلاف ما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فتوضأ ثم بان محدثًا فإنه [يجزئه] (¬1) قطعًا؛ لأن الأصل بقاء الحدث فلا يضر التردد معه. ثانيها: لو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث بالإِجماع (¬2). ثالثها: لو تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما فأوجه: أصحها: أنه يأخذ بضد ما قبلهما إن عرفه، فإن لم يعرفه لزمه الوضوء بكل حال، والمختار لزوم الوضوء بكل حال والمسألة مبسوطة في شرحي للمنهاج وغيره. رابعها: من مسائل القاعدة التي اشتمل عليها معنى الحديث: ¬

_ (¬1) في ن ب (يجبر به). (¬2) في الأصل زيادة (ثالثها: لو تيقن الطهارة والحدث وشك في الطهارة فهو محدث بالإِجماع).

من شك في طلاق زوتجه، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، وطهارة النجس، أو نجاسة الثوب، أو غيره، أو أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو أنه ركع أو سجد أم لا، أو نوى الصوم أو الصلاة أو الوضوء أو الاعتكاف، وهو (في) (¬1) أثناء هذه العبادات وما أشبه هذه الأمثلة، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم الحادث. قد استثنى من هذه القاعدة بضع عشرة مسألة: منها: من شك في خروج وقت الجمعة قبل الشروع فيها قبل وقتها، ومن شك في ترك بعض وضوء أو صلاة بعد الفراغ؛ لا أثر له على الراجح. ومنها: عشر ذكرهن ابن القاصِّ -بكسر الصاد المهملة المشددة- من أصحابنا: الشك في مدة خف، وأن إمامه مسافر، أو وصل وطنه، أو نوى إقامة، ومستحاضة شفيت؛ وغسل [متحرية] (¬2)، وثوب خفيه نجاسته، ومسألة الظبية (¬3)، وبطلان التيمم بتوهم الماء، وتحريم صيد جرحه فغاب فوجده ميتًا. قال القفال: لم يعمل بالشك في شيء منها؛ لأن الأصل في ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (متحيرة). (¬3) قال السيوطي في الأشباه والنظائر (68): ونظيره في مسألة الظبية: أن لا يرى الماء عقب البول، بل تغيب ثم يجده متغيرًا، فإنه حكم بأن التغير من البول. اهـ.

الأولى: [الغسل] (¬1)، وفي الثانية: الإِتمام، وكذا في الثالثة والرابعة إن أوجبناه، والخامسة والسادسة: اشتراط الطهارة ولو ظنًا أو استصحابًا، والسابعة: بقاء النجاسة، والثامنة: لقوة الظن، والتاسعة: للشك في شرط التيمم وهو عدم الماء، وفي الصيد: تحريمه إن قلنا به. قال النووي في تحقيقه: بعد أن لخص المسألة هكذا وبسطها في شرح المهذب (¬2): وقول ابن القاص (¬3) أقوى في غير الثامنة والتاسعة والعاشرة. الوجه الثامن: قال الخطابي: في الحديث حجة لمن أوجب الحد على من وجدت منه رائحة المسكر وإن لم يشاهد يشربه ولا شهد عليه الشهود [واعترف به] (¬4)، قال: وفيه دلالة أيضًا على أنه إذا تيقن النكاح وشك في الطلاق كان على النكاح [المقدم إلَّا إن تيقن] (¬5) الطلاق. قلت: وهذا فرد من أفراد القاعدة التي أسلفناها [ويتعلق بها ما ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) المجموع (1/ 211)، وأشار إشارة في (1/ 206)، وأيضًا ذكره في شرح مسلم (4/ 50). (¬3) هو ابن العباس ابن القاص بتشديد الصاد المهملة، اسمه أحمد بن أبي أحمد إمام جليل توفي بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. المجموع (1/ 143). (¬4) في ن ب (ولا اعتراف به). (¬5) في معالم السنن (1/ 129)، (المتقدم إلى أن يتيقن).

رويناه بالإِسناد إلى عبد الرحمن بن مالك بن مغراء قال: جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال: شربت البارحة نبيذًا فلا أدري أطلقت امرأتي أم لا؟ فقال له: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنك طلقتها، قال: فتركه، ثم جاء إلى سفيان الثوري فسأله فقال: اذهب فراجعها فإن كنت طلقت فقد راجعتها وإلَّا فلا تضرك المراجعة، فتركه، وجاء إلى شريك فقال له: اذهب فطلقها ثم راجعها، فتركه، وجاء إلى زفر فسأله، فقال: هل سألت قبلي أحدًا؟ قال: نعم، وقص عليه القصة، فقال في جواب أبي حنيفة: الصواب قال لك، وقال في جواب سفيان: ما أحسن ما قال، ولما بلغ إلى قول شريك ضحك مليًا، ثم قال: لأضربن لهم مثلًا: رجل مرة بشعب يسيل دمًا فشك في ثوبه هل أصابه نجاسة؟ قال أبو حنيفة: ثوبك طاهر حتى تستيقن، وقال سفيان: اغسله فإن كان نجسًا فقد طهرته وإلَّا فقد زدته طهارة، وقال شريك: بُل عليه ثم اغسله] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. انظر: وفيات الأعيان (2/ 318).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 28/ 3/ 5 - عن أم قيس بنت محصن الأسدية: "أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه (¬1) ولم يغسله (¬2) " (¬3). ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام زيادة (على ثوبه). (¬2) قال ابن عبد البر رحمنا الله وإياه في الاستذكار (3/ 252)، قوله في الحديث "ولم يغسله" يريد: ولم يفركه، ويقرصه بالماء. وقال بعض شيوخنا: قوله في هذا الحديث: "ولم يغسله" ليس في الحديث، وزعم أن آخر الحديث "فنضحه". ولا يتبين عندي ما قاله، لصحة رواية مالك هذه، وقد قال فيها: ولم يغسله نسقًا واحدًا. وكذا رواية ابن جريج "بتصرف". ورواه عبد الرزاق. وذكره ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن الزهري بإسناده، قال فيه: "فدعا بماء فرشه، ولم يزد". وقال فيه معمر: "فنضحه، ولم يزد". (¬3) البخاري برقم (223، 5693)، ومسلم برقم (287)، وأبو عوانة =

الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه: أم قيس هذه هي أخت عكاشة بتشديد الكاف وتخفيفها، والأول أكثر، ابن محصن بن حُدثان بضم الحاء المهملة، ووهم الفاكهي تبعًا للصعبي فضبطاه بالجيم، ابن قيس. لها صحبة، أسلمت قديمًا وهاجرت إلى المدينة وبايعت، قال ابن العطار في شرحه: لا اسم لها غير كنيتها. قلت: عجيب! فقد قال السهيلي في روض الأنف: اسمها آمنة، وقال ابن عبد البر: اسمها خُذامة، فاستفدها، وكأنه اغتر بابن حبان فإنه ذكرها في ثقاته فيمن عرف بكنيتها دون اسمها، لكن لا يلزم من ذلك ما قاله. روت أربعة وعشرين حديثًا، اتفقا منها على حديثين، قاله الحافظ المقدسي، وقال ابن الجوزي: لها في الصحيحين حديثان أحدهما للبخاري، والثاني لمسلم، روى عنها جماعة منهم وابصة بن معبد الأسدي، أخرج لها البخاري في الأدب والنسائي والطبراني أنها قالت: "توفي ابني فجزعت فقلت للذي يغسله لا تغسل ابني ¬

_ = (1/ 202، 203)، ومالك (1/ 64)، وأبو داود (374)، والنسائي 1/ 157)، والدارمي (1/ 189)، وابن ماجه (524)، والترمذي (1/ 104)، والبيهقي (2/ 414)، وأحمد (6/ 355، 356)، مع زيادة له ولأبي عوانة: "ولم يكن الصبي بلغ أن يأكل الطعام"، وفي أخرى لأبي عوانة: "فلم يزد على أن نضح بالماء". انظر: ابن خزيمة (1/ 144).

بالماء البارد فتقتله، فانطلق عكاشة بن محصن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بقولها فتبسم، ثم قال: طال عمرها، فلا نعلم [امرأة] (1) عمرت ما عمرت". والأَسدية: بفتح الهمزة والسين المهملة نسبة إلى أسد بن خزيمة (¬2). وهي نسبة أيضًا إلى أسد [بن] (¬3) قريش أسد بن عبد العزى بن قصي بن مالك (¬4)، وأسد في مذحج أسد بن مُسلية بن عامر (¬5)، وأسد بن عبد مناه بن عايذ الله بن سعيد [العشيرة] (¬6). وفي الأزد أيضًا: أسد [بنو أسد] (¬7) بن الحارث بن عتيك، ونسبة هذه النسبة [بالأسْدي] (¬8) (¬9) بسكون السين مبدلة من الزاي نسبة إلى أزد شنوءه، كذا قاله السمعاني، وحكى عن ابن السكيت وغيره أنه يقال فيه [الأزد] (¬10) بالزاي والسين لغتان، منهم من الصحابة ابن ¬

_ (ا) في ن ب ساقطة. (¬2) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (11). (¬3) في ن ب ج (في). (¬4) جمهرة أنساب العرب (117). (¬5) جمهرة الأنساب (414). (¬6) في ن ب (للعسيرة). (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وبعدها دال مهملة. اهـ، من اللباب في معرفة الأنساب لابن الأثير (1/ 52). (¬9) في ن ب (الأزدي). (¬10) في ن ب (الأسد).

بحينة (¬1) وابن اللتبية وغيرهما. ثانيها: في ألفاظه: وفيه مواضع: الأول: الابن: [لا] (¬2) يقع إلَّا على الذَّكَرِ خاصة، بخلاف الولد فإنه يقع عليه وعلى الأنثى. ثانيها: قوله: "لم يأكل الطعام" هو في موضع خفض صفة لابن، وهو من باب اجتماع المفرد الجملة صفتين، والأحسن تقديم المفرد على الجملة، وإن كان الآخر حسنًا جيدًا ومنه قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (¬3). ومن الآخر قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (¬4). وإنما كان تقديم المفرد أولى؛ لأصالته، دون الجملة. [ثالثها] (¬5): [الطعام] (¬6) ما يؤكل اقتياتًا ليخرج ما يحنك به عند الولادة، وربما خصّ الطعام بالبر كما في حديث أبي سعيد في الفطرة. ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن مالك بن القشب، واسمه: جندب بن نضلة. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 381). (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) سورة الأنبياء: آية 50. (¬4) سورة الأنعام: آية 155. (¬5) في ن ب (رابعها). (¬6) زيادة من ن ب ج.

[رابعها] (¬1): معنى "لم يأكل الطعام" لم يستغن به ويصير له غذاء عوضًا عن الإِرضاع، لا أنه لم يدخل جوفه شيئًا قط؛ فإن الصحابة كانوا يأتون بأبنائهم ليدعوا لهم لا سيما عند شيء يجده أحدهم [من مرض ونحوه] (¬2)، ويؤيد ذلك جلوسه في حجره - صلى الله عليه وسلم - إذ الصبي عند الولادة لا يجلس، ويقويه أيضًا قولها: "لم يأكل الطعام" ولم تقل: لم يرضع، ويبعد أن يكون عبر بالإِجلاس عن الوضع كما قال الباجي (¬3)؛ لأنه خلاف الأصل. [خامسها] (¬4): الحجر بفتح الحاء وكسرها لغتان مشهورتان. [سادسها] (¬5): النضح: هو إصابة الماء جميع موضع البول، وكذا غلبة الماء في الأصح عند أصحابنا: ولا يشترط أن ينزل عنه، ويدلّ عليه قولها: فنضحه ولم يغسله. والغسل: أن يغمره وينزل [عنه] (¬6)، ولا يشترط العصر هنا، وقال المتولي من أصحابنا: معنى الرش أن يقلب عليه من الماء مايغلبه بحيث لو كان بدل البول نجاسة أخرى وعصر الثوب كان يحكم بطهارته. [سابعها] (¬7): قال ابن الأثير في شرح المسند: النضح ¬

_ (¬1) في ن ب (خامسها). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) المنتقى (1/ 128). (¬4) في ن ب (سادسها). (¬5) في ن ب (سابعها). (¬6) في الأصل (عليه)، وما أثبت من ن ب. (¬7) في ن ب (تاسعها).

بالمهملة: الرش، وبالمعجمة أكثر من النضح، وقيل: هما سواء، وخالف في نهايته (¬1) فقال: النضخ قريب من النضح، وقد اختلف في أيهما أكثر، والأكثر أنه بالمعجمة أقل من المهملة، وقيل: هو بالمعجمة: الأثر يبقى على الثوب والجسد، وبالمهملة: الفعل نفسه، وقيل: ما فعل تعمدًا فبالمعجمة وإلاَّ فبالمهملة (¬2)، وقيل: ما ثخن كالطيب فبالمعجمة، وما رقَّ كالماء فبالمهملة، وقيل عكسه (¬3). قلت: ومما يدل على أنه بالمعجمة أكثر قوله تعالى: {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} (¬4)، أي فوَّارتان، والفوران أكثر من الرش بلا شك. [ثامنها] (¬5): في أحكامه وفوائده، ويحضرنا منها عشرة: الأولى: أن بول الصبي يكفي فيه النضح وهو مخالف للجارية في ذلك، وهو الصحيح عند الشافعية وبه قال أحمد وجماعة من السلف وأصحاب الحديث، منهم علي بن أبي طالب وأم سلمة والأوزاعي وإسحاق وداود. وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما والثوري (¬6): لابد ¬

_ (¬1) (5/ 70). (¬2) ذكره في عمدة الحفاظ (580). (¬3) انظر: الحروف الخمسة للبطليوسي (256)، والاستذكار (3/ 255)، (6/ 153)، (6/ 59، 64)، والتمهيد (1/ 265، 266). (¬4) سورة الرحمن: آية 66. (¬5) في ن ب (ثامنها). (¬6) نقله النووي في شرح مسلم (3/ 195)، الأبي في شرحه (2/ 68).

من الغسل، ونص عليه الشافعي أيضًا تسوية بينهما، وقدموا القياس على الأحاديث وربما حمل بعضهم لفظ النضح في بول الصبي على الغسل، وهو ضعيف؛ لنفي الغسل والتفرقة بينهما في الحديث. وعندنا وجه أنه يكفي النضح في الجارية أيضًا، وهو قول النخعي ورواية عن الأوزاعي (¬1)، [ولا ينبغي] (¬2) أن يقال: يكفي النضح فيها دونه معللًا بالاتفاق على محبة الغلام دونها فخفف أمرها بالنضح؛ لأنه مصادم للنص، وقد صحيح ابن خزيمة (¬3) والحاكم (¬4) من حديث أبي السمح واسمه إياد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام"، وأخرجه أبو داود (¬5) والنسائي (¬6) وابن ماجه (¬7) وحسنه البخاري، ومن قال بالغسل تأول الحديث على أنه لم يغسله أي غسلًا مبالغًا فيه كغيره، فسمُي الأبلغ [فيه] (¬8) غسلًا والأخف نضحًا، وهو خلاف الظاهر (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: معجم فقه السلف (1/ 27). (¬2) في الأصل (وألا ينبغي)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) ابن خزيمة رقم (283). (¬4) المستدرك (1/ 166)، قال الذهبي: "صحيح". (¬5) أبو داود (377). (¬6) النسائي (1/ 158). (¬7) ابن ماجه (526). (¬8) ساقطة من الأصل. (¬9) الذي يوافق الأحاديث الصحيحة في هذا أنه ينضح بول الغلام ويغسل بول =

ثانيها: قال النووي في شرح مسلم (¬1): هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير ما بال عليه الصبي ولا خلاف في نجاسته، وكذا قال الخطابي (¬2) أيضًا: ليس النضح لعدم نجاسته بل للتخفيف في إزالته، قال النووي: وقد نقل بعض أصحابنا الإِجماع على نجاسته وأنه لم يخالف فيه إلَّا داود الظاهري، قال: وأما ما حكاه ابن بطال ثم القاضي عياض عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: بول الصبي طاهر [فينضح] (¬3) حكاية باطلة قطعًا لا تعرف في مذهبنا. ¬

_ = الجارية. وأما من تأول ألفاظ بعض الأحاديث في لفظ "نضح" و"الرش" بأنه الغسل فقد أبعد عن مدلول الألفاظ، وأحال الأحاديث عن معناها الحقيقي، وترد عليه الأحاديث الأخرى في الباب التي فيها التفريق بين بول الجارية وبين بول الغلام، كحديث لبابة بنت الحارث عند أحمد وأبي داود وابن ماجه مرفوعًا: "إنما ينضح من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى". وكحديث أبي السمح، لفظه وتخريجه في أعلاه، فإن تأول هؤلاء النضح والرش بأنه الغسل يحمل معنى الحديثين إلَّا أنه يغسل بول الجارية ويغسل بول الغلام، وما أظن أحدًا أن له مساس بالعلم أو معرفة باللغة: يرضى أن يحمل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى. ونفس حديث الباب -حديث أم قيس بنت محصن- في رواية البخاري: "فنضحه ولم يغسله" فهل معنى هذا: فغسله ولم يغسله؟ اهـ من تعليق أحمد شاكر على سنن الترمذي رقم (71). (¬1) (3/ 195). (¬2) معالم السنن (1/ 224). (¬3) في ن ب (وينضح). انظر: شرح مسلم للأبي (2/ 68)، وما أثبت يوافق شرح النووي (3/ 195).

قلت (¬1): نقله القرطبي (¬2) في شرحه لمسلم عن إمامنا أيضًا، وكذا ابن عبد البر (¬3) والباجي في المنتقى (¬4)، ولم ينفردوا به فقد حكاه الشيخ أبو يحيى بن زكريا الصباحي البصري عن الشافعى في كتابه (اختلاف العلماء) وهذا لفظه: حُكي عن الشافعي أنه قال: الأبوال كلها نجسة، قال: وروي عنه في موضع آخر أنه قال: الأبوال كلها نجسة إلَّا بول الغلام الذي لم يطعم فإنه يرش عليه؛ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحكاه القرطبي في شرحه لمسلم (¬5) عن أحمد والحسن وابن وهب [و] (¬6) رواية عن مالك أيضًا، قال: وحكي عن أبي حنيفة وقتادة، قال: ومشهور مذهب أبي حنيفة: النجاسة، وروى عن مالك القول بطهارة بول الذكر والأنثى، ففي مذهب مالك حينئذٍ ثلاثة أقوال. ثالثها: اختلف في السر في الفصل بين الذكر والأنثى على أقوال كثيرة ومُهِمُّهَا ما ذكره ابن ماجه (¬7) في سننه عن أبي اليمان المصري قال: سألت الشافعي [عن الحديث السالف] (¬8) والماءان ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (ولذا). (¬2) المفهم (2/ 643). (¬3) الاستذكار (3/ 253، 254). (¬4) (1/ 128). (¬5) المفهم (2/ 643). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) ابن ماجه (1/ 175). (¬8) اللفظ هكذا في سنن ابن ماجه: عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية".

جميعًا واحد، قال: لأن بول الغلام من الماء والطين وبول الجارية من اللحم والدم، ثم قال: فهمت [] (¬1): [أو قال: لقنت] (¬2) [أي] (¬3) قلت: لا، قال: إن الله لما خلق آدم خلقت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم. قال ليس: فهمت ذلك؟ قلت: نعم. قال: نفعك الله. قلت: وهذا عزيز حسن لا يعدل عنه إلى غيره، والعجب أن أصحابنا أهملوا ذلك في كتبهم وهو قول إمامهم، ورأيت في شرح ألفاظ مصابيح البغوي للشيخ ضياء الدين أبي النجيب عبد القاهر السهروردي (¬4) أن مالكًا قال: ربما جاء هذا الحديث -يعني التفرقة بينهما- وليس عليه العمل، وإن ابن وهب أخذ بهذا الحديث وقال: الصبي خلق من تراب والتراب إذا طرح في الماء طهر، والصبية خلقت من ضلع والضلع إذا طرح في الماء أنتن، هذا ¬

_ (¬1) في جميع النسخ زيادة (قلت) وهي غير موجودة في سنن ابن ماجه وليس لها معنى هنا. (¬2) التصحيح من سنن ابن ماجه، في الأصل الكلمة غير واضحة. (¬3) هذه الكلمة غير موجودة في سنن ابن ماجه. (¬4) هو الشيخ الإِمام العالم المفتي أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد السهروردي، ولد تقريبًا "بسهرورد" في سنة تسعين وأربعمائة، مات في جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة. الأنساب (7/ 197)، والمنتظم (10/ 225)، وطبقات الشعراني (1/ 140).

ما ذكره فليتأمل فإن هذا موجود في بول الكبير. وقال الشيخ تقي الدين (¬1): ذكر بعضهم أن بول [الصبي يقع في محل واحد وبول الصية يقع منتشرًا] (¬2) فاحتيج إلى صب الماء في مواضع معددة ولا يحتاج إليه في بول الصبي، قال: وأقوى ما قيل فيه: إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإِناث فيكثر حمل الذكور فناسب التخفيف بالاكتفاء بالنضح دفعًا للحرج والعسر، بخلاف الإِناث فإن هذا المعنى قليل فيهنَّ، فيجري على القياس في غسل الجنابة، وما قدمناه مهم بالغ فلا يعدل عنه مع هذا. رابعها: في الحديث التبرك بأهل الصلاح والفضل واستحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل والتبرك بهم، قال النووي: وسواء [في هذا] (¬3) وقت الولادة وبعدها (¬4). وفيه الندب إلى حسن ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 330). (¬2) عبارة ابن القيم في إعلام الموقعين، قال: "الثاني أن بوله -أي الصبي- لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقًا ها هنا وها هنا فيشق غسل ما أصابه كله، بخلاف بول الأنثى" اهـ. وقد ذكر الفروق هذه بعبارات متغايرة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) ذكر في تيسير العزيز الحميد (153): تبيه: ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في "شرح مسلم" في =

المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وغيرهم. خامسها: فيه أيضًا دلالة على أن قليل الماء لا ينجسه قليل النجاسة إذا غلب عليها. سادسا: فيه أيضًا أنه لا يفتقر التطهير إلى إمرار اليد وإنما المقصود إزالة العين. سابعها: فيه أيضًا وجوب غسل بول الصبي إذا طعم ولا خلاف فيه. ¬

_ = الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئًا من ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا خطأ صريح لوجوه: منها عدم المقارنة فضلًا عن المساواة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الفضل والبركة. ومنها عدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلَّا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلَّا بنص كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله أو أئمة التابعين أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم. ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم الله له بخاتمة سؤء، والأعمال بالخواتيم فلا يكون أهلًا لتبرك بآثاره. ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته، ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ونحوهم من الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين وأويس القرني، والحسن البصري، ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم. فدل أن ذلك مخصوص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها أن فعل هذا مع غيره - صلى الله عليه وسلم -، لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء. فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم. اهـ.

ثامنها: فيه أيضًا الندب إلى حمل الآدمي [وما يعرض له فيه] (¬1). تاسعها: فيه أيضًا جبر قلوب الكبار بإكرام أطفالهم، وإجلاسهم في الحجر، وعلى الركبة ونحو ذلك. عاشرها: الصبي المذكور لا أعرف اسمه، ولم أره أيضًا في كتب المبهمات بعد التتبع الشديد. ¬

_ (¬1) في ن ب (وبالعرض له منه).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 29/ 4/ 5 - " عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إيَّاه". ولمسلم: "فأتبعه بوله، ولم يغسله" (¬1). أما راويه فقد تقدم التعريف به في الحديث الثالث من الطهارة. وأما ألفاظه: "فالصبي" جمعه صبيان، كقضيب وقضبان (¬2)، والصبيان: بكسر الصاد وضمها، وهو الغلام من حين يولد إلى [أن] (¬3) يبلغ كما أسلفته في الحديث الرابع من باب الاستطابة. وقولها: "فأتبعه بوله ولم يغسله" معناه رشه عليه، وفي رواية (¬4) لمسلم: "فصبه عليه"، قال القرطبي (¬5): وقد روى "فنضحه" وكلها بمعنى واحد. ¬

_ (¬1) البخاري (222، 5468، 5002، 6355)، ومسلم برقم (286)، والنسائي (1/ 157)، وابن ماجه برقم (523)، ومالك في الموطأ (1/ 64)، وأحمد في المسند (6/ 52). (¬2) مختار الصحاح (152). (¬3) في ن ب (حين). (¬4) في ن ب زيادة (له). (¬5) المفهم (2/ 643).

وأما أحكامه: فتقدم بيانها في الحديث قبله، قال القرطبي (¬1): وتعسف بعضهم وقال: إن الضمير في قولها: "فبال عليه" عائد على الصبي نفسه، وهذا وإن كان [هذا] (¬2) اللفظ صالحًا له، غير أن في حديث أم قيس السالف "فبال في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أخرجه مالك (¬3) كذلك، فبطل ذلك التأويل، وفيه أن إزالة النجاسة المقصود بها إذهاب عينها وأنها لا تفتقر إلى ذلك (¬4)، قال الشيخ تقي الدين (¬5): واستدلَّ به بعض المالكية على أن الغسل لا بدَّ فيه من أمر زائد على مجرد إيصال الماء من وجهة قولها: "ولم يغسله" مع كونه أتبعه بماء. واعلم أن الصبي المذكور في حديث عائشة يحتمل أن يكون عبد الله بن الزبير أو الحسن أو الحسين؛ لروايات في ذلك ذكرتها في تخريجي لأحاديث الرافعي الذي لا يستغنى عنه. ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 643). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) الموطأ 1/ 64)، ولفظه: "فأجلسه في حجره فبال على ثوبه". (¬4) قال ابن قاسم في حاشية الروض (1/ 239): فإن لم يذهب لون النجاسة أو ريحها لم تطهر، ما لم يعجز عن إزالتهما أو إزالة أحدهما، لحديث خولة: قالت: يا رسول الله ليس لي إلَّا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، قال: "إذا تطهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه"، قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره قال: "يكفيك الماء ولا يضرك أثره". (¬5) إحكام الأحكام (1/ 332).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 30/ 5/ 5 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء، فأهريق عليه" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: [في] (¬2) راويه، وقد تقدم التعريف به في أول الاستطابة. ثانيها: في ألفاظه وفيه مواضع: ¬

_ (¬1) البخاري رقم (219، 221، 6025)، ومسلم برقم (285)، والنسائي (1/ 47، 48)، ومالك في الموطأ (1/ 64)، وابن ماجه (528)، وأبو داود (380)، وأحمد (2/ 239، 282)، (2/ 503)، مع زيادة من رواية أبي هريرة ورواية أنس (3/ 110، 111، 114، 167، 191، 226)، والدارمي (1/ 189)، وأبو عوانة (1/ 213، 215)، والترمذي من رواية أبي هريرة (رقم 147)، وابن حبان من رواية أبي هريرة (1396، 1397)، وأنس (1398). (¬2) زيادة من الأصل.

الأول: الأعرابي: الذي (¬1) يسكن البادية وإن لم يكن من العرب، والعربي منسوب إلى العرب وإن كان في الحضر، والعرب ولد إسماعيل عليه السلام، وإنما نسب الأعراب إلى الجمع دون الواحد لأنه جرى مجرى القبيلة كأنمار، وقيل: لأنه لو نسب إلى الواحد وهو عرب لقيل: عربي، فيشتبه المعنى فإن العربي كل من هو من ولد إسماعيل عليه السلام كما تقدم سواء كان ساكنًا في البادية أو لا، وهذا غير المعنى الأول. واعلم أن هذا الأعرابي لم أرَ أحدًا ممن تكلم على المبهمات سماه، وقد ظفرت به بحمد الله ومنِّه في معرفة الصحابة [لأبي] (¬2) موسى الأصبهاني فإنه روى من حديث سليمان بن يسار قال: اطلع ذو الخويصرة اليماني وكان رجلًا جافيًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وساق الحديث وفى آخره: أنه بال فيه وأنه أمر بسجل فصبه على مباله (¬3)، وقد ذكرته كذلك في كتابي العدة في معرفة رجال العمدة نفع الله به. الثاني: الطائفة من الشيء: القطعة [منه] (¬4)، وطائفة المسجد: ناحيته. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (لا). (¬2) في ن ب (أبي). (¬3) انظر تنوير الحوالك (1/ 64)، وفيه قال عنه بعض الفضلاء: هو القائل، والسائل، والبائل؛ القائل: اعدل يا محمد، السائل: اللهم ارحمني ومحمدًا، البائل: معروف معناه. (¬4) زيادة من ن ب.

الثالث: المسجد: بكسر الجيم كالمجلس، لموضع السجود، ويجوز فتحها، وقيل بالفتح: اسم لمكان السجود، وبالكسر: اسم للموضع المتخذ مسجدًا. وحكى ابن مكي (¬1) في تثقيفه (¬2) عن غير واحد من أهل اللغة أنه يقال للمسجد: مسيد، بفتح الميم وبالياء المكسورة بدل الجيم. وهو في الأصل: لموضع السجود ويطلق في العرف على كل مكان مبني للصلاة التي فيها السجود. الرابع: الزجر: النهي والمنع. يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر. الخامس: الذنوب: بفتح الذال المعجمة وضم النون، قال الشافعي في المختصر: هو الدلو العظيم، وكذا قاله غيره، زاد الأزهري (¬3): وهو دون الغرب الذي يكون للسانية ولا يسمى ذنوبًا حتى يكون مُلىء ماء، ونقله النووي في شرح المهذب عن الأكثرين، وجزم به في شرحه لمسلم (¬4)، وقال ابن السكيت (¬5): هي التي فيها ¬

_ (¬1) هو أبو حفص عمر بن خلف بن مكي الحميري المازري المتوفى سنة (501). (¬2) تثقيف اللسان (186) ومن ذلك قولهم للمسجد "مسيد"، حكاه غير واحد إلَّا أن العامة يكسرون الميم والصواب فتحها. اهـ. (¬3) تهذيب اللغة (14/ 438). (¬4) (3/ 190). (¬5) في المشوف المعلم (1/ 291) قريب من الملء.

قريب من الثلث، وقال ابن داود من أصحابنا: إنه لا يسمى ذنوبًا ما لم يكن الحبل مشدودًا فيه وهو مذكر وقد يؤنث، قاله ابن سيده (¬1): والجمع: في أدنى العدد أذنبة، والكثير ذنائب مثل قلوص وقلائص (¬2). واعلم: أن الذنوب من الألفاظ المشتركة فهو ما ذكرنا وهو [من] (¬3) الفرس الطويل، والنصيب، ولحم أسفل المتن. السادس: "أهريق عليه": سبب، والأصل (أريق) والهاء زائدة. ثالثها: في أحكامه وفوائده ويحضرنا منها ثلاث عشرة: [الأولى] (¬4): نجاسة بول الآدمي وهو إجماع إذا أكل غير اللبن. ثانيا: احترام المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وفي مسند إسحاق بن راهويه وصحيح ابن خزيمة (¬5) أنه عليه السلام قال له: "إن هذا المسجد إنما هو لذكر الله والصلاة، ولا يبال فيه". ثالثها: الرفق بالجاهل في التعليم وأنه لا يؤذى ولا يعنف إذا لم يأت بالمخالفة استخفافًا وعنادًا، وأخرج الشافعي ¬

_ (¬1) انظر: المخصص (9/ 164). (¬2) انظر: لسان العرب (5/ 64). (¬3) في ن ب ساقطة، وفي مجمل اللغة (361) زيادة: الفرس الطويل الذنب. انظر: لسان العرب (5/ 64). (¬4) في ن ب (الأول)، وما أثبت من ن ب. (¬5) (1/ 148، 149).

في الأم (¬1) هذا الحديث بفائدة حسنة من طريق أبي هريرة وهذا لفظه: "دخل أعرابي المسجد فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تحجرت واسعًا"، فما لبث أن بال في ناحية المسجد فكأنهم عجلوا عليه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر بذنوب من ماء [أو سجل من ماء] (¬2) فأهريق عليه. ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "علموا ويسروا ولا تعسروا". وفي رواية أبي داود (¬3) أنه صلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ... الحديث، وكذا أخرجه الترمذي (¬4)، وقد يستنبط من هذه الرواية صحة صلاة مدافع الأخبثين؛ لأن الظاهر من حال من يبول عقب الصلاة أنه كان يدافعه، ويحتمل أنه سبقه والله أعلم. رابعها: أن الأرض تطهر بصب الماء ولا يشترط حفرها، على قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة، والأمر بالحفر ورد من [طريق] (¬5) معللة (¬6). ¬

_ (¬1) مسند الشافعي (21، 22) وأخرج بعضه ابن خزيمة في صحيحه (1/ 150). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أبو داود، عون المعبود، رقم (147) وآخره: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". (¬4) الترمذي رقم (147)، وآخره: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"، وأحمد (2/ 239، 283)، والنسائي (3/ 14)، وابن خزيمة (864)، والحميدي (938). (¬5) في ن ب (طرق). (¬6) أخرجها أبو داود برقم (377) عون المعبود، وهي من طريق عبد الله بن معقل: قال أبو داود رحمه الله: هو مرسل، ابن معقل لم يدرك =

خامسها: أن غسالة النجاسة طاهرة وفي ذلك خلاف للعلماء، والتصحيح عندنا طهارتها إن انفصلت غير متغيرة ولم يزد وزنها وقد طهر المحل. سادسها: أنه لا تحديد فيما يغسل بها. وقيل: يشترط بقيته أمثال البول. وقيل: لبول كل رجل دلو، وهما شاذّان، نعم قال الجرجاني (¬1) من أصحابنا في كتاب (البلغة) باستحباب الأول، وحكاه الشيخ تقي (¬2) الدين فقال: وقيل: [إنه] (¬3) يستحب أن يكون مثل سبعة أمثال البول، وفي كتاب المحاملي من أصحابنا أنه لا بدَّ في الأرض الرخوة من قلع ترابها، وأبعد بعض أصحابنا فاشترط نضوب الماه من الأرض وهو ذهابه. سابعها: فيه دلالة للجمهور على أن إزالة النجاسة لا يطهرها الجفوف، بل الماء خلافًا لأبي حنيفة. ثامنها: فيه أيضًا أن غيره من المانع لا يجزئ خلافًا له أيضًا. ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولفظه: "خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءً". (¬1) هو أحمد بن محمد بن أحمد أبو العباس الجرجاني، مات سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. طبقات ابن قاضي شهبة (1/ 260). (¬2) أحكام الأحكام (1/ 336). (¬3) في ن ب ساقطة.

تاسعها: فيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن زجره، وفي الصحيح أيضًا: "دعوه"، وفيه مصلحتان: الأولى: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل؛ فكان احتمال زيادةٍ أولى من إيقاع ضرر به. الثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد [فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد] (¬1)، وذكر هنا القرطبي (¬2) رحمه الله احتمالين فقال: يحتمل أمره بتركه أن يكون لئلا تنتشر النجاسة وتكثر، ولئلا يضر قطعه به. عاشرها: فيه أيضًا أن الماء إذا كان واردًا على النجاسة طهرها، وقال القرطبي (¬3): فرقت الشافعية بن ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء، تمسكًا بهذا الحديث، وقالوا: إذا كان الماء دون القلتين [فحل به] (¬4) نجاسة [تنجس، وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته، وأزال النجاسة] (¬5)، قال: وهذه مناقضة [إذ المخالطة] (¬6) حصلت في الصورتين، وتفريقهم بالورود فرق صوري ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) المفهم (2/ 641). (¬3) في المرجع السابق. (¬4) في ن ب (فحلته)، وفي المفهم (فحلت به). (¬5) ساقطة من ن ب ج، وموجودة في المفهم. (¬6) في ن ب (إذا المخاطبة).

ليس فيه من الفقه شيء، وليس الباب [من] (¬1) [باب] (¬2) التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من [أبواب] (¬3) إزالة النجاسة وأحكامها، قال: [ثم] (¬4) هذا كله منهم يرده قوله عليه السلام: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلَّا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه" (¬5). قلت: هذا الاستثناء ضعيف، ويقوي الفرق الذي ذكروه قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإِناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده" (¬6). كما قررناه هناك. حادي عشرها: في رواية [في] (¬7) الصحيح: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول" (¬8). قال القرطبي (¬9): فيه حجة لمالك أنه [لا] (¬10) يتسوك فيه؛ لأنه من باب إزالة الأقذار، وغيره علله ¬

_ (¬1) زيادة من المفهم. (¬2) زيادة من ن ب ج والمفهم. (¬3) في ن ج (باب)، وأيضًا في المفهم. (¬4) زيادة من ن ب والمفهم. (¬5) الدارقطني (1/ 28). انظر: التلخيص الحبير (1/ 15)، وإرواء الغليل (1/ 45). (¬6) أخرجه مسلم وأبو عوانة في صحيحه وأصحاب السنن، سبق تخريجه فراجعه. (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) مسلم (285). (¬9) في المفهم (2/ 642). (¬10) في ن ب ساقطة.

بأنه يُخْشى أن يخرج من فيه دم ونحوه مما ينزه المسجد عنه، وهذا يبعد إذا استعمل السواك المشروع وهو أن يكون عودًا بين عودين وقد قدمنا رد هذه المقالة في باب السواك. ثاني عشرها: قال الخطابي (¬1): إذا أصاب الأرض نجاسة ومطرت مطرًا عامًا كان ذلك مطهرًا لها، وكانت في معنى صب الذنوب وأكثر. ثالث عشرها: فيه المبادرة إلى إنكار المنكر عند من يعتقده منكرًا [فإنهم] (¬2) زجروا الأعرابي لكونهم اعتقدوه منكرًا فبادروا إلى منعه، لما فيه من تنزيه المسجد عن الأنجاس، لكنه فاتهم النظر إلى أن منعه وقطعه عليه يؤدِّي [إلي] (¬3) الضرر به وزيادة التنجيس لمكان آخر من المسجد كما سلف، فلهذا نهاهم عليه الصلاة والسلام عن زجره. ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 225). (¬2) في ن ب (إنما). (¬3) زيادة من ن ب ج.

الحديث السادس

الحديث السادس 31/ 6/ 5 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإِبط" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في راويه، وقد تقدَّم التعريف به في الطهارة. ثانيها: في ألفاظه (¬2): الأول: "الفطرة" المراد بها السنة كما نقله الخطابي (¬3) عن الأكثرين، وصوبه النووي (¬4)، أي أنها من سنن الأنبياء الذين يقتدى ¬

_ (¬1) البخاري رقم (5889، 5891، 6297)، ومسلم برقم (257)، وأبو عوانة (1/ 190)، وأبو داود (2/ 194)، والنسائي (1/ 13، 14)، والترمذي (رقم 2756)، وابن ماجه (1/ 125)، وأحمد في المسند (2/ 229)، 239، 283، 410، 489)، ومالك (2/ 921). (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) معالم السنن (1/ 42). (¬4) شرح مسلم (3/ 148).

بهم، ويؤيده رواية البخاري عن [بن] (¬1) عمر مرفوعًا: "من السنة قص الشارب ونتف الإِبط وتقليم الأظفار" (¬2). وأصح ما فسر به الحديث بما ثبت في رواية أخرى، وقال الماوردي: والشيخ أبو إسحاق الشيرازي (¬3): إنها هنا الدين، والصحيح الأول. وقال القزاز (¬4): في تفسير غريب صحيح البخاري: الفطرة في كلام العرب تنصرف على وجوه، مصدر فطر الله الخلق: أنشأه، والله فاطر: خالق، والفطرة: الجبلة التي خلق الناس عليها وجبلهم على فعلها، وكل مولود يولد على الفطرة، قيل: على الإِقرار بالله الذي أقرّ به لما أخرجه من ظهر آدم عليه السلام، والفطرة: زكاة الفطر، قال: وأولى الوجوه بما ذكرناه أنها (الجبلة) وهي كراهة ما في جسده مما ليس من زينته. قلت: والمراد بها دين الإِسلام في حديث البراء "إذا أويت إلى فراشك فقل اللهم أسلمت نفسي إليك -إلى قوله- فإن مِتَّ مِتَّ ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) البخاري (5888)، واللفظ الوارد فيه: "الفطرة". وانظر: تعقب ابن حجر عليه في الفتح (10/ 339) أي بدل (السنة). (¬3) انظر: الفتح (10/ 339). وأبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله شيخ الإِسلام علمًا، وعملًا وورعًا وزهدًا ولد سنة ثلات وتسعين وثلاثمائة، توفي في جمادى الآخرة وقيل: الأولى سنة ست وسبعين وأربعمائة. الأعلام للزركلي (1/ 44)، ووفيات الأعيان (1/ 9)، والبداية والنهاية (12/ 124). (¬4) انظر: عمدة الحفاظ (428، 429).

على الفطرة" (¬1). وكذا في حديث حذيفة أنه رأى رجلًا لا يتم الركوع [ولا] (¬2) السجود فقال: "لو مات هذا مات على غير الفطرة". الثاني: الختان: يقال ختن الصبي يختنه بكسر التاء وضمها ختنًا بإسكان التاء. الثالث: الاستحداد: استعمال [الحديد] (¬3) في الحلق استفعال من الحديد [وهو الموسي] (¬4). الرابع: الشارب: هو ما ينبت على الشفة العليا، وقيل: هو الإِطار الذي يباشر به الشرب، وقص الشارب هو بحيث نظهر الشفة، [واستئصاله] (¬5) [مُثْلَةٌ] (¬6) عند مالك وجماعة خلافًا للكوفيين. وقد ورد في رواية (¬7): "انهكوا الشوارب"، وفي الصحيح (¬8): "احفوا الشوارب"، وأُوِّلَ ذلك على أن المراد إحفاء ¬

_ (¬1) أخرجاه في الصحيحين، والبخاري أطرافه (247)، ومسلم (2711)، وأحمد (4/ 285، 300)، والطيالسي (708)، والحميدي (723)، والترمذي (3394)، والبغوي (1317)، وأبو داود (5047). (¬2) في ن ب ساقطة. أخرجه البخاري (389)، والنسائي (3/ 58)، وأحمد (5/ 384، 396)، والبغوي (616)، والبيهقى (2/ 117، 386). (¬3) في ن ب ساقطة. انظر: غريب الحديث (2/ 37). (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في الأصل (واستعماله). انظر: الاستذكار (26/ 241). (¬7) البخاري (5893). (¬8) البخاري (5892، 5893)، ومسلم (259)، والترمذي (2763)، والنسائي (1/ 16، 8/ 129)، وأبو عوانة (1/ 188).

ما طال عن الشفتين، وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئًا منصوصًا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني، والربيع كانا حفيان يحفيان شواربهما ويدل ذلك (¬1) أنهما أخذا ذلك عن الشافعي، وذكر ابن خواز منداد عن الشافعي موافقة الكوفيين. وقال الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدًا وسمعته يقول: وقد سئل عن الإِحفاء: إنه السنة، وجمع بعضهم بين الأحاديث فقال: يقص الشارب ويحف الإِطار، وقال القاضي عياض (¬2): الحف من الأضداد يطلق على التوفير وعلى الحلق. الخامس: "تقليم الأظفار": تفعيل من القلم وهو القطع. قال الجوهري (¬3): قلمت ظفري يريد بتخفيف اللام، وقلمت أظفاري مشددًا للكثرة أي للمبالغة، والقلامة ما سقط منه. وفي مسلم من حديث عائشة: "قص الأظفار". قال القاضي عياض في مشارقه: تقليم الأظفار [تقصيصها] (¬4). قلت: ويحصل بأي آلة كانت من مقص وسكين، ويكره بالأسنان. السادس: نتف الإِبط: إزالة شعره بالنتف، ويحصل أيضًا ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (على). (¬2) انظر: مشارق الأنوار (1/ 148، 208). (¬3) مختار الصحاح (231). (¬4) في مشارق الأنوار (2/ 184): (هو قصها).

بالحلق والنورة، لكن الأفضل ما دلت السنة عليه وهو النتف وسيأتي ما فيه. والإِبط: بإسكان الباء، [و] (¬1) قال الجواليقي وبعض المحدثين: يقول الإِبط بكسرها، والصواب: سكونها، ولم يأت في الكلام شيء على فِعِل [إلَّا إبل وإطل (¬2) وحبر، وهي صفرة الأسنان (¬3)، وفي الصفات: امرأة بلز، وهي السمينة (¬4) وأَتان إبِدٌ: تلد كل عام، [وقيل] (¬5): هي التي أتى عليها الدهر] (¬6)، وأما الإِطل [فهي] (¬7): الخاصرة. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) قال في المصباح المنير (ج 2): "الإِبلُ بناءٌ نادر، قال سيبويه: لم يجىء على فِعِل بكسر الفاء والعين من الأسماء إلَّا حرفان: إبل وحبر، قال في التعليق عليه: وقال السيرافي: الحِبرُ: صفرة الأسنان. وجاء الإِطِلُ، والإِبِطُ، وقيل: الإِقِط، لغة في الإِقِطِ. واتان إبدٌ، أي: ولود- اهـ. (¬3) قال في لسان العرب (3/ 16): الحِبْرُ والحَبْرُ والحَبْرَةُ والحِبِرُ والحِبَرةُ، كل ذلك: صفرة تشوب الأسنان. (¬4) بلز: امرأة بِلِز وبِلِزٌّ: ضخمة مكتنزة. قال الجوهري: امرأة بِلِزٌ على فِعِل بكسر الفاء والعين، أي ضخمة. قال ثعلب: لم يأت من الصفات على فِعِلٍ إلَّا حرفان: امرأة بِلِزٌ، وأتان إِبدٌ، وجمل بلنزي: غليظ شديد. قال أبو عمرو: امرأة بلز: خفيفة، قال: والبلز: الرجل القصير. قال الفراء: من أسماء الشيطان: البِلأز، والجَلأز، والجان. اهـ، من لسان العرب (1/ 482). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) ساقطة من ن ج. (¬7) في ن ب (وهي).

ثالثها: في فوائده وأحكامه. الأولى: قوله عليه السلام: "الفطرة خمس"، أي: خمس من الفطرة، كما في الرواية الأخرى، وفي الصحيح (¬1): "عشر من الفطرة"، وليست منحصرة في [العشر] (¬2)، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى عدم انحصارها فيها بقوله: "من الفطرة"، والمراد [آداب] (¬3) الدين المتعلقة بحلية البدن ويظهر أثرها فيه. وقال القاضي عياض: يحتمل أنه أعلم أولًا بالأول ثم بالثاني، وفيه نظر. وقد يجاب [أيضًا] (¬4) عن رواية الحصر أن المراد به المجاز لا الحقيقة "كالحج عرفة"، "والدِّين النصيحة". وإن كان ظاهرها الحقيقي الحصر كالعالم في البلد زيد. الثانية: هذه الخصال [هي] (¬5) التي ابتلي بها إبراهيم فأتمهنَّ فجعله الله إمامًا يقتدى به ويستن بسنته، قال ابن عباس (¬6)، وهو أول ¬

_ (¬1) مسلم (261)، وأبو داود (53)، والنسائي (8/ 126، 128)، وأبو عوانة (1/ 191) وفيهما "عشر من السنة"، والترمذي (2757)، والبيهقي (1/ 36، 52، 53، 300)، والدارقطني (1/ 59)، وأحمد (6/ 137). (¬2) في الأصل (الشعر)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) في ن ب (ذات). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) انظر: فتح الباري (10/ 337)، فإنه أشار إليه وقال: بسند صحيح. وانظر: تفسير الطبري (3/ 9)، وابن كثير، تفسير آية البقرة (124)، =

من أمر بها من الأنبياء، قاله الخطابي (¬1)، وقيل: كانت عليه فرضًا ولنا سنة. الثالثة: الختان: واجب عند الشافعي رحمه الله وجمهور أصحابه وكثير من العلماء، خلافًا لمالك وعامة العلماء كما نقله القرطبي (¬2) وأكثرهم كما نقله النووي (¬3) والمحب الطبري؛ لأنه لم يرد في الشرع ذم تاركه ولا توعده بعقاب، ومحل بسط المسألة كتب الخلافيات والفروع. ومن فسر الفطرة بالسنة في الجميع يستدل به على عدم الوجوب. وقد يجاب: بأن لفظ السنة استعمل في قدر مشترك بين الواجب والمستحب وهو ما رجح فعله، والجمع بن المختلفات غير ممتنع كما قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ} (¬4) والأكل مباح والإِيتاء واجب، وفرق بعض الفضلاء من المالكية بفرق لطيف بين الآية والحديث وهو أن الفطرة لفظة واحدة استعملت في [الكل] (¬5)، وفي الآية كل جملة مستقلة على حالها. ¬

_ = وصححه الحكم (2/ 266)، ووافقه الذهبي، والبيهقي (8/ 325/ 124)، وتفسير عبد الرزاق (1/ 57)، والاستذكار (26/ 240). (¬1) معالم السنن (1/ 42) وما بعده أيضًا منه. (¬2) في المفهم (2/ 603). (¬3) في شرح مسلم (3/ 148). (¬4) سورة الأنعام: آية 141. (¬5) في الأصل (الأكل)، والتصحيح من ن ب ج.

تنبيه: إنما يجب الختان بعد البلوغ، ويستحب في سابعه، قال القرطبي في تفسيره: وثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة، وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام، وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع، وأنكر ذلك مالك وقال: إنه من عمل اليهود، وقال الليث بن سعد: يختن ما بين سبع إلى عشر، ونحوه رواية عن مالك، وقال أحمد: لم أسمع في ذلك شيئًا (¬1). وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام". واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختن، وكان عطاء يقول: لا يتم إسلامه حتى يختن وإن بلغ ثمانين سنة (¬2). وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم أن لا يختتن ولا يرى به بأسًا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته (¬3)، قال ابن عبد البر (¬4): ¬

_ (¬1) انظر هذا وما سبق في فتح الباري (10/ 343). (¬2) الاستذكار (26/ 245). (¬3) المرجع السابق. أقول: وأما عدم قبول شهادته: فلفسقه بترك الواجب ثم بالإِصرار عليه. وأما عدم صحة صلاته: فلأن الماء لا يصل إلى ما تحت القلفة الساترة للقسم العلوي من الذكر وهي القلفة -مما يجب قطعه- فلا يصح غسله، ولا يطهر ما تحتها من النجاسة، وإذا لم يصح غسله ولم يطهر ما تحتها من النجاسة فلا تصح صلاته. اهـ. (¬4) التمهيد (23/ 128).

وعامة أهل العلم على هذا، وحديث بريدة في حج الأقلف لا يثبت، وروي عن ابن عباس (¬1) وجابر [] (¬2) بن زيد وعكرمة أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته، ولا تجوز شهادته. فائدة: قال ابن الجوزي في (المجتبى) (¬3): أسماء من ولد من الأنبياء مختونًا: آدم، شيث، إدريس، نوح، سام، هود، صالح، لوط، شعيب، يوسف، موسى، سليمان، زكريا، عيسى، يحيى، حنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس على خلاف في نبوته، محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذلك سبعة عشر نبيًا، وما ذكره في آدم كأنه جاء على طريق التغليب، وقيل: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ختن. فائدة ثانية: لو ولد مختونًا لم يختن على الأصح؛ لأنها مؤنة كفيت، وقيل: لا بد من إجراء الموسي عليه ليقع الامتثال. فائدة ثالثة: السنة في ختان الذكور إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه، كذا رأيته في المدخل لابن الحاج المالكي رحمه الله، قال: واختلف في حق النساء: هل يخفضن مطلقًا أو يفرق بين أهل المشرق لوجود الفضلة عندهن في أصل الخلقة، وبين أهل المغرب لعدمها عندهن؟ وقال: وذلك راجع إلى مقتضى التعليل فيمن ولد مختونًا (¬4). ¬

_ (¬1) الاستذكار (26/ 245). انظر: المجموع (9/ 79)، والمغني (8/ 567)، وعبد الرزاق (4/ 484) (11/ 175)، والمحلى (7/ 454). (¬2) في ن ب زيادة (وا). (¬3) (ص 39). (¬4) انظر: فتح الباري (10/ 340).

فائدة رابعة: في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: (إبراهيم أول من اختتن، وأول من ضاف الضيف، وأول من استحدّ، وأول من قلم الأظفار، وأول من قص الشارب، وأول من شاب فلما رأى الشيب قال: يا رب ما هذا؟ قال: وقار، قال: يارب زدني وقارًا) (¬1). وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن [سعد] (¬2) بن إبراهيم عن أبيه قال: (أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله) قال غيره: (وأول من ثرد الثريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل) (¬3). الرابعة: نتف العانة وقصها والأزالة بالنورة كالاستحداد، وذلك بحسب الحاجة. والعانة: هي الشعر النابت حول الفرج، وقيل: حول الدبر، وعبارة الباجي (¬4) المالكي: العانة ما يستره الإِنسان. قلت: والأولى [حلقهما] (¬5) أعني حلق ما حول الفرج والدبر، وحكى الفاكهي عن بعضهم: أنه لا يجوز حلق ما حول الدبر، وهو عجيب غريب، والسنة في حق الرجل الحلق، وفي المرأة النتف، ¬

_ (¬1) الموطأ لمالك (922). (¬2) الأصل (سعيد)، والتصحيح من ن ب ج. (¬3) ابن أبي شيبة (14/ 69/ 70) (11/ 522). (¬4) المنتقى (7/ 232)، ولفظه: وحلق العانة يريد شعر السرة. اهـ. (¬5) في ن ب (حلقها).

وقاله الدزماري (¬1) ثم النووي واستشكله الفاكهي بأن فيه ضررًا على الزوج باسترخاء المحل باتفاق الأطباء. قلت: وحديث جابر في الصحيح: "إذا دخلت ليلًا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة" (¬2) قد يقويه. الخامسة: يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالجانب الأيمن، وهو مخير بين القص بنفسه، وبين أن يولي ذلك غيره لحصول المقصود من غير هتك مروءة ولا حرمة، بخلاف الإِبط والعانة، والمختار أنه يقص حتى تظهر الشفة كما تقدم، والأصل في قص [الشارب] (¬3) مخالفة المجوس كما جاء في الصحيح (¬4) ولأن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة وأنزه من وضر الطعام. وقال الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه، وإن كان له أن يحلق سباله؛ لأن لحلقه فائدة وهي أن لا يعلق به من دسم الطعام ورائحته ما يكره، بخلاف حلق اللحية فإنه هجنة وشهرة وتشبه بالنساء، فهو كجب الذكر، وما ذكره في حق ¬

_ (¬1) أحمد بن كشاسب بن علي بن أحمد بن علي بن محمد، توفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق، ترجمته في طبقات ابن قاضي شهبة (2/ 100)، وطبقات السبكي (5/ 13). (¬2) البخاري في النكاح، باب: طلب الولد، ومسلم برقم (715) في الإِمارة، باب: كراهة الطروق، وهو الدخول ليلًا. (¬3) في ن ب (الشوارب). (¬4) مسلم (260).

اللحية حسن وإن كان المعروف في المذهب الكراهة (¬1). السادسة: [المستحب] (¬2) أن يبدأ في تقليم [الأظفار] (¬3) باليدين قبل الرجلين [فيبدأ بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإِبهام] (¬4)، ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ¬

_ (¬1) قد حكى ابن حزم رحمه الله تعالى: الإِجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، وقال ابن عبد البر وابن تيمية: يحرم حلق اللحية، قال ابن عبد البر: لا يفعله إلَّا المخنثون من الرجال، والمخنثون هم المتشبهون بالنساء، وليعلم أن حلق اللحى يشوه وجوه الرجال بحيث يصير وجه الشاب شجيهًا بوجه المرأة الشابة -كما ذكره المؤلف. ويصير وجه الشيخ شبيهًا بوجوه العجائز، وحلق اللحى ونتفها من التمثيل الذي ورد الوعيد الشديد عليه، كما في الحديث الذي رواه الطبراني في الكبير برقم (10977) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مثل بالشعر فليس له عبد الله خلاق". قال الزمخشري: قيل: معناه: حلقه من الخدود، وقيل: نتفه. وقيل: خضابه، وقال ابن الأثير في النهاية: إنه نهي عن المثلة، ومثلة الشعر حلقه من الخدود، وقيل: نتفه أو تغييره بالسواد. وفي المناسبة إعفاء الشوارب فإن هذا فيه تشبه بالمجوس، وقوم لوط، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" وفي المسند والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يأخذ شاربه فليس منا" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والمقصود بالكراهة هنا التحريم. (¬2) في ن ب (السنة). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة.

ببنصرها [ثم] (¬1) إلى آخرها ثم يعود إلى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها ثم يختم بخنصر اليسرى، كذا جزم به النووي في شرح مسلم (¬2) (¬3)، وقال الشيخ تاج الدين بن الفركاح في الإِقليد: الذي يقتضيه التيامن بخنصر اليمنى حتى ينتهي إلى خنصر اليسرى، وقال الغزالي في الإِحياء (¬4): يبدأ في يديه بمسبحة اليمنى ويختم بإبهامه، وذكر في الرجل كما تقدم، وفرق [بين] (¬5) اليد والرجل [بما] (¬6) ثبت للمسبحة من الفضل، قال النووي (¬7): [ولا] (¬8) بأس بما ذكره [إلَّا تأخير] (¬9) [إبهام] (¬10) اليمنى، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: المجموع (1/ 345)، وشرح مسلم (3/ 149). (¬3) في ن ج زياد: "وقال العراقي في شرح المهذب الأحسن قال: وورد في بعض الروايات وإن لم يصح فالمعنى يساعدها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن في كل شيء فيبدأ باليمين ثم بالمسبحة، لأنها أشرف أصابعها إذ بها الإِشارة إلى كلمة التوحيد، ثم ما يليها لذلك الأيمن فالأيمن إلى أن يعود عليها بعد الفراغ من اليدين جميعًا، قال: وأما الرجل فلا نقل فيها، والمستحب كما في التخليل في الوضوء البدأة بخصر اليمنى والختم بخنصر اليسرى. (في ن ج: حتى تنتهي بخنصر اليسرى). (¬4) (1/ 141). (¬5) في الأصل (في)، والتصحيح من ن ب ج. (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) انظر: شرح مسلم (3/ 149) بمعناه. أقول: انظر طبقات النووي (1/ 258). (¬8) في ن ب ساقطة. (¬9) في ن ب (بأخير). (¬10) في ن ب ساقطة.

فإن السنة إكمال اليمنى أولًا. وروي عن وكيع عن عائشة قالت: قال [لي] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة إذا أنت قلمت أظفارك فابدئي بالوسطى ثم الخنصر ثم الإِبهام ثم البنصر ثم السبابة فإن ذلك يورث الغنى" (¬2). وروى الموفق الحنبلي في المغني حديثًا: "من قص أظفاره مخالفًا لم ير في عينيه رمدًا" (¬3)، وفسر ابن [بطة] (¬4) بأن يبدأ بخنصر اليمنى ثم الوسطى ثم الإِبهام ثم البنصر ثم المسبحة ثم بإبهام اليسرى ثم وسطاها ثم خنصرها ثم السبابة ثم البنصر، والله أعلم بصحة ما ذكره. وقال ابن الرفعة في كفايته: إن الأولى في قص الأظفار هذه الكيفية، وحكى بعض شيوخنا الحفاظ عن المحدث شرف الدين الدمياطي أنه كان يقص أظفاره هكذا في اليدين والرجلين، ويأثر أن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال السخاوي (ص 306) في المقاصد الحسنة: لم يثبت في كيفية قص الأظافر ولا في تعيين يوم له شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما يعزى لعلي فباطل. وانظر: تذكرة الموضوعات (160). (¬3) قال محقق المغني د. عبد الله التركي، والحلو، بعد ذكر هذا الحديث: وفي حاشية ن م: هذا الحديث غير ثابت. اهـ، (1/ 118) وكذا التعليق السابق. (¬4) في الأصل (بطر). وابن بطة: هو أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان ابن بطة العكبري الحنبلي شيخ العراقي. سير أعلام النبلاء (16/ 529).

ذلك أمان من الرمد، وقال: فعلته من خمسين سنة فلم أرمد، قال شيخنا الحاكي عنه: وأنا فعلته من إحدى وثلاثين سنة فلم أرمد إلَّا مرة واحدة. وكان الدمياطي المذكور يقلم أظفاره يوم الخميس، ويسلسل ذلك بسند ضعيف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال: "يا علي قص الأظفار ونتف الإِبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب [واللباس] (¬1) يوم الجمعة" (¬2) قلت: ونظم بعضهم ذلك في أبيات فقال: ابدأ بيمناك وبالخنصر ... يوم الخميس الأفضل الأكبر وثن بالوسطى وثلث كما ... قد قيل بالإِبهام والبنصر واختم بسبابتها هكذا ... في اليد والرجل [ولا] (¬3) تمتري وفي اليد اليسرى بإبهامها ... والأصبع الوسطى مع الخنصر واتبع الخنصر سبابة ... بنصرها خاتمة الأيسر (¬4) [فذاك أمن لك إن حزته ... من رمد العين فلا تمتري] (¬5) ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: ت (2 و 3) ص (714). (¬3) في ن ب (فلا). (¬4) في ن ب ج زيادة: وشرطهما الترتيب في قولنا ... فلازم الشرط ولا تردد في اليد والرجل سواء ... فلا تعد مقال الناصح المخبر فذاك أمن لك حزته ... من رمد العين فلا تمتري ناظمها من دينه مشفق ... فاسمح له يا ربنا واغفرِ (¬5) في ن ب ترتيب البيت في الشطر الثامن، وفي الأصل: السادس. وقد =

(و) (¬1) قال القاضي عياض: يستحب تفقدها من الجمعة إلى الجمعة. وفي زيادات العبادي: كان سفيان الثوري يقلم أظفاره يوم الخميس (¬2) فقيل له: غدًا الجمعة، فقال: السنة لا تؤخر قال: وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أراد أن يأتيه الغنى فليقلم أظفاره يوم الخميس" (¬3). وفي الزيادات أيضًا أنها إذا قلمت تُفرق، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فرقوها فرق الله همومكم"، ونقل عن محمد بن مقاتل الرازي من الحنفية أنها تدفن ولا تُلقى في الكنيف. وروى الترمذي الحكيم في نوادره من حديث عبد الله بن [بشر] (¬4) المازني [مرفوعًا] (¬5) "قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم" (¬6) ومن حديث عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بدفن ¬

_ = أنكر ابن دقيق العيد جميع هذه الهيئات وقال: لا يعتبر هيئة مخصوصة وما اشتهر من قصّها على وجه مخصوص لا أصل له في الشريعة، ثم ذكر الأبيات وقال: هذا لا يجوز اعتقاد استحبابه، لأن الاستحباب حكم شرعي: لا بد له من دليل، وليس استشهاد ذلك بصواب. اهـ. انظر: الرحلة الطرابلسية للنابلسي (89). (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) انظر: ت (2 و 3) ص (714). (¬4) في الأصل (الزبير)، والتصحيح من نوادر الأصول (ص 45). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) نوادر الأصول، للحكيم الترمذي (45)، وإسناده ضعيف.

سبعة من الإنسان: الشعر والظفر والدم والحيض والسن والعلقة [والمشيمة] " (¬1) (¬2). فائدة: في التقليم معنيان: تحسين الهيئة، والقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على الأكمل، إذا لم يخرج من طولها المعتاد خروجًا بينًا، فإن خرجت فذاك مانع من حصولها إذا تعلَّق بها وسخ. فائدة: قال الحافظ محب الدين الطبري في أحكامه: يستحب غسل رؤوس الأصابع بعد قصها، فقد قيل: إن حك الجلد بالأظفار قبل غسلها [مضر] (¬3) بالجسد، كذا رأيته فيه وهي فائدة جليلة (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. (¬2) نوادر الأصول (ص 45)، وروى عن ميل بنت مِشْرح الأشعرية، قالت: رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها، ويقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 168): رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من طريق عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه، وكلاهما ضعيف، وأبوه وُثِّق، وانظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 337)، وقال في المغني (1/ 119): قال مهنا: سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قلت: بلغك فيه شيء؟ قال: كان ابن عمر يدفنه، وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: "لا يتلعب به سحرة بني آدم" أو كما قال؛ ولأنه من أجزائه فاستحب دفنه كأعضائه. (¬3) في ن ب (يضر). (¬4) في حديث عائشة الذي رواه مسلم (1/ 223) "وغسل البراجم" في تفسير الفطرة، يحتمل أنه أراد غسل الأظفار بعد قصها. اهـ من المغني (1/ 119).

فرع: يستثنى من استحباب تقليم الأظفار مريد التضحية إذا دخل عليه عشر ذي الحجة، فإن السنة أن لا يقلم ظفره ولا يزيل شعره حتى يضحي؛ للحديث الصحيح فيه. السابعة: نتف الإِبط سنة بالاتفاق أيضًا، قال الغزالي في الإِحياء: ويستحب في كل أربعين يومًا مرة، وذلك سهل على من تعود في الابتداء نتفه، فأمَّا من تعود الحلق فيكفيه الحلق إذ في النتف تعذيب وإيلام، والمقصود النظافة وأن لا يجتمع الوسخ في خللها وذلك يحصل بالحلق، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه -والمزين يحلق إبطه-: علمت أن السنة النتف ولكن لا أقوى على الوجع (¬1). واعلم أنه ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: "وقت لنا في قص الشارب ونتف الإِبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة" (¬2). وفي النسائي: "وقَّت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬3)، ومعناه: أن لا تترك تركًا تتجاوز به أربعين، لا أنه وقّت لهم الترك بأربعين، وكذا معنى ما روى عن علي رضي الله عنه أن تقليم الأظفار يكون في كل عشرة أيام، ونتف الإِبط في كل أربعين [يومًا] (¬4)، ¬

_ (¬1) في حاشية ن ج: (اتفق أصحابنا على أنه يستحب دفن قلامة الظفر وشعر الإِبط والعانة، ونقلوه عن ابن عمر). (¬2) مسلم رقم (258). (¬3) النسائي (1/ 16). (¬4) بياض بالأصل، وما أثبت من ن ب ج.

وحلق العانة في كل عشرين يومًا، ونتف [الأنف] (¬1) في كل ثلاثين يومًا. تنبيه: خصّ النتف بالإِبط والحلق بالعانة؛ لأن الإِبط محل الرائحة الكريهة، والنتف يضعف الشعر فتخف الرائحة الكريهة، والحلق يكثر الشعر فتكثر فيه الرائحة الكريهة، ولهذا تصف الأطباء تكرار حلق الشعر في المواضع [التي] (¬2) يراد قوته فيها. فائدة: يستحب البدء بالإِبط [الأيمن] (¬3). الثامنة: يؤخذ من الحديث نقل ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وضبطه وأن لا نتجاوزه، وأن ذلك لا يمنع رواية ما سمعه غيره وضبطه زيادة [على] (¬4) ما رواه هو [بل الزيادة من الثقة مقبولة إذا لم يخالف ما رواه هو] (¬5) فإنه رُوي: "خمس من الفطرة" و"عشر من الفطرة" كما أسلفناه، وعمل العلماء بهما من غير اختلاف ولا إنكار، ورويَ في بعض طرقه "عشر من سنن المرسلين" ففيه تبيين العلم وهل [هو] (¬6) مجتهد فيه أو منقول عن غيره. ¬

_ (¬1) في الأصل (الإِبط)، والتصحيح من ن ب ج. (¬2) زيادة من ن ب ج. (¬3) في ن ب (باليمين). (¬4) زيادة من ن ب ج. (¬5) في الأصل مكرر، وفي ن ج ساقطة. (¬6) في ن ج ساقطة.

انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب الجنابة

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء حققه وضبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه وَوثّق نقوله وعَلّق عليه عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح غفر الله ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء الثاني تابع كتاب الطهارة وكتاب الصلاة إلي نهاية باب الإمامة (32 - 83) حديث دار العاصمة للنشر والتوزيع

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ -1997 م دار العاصمة المملكة العربية السعودية الرياض - ص ب 42507 - الرمز البريدي 11551 هاتف 4915154 - 4933318 - فاكس 4915154

بسم الله الرحمن الرحيم

6 - باب الجنابة

6 - باب الجنابة الجنابة فعالة من البعد كما سيأتي واضحًا. وذكر المصنف رحمه الله في الباب ثمانية أحاديث: الحديث الأول 32/ 1/ 6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة، وهو جنب، فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبًا، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله إن [المسلم- وفي رواية] (¬1) المؤمن- لا ينجس" (¬2). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) هذا ساقط مكمل من رواية البخاري برقم (283، 285). (¬2) البخاري برقم (283، 285)، ومسلم برقم (371)، وأبو داود برقم (230)، والترمذي برقم (121)، والنسائي (1/ 145، 146)، وابن ماجه رقم (534)، وتقريب الإِحسان لابن حبان رقم (1259)، وأحمد في المسند (2/ 235، 382، 471، 402).

أحدهما: في راويه، وقد [تقدم] (¬1) التعريف به. ثانيها: فيما يتعلق بإسناده، وفيه انقطاع في مسلم، نبه عليه المازري (¬2)، فإنه أخرجه من حديث حميد الطويل عن أبي رافع عن أبي هريرة، وسقط بين حميد وأبي رافع بكر بن عبد الله المزني، كذا أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد في مسنديهما، وادعى [أبو] (¬3) مسعود الدمشقي وخلف الواسطي (¬4) أن مسلمًا أخرجه أيضًا كذلك، والموجود في نسخه ما تقدم، وهذا [الاستدراك] (¬5) لا يقدح في أصل متن الحديث فإنه ثابت على كل حال من رواية أبي هريرة ومن رواية حذيفة (¬6) أيضًا. ثالثها: في ألفاظه: الأول: الجنابة: فعالة من البعد، ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ ¬

_ (¬1) في ن ج (سبق). (¬2) المعلم بفوائد مسلم (1/ 385) للمازري. (¬3) في ن ب (ابن)، وأبو مسعود الدمشقي: هو إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي الحافظ اشتهر بأنه مصنف الأطراف. مات سنة (401)، انظر: ترجمته في الرسالة المستطرفة (167)، وتذكرة الحفاظ (3/ 168). (¬4) هو خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو علي، له مصنف أطراف الصحيحين، ترجمته في: أخبار أصبهان (1/ 310)، المنتظم (7/ 254). (¬5) في الأصل ون ج (الاستدلال)، وما أثبت من ن ب. (¬6) أخرجها مسلم (372)، وابن حبان برقم (1255)، والنسائي (1/ 145)، وأبو داود (230) في الطهارة، باب في الجنب يصافح، ابن ماجه (535)، وأبو عوانة (1/ 275)، وأحمد (51/ 384، 402)، وابن خزيمة (1359) ..

الْجُنُبِ} [النساء: 36] (¬1) أي البعيد الذي ليس بقرابة على أظهر الأقوال فيه، وقد حمل عليه قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} (¬2) أي عن بعد، ويثنى هذا ويجمع فيقال: جنبان وهم [جنوب] (¬3) واجتناب. وقيل: معنى يجنب الرجل الشيء: جعله جانبًا وتركه، فقيل مِنْ هذا: رجل جنب، أي [أصاب] (¬4) الجنابة، كأنه في جانب من الطهارة. وعن الشافعي رضي الله عنه: إنما سمي "جنبًا" من المخالطة، ومن كلام العرب: أجنب الرجل، إذا خالط امرأته. وقال بعضهم: وكان هذا ضد [المعنى الأول فإنه] (¬5) من القرب منها. قال الشيخ تقي الدين (¬6): وهذا لا يلزم، فإن مخالطتها مؤدية [للجنابة] (¬7) التي معناها البعد. وقال الترمذي الحكيم: في علله: سميت جنابة؛ لأن ماء الرجل من ظهره فإذا وصل إلى رحم المرأة نزل الماء ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 36، انظر: بصائر ذوي التمييز (2/ 397) للاطلاع على معانيها، وعمدة الحفاظ (100، 101). (¬2) سورة القصص: آية 11. (¬3) في ن ب (جنبون). (¬4) في ن ج ب (أصابته). (¬5) في إحكام الأحكام (للمعنى الأول، كأنه). (¬6) إحكام الأحكام (1/ 359). (¬7) في إحكام الأحكام: إلى الجنابة.

[من] (¬1) ترائبها، يخرج من بين الصلب: يعني فقار الظهر، والترائب: يعني الصدر والثديين، فيختلط الماءان، فإن قضى الله من ذلك ولدًا جمد وصار علقة، إلى آخر ما أخبر الله تعالى، وإلاَّ غلب ماء الرجل ماء المرأة فذهب كأنه لم يكن، وأكثر ما يكون ذلك من البرودة، وأما ما يصير به ولدًا فيستوي الماءان في الرحم وينزل ماء المرأة من ترائبها إلى بين جنبيها، ولو نزل ماؤها من ظهرها خرج [لها] (¬2) شعر [في] (¬3) وجهها كما يخرج من الرجال، وأما الذي ينزل من المرأة من ترائبها: الذي بين جنبيها، فإن كان ما ينزل من الجنب الأيمن أكثر وأغلب وإن سعيدًا واسع الرزق حكيمًا يشبه بالصفة أباه في اللون وغيره من الجسد، وإن كان [الماء] (¬4) الذي ينزل إلى الجانب الأيمن أغلظ من الذي ينزل [من] (¬5) الجانب الأيسر كان الولد عالمًا حكيمًا وسطًا في أمر الدنيا، وإن كان الماء الذي ينزل إلى الجانب الأيسر أغلب وأكثر كان الولد: شقيًا موسعًا عليه في الدنيا وربما كان كافرًا، يشبه في الصفة واللون وغير ذلك [في] (¬6) جسده أخواله، وإن كان الماء الذي ينزل إلى الجانب الأيسر أغلظ كان ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب ج. أقول: هذا الكلام وما بعده يحتاج إلى ثبوت دليل قطعي من كتاب أو سنة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ج ساقطة. (¬4) في ن ب ج ساقطة. (¬5) في ن ب ج (إلى). (¬6) في ن ب ج (من).

الولد فاسقًا فاجرًا زانيًا فاحشًا متفحشًا مقترًا عليه في الدنيا، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه، فمن ذلك سميت الجنابة جنابة؛ لأن ماء الرجل إذا وصل إلى رحم المرأة نزل ماؤها إلى بين جنبيها فيجتمع ثم ينزل إلى الرحم ثم يلحق بماء الرجل، قال: وقد قيل أيضًا: إنما سميت الجنابة جنابة، لقول حواء لما جامعها آدم: وجدت لذة ذلك بين جنبي إلى أن استقر ذلك فيّ. الثاني: "انخنست" فيه ثمان روايات: الأولى: بنون ثم خاء معجمة ثم نون: ومعناها: انقبضت وتأخرت عنه، قال الجوهري (¬1): خنس يخنس بالضم أي تأخَّر، وأخنسه غيره إذا خلفه ومضى عنه، وقال الشيخ تقي الدين (¬2): الانخناس: الانقباض والرجوع، وهو راجع إلى الأول، ويقال: خنس، يستعمل لازمًا ومتعديًا، ومن الأول: "إذا ذكر الله خنس (¬3) وإذا غفل وسوس"، ومن الثاني: "وخنس ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (86). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 359). (¬3) إلى هنا انتهت ن ج، وفي آخرها: تم الجزء والله أعلم. اهـ. ولفظه: "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس" من رواية أنس، والحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 268)، وابن حجر في المطالب العالية (3/ 242)، ومسند أبي يعلى (7/ 279)، شعب الإِيمان للبيهقي (2/ 436)، وضعفه ابن حجر في الفتح (8/ 742)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 149)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة (367).

إبهامه" (¬1) أي قبضها، وقد يكون [أُشْرِبَ] (¬2) جنس بمعنى حبس بالباء الموحدة والحاء المهملة أو قبض فلا دليل فيه على التعدي، وقيل: إنه يقال: أخنسه، في المتعدي، حكاه صاحب مجمع البحرين (¬3)، وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} (¬4): انخناسها: رجوعها وتواريها تحت ضوء الشمس، وقيل: إخفاؤها [بالنهار] (¬5). الرواية الثانية: "انبجست" بنون ثم باء موحدة ثم جيم، ومعناه: اندفعت عنه، ومنه قوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (¬6) أي جرت واندفعت، ويؤيد هذه الرواية قوله في رواية البخاري (¬7): "فانسللت منه"، وفي رواية أخرى (¬8) "فانحاد عنه" أي ¬

_ (¬1) ولفظه من حديث ابن عمر: "إن الشهر هكذا وهكذا، وخنس الإِبهام في الثالثة، البخاري أطرافه (1907). ومسلم (1080)، والنسائي (4/ 140)، وأبو داود (2319) في الصيام، وأحمد (2/ 28)، والموطأ (1/ 286)، وابن خزيمة (1907)، والبغوي (1715). (¬2) هكذا في المخطوطة. (¬3) هو الصاغاني -بفتح الصاد المهملة وتخفيف الغين المعجمة- الحسن بن محمد بن حيدر العدوي العمري الحنفي، ولد سنة (577 هـ)، وتوفي سنة (650 هـ). انظر: إحكام الأحكام (1/ 361)، وكتابة هذا مخطوط. (¬4) سورة التكوير: آية 15. (¬5) زيادة من ن ب. انظر أيضًا: عمدة الحفاظ، فقد ذكر غالب هذه الألفاظ (167). (¬6) سورة الأعراف: آية 60. انظر: توجيه هذه الرواية في الفتح (1/ 390). (¬7) في باب: الجنب يخرج ويمشي في الأسواق، الفتح (1/ 391). (¬8) في مسلم. انظر: تخريج حديث الباب.

مال وعدل. وقال الترمذي (¬1): معناه: تنحيت عنه. الثالثة: "انبخست" بنون ثم باء موحدة بعدها خاء معجمة، من البخس الذي هو النقص، حكاها الشيخ تقي الدين (¬2)، ثم قال: وقد [استبعدت] (¬3) هذه الرواية، ووجهت على بعدها بأنه اعتقد نقصان نفسه بجنابته عن مجالسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مصاحبته، لاعتقاده نجاسة نفسه، هذا أو معناه. الرابعة: "انتجست" بنون ثم مثناة فوق ثم جيم، ومعناها: اعتقدت نفسي نجسًا لا أصلح لمجالسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على تلك الحالة، ومعنى "منه": أي من أجله، حكاها ابن العربي (¬4). الخامسة: "اختنست" بتقديم الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة فوق ثم نون ومعناها كالثانية، ذكر هذه الخمسة الحافظ أبو الحسين يحيى بن أبي الحسن القرشي المصري في كلامه على الأحاديث المقطوعة في مسلم (¬5)، وعبر عن الثالثة بقوله: ذكر في هذه الكلمة قول آخر، ثم قال: فإن صحت فقد ذكر بعض العلماء أن معناها أنه ظهر له نقصانه عن مماشاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اعتقد في نفسه من النجاسة فرأى أنه لا يقاومه ما دام في تلك الحالة، وهذا قد أسلفناه ¬

_ (¬1) في السنن (1/ 208). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 361). (¬3) في الأصل (استعملت)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في عارضة الأحوذي (له) 1/ 185. (¬5) اطلعت على النسخة المخطوطة لدي ولم أجد هذا المبحث وهي ناقصة.

أيضًا، ثم قال: ومعنى هذه الأقول كلها ترجع إلى شيء واحد وهو الانفصال والمزايلة على وجه التوقير والتعظيم له. وأهمل رواية سادسة: وهي "انبخشت" بالباء الموحدة بعد النون ثم شين معجمة، قال ابن التين شارح البخاري: ولا أعلم لها وجهًا في اللغة. وسابعة: وهي "انتجشت" [أي الإِسراع] (¬1) بنون ثم مثناة فوق ثم شين معجمة [من النجش] (¬2) قال المنذري (¬3): وهو من النجش أي الإِسراع. قال الزمخشري (¬4): والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان. وأهمل ثامنة: وهي "احتبست" بحاء مهملة ثم مثناة فوق ثم موحدة ثم سين مهملة من الاحتباس، بمعنى حبست نفسي عن اللحاق به - صلى الله عليه وسلم -. ومن الغريب أن النووي والقرطبي رحمهما الله لم يذكرا معنى هذه اللفظة في شرحيهما عوضًا عن هذه [اللفظة] (¬5) فاستفدها. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) هو أبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري الهروي المتوفى سنة (329) من شيوخ الأزهري وقد تتلمذ على ثعلب والمبرِّد، يقول فيه ياقوت: "وهو نحوي لغوي مصنف وهو شيخ أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الذي أملى كتاب التهذيب بالرواية عنه"، معجم الأدباء (18/ 99). (¬4) في الفائق (3/ 407)، تهذيب اللغة (10/ 543، 543). (¬5) في ن ب (الروايات).

اللفظ الثالث: قوله "كنت جنبًا" أي ذا جنابة، يقال: جنب الرجل وأجنب: إذا أصابته الجنابة، ويقال: جُنُب: للذكر والأنثي والمثنى والمجموع، قال تعالى في الجمع: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1)، وقال بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني كنت جنبًا، وقد يقال: جنبان وجنبون وأجناب. الرابع: "سبحان الله" المراد بها التعجب من أن أبا هريرة اعتقد نجاسة نفسه بسبب الجنابة، وهذه اللفظة من المصادر [الملازمة] (¬2) للنصب "كمعاذ الله" و"غفرانك" وشبههما مما هو منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. ومعناه: تنزيه الله وبراءته عن النقصان الذي لا يليق [بجلال الله] (¬3) وكماله. [وفي "الدعوات للمستغفري" (¬4) عن طلحة بن ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 6، وما ذكره عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (1/ 362): لم أجده. اهـ. أقول: انظر سنن الترمذي (65)، وابن حبان (1261). (¬2) في الأصل (اللازمة)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في ن ب (بحالة). (¬4) هو الإِمام الحافظ المجود المصنف أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري النفي له مؤلفات "معرفة الصحابة" "الدعوات" "خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -" وغيرها مولده بعد الخمسين وثلاثمائة بيسير ومات بنَسَف سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة عن ثمانين سنة رحمه الله، دمية القصر (1/ 664)، الجواهر المضية (2/ 19، 20)، أعلام الخيار (245)، الطبقات (614)، أعيان الشيعة (16/ 246 - 248).

عبيد الله قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تفسير سبحان الله، فقال: هو تنزيه الله". قلت:] (¬1) ويستعمل مفردًا ومضافًا، فإذا أُفرد فمنهم من ينونه ومنهم من لا ينونه، فمن الأول قوله: سبحانه ثم سبحانًا أسبحه ... وقبلنا سبح الجودي والجمد (¬2) ومن الثاني قوله (¬3): أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر فمن ترك تنوينه جعله علمًا فمنعه الصرف للتعريف وزيادة الألف والنون، ومن نوَّنه جعله نكرة، وقيل: بل صرفه للضرورة، وأبعد من قال: إنه مقطوع عن الإِضافة. الخامس: قوله: "إن المؤمن لا ينجس" يقال: نجس الشيء بالكسر، ينجس بالفتح، ونجس بالضم ينجس، قاله القرطبي (¬4). وقال النووي: يقال بضم الجيم وفتحها لغتان، وفي ماضيه لغتان: نجس ونجُس بكسر الجيم وضمها، فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي ضمها في ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) انظر: النهاية لابن الأثير (1/ 292) والبيت لأمية ابن أبي الصلت. انظر: تاج العروس (2/ 157)، وقد جاء بلفظ آخر: سبحانه ثم سبحانًا يعود له ... وقبلنا سبح الجودي على الجمد (¬3) قائلة الأعشى. انظر: ديوان الأعشى (193). (¬4) انظر: المفهم (2/ 741).

المضارع أيضًا، [هذا] (¬1) قياس مطرد معروف عند أهل العربية إلَّا [أحرفًا] (¬2) [مستثناه] (¬3) من المكسور. قال القرافي: وحقيقة النجاسة أنها عبارة عن تحريم ملابسة المستقذرات فهي حكم شرعي راجع إلى الأحكام الخمسة [وهي] (¬4): التحريم، قال: والاستقذار هو التتجيس عملًا بالمناسبة. وفيه أيضًا من الألفاظ: "المدينة": وهي مشتقة من دان إذا أطاع، وقيل: [من] (¬5) مدن [بالمكان] (¬6)، إذا أقام به، ولها أسماء كثيرة فوق العشرين ذكرتها موضحة في كتابي المسمى بـ"الإِشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات" فراجعها منه. [الرابع] (¬7): في فوائده: [الأولى] (¬8): فيه استحباب الطهارة عند مجالسة العلماء وأهل الدين والفضل حتى يكون على أكمل الحالات وأحسن الهيئات ¬

_ (¬1) في ن ب (فهذا). (¬2) في ن ب (الجر). انظر: شرح مسلم للنووي (4/ 65). (¬3) في ن ب (فاستثناه). (¬4) في ن ب (وهو). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (مكان). (¬7) في ن ب (والسادس). (¬8) في ن ب مكررة.

احترامًا لهم وتوقيرًا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما [رد] (¬1) على أبي هريرة [لاعتبار] (¬2) الطهارة في مجالسته واعتقاده نجاسة الجنب، لأن الإِيمان كافٍ، وقد أزال اعتقاده بقوله: "سبحان الله" تعجبًا من اعتقاده وإعلامه بالحكم في عدم نجاسة الجنب كما سبق، وإن كان المستحب أن يكون الإِنسان على طهارة في ملابسته الأمور المعظمة كما سأذكره لك، لكن اعتقاد النجاسة أعظم مفسدة من مراعاة مصلحة مستحبة. قال العلماء: يستحب لطالب العلم أن يحسن حاله في حال مجالسة شيخه فيكون متطهرًا متنظفًا بإزالة الشعر المأمور بإزالته وقص الأظفار وإزالة الروائح الكريهة، وغير ذلك مما في هذا المعنى فإن ذلك من إجلال العلم والعلماء. الثانية: فيه أن العالم إذا رأى مِنْ تابعِهِ أمرًا يخاف عليه فيه خلاف الصواب سأل عنه، وقال له صوابه وبيَّن له حكمه. الثالثة: فيه أيضًا جواز التعجب "بسبحان الله" وأن ذلك لا يعد سوء أدب مع التزيه، وكأن في المعنى تذكير لمن تعجب من فعله المخالف بالرجوع إلى الله تعالى وتنزيهه. الرابعة: فيه أيضًا دلالة على أن للجنب تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه وأن له أن ينصرف في حوائجه وأموره قبل الاغتسال. ¬

_ (¬1) في الأصل (يرد)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في الأصل (لاحتمال)، وما أثبت من ن ب.

الخامسة: هذا الحديث أصل عظيم في طهارة المسلم حيًا وميتًا، فأما الحي فهو إجماع، حتى الجنين إذا ألقته أمه وعليه رطوبة فرجها، قال بعض أصحابنا: ولا يجيء فيه الخلاف المعروف في نجاسة باطن فرجها ولا الخلاف المذكور في كتب أصحابنا في نجاسة ظاهر بيض الدجاج ونحوه فإن فيه وجهين بناء على رطوبة الفرج. وأما الميت ففيه خلاف للعلماء، وللشافعي فيه قولان: أصحهما طهارته، وصححه القاضي عياض في كتاب الجنائز (¬1)، ولهذا غُسّل، وللحديث المذكور، وذكر البخاري أيضًا في صحيحه عن ابن عباس تعليقًا: "المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا" (¬2)، ورواه الحاكم في مستدركه مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولا تنجسوا موتاكم فإن المسلم لا ينجس [حيًا]، ولا ميتًا" (¬3)، ثم قال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وقال الحافظ ضياء الدين (¬4) في أحكامه: إسناده عندي على شرط الصحيح. ¬

_ (¬1) في ن ب (أيضًا). (¬2) فتح الباري (3/ 127)، وأيضًا مصنف ابن أبي شيبة (3/ 267). (¬3) المستدرك (1/ 385)، ووافقه الذهبي. وما بين القوسين زيادة من ن ب والمستدرك. (¬4) هو محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، ولد سنة تسع وستين وخمسمائة "بقاسيون"، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. فوات الوفيات (3/ 426)، وذيل الروضتين لأبي شامة (177)، وذيل طبقات الحنابلة (2/ 236). وكتابة الأحكام، ما يزال مخطوطًا، ومات ولم يكمله، وكمله ابن أخيه شمس الدين ابن الكمال.

وأما الكافر فحكمه في الطهارة والنجاسة حكم المسلم، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير من السلف والخلف، وأما قوله تعالى: {الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬1). فالمراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار، وليس المراد أن أعضاءهم نجسة [كنجاسة] (¬2) البول والغائط ونحوهما. أو المراد أنهم لا ينفكون عن النجاسة بعدم تحرزهم منها؛ ولأنه يقال للشيء: نجس [بمعنى أن عينه نجس، ويقال: إنه نجس] (¬3) بمعنى أنه متنجس بإصابة النجاسة [له، فينبغي أن يحمل على الثاني لإِمكان نجاسته بإصابة النجاسة] (¬4). وقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المشرك نجس في حال حياته أيضًا [أخذًا] (¬5) بالآية، وعزاه القرطبي في باب النهي عن الجلوس على القبور إلى الشافعي وغيره، وهو غريب، ونقل عن مالك وغيره طهارته، ونقل عن بعض المتأخرين أن الخلاف في طهارة الميت ونجاسته في المسلم دون الكافر فإنهم [متفقون] (¬6) على نجاسته، قال: وهو قول حسن؛ لمفهوم الحديث السالف. قلت: وإذا ثبت طهارة الآدمي مسلمًا كان أو كافرًا فعرقه ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 28. (¬2) في ن ب (بنجاسة). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في الأصل (متفق)، وما أثبت من ن ب. انظر: المفهم (3/ 1619، 1920).

ولعابه [طاهران] (¬1)، سواء كان محدثًا أو جنبًا أو نفسًا، وهذا كله بإجماع المسلمين، وكذلك الصبيان أبدانهم وثيابهم ولعابهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، فيجوز الصلاة في ثيابهم والأكل معهم من المائع إذا غمسوا أيديهم فيه ودلائل هذا كله من السنة والإِجماع مشهورة. وخالف ابن حزم (¬2) الإِجماع فادَّعى نجاسة عرق الكافر عملًا بالآية السالفة وقد أسلفنا الجواب عنها، وقال القرطبي (¬3) رحمه الله: هنا يقتبس من الحديث أن من صدق عليه اسم المؤمن لا ينجس حيًا ولا ميتًا، وأما طهارة الآدمي مطلقًا فلا ينازع بوجه. قلت: طهارة المسلم منتزعة من الرواية التي أسلفناها، ومن قال بطهارة الكافر قد يجيبون بأن الحديث خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. واعلم أن ابن العربي (¬4): نقل الاتفاق على طهارة الشهيد بعد الموت، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أحياء في قبورهم، فتنبه له. السادسة: استدلَّ لمالك بهذا الحديث على كراهة نكاح نساء أهل الكتاب لقوله: "إن المؤمن لا ينجس" وبالنجاسة علل مالك الكراهة في ذلك لأجل مضاجعتهنَّ وشربهنَّ الخمر وأكلهنَّ الخنزير. ¬

_ (¬1) في الأصل (طاهر)، وما أثبت من ن ب. (¬2) المحلى (1/ 129). (¬3) المفهم (2/ 741). (¬4) عارضة الأحوذي (1/ 185).

السابعة: اختلف العلماء في (¬1) الثوب إذا أصابته النجاسة: يكون نجسًا أم لا؟ حكاه الشيخ تقي الدين (¬2)، فقيل: نعم، وأن اتصال النجس بالطاهر موجب لنجاسة الطاهر، وقيل: لا، بل الثوب طاهر في نفسه وإنما امتنع استصحابه في الصلاة؛ لمجاورة النجاسة، فلهذا القائل أن يقول: دلَّ الحديث على أن المؤمن لا ينجس [ومقتضاه] (¬3) أن بدنه لا يتصف بالنجاسة، وهذا يدخل تحت حالة ملابسة النجاسة له فيكون طاهرًا، وإذا ثبت ذلك في البدن ثبت في الثوب، لأنه لا قائل بالفرق، أو يقول: البدن إذا أصابته نجاسة من مواضع النزاع وقد دلَّ الحديث على أنه غير نجس وعلى ما قدمناه من أن الواجب حمله على نجاسة العين؛ يحصل الجواب عن هذا الكلام فقط، وقد يدعى أن قولنا الشيء نجس حقيقة في نجاسة العين، فيبقى ظاهر الحديث دالًا على أن نفس المؤمن لا ينجس، فيخرج عنه حالة التنجس التي هي محل الخلاف. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (أن). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 364). (¬3) في ن ب (ومعناه).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 33/ 2/ 6 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، [ثم] (¬1) اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده" (¬2)، وقالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، نغترف منه جميعًا" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في راويه، وقد سبق التعريف به في الطهارة. ثانيها: في ألفاظه: الأول: "كان" هنا تدل على الملازمة والتكرار كقول ابن عباس: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير" ويقال: كان فلان ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب. (¬2) البخاري (248، 262، 272)، ومسلم (316)، وابن حبان (1188، 1191، 1194)، وأبو داود (242)، والترمذي (104)، وأحمد في المسند (1/ 307، 330). (¬3) أخرجها البخاري برقم (273)، ومسلم برقم (321)، والدارمي (1/ 191، 192، وأحمد في المسند (6/ 193، 231، 281).

يقري الضيف، وقد تستعمل كان لإِفادة مجرد الفعل ووقوعه دون الدلالة على التكرار، والأول أكثر في الاستعمال. الثاني: قولها: "إذا اغتسل" يحتمل أن يكون من باب قوله [تعالى] (¬1): {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬2) أي: إذا أراد الاغتسال. ويحتمل أن يكون اغتسل بمعنى شرع فيه، فإنه يقال: فعل كذا [إذا] (¬3) فرغ منه، وفعل إذا شرع فيه، فإذا حملنا اغتسل على معنى شرع صحّ؛ لأنه يمكن أن يكون الشروع وقت [الابتداء] (¬4) بغسل اليدين، وهذا بخلاف الآية فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة وقت الاستعاذة [فلهذا تعين حمله على الإِراد فقط. وقولها: "من الجنابة" (من) هنا بمعنى السببية مجازًا عن ابتداء الغاية من حيث إن السبب مصدر المسبب ومنشأ له، فتكون الجنابة هنا بمعنى الأمر الحكمي الذي يتسبب عن التقاء الختانين أو الإِنزال] (¬5). الثالث: "أروى" مأخوذ من الري الذي هو خلاف العطش وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء، تقول: رويت من الماء -بالكسر- أروى بالفتح رَيًا وريًّا وروى، وأرويته [أنا] (¬6). والمقصود بالإِرواء ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) سورة النحل: آية 98. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) في ن ب (للبدأة). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) زيادة من ن ب.

هنا: الوصول إلى جميع الجلد، والغالب أنه لا يصل إليه [إلَّا] (¬1) وقد ابتلت أصول الشعر أو كله، فإن البشرة ظاهر الجلد [كما ستعلمه على الأثر. الرابع: البشرة: ظاهر الجلد] (¬2) وهذا هو المشهور، وقال أبو جعفر النحاس (¬3) في كتابه "الاشتقاق" في الكلام على آدم: العرب سمَّت الجلد الظاهر: أدمة، والباطن: بشرة، قال: وحكى الأصمعي (¬4): أن ظاهر [بشر] (¬5) الإِنسان من رأسه وسائر جسده البشرة، وباطنه الأدمة، وإطلاق البشرة على الباطن غريب وليس [وهو] (¬6) مراد الحديث ولا الفقهاء. وقال صاحب المهذب (¬7): جلدة الرأس تسمى الفروة [والشواة] (¬8)، وجلدة سائر الجسد يقال: لها البشرة: وظاهر ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس المتوفي سنة (338). سير أعلام النبلاء (15/ 401). (¬4) في كتابه "خلق الإِنسان" مطبوع ضمن "الكنز اللغوي" عام (1903 م)، والأصمعي هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب المتوفى سنة (216)، وله مؤلفات، منها: "غريب القرآن"، "غريب الحديث"، "النوادر"، "ما تلحن فيه العامة". سير أعلام النبلاء (10/ 175). (¬5) في ن ب (جسد). (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) تهذيب اللغة (11/ 442)، وخلق الإِنسان للزجاج (21). (¬8) في الأصل (السوة)، وما أثبت من ن ب ومن المراجع السابقة.

الحديث يرد عليه فإنه أطلق على جلدة الرأس اسم البشرة. الخاص: "الإِفاضة": الإِفراغ، يقال: فاض الماء إذا جرى، وفاض الدمع إذا سال. السادس: "سائر" هنا بمعنى باقي وهو الأصل في استعمالها، وقد تستعمل بمعنى الجميع لكن الاستعمال الأول متعين هنا لذكرها الرأس أولًا وهو مأخوذ من السور، وغلّط الحريري (¬1) في "درته" (¬2) من استعمله بمعنى الجميع، واستدلَّ على ذلك بحديث غيلان الثقفي الذي قال [له] (¬3) [عليه السلام] (¬4): "أمسك أربعًا وفارق سائرهن" (¬5) أي باقيهن بعد الأربع المختارات، قال: والصحيح أنه يستعمل في كل باقي قلّ أو كثر، لإِجماع أهل اللغة إن معنى "إذا شربتم فأسئروا" (¬6): أي أبقوا بقية، لأن المراد به أن يشرب الأقل ويبقى ¬

_ (¬1) هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري المتوفي سنة (516)، وسير أعلام النبلاء (19/ 460). (¬2) الدرة للحريري (3، 4). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬5) الموطأ (1/ 56)، والترمذي (1128) في النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة؛ وابن ماجه (1953) النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، وصححه الحاكم (2/ 192)، والحافظ في التلخيص (3/ 169). (¬6) انظر إلى معنى هذه المادة والحديث: لسان العرب (6/ 132)، وفيه: "فَأَسْئروا".

الأكثر، وإنما ندب [إلى التأدب] (¬1) بذلك لأن الإِكثار من المطعم والمشرب منبأة عن النهم وملامة عند العرب (¬2). السابع: "الجسد": البدن، وهو لفظ مشترك يطلق على الزعفران ونحوه من الصبغ وهو الدم أيضًا، ومصدر جسدته الدم تجسيدًا: إذا [أطبق] (¬3) به. ثالثها: في فوائده: الأولى: قولها "غسل يديه" أي قبل إدخالهما الإناء كما جاء مصرحًا به في رواية، ولا خلاف في مشروعية ذلك، وإنما الخلاف في وجوبه كما تقدم في الطهارة. الثانية: قولها "وتوضأ وضوءه للصلاة" فيه استحباب تقديم أعفاء الوضوء [للغسل] (¬4)، قال الشيخ تقي الدين (¬5): وهل هو وضوء حقيقة فيكتفى به عن غسل هذه الأعضاء للجنابة؟ فإن موجب ¬

_ (¬1) في الأصل (التأدب)، وما أثبت من ن ب والدرة. (¬2) في الدرة زيادة "ومنه ما جاء في حديث أم زرع عن التي ذمت زوجها إن أكل لف وإن شرب اشتف" أي تناهى في الشرب إلى أن يستأصل الشفافة وهي ما يبقى من الشراب في الإِناء. ومما يدل على أن سائر بمعنى "باقي" ما أنشده سيبويه: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره بادٍ إلى الشمس أجمع إلى آخر ما قال ... (¬3) في ن ب (لصق). وانظر معناه: في مختار الصحاح (50). (¬4) في ن ب (في الغسل). (¬5) إحكام الأحكام (1/ 372).

الطهارتين بالنسبة إلى هذه الأعضاء واحدًا، وإنما هو عن الجنابة وقدمت على بقية الجسد تكريمًا لها ويدرج الأصغر فيه، ينبغي أن يقع البحث فيه، قال: وقد يقول قائل: قولها: "وضوءه للصلاة" مصدر مشبه تقديره: وضوءًا مثل وضوء الصلاة [فيلزم] (¬1) لأجل ذلك أن تكون هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة؛ لأنها لو كانت مغسولة عن الوضوء حقيقة لكان قد توضأ غير الوضوء للصلاة فلا يصح التشبيه؛ لأن التشبيه [يقتضي تغاير المشبه] (¬2) والمشبه به، فإذا جعلناها مغسولة للجنابة صح التغاير وكان التشبيه في الصورة الظاهرة. وجوابه -بعد تسليم كونه مصدرًا مشبهًا- من وجهين: الأول: أن يكون شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة في غير غسل الجنابة، والوضوء بقيد كونه في غسل الجناية [بقيد] (¬3) مغايرًا للوضوء بقيد كونه خارج غسل الجنابة، فيحصل التغاير الذي يقتضي صحة التشبيه، ولا يلزم منه عدم كونه وضوءًا للصلاة حقيقة. الثاني: لما كان وضوء الصلاة أو صورته معنوية ذهنية، فشبه هذا الفرد الذي وقع في الخارج بذلك المعلوم في الذهن، كأنه يقال: أوقع في الخارج ما يطابق الصورة الذهنية لوضوء الصلاة. قلت: قد صرَّح بالبحث الثاني الداودي من الشافعية حيث ¬

_ (¬1) في ن ب (يلزم). (¬2) في الأصل ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة.

قال: قول الشافعي: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة" أي يقدم غسل أعضاء وضوءه على غيرها من الأعضاء على ترتيب الوضوء لكن بنية غسل الجنابة لا أن ذلك وضوء. هذا لفظه، وقد ذكرته في شرحي الصغير للمنهاج وهو غريب منه [في المذهب] (¬1). وادّعى أبو ثور (¬2) وجوب الوضوء قبل الغسل [و] (¬3) لا دليل له من هذا الحديث ولا من غيره؛ لأن فعله عليه السلام محمول على الاستحباب إلَّا أن يدل دليل على الوجوب. الثالثة: قولها: "وضوءه للصلاة" ظاهره إكمال الوضوء، وسيأتي الخلاف في ذلك في الحديث الآتي على الأثر إن شاء الله. الرابعة: قولها: "ثم اغتسل" يعني ما هو مشروع معلوم عندكم، ثم ذكرت بعض هيئاته فقالت: "ثم يخلل بيده شعره" وحقيقة التخليل ستأتي، ويجوز أن يكون المراد بالاغتسال هنا صب الماء على الرأس، قال القاضي [عياض] (¬4): واحتج بعضهم به على تخليل شعر اللحية في الغسل فإنه لم يجر في الحديث ذكر الرأس حتى يكون مختصًا بشعره، قال: وعندنا في تخليل شعرها قولان، ومنهم من احتج بالقياس على تخليل شعر الرأس. تنبيه: حقيقة التخليل: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: فقه أبي ثور (147). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة.

لكن هل يكون مع بلل الأصابع بغير نقل ماء، أو بنقل ماء؟ أشار بعضهم إلى ترجيح الثاني لرواية مسلم: "ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر" وذكر النسائي في سننه ما يبين هذا حيث بوب: تخليل الجنب رأسه، وأدخل حديث عائشة هذا فقال فيه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُشرب رأسه ثم يحثي عليه ثلاثًا" (¬1). وهذا فيه رد على الأول لأنه لا يقال: أشربت رأسي، بغير ماء. فائدة: للتخليل فوائد ثلاث: تسهيل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة. ثانيها: مباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه. ثالثها: تأنيس البشرة خشية أن يصيب بصبه [دفعة] (¬2) آفة في رأسه. الخامسة: قولها: "حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته". يحتمل أن تريد بالظن هنا اليقين وقد كثر في كلام العرب، قال تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (¬3)، أي أيقنوا؛ لأنه وقت رفع الشكوك والظنون، ويحتمل أن يكون الظن هنا على بابه؛ لأنه كافٍ، ويؤيده قولها بعد ذلك: "أفاض عليه الماء ثلاثًا"؛ لأنه ما اكتفى بري البشرة الذي لزم منه حصول الواجب حتى [ثلّث] (¬4) بعد ذلك. ¬

_ (¬1) النسائي (1/ 135). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة الكهف: آية 53. (¬4) في ن ب (ثبت).

السادسة: فيه استحباب تثليث الغسل، وخالف فيه من أصحابنا الماوردي (¬1) فقال: لا يستحب. قال القاضي عياض: ولم يأت في شيء من وضوء الجنب ذكر التكرار، قال: وقال بعض شيوخنا: إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه. وقال [الباجي] (¬2): يحتمل أن يكون أتى بالثلاث كما ورد في الطهارة من التكرار، ويحتمل أن يكون للمبالغة فإنه لا يكفيه الغرفة الواحدة. وقال القاضي: ذكر عن بعضهم أن الثلاث غرفات مستحبة، ومن قال: إن التكرار غير مشروع في الغسل، حمل الثلاث على الرأس [واحدة للشق الأيمن وواحدة للأيسر وواحدة لوسط الرأس] (¬3)، ويدل على صحة هذا الحمل قولها: في الحديث الآخر أي في البخاري: "أخذ بكفيه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه" (¬4). السابعة: فرق في الحديث بين إفاضة الماء وبين الغسل شروعه فذكرت إفاضة الماء مجردة بعد حصول التخليل ثم الغسل، فاستدلّ به المالكية على أن الغسل لا يكون إلَّا مع الدلك وإلَّا فلا فائدة ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (1/ 269). (¬2) في ن ب (القاضي). انظر: المنتقى (1/ 94). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) البخاري (258).

للتفرقة، وأنصف [المازري] (¬1) المالكي فقال: الحديث حجة للشافعية على عدم وجوب الدلك؛ لأن إفاضة الماء تكون مع الدلك ودونه بخلاف الغسل، فيحمل المطلق على المقيد. الثامنة: فيه جواز اغتسال الرجل والمرأة [جميعا] (¬2) من إناء واحد وأن اغترافهما من الإِناء يكون على التعاقب؛ لغلبة صغر أوانيهم وتعذر تساويهما في الاغتراف من غير تعاقب، فيقتضي جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة لتأخر اغتراف الرجل عن المرأة في بعض الاغترافات، وإن كان لفظ الحديث محتمل لشروعهما في الاغتسال دفعة واحدة لكن ليس فيه عموم. واعلم أن الإِجماع قام على جواز [طهر] (¬3) الرجل والمرأة من إناء واحد كما نقله القاضي ثم النووي في شرحهما (¬4) لمسلم (¬5)، وقال القرطبي: هو متفق عليه بين الأمة إلَّا شيء روي من ذلك عن أبي هريرة. وأما تطهير المرأة بفضل الرجل فجائز بالإِجماع كما [نقله] (¬6) النووي أيضًا. ¬

_ (¬1) في الأصل (الماوردي)، والتصحيح من ن ب. انظر: المعلم (1/ 376) بمعناه. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (تطهير). (¬4) شرح مسلم للنووي (4/ 2). (¬5) النووي (4/ 2). (¬6) في ن ب ساقطة.

وأما تطهير الرجل بفضلها فهو جائز عند الشافعي ومالك وأبي خيفة والجمهور، سواء خلت به أو لم تخل. قال أصحاب الشافعي: ولا كراهة في ذلك. وروي عن ابن المسيب والحسن كراهة فضل [وضوئها طهارة الرجل وغسلها] (¬1)، وكره أحمد فضل [وضوئهما وغسلهما] (¬2)، وشرط ابن عمر: إذا كان أحدهما جنبًا أو المرأة حائضًا، [وما نقلناه] (¬3) عن ابن المسيب والحسن وأحمد هو ما نقله القرطبي (¬4)، ونقل النووي عن الأولين كراهة فضلها مطلقًا، [وعن أحمد وداود: أنها إذا خلت بالماء واستعملته لا يجوز للرجل استعمال فضلها] (¬5)، قال: وروي عن [عبد الله] (¬6) بن سرجس والحسن البصري قال: وروي عن أحمد كمذهبنا (¬7). والمختار ما قاله الجمهور؛ للأحاديث الواردة في تطهره - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه وكل واحد منهما يستعمل فضل صاحبه ولا تأثير للخلوة، وقد ثبت في الحديث الآخر: "أنه عليه السلام اغتسل بفضل بعض أزواجه" رواه أبو داود والترمذي والنسائي، قال الترمذي: حسن ¬

_ (¬1) في الأصل (وضوئهما)، وما أثبت من ن ب. (¬2) هكذا العبارة في الأصل. (¬3) في الأصل (وما نقله)، وما أثبت من ن ب. (¬4) المفهم (2/ 688). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (عبد). انظر: معجم فقه السلف (1/ 95 م 109) (1/ 99 م 114). (¬7) انظر: شرح مسلم للنووي (4/ 2) بمعناه.

صحيح (¬1). وأما الحديث الذي جاء بالنهي وهو حديث الحكم بن عمرو فأجاب العلماء عنه. أحدها: أنه ضعيف، ضعّفه أئمة الحديث، منهم البخاري وغيره. والثاني: أن المراد النهي عن فضل أعضائها وهو المتساقط منها وذلك مستعمل. والثالث: أن النهي للاستحباب والأفضل. وقال القرطبي (¬2): سبب اختلافهم في المسألة اختلافهم في تصحيح أحاديث النهي الواردة في ذلك، ومن صححها اختلفوا أيضًا في الأرجح منها أو ما يعارضها، كحديث ميمونة أنه عليه السلام توضأ ¬

_ (¬1) ولفظه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" أخرجه النسائي (1/ 179)، والترمذي (63، 64)، وأبو داود (82)، وابن ماجه (373)، والطيالسي (1252)، وأحمد (4/ 213) (5/ 66)، والدارقطني (1/ 53)، والبيهقي (1/ 191)، وابن حزم في المحلى (1/ 212). والحديث صححه ابن حجر في الفتح (1/ 300)، وفي بلوغ المرام قال: إسناده صحيح والألباني في الإِرواء (11). وانظر كلام البيهقي عليه. وأيضًا انظر: تنقيح التحقيق (1/ 215). وصححه ابن خزيمة والحاكم في المستدرك (1/ 159)، ووافقه الذهبي، قال: احتج البخاري بعكرمة، ومسلم بسماك، والخبر صحيح لا يحفظ له علة. وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح (1/ 300): وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشائخه إلَّا صحيح حديثهم. (¬2) المفهم (2/ 688).

بفضلها (¬1)، وكحديث ابن عباس الذي في الترمذي (¬2)، ولا شك أن حديث عائشة هذا وغيره أصح وأشهر فالعمل به أولى، وأيضًا فقد اتفقوا على غسلهما معًا مع أن كل واحد منهما يغتسل مما يفضله صاحبه عن غرفه. التاسعة: قال ابن القطان (¬3) في أحكام النظر (¬4): سئل مالك: أيجامع الرجل زوجته وليس بينهما ستر، قال: نعم، فقيل له: إنهم يرون كراهة ذلك، فقال: قد كان - صلى الله عليه وسلم - وعائشة يغتسلان عريانين، والجماع أولى بالتجرد، وقال: لا بأس أن ينظر إلى فرجها في الجماع، قلت: وهو المرجح عندنا أيضًا (¬5). العاشرة: يؤخذ من الحديث أيضًا أن أفعاله عليه السلام حجة كأقواله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (323). (¬2) ابن الجارود (48)، وابن ماجه (371)، والطيالسي (1/ 42)، والترمذي (65)، وأبو داود (66)، والدارقطني (1/ 52). فالجمع بين ما ظاهره التعارض بين هذه الأحاديث، فما جاء في الوضوء بفضلها فمحمول على الإِباحة، وما ورد من النهي محمول على التنزيه أو حين انفرادها. (¬3) الشيخ الإِمام الفقيه المحدث الحافظ أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن يحيى بن إبراهيم المعروف بالقطان الفاسي من حفاظ الحديث، ولد سنة خمسمائة واثنين وستين وتوفي سنة ستمائة وثمان وعشرين. الأعلام للزركشي (4/ 331). (¬4) أحكام النظر (41). (¬5) نص على ذلك النووي في الروضة ورأى عدم تحريم النظر. انظر: روضة الطالبين (7/ 27)، والمغني (6/ 557)، والإِنصاف (8/ 32)، وشرح الزرقاني (3/ 163)، ونهاية (6/ 199).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 34/ 3/ 6 - عن ميمونة بنت الحارث -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -- قالت: " [وضعت] (¬1) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوء الجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين -أو ثلاثًا- ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض، أو الحائط مرتين -أو ثلاثًا- ثم تمضمض واستنشق، [ثم] (¬2) غسل وجهه وذراعه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، ثم تنحَّى، فغسل رجليه. [قالت] (¬3): فأتيته بخرقة فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده" (¬4). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في ن ب (وضع). (¬2) زيادة من البخاري، الفتح (1/ 382). (¬3) زيادة من البخاري، الفتح (1/ 382). (¬4) البخاري (249، 257، 259، 260، 265، 266، 274، 276، 281)، ومسلم (377)، والترمذي برقم (103)، وأبو داود برقم (245)، والنسائي (1/ 137، 138)، وابن حبان (1187)، وابن خزيمة (1/ 120)، والدارمي (1/ 191).

أحدها: [في] (¬1) التعريف براويه: [ميمونة] (¬2) هذه هلالية تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ست، وقال جماعة: سنة سبع، قال محمد بن إبراهيم: في شوال، وفي الكلاباذي في [ذي القعدة] (¬3) وبنى بها في ذي الحجة. روي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثًا، اتفقا [منها] (¬4) على سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم خمسة، قاله النووي، وقال ابن الجوزي: لها [ستة وسبعون] (¬5) حديثًا، روى عنها ابن أختها ابن عباس وجماعة من التابعين. قيل: كان اسمها (برة) فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، وتوفيت بسرف لأنها اعتلَّت بمكة، فقالت: أخرجوني من مكة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أني لا أموت بها فحملوها حتى أتوا بها سرفًا فماتت هناك ودفنت بموضع القبة التي بني بها عندها، قاله البكري، وقال النسابة الحواني: ماتت بمكة فحملها ابن عباس على مناكب الرجال إلى سرف وهو بقرب مكة وهو ما بينه وبينها عشرة أميال، وقيل: ستة، وقيل: سبعة، وقيل: اثني عشر، وقيل: تسعة، ورأيت بخط [الصديقي] (¬6) عن عبد الغني أنه قال: بينهما تسعة أيام، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (فميمونة). (¬3) في ن ب (ذي قعدة). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (ستة وستون). (¬6) هكذا في الأصل وفي ن ب (الصريفيني)، وفي البحث عن ترجمة =

وهذا من طغيان القلم، وإنما أراد تسعة أميال. وهي مشتقة من اليمن: وهو البركة، كانت أولًا عند أبي رهم بن عبد العزى العامري أو سخبرة (¬1) بن أبي رهم [أو خروبة] (¬2) أو حويطب بن عبد العزى بن أخي أبي رهم، أقوال. وتزوجها على خمسمائة درهم، وكان بعث جعفرًا وقد قدم من أرض الحبشة فخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس، [وقيل] (¬3): بعث أوس بن خولي وأبا رافع فزوجاه إياها، وفي رواية: قبل أن يخرج من المدينة (¬4). قال أبو رافع: تزوجها حلال (¬5). وقال ابن عباس: محرمًا (¬6)، قال الزهري: وهي الواهبة نفسها (¬7)، وقال غيره: الواهبة: زينب بت جحش، ويقال: أم شريك، وأختها أم ¬

_ = عبد الغني في تلاميذه وجد أنه (أبو عبد الله الصوري) كما في تذكرة الحفاظ (1048)، والبداية والنهاية ووفيات الأعيان. (¬1) الذي ذكر في جمهرة أنساب العرب (169): أبو سبرة بن أبي رُهْم. (¬2) الذي في جمهرة أنساب العرب (198): "مخرمة" وأخويه هما أبو رهم وحويطب، ولم يذكر لحويطب ولد بهذا الاسم المذكور، والذي ذكر في سير أعلام النبلاء (2/ 239): تزوجها مسعود بن عمرو الثقفي قبيل الإِسلام، ففارقها، وتزوجها أبو رهم بن عبد العزى فمات، تزوج بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي ن ب (ضَرُوبة). (¬3) في ن ب (وقد). (¬4) أخرجها مالك في الموطأ (1/ 438) في الحج، مرسل وإسناده صحيح. (¬5) ابن سعد في الطبقات (8/ 133)، والحاكم في المستدرك (4/ 31). (¬6) ابن سعد في الطبقات (8/ 135). (¬7) ابن سعد في الطبقات (8/ 137).

الفضل تحت العباس وهي أم عبد الله بن عباس، فهي خالة ابن عباس. وفي وقت وفاتها ثمانية أقوال أوضحتها في كتابنا المسمى بـ"العدة في معرفة رجال العمدة"، أظهرها سنة إحدى وخمسين، وفي الصحيح أنها توفيت قبل عائشة، وصلى عليها عبد الله بن عباس، ودخل قبرها هو ويزيد بن الأصم وعبد الله بن شداد أبناء أخواتها (¬1)، وربيبها عبد الله الخولاني، قال محمد بن عمرو وهي آخر من مات من أزواجه، وكان لها يوم توفيت ثمانون أو إحدى وثمانون سنة وكانت جلدة. قلت: وقيل: إن أم سلمة كانت آخرهنَّ موتًا، ولا خلاف أنها آخر من تزوج بها. الوجه الثاني: في ألفاظه: الأول: قولها: "وضوء الجنابة" هو بفتح الواو أي: ماء الجنابة، وقد تقدم في الطهارة أن الوضوء بفتح الواو: هل هو اسم لمطلق الماء، أو للماء بقيد كونه معدًا للوضوء، أو للماء بقيد كونه مستعملًا في أعضاء الوضوء؟ ونقلنا عن الشيخ تقي الدين أن الأقرب إلى الحقيقة الثالث، وقد يؤخذ من هذا اللفظ أنه اسم لمطلق الماء فإنها لم تضفه إلى الوضوء بل إلى الجنابة، كأنه يريد: لو كان إنما يطلق على الماء مضافًا إلى الوضوء لم يضفه للجنابة. ¬

_ (¬1) ذكر في سير أعلام النبلاء: أبناء أخواتها أربع: عبد الله بن عباس، ويزيد بن الأصم، وعبد الله بن شداد، وعبد الرحمن بن السائب الهلالي.

والظاهر أن الوضوء بالفتح هو: الماء المعد للغسل، وإن كان [يقال] (¬1) [له] (¬2): غسول؛ لشرفه، ولهذا يستحب تجديده بخلافه. الثاني: معنى "أكفأ": قلب، وقد أسلفناه في كتاب الطهارة أنه (¬3) يستعمل رباعيًا وثلاثيًا بمعنى واحد، وكفأْت ثلاثيًا بمعنى قلبْت، وأكفأْت رباعيًا بمعنى أَمَلْت، وأنه مذهب الكسائي وغيره (¬4). الثالث: يقال: يمين ويمنى، ويسار ويسرى، وهما مؤنثان، واليمنى من [اليمن] (¬5)، كما سلف في باب الاستطابة، واليسرى هي الشؤما ضد اليمنى. الرابع: قولها: "مرتين أو ثلاثًا" هما منصوبان على الظرف والعامل فيهما أكفأ. الخامس: الفرج: العورة، قاله الجوهري، واعترض [عليه] (¬6) بعض المالكية بأنه يلزم منه أن يقع الفرج على الدبر أيضًا إذ هو عورة. ثم ادَّعى أن المعروف أن الفرج مختص بالقُبُل، والاست بالدُبُر. ولا يسلم له؛ فإن الفرج أصله لغة: الخلل بين شيئين، وذلك يعمهما، نعم المراد به هنا القبل فيما يظهر. ¬

_ (¬1) في الأصل (يقول)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في ن ب (بها). (¬3) في ن ب زيادة (تختلف هل). (¬4) انظر: (1/ 363) وص (372) تعليق (3). (¬5) في ن ب (اليمين). (¬6) زيادة من ن ب.

الوجه الثالث: في فوائده: الأولى: الإِكفاء باليمين على اليسار سببه -والله أعلم- لأجل إدخال اليد الإِناء كما سلف في حديث عائشة. الثانية: فيه أنه لا يقتصر ع لى مرة واحدة في السنة المذكورة، وقد تقدم ما فيه في كتاب الطهارة. الثالثة: البدأة بغسل الفرج لإِزالة ما علق به من أذى، وينبغي أن يبدأ بغسله أولًا من الجنابة لئلا يحتاج إلى غسله مرة أخرى، وقد يقع ذلك بعد [غسل] (¬1) أعضاء الوضوء فيحتاج إلى إعادة غسلها، فلو اقتصر على غسلة واحدة فهل هي كافية للحدث مع النجس أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا مبنيان على أن للماء قوتين أو واحدة، أصحهما عند الرافعي: لا، وعند النووي: نعم، وقد يقوى بأن الوارد في الحديث مطلق الغسل من غير ذكر تكرار، لكن قد يخدشه قوله بعده: "ثم غسل جسده". تنبيه: غسل الواحد منا فرجه قبل وضوء الجنابة: إما لنجس كائن عليه، وإما لطاهر كالمني عند من يرى طهارته، وكرطوبة فرج المرأة عند من قال بطهارته. الرابعة: قولها: "ثم ضرب يده بالأرض" الظاهر: أنه من المقلوب، والأصل: ضرب الأرض بيده؛ لأن اليد هي الآلة والباء لا تدخل إلَّا على الآلة كضربت بالعصا وكتبت بالقلم وشبه ذلك، وقد جاء القلب كثيرًا في كلامهم، قالوا: عرضت الناقة على الحوض ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

وأدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قوله تعالى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} (¬1) أي العصبة تنوء بالمفاتيح لثقلها على ما قيل. الخامسة: ضربه عليه السلام يده بالحائط أو الأرض لإِزالة ما عساه يعلق باليد من رائحته مبالغة في التنظيف، وقال الترمذي الحكيم في علله: وقيل: إن من داوم عليه عوفي من ميتة السوء (¬2). قلت: ويؤخذ من الحديث أنه يستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يديه بتراب أو أشنان أو يدلكهما بالأرض أو الحائط؛ ليذهب الاستقذار منها، وبه صرح الخفاف من قدماء أصحابنا في كتابه الخصال، فعد من سنن المستنجي أن يغسل يده بالأشنان بعد فراغه. ويؤخذ منه أنه إذا غلب على ظنه زوال النجاسة ثم شم من يده ريحها [لا] (¬3) يدل على بقائها في المحل وهو الأصح، وأما إذا زالت عين النجاسة وبقيت رائحتها لا يضر وهو الأصح، ووجه أخذ ذلك منه أن ضربه - صلى الله عليه وسلم - بالأرض أو الحائط لا بدَّ أن يكون لفائدة ولا جائزًا أن يكون لإِزالة العين لحصولها قبله، وإلاَّ لنجست الأرض أو الحائط [لملاقاتها] (¬4) ولا تكون لإِزالة الطعم؛ لأنه دليل على بقاء العين، ولا لبقاء اللون لبُعده، وإن وُجد فنادر، فتعين أن يكون فعله ¬

_ (¬1) سورة القصص: آية 76. (¬2) لم يرد فيه خبر من كتاب أو سنة صحيحة، وقد ذكر المؤلف الحكمة في ضربه للأرض. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (بملاقاتها).

استظهارًا في زيادة التنظيف أو إزالة احتمال [وجود] (¬1) رائحته مع الاكتفاء بالظن في زوالها. السادسة: قولها: "ثم تمضمض واستنشق" فيه مشروعيتهما في الغسل، وقد تقدم الخلاف في الوجوب فيه في بابه واضحًا فإن تمسك به من يرى بوجوبهما فيه فلا دلالة له فيه، لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب، إلَّا ما كان بيانًا [لمجمل] (¬2) تعلق به الوجوب على المختار، وليس الأمر بالغسل من الجنابة من قبل المجملات. السابعة: لم يذكر في هذا الحديث أنه مسح برأسه، وهو قول عند المالكية على القول بتأخير غسل الرجلين، حكاه الشيخ تقي الدين (¬3)، ويحتمل أن يكون اكتفى بالإِفاضة على الرأس عنه، لأن فيه معنى المسح وزيادة، وقد اختلف أصحابنا في قيام غسل الرأس مقام مسحها على وجهين، وصححوا الجواز. [وهل] (¬4) يكره؟ فيه وجهان، أصحهما: لا؛ لأنه الأصل، وقيل: نعم كغسل الخف بدل مسحه، لكن الفرق بينهما أن فيه إضاعة مال بخلافه. ثم [وقع] (¬5) في شرح ابن العطار أن أصحابنا اختلفوا في أن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، والزيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (المحل). (¬3) إحكام الأحكام (1/ 384). (¬4) في الأصل (وقيل)، وما أثبت من ن ب. (¬5) في ن ب (ووقع).

غسل الرأس والخُف: هل يقوم مقام مسحهما؟ على ثلاثة أوجه: أصحها أنه يجزئ في الرأس ولا يجزئ في الخف، وهو كما قاله من حكاية الخلاف دون التصحيح، فإن الأصح الأجزاء فيهما كما ذكره الرافعي والنووي وغيرهما، فاعلمه. الثامنة: قد يستدل بهذا الحديث على أن من غسل يديه قبل إدخالهما الإِناء ثم أحدث في أثناء وضوئه أنه لا يعيد غسلهما؛ فإنه عليه السلام غسل يديه، ثم بعد غسلهما غسل فرجه ولم يعد غسلهما بعد ذلك. التاسعة: قولها: "ثم تنحى فغسل رجليه" فيه إشعار بتأخير غسل القدمين وهو [أحسن] (¬1) القولين عندنا وعند المالكية، قال القرطبي (¬2): وذلك ليكون الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء، قال: وروي عن مالك أنه إذا أخرهما أعاد وضوءه عند الفراغ، قال: والأظهر الاستحباب؛ لدوام النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقال المازري (¬3): ليس في الحديث تصريح بالتأخير بل هو محتمل؛ لأن قولها "توضأ وضوءه للصلاة" ظاهره إكماله، [وغسلهما] (¬4) بعد ذلك يحتمل؛ لما نالهما من تلك البقعة. وقال القاضي عياض: ظاهر قولها في الأحاديث إتمام الوضوء. وإليه نحا ابن حبيب. ¬

_ (¬1) في ن ب (أحد). (¬2) في المفهم (2/ 681)، والمنتقى للباجي (1/ 93). (¬3) المعلم (1/ 375). (¬4) في الأصل (ويغسلهما)، والتصحيح من ن ب.

قلت: وهو الأصح عند الشافعية والمشهور عند المالكية، وروي عن مالك أن التأخير واسع، وفي مذهب مالك قول آخر أنه إن كان الموضع نظيفًا فلا يؤخر، وإن كان وسخًا والماء قيلًا أخَّر؛ جمعًا بين الأحاديث، واختيار أبي حنيفة التأخير، وقال في المبسوط: إن كان الموضع وسخًا أخَّرهما، وإن كان طاهرًا قدَّمهما. العاشرة: قال القاضي عياض: في تنحيته لغسل رجليه حجة في أن التفريق اليسير غير مؤثر في الطهارة، وما ذكره إنما يتأتى إذا قلنا بأنه لم يكمل وضوءه. فإن قلنا [إنه] (¬1) أكمله فلا حجة فيه، وقد يقال: أخرهما للمانع السالف عن [المازري] (¬2)، ولا يلزم منه التأخير مطلقًا. الحادية عشرة: قولها: "فأتيته بخرقة فلم يردها" هذه الخرقة جاءت [غير] (¬3) مسماة في هذا الحديث، وفي رواية [الدارمي] (¬4) (¬5) "فأعطيته ملحفة فأبى"، وفي الأحكام (¬6) لأبي علي الطوسي ¬

_ (¬1) في ن ب (بأنه). (¬2) في ن ب (الماوردي). انظر: ت (3)، في الصفحة السابقة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في الأصل (الدارقطني)، والتصحيح من ن ب. (¬5) أخرجها الدارمي (1/ 191). (¬6) مختصر الأحكام (1/ 307)، والطوسي: هو الإِمام الحافظ المجود أبو علي الحسن بن علي بن نصر، ولد سنة اثنين وعشرين ومائتين، وتوفي بطوس سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. انظر: طبقات علماء الحديث (2/ 498)، وتذكرة الحفاظ (3/ 787)، ولسان الميزان (2/ 232)، وسير أعلام النبلاء (8/ 15).

مصححًا: "فأتيته بثوب فقال بيده هكذا". ويؤخذ من [ذلك] (¬1) كله استحباب ترك تنشيف الأعضاء، وفي المسألة ثلاث مذاهب: أحدها: أنه يكره في الوضوء والغسل، وهو قول ابن عمر وابن أبي ليلى. وثانيها: لا بأس به فيهما، وهو قول أنس بن مالك والثوري وبه قال مالك. وثالثها: يكره في الوضوء دون الغسل، روي عن ابن عباس، قال القرطبي (¬2): وإلى الأول مال أصحاب الشافعي. قلت: هو أحد أوجه خمسة عندهم، وقد اضطرب في الراجح عندهم منها كما أوضحته في شرح المنهاج وغيره فإنه محله، [والمختار] (¬3) أنه مباح يستوي فعله وتركه، قال القرطبي (¬4): وقالوا: هو أثر عبادة فيكره إزالته كدم الشهيد وخلوف فم الصائم، قال: ولا حجة في الحديث، لاحتمال أن يكون رده إياه لشيء رآه بالمنديل،-أي من وسخ أو صبغ من زعفران أو نحوه- أو لاستعجاله للصلاة، أو تواضعًا أو مجانبًا لعادة المترفهين، وأما القياس فلا نسلمه. قال الترمذي: لا يصح في الباب شيء، يعني في ¬

_ (¬1) في ن ب (هذا). (¬2) المفهم (2/ 682). (¬3) في الأصل (واختار)، والتصحيح من ن ب. (¬4) المفهم (2/ 681).

التنشيف (¬1). قلت: واحتج بعضهم بهذا الحديث على إباحته حيث نفض الماء بيده، قال: فإذا كان النفض مباحًا كان التنشيف مثله أو أولى؛ لاشتراكهما في إزالة الماء. ووقع [للمازري] (¬2) أنه لا خلاف أن التنشيف لا يستحب، وإنما وقع الخلاف في الكراهة. قلت: لكن بعض أصحابنا قال باستحبابه. ووقع في شرح ابن العطار أنا لا نعلم أحدًا من العلماء قال باستحبابه، وهو غريب فإنه وجه في مذهبه، وكأنه تبع المازري (¬3) في ذلك، واحتج من قال بعدم كراهته في الوضوء والغسل بحديث [سعد] (¬4) بن عبادة أنه عليه السلام التحف بملحفة بعد الغسل، لكنه قد ضُعِّف (¬5). وحديث معاذ أنه عليه السلام كان يمسح وجهه بطرف ثوبه، لكنه ضعيف (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: سنن الترمذي رقم (53). (¬2) في جميع النسخ الماوردي، وما أثبت من المعلم (1/ 375)، ويدل عليه ما يأتي في التعليق (3). (¬3) انظر: المعلم (1/ 375). (¬4) في ن ب (سعيد). (¬5) الحديث رواه قيس بن سعد بن عبادة، وليس والده سعد كما ذكره، وهو مخرج في مسند أحمد (3/ 421)، وأبو داود (5163) عون المعبود. (¬6) في الأصل (ضعف). أخرجه الترمذي برقم (54)، وقد قوَّي الحديث أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي، ونقل عن أئمة الجرح والتعديل ما يقوي رشدين بن سعد، وعبد الرحمن بن زياد الأفريقي، أما البغوي في شرح السنة (2/ 15) فقال: إسناده ضعيف. اهـ. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/ 236).

وحجة القول الثالث: أن أم سلمة ناولته الثوب ليتنشف به فلم يأخذه، وحجة الثاني أنه عليه السلام كانت له خرقة يتنشف بها لكنه ضعيف (¬1) أيضًا أو يحمل كما قاله القاضي عياض على الضرورة وشدة البرد ليزيل برد الماء عن أعضائه - صلى الله عليه وسلم -. الثانية عشرة: قولها: "وجعل ينفض الماء بيده" فيه دليل على أن نفض اليد بعد الغسل والوضوء لا بأس له [كما] (¬2) قال القرطبي، وفيه رد على من كره التمندل وقال إن الوضوء يوزن، إذ لو كان كما قال لما نفضه عنه؛ لأن النفض كالمسح في إتلاف ذلك [الماء] (¬3) (¬4). قلت: والمسألة عندنا فيها ثلاثة أوجه ذكرتها في شرح المنهاج والتنبيه. والمختار أنه مباح يستوي فعله وتركه. ¬

_ (¬1) هذا مروي عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه الترمذي برقم (53)، قالت: "كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقة ينشف بها بعد الوضوء". قال الترمذي: حديث عائشة ليس بالقائم. ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء. وقال البغوي: في شرح السنة (2/ 15): إسناده ضعيف. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على الترمذي (2/ 77): هذا تعليل غير صحيح، فإن ميزان الأعمال يوم القيامة ليس كموازين الدنيا، ولا هو مما يدخل تحت الحس في هذه الحياة، وإنما هي أمور من الغيب الذي نؤمن به كما ورد، ذكره الترمذي عن سعيد بن المسيب والزهري.

الثالثة عشرة: يؤخذ من الحديث إعداد ماء الغسل كالوضوء. الرابعة عشرة: يؤخذ منه [أيضًا] (¬1) استحباب تقديم غسل الفرج كما [سلف] (¬2)، ثم الوضوء بعده ثم إفاضة الماء على الرأس ثم على سائر الجسد. الخامسة عشرة: يؤخذ منه أيضًا استحباب التنحي من المغتسل إذا كان وسخًا لغسل القدمين سواء أكمل وضوءه قبل الغسل أم لا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 35/ 4/ 6 - عن عبد الله بن عمر [أن عمر] (¬1) بن الخطاب رضي الله عنه قال: "يا رسول الله، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد [وهو جنب] (¬2) (¬3) ". الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الطهارة، وابنه عبد الله تقدَّم في الاستطابة. الثاني: فيه دلالة لمن يقول بوجوب الوضوء للجنب عند النوم، وهو قول كثير من أهل الظاهر ورواية عن مالك حكاها ابن بشير، وأغرب ابن العربي فحكاه عن الشافعي ولا أعرف من ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري رقم (287) وهذا لفظه. (¬2) زيادة من البخاري رقم (287) وهذا لفظه. (¬3) أخرجه البخاري برقم (287، 289، 290)، ومسلم برقم (306)، والنسائي (1/ 139)، وابن ماجه (585)، والترمذي برقم (120)، وأبو داود (218) عون المعبود، وابن حبان برقم (1212) (1213)، وفيها زيادة لفظة بعد يتوضأ "إن شاء"، وابن خزيمة (1/ 128)، ومالك في الموطأ (1/ 47).

حكاه عنه غيره، وروى صاحب المنتقى عن ابن نافع (¬1) عن مالك أن من تركه فليستغفر الله، فقيل: الاستغفار من لوازم الوجوب؟ وقيل: لا، وذهب ابن حبيب (¬2) وابن العربي (¬3) إلى الوجوب أيضًا، وقال بعض أشياخ المالكية لا تسقط العدالة [بتركه] (¬4) لاختلاف العلماء فيه. ولعل الخلاف مبني على أن أوامره - صلى الله عليه وسلم - هل تدل على الوجوب؟ وقد تقدم المختار فيه من الحديث قبله، والجمهور على الندب إذ في الترمذي (¬5) وأبي داود (¬6) و [النسائي] (¬7) وابن ماجه (¬8) عن عائشة رضي الله عنها "أنه عليه السلام كان ينام وهو جنب لا يمس ماء"، نعم قال البيهقي: طعن فيه الحفاظ، وأجاب هو وقبله ابن سريج: بأن المراد لا يمس ماء للغسل (¬9). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (عن نافع). انظر: المنتقى شرح موطأ مالك (1/ 98). (¬2) في المرجع السابق. (¬3) عارضة الأحوذي (1/ 183). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) الترمذي رقم (118). (¬6) أبو داود، عون المعبود، (225). (¬7) في الأصل (النسوي)، وما أثبت من ن ب. (¬8) ابن ماجة (1/ 106)، ورواه الطيالسي برقم (1397)، وأحمد في المسند من طريقين (6، 43، 171). (¬9) قال ابن قتيبة -رحمنا الله وإياه- في تأويل مختلف الحديث (306) في الجمع بين حديث عمر السابق وحديث عائشة هذا: قولها: "لا يمس ماء"، قال: "إن هذا كله جائز فمن شاء أن يوضأ وضوءه للصلاة بعد =

وقال الشيخ تقي الدين (¬1): في الحديث متمسك للوجوب فإنه وقف إباحة النوم على الوضوء، وقال: هذا الأمر ليس للوجوب، ولا للاستحباب، فإن النوم من حيث هو نوم لا يتعلق به وجوب ولا استحباب، فإذًا هو للإِباحة فتتوقف الإِباحة على الوضوء، وذلك هو المطلوب. واختلف في علة هذا الوضوء، فقيل: ظاهر قول مالك؛ لأنه تعبد، ففي الإِكمال عنه: وضوء الجنب شيء لزمه لا لخوف موت عليه، وقال بعض المالكية: لعله ينشط فيغتسل (¬2)، وقال بعضهم: ليبيت على إحدى الطهارتين خشية الموت في المنام، فعلى هذا تتوضأ الحائض، ولا تتوضأ [على] (¬3) الأول، وينبني على ذلك التيمم أيضًا. وأما أصحابنا: فقالوا الحكمة فيه تخفيف الحدث فلا يستحب للحائض إلَّا أن ينقطع دمها. واختلف المالكية: هل يترك في وضوئه غسل رجليه أم لا؟ فذهب عمر بن الخطاب إلى جواز ذلك، ولم يره مالك، ¬

_ = الجماع ثم ينام، ومن شاء غسل يده وذكره ونام، ومن شاء نام من غير أن يمس ماء، غير أن الوضوء أفضل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا مرة ليدل على الفضيلة، وهذا مرة ليدل على الرخصة، ويستعمل الناس ذلك، فمن أحب أن يأخذ بالأفضل أخذ ومن أحب أن يأخذ بالرخصة أخذ". (¬1) إحكام الأحكام (1/ 389). (¬2) انظر: (المعلم)، فإنه ذكر بمعناه (1/ 371). (¬3) زيادة من ن ب.

[ووسع] (¬1) فيه ابن حبيب، وقد يصح بناؤه عندهم على الخلاف السالف عنهم، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة أنه عليه السلام "كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة" (¬2). واختلفوا: هل ينتقض وضوء الجنب بالحدث الأصغر؟ فروى الباجي (¬3) عن مالك في المجموعة أنه إنما ينتقض بمعاودة الجماع دون البول والغائط. وقال اللخمي: ينتقض بالحدث الأصغر، وبناه على التعليل الثاني وهو ظاهر قول الداودي في تأويل قوله عليه السلام: "توضأ واغسل فرجك" (¬4). وقال القاضي عياض: هو على طهارة ولا ينتقض إلَّا بمعاودة الجماع، ويلزم على القول من علل بالنشاط أنه إذا عاود الجماع عن قرب [لا] (¬5) يعيد الوضوء لأجل النشاط بوضوئه الأول. والجواب: عن هذا [الإِلزام] (¬6) أنه إذا عاد كَسُل فيحتاج إلى وضوء ينشطه ثانيًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (وتبع). انظر: المنتقى (1/ 98). (¬2) مسلم الحيض رقم (305). (¬3) في المنتقى (1/ 98)، وعارضة الأحوذي (1/ 183). (¬4) في الأصل زيادة (ثم)، وما أثبت يوافق ن ب. (¬5) في ن ب (إلَّا). (¬6) في ن ب (الالتزام).

واختلفوا: هل يؤمر الجنب بالوضوء إذا أراد معاودة أهله أم لا؟ فذهب مالك إلى [أنه لا] (¬1) يؤمر بذلك وإنما يؤمر بغسل ذكره فقط [لئلا] (¬2) يدخل على المرأة نجاسة في فرجها بغير ضرورة. وذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله إلى أنه يؤمر بالوضوء. واختلفوا في الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب: هل يؤمر بوضوء الصلاة أم لا؟ فذهب مالك إلى أنه إنما يؤمر بغسل يده (¬3)، وقال ابن عمر: يؤمر بوضوء الصلاة. الثالث: قال ابن الجوزي في كشف مشكل الصحيحين (¬4): دل هذا الحديث على استحباب التنظف من الأقذار عند النوم؛ لأن الإِنسان لا يكاد يتوضأ حتى يغسل ما به من أذى، وإنما أمر الإِنسان بذلك عند النوم؛ لأن الملائكة تبتعد عن الوسخ والريح الكريهة، والشياطين تتعرض للأنجاس والأقذار. وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: (إن الأرواح يعرج بها في منامها، إلى السماء فتؤمر بالسجود عند العرش، فما كان منها طاهرًا سجد عند العرش، وما ¬

_ (¬1) في ن ب (إنما). (¬2) في ن ب (ليلًا). (¬3) في ن ب زيادة (فقط). انظر: في هذا "المعلم" (1/ 371). وانظر: له وما قبله "المنتقي" (1/ 98). (¬4) انظر: هدية العارفين (1/ 522)، والأعلام (3/ 316).

ليس بطاهر سجد بعيدًا عن العرش) (¬1). ثم إن الوضوء يخفف الحدث، ولهذا يجوز عندنا للجنب إذا توضأ أن يجلس في المسجد، هذا كلامه. الرابع: قوله عليه السلام: "نعم" هذه اللفظة يعبر عنها النحاة أنها عدة وتصديق، زاد الجوهري: جواب الاستفهام، وربما ناقض [بلى] (¬2)، إذا قال ليس [لي عندك] (¬3) وديعة [فقولك: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في تاريخه (2/ 292)، ذكره في ترجمة علي بن غالب الفهري، وقال: عن واهب روى عنه يحيى بن أيوب، ولا أراه إلَّا صدوقًا، ويقال: المحاربي، ولا أراه يصح. اهـ. وذكر عليَّ بن غالب ابنُ حبان في المجروحين (2/ 108)، وقال الذهبي: في ميزان الاعتدال توقف فيه أحمد (3/ 149)، وأخرج الحديث أيضًا: البيهقي في الجامع لشعب الإِيمان (6/ 76)، وقال: هكذا جاء موقوفًا وتابعه ابن لهيعة عن واهب. اهـ. وجاء من قول أبي الدرداء عند ابن المبارك في "الزهد" (441) ح (1245). ويغني عه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من بات طاهرًا بات في شعاره ملك لا يستيقظ ساعةً من الليل إلَّا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرًا". أخرجه البزار. انظر: كشف الأستار (1/ 149)، وابن حبان (2/ 194)، والزهد لابن المبارك (441) ح (1244)، والمسند لابن المبارك (37) ح (64)، والطبراني الكبير (12/ 446). (¬2) في الأصل (لا)، والتصحيح من الصحاح (2043)، ولسان العرب (14/ 215). وانظر: مقدمة الكتاب (ص 131). (¬3) في الأصل (لك عندي)، وفي ن ب ساقطة (لك)، وما أثبت من المرجع السابق.

نعم] (¬1) تصديق له، [وبلى] (¬2) تكذيب، ونَعِمْ بكسر العين لغة فيه حكاه الكسائي رحمه الله. قاعدة لها تعلق بهذا الحديث: [التعليق] (¬3) شرعًا على أربعة أقسام: تعليق واجب على واجب كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (¬4)، وتعليق مستحب على مستحب كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (¬5): وتعليق واجب على غير واجب كقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}، إلى قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬6)، وعكسه كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬7). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (لا)، والتصحيح من الصحاح (2043)، ولسان العرب (14/ 215). وانظر: مقدمة الكتاب. (¬3) في ن ب (والتعليق). (¬4) سورة المائدة: آية 6. (¬5) سورة النحل: آية 98. (¬6) سورة البقرة: آية 237. (¬7) سورة الجمعة: آية 10.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 36/ 5/ 6 - عن أم سلمة رضي الله عنها -زوج النبي- صلى الله عليه وسلم -- قالت: "جاءت أم سليم -امرأة أبي طلحة- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، إذا رأت الماء" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: التعريف براويه، وهي أم سلمة هند. وقيل: رملة بنت أبي أمية حذيفة، ويقال: سهيل، ويقال: زهير، ويقال: هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشية المخزومية أم المؤمنين. كنيت بابنها سلمة بن [عبد الله] (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري رقم (130، 282، 3328، 6091، 6121)، ومسلم (313)، والترمذي (122)، ومالك في الموطأ (1/ 51)، والدارمي (1/ 95)، وأحمد في المسند (6/ 377)، وابن ماجه (601)، والمنتقى لابن الجارود (39). (¬2) في الأصل (أبي طلحة)، وفي ن ب (أم سلمة)، والتصحيح من طبقات ابن سعد (8/ 87).

تزوجها في شوال سنة اثنين من الهجرة بعد وقعة بدر وبنى بها في شوال، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد والد [عمر] (¬1) بن أبي سلمة، كذا قال أبو عمر وغيره أنه تزوجها سنة اثنين، وفي كتاب ابن الأثير: سنة ثلاث، وفيه نظر؛ لأن أبا سلمة شهد بدرًا سنة اثنين ومات سنة ثلاث أو أربع لا جرم، قال خليفة وغيره: تزوجها سنة أربع (¬2)، وإنما التي بني بها في شوال عائشة ثم تزوج بعدها حفصة سنة ثلاث، ووقع في المستدرك للحاكم عن أبي عبيدة أنه تزوجها سنة [اثنين] (¬3) قبل وقعة بدر وصوابه [بعد] (¬4). وفي الطبقات (¬5) عن أم كلثوم قالت: لما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي أواقي من مسك وحلة ولا أراه إلَّا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت له إلَّا سترد إليَّ ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، وما أثبت من ن ب. (¬2) الذي في طبقات ابن سعد (87/ 8) من رواية عمر بن أبي سَلَمة قال: خرج أبي إلى أُحد فرماه أبو سلمة الجشمي في عضده بسهم ... إلى قوله: فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة فاعتدَّت أمي، وحلَّت بعشر بقين من شوال سنة أربع فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليالي بقين من شوال سنة أربع، وتوفيت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين. (¬3) في ن ب (اثنتين). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) الطبقات لابن سعد (8/ 95).

فإذا رُدَّت إليَّ فهي لك. قالت: فكان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مات النجاشي [وردت إليه] (¬1) الهدية [فأعطى] (¬2) كل امرأة من نسائه أوقية أوقية من مسك وأعطى سائره والحلة أم سلمة، وفيه إشكال؛ لأن النجاشي توفي سنة تسع فهذا بعد تزويجها بخمس سنين أو أكثر على ما سلف. قال ابن سعد: وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة الكنانية ثم القرشية. وقال خليفة (¬3): أمها أخته بنت عمرو بن الحارث القرشية. قال أبو عمر (¬4): كانت هي وأبو سلمة أول من هاجر إلى أرض الحبشة، [وقيل] (¬5): هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة، وقيل: بل ليلى بنت أبي حثمة. وقال ابن حزم: هي آخر نسائه موتًا، وقال عطاء: آخرهن حفصة، وهو وهم، وقد تقدم في ترجمة ميمونة قول الواقدي فيها. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة حديث وثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاثة عشر حديثًا، ولمسلم مثلها، قال ابن ¬

_ (¬1) التصحيح من ن ب والطبقات. (¬2) في ن ب (وأعطى). (¬3) قال خليفة رحمه الله تعالى في الطبقات (334) أمها: " " عمرو بن الحارث بن مالك بن جذل الطعان: قال المعلق: الكلمة فوقها حبر ولا يمكن قراءتها ولم أجدها في المراجع، وفي طبعة أخرى للطبقات ذكر أن اسمها "حبّة" إلخ. (¬4) في ن ب (عمرو). (¬5) في ن ب ساقطة.

الجوزي: وللبخاري ثلاثة، روى عنها ابنها عمر وابنتها زينب وسعيد ابن المسيب وعروة وعطاء وغيرهم. قال ابن سعد: وهاجر بها أبوسلمة إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا فولدت هناك زينب وسلمة وعمر ودرة، قال مالك: وهاجرت إلى المدينة مع رجل من المشركين وكان ينزل عنها ناحية ويرحل لها بعيرها ويتنحى (¬1) إذا ركبت فلما رأى نخل المدينة قال لها: هذا النخل الذي تريدين، ثم سلم عليها وانصرف، قال الضحاك بن عثمان: وهذا الرجل هو عثمان بن طلحة يعني العبدري. قال ابن المسيب: وكانت من أجمل الناس، قال المطلب بن عبد الله بن حنطب: دخلت [أيم] (¬2) العرب على سيد المرسلين أول العشاء عروسًا، وقامت من آخر الليل تطحن، يعني أم سلمة (¬3). وكان أبوها أحد الأجواد يعرف بزاد الراكب. وروى ابن سعد قصة غيرة عائشة منها لجمالها، وشهدت فتح خيبر فسمعت وقع السيف في أسنان مرحب. ولما انقضت عدتها أرسل إليها أبو بكر فخطبها ثم عمر ثم أرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: مرحبًا به، وروي أنه لم خطبها قالت: إني امرأة مصبية وفيّ غيرة وقد كبرت، قال عليه السلام: "أما الصبية فأنا وليهم- أو قال: ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (عنها). (¬2) في ن ب (اسم). (¬3) الطبقات لابن سعد (8/ 95).

فإليَّ- وأما الغيرة فأنا أدعو الله لها [تذهب] (¬1) وأنا أكبر منها" فلما دخل بها قال: "إن شئت سبّعت عندك وسبعت [عند] (¬2) نسائي وإن شئت ثلّثت ودرت" [قالت] (¬3): بل ثّلث. [و] (¬4) في تاريخ وفاتها خمسة أقوال: أحدها: سنة تسع وخمسين. ثانيها: سنة أربع وستين. ثالثها: سنة اثنتين وستين. رابعها: سنة إحدى وستين حين جاءها نعي الحسن، حكاه ابن عساكر وصححه، وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي ما يؤيده. وخامسها: في أول ولاية يزيد بن معاوية، وكانت ولايته لثمان بقين من رجب سنة ستين في اليوم الذي مات فيه معاوية. واختلف في الشهر على ثلاثة أقوال: أحدها: في ذي القعدة. وثانيها: [في] (¬5) رمضان. وثالثها: ربيع الأول. ¬

_ (¬1) في ن ب (فتذهب). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (فقالت). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب.

واختلف فيمن صلى عليها على قولين: أحدهما: أبو هريرة، قاله الواقدي. الثاني: سعيد بن زيد، وهو غريب جدًا، بل وهم، فإنه توفي سنة إحدى وخمسين أو سنة خمسين، وفي كتاب أبي عمر أنها أوصت بذلك وهو غريب أيضًا فحمل على أنها أوصت بذلك ثم مات قبلها، وكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة وقيل تسعون، ولا خلاف أنها دفنت بالبقيع، ونزل في قبرها ابنها عمر وأخوه سلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي أمية، وعبد الله بن وهب الأسدي [خ م دت ق] (¬1) (¬2). وأما أم سليم: فهي بنت ملحان بكسر الميم على الأشهر وحُكِيَ فتحها، ابن خالد بن زيد، الأنصارية، أم أنس وأخت أم [حرام] (¬3) [و] (¬4) لها صحبة ورواية. يقال: إنها الغميصاء، ويقال: الرميصاء، وقال أبو داود: الرميصاء أخت أم سليم من الرضاعة، واسمها سهلة، ويقال: رملة، ويقال: رُميثة، ويقال أُنَيفة. وضعّفه ابن حبان، وقيل: مليكة، وجزم به جماعة، وزعم الأصيلي أنها بفتح الميم وكسر اللام، وزعم ابن ¬

_ (¬1) هذه الرموز ساقطة من ن ب. (¬2) هذه رموز أصحاب الكتب الخمسة: البخاري ومسلم أبو داود والترمذي وابن ماجه. (¬3) في الأصل (حزام)، وما أثبت من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب.

سعد أن مليكة اسم أمها، وورد ما يؤيده، فقال السمعاني: الرميصاء لقب لها، [أي] (¬1) لرمص كان في [عينها] (¬2) كما قاله السهيلي. روي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا، اتفقا على حديث واحد، وللبخاري حديث، ولمسلم اثنان، روى عنها ابنها أنس وابن عباس وغيرهما، وكانت من عقلاء النساء، وفضلائهن. وفي البخاري عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "دخلتُ الجنة (¬3) فسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذه الرميصاء بنت ملحان أم أنس" وفي رواية "الغميصاء" (¬4). قال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية فولدت له أنسًا فلما جاءها الله بالإِسلام اسلمت مع قومها وعرضت الإِسلام على زوجها فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك، ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري، خطبها مشركًا فلما علم أنه لا سبيل عليها إلَّا بالإِسلام أسلم وتزوجها وحسن إسلامه (¬5)، قال أنس: وكان صداقها الإِسلام، فولد له منها غلام كان قد أعجب به فمات صغيرًا فأسف عليه، ويقال: إنه أبو عمير صاحب النغير، ثم ولد عبد الله بن أبي طلحة فبورك فيه وهو والد إسحاق بن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (عينيها). (¬3) في ن ب زيادة (فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة)، وفي مسلم عن أنس عن النبي دخلت ... (¬4) أخرجها البخاري ومسلم. (¬5) في ن ب زيادة (واو).

عبد الله بن أبي طلحة الفقيه وإخوته كانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم. وروي عن أم سليم أنها قالت: لقد دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ما أريد زيادة، وفي الطبقات أنها شهدت أحدًا ومعها خنجر (¬1). والمعروف أنها أم [أنس] (¬2) ووقع في عدة من كتب الفقهاء كالنهاية والوسيط والبحر المحيط أنها جدته، وصرَّح به ابن منده، وورد في حديث مصرحًا به أيضًا، لكن في حديث صلاة الجماعة الذي ذكره المصف في باب الصفوف فاستفد ذلك من كتابي تذكرة الأخبار بما في الوسيط من [الأخبار] (¬3) فإنه موضح فيه. وكانت هي وأختها خالتين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، ذكره النووي [في تهذيبه] (¬4)، وكان عليه السلام يقيل عندها وتبسط له نطعًا فينام عليه وقال: "إني أرحمها قتل أخوها معي" (¬5)، وشرب عليه السلام عندها قائمًا من قربة فقطعت ذلك الموضع وأمسكته عندها (¬6). وقصتها مشهورة مع أبي طلحة وقد مات ولده فلم تعرفه ¬

_ (¬1) كذا في الطبقات (8/ 425)، وفي سير أعلام النبلاء (2/ 304). (¬2) في ن ب (قليس). (¬3) في ن ب (الأخيار). (¬4) في الأصل (بتهذيبه)، وما أثبت من ن ب. (¬5) أخوها هو حرام بن ملحان، قتل يوم بئر معونة. انظر: طبقات ابن سعد (8/ 428)، والبخاري (6/ 37)، ومسلم (2455). (¬6) طبقات ابن سعد (8/ 428)، والشمائل للترمذي رقم (215).

بذلك حتى تغشاها وأصاب منها، وقولها له آخر الليل: يا أبا طلحة ألم تر أن آل فلان استعاروا عارية فمنعوها فطلبت (¬1) فشق عليهم، قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك عارية من الله فقبضه الله إليه، فاسترجع فحمد الله فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال: "بارك الله لكما في ليلتكما" فحملت بعبد الله (¬2)، قال عباية بن رفاعة: فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم قد ختم القرآن (¬3). ولم أر من أرّخ وفاتها، ولم يذكره أيضًا [المزي] (¬4) في تهذيبه ولا من تبعه. وأما زوج أم سليم: فهو [أبو] (¬5) طلحة زيد بن سهل ابن الأسود أحد النقباء ليلة العقبة. شهد بدرًا والمشاهد، روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان [وسبعون] (¬6) (¬7) حديثًا، اتفقا على اثنين، وانفرد كل واحد بواحد، روى عنه [ابن] (¬8) عباس وأنس وابنه عبد الله وابن ابنه إسحاق بن عبد الله وغيرهم. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (منهم). (¬2) البخاري فتح (9/ 509) في أول العقيقة، ومسلم برقم (2144)، وأحمد في المسند (3/ 196). (¬3) الطبقات (8/ 434). (¬4) في الأصل (المزني). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (وتسعون). (¬7) الذي في سير أعلام النبلاء (2/ 34) نيفًا وعشرين حديثًا. (¬8) زيادة من ن ب.

مات بالمدينة سنة أربع وثلاثين عن سبعين سنة وعاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة، [سرد] (¬1) الصوم، وروي أنه غزا البحر فمات فيه، قال ابن حبان: وكان فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتل يوم حنين عشرين رجلًا بيده وهو القائل: أنا أبو طلحة واسمي زيد ... وكل يوم في سلاحي صيد وصحّ أنه كان يتناول البرد وهو صائم ويقول: ليس بطعام ولا شراب (¬2). وترجمته موضحة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعها [منه] (¬3). الوجه الثاني: قولها "إن الله لا يستحي من الحق" أي لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره، ويقال: يستحي بيائين وبياء واحدة وكلاهما صحيح، والأولى لغة أهل الحجاز، والثانية: لغة تميم، وأصل الثاني كالأول فاستثقلت الكسرة تحت الياء الأولى التي هي عين الكلمة فنقلت إلى الحاء، واستثقلت الضمة على الياء الثانية التي هي ياء الكلمة فحذفت، وجمع ساكنان [فحذفت] (¬4) الياء (¬5). قال ¬

_ (¬1) في ن ب (يسرد). (¬2) أحمد في المسند (3/ 279)، وأخرجه البزار في مسنده برقم (1022)، وقال عقبة: لا نعلم هذا الفعل إلَّا عن أبي طلحة، والجمهور على خلاف رأيه. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل (فحذف)، وما أثبت من ن ب. (¬5) في ن ب زيادة (فيما يظهر).

ابن عطية (¬1): وقرأ ابن كثير وابن محيصن وغيرهما (يستحي) بكسر الحاء وهي لغة تميم كما تقدم، وذكر هذه القراءة القرطبي أيضًا. وأصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفًا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى (¬2). الثالث (¬3): قولها: "إن الله لا يستحي من الحق" أيضًا هو توطئة واعتذار لما ستذكره بعد مما يستحي النساء من ذكره غالبًا. وهو عند الكتّاب والأدباء أصل المكاتبات والمحاورات، ووجه ذلك أنه يقدم الاعتذار بسبب الإِدراك النفسي المعتذر منه صافيًا خاليًا عن العتب، بخلاف ما إذ تأخَّر فإن النفس تستقبل المعتذر منه بقبحه، ثم يأتي العذر رافعًا وفي الأول يكون دافعًا، ولا يخفى الفرق بين الدافع والرافع، وقريب من هذا الإِعلام بالمكروه قبل وقوعه فإن النفس ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز (1/ 151). (¬2) قال الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله في تعليقه على فتح الباري (1/ 389): والصواب: أنه لا حاجة إلى التأويل مطلقًا، فإن الله يوصف بالحياء الذي يليق به ولا يشابه يه خلقه كسائر صفاته وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة فوجب إثباته له على الوجه الذي يليق به، وهذا قول أهل السنة والجماعة في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة، وهو طريق النجاة فتنبه واحذر، والله أعلم. وما ذكره في تعريف الحياء واستحالته على الله هو من قولهم تشبيه الخالق بالمخلوق. فإثبات الصفة لله تعالى يكون إثباتًا كاملًا منزهًا عن الشبيه من جميع وجوهه. اهـ. (¬3) في ن ب زيادة (واو).

تتوطن عليه بخلاف ما إذا فاجأ على غفلة والعياذ بالله وإن [وقع] (¬1) ذهب بعد ذلك. فيستنبط مما ذكرته رضي الله عنها أن الشخص إذا عرضت له مسألة أن يسأل عنها ولا يمتنع من السؤال حياء من ذكرها فإن ذلك ليس بحياء حقيقي؛ لأن الحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلَّا بخير والإِمساك عن السؤال في هذه الحال ليس بخير بل هو شر فلا يكون حياء حقيقيًّا بل [هو] (¬2) مجازي طبعي يسمى خورًا، وقد قالت عائشة: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" (¬3). فإن قلت: إنما يعتذر من المطلوب عادة بالحياء في الإِثبات لا في النهي كما ثبت "إن الله [حيي] (¬4) كريم" فأما في النفي فالمستحيلات تنفي فلا يشترط فيه أن يكون ممكنًا. فالجواب: أنه لم يرد على النفي مطلقًا، بل على الاستحياء من ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) البخاري في صحيحه معلقًا (1/ 228)، والفتح ومسلم في صحيحه (1/ 261) كتاب: الحيض، وأحمد (6/ 147)، وأبو داود (1/ 84)، كتاب: الطهارة، باب: الاغتسال من الحيض، وابن ماجه (642)، وعبد الرزاق (1208)، وأبو عوانة (315). (¬4) في ن ب (حق): والحديث أخرجه أبو داود (1488) في الصلاة، باب: الدعاء، والترمذي (3551)، وحسنه ابن حجر في الفتح (1/ 121) وهو من رواية سلمان، وأنس.

الحق، فمن حيث المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحق فيعود من حينه إلى جانب الإِثبات. الرابع: اختلف العلماء في معنى قولها: "إن الله لا يستحي من الحق" على أقوال: أحدها: ما قدمته في أن معناه: إن الله لا يأمر بالحياء فيه ولا يمنع من ذكره، وبه جزم القرطبي في تفسيره، ونقل عن الطبري أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} (¬1) الآية أن معناها: لا يخشى، وأنه رجحه قال: وقال غيره: لا يترك، وقيل: لا يمنع. ثانيها: أن سنة الله وشرعه أنه لا يستحيي من الحق. ثاثها: إن الله لا يأمر بالحياء في الحق ولا يبيحه، قال الشيخ تقي الدين (¬2): أما تأويله على أنه لا يمنع من ذكره فقريب؛ لأن المستحي يمتنع من فعل ما استحيا منه، فالامتناع من لوازم الحياء، فيطلق الحياء على الامتناع إطلاقًا لاسم الملزوم على اللازم، وأما قولهم: [لا يأمر بالحياء] (¬3) [ولا يقبحه، فيمكن في توجيهه أن يقال: التعبير بالحياء عن الأمر بالحياء] (¬4) متعلق بالحياء، فيصح إطلاق الحياء على الأمر به على سبيل إطلاق المتعلق على المتعلق، وإذا صح إطلاق الحياء على الأمر بالحياء صح إطلاق عدم الحياء من الشيء على عدم الأمر به. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 26 - انظر: تفسير الطبري (1/ 398). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 394) للاطلاع على اختلاف النسخ. (¬3) في إحكام الأحكام (1/ 394) في الحق ولا يبيحه. (¬4) زيادة من ن ب.

وهذه الوجوه من التأويلات تذكر لبيان ما يحتمله اللفظ من المعاني ليخرج ظاهره [عن المنصوصية] (¬1) لا [على] (¬2) أنه يجزم بإرادة [متعين منها] (¬3)، إلَّا أن يقوم على ذلك دليل. وأما قولهم: "إن سنة الله وشرعه إنه لا يستحيي من الحق"، فليس فيه تحرير (¬4) بالغ، فإنه إما أن يسند فعل الاستحياء إلى الله تعالى [أو لا] (¬5) [و] (¬6) يجعله فعلًا لما لم يسم فاعله، فإن أسنده إلى الله تعالى فالسؤال باق بحاله، وغاية ما في الباب: إنه زاد قوله "سنة الله وشرعه" وهذا لا يخلص من السؤال، وإن بنوا الفعل لما لم يسم فاعله، فكيف يفسر فعلًا بني للفاعل [و] (¬7) المعنيان متباينان، والإِشكال إذًا وارد على بنائه للفاعل؟ قال: والأقرب: أن يجعل في الكلام حذف، تقديره: إن الله لا يمنع من ذكر الحق "والحق" هنا خلاف الباطل ويكون المقصود من الكلام: أن يقتدى بفعل الله سبحانه وتعالى في ذلك، أي في قوله: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (¬8) ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (1/ 100) (عن المنصوحية)، وفي جميع النسخ (على النصوصية)، وما أثبت من إحكام الأحكام مع الحاشية. (¬2) زيادة من إحكام الأحكام (1/ 395). (¬3) في جميع النسخ (المعنى)، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬4) انظر: العدة حاشية إحكام الأحكام (1/ 395). (¬5) زيادة من إحكام الأحكام (1/ 100). (¬6) في ن ب (أو)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬7) في ن ب (أو)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬8) سورة الأحزاب: آية 53.

الآية، ويذكر هذا الحق الذي دعت الحاجة إليه من السؤال عن احتلام المرأة. الخامس: قولها: "إذا هي احتلمت" الظاهر أن "هي" زائدة لتوكيد المعنى وتحقيقه، وإن كان الأصل عدم الزيادة لدلالة المعنى على ذلك؛ لأن أصل المعنى لا يختل بإسقاطها (¬1)، ولأن "إذا" هنا فيها معنى الشرط وهو لا يليها [إلَّا الأسماء] (¬2) عند البصريين غير الأخفش، فلا يجوز أن يكون في موضع المبتدأ ولا أن يكون فاعلًا بفعل مضمر، يفسره ما بعده من باب قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} (¬3) لأن الفاعل لا يكون ضميرًا منفصلًا بغير واسطة فتعين زيادتها، نعم يصح أن يكون مبتدأ عند الكوفيين والأخفش على أصلهم. السادس: "الاحتلام" كما قال الشيخ تقي الدين (¬4) في الوضع: افتعال من الحلم -بضم الحاء وسكون اللام- وهو: ما يراه النائم في نومه، يقال منه: حلم -بفتح اللام [واحتلم] (¬5) - واحتلمت به، واحتلمته. ¬

_ (¬1) قول قد جاء في إحدى روايات البخاري في كتاب الأدب، بحذفها. وعند عبد الرزاق (1/ 284). (¬2) في الأصل وفي ن ب (إلَّا أسماء)، والصحيح ما أثبت. (¬3) سورة الانشقاق: آية 1. (¬4) إحكام الأحكام (1/ 100). (¬5) زيادة من ن ب وإحكام الأحكام.

وأما في الاستممال والعرف العام: فإنه قد خص هذا الوضع اللغوي ببعض ما يراه النائم، وهو ما يصحه إنزال الماء، فلو رأى غير ذلك لصح أن يقال له: "احتلم" وضعًا، ولا يصح عرفًا. وقال الماوردي رحمه الله: الاحتلام هو إنزال المني في نوم أو جماع أو غيرهما، وأما النووي رحمه الله [فخصه] (¬1) بما يراه النائم كما سلف. السابع: قوله عليه السلام: "نعم إذا رأت الماء" قال الشيخ تقي الدين (¬2): يحتمل أن يكون مراعاة للوضع اللغوي في قوله: "واحتلمت" فإنا قد بينا أن "الاحتلام" رؤية المنام كيف كان وضعًا، فلما [سألت] (¬3): [هل] (¬4) على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ [وكانت لفظة "احتلمت" عامة، خصص الحكم بما إذا رأت الماء، أما لو حملنا لفظة "احتلمت] " (¬5) على المعنى العرفي كان قوله: "إذا رأت الماء" كالتوكيد والتحقيق لما سبق من دلالة اللفظ الأول عليه. ويحتمل أن يكون الاحتلام الذي يحصل به الإِنزال على قسمين: تارة يوجد معه البروز [إلى الظاهر، وتارة لا، فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا رأت الماء" مخصصًا للحكم بحالة البروز ¬

_ (¬1) في ن ب (فيخصه). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 100)، وقوله في إحكام الأحكام: (قولها). (¬3) التصحيح من الأحكام، وفي الأصل ون ب (سأل). (¬4) في الأصل (هذا)، والتصحيح من إحكام الأحكام ون ب. (¬5) زيادة من ن ب وإحكام الأحكام.

إلى] (¬1) الظاهر، ويكون قوله: "إذا رأت الماء" أفاد فائدة زائدة، وليس لمجرد التوكيد. الثامن: الرؤية: ظاهرها الخروج إلى ظاهر الفرج، وهو ما نقله الرافعي عن الأكثرين، وأما ابن الصلاح فأنكره عليه وقال: إنه مردود (¬2). وقال الشيخ تقي الدين: [إن] (¬3) ظاهر كلام بعض الفقهاء يقتضي وجوب الغسل بالإِنزال إذا عرفته بالشهوة ولا يوقفه على البروز إلى الظاهر، فتكون الرؤية بمعنى العلم ها هنا، أي إذا علمت نزول الماء فعلى هذا يكون حذف هنا للمفعول الثاني لرأى، وفي البسيط عن الأطباء أن منيها لا يخرج منها. وقال الفقيه ناصر الدين ابن المنير رحمه الله في ترجيز التهذيب في مذهب مالك رحمه الله: إن قلت: كيف ينزلن النساء وهن لا يبدو لهن الماء؟ فاعلم أن فرجها مقلوب، يعرف شرح ذلك الأطباء ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب وإحكام الأحكام. (¬2) ويرده ما جاء في رواية خولة بنت حكيم عند أحمد (6/ 409) وفيه "ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل". وعند عبد الرزاق (1/ 284) وفيه "إذا احتلمت المرأة فأنزلت الماء فلتغتسل"، وفي طريق أخرى "إذا رأت الماء رطبًا فلتغتسل"، وأشار إلى ورودها ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 23). (¬3) في ن ب ساقطة. ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (1/ 397) مع الحاشية.

وفي الذخيرة للقرافي: إن المرأة [داخل] (¬1) فرجها ذكرًا وأنثيين، ويبعد أن تحمل [الرؤية] (¬2) هنا على رؤية القلب وهو علمها بلذتها بانتقال مائها من مكان إلى مكان آخر من باطن الفرج، لكنه يظهر في جانب البكر كما سأذكره في الفرع الآتي على الأثر. فرع مهم ينتبه [له] (¬3): وهو أنه لو نزل المني إلى باطن فرج ثيب، ولم يخرج وجب الغسل، أو بكر فلا، والفرق [أن باطن] (¬4) فرج الثيب في حقها كالظاهر فإنه يجب عليها غسله في الاستنجاء، بخلاف البكر فإن باطنه كباطن إحليل الرجل، صرَّح به الماوردي (¬5) وجزم به النووي في تحقيقه وشرحه لمسلم (¬6)، وكلام الغزالي يقتضي الوجوب بالنسبة إلى البكر أيضًا. التاسع: اعلم أنه يجب الغسل على المرأة بالإِنزال كالرجل؛ للحديث الصحيح: "إنما الماء من الماء" (¬7) فيحتمل أن أم سليم لم تسمع ذلك فسألت عنه لمسيس حاجتها إليه، ويحتمل أن يكون سمعته ولكنها سألت عن حال المرأة لقيام مانع منها يخرجها عن العموم وهو ندرة بروز الماء منها. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (الرواية). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) الحاوي الكبير (1/ 260). (¬6) (3/ 220). (¬7) أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد، وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان.

العاشر: يؤخذ من الحديث السؤال عن العلم إذا جهله وعلمه واحتاج إلى زيادة إيضاح. الحادي عشر: يؤخذ منه أيضًا تقديم الاعتذار قبل المعتذر عنه وإن كان واجب الفعل لأجل العادة. الثاني عشر: يؤخذ منه أيض الاحتياط لعدم سوء الظن بالشخص بعدم الأدب العادي وإن لم يكن سوء أدب شرعًا. الثالث عشر: يؤخذ منه أيضًا أن الحياء المطلوب إنما هو فيما وافق الشرع لا العادة. الرابع عشر: يؤخذ منه أيضًا السؤال في الاستفتاء بهل تنبيهًا على عدم معرفة السائل، فلا يقول: هكذا قلت أنا، ولا: كنت أعلم ذلك من [غيرك] (¬1) كذا، وقال فلان بخلاف قولك. الخامس عشر: يؤخذ منه أيضًا أن لفظة [على] (¬2) مقتضاها الوجوب. السادس عشر: يؤخذ منه (¬3) جواب المفتي بنعم مع قيد في الحكم إذا كان. السابع عشر: يؤخذ منه أيضًا أن المرأة يجب عليها الغسل بخروج المني سواء النوم واليقظة، كما يجب على الرجل بخروجه، ¬

_ (¬1) في الأصل (غير)، والتصحيح من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (أيضًا).

وهو إجماع، ويجب عليها بأمور أخرى، محل الخوض فيها كتب الفروع. الثامن عشر: يؤخذ منه (¬1) جواز استفتاء المرأة بنفسها. التاسع عشر: يؤخذ منه أيضًا استحباب حكاية الحال في الوقائع الشرعية مع الحكم. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (أيضًا).

الحديث السادس

الحديث السادس 37/ 6/ 6 - عن عائشة رضي الله عنها [قالت] (¬1): "كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء في ثوبه" (¬2). وفي لفظ لمسلم: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه" (¬3). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في ن ب (قال). (¬2) البخاري رقم (229، 230، 231، 232)، ومسلم (289) في الطهارة، باب: في حكم المني، والترمذي (117)، وأبو داود، عون المعبود (369)، وابن حبان (1378)، وابن ماجه (536). (¬3) رواه مسلم برقم (229)، وأبو داود، عون المعبود رقم (368)، والترمذي (116)، وأبو عوانة (1/ 204، 206)، والنسائي (1/ 156)، وابن ماجه (537، 539)، والطحاوي (1/ 29)، الطيالسي (1401)، وأحمد (6/ 35، 43، 67، 97، 101، 125، 132، 135، 193، 213، 239، 255، 263، 280)، ابن خزيمة (1/ 147)، وابن حبان (2/ 1376).

أحدها: في التعريف براويه، وقد سبق بيانه في الطهارة. ثانيها: في ألفاظه: الجنابة: تقدم بيانها أيضًا، وتسمية الجنابة باسم المني من باب تسمية الشيء باسم سببه، فإن خروج المني ووجوده سبب لاجتناب الصلاة -وما في معناها- وبعده عنها. والفرك: بفتح الفاء: الدلك، وبكسرها: البغض (¬1). ثالثها: في أحكامه: وفيه مسائل: أهمها ما يتعلق بنجاسة المني وطهارته. وقد اختلف العلماء في طهارة مني الآدمي ونجاسته على ستة أقوال: أحدها: نجاسته، وبه قال مالك وأبو حنيفة، إلَّا أن أبا حنيفة قال: يكفي في تطهيره فركه إذا كان يابسًا، وهو رواية عن أحمد، وحكاه صاحب التتمة قولًا للشافعي، وأطلق ابن العربي في شرح الترمذي عن أبي حنيفة أنه يكفي الفرك ولم يخصه باليابس. قلت: والقائل بنجاسته اختلف قوله: هل هو نجس أصالة أو لمروره على مسلك البول؟ وقال مالك: لا بد من غسله رطبًا ويابسًا. ثانيها: أنه نجس ولا تعاد الصلاة منه، قاله الليث. ¬

_ (¬1) قال في لسان العرب (10/ 250): الفِرْكُ بالكسر: البغضة عامة، وفيل: الفِرك: بغضة الرجل لامرأته أو بغضة امرأته له، وهو أشهر. وقد جاء في الحديث: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر" أو قال غيره.

ثالثها: لا تعاد الصلاة منه في الثوب بخلاف الجسد، قاله الحسن بن صالح. رابعها: طهارته، وإليه ذهب الأكثرون وهو أصح القولين عندنا، وأصح الروايتين [عن] (¬1) أحمد، وقد غلط من زعم أن الشافعي تفرد به وهو مروي عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة، وبه قال داود أيضًا. خامسها: طهارته من الرجل ونجاصته من المرأة، وهو قول [للشافعي] (¬2) لكنه شاذ، قال بعض العلماء: وينبغي أن يخص الخلاف فيها بالتي لم تحض، فأما من تقدم لها حيض أو نفاس فينبغي القطع بنجاسته فيها؛ لأن باطن الفرج قد تنجس بالدم وإذا جرى فيه المني تنجس به، وهذا البناء مشكل ويلزم طرده في مني الرجل، لكن أجاب الغزالي عنه بأن رطوبة الذكر لا تكاد تنفصل بخلاف رطوبة فرجها. سادسها: أن مني الخصي نجس؛ لأنه ينجس بملاقاة منفذ البول [لأنه] (¬3) نجس بالأصالة، حكاه الجيلي من الشافعية عن كتاب الخصال للخفاف ورأيته فيه، وهذا لفظه: كل مني نجس إلَّا مني الفحل دون [الخصي] (¬4). وحكاه صاحب الاستقصاء أيضًا. والتعليل المذكور موجود في مني الفحل؛ لأن مجراه غير ¬

_ (¬1) في ن ب (عند). (¬2) في ن ب (الشافعي). (¬3) في ن ب (لا أنه). (¬4) في الأصل ون ب (الخادم)، وما كتب يدل عليه حيث ذكر (الخصي) مصحح. =

مجرى البول كما ستعلمه ويلتقيان في رأس الذكر، احتج لمن قال بنجاسته وهو القياس بالرواية الأولى السالفة في حديث عائشة المذكور وبالقياس على البول والحيض؛ ولأنه يخرج من مخرج البول، ولأن المذي جزء من المني؛ لأن الشهوة تجلب كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة، والاكتفاء بالفرك لا يدل على الطهارة بدليل الاكتفاء في النعل بالدلك بالأرض ولا يدل على طهارة الأذى المتعلق به، واحتج الجمهور: بالرواية الثانية في فركه، ولو كان نجسًا لم يكف [فركه] (¬1) كالدم والمذي وغيرهما. وفي صحيح ابن خزيمة (¬2) وابن حبان (¬3) عن عائشة أيضًا رضي الله عنها "أنها كانت [تحتُّ] (¬4) المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي" وظاهره أنه في الصلاة وهذا أقوى الأدلة: وإنما فركته تنزهًا واستحبابًا وكذا غسله كان للتنزيه والاستحباب، وهذا متعين للجمع بين الأحاديث (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (فركها). (¬2) ابن خزيمة (1/ 147)، وفي الأصل (تحك)، والتصحيح منه. (¬3) ابن حبان (2/ 330). (¬4) ابن خزيمة (1/ 147). وفي الأصل (تحك)، والتصحيح منه. (¬5) قال ابن حبان في صحيحه: كانت عائشة رضي الله عنها تغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان رطبًا؛ لأن فيه استطابة للنفس، وتفركه إذا كان يابسًا فيصلي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وهكذا نقول ونختار أن الرطب منه يغسل لطيب النفس، لا أنه نجس، وأن اليابس منه يكتفى منه بالفرك اتباعًا للسنة. اهـ. (2/ 330). (¬6) في ن زيادة (واو).

قال القرطبي (¬1): لا حجة في حديث عائشة من وجهين، ثم أطال في ذلك بما يمكن الجواب عنه، ولا شك أن مذهبه فيه مخالفة لظاهر الحديث. فإن قلت: [في مسلم] (¬2) أن عائشة قالت لرجل أصاب ثوبه مني فغسله كله: " [إنما كان] (¬3) يجزيك أن رأيته [أن] (¬4) تغسل مكانه، فإن لم تره نضحت حوله، لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه" (¬5)، وظاهر هذا وجوب الغسل عند الرؤية. فالجواب: أنه محمول على الاستحباب؛ لأنها احتجت عليه بالفرك فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها، وإنما أرادت الإِنكار عليه في غسل كل الثوب، فقالت: غسل كل الثوب بدعة منكرة وإنما يجزئك في تحصيل الأفضل والأكمل كذا وكذا. وادَّعى ابن العربي (¬6) أن قوله: "فيصلي فيه" هو من [رواية علقمة] (¬7) والأسود متكلم فيه وغمزه الدارقطني وغيره، وهذا ليس بجيد منه. ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 646). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (إنه كان)، والتصحيح من صحيح مسلم (288) ون ب. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) مسلم رقم (288). (¬6) عارضة الأحوذي (1/ 180). (¬7) في الأصل (عائشة)، والتصحيح من ن ب والعارضة والإِلزامات والتتبع للدارقطني (558).

وأما القياس على الدم والبول: فجوابه: أن المني أصل الآدمي المكرم فهو بالطين أشبه، بخلافهما. وأما قولهم: إنه يخرج من مخرج البول: فجوابه: منع ذلك، بل مجراهما مختلف، ولهذا قال أصحابنا: يجب غسل المني إذا استجمر بالحجر؛ [لأنه] (¬1) يجتمع هو والبول في رأس الذكر وهو نجس معفو عنه بالنسبة إلى الصلاة، غير معفو عنه بالنسبة إلى ما لا يلاقيه من الرطوبات، [فلو] (¬2) كان يجري مجرى البول لما كان لقولهم فائدة ولقالوا بوجوب غسله لتنجسه، وأما في إزالته بالماء فكسائر النجاسات إلَّا ما عفي عنه، والفرد يلحق بالأعم الأغلب. قال القاضي أبو الطيب (¬3): ... وقد ............ ¬

_ (¬1) في ن ب (لا أنه). (¬2) في ن ب (ولو). (¬3) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر القاضي أبو الطيب الطبري، توفي في عشرين ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة، وكان مولده سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، فكان عمره مائة سنة وسنتين. ترجمته: تاريخ بغداد (9/ 358)، الأنساب (8/ 207)، وفيات الأعيان (2/ 512، 515)، طبقات النووي (491). فائدة: قال ابن الصلاح في طبقات الشافعية (491) إذا ذَكَرَ الشيخ أبو إسحاق وشبهه من العراقيين القاضي مطلقًا في فن الفقه فهو أبو الطيب الطبري، وكثيرًا ما يقع ذلك في "تعليق" أبي إسحاق، وإذا جرى ذلك =

[شق] (¬1) ذكر رجل بالروم فوجد كذلك فلا ينجسه بالشك، قال الشيخ أبو حامد (¬2): ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة؛ لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر، وقال ابن العربي (¬3): إنهما يجتمعان عند أصل الثقب فيتنجس مما يخرج عليه وادَّعى أنه لا جواب عن هذا. وأما قولهم: المذي جزء من المني: فجوابه: بالمنع أيضًا، [بل] (¬4) هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج، لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني، ومن به سلس المذي لا يخرج معه شيء من المني. واحتج من فرق بين البدن والثوب: بأنه عليه الصلاة والسلام ¬

_ = من أبي المعالي ابن الجويني وغيره من الخراسانيين فهو القاضي حسين المروروذي، وإذا جرى مثل ذلك في الأصول والكلام من أشعري ونحوه فالمراد ابن الطيب أبو بكر الباقلاني، وإن كان من معتزلي فالمعْنِيُّ به عبد الجبار الأسداباذي والله أعلم. اهـ. (¬1) في ن ب (سبق). (¬2) هو الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد ابن أبي طاهر الأَسفراييني أبو حامد ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وتوفي في شوال سنة ست وأربعمائة، ترجمته تاريخ بغداد (4/ 368، 370)، الأنساب (1/ 237، 238)، دول الإِسلام (1/ 243)، ابن قاضي شهبة (1/ 161)، طبقات ابن الصلاح (373). (¬3) عارضة الأحوذي (1/ 179). (¬4) زيادة من ن ب.

"كان إذا اغتسل من الجنابة غسل ما على فرجه من الأذى" وكانت عائشة تفركه كما تقدم. وجواب هذا يظهر مما تقدم. المسألة الثانية: قولها: "وإن بقع الماء في ثوبه" هو من أثر الغسل، وفي مسلم: "وأنا أنظر أثر الغسل فيه" (¬1) فيحتمل أن تريد أثر الماء، ويحتمل أن تريد أثر المني بعد غسله، فعلى هذا فيه دلالة لمن يرى بتنجيسه على أن النجاسة إذا ذهب عينها لا يضر بقاء أثرها ولونها، وبذلك ترجم البخاري (¬2) على هذا الحديث حيث قال: "باب إذا غسل الجنابة أو غيرها قلم يذهب أثره" ويؤخذ منه أيضًا جواز الصلاة في الثوب الرطب وإن أصابه شيء من الأوساخ الطاهرة كالتراب والطين ونحوهما لا ينجسه. المسألة الثالثة: فيه خدمة المرأة لزوجها في غسل ثيابه وشبهه، خصوصًا إذا كان من أمر يتعلق بها، وهو من حسن العشرة وجميل الصحبة. المسألة الرابعة: فيه أيضًا أنه ينبغي للمقتدي أن ينقل أحوال المقتدى به، وإن كان يُستحى من ذكرها في العادة للناس [فيقتدى] (¬3) بها. المسألة الخامسة: استدلَّ جماعة بهذا الحديث على طهارة ¬

_ (¬1) مسلم (1289). (¬2) البخاري فتح الباري (1/ 334). (¬3) في ن ب (ليقتدي).

رطوبة فرج المرأة، وهو الأصح عندنا؛ لأن الاحتلام مستحيل في حقه عليه السلام على الأشبه فتعين أن يكون المني من جماع، ومنع [ذلك] (¬1) بأنه قد يكون خرج بمقدمات فسقط منه شيء على الثوب. [فائدة] (¬2) قد عرفت حكم مني الآدمي، وأما غيره من الحيوان الطاهر فالأصح عند الرافعي نجاسته، وعند النووي طهارته، وفي وجه ثالث أنه طاهر من مأكول اللحم، نجس من غيره كاللبن. وأما صفة المني فمحل الخوض فيه كتب الفروع، وقد أوضحته في شرح المنهاج والتنبيه والحاوي وغيرها. وهذه أقوال غريبة من مذهب مالك أحببت ذكرها هنا: فيه قوله: فيما إذا خرج عريًا عن اللذة أنه لا يجب الغسل. وفيه قول آخر: فيما إذا قارنته لذة غير معتادة كما إذا احتك أو اغتسل بماء حارٍّ أو لدغته عقرب أو ضرب فأنزل. وفيه قول: أن الواجب الوضوء، إذا قلنا: لا غسل. وفيه: فيما إذا التذ ثم خرج منه بعد ذهاب اللذة، ثلاثة أقوال: أضعفها: التفرقة بين أن يكون عن جماع وقد اغتسل له فلا يعيد، وعلى وجوب الغسل إذا صلى ففي الإِعادة قولان، وعلى عدمه: هل يتوضأ وجوبًا أو استحبابًا؟ قولان، ولو رأى في ثوبه احتلامًا اغتسل، وفي إعادته من أول يوم أو من أحدث [يوم] (¬3) ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين أن يدع لبسه أم لا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، وهي بعد (يكون). (¬2) في ن ب (فرع). (¬3) في ن ب زيادة (يوم).

الحديث السابع

الحديث السابع 38/ 7/ 6 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل". وفي لفظ: "وإن لم ينزل" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الطهارة. الثاني: في ألفاظه. الأول: الضمير المستتر في "جلس" والضميران البارز والمستتر في "جهدها" للرجل والمرأة وإن لم يجر لها ذكر فهو من المضمر الذي يفسره سياق الكلام كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬2)، وكذا قوله: "بين شعبها". من هذا الباب أيضًا. ¬

_ (¬1) البخاري (291)، ومسلم برقم (248)، والترمذي من حديث عائشة (108)، وأبو داود، عون المعبود (213)، وابن ماجه (608) عن عائشة. ورواه أحمد من حديث عائشة (6/ 161، 123، 227، 209)، وابن حبان (1171 - 1175). وقد جاء في مسلم لفظة "أَشعُبِها". (¬2) سورة ص: آية 32.

الثاني: الشعب: جمع شعبة، وأما من قال: أَشْعُبِهَا: جمع شعب. وفي المراد بها خمسة أقوال: أحدها: اليدان والرجلان. ثانيها: الرجلان والفخذان. ثالثها: الاسكتان -وهما حرفا شق فرج المرأة- والفخذان، قاله الخطابي (¬1)، ومنهم من أبدل الاسكتين بالشفرين، قال الأزهري (¬2): ويفترق الاسكتان والشفران في أن الاسكتين ناحيتا الفرج والشفران طرفا الناحيتين. رابعها: الرجلان والشفران. خامسها: واختاره القاضي (¬3) عياض، أن المراد بها نواحي الفرج الأربع، والشعب النواحي، وهذا مثل قوله: "إذا التقى الختانان وتوارث الحشفة"؛ لأنها تتوارى حتى تغيب بين الشعب، ويروى: "إذا التقى الرفغان" (¬4)، ويروى "إذا التقت ¬

_ (¬1) في أعلام الحديث (1/ 310). (¬2) تهذيب اللغة (1/ 442). (¬3) مشارق الأنوار (2/ 254). (¬4) يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال:" إذا التقى الرفغان وجب الغسل" والرفغ أصل الفخذ وقيل أصل الفخذ وسائر المغابن ومنه الحديث: "عشر من السنة تقليم الأظفار ونتف الرفغين" والرفغ من المرأة ما حول فرجها. انظر: لسان العرب (5/ 270)، والمصباح المنير (1/ 233)، وغريب =

المواسي" (¬1) والمراد بها واحد. وقال الشيخ تقي الدين (¬2): الأقرب عندي أن يكون المراد: اليدين والرجلين أو الرجلين والفخذين، فيكون الجماع مكنيًا عنه بذلك، فاكتفى بما ذكر عن التصريح. قال: وإنما رجحنا هذا، لأنه أقرب إلى الحقيقة [إذ] (¬3) هو حقيقة في الجلوس بينهما، وأما إذا حمل على نواحي الفرج فلا جلوس بينهما حقيقة. فائدة: الشعب: من الألفاظ المشتركة فهي واحدة: الأغصان، والفرقة، يقال: شعبتهم المنية، أي فرقتهم، وتطلق ويراد بها المسيل الصغير، والطائفة من الشيء، وغير ذلك كما نبه عليه الجوهري (¬4). الثالث: قوله: "ثم جهدها" هو بفتح الجيم والهاء وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: [حفرها] (¬5) أي كدها بحركته، قاله الخطابي قال: والجهد من أسماء النكاح، وفي حديث آخر: "إذا خالطها" ¬

_ = الحديث لابن الجوزي (1/ 406)، ومن رواية عروة عبد الدارقطني (1/ 148): "إذا مس رفغيه" ... إلخ. انظر: مشارق الأنوار (1/ 296). (¬1) "إذا التقت المواسي فقد وجب الغسل" من رواية الدارقطني خرجه في باب الغسل من المجتبى. اهـ. عارضة الأحوذي (1/ 167). (¬2) إحكام الأحكام (1/ 412). (¬3) في ن ب (أو). (¬4) انظر: مختار الصحاح (145)، مشارق الأنوار (2/ 255). (¬5) في الأصل (جهدها)، وما أثبت من ن ب، وأعلام الحديث (1/ 310).

والاختلاط: الجماع، قال القرطبي (¬1): وعلى هذا ينبغي أن يكون جهدها: نكحها. قلت: وعلى هذا القول لا يحتاج أن يجعل قوله: "بين شعبها" كناية عن الجماع فإنه صرح به بعد ذلك كما قاله هذا القائل. ثانيها: بلغ مشقها، قال أهل اللغة: يقال جهدته [و] (¬2) اجتهدته: بلغت مشقته، وهذا أيضًا لا يراد حقيقته وإنما المقصود منه وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل، فهو كناية [يكتفى] (¬3) بفهم المعنى منها عن التصريح. ثالثها: -قال القاضي (¬4) عياض: وهو الأولى-: أن يكون جهدها: بلغ جهده فيها، والجهد: الطاقة، وهو إشارة إلى الحركة وتمكين صورة العمل، وهو نحو قول الخطابي [يحفرها] (¬5) أي كدها بحركته، وإلاَّ فأي مشقة بلغ بها في ذلك؟ وقيل: طلب منها مثل ما فعل بها، يقال: جهدته، إذا حملته أن يبلغ جهده، قال ابن الأنباري. وقال ابن العربي (¬6): هو من ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 718). (¬2) في ن ب (أو). (¬3) في ن ب (عن). (¬4) مشارق الأنوار (1/ 161). (¬5) في ن ب (حفرها)، وهذا مما يرجح ما وقع في ت (5)، (86). انظر: أعلام الحديث (1/ 310). (¬6) في العارضة (1/ 167): قوله: والمروي "اجتهد" رواية لمسلم (348)، وللدارقطني "واجتهد"، وفي لفظ "وأجهد نفسه" (1/ 113)، البيهقي في =

الجهد بفتح الجيم وهي المبالغة، وهو بناءٌ فيه نظر، قال: والمروي "اجتهد" وهو مثله. الوجه الثالث: في حكمه: فيه حكمان: الأول: أن إيجاب الغسل لا يتوقف على إنزال المني بل متى غابت الحشقة في الفرج وجب الغسل على الرجل والمرأة، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: "وإن لم ينزل" فيكون قوله: "جلس" إلى آخره، خرج [مخرج] (¬1) الغالب، لا أن الجلوس بين شعبها وجهدها شرط لوجوب الغسل، وهذا لا خلاف فيه اليوم، وقد كان فيه خلاف لبعض الصحابة كعثمان وأُبيِّ ومن بعدهم كالأعمش وداود، ثم انعقد الاجماع على ما ذكرنا. وقال الشيخ تقي الدين: خالف بعض الظاهرية داود ووافق الجماعة، ومستند داود ["إنما الماء من الماء" (¬2) وقد جاء] (¬3) [في الحديث] (¬4). "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإِسلام ثم نسخ" رواه الترمذي (¬5) وصححه، فزال ما استندوا إليه. ¬

_ = الكبرى (1/ 163)، الصغرى (1/ 110). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) المراد بالماء الأول ماء الغسل، وبالثاني المني، وفيه جناس تام. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في الأصل (حديث)، والتصحيح من ن ب. (¬5) الترمذي (1/ 185)، وابن حبان رقم (1170، 1176)، وابن خزيمة (1/ 112)، والفتح الرباني (2/ 111)، وموارد الظمآن (80)، والبيهقي =

وقال ابن العربي (¬1): قد روى جماعة من الصحابة المنع ثم رجعوا حتى رُوي عن عمر أنه قال: (من خالف في ذلك جعلته نكالًا) (¬2)، وانعقد الإِجماع على ذلك ولا يعبأ بخلاف داود في ذلك فإنه لولا خلافه ما عُرف، وإنما الأمر الصعب: خلاف البخاري في ذلك وحكمه بأن الغسل أحوط، وهو أحد علماء الدين (¬3)، والعجب منه أنه يساوي بين حديث عائشة في وجوب الغسل بالتقاء الختانين (¬4) وبين حديث .......... ¬

_ = في السنن (1/ 165). قال الشافعي في اختلاف الحديث (92، 93): حديث الماء من الماء ثابت الإِسناد وهو عندنا منسوخ. وأيضًا في المعرفة (1/ 411). وقال الحازمي في الاعتبار (33): هذا حديث يختلف فيه عن الزهري، وعلى الجملة الحديث محفوظ عن سهل عن أُبيِّ. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 135): ذهب الجمهور إلى نسخ حديث "الماء من الماء". وقال في الفتح (1/ 399): الجمهور على إجاب الغسل وهو الصواب. اهـ، انظر القبس (1/ 170، 171). (¬1) العارضة (1/ 169)، والقبس (1/ 169)، وقد رد الحافظ ابن حجر عليه في الفتح (1/ 398). (¬2) ابن أبي شيبة (1/ 87، 88)، وأحمد (5/ 115)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 31). (¬3) فيه حذف. انظر: العارضة (1/ 170). (¬4) ولفظه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ثم الزق الختان الختان فقد وجب الغسل". ولفظه: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم ألزق الختان الختان فقد وجب الغسل"، مسلم (349)، رواه الشافعي في مسنده (1/ 36/ 99)، الأم =

"عثمان" (¬1) و "أُبيِّ" في نفيه [الغسل إلَّا] (¬2) بالإِنزال، وحديث عثمان ضعيف، لأن مرجعه إلى الحسين بن ذكوان المعلم يرويه عن يحيى بن أبي ك ثير عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار عن زيد، والحسين لم يسمعه من يحيى وإنما نقله له، قال يحيى: ولذلك أدخله البخاري (¬3) عنه بصيغة المقطوع وهذه علة [وقد خولف حسين فيه عن يحيى فرواه عنه غيره موقوفًا على عثمان ولم يذكر [فيه] (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه علة ثانية] (¬5)، وقد خولف فيه أيضًا أبو سلمة فرواه زيد بن أسلم عن عطاء عن زيد بن خالد أنه سأل خمسة أو أربعة من ¬

_ = (1/ 31)، أحمد (6/ 47، 97، 112، 135)، الترمذي (109)، أبو عوانة (1/ 289)، البيهقي (1/ 164)، وفيه روايات أخرى بهذا اللفظ أو قريب منه، وجاء من رواية قتادة من حديث أبي هريرة -حديث الباب وفيه-: "وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل"، أخرجه أبو داود بهذا اللفظ (1/ 148). قال الحافظ في الفتح (1/ 395)، ورواه أبو داود من طريق شعبة وهشام معًا، عن قتادة بلفظ: "وألزق الختان بالختان"، بدل قوله: "ثم جهدها" وهذا بدل على أن "الجهد" هنا كناية عن معالجة الإِيلاج. اهـ. (¬1) أخرجه البخاري (1/ 399)، البيهقي في سننه (1/ 164)، مسلم (347)، ابن خزيمة (224)، الطحاوي (1/ 53)، أحمد (1/ 63، 64)، ابن أبي شيبة (1/ 90)، عبد الرزاق (968). (¬2) في جميع النسخ الماء، وما أثبت من العارضة. (¬3) البخاري رقم (292). (¬4) في ن ب ساقطة، ومثبتة في العارضة. (¬5) في ن ب، مكررة.

الصحابة فأمروه بذلك، ولم يرفعه وهذه علة ثالثة، وكم من حديث ترك البخاري إدخاله بواحدة من هذه العلل الثلاث، فكيف بالحديث إذا اجتمعت فيه، وحديث أُبيِّ أيضًا يصعب التعلق به؛ لأنه قد صح رجوعه عما روى لما سمع وعلم مما كان أقوى منه، ويحتمل قول البخاري: الغسل أحوط، يعني في الدين (¬1)، وهو باب مشهور في أصول الفقه، وهو أشبه [بإمامة] (¬2) الرجل وعلمه. قلت: قد أخرج البخاري حديث عثمان من غير طريق الحسين بن ذكوان رواه عن [سعيد] (¬3) [بن] (¬4) حفص عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن عطاء عن زيد بن خالد عن عثمان مرفوعًا (¬5)، وقال الدارقطني: حدَّث به عن يحيى حسينُ المعلم وشيبان وهو صحيح عنهما، ورواه ابن شاهين (¬6) من حديث معاوية بن سلاَّم عن يحيى به، والحسين بن ذكوان ثقة مشهور أخرج له الستة وأما العقيلي فضعَّفه بلا حجة. وقوله: إن البخاري رواه بصيغة المقطوع فيه نظر، بل ذكره في ¬

_ (¬1) في العارضة زيادة "من باب حديثين تعارضا فقدم الذي يقتضي الاحتياط في الدين". (¬2) في الأصل (بأمه)، والتصحيح من فتح الباري (1/ 398)، ون ب، والعارضة. (¬3) في ن ب ساقطة والتصحيح من فتح الباري (1/ 283)، والعارضة. (¬4) في ن ب (رأه) والتصحيح من فتح الباري (1/ 283)، والعارضة. (¬5) البخاري (179). (¬6) ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين (39).

موضع الاحتجاج به، وقد أخرجه مسلم (¬1) بصيغة: عن يحيى، بدل: قال يحيى، وقال ابن طاهر: سمع الحسين بن ذكوان من يحيى، وقد رواه مصرحًا بالسماع من يحيى ابنُ خزيمة في صحيحه (¬2) والبيهقي في سننه (¬3) وغيرهما فلله الحمد. وقوله: إن أبا سلمة خالفه زيد بن أسلم، لا يضره؛ لأن أبا سلمة إمام حافظ وقد زاد فيقبل، ولأن [الراوي] (¬4) قد ينشط فيرفع الحكم. الثاني: قوله عليه السلام: "فقد وجب الغسل" فيه دلالة على أنه ليس على الفور وهو إجماع، نعم اختلف في الموجب له على أوجه عندنا أوضحناها في كتب الفروع، ثم اعلم أن الأحكام كلها من وجوب الغسل والمهر وغيرهما متعلقة بتغييب الحشفة بالاتفاق، ولا يشترط تغييب جميع الذكر. ويتعلق بذلك فروع محل بسطها كتب الفروع، ومسائل تغييب الحشفة كثيرة جدًّا أوصلها الجويني إلى ستين وغيره إلى نيف وسبعين وبعض المالكية إلى نيف وثمانين. وقال ابن أبي [جمرة] (¬5) رحمه الله: إنها أصل لألف مسألة، وقد جمعت منها ما تيسر من ذلك في أوراق مفردة، ولله الحمد. ¬

_ (¬1) مسلم برقم (347). (¬2) ابن خزيمة (1/ 112). (¬3) (1/ 164)، وكذا ابن حبان في صحيحه (1169). (¬4) في ن ب (الراي). (¬5) في ن ب (حمزة).

فروع: من مذهب مالك رحمه الله: أحببت ذكرها هنا: لو جومعت بكر فحملت وجب الغسل عليها؛ لأن المرأة لا تحمل حتى تنزل، أفاده ابن العربي (¬1) عن بعض شيوخه. ولو كان الواطىء والموطوءة غير بالِغَيْن: قال ابن بشير المالكي: مقتضى المذهب أن لا غسل وقد يؤمران به ندبًا. ولو وطئ الصغير كبيرة فلا غسل إلَّا بإنزال. وقيل: يجب. وإن وطئ الكبير صغيرة ممن تؤمر بالصلاة فهل تغتسل الصغيرة؟ قولان. ولو جامع فيما دون الفرج فأنزل ووصل الماء إليه، فإن أنزلت وجب الغسل، فإن لم تنزل ولم تلتذ فلا، وإن التذت ولم يظهر منها إنزال فقولان: قال القاضي (¬2) أبو الوليد: والوجوب عندي قول مالك ونفيه، وهو تأويل قول ابن القاسم عن مالك. ¬

_ (¬1) العارضة (1/ 172). (¬2) المنتقى (1/ 97).

الحديث الثامن

الحديث الثامن 39/ 8/ 6 - عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بن أبي طالب [رضي الله عنهم] (¬1) أنه كان هو وأبوه عند بن عبد الله وعنده قومه، فسألوه عن الغسل؟ فقال: "يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى شَعرًا وخيرًا منك، يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمنا في ثوب" (¬2). وفي لفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرغ على رأسه ثلاثًا" (¬3). الرجل الذي قال "ما يكفيني " هو: الحسن بن محمد بن بن أبي طالب، أبوه: ابن الحنفية. الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه ونبدأ منهم: بجابر: وهو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة ¬

_ (¬1) ساقطة من النسخ، والزيادة من متن العمدة. (¬2) البخاري (252، 255، 256)، ومسلم (329)، والنسائي (1/ 127، 128). (¬3) في ن ب ساقطة.

أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي المدني، أكثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه: بنوه محمد وعقيل وعبد الرحمن وغيرهم، شهد العقبة مع أبيه -يعني الثانية-. وقال عن نفسه: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة لم أشهد بدرًا ولا أحدًا، منعني أبي، قال الواقدي: ووهم من قال: كنت [أمنح] (¬1) أصحابي الماء يوم بدر، ونقل عن البخاري أنه قال ذلك. قال عمرو: سمعت جابرًا يقول: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض. وقال أبو الزبير عن جابر: استغفر لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة، قال هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد يؤخذ عنه [العلم] (¬2). أمه: نسيبة بنت عقبة بن عدي. وشهد مع علي صفين. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعون حديثًا، أخرجا له مائتي حديث وعشرة حاديث، اتفقا منها على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين. مات بعد أن عمي سنة ثمان وسبعين عن أربع وتسعين سنة، وقيل: أربع، وقيل: تسع، وصلى عليه أبان بن عثمان، والقائل بأنه توفي سنة ثمان قال: هو آخر الصحابة موتًا بالمدينة. وقال أبو نعيم: إنما هو آخر العقبيين موتًا بالمدينة، وقال ¬

_ (¬1) البخاري (255)، ومسلم (328). (¬2) في الأصل ساقطة، والزيادة من ن ب والإِصابة (1/ 223).

يعقوب بن سفيان الفسوي: آخرهم موتًا بالمدينة ليس [هو] (¬1) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، إنما هو جابر بن عبد الله بن ريّاب بن النعمان بن سنان. فائدة (¬2): جابر بن عبد الله سبعة، أحدهم هذا. والثاني: جابر بن عبد الله بن ريّاب، صحابي أيضًا وقد سلف آنفًا. والثالث: جابر بن عبد الله بن عمرو السلمي روى عن أبيه عن كعب الأحبار. والرابع: جابر بن عبد الله بن عصمة المحاربي، روى عنه الأوزاعي. والخامس: جابر بن عبد الله الغطفاني، روى عن عبد الله بن الحسن العلوي. والسادس: جابر بن عبد الله بن عبيد بن جابر، روى عن الحسن البصري وكان كذابًا. والسابع: جابر بن عبد الله أبو الخير المصري، روى عنه يونس بن عبد الأعلى. فائدة ثانية: جابر يشتبه (بجاثر) بالمثلثة بدل الباء، و (بخاتر) بخاء معجمة ثم ألف ثم مثناة فوق ثم راء، فالأول [من] (¬3) القبيلة التي [بعث الله] (¬4) منها صالحًا وهم ثمود بن جاثر بن أرم بن سام بن نوح، وأخوه جَدِيس (¬5) بن جاثر، والثاني سابر بن خاتر مغن له أخبار وحكايات [مشهور] (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (قال). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) مشتبه النسبة للذهبي (234)، قال: قبيلة أخرى انقرضوا. (¬6) في ن ب (مشهورة).

وأما أبو جعفر: الذي ذكره الشيخ أيضًا فهو محمد بن علي بن الحسين [بن علي] (¬1) بن أبي طالب القرشي الهاشمي، مدني تابعي يعرف بالباقر، لأنه بقر العلم أي شقه فعرف أصله. أمه: أم عبد الله بنت السيد الحسن، روى عن جديه الحسن والحسين مرسلًا وأبيهما (¬2)، وعن أبيه (¬3) وابن عمر، وأرسل أيضًا عن عائشة وأبي هريرة وجماعة، وعنه ابنه جعفر الصادق والزهري وخلق. مولده: ولد سنة ست وخمسين، ومات سنة أربع عشرة ومائة على أحد القولين، وكان سيد بني هاشم في زمانه علمًا وفضلًا وسؤددًا ونبلًا. وخير محمدي (¬4) على وجه الأرض في زمنه. واتفقوا على إمامته وجلالته وتوثيقه، له ترجمة طويلة في تاريخ دمشق. وقيل: كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة. وأما والده: علي، فهو زي العابدين. قيل له ذلك، لكثرة عبادته، وهو تابعي جليل مدني، ثقة مأمون كثير الحديث عالٍ رفيع. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) قال في سير أعلام النبلاء (4/ 401): روى عن جديه: النبي - صلى الله عليه وسلم - (وعلى بن أبي طالب) مرسلًا. فيكون المعنى بقوله: (وأبيهما) علي بن أبي طالب؛ منه أبا للحسن والحسين. (¬3) في الأصل (الله)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في الأصل (محمدين)، وما أثبت من ن ب.

قال يحيى بن سعيد: كان أفضل هاشمي أدركته، يقول: "يا أيها الناس أحبونا حب الإِسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارًا" (¬1). وأمه: أم ولد، اسمها غزالة (¬2)، كان مع أبيه يوم قتل، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهو مريض، فقال عمر بن سعد: لا تتعرضوا لهذا المريض (¬3). قال أبو بكر بن أبي شيبة: وأصح الأسانيد: الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي، وهذا أحد الأقوال في المسألة. [وقال] (¬4) ابن المسيب: ما رأيت أورع منه (¬5). وقال المقبري: بعث إليه المختار بمائة ألف فكرهها وخاف أن يردها فاحتبسها عنده، فلما قُتل المختار كتب إلى عبد الملك بن مروان في أمرها فكتب إليه: خذها يا ابن عمي فقد طيبتها لك، فقبلها (¬6). وقال أبو نوح الأنصاري: وقع حريق في بيته وهو [ساجد] (¬7) ¬

_ (¬1) ابن سعد (5/ 214)، والحلية (3/ 136). (¬2) وقيل سَلاَّمه: سُلافَةُ بنت ملك الفرس يزدجر. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 386). (¬3) ابن سعد (5/ 212). (¬4) في ن ب (ثم قال). (¬5) الحلية (3/ 141). (¬6) ابن سعد (5/ 213). (¬7) في الأصل (جاسر)، وما أثبت من ن ب.

فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله، النار، فما رفع رأسه حتى [طفئت] (¬1)، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: النار الأخرى (¬2)، وكان إذا قام للصلاة أخذته رعدة فقيل له في ذلك فقال: ما تدرون بين يدي من أن أقوم وأناجي (¬3)؟ [وقيل] (¬4): كان إذا توضأ اصفرّ [ويقول] (¬5): تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ ولما حج وأحرم اصفرّ وانتفض وارتعد ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول لبيك، فيقول (لي) (¬6): لا لبيك، فقيل: لا بد من هذا، فلما لبى غشي عليه وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه (¬7). وقال مصعب الزبيري [عن مالك] (¬8): إنه لما سقط هشم (¬9). وبلغني أنه كان يصلي في [كل] (¬10) يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات (¬11). ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 392). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 392). (¬3) ابن سعد (5/ 216). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في الأصل (ويقولون)، وما أثبت من ن ب. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) سير أعلام النبلاء (4/ 392)، وقال: إسنادها مرسل. (¬8) في ن ب ساقطة. (¬9) سير أعلام النبلاء (4/ 392). (¬10) زيادة من ن ب. (¬11) سير أعلام النبلاء (4/ 392).

وقال طاووس: رأيته ساجدًا في الحجر فأصغيت إليه فسمعته يقول: عُبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك. قال: فوالله ما دعوت بها في كرب إلَّا كشف عني. وعن أبي جعفر: أن أباه قاسم الله ماله مرتين. وكان يحمل الخبز آناء الليل على ظهره يتتبع به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: إن الصدقة في [ظلم] (¬1) الليل تطفئ غضب الشرب، فأثر ذلك في ظهره، وكأنه يبخل فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة في السر. ومناقبه كثيرة وقد أوضحتها فيما أفردته في رجال هذا الكتاب فراجعها منه. مات سنة اثنين وتسعين: وقيل: سنة ثلاث. وقيل: سنة أربع سنة الفقهاء، وسميت بذلك لكثرة من مات فيها منهم، وصلي عليه بالبقيع وهو ابن ثمان وخمسين سنة. وأما جده: فهو أبو عبد الله سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته، روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية، أحاديث، رويا له عن أبيه. وولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع، وقيل: سنة ثلاث. وقتل يوم عاشوراء يوم السبت، وقيل: يوم الجمعة، بكربلاء من أرض العراق وهو عطشان، سنة إحدى وستين، وسمي ذلك العام: عام الحزن، وهو ابن ثمان وخمسين سنة كما سيأتي. قتله سنان بن أنس النخعي قاتله الله، وبه جزم ابن حبان في ثقاته، وقيل: قتله عمر بن سعد بن أبي وقاص، وقيل: شِمر بن ذي ¬

_ (¬1) في الأصل (سواد).

الجوشن، وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي، من حين حز رأسه، وأتى به عبد الله بن زياد وقال: أوقر ركابي فضة وذهبا ... [أنا] (¬1) قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أمًا وأبا ... [وخيرهم إذ يذكرون النسبا] (¬2) وقيل: تولى حمل الرأس بشر بن مالك الكندي ودخل به على ابن زياد وهو يقول الأبيات المذكورة بزيادة في آخرها: [من] (¬3) أرض نجدٍ [وحرا] (¬4) ويثربا فغضب ابن زياد من قوله. وقال: فإذا علمت [أنه] (¬5) كذلك (¬6) فلم قتلته؟ والله لا نلت مني خيرًا أبدًا ولألحقنك به، ثم قدمه فضرب عنقه. وقيل: إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل. وكان سبب قتل الحسين أنه خرج يوم التروية يريد الكوفة، إذ ورد كتابهم عليه يبايعه في نحو من سبعين ألفًا، فمشى إليهم فكان هلاكه على أيديهم، وبلغ عدد مقاتليه الذين أرسلهم زياد اثنان وعشرون ألفًا، وأميرهم عمر بن سعد ووعده أن يملكه مدينة الري ¬

_ (¬1) في سير أعلام النبلاء (3/ 309): (فقد). (¬2) هذا الشطر غير موجود في سير أعلام النبلاء (3/ 309). (¬3) في ن ب (في). (¬4) في الأصل (وبحرًا)، وما أثبت من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب (ذلك).

فباع الفاسد الرشد بالغي، فضيق عليه [أشد] (¬1) ضيق إلى أن قتله قاتله الله. وقتل معه اثنان وثمانون رجلًا من أصحابه مبارزة فيهم الحر بن يزيد ثم قتل بعد ذلك جميع بنيه إلَّا عليًا المسمى بعد ذلك بزين العابدين، كان مريضًا فأخذ أسيرًا بعد قتل أبيه. وقتل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه ووجد في قميصه مائة وبضع عشرة [من] (¬2) بين رمية وطعنة وضربة. قال محمد بن الحنفية: قتل معه سبعة عشر رجلًا كلهم من ولد فاطمة. وقال الحسن: ستة عشر. وقيل: ثلاثة وعشرون. وجثته بكربلاء. واختلف في موضع رأسه على أقوال: أصحها: بالبقيع: [و] (¬3) ثانيها: بدمشق. [و] (¬4) ثالثها: بالرقة، ولم يعرف قط، قال مصعب الزبيري: حج الحسين خمسة وعشرين حجة ماشيًا. قال الشافعي: عن سفيان أن عليًا توفي وهو ابن ثمان وخمسين. وكذا الحسين ابنه وكذا علي بن الحسين. وكذا محمد بن علي بن [الحسين] (¬5). وكذا جعفر بن محمد. قلت: وكان [بين] (¬6) الحسين والحسن طهر واحد. ¬

_ (¬1) في ن ب (الرشد بالغي فضيق عليه أشد تضييق إلى أن قاتله). (¬2) في ن ب (ما). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (بن حسين). (¬6) في ن ب ساقطة.

وأمهما: فاطمة الزهراء. وكان (عليه السلام) (¬1) يقول: "اللهم إني أحبهما [فأحبهما] " (¬2) وقال: أيضًا: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا، حسين سبط من الأسباط" وقال أيضًا: "ابناي هذان سيدا شباب أهل الجنة إلَّا ابني الخالة عيسى ويحيى". قال ابن حبان، في [ثقاته] (¬3): وكان الحسين [يخضب] (¬4) بالسواد. وأما جده -جد أبي جعفر- الأعلى: فقد سلفت ترجمته في باب المذي. وأما الحسن بن محمد بن الحنفية: فكنيته أبو محمد وهو عبد الله بن محمد بن الحنفية. [وكان الحسن هذا] (¬5) يقدم على أخيه في الفضل وهو تابعي مدني ثقة من أوثق الناس. كان الزهري يعد من غلمانه -يعني في العلم-، مات سنة مائة أو تسع وتسعين. فأما أبوه محمد بن علي بن أبي طالب، فهو هاشمي مدني، والحنفية: أمه واسمها خولة بنت جعفر، رأى عمر، وروى عن أبيه وغيره. [وقال] (¬6) ابن الجنيد: لا نعلم أحدًا أسند عن علي أكثر ولا أصح من محمد بن الحنفية. قال [] (¬7) الزبير بن بكار: سمته ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في الأصل (فتاويه)، والتصحيح من ن ب. (¬4) في ن ب (مخضب). (¬5) في ن ب (وهذا وكان الحسن هذا). (¬6) في ن ب (قال). (¬7) في الأصل: (ابن)، والتصحيح من دب.

الشيعة المهدي كانت شيعته تزعم أنه لم يمت (¬1). قال العجلي: وهو تابعي ثقة، وهو أول من وضع الإِرجاء، مات سنة ثلاث وسبعين، وقيل غير ذلك. الوجه [الثاني] (¬2): في ألفاظه: الأول: "الصاع" يذكر ويؤنث. ويقال فيه أيضًا: صوع وصواع، ثلاث لغات، وهو أربعة أمداد بمده [عليه السلام] (¬3)، والمد رطل وثلث كما في الفطرة وفدية الحج وغيرهما بالبغدادي تقريبًا. والرطل: مائة وثلاثون درهمًا على ما صححه الرافعي، ومائة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم على ما صححه النووي. وقيل: بلا أسباع. وقيل: الصاع ثمانية أرطال، والمد رطلان. الثاني: "يكفي" بفتح أوله فقط. الثالث: "أوفى" يحتمل أن يكون بمعنى أطول فيرجع إلى الصفة، وبمعنى أكثر فيرجع إلى الكمية، ويقال: إن هذا الرجل كان رجلًا تامًا عظيم الخلق كثير الشعر. الرابع: قوله: "وخيرًا منك" هو بالنصب معطوف على "من" الذي هو مفعول "يكفي" ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 111). (¬2) في ن ب (الأول). (¬3) في ن ب (عيه الصلاة والسلام).

الخامس: الهاء في (قومه) (¬1) يعود على جابر. والمراد "بالغسل" غسل الجنابة. وقوله: "فقال: يكفيك صاع" أي قاله للسائل عن قدر ما يكفي في الغسل [من الجنابة] (¬2). وقوله في صدر الكلام: "فسألوه عن الغسل"، وقوله في الجواب: "يكفيك صاع" بلفظ الخطاب للواحد يحتمل أنهم سألوه عن [أشياء من] (¬3) أنواع الغسل وأحكامه فسأله بعضهم عن صفته وبعضهم عن مقدار مائِهِ فاشتركوا في السؤال فأضيف إليهم، فنقل الراوي جواب مقدار الماء فقط، ويحتمل أنهم اشتركوا في السؤال عن مقدار الماء فأجابهم بلفظ الواحد، كأنه قال: يكفي أحدكم صاع. وقوله: "فقال رجل: ما يكفيني" ظاهره أنه هذا الرجل غير السائل، إذ لو كان هو لقال: فقال: ما يكفيني. الوجه الثالث: في فقهه. وفيه مسائل: الأولى: أن الصاع كافٍ في الغسل، ولهذا أنكر جابر على الحسن بن محمد، وهذا [في] (¬4) حق من جسده يشبه جسده - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في البخاري رقم (252): (وعنده قوم) بدون الهاء. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة.

[كما] (¬1) نبه عليه الشيخ عز الدبن بن عبد السلام، وقد وردت أحاديث في سنن أبي داود وغيره دالة على مقادير مختلفة (¬2). وذلك -والله أعلم- لاختلاف الأوقات والحالات، وهو دليل على عدم [التحديد] (¬3) وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم (¬4): فأجمع العلماء على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدر. قلت: في نقل الإِجماع نظر، فقد قال القاضي عبد الوهاب المالكي: من الناس من حكى عنه أنه لا يجوز الاقتصار في الوضوء على أقل من مد، وفي الغسل على أقل من صاع؛ لورود الخبر بذلك، وأفاد غيره من المالكية أن هذا القول حكي في مذهب مالك، قال: وهذا لا معنى له؛ لأن ذلك إنما ورد على أنه [إخبار] (¬5) عن القَدْر الذي كان يكفيه [عليه السلام] (¬6) لا أنه لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصار وترك الإِسراف، وقد أجمعو على النهي عن الإِسراف في الماء وإن كان على شاطئ نهر جار، والأظهر عندنا أنه للتنزيه لا للتحريم وخالفت الإِباضية من الخوارج في أن الإِقلال من صب الماء سنة، ولا عبرة بهم. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) أبو داود، عون المعبود (231). (¬3) في ن ب (التجديد)، والواو بعدها ساقطة. (¬4) (4/ 2). (¬5) في ن ب (اختبار). (¬6) في ن ب (عليه الصلاة والسلام).

الثانية: قوله: "ثم يفرغ على رأسه ثلاثًا" فيه دلالة على استحباب التثليث في الغسل، وقد تقدم في موضعه. الثالثة: قال بعض المالكية: فيه دلالة على وجوب [الدلك] (¬1)؛ لأن به يقع التعميم [بالصاع] (¬2) وبالمد، ولا دليل فيه؛ لأن مالكًا يقول: إنه واجب وجوب المقاصد لا وجوب الوسائل. الرابعة: قوله: "ثم أمنا في ثوب" لا خلاف في مقتضاه فإنه يجوز الصلاة في الثوب الواحد وإن كان المصلي إمامًا، وقد روي أنه صلى وثيابه موضوعة عنده [وقال: لئلا يراني] (¬3) أحمق مثلك، أي (¬4) فيتوهم عدم جواز ذلك. الخامسة: في الحديث بيان ما كان عليه الصحابة وغيرهم (¬5) من رجوعهم إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وحالاته، فإن جابرًا لما كان عنده [آل] (¬6) علي بن أبي طالب وسألوه عن الغسل [فأجابهم] (¬7) بالصاع فأجابه أحدهم بعدم الكفاية، فرد عليه جابر بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاله [وأنه عليه السلام] (¬8) أوفى منه شعرًا، فأفحمه ورجع إليه. ¬

_ (¬1) في ن (التدلك). (¬2) زيادة (ولو قال: لئلا به أحمق). (¬3) في ن ب (ولو قال: لئلا به أحمق). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن زيادة (العلماء). (¬6) في ن ب (أبي). (¬7) في ن ب (وأجابهم). (¬8) في ن ب (عليه الصلاة والسلام).

السادسة: فيه المباحثة في العلم والسؤال عنه وإن كان السائل أشرف نسبًا. السابعة: فيه [أيضًا] (¬1) جواز الرد بعنف إذا كان حقًا وصوابًا في إبلاغ الحق وإيصاله إلى المردود عليه. الثامنة: فيه أيضًا وجوب الوقوف عند الحق من غير [ممانعة] (¬2) وجدال. التاسعة: فيه الرد على الموسوسة والتأسي بأفعال الشارع وتساوي الناس فيها. ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) في الأصل ساقطة.

7 - باب التيمم

7 - باب التيمم نفتتحه بمقدمات: [الأولى] (¬1): التيمم في اللغة: القصد. وفي الشرع: قصد إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشرائط مخصوصة. وهو ثابت بالكتاب والسنة (¬2) الشهيرة والإِجماع، ورخصة (¬3) وفضيلة خصت بها هذه الأمة، لم يشاركها فيها غيرها من الأمم، كما صرحت به الأحاديث الصحيحة. وقيل: إنه عزيمة (¬4)، وبه جزم الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، ¬

_ (¬1) في الأصل (الأول)، وما أثبت من ن ب. (¬2) دليله من الكتاب: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. ومن السنَّة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجعلت في الأرض مسجدًا وتربتها لنا طهورًا". (¬3) وهي لغة: الانتقال من صعوبة إلى سهل. وشرعًا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. وفي الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه". (¬4) وهي لغة: القصد المؤكد. وشرعًا: حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح. وهما وصفان للحكم الوضعي. والفرق بينما: أن =

وقال: الرخصة إنما هو إسقاط الفرض به. وقال الغزالي في "المستصفى": إنْ تَيَمَّمَ لعدم الماء فعزيمةٌ. وإن تَيَمَّمَ مع وجوده لمانع كمرض ونحوه فرخصة، وهو حسن. وتظهر فائدة الخلاف: في العاصي بسفره إذا تيمم، هل يقضي؟ وكذا في صحة التيمم بتراب مغصوب، فإن قلنا: عزيمةٌ صح، وإلاَّ فوجهان. وجزم النووي في باب الآنية ومسح الخف من "شرح المهذب" بالصحة، والتيمم بتراب المسجد حرام (¬1)، كما قاله النووي في "شرح المهذب". وحينئذٍ سيأتي في [صحة] (¬2) ما ذكرناه في المغصوب. المقدمة الثانية: أجمع العلماء على أنه مخصوص بالوجه ¬

_ = الرخصة ما جاء على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وهي لا تستباح بالمعاصي، والعزيمة. ما جاء على وفق دليل شرعي خال عن معارض راجح، وهي ما جاز فعلها. ولو في حالة المعصية. اهـ. من حاشية الروض (1/ 213) لابن قاسم. (¬1) قال في الإِنصاف (1/ 286): (تنبيه): قوله (فهو كالماء) اعلم أن التراب كالماء في مسائل منها ما تقدم. ومنها لا يجوز التيمم بتراب مغصوب. قاله الأصحاب. قال في الفروع وظاهره ولو بتراب مسجد، ثم قال: لعله غير مراد. (فائدة): لا يكره التيمم بتراب زمزم مع أنه مسجد، قاله في الفروع والرعاية، انظر الفروع (1/ 223). (¬2) في الأصل (صحته)، وما أثبت من ن ب.

واليدين، سواء تيمم عن الحدث الأصغر، أو الأكبر، تيمم عن كل الأعضاء أو بعضها. الثالثة (¬1): اخْتُلِفَ في وقت نزول فرضه. فقال ابن حبيب: سنة أربع. وقال غيره: سنة ست، وجزم ابن حبان في [ثقاته] (¬2) بأنه سنة خمس، [قال: في] (¬3) غزوة المريسيع في شعبان قصد بني [المصطلق] (¬4) من خزاعة على مائهم، قريبٌ من الفَرْع (¬5)، فقتل منهم رجالَهم، وسَبَى نساءَهم، وكان [ممن] (¬6) سُبِيَ جويريةُ بنتُ الحارثِ، تزوجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل صداقها أربعين أسيرًا من قومها. قال: وفي هذه الغَزَاة سَقَط عِقْدُ عائشةَ، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت آيةُ التيمم [قال] (¬7) أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (المقدمة). (¬2) في الأصل (فتاويه)، والتصحيح من ن ب. الثقات لابن حبان (1/ 264). أقول: رده ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 442)، وقال: ليس بصحيح. اهـ. (¬3) في الأصل (قال)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب (المصطلة). (¬5) الفرع -بفتح الفاء وإسكان الراء وآخره عين مهملة-: قرية من نواحي المدينة بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة. معجم البلدان (4/ 286). (¬6) في ن ب (فيمن). (¬7) في ن ب (فقال).

فبعثوا البعير الذي كانت عليه، فوجدوا العِقْدَ تحته (1). الرابعة: سبب مشروعيته: أنه لمَّا كان أصل الحياة الماءُ، والمصير إلى التراب، شُرِعَ التيممُ به، ليستشعرَ بفقد الماء موتَهُ، وبالتيمم بالتراب إقبارَهُ، فيذهبُ عنه الكسلُ، ويسهلُ عليه ما صعب من العمل. كذا قيل. وقال ابن العربي (2): في خصوصية [هذه الأمة] (3) بالتيمم حكمتان: الأولى: أنَّ طهارتهم الأصليةَ كانت بالماء، فنقل الله منها عند عدمها إلى التراب الذي هو أصل الخلقة، لتكون العبادة دائرةً بين قوام الحياة وأصل الخلقة. والثانيةُ: أن النفس خَلَقَها اللهُ -تعالى- على جبلة وهي أنها كلما تمرنت عليه أنست به، وكلما أعرضت عنه كسلت، فلو لم نوظف عليها عند عدم الماء حركة في الأعضاء، وإقبالًا على الطهور، لكانت عند وجود الماء [تُبعِد] (4) عنها العبادة، فتشق عليها العبادة، فَشَرَع اللهُ لها ذلك دائمًا حتى يكونَ [أنسها] (5) به، "فإنما الخير عادةٌ، والشر لجاجةٌ" (6).

_ (1) البخاري رقم (334) ... إلخ. (2) القبس (1/ 177). (3) في الأصل (هذا الماء)، والتصحيح من ن ب. (4) في ن ب (فيبعد)، (5) في الأصل (إنسًا)، والتصحيح من ن ب. (6) هذا حديث من رواية معاوية -رضي الله عنه- أخرجه ابن ماجه (221)، =

قال: [وإذا] (1) ثبت أنه قائم مقامه، فإنه عامل عمله، في إباحة الصلاة، ورفع الحدث، فإن الحدث ليس بمعنى حسي قائم، وإنما هو عبارة عن المنع من الصلاة، فإذا تَيَمَّمَ وصَلَّى زال المانعُ، وارتفعَ حكم الحدث. قال: وقد مد الله طهارة الماء إلى غاية وهي: وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية وهي: وجود الماء. قال: والذي يقول: إنَّ عليه أَنْ يطلبَ الماءَ لكل صلاة، فإنْ وجده استعمله وصلّى، وإن لم يجده بقي على حكم التيمم الأول، وقد تقدم [الكلام] (3) على هذه المسألة في حديث "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (3) مستوفى. إذا تقررت هذه المقدمات فلنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: ذكر المصنف -رحمه الله- فى الباب ثلاثةَ أحاديث: ...

_ = وأبو نعيم في الحلية (5/ 252)، وابن عدي في الكامل (2/ 132)، والطبراني في الكبير (19/ 904)، ومسند الشاميين (2215)، وهو حديث حسن كما ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير. (1) في ن ب (فإذا). (2) في ن ب ساقطة. (3) الحديث الثاني من كتاب الطهارة.

الحديث الأول

الحديث الأول 39/ 1/ 7 - عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا معتزلًا، لم يصل في القوم، فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وهو: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبدنهم بن سالم بن غاضرة أبو نجيد -بنون مضمونة ثم جيم- الخزاعي أسلم هو وأبو هريرة أيام خيبر. روى عنه ابنه نجيد وغيره، وكان من علماء الصحابة، بعثه عمر إلى أهل البصرة ليفقههم. وكان الحسن يحلف ما قدم عليهم رجل خير لهم منه، كان يلبس الخز، وكانت الملائكة تسلم [عليه] (¬2)، فلما اكتوى تركته، ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (344، 348، 3571)، وأحمد في المسند (4/ 434)، وابن حبان (1298)، والدارقطني (1/ 202)، وابن خزيمة (1/ 137)، والنسائي (1/ 171). (¬2) في ن ب ساقطة.

فلما تركه عادوا (¬1). ولي القضاء أيامًا لابن عامر وقضى على رجل بقضية، فقال: والله لقد قضيت علي بجَوْرٍ، فقال: وكيف ذلك؟ قال: شُهِدَ عليّ بزور، قال: ما قضيت عليك فهو في مالي، والله لا أجلس مجلسي هذا أبدًا (¬2). وقال -رضي الله عنه-: ما مسست ذكري بيميني منذ [بايعت] (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وقال ابن سيرين: ما قدم البصرة أحد يفضل على عمران، وقال قتادة: بلغني عن عمران أنه قال: وَددتُ أني رماد [يذروني] (¬5) الريح (¬6). وكان -رضي الله عنه- ممن اعتزل الفتنة وذمَّها. قال ابن سبرين: سقى بطنه ثلاثين سنة، كل ذلك يعرض عليه الكي فيأبى، حتى [كان] (¬7) قبل موته بسنتين فاكتوى (¬8). قال مطرف عنه: فما أفلحن ولا أنجحن- يعني: المكاوي-. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1226) في الحج، وابن سعد (4/ 290). (¬2) الطبقات (4/ 287)، وسير أعلام النبلاء (2/ 510). (¬3) في ن ب (ما بعث). (¬4) المسند (4/ 439)، وابن سعد والحاكم (3/ 472)، ووافقه الذهبي. (¬5) في ن ب (به روى). (¬6) ابن سعد (4/ 287). (¬7) زيادة من سير أعلام النبلاء (2/ 511). (¬8) ابن سعد (4/ 288).

وقال أبو مجلز: كان ينهى عن الكي، فابتلي فاكتوى، فكان يعج، قال الحسن: وأوصى لأمهات أولاده بوصايا، وقال: من صرخ علّي منهن فلا وصيةَ لها. كان نقثى خاتمه تمثال رجل [متقلد] (¬1) بسيف، جملة أحاديثه مائة حديث وثمانون حديثًا، اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة. ومسلم بتسعة: مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، وكان أبيض الرأس واللحية، وبقي له عقب بالبصرة. فائدة: والد عمران ذكره البخاري وغيره في الصحابة. قال [ابن سعد] (¬2): أسلم قديمًا عمران هو وأبوه وأخته. [وذكره] (¬3) أبو الحسين المرادي في جملة العميان عن الصحابة، وحسنن الترمذي (¬4) حديث إسلامه، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين، وحكى المزي في "تهذيبه" قولًا: إنه مات مشركًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (مقله). (¬2) في الأصل (ابن مسعود)، والتصحيح من ن ب. (¬3) في ن ب (ذكره). (¬4) الترمذي رقم (3483) وأشار ابن حجر -رحمه الله- إلى إسلامه، وأفرد له ترجمة في الإِصابة (2/ 19) وأخرج له النسائي حديثًا من رواية عمران بن حصين عن أبيه وفيه إثبات إسلامه. انظر: تحفة الأشراف (8/ 179). وكذا أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (993 مكرر)، وأحمد بن حنبل في المسند (4/ 444)، وأما في ابن حبان (2/ 128)، فالرجل مبهم من رواية عمران بن حصين وقال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل ...). ثم قال: (فما أقول حين أسلمت ...) الحديث.

وهو عجيب غريب (¬1) (¬2). فائدة ثانية حديثية: في الرواة أربعة عمران بن حصين أحدهم هذا. والثاني: ضَّبِّيّ، حدَّث عن ابن عباس. والثالث: يقال: إنه أبو رؤبة القشيري بصري، روى عن عائشة. والرابع: أصبهاني، روى عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة. الوجه الثاني: [في فن] (¬3) المهمات هذا الرجل المبهم هو: خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري أخو رفاعة [بن رافع] (¬4) شهد بدرًا. قال ابن الكلبي: وقتل يومئذ. وقال غيره: له رواية. وهذا يدل على أنه عاش بعد ¬

_ (¬1) راجع تهذيب الكمال (6/ 525). (¬2) أشار الطبراني في المعجم الكبير قائلًا في ترجمته: وقد اختلف في إسلامه، وقيل: أنه أسلم، وبقال: مات على كفره. والصحيح أنه أسلم (4/ 32) ثم ساق ثلاثة أحاديث، وكلها تدل على أنه مات مشركًا، كما ذكر، والذي ترجح أنه أسلم كما صحح ابن حجر في الإِصابة طرق روايته. (¬3) في الأصل (من)، وما أثبت من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب.

النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) [قاله] (¬2) أبو عمر: وللنظر فيه مجال. الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه. الأول: "المعتزل" المنفرد عن القوم المتنحي عنهم، قال الجوهري (¬3): اعتزله، وتَعَزَّلَه، بمعنى، والاسم: العُزْلةُ. الثاني: "فلان" كناية عن الأعلام، وكذا فلانة. ولذلك لا يثنيان، ولا يجمعان. والظاهر أنه [عليه السلام] (¬4) خاطب الرجل بلفظ: يا فلان! ويحتمل أن يكون خاطبه باسمه، ولكن الراوي كنَّى عنه، إما لأنه نسي اسمه، أو لأمر آخر. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- بعد أن نقل كلام ابن الملقن في فتح الباري (1/ 451): قلت: أما على قول ابن الكلبي فيستحيل أن يكون هو صاحب هذه القصة لتقدم وقعة بدر على هذه القصة بمدة طويلة بلا خلاف. فكيف يحضر هذه القصة بعد قتله؟ وأما على قول غير ابن الكلبي فيحتمل أن يكون هو لكن لا يلزم من كونه له رواية أن يكون عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لاحتمال أن تكون الرواية عنه منقطعة. أو متصلة لكن نقلها عنه صحابي آخر ونحوه. وعلى هذا فلا منافاة بين هذا وبين من قال إنه قتل ببدر إلَّا أن تجيء رواية عن تابعي غير مخضرم وصرح فيها بسماعه منه فحينئذ يلزم أن يكون عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. لكن لا يلزم أن يكون هو صاحب هذه القصة. إلَّا إن وردت رواية مخصوصة بذلك. ولم أقف عليا إلى الآن. اهـ. (¬2) في ن ب (قال). (¬3) انظر: مختار الصحاح (184). (¬4) في ن ب (عليه الصلاة والسلام).

الثالث: قوله: "في القوم" روى بدل "في" " [مع] (¬1) " ومعنى الحرفين: مختلف فإن "في" للظرفية، فكأنه [جعل] (¬2) اجتماع القوم ظرفًا، فأخرج منه هذا الرجل، و"مع" المفتوحة العين وإن كانت ظرفًا، لكن فيها معنى المصاحبة فكأنه، قال: ما منعك أن تصحبهم في فعلهم. الرابع: اعتزال هذا الرجل عن القوم فيه استعمال الأدب. والسنة في ترك جلوس الإِنسان عند المصلين إذا لم يصل معهم. الخامس: "القوم" الرجال دون النساء، لا واحد له من لفظه، كما قاله الجوهري (¬3)، قال -تعالى-: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، ثم قال: {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} (¬4). وجمع القوم: الأقوام. وجمع القوم: أقاويم. وقال ابن السكيت: يقال أقائم وأقاويم. والقوم يذكر، ويؤنث، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا [كانت] (¬5) للآدميين يذكر ويؤنث [مثل] (¬6) "رهط" ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: مختار الصحاح (234). (¬4) سورة الحجرات: آية 10. (¬5) في ن ب (كان). (¬6) في ن ب (مثله).

و "نفر" قال -تعالي-: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} (¬1)، فذكر وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} (¬2) فأنث، فإن صغرت لم تدخل فيها الهاء، وقلت: قويم، ورهيط، ونفير. وإنما يلحق التأنيث فعله، وتدخل الهاء فيما [يكون] (¬3) لغير الآدميين مثل: الإِبل والغنم، لأن التأنيث لازم له. وأما جمع التكسير، مثل: جمال ومساجد. فإن ذكر وأُنث فإنما يريد الجمع إذا ذكرت والجماعة إذا [أُنثت] (¬4). السادس: قوله "ولا ماء" هو بفتح الهمزة اسم "لا" مبني معها، والخبر محذوف أي: لا ماء معي أو عندي أو موجود أو نحو ذلك. السابع: "الصعيد" المراد به التراب، وهو مذهب الأكثرين، كما ستعلمه. وقيل: هو جميع ما صعد على الأرض. الثامن: "يكفيك" بفتح أوله [فقط] (¬5) كما مضى. الوجه الرابع: في فوائده وهي خمس عشرة. الأولى: المشهور الصحيح من مذهب الشافعية: أنه لا يصح التيمم إلَّا بتراب، فلا يصح بالمعادن وغيرها، وبه قال أحمد وداود وابن المنذر (¬6) وحكي عن مالك، قال الأزهري والقاضي ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 66. (¬2) سورة الشعراء: آية 105. (¬3) في ن ب (فيكون). (¬4) في ن ب (أثنت). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) انظر: الأوسط لابن المنذر للاطلاع على هذه الأقوال وأدلتهم (2/ 38، 40).

أبو الطيب: وهو قول أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز بكل أجزاء الأرض، حتى بصخرة مغسولة. وقال بعض أصحاب مالك: يجوز بكل ما اتصل بالأرض كالخشب وغيره. وفي الملح ثلاثة أقوال لأصحابه، أشهرها: إن كان مصبوغًا لم يجز التيمم به، وإلَّا جاز. وخصص ابن حبيب الإِجزاء بعدم التراب. وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالثلج وكل ما علا الأرض. واحتجوا بقوله -تعالى-: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬1) والصعيد: ما علا الأرض وبالحديث المذكور أيضًا، وباقي أحاديث الباب، وبحديث تيممه [عليه السلام] (¬2) على الجدار، كما أخرجه البخاري مسندًا (¬3) ومسلم تعليقًا (¬4)، وغير ذلك من الأحاديث. قالوا: [وهذا] (¬5) يدل على أنه لا يختص بتراب ذي غبار، يعلق بالعضو، كما قلتم. قالوا: ولأنه طهارة بجامد، فلم يختص بجنس كالدباغ. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 6. (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬3) البخاري برقم (337). (¬4) مسلم برقم (369). (¬5) في ن ب (فهذا).

واحتج الأكثرون: بقوله -تعالى-: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬1). وهذا يقتضي أن يمسح بما له غبار، يعلق بعضه بالعضو، وبحديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت الأرض كلها لنا مسجدًا، وترابها (¬2) لنا طهورًا إذا لم نجد الماء" رواه الدارقطني (¬3) في سنة وأبو عوانة (¬4) في صحيحه وهو في مسلم (¬5) أيضًا لكن بلفظ "تربتها" بدل "ترابها". وروى البيهقي (¬6) ء عن ابن عباس قال: "الصعيد: الحرث، حرث الأرض، ولأنه طهارة عن [حدث] (¬7) فاختص بجنس واحد كالوضوء، وبهذا يقع الاحتراز عن الدباغ. وأما قولهم: الصعيد: ما صعد على وجه الأرض، فلا نسلم اختصاصه به، بل هو مشترك يطلق على وجه الأرض، لأنه صعِدَ عليها، وعلى التراب، وعلى الطريق، وكذا نقله الأزهري (¬8) عن العرب، وإذا كان كذلك لم يختص بأحد الأنواع إلَّا بدليل. وحديث حذيفة وتفسير ابن عباس ترجمان القرآن قاضٍ بتخصيص التراب. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 6. (¬2) وما في السنن "تربتها" كما في مسلم، وأما أبو عوانة "ترابها". (¬3) الدارقطني (1/ 175). (¬4) أبو عوانة (1/ 303). (¬5) ولفظه: "فضلنا على الناس بثلاث"، مسلم رقم (522). (¬6) السنن الكبرى (1/ 214). (¬7) في ن ب (طرث). (¬8) انظر: الزاهر (40).

وقال الشيخ تقي الدين في شرح الإِلمام: الألف واللام في قوله [عليه السلام] (¬1): "عليك بالصعيد" يحتمل أن تكون للعهد، إذ هنا صعيد معهود، وهو المكان الذي هم فيه. ويحتمل أن يكون للجنس، فإذا حمل على العهد دل على جواز التيمم بما هو سعيد حينئذٍ لذلك المكان، ولا دليل لنا على تعيين ذلك الصعيد مما اختلف فيه من المسائل، ولا يمكن الاستدلال بهذا عليه. وإن حمل على الجنس رجع الحال إلى معرفة ما يسمى صعيدًا، ويكون الحديث: كالآية في أخذ حكم التيمم منه، ولا شك في تناول اللفظ لذلك الصعيد إما بخصوصه أو بعمومه. وأما حديث: "جعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا" فمختص محمول على ما قيده في حديث حذيفة. وأما التيمم بالجدار: فمحمول على جدار عليه غبار، لأن جدرانهم من الطين، فالظاهر حصول الغبار منها، وحديث النفخ في اليدين من حديث عمار الثابت في الصحيحين محمول على أنه علق باليد غبار كثير فخففه، ونحن نقول: باستحباب تخفيفه. ورواية مسلم (¬2) [فيه] (¬3) "إنما [كان] (¬4) يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬2) مسلم برقم (368)، والبخاري (338). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة في ن ب.

ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" محمولة على ما إذا علق بها. [من] (¬1) غبار كثير. ولا يصح أن يعتقد أنه أمره بإزالة جميع الغبار. والفرق: بين التيمم والدباغ، أن المراد بالدباغ: تنشيف فضول الجلد، وذلك يحصل بأنواع فلم يختص، والتيمم: طهارة تعبدية، فاختصت بما جاءت به السنة كالوضوء. [الثانية] (¬2): في الحديث دليل صريح على جواز تيمم الجنب، وسيأتي ما فيه في الحديث الآتي بعد. الثالثة: فيه الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، لأن هذا المعتزل عن الناس لأجل الجنابة لوجوه عديدة وتعيينه لبعضها طريقة اجتهادية، فإنه يحتمل أن يكون لأنه لا يعلم مشروعية التيمم، ويحتمل أن يكون لاعتقاده أن الجنب لا يتيمم، وإن تيمم المحدث كما نقل عن بعض الصحابة، ثم إذا لم يتيمم كان كمن عدم الماء والصعيد، فأحتمل أن يصلي ويقضي، ويصلي ولا يقضي، ولا يصلي ويقضي، ولا يصلي ولا يقضي، كما اختلف [الفقهاء] (¬3) في ذلك. والذي يتعلق بالقضاء لا يعلم لما اعتقده فيه، لكنه رجح عدم الأداء، أو بقع احتماله التيمم مع احتماله القضاء، وتعيين المحتملات طريقة الاجتهاد. ولأنه عمل على كون التيمم ليس مشروعًا وأن ذلك قبل نزول الآية، لأن قوله ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (العلماء).

[عليه السلام] (¬1): "عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك" دليل على تقدم مشروعية التيمم على هذا القول، لأن مشروعية التيمم لم تعلم إلَّا بالآية ونزولها، فالحكم بمقتضاها يقتضي تقديمها، وأخص من هذا الاجتهاد بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع إمكان من يفتيه، قاله كله الشيخ تقي الدين في "شرح الإِلمام". الرابعة: قوله: "أصابتني جنابة ولا ماء". [لا] (¬2) ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد: أن المحدث لا يتيمم، لأن مشروعية التيمم كانت متقدمة على زمن إسلام عمران بن حصين راوي هذا الحديث، كما تقدم، فإنه أسلم عام خيبر، ومشروعية التيمم كانت قبل ذلك، كما سلف أول الباب. وإنما ينبغي أن يحمل على أنه اعتقد: أن الجنب لا يتيمم، كما سيأتي عن عمر وغيره. وتكون الملامسة المذكورة في قوله -تعالى-: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} عندهم أعني عند من شك في تيمم الجنب محمولة على غير الجماع؛ لأنهم لو حملوه على الجماع لكان تيمم الجنب مأخوذ من الآية، فلم يقع لهم شك في تيمم الجنب، إلَّا أن يكون هذا الرجل لم يبلغه نزول الآية، فيحمل على أنه لم يعلم مشروعية التيمم، وفيه بعد. فائدة: لا خلاف أنه يجب عليه تحصيل الماء بثمن مثله، وأبعد من قال بالمنع، كما حكاه صاحب "الحلل" الزناتي من المالكية، ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬2) في ن ب ساقطة.

عمن لا يعتد بخلافه، إنّ دفع الثمن في شراء الماء للطهارة من: إضاعة المال، والنفقة التي لا يؤجر عليها، فإن الله -تعالى- جعل منه بدلًا، وهو: التراب الذي لا يتصور فيه غرم. الخامسة: في حديثه بسط لعذره لما فيه من عموم النفي: كأنه نفى وجود الماء بالكلية، بحيث لا يوجد بسبب أو سعي أو غير ذلك يحصله، فإذا نفى وجوده مطلقًا كان أبلغ في النفي وأعذر له، قال الشيخ تقي الدين: وقد أنكر بعض المتكلمين على النحاة في تقديرهم في قوله: "لا إله إلَّا الله لنا أو في الوجود" (¬1). ¬

_ (¬1) قال الزركشي في معنى: لا إله إلَّا الله (ص 80): ما نصه الخامس: قول لا إله إلَّا الله. قدر فيه الأكثرون خبر "لا" محذوفًا. فقدر بعضهم الوجود. وبعضهم "لنا" وبعضهم "بحق". قال: لأن آلهة الباطل موجودة في الوجود كالوثن. والمقصود. نفي ما عدا إله الحق. اهـ. قال في الدرر السنية المجلد الثاني (159) وقد غلط بعض الأغبياء، وقدر الخبر (موجود)، وبعضهم قدّره "ممكن" ومعناه أنه لا يوجد. ولا يمكن وجود إله آخر. وهذا أجهل بمعنى الإِله. ولو أريد بهذا الاسم الإِله الحق وحده لما صح النفي من أول وهلة، والصواب: أن يقدر الخبر (حق) لأن النزاع بن الرسل وقومهم في كون آلهتم حقًّا أو باطلًا قال -تعالى-: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)} وأما إلهية الله فلا نزاع فيها، ولم ينفها أحد ممن يعترف بالربوية. لكن زعموا أن إلهية أصنامهم وأندادهم حق أيضًا. ولذلك قالت لهم رسلهم {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وبادر منهم من جحد ذلك بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} إلى أن قال فيكون النفي هذا منصبًا على الخبر. وهو (حق) المقدر، وتقديره موجودًا، أو ممكن لا يفيد ما تقدم إلَّا إذا وصف الاسم بحق، وقيل: =

وقال: إن نفى الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة، فإنها إذا [نفيت] (¬1) مقيدة كان ذلك دليلًا على سلب الماهية مع القيد، وإذا نفيت غير مقيدة كان نفيًا للحقيقة، وإذا انتفت الحقيقة انتفت مع كل قيد، أما [إن] (¬2) نفيت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر هذا أو معناه. قال غيره: وفي هذا الإِنكار نظر. فإن قولنا: "لا إله في الوجود إلَّا الله"، يستلزم نفي كل إله غير الله قطعًا؛ فهو في الحقيقة نفي [الحقيقة] (¬3) مطلقة لا مقيدة، وقد قدره ابن عطية: "لا إله [إلَّا الله] (¬4) معبود أو موجود" وهو قريب مما تقدم، أو هو من حيث المعنى فلا معنى لهذا الإِنكار. وليت شعري ما يقدر هذا المنكر فيه إذ لا بد من تقدير الخبر، وإلَّا أدّى ذلك إلى خرم قاعدة [عربية] (¬5) مجمع عليها (¬6). ¬

_ = لا إله حق موجود، فحينئذ يستقيم الكلام، ويرجع إلى ما قلنا. ملاحظة: رجح الزركشي أن يكون الخبر المقدر (حق) (ص 81) قال المعلق: حتى تكون الكلمة جامعة لثبوت ما يستحيل نفيه وهو الله -تعالى-: وجامعة أيضًا لنفي ما يستحيل ثبوت وهو الإِله غير الله تعالى. (¬1) في ن ب (انتفيت). (¬2) في ن ب (إذا). (¬3) في ن ب (للحقيقة). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (غريبه). (¬6) أي لا بد من تقدير الخبر أنظر الزركشي معنى لا إله إلَّا الله.

السادسة. فيه أن العالم إذا رأى من فعل فعلًا يحتمل أن يسوغ، ويحتمل أن لا يسوغ أن يسأله ليتبين حاله. السابعة: فيه أن انفراد الإِنسان بحضرة المصلين أمر منفي على صاحبه. الثامنة: فيه حسن الملاطفة والرفق في إنكار ما ينكر، ويحتمل لما هو منكر لإِخراجه [عليه السلام] (¬1) [كلامه] (¬2) في معرض السؤال عن السب المقتضي للترك. فإن قلت: لما قال [عليه السلام] (¬3) لذلك الرجل الذي وجده جالسًا: "ما منعك أن تصلي بالناس! ألست برجل مسلم؟! " (¬4) ولم ينكر علي [هذا] (¬5): فالجواب: أن ذلك كان في الحضر في المسجد، وهذا كان في السفر، لأن هذا حديث الراوي، ولم يورده المصنف بكماله، والسفر مظنة الإِعذار من إعواز الماء وغيره؛ فهو أقرب إلى احتمال ما هو عذر من حالة الحضر ومن هذا يظهر رد ما قاله ابن [العطار] (¬6) في شرحه: إن الظاهر أنه كان في المسجد، ثم بني عليه ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام)، (¬2) في ن ب (كلام). (¬3) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬4) ابن حبان (4/ 60). (¬5) في ن ب (ذلك). (¬6) في ن ب (القطان).

لبث الجنب في المسجد، وأن جمهور العلماء على المنع منه خلافًا لأحمد والمزني وطَوَّلَ في ذلك. التاسعة: فيه أمرٌ بالصلاة جماعة. العاشرة: فيه ذكر إبداء العذر لنفي اللوم. الحادية [عشر] (¬1): هذه اللفظة قد تدل على أن الذي عرض للمفعول هو اعتقاد أن التيمم ليس سائغًا للجنب؛ لأنه [عليه السلام] (¬2) أحاله على الصعيد من غير بيان [للتعبد] (¬3) بما يفعله، فيه وصفة تيممه به، ولم يرد على قوله "عليك بالصعيد" هذا هو الظاهر من اللفظ، ولو كان غير عالم بكيفية التيمم وصفة العمل فيه، لوجب بيانه، واحتمال بيانه من غير أن ينفك البيان. خلاف ما دل عليه ظاهر اللفظ. الثانية عشر: فيه الاكتفاء في البيان للأحكام الشرعية بما يحصل به المقصود من الأفهام، دون نفي ما هو صريح غير محتمل لشيء آخر، لقوله [عليه السلام] (¬4): "عليك بالصعيد". الثالثة عشر: فيه دليل على اعتبار ما دلت عليه القرائن من فهم المقصود في العام والمطلق إذا اقتضت القرائن تخصيصًا أو تقييدًا؛ فإن قوله [عليه السلام] (¬5): "فإنه يكفيك" لا بد أن يفهم منه "فإنه ¬

_ (¬1) في ن ب (عشرة) ... إلخ. (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬3) في ن ب (التعبد). (¬4) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬5) في ن ب (عليه الصلاة والسلام).

يكفيك في هذه الحالة أو في مثل هذه الحالة". [ولا] (¬1) يؤخذ منه إطلاق الكفاية، بل يتقيد بما يؤخذ منه الشرط والركن في التيمم. الرابعة عشر: قد يؤخذ من الاكتفاء عدم القضاء للمسافر المتيمم، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهو متأخر أيضًا عن الأمر بالتيمم كما سلف. الخامسة عشر: فيه الجريان على تنبيه العادة التي أجراها الله في خلقه، وعدم التوقف لأجل انحرافها، وأن ذلك غير منفي [ولا يناقض] (¬2) في التوكل والتوحيد يحرك نظرًا كثيرًا في مسائل التوكل والانتصاب، وما ينافي التوكل في المباشرات للأسباب، وما لا ينافيه، وله موضع آخر إلَّا أن الذي يحتاج إليه هنا هو أن مثل هذا السبب غير مناف. ¬

_ (¬1) في ن ب (ولأنه). (¬2) في ن ب (ولا ناقض).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 40/ 2/ 7 - عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: "بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما [تتمرغ] (¬2) الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: "إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا"، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وهو: عمار بن ياسر صحابي بن صحابي بن عامر بن مالك [العبسي] (¬4) أبو اليقظان مولى بني مخزوم. ¬

_ (¬1) في ن ب (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في ن ب (تمرغ). (¬3) رواه البخاري برقم (339، 340، 341، 342، 343، 345، 346، 347)، ومسلم (368)، والترمذي (144)، وأبو داود عون المعبود (317)، والنسائي (1/ 168، 170)، وابن ماجه (569)، والدارقطني (1/ 183)، وابن حبان (1301، 1302، 1303)، وأبو عوانة (1/ 303، 304). (¬4) في ن ب (العنسى).

وأمه سمية مولاة أبي حذيفة بن المغيرة صحابية أيضًا. وكان [وأبواه] (¬1) ممن عذب في الله ورد أنه [عليه السلام] (¬2) مر بهم وهم يعذبون، فقال: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" (¬3). ثم إن أبا جهل قتل سمية طعنها بحربة في قُبُلها، فكانت أول شهيدة في الإِسلام، ثم هاجر عمار الهجرتين كما سيأتي. روى عنه ابنه محمد وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين. له عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اثنان وستون حديثًا اتفقا على حديثين. وقال ابن الجوزي: على واحد، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث. وقال البرقي: جاء عنه من الحديث تسع وعشرون، وأكثرها لأهل الكوفة. وثلاثة لأهل المدينة. قال عبد الله: أول من أظهر إسلامه سبعة منهم عمار، فعُذِبُوا في الله إلَّا [أبْا] (¬4) بكر فمنعه قومه. هاجر - رضي الله عنه - الهجرتين، وصلَّى إلى القبلتين. وقيل: لم يهاجر إلى الحبشة. ¬

_ (¬1) في ن ب (وأبوه). (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام)، (¬3) رجاله ثقات لكنه منقطع. مجمع الزوائد (9/ 293). (¬4) في الأصل (أبو)، والتصحيح من ن ب.

وفيه نزل قوله -تعالى-: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬1) قال أبو عمر: أجمع أهل التفسير عليه، وشهد بدرًا والمشاهد كلها وأبلى ببدر بلاءً حسنًا، وشهد اليمامة، وآخا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حذيفة بن اليمان، وهو أول من بنى مسجدًا في الإِسلام. وهو مسجد قباء حكاه ابن الأثير. وعن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة تشتاق الجنة إليهم: علي، وسلمان، وعمار" (¬2) وقال -عليه السلام- في حقه: "مرحبًا بالطيب المطيب" (¬3)، وقال في حقه: "مليء إيمانًا إلى مشاشه" (¬4). وقال: "واهتدوا بهدي عمار" (¬5) وقال: "من أبغض عمارًا أبغضه الله، ومن عاداه عاداه الله" (¬6)، ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 106. (¬2) أخرجه الترمذي (3798) في المناقب، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث الحسن بن صالح. وصححه الحاكم (3/ 137) ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه الترمذي (3799) في المناقب، والحاكم (3/ 388)، وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) أخرجه ابن ماجه (147)، وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 395)، وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وقال الحافظ في الفتح (7/ 29): إسناده صحيح. (¬5) أخرجه أحمد في المسند (5/ 385، 402)، وصححه ابن حبان (21393)، والحاكم (3/ 75)، ووافقه الذهبي. (¬6) في ن ب زيادة لفظة (ورسوله) ليست موجودة في الحديث، والحديث أخرجه أحمد (1/ 89، 90)، والحاكم (3/ 389، 390)، وصححه ووافقه الذهبي.

أخرجه النسائي، وتواترت الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" (¬1) وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته. وكان الذي قتله أبو غادية الجهني، وقيل: المزني طعنه برمح فسقط وهو ابن أربع. [أو] (¬2) ثلاث وتسعين سنة، قتل في وقعة صفين بين علي ومعاوية في صفر، ربيع الأول سنة سبع وثلاثين. قال ابن حبان في ثقاته: وقد قطعت أذنه يوم اليمامة. وكان عدد من قُتل في هذه الوقعة أعني وقعة صفين [سبعون] (¬3) ألفًا: خمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق منهم عمار، وخمسة وأربعون ألفا من أهل الشام. وصلّى عليه علي ولم يغسله، ومناقبه كثيرة جدًّا، ولاه عمر الكوفة، ورضي أهلها به. [فائدة] (¬4) ياسر: والد عمار يشتبه بباشر بالباء الموحدة بدل المثناة تحت وهو ابن حازم [روى] (¬5) عنه المقدمي. وبناشر: بالنون والشين المعجمة وهو والد أبي ثعلبة الخشني (¬6). الوجه الثاني: في ألفاظه: يقال: بعثه وابتعثه بمعنى أي أرسله فابتعث. وهو من المطاوع، ومنه بعثت الناقة أثرتها، وبعثه من منامه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2195)، وأحمد (3/ 5) من عدة طرق. (¬2) في ب (وقيل). (¬3) في الأصل (سبعين)، وما أنت من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) ليوافق مشتبه النسبة للذهبي (664). (¬6) وقيل ناشب. مشتبه النسبة للذهبي (664).

أي [نبهته] (¬1) وبعث الله الموتى أي: نشرهم ليوم البعث، وانبعث في السير [أي] (¬2) أسرع فيه. والحاجة: معروفة، قال الجوهري (¬3): والجمع: حَاجٌ، وحَاجَاتٌ، وحِوَجٌ، وحَوَائج، على غير قياس: كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي ينكره، ويقول: هو مولد، وإنما أنكره لخروجه عن القياس، وإلَّا فهو كثير في كلام العرب. والتمرغ في الشيء التمعك فيه. ويقال للموضع المتمرغ فيه، متمرغ، ومراغ، ومراغة. وقوله كما " [تتمرغ] (¬4) الدابة" أصله تتمرغ فحذف إحدى التائين تحقيقًا وهو القياس في كل تاءين اجتمعتا في أول الفعل المضارع بشرط اتحاد حركتهما، فإن اختلفتا وجب الإِثبات نحو: تتغافر الذنوب، وتتواضع الأمة وشبه ذلك. والصعيد: تقدم الكلام عليه في [الحديث] (¬5) قبله. والدابة: في [أصل] (¬6) اللغة كل ماش على وجه الأرض، وقد أخرجها العرف عن هذا الأصل فاستعملها أهل العراق في الفرس ¬

_ (¬1) في ن ب (نبهه). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) مختار الصحاح (74). (¬4) في ن ب (تمرغ)، وهو الذي يدل عليه كلام المؤلف. (¬5) في ن ب (الكلام). (¬6) في ن ب ساقطة.

خاصة، وأهل مصر في الحمار، قال الجوهري: وقولهم أكذب من دب ودرخ، أي: أكذب الأحياء والأموات (¬1). وقوله: "أن يقول" أي: أن يفعل، فأطلق القول على الفعل مجازًا، وقد قيل: إن العرب أطلقت القول في كل فعل. يكفيك: [هو] (¬2) بفتح أوله فقط، كما مضى في الحديث قبله، واليد: مؤنثة لا غير وهي اسم للجارحة المعروفة من المنكب إلى رؤوس الأصابع. والكف: مؤنثة وقد تذكر سميت بذلك لأنها تكف عن [البدن] (¬3) أي تدفع وقيل: لأن بها يضم ويجمع. وفي الإِنسان عشرة أشياء أولها كاف: كوع، كرسوع، كف، كتف، وكتد -وهو طرف [عظم] (¬4) لوح الكتف- كاهل، [كلية] (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (89). قال أبو حمزة الأصفهاني -رحمنا الله وإياه- في سوائر الأمثال على أفعل (314)، معناه: أكذب الصغار والكبار، دب لضعف الكبر، ودرج لضعف الصغر، ويقال: بل معناه: أكذب الأحياء والأموات. لأن الدبيب للحي. والدروج للميت، فيقال: من هذا: قد درج القوم، إذا انقرضوا، ويقال: في الأول درج الصبي لأول المشي منه. اهـ. انظر: الجمهرة (2/ 173)، المستقصى (1/ 292). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (اليداي). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في لسان العرب (ركلَّة).

وهو ما بين الكتفين، كبد، كمرة وهي الحشفة، كعب. والوجه: مأخوذ من المواجهة، ويقال: له المحيا [أيضًا] (¬1). الوجه الثالث: في فوائده: الأولى: فيه مشروعية التيمم للجنب، وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ إلَّا عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي، فإنهم منعوه. قاله ابن الصباغ وغيره. وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا. واحتج من منعه: بأن الآية فيها إباحة للمحدث فقط. وقال الشيخ تقي الدين (¬2): كأن سبب التردد ما أشرنا إليه من حمل الملامسة على غير الجماع مع عدم وجود دليل عندهم على جوازه. واحتج الجمهور بالآية [أيضًا] (¬3)، فإن قوله -تعالى-: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} (¬4) يعود إلى المحدث والجنب جميعًا، فإنه قال قبل ذلك أيضًا: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقد ثبت في الصحيحين (¬5) من حديث أبي موسى الأشعري "قال عبد الله بن مسعود: لو أن جنبًا لم يجد الماء شهرًا لا يتيمم. فقال له ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام (1/ 428). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) سورة المائدة: آية 6. (¬5) البخاري (347)، ومسلم (368).

أبو موسى: وكيف تصنع بهده الآية {فَلَمْ تَجِدُوا}. فقال عبد الله: لو رخص لهم لأوشكوا إذا أبرد عليهم الماء أن يتيمموا"، فهذا دليل على أنهم كانوا متفقين على أن الآية تدل على جواز التيمم للجنب. ودليل المسألة من السنة [أيضًا] (¬1): حديث عمران بن حصين السالف أول الباب، وحديث أبي ذر أنه كان يغرب في الإِبل وتصيبه الجنابة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" رواه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) والنسائي (¬4) وصححه الترمذي وابن حبان (¬5) والحاكم. وفي هذا الحديث دليل أيضًا على [أن] (¬6) من تيمم ثم قدر على استعمال الماء أنه يلزمه الغسل، وهو قول العلماء كافة، وخالف أبو سلمة بن عبد الرحمن التابعي فقال: لا يلزمه (¬7)، وهو متروك بإجماع من قبله. الثانية: فيه أنه لو معك في التراب وجهه ويديه كفى، وهو ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) أبو داود عون المعبود (329). (¬3) الترمذي (124). (¬4) النسائي (1/ 171). (¬5) ابن حبان (1308). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) انظر: المجموع (2/ 274)، والمغني (1/ 243)، والمحلى (2/ 167).

الصحيح عند أصحابنا، ونص عليه في "الأم". والوجه: القطع به لأن الأصل قصر التراب، وقد حصل، ولا خلاف في الاكتفاء عند العذر: كالأقطع وغيره. الثالثة: فيه مشروعية الضرب باليدين على التراب، وهو محمول على ما إذا كان الغبار لا يصل إلَّا بالضرب، أما إذا كان يصل بدونه فالوضع كافٍ. الرابعة (¬1): فيه دلالة لمذهب من يقول: تكفي ضربة واحدة للوجه والكفين جميعًا، وهو ما صححه الرافعي، وعلى المنصوص [وهو] (¬2) وجوب ضربتين، وصححه النووي. يجاب عنه: بأن المراد هنا صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، كذا أجاب به النووي في "شرحه لمسلم" (¬3)، وليس بظاهر كما ستعلمه بعد، وحكى ابن المنذر هذا القول عن: علي، وابن عمر، والحسن [البصري] (¬4)، وسالم، و [مالك] (¬5)، والثوري، وأصحاب الرأي، وعبد العزيز بن سلمة. قال أصحابنا: وهو قول أكثر العلماء، ¬

_ (¬1) في ن ب (الرابع). (¬2) في ن ب (وهي). (¬3) شرح مسلم (4/ 61). (¬4) في ن ب زيادة (والشعبي). (¬5) في ن ب زيادة (والليث).

والمشهور [من] (¬1) مذهب مالك أن من اقتصر على ضربة واحدة لا إعادة عليه في الوقت ولا غيره. وقيل: يعيد في الوقت. وأغرب يعض أصحابنا، فقال: يستحب ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربتان لليدين. وأغرب منه ما حكاها الماوردي وغيره عن ابن سيرين أنه لا يجزيه إلَّا بثلاث ضربات: ضربة لوجهه، وضربة لكفيه، وضربة لذراعيه. وأغرب من الكل طائفة قالوا بوجوب أربع ضربات: ثنتان للوجه، وثنتان لليدين. حكاه ابن بزيزة وقال: لا أصل [له] (¬2). وفي "قواعد" ابن رشد روي عن مالك الاستحباب إلى ثلاث والفرض اثنتان. فرع: الزيادة على مسحة للوجه ومسحة لليدين مكروهة، كما قاله الروياني والمحاملي. وقيل: يستحب تكرار المسح كالوضوء، وليس بشيء، لأن السنة فرقت بينهما، ولأن في تكرار الغسل زيادة تنظيف بخلافه (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) ساقطة من (الأصل)، وما أثبت من ن ب. (¬3) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإِياه- في الفتاوي (21/ 424): فإن التيمم لا يشرع فيه التكرار بخلاف الوضوء. وقال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري (1/ 444): على قوله "ثم تنفخ ثم تمسح بهما =

فرع: إمرار التراب على العضو تطويلًا للتحجيل سنة مع الأصح للخروج من خلاف من أوجبه وهو أبو حنيفة -رحمه الله- إذا قطع من فوق المرفق. الخامسة: فيه [دلالة] (¬1) على أنه يكفي المسح إلى الكوع، ولهذا خاطبه بلفظ "إنما" لينحصر القدر الواجب، وحكاه ابن المنذر (¬2) عن عطاء ومكحول والأوزاعي وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذر: وبه أقول، وبه قال داود. وحكاه الخطابي: عن عامة أصحاب الحديث. وحكاه أبو ثور وغيره: قولًا قديمًا للشافعي، وأنكر أبو حامد والماوردي وغيرهما عليه حكايته، ولا يقبل منهم لجلالته، وهو قوي في الدليل، وأقرب إلى ظاهر السنة، كما قاله النووي في "شرح المهذب". والمشهور من مذهبنا: أنه إلى المرفقين (¬3)، وبه قال مالك (¬4)، وأبو حنيفة (¬5) وأكثر العلماء. ¬

_ = وجهك وكفيك" استدل بالنفخ على تخفيف التراب كما تقدم. وعلى سقوط استحباب التكرار في التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف. (¬1) في ن ب زيادة (أيضًا). (¬2) الأوسط (2/ 50، 51). (¬3) الأم (1/ 49). (¬4) المدونة الكبرى (1/ 42). (¬5) المبسوط (1/ 106).

وحكى الماوردي وغيره: عن الزهري (¬1) أنه يجب مسحهما إلى الإِبطين قال النووي: وما أظن هذا يصح [عنه] (¬2). قال الخطابي (¬3): لم يختلف العلماء أنه لا يجب مسح ما وراء المرفقين. وحكى ابن بزيزة في "شرح أحكام عبد الحق" عن طائفة: أن الجنب يتيمم إلى المنكب، وغيره إلى الكوع. واحتج أصحابنا بأدلة أقربها أن الله -تعالى- أمر بغسل اليد إلى المرفق في الوضوء. وقال في آخر الآية {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} وظاهره أن المراد الموصوفة أولًا وهي المرفق، وهذا المطلق محمول على ذلك المقيد لا سيما وهي آية واحدة (¬4). وذكر الإِمام الشافعي هذا الدليل ¬

_ (¬1) حكاه عنه ابن حزم في المحلى (2/ 208)، والأوسط لابن المنذر (2/ 47). (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) معالم السنن (1/ 199). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 446): وأما ما استدل به من اشتراط بلوغ المسح إلى المرفقين من أن ذلك مشترط في الوضوء. فجوابه أنه قياس في مقابلة النص. فهو فاسد الاعتبار. وقد عارضه من لم يشترط ذلك بقياس آخر وهو الإِطلاق في آية السرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود هذا النص. قال الترمذي -رحمنا الله وإياه- في السنن (1/ 272): عن ابن عباس "أنه سئل عن التيمم؟ فقال: إن الله قال في كتابه حسن ذكر الوضوء: =

[بعبارة] (¬1) أخرى، فقال كلامًا معناه: إن الله -تعالى- أوجب طهارة الأعضاء الأربعة في الوضوء في أول الآية، ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية، فيبقى العضوان في التيمم على ما ذكر في الوضوء إذ لو اختلفا لبينهما، وقد أجمع المسلمون على أن الوجه يستوعب في التيمم كالوضوء فكذا [اليدان] (¬2). قال البيهقي في "المعرفة": قال، الشافعي إنما [منعنا] (¬3) أن نأخذ برواية عمار في الوجه والكفين ثبوت حديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح وجهه وذراعيه [ولأن] (¬4) هذا أشبه بالقرآن والقياس أن البدل من الشيء يكون مثله (¬5). قال البيهقي: حديث عمار أثبت من مسح الذراعين إلَّا أن ¬

_ = {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقال في التيمم {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}. وقال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فكانت السنة في القطع الكفين. إنما هو الوجه والكفان يعني التيمم". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. انظر المعرفة (2/ 23). (¬1) في ن ب (بعباده). (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) في ن ب (معنا). (¬4) في ن ب (لأن). انظر: معرفة السنن (2/ 22، 23). (¬5) قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن طبعة فقي (1/ 199): قلت: لم يختلف أحد من أهل العلم أنه لا يلزم المتيمم أن يمسح بالتراب ما وراء المرفقين وإنما جرى في استيعاب اليد بالتيمم على ظاهر الاسم وعموم اللفظ. لأن ما بين مناط المنكب إلى أطراف الأصابع كله اسم لليد وقد يقسم بدن الإِنسان على سبعة آداب: اليدان، والرجلان، ورأسه، وظهره، وبطنه، ثم قد يفصّل كل عضو منها. فيقع تحت أسماء خاصة: =

حديث الذراعين جيد بشواهده. ورواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" قال: وقد صح عن ابن عمر أيضًا ذلك من قوله وفعله. ¬

_ = كالعضد في اليد، والذراع في الكتف. واسم اليد يشتمل على هذه الأجزاء كلها، وإنما يترك العموم في الأسماء، ويصار إلى الخصوص بدليل يفهم أن المراد من الأسم بعضه لا كله. ومهما عدم دليل الخصوص كان الواجب إجراء الاسم على عمومه. واستيفاء مقتضاه برمته. [وقد ذهب بعض العلماء إلى إدخال الذراع في المرفقين في التيمم كابن عمر والثوري وأبو حنيفة] بتصرف- ووجه الاحتجاج له من صنيع عمار وأصحابه، أنهم رأوا إجراء الاسم على العموم فبلغوا في التيمم إلى الآباط. وقام دليل الإِجماع في إسقاط ما وراء المرفقين فسقط، وبقى ما دونهما على الأصل لاقتضاء الاسم إياه. ويؤيد هذا المذهب أن التيمم بدل من الطهارة بالماء، والبدل يسد مَسَدَّ الأصل ويحل محله، وإدخال المرفقين في الطهارة بالماء واجب، فليكن التيمم بالتراب كذلك، وقد يقول من يخالف في هذا لو كان حكم التيمم حكم الطهارة بالماء لكان التيمم على أربعة أعضاء. فيقال له: إن العضوين المحذوفين لا عبرة بهما، لأنهما إذا سقطا سقطت المقايسة عليهما، فأما العضوان الباقيان فالواجب أن يراعى فيهما حكم الأصول، ويستشهد لهما بالقياس، ويستوفي شرطه في أمرهما كصلاة السفر، قد اعتبر فيهما حكم الأصل، وإن كان الشطر الآخر ساقطًا، وذهب هؤلاء إلى حديث ابن عمر. [وحديث ابن عمر لا يصح، لأنه رواه عنه محمد بن ثابت العبدي، وهو ضعيف جدًا لا يحتج بحديثه، حيث ذكر فيه: "وضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، وقد أنكر البخاري على محمد بن ثابت رفع الحديث. وقال البيهقي: ورفعه غير منكر. انظر: معالم السنن طبعة فقي (1/ 204، 205).

قلت: وقد أثنى الحاكم على رواية ابن عمر ذلك مرفوعًا من عليه [أفضل] (¬1) الصلاة والسلام لما ذكره في مستدركه (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ذكر ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في تلخيص الحبير (1/ 152): هذه الروايات وبيّن درجتها. وقد جمع رحمنا الله وإياه بين الروايات في فتح الباري (1/ 444) قائلًا: "فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم بن الصمة، وعمار، وما عداهما، فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه -والراجح عدم الرفع- فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر الدين مجملًا. وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين. وبذكر المرفقين في السنن. وفي رواية: إلى نصف الذراعين. وفي رواية: إلى الآباط. فأما رواية: المرفقين وكذا نصف الذراع ففيهما مقال. وأما رواية: الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له، وان كان وقع بغير أمره فالحجة سيما أمر به. ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين، كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد. وقال الترمذي -رحمنا الله وإياه- في السنن (1/ 270): قال إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي حديث عمار في التيمم للوجه والكفين، هو حديث حسن صحيح، وحديث عمار: "تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباط" ليس هو بمخالف لحديث الوجه والكفين. لأن عمارًا لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بذلك، وإنما قال: "فعلنا كذا وكذا"، فلما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالوجه والكفين، فانتهى إلى ما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوجه والكفين. والدليل على ذلك ما أفتى به عمار بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم، أنه قال:" الوجه والكفين"، ففي هذا =

وقال الخطابي (¬1): الاقتصار على الكفين أصح في الرواية ووجوب الذراعين أشبه بالأصول الظاهرة وأصح في القياس. السادسة: فيه إيصال التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه والشعر الظاهر عليه، وهو قول أكثر العلماء. كما حكاه العبدري وعن أبي حنيفة روايات: الأولى: كذلك وهي التي ذكرها الكرخي في "مختصره". وثانيها: إن ترك قدر درهم منه لم [يجزئه] (¬2). والثالث: إن ترك دون ربع الوجه أجزأه، وإلاَّ فلا. والرابعة: إن مسح [أكثره] (¬3) وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه، وإلاَّ فلا. وحكى ابن المنذر عن سليمان بن داود: أنه جعله كمسح الرأس. السابعة: قال الشيخ تقي الدين: استعمال القياس لا بد في من تقدم العلم بمشروعية التيمم وكأن عمارًا لما رأى أن الوضوء خاص ببعض الأعضاء، وكان بدله وهو التيمم خاصًّا وجب أن ¬

_ = دلالة أنه انتهى إلى ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمه إلى الوجه والكفين. وقد ذكر ابن المنذر -رحمنا الله وإياه- في اختصاره لأبي داود نحوًا من ذلك (1/ 201، 202). (¬1) معالم السنن (1/ 202). (¬2) في ن ب زيادة (ودونه يجزيه). (¬3) في ن ب (أكره).

يكون بدل الغسل الذي يعم جميع البدن عاما [لجميع] (¬1) البدن. وقال ابن حزم الظاهري (¬2): في هذا الحديث إبطال القياس، لأن عمارًا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة حكمه حكم الغسل للجنابة؛ إذ هو بدل منه، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأعلمه أن لكل شيء حكم المنصوص عليه فقط. والجواب عما قال: إن الحديث دل على بطلان هذا القياس الخاص، ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام، والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس، ثم في هذا القياس شيء آخر: وهو أن الأصل الذي هو الوضوء قد ألغي فيه مساواة المبدل له، فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء، [وصار] (¬3) مساواة [البدل] (¬4) للأصل ملغى في محل النص، وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع. بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلًا على صحة أصل القياس، فإن قوله - عليه السلام -: "إنما كان يكفيك كذا وكذا" يدل [عليه] (¬5) أنه لو [كان] (¬6) فعله لكفاه، وذلك دليل على صحة ¬

_ (¬1) في ن ب (بجميع)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام (1/ 431). (¬2) المحلى (2/ 155). (¬3) في ن ب (فصار). (¬4) في ن ب (المبدل). (¬5) في ن ب (على). (¬6) في ن ب ساقطة.

قولنا لو كان فعله [لكان] (¬1) [مصيبًا] (¬2)، ولو كان فعله لكان قايسًا التيمم على الجنابة للتيمم على الوضوء، على تقدير أن يكون اللمس المذكور في الآية [ليس] (¬3) هو الجماع؛ لأنه لو كان عند عمار هو الجماع لكان حكم التيمم مبينًا في الآية، فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرغ، فإذن فعله ذلك يتضمن اعتقاد كونه ليس عاملًا للنص، بل بالقياس وحُكْمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يكفيه التيمم مع الصورة المذكورة مع ما بيناه من كونه لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده لا بالنص. الثامنة: فيه أن من أرسل [في] (¬4) أمر عظيم، ينبغي أن يتحفظ ويثبت، ولا يشهر ما أرسل فيه إذا رأى ذلك مصلحة، ويفعل كما فعل عمار حيث لم يصرح بالحاجة ما هي. التاسعة: فيه أن المتأول المجتهد لا إعادة عليه لأنه - عليه السلام - لم يأمر بالإِعادة وإن كان قد أخطأ في اجتهاده، لأنه إنما ترك هيئة الطهارة. وفيه جواز الاجتهاد للغائب في حياته [وفي هذه المسألة مذاهب: أصحها: جواز الاجتهاد للغائب في حياته] (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (فعله). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (من). (¬5) هذا السطر مكرر في الأصل مع اختلاف كلمة في حياته أو في زمنه، وهذا =

وفي هذه المسألة مذاهب: أصحها: جواز الاجتهاد في زمنه لقصة عمار هذه والقائلون بذلك جوزوه بحضرته أيضًا. والثاني: لا يجوز بحال. والثالث: يجوز في غير حضرته، ولا يجوز فيها. العاشرة: قدم في اللفظ مسح اليدين على الوجه، لأن الواو لا تقتضي ترتيبًا، لكن جاء في صحيح البخاري أنه [عليه السلام] (¬1) قال له: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا. وضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه" وهذا يقتضي عدم الترتيب، ولا أعلم من قال به من أصحابنا. وقال الشيخ تقي الدين (¬2): استدل بهذه الرواية على عدم الترتيب لأنه إذا ثبت ذلك في التيمم ثبت في الوضوء، إذ لا قائل بالفرق. واعلم أن هذه الرواية التي ذكرناها تقتضي أيضًا إجزاء التيمم بالمستعمل، وهو وجه عندنا والأصح المنع. ¬

_ = يوافق ن ب. انظر: مبحث هذه المسألة البحر المحيط (6/ 220، 221)، وشرح الكوكب المنير (4/ 482)، والمحصول (2/ 3/ 26)، وتيسير التحرير (4/ 193)، والبرهان (2/ 1356). (¬1) إحكام الأحكام (1/ 436). (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام).

الحادية [عشر] (¬1): فيه دليل على طلب الماء، وإن نفي الوجود يستلزم الطلب. الثانية عشر: فيه دليل على أن من فعل ما أمر به بزيادة أنه يصح لاندراج أعضاء التيمم في التمرغ، وله نظائر منها من اغتسل بدل الوضوء. الثالثة عشر: ظاهر الحديث أنه لا يمسح باطن كفيه. قال ابن عطية: وظاهر كلام "المدونة" أنه يستغني عن مسح الكف بالاخرى، ووجهه أنها في الإِمرار على الذراع ماسحة ممسوحة. وقال ابن حبيب (¬2): يمر بعد ذلك كفه مع الكف الأخرى. وقال اللخمي في كتاب "المدونة": يريد ثم يمسح كفه بالأخرى، فيجيء على تأويل كلام اللخمي كلام ابن حبيب تفسيرًا وليس بخلاف، قال غيره: وتبع صاحب "الرسالة" (¬3) ابن حبيب، وكثيرًا ما يختار رأيه فإنه كان يحفظ "واضحته" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (عشرة) ... إلخ. (¬2) انظر: المنتقى (1/ 114). (¬3) تنوير المقالة بحل ألفاظ الرسالة (1/ 575). (¬4) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله تعالى وإياه- في الفتاوى (21/ 422): بعد كلام سبق في الصحيحين من حديث عمار بن باسر من طريق أبي موسى - رضي الله عنهما -: قال، إنما يكفيك أن نقول بيديك =

الرابعة عشر: يستفاد من الحديث أيضًا مراجعة العلماء في العلم والاجتهاد فإن عمارًا راجع فيما اجتهد فيه. الخامسة عشر: يستفاد منه أيضًا ذكر العلماء لمن راجعهم وجه الصواب وتبيينه. ¬

_ = هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه". لفظ البخاري: "وضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما، ثم مسع بهما ظهر كفه بشماله -أو ظهر شماله بكفه- ثم مسح بهما وجهه"، وهذا صريح في أنه لم يمسح الراحتين بعد الوجه، ولا يختلف مذهب أحمد: أن ذلك لا يجب، وأما ظهور الكفين، فرواية البخاري صريحة في: "أنه مر على ظهر الكف قبل الوجه"، وقوله في الرواية الأخرى: "وظاهر كفيه"، يدل على أنه مسح ظاهر كل منهما براحة اليد الأخرى. وقال فيها: "ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه قبل الوجه"، ثم قال: وعلى كل حال فباطن اليدين يصيبهما التراب حين يضرب بهما الأرض، وحين يمسح بهما الوجه، وظهر الكفين، وإن مسح إحداهما بالأخرى فهو ثلاث مرات: وقد فصل في هذه المسألة تفصيلًا جيدًا، فجزاه الله خيرًا. فائدة: من كلامه -رحمنا الله وإِياه- في هذا الموضوع: "قال في الفتاوى (21/ 425): وما ذكر بعض الأصحاب -من أنه يجعل الأصابع للوجه وبطون الراحتين لظهور الكفين- خلاف ما جاءت به الأحاديث، وليس في كلام أحمد ما يدل عليه، وهو متعسر أو متعذر وهو بدعة، لا أصل لها في الشرع، وبطون الأصابع لا تكاد تستوعب الوجه، وإنما احتاجوا إلى هذا ليجعلوا بعض التراب لظاهر الكفين بعد الوجه.

السادسه عشر: فيه أيضًا البيان بالفعل، وأنه أبلغ في التفهم من القول. خاتمة: في الصحيح (¬1) إنكار عمر على عمار حيث قال: اتق الله يا عمار، قال: إن شئت لم أحدث به. وذلك لا يوهن الحديث. ¬

_ (¬1) مسلم (368).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 41/ 3/ 7 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسًا، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيُّ يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس [عامة] (¬1) ". الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد تقدم في الباب قبله. ثانيها: في [ألفاظه] (¬2) فيه مواضع. الأول: "النصر"، قال ابن فارس (¬3): العون، وانتصر الإِنسان انتقم، والنصر: الإِتيان، يقال: نصرت [أرض] (¬4) بني فلان أي أتيتها. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (واو). (¬2) البخاري (335، 438، 3122)، ومسلم برقم (521)، والنسائي (1/ 210، 211)، والدرامي (1/ 322). (¬3) مجمل اللغة (2/ 870). (¬4) في ن ب ساقطة.

والنصر: المطر، يقال: نصرت الأرض أي مطرت. والنصر: العطاء وهو مصدر والاسم، النصرة. الثاني: "الرعب" الخوف والوجل، لتوقع نزول محذور، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم [العين] (¬1)، والباقون بسكونها. ويقال: رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته ولا يقال أرعبته. نعم حكاه الليلي عن ابن طلحة. الثالث: "الشفاعة" الدعاء. قاله المبرد وثعلب، كما حكاه عنهما الأزهري، وهي كلام الشفيع للمالك في حاجة يسألها لغيره، وفي "جامع القزاز": الشفاعة الطلب من فعل الشفيع. وهذا الرعب والله أعلم هو الذي ألقاه الله في قلوب الكفار في قوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (¬2) وقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (¬3). الرابع: "المسجد" بفتح الجيم وكسرها، كما تقدم في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد. الخامس: قوله - عليه الصلاة والسلام - "وطهورًا" اعلم أن فعولًا قد تكون للمبالغة، وهو أن يدل على زيادة في معنى فاعل مع مساواته له في التعدي كضرب، أو للزوم كصبور، وقد تكون اسمًا ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سورة الأنفال: آية 12. (¬3) سورة الحشر: آية 2.

لما يفعل به الشيء كالسنون وهو ما يسنن به، وكالبرود وهو ما تبرد به العين. قاله ابن مالك كما نقله عنه النووي إملاءًا، وقد يكون أيضًا مصدرًا كما نقله الراغب (¬1) عن سيبويه: و "طهور" في هذا الحديث، يجوز أن تكون من القسم الأول، وأن تكون من الثاني. قال القاضي عياض: [استدل] (¬2) الشافعية والمالكية على الحنفية بهذا الحديث في أن المراد بالطهور في قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا (48)} (¬3) أي مطهرًا [فإنه] (¬4) متعد خلافًا لهم، فإنهم قالوا: إنه طاهر في نفسه، قاصر غير متعد. قال الشيخ تقي الدين: ووجه الاستدلال [منه] (¬5) أنه - عليه الصلاة والسلام - ذكر خصوصية لكونها طهورًا أي مطهرة [ولو] (¬6) كان "الطهور" هو الطاهر لم تثبت الخصوصية، فإن طهارة الأرض عامة في [حق] (¬7) كل الأمم. (¬8) السادس: قوله: "فأي ما"، "أي": اسم مبتدأ فيه معنى الشرط. ¬

_ (¬1) مفردات القرآن (308). (¬2) في ن ب (استدلت). (¬3) سورة الفرقان: آية 48. (¬4) في ن ب (وإنه). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن ب (فلو). (¬7) زيادة من ن ب. (¬8) في ن ب زيادة (واو).

"وما": زائدة لتوكيد معنى الشرط، والجملة التي هي "أدركته الصلاة" في موضع خفض صفة للرجل و"الفاء" في "فليصل" جواب الشرط، تقديره والله أعلم سيما نقصّ عليكم، أو سيما فرض عليكم، أيما رجل. الحديث وهو من باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} (¬1) {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} (¬2). وأشباه ذلك على مذهب سيبويه، فإنه قدره: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم. وقيل: الخبر ما بعده، كما تقول زيد [فاضرب] (¬3) وكأن الفاء زائدة وعلى هذا يكون "فليصل" الخبر لكن فيه بعد كما قال الفاكهي: من حيث [إنما] (¬4) شرط صريح تقتضي الجواب، ولا جواب له هنا إلَّا الفاء بخلاف الاثنين، فإنهما صريحين في الشرط فيتعين الوجه الأول وهو حذف الخبر. الوجه الثالث: في فوائده: [الأولى] (¬5): في هذا الحديث: "أعطيتُ خَمْسًا" وكون الأرض مسجدًا وطهورًا، خصلة واحدة وإلا كانت سادسة، وفي حديث أبي هريرة في مسلم (¬6): "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون" الحديث. وعنده أيضًا من حديث، ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 38. (¬2) سورة النور: آية 2. (¬3) في ن ب (فأضربه). (¬4) في ن ب (أن أي). (¬5) في الأصل (الأول)، وما أثبت من ن ب. (¬6) مسلم (523).

(¬1) حذيفة (¬2): "فضلنا على الناس بثلاث. جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وتربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء" فاعلم أن ذكر الخمس والست والثلاث لا يظن أنه تعارض، وإنما هذا من توهم أَنَّ ذكر الأعداد يدل على الحصر وأنها دليل خطاب، وكل ذلك باطل كما قاله القرطبي، فإن القائل: عندي خمسة دنانير، مثلًا لا يدل [على] (¬3) هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول مرة أُخرى: عندي عشرون وأُخرى ثلاثون، فإن من عنده الأكثر يصدق عليه أن عنده الأقل، فلا تعارض، ويجوز أن يكون الرب -سبحانه- أعلمه بثلاث، ثم بخمس، ثم بست. الثانية: قال الداودي: في قوله: "لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" يعني لم يجمع لأحد قبله [هذه] (¬4) الخمس لأن نوحًا - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى كافة الناس، وأما [الأربع] (¬5) فلم يعط واحدة منهن قبله أحدًا، وأما كونها مسجدًا فلم يأت أن غيره منع منها، وقد كان عيسى - عليه السلام - يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة. وقال القاضي عياض (¬6): من كان قبله من الأنبياء إنما أُبيح لهم ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (أبي)، والتصحيح من مسلم ون ب. (¬2) مسلم (522). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (هذا). (¬5) في ن ب مكررة. (¬6) ذكره في مكمل إكمال إكمال المعلم (2/ 226).

الصلوات في مواضع مخصوصة: كالبيع والكنائس. وقيل: في موضع يتيقنون طهارته، وخصت هذه الأمة بجواز الصلاة في جميع الأرض، إلَّا في المواضع المستثناة بالشرع أو في موضع تيقنت نجاسته. وزعم بعضهم: أن نوحًا - عليه الصلاة والسلام - بعد خروجه من السفينة كان مبعوثًا إلى كل من في الأرض [لأنه] (¬1) لم يبق إلَّا من كان مؤمنًا وقد كان مرسلًا إليهم. ويجاب: بأن هذا العموم الذي في رسالته لم يكن في أصل البعثة، وإنما وقع لأجل الحادث [الذي حدث] (¬2) وهو انحصار الخلق في الموحدين، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - عموم رسالته في أصل البعثة. وزعم ابن الجوزي: أنه كان في الزمان الأول إذا بعث نبي إلى قوم (¬3) بعث غيره إلى آخرين، وكان يجتمع في الزمن الواحد جماعة من الرسل، فأما نبينا (¬4) - صلى الله عليه وسلم - فإنه انفرد بالبعثة فصار نذيرًا للكل. الثالثة: الخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث، أعني: الرعب مسيرة شهر. متقيدة بالقدر المذكور من الزمان، ويفهم منه أمران: الأول: أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في أقل من هذه المسافة. ¬

_ (¬1) في ن ب (إلَّا أنه). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (واو). (¬4) في ن ب زيادة (محمد).

الثاني: أنه لم يوجد لغيره في أكثر منها ولا في مثلها، فإنه مذكور في سياق الفضائل والخصائص، ومناسبته أن يذكر الغاية فيه، وأيضًا فإنه لو وجد أكثر من هذه المسافة لا تبقى الخصوصية فيه، والظاهر أن ذلك مختص به في نفسه، حتى لو لم يكن في معسكر يوم أرسلهم مثلًا لم يسبقهم الرعب إلى قلوب أعدائهم، ويحتمل أن ذلك له ولأمته على الإِطلاق، إذ ورد في مسند أحمد: "والرعب يسعى بين بدر أمتي شهرًا" (¬1) ورُوِّينا من حديث السائب بن أخت نمر: "فضلت على الأنبياء بخمس: فذكر منها: ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي" (¬2). وفي مسند عبد بن حميد من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم [عن] (¬3) ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمسًا ولا أقول فخرًا: بعثت إلى الأسود والأحمر، ونصرت بالرعب، فهو يسير أمامي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة، فأدخرتها لأمتي إلى يوم القيامة، وهي [أيضًا] (¬4) نائلة لمن لا يشرك بالله [شيئًا] (¬5) " وذكر باقي الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (5/ 393) عن حذيفة. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (7/ 184)، ومجمع الزوائد (8/ 259)، وقال: وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب زيادة (إن شاء الله). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) منتخب عبد بن حميد (1/ 551).

الرابعة: [الذي] (¬1) ينبغي حمل المسجد عليه في هذا الحديث موضع السجود في أي مكان كان، وهو الموضوع اللغوي دون الاصطلاحي. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ويجوز أن يجعل مجازا. عن المكان المبني للصلاة، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها. كانت كالمسجد في ذلك، فأطلق اسمه عليها من مجاز التشبيه. والذي يقرب هذا التأويل أن الظاهر أنه إنما أريد أنها موضع [الصلاة] (¬3) بجملتها، لا السجود فقط منها. لأنه لم ينقل أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع. قال غيره: ويحتمل أن يكون من باب تسمية البعض بالكل [من حيث كان موضع دون موضع: قال غيره: ويحتمل أن يكون من باب تسمية البعض بالكل] (¬4) من حيث كان موضع السجود بعضًا للمسجد العرفي. الخامسة: استدل بهذا الحديث على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض كما سلف في الحديث الأول، ويمكن أن يجاب عنه كما [قاله] (¬5) الشيخ تقي الدين في الحديث قرينة زائدة على مجرد تعلق ¬

_ (¬1) في الأصل (التي)، وما أثبت من ن ب. (¬2) إحكام الأحكام (1/ 450). (¬3) زيادة من ن ب. وفي إحكام الأحكام (مواضع للصلاة). (¬4) هذا السطر مكرر في الأصل. (¬5) في ن ب (قال).

الحكم بالتربة، وهي الاقتران [في اللفظ] (¬1) بين جعلها مسجدًا وجعل تربتها طهورًا على ما في ذلك الحديث، وهذا الاقتران في هذا السياق قد يدل على الاقتران في الحكم [أو لا] (¬2)، لعطف أحدهما على الآخر نسقا كما في الحديث الذي ذكره المصنف. ومن اشترط التراب استدل بما في الحديث الآخر: "وجعلت تربتها [لنا] (¬3) طهورًا" كما أسلفته في الحديث الأول من الباب، وهو خاص فينبغي أن يحمل العام عليه كما يحمل المطلق على المقيد واعترض على ذلك بوجوه. منها: منع كون التربة مرادفة للتراب وادعى أن التربة اسم لما كان [في المكان] (¬4) من تراب أو غيره مما يقاربه. ومنها: أنه مفهوم لقب أعني الاحتجاج بالتربة ومفهوم اللقب (¬5) ضعيف لم يقل به إلَّا الدقاق (¬6)، ويمكن أن يجاب عن هذا ¬

_ (¬1) في ن ب (باللفظ). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (وإلاَّ). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) مفهوم اللقب: هو تعليق الحكم على مجرد أسماء الذوات نحو: "في الغنم الزكاة". (¬6) هو أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر بن الدقاق، له مؤلفات مفيدة في أصول الفقه، ولد عام (306 هـ) وتوفي عام (392 هـ)، وقد نسب الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" (3/ 509)، القول بمفهوم اللقب: إلى الإِمام أحمد، ومالك، وداود، وابن فورك وابن القصار وغيرهم. انظر: البحر المحيط (4/ 24)، والبرهان لإِمام الحرمين (1/ 453).

بما أسلفناه أولًا واضحًا. ومنها: أن حديث التربة لو سلم أن مفهومه معمول به لكان الحديث الآخر يدل على طهورية بقية [أجزاء] (¬1) الأرض أعني قوله: "مسجدًا وطهورًا" [بمنطوقه] (¬2) [ودلالة] (¬3) المنطوق أقوى من دلالة المفهوم، وقد قالوا: إن المفهوم مخصص للعموم فيمتنع هذه الأولوية إذا سلم المفهوم ها هنا، وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة، أعني: تخصيص [المفهوم] (¬4) للعموم. السادسة: أخذ بعض المالكية من هذا الحديث أن لفظة: "طهور" تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث، ولا الخبث. وقال: إن "الصعيد" قد سمي طهورًا وليس بحدث، ولا خبث. لأن التيمم لا يرفع الحدث، وجعل ذلك جوابًا عن استدلال أصحابنا على نجاسة الكلب بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعًا" حيث قالوا: "طهور" يستعمل إما عن الحدث أو عن الخبث، ولا حدث على الإِناء. فتعين الخبث فمنع هذا الحصر، وقال: لفظة "طهور" تستعمل في إباحة الاستعمال، كما في التراب. إذ لا يرفع الحدث كما قلناه، فيكون قوله - عليه الصلاة والسلام -: "طهور إناء أحدكم" مستعملًا في إباحة استعماله، أعني الإِناء، كما في التيمم، وأجاب الشيخ ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل. (¬2) في ن ب (المنطوقة). (¬3) في الأصل (ولا)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب (العموم).

تقي الدين (¬1) عن هذا، فقال: عندي فيه نظر، فإن التيمم -وإن كان لا يرفع الحدث- لكنه سبب عن الحدث، أي الموجب لفعله الحدث، وفرق بين قولنا: "أنه عن حديث" وبين قولنا: "إنه يرفع الحدث" وأيد بعض فضلاء المالكية الاعتراض المذكور بقول الشاعر: *عِذَابُ الثنايا ريقهن طهور* إذ لا حدث هنا أيضًا ولا خبث فلا حصر إذًا. قلت: لا حجة في هذا على ما ذكره، فإنه وصفه بأعلى الصفات، وهي التطهير لأن قصد تفضيلهن على سائر النساء [فوصف] (¬2) ريقهن بأنه مطهر [يتطهر] (¬3) به لكمالهن، وطبب ريقهن، وامتيازه على غيره. السابعة: قوله - عليه [الصلاة] (¬4) والسلام -: "فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" يستدل به أيضًا على عموم التيمم بأجزاء الأرض، لأن صيغته صيغة عموم، فيدخل تحته من لم يجد ترابًا ووجد غيره من أجزاء الأرض، ومن خص التيمم بالتراب يحتاج إلى أن يقيم دليلًا يخص به هذا العموم، أو يقول: دل الحديث على أنه يصلي، وأنا أقول بذلك، فمن لم يجد ماءًا ولا ترابًا صلّى على ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 456). (¬2) في ن ب (بوصف). (¬3) في الأصل (مطهر)، وما أثبت من ن ب. (¬4) أثبت من ب.

حسب حاله، فأقول بموجب الحديث إلَّا أنه قد جاء في رواية أخرى "فعنده طهوره ومسجده" والحديث إذا جمعت طرقه فسر بعضه بعضها. وقال ابن المنذر: ثبت أن - عليه الصلاة والسلام -[أنه] (¬1) قال: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا أو طهورًا" (¬2) [حكاه الخطابي] (¬3). الثامنة: هذا العموم مخصوص بما استثنى من [هذه] (¬4) المواضع التي تحرم الصلاة فيها: كالأماكن المغصوبة ونحوها أو يكره كالحمام ونحوه مما هو مبسوط في الفروع، وتقدمت أيضًا الإِشارة إلى هذا التخصيص. التاسعة: قد يؤخذ من قوله: "فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" أنه لا يجوز التيمم إلَّا بعد دخول الوقت، كما هو مذهب الجمهور (¬5) وأنه يضعف قول من يقول: إن التيمم يرفع ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) المنتقي لابن الجارود برقم (124)، وكذا رواه أحمد في مسنده عن أنس، والضياء في المختارة، وابن المنذر ورجاله رجال الصحيح. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) قال شيخ الإِسلام - رحمنا الله تعالى وإياه - في الفتاوي (21/ 353)، بعد أن ذكر الخلاف في التيمم قبل دخول الوقت، قال: "ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة أن التراب طهور، كما أن الماء طهور". وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، =

الحدث (¬1). العاشرة: "الغنائم" جمع غنيمة وهو [المغنم] (¬2) بمعنىً واحد، ¬

_ = فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير" فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا، فدل على أنه مطهر للتيمم، وإذا كان قد جعل المتيمم متطهرًا كما أن المتوضئ متطهرًا، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل: إن خروج الوقت يبطله. كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول. وفي (21/ 360) وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر كلاهما تطهير فعل ما أمر الله به" .. إلخ كلامه. (¬1) قال شيخ الإِسلام - رحمنا الله تعالى وإياه - في الفتاوي (21/ 355، فإن قيل: الوضوء يرفع الحدث والتيمم لا يرفعه؟ قل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما ثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك. الوجه الثاني: أن يقال: قول القائل يرفع الحدث، أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي، وإنما هو نزاع اعتباري لفظي، وذلك أن الذين قالوا: لا يرفع الحدث، قالوا: لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء. وقد ثبت بالنص والإِجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء. والذين قالوا: يرفع الحدث، إنما قالوا: يرفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء. فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي. ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأنه المناسبة هل تتحرم بالمعارضة، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه ومع بقاء ذاته. (¬2) في ن ب (الغنم).

يقال: منه غنم [القوم غنمًا] (¬1) بالضم لا غير، وهي ما يؤخذ من الكفار بإيجاف (¬2) خيل وركاب قال العلماء: كان الأمم قبلنا على ضربين منهم من لا يحل لأنبيائهم جهاد الكفار فلا غنائم لهم. ومنهم: من أحله [لهم] (¬3) إلَّا أنهم إذا غنموا مالًا جاءت نار فأحرقته، فلا يحل لهم أن يتملكوا منها شيئًا. وأباح الله -تعالى- لهذه الأمة الغنائم وطيبها لها. قال الشيخ تقي الدين (¬4): ويحتمل أن يراد بحلها له أن يتصرف فيها كيف شاء، ويقسمها كما أراد في قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬5). ويحتمل أن يراد لم يحل شيء منها لغيره - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك. ويحتمل أن يراد بالغنانم [بعض الغنائم] (¬6) وفي بعض الأحاديث: "وأحل لنا الخمس" رواه ابن حبان (¬7). قلت: قد يجاب عن هذا بأن الخمس خص منها لشرفه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) إحكام الأحكام (1/ 457). (¬5) سورة الأنفال: آية 1. (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) ابن حبان عن عوف بن مالك (8/ 104).

الحادية عشرة: قوله - عليه الصلاة السلام -: " [وأعطيت] (¬1) الشفاعة" الألف واللام قد ترد للعهد كما في قوله -تعالى-: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (¬2). وترد للعموم كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: " [المسلمون] (¬3) تتكافأ دماؤهم" (¬4). وترد لتعريف الحقيقة كقولهم. الرجل خير من المرأة. إذا ثبت [هذا] (¬5). فقال الشيخ تقي الدين (¬6): الأقرب أنها هنا للعهد، وهو ما بينه - عليه الصلاة والسلام - من شفاعته العظمى المختصة به، وهي الشفاعة في إراحة الناس من طول القيام بتعجيل حسابهم، كما جاء مبينًا في الصحيح، ولا خلاف في هذه، ولا تنكرها المعتزله. قال القاضي عياض (¬7): وقيل: المراد بالشفاعة شفاعة لا ترد. ¬

_ (¬1) في ن ب (فأعطيت). (¬2) سورة المزمل: آية 16. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) صحيح أخرجه أحمد (2/ 191، 192، 211)، وأبو داود (2751، 4531)، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. انظر: الإِرواء (7/ 265). (¬5) في ن ب زيادة (واو). (¬6) إحكام الأحكام (1/ 459). (¬7) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 226).

قال: وقد تكون شفاعته المذكورة في الحديث بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار، لأن الشفاعة لغيره إنما جاءت قبل هذا، وهذه مختصة به كشفاعة المحشر. قلت: وقد ذكرت له - صلى الله عليه وسلم - ست شفاعات أخر في كتابنا: "غاية السول في خصائص الرسول" (¬1). فراجعها منه، فإنها من المهمات، فإن أكثر الناس لم يذكر له إلَّا خمسًا، ولا تنكر المعتزلة أيضًا الشفاعة بعد دخول الجنة في رفع الدرجات، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - قد تقدم منه إعلام الصحابة بالشفاعة العظمى المختصة به، فلتكن الألف واللام للعهد، وإن كان لم يتقدم ذلك على هذا الحديث فليكن لتعريف الحقيقة وتتنزل على تلك الشفاعات، لأنه كالمطلق حينئذ فيكفي تنزيله على فرد. قال الشيخ تقي الدين: وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف، فإنه ليس في الحديث إلَّا إعطاء الشفاعة، فكل هذه الأقسام المذكورة قد أعطيها فليحمل اللفظ على العموم لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها، فلفظها وإن كان مطلقًا إلَّا أن ما سبق في صدر الكلام يدل على الخصوصية. فائدة: كيفية شفاعته - صلى الله عليه وسلم - أنه يشفع أولًا في إراحة الخلق من الموقف والفصل بين العباد، وهذا هو المقام المحمود، الذي ادخره الله -تعالى- له وأعلمه أنه يبعثه فيه ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في أمته - صلى الله عليه وسلم - وفي المذنبين، وحلت شفاعة الأنبياء والملائكة وغيرهم ¬

_ (¬1) انظر: لوحة (51/ ب) (52/ أ)، ومخطوطته موجودة.

- صلوات الله وسلامه عليهم - ثم تميز المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة ووضع الصراط، وهذه شفاعة في المؤمنين المذنبين على الصراط، وهي لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولغيره، ثم الشفاعة فيمن دخل النار، وهذا ما تقتضيه مجموع الأحاديث. تنيه: قال بعض الناس: يكره أن يسأل الله إن يرزقه [شفاعته] (¬1) - صلى الله عليه وسلم -[لأنها لا تكون] (¬2) إلا للمذنبين وهذا لا يلتفت إليه قال القاضي عياض: قد عرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح شفاعته ورغبتهم فيها، ولا يلزم أن تكون شفاعته للمذنبين، فإنها قد تكون للتخفيف من الحساب وزيادة الدرجات، بل كل [عامل] (¬3) معترف بالتقصير، محتاج إلى العفو، غير معتد بعمله، مشفق من أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة لأنها لأصحاب الذنوب، وهذا كله خلاف ما عرف من [حال الخلف والسلف] (¬4). الثانية عشرة: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "وبعثت إلى الناس عامة" قيل: لفظ الناس لا يندرج فيها الجن، ولا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل للثقلين، ولعله من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه إذا أرسل إلى الإِنس [فأحرى] (¬5) إلى الجن، لأن الإِنس أشرف، ¬

_ (¬1) في ن ب (لشفاعته). (¬2) في ن ب (لكونها). (¬3) في ن ب (عاقل). (¬4) في ن ب (حالة السلف والخلف). (¬5) في ن ب (فأجرى).

فذكر ذلك - صلى الله عليه وسلم - في معرض إمتنان الله -تعالى-[عليه] (¬1) ولا يبقى زيادة الامتنان ببعثته إلى غيرهم. وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" (¬2) وفي الأحمر والأسود ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بالأحمر البيض من العجم وغيرهم، وبالأسود العرب لغلبة السمرة فيهم، وغيرهم من السودان. ثانيها: أن المراد بالأسود السودان، وبالأحمر من عداهم من العرب وغيرهم. ثالثها: أن الأحمر الانس، والأسود الجن. الثالثة عشرة: المراد بالقوم هنا الرجال والنساء وإن كان أصل القوم [جماعة] (¬3) الرجال دون النساء، كما أسلفناه في الحديث الأول من هذا الباب. الرابعة عشرة: في الحديث (¬4) جواز ذكر ما امتن الله به على [عبده] (¬5) وخصه به وعدم كتمانه. قال -تعالى-: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (غيره). (¬2) مسلم (521). (¬3) في ن ب (لجماعة). (¬4) في الأصل (ذكر). (¬5) في ن ب (عباده). (¬6) سورة الضحى: آية 11.

الخامسة عشرة: فيه أيضًا دلالة على أن الأصل في الأرض الطهارة. السادسة عشرة: فيه أيضًا جواز ذكر العلم من غير سؤال خصوصًا عند الاحتياج إليه، والتعريف [بنعم] (¬1) الله -تعالى- وعدم الجهل. السابعة عشرة: قد يستدل به على أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء، وأنه فضّل بأشياء على غيره منهم، وذلك دليل على أفضليته، ولا شك أنه يعرف فضل المتبوع بفضل التابعين أيضًا، فكما أنه - عليه الصلاة والسلام - أفضل الأنبياء، كذلك أُمته خير الأمم، وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم ثمانون" (¬2). خاتمة: متعلقة بما سلف، قال ابن عقيل: خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصلة من جهة خصت عن كثير من العلماء، وذلك أن شريعته جاءت ناسخة لكل شريعة قبلها، فلم يبق دين من الأديان التي جاءت به الأنبياء - صلوات الله عليهم - إلَّا أمر بتركها ودُعِي إلى شريعته، ومعنى قوله: "كل نبي بعث إلى قومه" أنه كان يجتمع في العصر الواحد نبيان، يدعوان كل (¬3) منهما إلى شريعة تخصه ولا يدعو الأمة ¬

_ (¬1) في ن ب (بنعمة). (¬2) ابن حبان (9/ 275)، والمستدرك (1/ 82)، وقال: على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (¬3) في ن ب زيادة (واحد).

التي بعث فيها غيره إلى شريعته، ولا ينصرف عنه، ولا ينسخ ما جاء به الآخر، فهذه خصيصة له لم تكن لأحد قبله حتى أن نوحًا - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه كان معه نبي فدعا إلى ملته يعني ملة ذلك النبي، ولا نسخها، يوضح هذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو أدركني موسى لما وسعه إلَّا اتباعي" (¬1) فهذه الخصيصة التي امتاز بها عن جميع الأنبياء. قلت: وخص - صلى الله عليه وسلم - بهذه الخمسة وبغيرها من: جوامع الكلم، وهو القرآن، وكلامه [عليه السلام] (¬2) فإن كلًّا منهما ألفاظه يسيرة ومعانيه كثيرة، وخص أيضًا بمفاتيح خزائن الأرض، والآيات من خواتيم سورة البقرة، وله أيضًا خصائص كثيرة لا تحصى، ومآثر أكثر من أن يحاط بها فتستقصى، وقد جمعنا [ها هنا] (¬3) ما وصل علمنا إليه في كتابنا المسمى: بـ "غاية السول في خصائص الرسول" وفي الذهن أنه أجمع ما صنف فيه [والحمد لله] (¬4) على ذلك وأمثاله. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (3/ 338، 387)، ودلائل النبوة لأبي نعيم (5/ 11)، وتفسير ابن كثير (4/ 296)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 162)، والبداية لابن كثير (2/ 133)، وسنن الدارمي (1/ 115)، والسنة لابن أبي عاصم (50). (¬2) في ن ب (أفضل الصلاة والسلام). (¬3) في ن ب (منها). (¬4) في ن ب (فالحمد لله).

فائدة: هذا الحديث رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جابر، عوف بن مالك الأشجعي، وأبو هريرة، وعلي وأبو سعيد الخدري، وأبو ذر الغفاري، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، [وابن عمرو] (¬1) وأبو أسامة والسائب بن يزيد كما أفاد ذلك ابن منده في مستخرجه. ¬

_ (¬1) في ن ب (وابن عمر).

8 - باب الحيض

8 - باب الحيض (¬1) أصله، السيلان. وله تسعة أسماء أخر: الضحك، والإِكبار (¬2)، والإِعصار، والدراس، والعِراك (¬3)، والفراك. الأول: بالعين، والثاني: بالفاء. والطمث (¬4): بالثاء، والطمس: بالسين، والنفاس (¬5) وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) ونظمها بعضهم: حيض نفاث دراس طمس إعصار ... ضحك عراك فراك طمث إكبار والأصل فيه الكتاب والسنة والإِجماع قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}. والسنة مستفيضة. وكذا الإِجماع وقال أحمد: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث حديث فاطمة. وأم حبيبة. وحمنة وفي رواية وأم سلمة بدل أم حبيبة. اهـ، من حاشية الروض (1/ 369) لابن قاسم -رحمنا الله وإياه-. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) النظم المستعذب (1/ 45). (¬4) في المرجع السابق. (¬5) الذي في الحاشية بالثاء بدل السين كما في البيت.

الحديث الأول

الحديث الأول 22/ 1/ 8 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة بنت أبي حبش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني أستحاض فلا أطهر (¬1)، أفأدع [الصلاة؟] (¬2)، قال: "لا (¬3)، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي [كنت] (¬4) تحيضين فيها، ثم اغتسلي، وصلي" (¬5). وفي رواية: " [وليس] (¬6) بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة، ¬

_ (¬1) انظر: حاشية إحكام الأحكام (1/ 465) وتنبيهه عليها. (¬2) في ن ب مكررة. (¬3) انظر: حاشية إحكام الأحكام (1/ 465). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) البخاري (325)، ومسلم (333)، وأبو داود (282)، والنسائي (1/ 181، 182)، ومالك في الموطأ (1/ 62)، وابن ماجه (626)، والترمذي (125)، وأحمد في المسند (6/ 194)، والدارمي (1/ 198). (¬6) في إحكام الأحكام "وليست". قال في الحاشية: لا أدري لم زاد "في رواية" فإن هذا اللفظ في الصحيحين معًا في باب الاستحاضة في سياق واحد من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وكأنه يشير إلى أنه لفق عن روايات منها. نعم للبخاري =

فاتركي الصلاة (¬1) [فيها،] (¬2) فإذا ذهب قدرها (¬3) فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬4). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد [سلف] (¬5) في الطهارة. ثانيها: فاطمة هذه والدها قيس بن المطلب- ووقع في أكثر نسخ مسلم عبد المطلب وهو غلط [بن] (¬6) أسدبن عبد العُزَّى بن قصي، القرشية الأسدية. ووقع في مبهمات الخطيب أنها [أنصارية] (¬7)، وهي غير فاطمة بنت قيس الآتية في كتاب النكاح، ولا يعرف [للمذكورة] (¬8) هنا أعني في باب الحيض غير هذا الحديث. ¬

_ = في باب غسل الدم بلفظ: "وليس بحيض"، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". اهـ. (¬1) قال في الحاشية "فاتركي الصلاة" هو لفظ البخاري في هذا الباب، ولفظه في باب غسل الدم "فدعي"، وهو لفظ مسلم هنا، فلو أتى به لكان أولى لأنها مما اتفقا على لفظه أيضًا. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: حاشية إحكام الأحكام حيث ذكر لفظة "فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم". (¬4) البخاري رقم (306). (¬5) في ن ب (تقدم). (¬6) في ن ب (من)، انظر: مسلم مع النووي (4/ 18). (¬7) في ن ب (الضارية). انظر: مبهمات الخطيب (254)، والإِصابة (4/ 369). (¬8) في الأصل (للمذكور)، وما أثبت من ن ب.

وحبيش: بضم الماء المهملة، ثم باء موحدة، ثم مثناة تحت، ثم شين معجمة. وتشتبه بأشياء ذكرتها في مشتبه النسبة. وذكر الحربي: أن فاطمة هذه تزوجت بعبد الله بن جحش فولدت له محمدًا وهو صحابي هاجرت - رضي الله عنها - وهي إحدى المستحاضات على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثانية: حمنة بنت جحش زوج طلحة بن [عبيد الله] (¬1) أخت زينب أم المؤمنين، وقيل: إنها استحيضت أيضًا، وهو وهم (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل (عبد الله)، وما أثبت من ن ب. (¬2) تنبيه: في فتح الباري (1/ 427) بتصرف: جاء الوهم في أن زينب أم المؤمنين استحيضت بأنها وافقت في الاسم زينب زوجة عبد الرحمن ابن عوف فإنها اسمها زينب واشتهرت بكنيتها أم حبيبة أو حبيب وزينب زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمها برّة. فسميت زينب باسم أختها لكون أختها غلبت عليها الكنية فأمن اللبس: وسيأتي زيادة إيضاح بعده. قال النووي رحمه الله تعالى. في شرح مسلم (4/ 23): قال القاضي: اختلف أصحاب الموطأ في هذا عن مالك وأكثرهم يقولون: زينب بنت جحش وكثير من الرواة يقولون عن ابنة جحش. وهذا هو الصواب وبين الوهم فيه قوله وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف. وزينب هي أم المؤمنين لم يتزوجها عبد الرحمن بن عوف قط. إنما تزوجها أولًا زيد بن حارثة. ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف هي أم حبيبة أختها وقد جاء مفسرًا على الصواب في قوله "ختنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف. وفي قوله: كانت تغتسل في بيت أختها زينب. قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى. قيل: إن بنات جحش الثلاث. زينب وأم حبيبة وحمنة زوج طلحة بن عبد الله كن يستحضن =

ووقع في "الموطأ" كما نبه عليه ابن العربي (¬1)، قال: ووقع في ¬

_ = كلهن. وقيل: إنه لم يستحض منهن إلا أم حبيبة. وذكر القاضي يونس بن عبد المغيث في كتابه الموعب في شرح الموطأ مثل هذا. وذكر أن كل واحدة منهن اسمها زينب، ولقبت إحداهن حمنة، وكنيت الأخرى أم حبيبة. وإذا كان هكذا فقد سلم مالك من الخطأ في تسمية أم حبيبة زينب. وقد ذكر البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها. "أن امرأة من أزواجه - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: "أن بعض أمهات المؤمنين". وفي أخرى: "أن النبي - صلى الله عليه ومسلم - اعتكف مع بعض نسائه وهي مستحاضة". هذا آخر كلام القاضي. وأما قوله: "أم حبيبة". فقد قال الدارقطني: قال إبراهيم الحربي: الصحيح أن أم حبيب بلا هاء. واسمها حبيبة. وعلى هذا جمع من العلماء. قال ابن عبد البر الصحيح أنهما كانتا تستحاضان أي حمنة. وأم حبيبة. وأم حبيب. اهـ. ونظمهن السيوطي في شرح النسائي (1/ 117). قد استحيضت في زمان المصطفى ... تسع نساء قد رواها الرواية بنات جحش سودة والفاطمة ... زينب أسماء سهلة وبادية وسيذكر المصنف هذا الكلام في الحديث الثاني الوجه الثاني. وقصة حمنة رواها أبو داود (1/ 199)، والترمذي (1/ 221)، وقال: حسن صحيح ابن ماجه (5/ 201)، أحمد في المسند (6/ 439)، والحاكم (1/ 172، 173)، وشرح السنة: (2/ 148)، والبيهقي (1/ 338، 339). (¬1) انظر: عارضة الأحوذي (1/ 200)، وأيضًا توهيمه من قال: إن زينب أم المؤمنين استحيضت.

"الموطأ" أيضًا أن زينب كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، ولم يكن ذلك قط، إنما كانت تحت زيد، ثم زوجها الله بنبيه - عليه أفضل الصلاة والسلام -. والثالثة: أختها أم حبيبة أو أم حبيب زوج عبد الرحمن بن عوف (¬1). والرابعة: [سودة بنت زمعة] (¬2) أم المؤمنين (¬3). والخامسة: سهلة بنت سهيل (¬4) العامرية واقتصر جماعات على هذا العدد وأهملوا أربعًا. الأولى: أسماء بنت عميس (¬5). الثانية: زينب بنت أم سلمة (¬6). ¬

_ (¬1) قصة أم حبيبة رواها مسلم في كتاب الحيض باب الاستحاضة (1/ 263)، وأبو داود (1/ 74)، والنسائي (1/ 119)، وأحمد الفتح الرباني (2/ 172). (¬2) في الأصل مكررة. (¬3) البخاري في صحيحه (1/ 411) الفتح. (¬4) سنن أبي داود (295). وفي الأصل (سهل)، وما أثبت من ن ب والسنن. (¬5) سنن أبي داود عون المعبود (278). (¬6) قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري (1/ 412) كون زينب بنت أم سلمة من المستحاضات، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل بأمها في السنة الثالثة وهي ترضع: والحديت أنها اعتكفت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مستحاضة في البيهقي (2/ 351).

الثالثة: أسماء بنت مرثد الحارثية (¬1). الرابعة: بادية بنت غيلان (¬2). ثالثها: في ألفاظه. قولها: "أستحاض" يقال: منه استحيضت المرأة مبنيًا للمفعول لغة، ولم يبن هنا الفعل للفاعل، كما في قوله: "نفست المرأة"، و"نتجت الناقة". وأصل الكلمة من الحيض والزوائد التي لحقتها للمبالغة، كما يقال: "قرَّ في المكان " ثم يزاد للمبالغة [فيه] (¬3)، فيقال: استقر، وأعشب المكان، ثم يبالغ فيه فيقال: اعشوشب. وكثيرًا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى نبَّه عليه الشيخ تقي الدين (¬4). والاستحاضة: جريان الدم في غير أوانه: وقولها: "فلا أطهر" المراد بالطهارة هنا النظافة من الدم. وقولها: "أفأدع الصلاة؟ " هو سؤال عن استمرار حكم الحيض حالة دوام الدم [و] (¬5) عدمه ممن تقرر عنده أن الحائض ممنوعة من الصلاة. ¬

_ (¬1) ذكرها البيهقي. وفي ن ب (مرشد). (¬2) أشار إليها في الفتح (1/ 411). نقلًا عن ابن منده. (¬3) ساقطة من إحكام الأحكام (1/ 122). (¬4) انظر حاشية إحكام الأحكام (1/ 470). والزوائد: المراد بها الميم، والسين والمثناة اللاحقة بكلمة الفعل زيدت للمبالغة في المعنى الذي وفع عبارة عنه. اهـ. من الحاشية. (¬5) في ن ب (أو).

والعرق: بكسر أوله وإسكان ثانيه، وهذا العرق، يقال: له العاذل بالذال المعجمة، قاله الأزهري (¬1). وحكى ابن سيده (¬2): إهمالها وبدل اللام راء. وهذا العرق فمه في أدنى الرحم يعتنق [الرحم] (¬3) منه، وجاء في الحديث: "عرق انفجر" (¬4)، ويحتمل أن يكون من مجاز التشبيه، إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادة الدم، وخروجه من مجاري الحيض المعتادة. وفي رواية [للحاكم] (¬5) في مستدركه "إنما هو داء عرض أو ركضة [من الشيطان] (¬6) أو عرق انقطع" (¬7) [ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ¬

_ (¬1) في الزاهر المضاف مع الحاوي (24/ 49). (¬2) المخصص (2/ 39). (¬3) في الأصل (الدم)، والتصحيح من ن ب. انظر: الزاهر للأزهري (50)، والمحكم (3/ 320). (¬4) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (1/ 473) بعد كلام سبق: لم أجده بلفظ "انفجر" بل بلفظ "انقطع" والمعنى متقارب. (¬5) في ن ب (الحاكم). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 175)، وقال الذهبي: صورته مرسل، والدارقطني (1/ 216، 217)، والبيهقي (1/ 357).

وأما ابن الصلاح والنووي فأنكرا وجود لفظة: انقطع] (¬1) (¬2) في الحديث، وهو غريب منهما. وقوله: "وليس بالحيضة" هو بفتح الحاء أي الحيض هذا هو الأظهر، ونقله الخطابي عن أكثر المحدثين، أو كلهم، ثم اختار الكسر أي الحالة، والأول هو المتعين، كما قاله النووي، فإن المعنى يقتضيه لأنه - عليه الصلاة والسلام - أراد إثبات [الاستحاضة] (¬3) ونفي الحيض. وقوله: "فإذا أقبلت الحيضة" يجوز فيه الوجهان: جوازًا حسنًا قاله النووي. و"الإدبار": الانقطاع. وقوله: "قدرها" قال الشيخ تقي الدين (¬4): الأشبه أن يريد قدر أيامها، وصحف بعض الطلبة هذه اللفظة بالذال المعجمة المفتوحة، وإنما هو بالدال المهملة، أي قدر وقتها انتهى، والرواية السالفة: ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) رد النووي -رحمنا الله وإياه- لفظة انقطع في المجموع (1/ 403) وقول إمام الحرمين والغزالي: عرق انقطع. منكر. فلا يعرف لفظة انقطع في الحديث: وكذا في شرح مسلم (4/ 21) وأما ما يقع في كثير من كتب الفقه "إنما ذلك عرق انقطع. أو انفجر" فهي زيادة لا تعرف في الحديث. وإن كان لها معنى. تنبيه: موجود في رواية الحاكم والدارقطني. والبيهقي. لفظة "انقطع". (¬3) زيادة من ن ب. انظر: غريب الخطابي (3/ 220)، شرح مسلم للنووي (4/ 21). (¬4) حاشية إحكام الأحكام (1/ 479).

"ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" تبطل هذا التصحيف أيضًا. رابعها: في فوائده: الأولى: أن المستحاضة تصلي أبدًا، إلَّا في الزمن المحكوم بأنه حيض، وهذا إجماع كما ستعلمه. الثانية: استفتاء من وقعت له مسألة. الثالثة: جواز استفتاء المرأة ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بالطهارة وأحداث النساء. الرابعة: استماع صوتها عند الحاجة. الخامسة: الأمر بإزالة النجاسة. السادسة: نجاسة الدم وهو إجماع إلَّا من شذّ (¬1). السابعة: أن الصلاة تجب بمجرد إنقطاع الحيض. الثامنة: أن الصلاة لا يتركها من عليه الدم كما فعل عمر حيث صلى [وجرحه] (¬2) يثعب دمًا (¬3). ¬

_ (¬1) الصحيح من أقوال العلماء نجاسة الدم إذا أصاب البدن أو الثوب وأنه يجب غسله إلا أنه يعفى عن يسيره ودم الحيض نجس قليله وكثيره وهو ناقض للوضوء: وليعلم أن الدم الخارج من السبيلين نجس قليله وكثيره ولا يعفى عن يسيره ويجب غسل ما أصاب الثياب منه. وهو ناقض للوضوء قلَّ أو كثر. (¬2) في الأصل (حيث)، والتصحيح من ن ب. (¬3) صحيح أخرجه مالك في الموطأ والبيهقي (1/ 357). انظر: إرواء الغليل (1/ 225).

التاسعة: أن الدم السائل من الجسد من فصدٍ وغيره لا ينقض الطهارة (¬1)، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن ذلك عرق" ولم يأمرها بالطهارة للحيضة، قاله صاحب الإِكمال. نعم صح أمرها بالوضوء، كما رواه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) وصححه ابن حبان (¬4) والحاكم (¬5) وابن .............................. ¬

_ (¬1) سئل شيخ الإسلام رحمنا الله وإياه في الفتاوى (21/ 228) عن الرعاف هل ينقض الوضوء أم لا؟ فأجاب: إذا توضأ منه فهو أفضل. ولا يجب عليه في أظهر قولي العلماء. اهـ. وقال ابن عثيمين -رحمنا الله وإياه-: الدم الخارج من غير السبيلين من الأنف أو السن أو من جرح أو ما أشبه ذلك، فإنه لا ينقض الوضوء قل أو كثر، هذا هو القول الراجح: إنه لا ينقض الوضوء شيء خارج من غير السبيلين من البدن سواء من الأنف أو السن أو من غيره، وسواء كان قليلًا أو كثيرًا، لأنه لا دليل على انتقاض الوضوء به، والأصل بقاء الطهارة حتى يقوم دليل على انتقاضها. وأما نجاسته فالمشهور عند أهل العلم أنه نجس، وأنه يجب غسله إلا أنه يعفى عن يسيره لمشقة التحرز منه، والله أعلم. اهـ. من مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين حفظه الله (4/ 200). (¬2) أبو داود عون المعبود (301). (¬3) النسائي (1/ 123). (¬4) ابن حبان (2/ 320). (¬5) المستدرك (1/ 174)، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني-حفظه الله- في إرواء الغليل (1/ 224): إنما هو حسن فقط، لأن فيه محمد بن عمرو، وهو ابن علقمة، وإنما أخرج له البخاري مقرونًا، ومسلم متابعة. وفي حفظه ضعف يسير يجعل حديثه في =

حزم (¬1). وإذا أرادت المستحاضة الصلاة فإنها تحتاط (¬2) ومحل الخوض في ذلك كتب الفروع، وقد أوضحنا ذلك فيه، ولله الحمد. العاشرة: فيه دليل على ترك الحائض الصلاة (¬3) وهو إجماع لم يخالف فيه إلَّا الخوارج. نعم استحب بعض السلف للحائض إذا دخل الوقت أن تتوضأ وتستقبل القبلة وتذكر الله، وأنكره بعضهم. ونقل ابن العطار في شرحه: أن بعض أصحابنا قال [بمقالة] (¬4) بعض السلف المذكورة (¬5). ¬

_ = رتبة الحسن لا الصحيح، ومع ذلك فقد صحيح الحديث ابن حبان، وابن حزم، والنووي. وأعله غيره بما لا يقدح. المحلى (1/ 251). (¬1) المحلى (1/ 251، 255). (¬2) الاحتياط: غسل الفرج والعصب. وهما لا يلزم إعادتهما لكل صلاة ما لم يفرط، والتفريط تأخير العصب بعد غسل الفرج. الوضوء لدخول وقت كل صلاة إن خرج شيء. اهـ. من حاشية الروض المربع لابن قاسم -رحمنا الله وإياه- (1/ 399). (¬3) لقوله: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة"، والنهي يقتضي عدم الصحة. (¬4) في ن ب (بمقابلة)، وهو تصحيف. (¬5) قال في المهذب: "إذا حاضت المرأة حرم عليها الطهارة، لأن الحيض يوجب الطهارة". قال النووي: هذا مشكل، وله تأويلان: أحدهما: وهو الأظهر: أن معنى حرم عليها الطهارة، أي: لم تصح طهارتها وتعليله يقضيه. =

الحادية عشرة: فيه دليل على الرد إلى العادة، لأن الحديث يدل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة لقوله: "قدر الأيام" وهو يقتضي أنه كان لها أيام تحيض فيها، وليس فيه أنها كانت مميزة أو غير مميزة، فإن ثبت ما يدل على التمييز فذاك، وإلاَّ ردت إلى العادة، والتمسك به يدل على أن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال [مع قيام الاحتمال] (¬1) ينزل منزلة العموم في المقال. ويجوز أن يكون علم الواقعة في التمييز أو عدمه، وأجاب على ما علم. الثانية عشرة: فيه دليل لأبي حنيفة في الرجوع إلى العادة سواء كانت مميزة أم لا. ¬

_ = الثاني: مراده إذا قصدت الطهارة تعبدًا مع علمها بأنها لا تصح، فتأثم بهذا لأنها متلاعبة بالعبادة. فأما إمرار الماء عليها بغير قصد العبادة فلا تأثم به بلا خلاف، وهذا كما أن الحائض إذا أمسكت عن الطعام بقصد الصوم أثمت، وإن أمسكت بلا قصد لم تأثم. وهذا التأويل النسائي هو الصحيح كما يحرم على المحدث فعل الصلاة وإن كانت لا تصح منه. "فرع" هذا الذي ذكرناه من أنه لا تصح طهارة حائض هو في طهارة لرفع حدث سواء كانت وضوءًا أو غسلًا. وأما الطهارة المسنونة كغسل للإِحرام ونحوه فمسنونة للحائض بلا خلاف. اهـ. من المجموع شرح المهذب (2/ 348، 349)، وانظر الاستذكار (3/ 218). قال أبو عمر: هو أمر تروك عند جماعة الفقهاء، بل يكرهونه وفي حاشية الروض (1/ 377) ما نصه: "ولا يصحان أي: الصوم، والصلاة منها، أي من الحائض، بل يحرمان عليها" ومعلوم أن الصلاة من شرطها الوضوء. (¬1) زيادة من ن ب و (إحكام الأحكام).

وقال مالك والشافعي: في الأصح من مذهبه إذا كانت مميزة فلا ترجع إلى العادة، بل تصلي في أيام الاستحاضة وتترك الصلاة في أيام الحيض، وتبقى كذلك أبدًا، [قال] (¬1) صاحب الإِكمال: وإليه ذهب عامة أهل الفتيا. الثالثة عشرة: فيه رد على من قال: إنه يلزمها الغسل لكل صلاة لأنه ليس في الحديث ما يقتضي تكرار الغسل، وهو مذهب الجمهور سلفًا [وخلفًا] (¬2). قالوا: ولا يجب إلاَّ مرة واحدة عند الانقطاع. وروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء أنهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا. وعن ابن المسيب والحسن قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة [الظهر] (¬3) دائمًا (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (قاله). (¬2) في ن ب (سلفًا). (¬3) في ن ب (العصر). (¬4) الصحيح من أقوال العلماء -رحهم الله تعالى- وهو رأي الأئمة الأربعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها أن تغتسل لكل صلاة، وإنما أمرها بالغسل مطلقًا، فكانت هي تغتسل لكل صلاة، بل الواجب الوضوء لكل صلاة عند الجمهور. لأمره - صلى الله عليه وسلم -. المستحاضة بالوضوء عند كل صلاة رواه البخاري والترمذي وغيرهما حاشية الروض (1/ 402) وبهذا يعلم أن من ذكر أن عليها غسل بالنهار أو الليل أو تجمع بين كل صلاتين بغسل =

الرابعة عشرة: فيه رد أيضًا على من قال: إن عليها غسل بالليل وآخر بالنهار، وهو قول لبعض الصحابة. الخامسة عشرة: فيه رد لقول من رأى عليها الجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، وتغتسل للصبح لعدم الأمر به، قاله أبو عمر (¬1). السادسة عشرة: قال فيه رد لمن قال بالاستطهار يومين أو ثلاثًا أو أقل أو أكثر، أي كما حكي عن مالك أنها تستطهر (¬2) ثلاثًا. السابعة عشرة: قال فيه [دليل] (¬3) على أنه لا يلزمها غير الغسل، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمرها بغيره. ¬

_ = ونحوها على غير دليل وقول من قال من ظهر إلى ظهر: مدارهم على لفظة صحفت بالظاء وإنما أصلها من طهر إلى طهر: انظر: سنن أبي داود عون المعبود (1/ 494)، المنتقى للباجي (1/ 127). قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (3/ 226)، وذهت طائفة إلى أن الغسل لكل صلاة واجب عليها، لأحاديث رووها بذلك. قالوا: لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلَّا وهي فيه شاكة: هل هي حائض، أو طاهر، أو مستحاضة؟ أو هل طهرت في ذلك الوقت بانقطاع دم حيضتها أم لا؟ فواجب عليها الغسل للصلاة. قالوا: ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا. اهـ. (¬1) الاستذكار (3/ 222). (¬2) انظر: الاستذكار (3/ 222 - 226). (¬3) في ن ب ساقطة.

الثامنة عشرة: قوله "ثم اغتسلي" قال الباجي (¬1): يحتمل أن يكون للاستحاضة واستغنى عن ذكر الغسل للحيض، لأنه معلوم عندها ويحتمل أن يكون لإِدبار الحيض. قلت: وهذا هو الظاهر والخلاف المذكور مبني على أن الغسل [هل] (¬2) هو لإِدبار الحيضة والذي للاستحاضة مستحب أو عكسه، وفيه قولان عند المالكية، وتظهر فائدة الخلاف في جواز وطئها بعد الغسل الأول. فإن قلنا: إنه الواجب جاز وإلَّا فلا. التاسعة عشرة: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإذا أقبلت الحيضة" قال الشيخ تقي الدين: [فيه] (¬3) تعليق الحكم بالإِقبال والإِدبار، فلا بد أن يكون معلومًا [لها] (¬4) بعلامة تعرفها فإن كانت مميزة ردت إلى التمييز، فإقبالها: بدوّ الدم الأسود، وإدبارها: إدبار ما هو بصفة الحيض. وإن كانت معتادة ردت إلى العادة، فإقبالها: وجود الدم في أول أيام العادة. وإدبارها: انقضاء أيام العادة. وقد ورد في حديث فاطمة ما يقتضي الرد إلى التمييز، وقالوا: إن حديثها في المميزة. وحمل قوله: "فإذا أقبلت الحيضة" على الحيضة المألوفة، قال: وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز: الرواية التي ¬

_ (¬1) المنتقى (1/ 125). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. انظر: إحكام الأحكام (1/ 478). (¬4) زيادة من إحكام الأحكام (1/ 478).

فيها "دم الحيض أسود يعرف فإذا كان [ذلك] (¬1) فأمسكي عن الصلاة" (¬2) وأما الرد إلى العادة فقد سلف في الرواية الأولى. العشرون: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فاغسلي عنك الدم وصلي" قال الشيخ تقي الدين (¬3): هذا مشكل في ظاهره، لأنه لم يذكر الغسل ولا بد بعد إنقضاء الحيض منه. وحمل بعضهم هذا الأشكال على أن جعل الإِدبار: انقضاء أيام الحيض، والاغتسال. وجعل قوله: "فاغسلي عنك الدم": محمول على دم يأتي بعد الغسل. قال: والجواب الصحيح: أن هذه الرواية -وإن لم يذكر فيها الغسل- فقد روي في رواية أخرى صحيحة، فقال فيها "واغتسلي" (¬4) انتهى. وقد يجاب: بأن الغسل من دم الحيض معلوم، وإنما أجابها عما سألته (¬5) [وهو حكم الاستحاضة] (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (كذلك)، وما أثبت من الأصل ومن سنن أبي داود. (¬2) سنن أبي داود عون المبرد (283، 301)، وابن حبان (2/ 318). (¬3) حاشية إحكام الأحكام (1/ 479). (¬4) قال الحافظ -رحمه الله تعالى- في الفتح (1/ 409): هذا الاختلاف واقع بين أصحاب هشام، منهم من ذكر غسل الدم، ولم يذكر الاغتسال، ومنهم من ذكر الاغتسال ولم يذكر غسل الدم. وكلهم ثقات وأحاديثهم في الصحيحين، فيحمل على أن كل فريق اختصر أحد الأمرين لوضوحه عنده. (¬5) في ن ب زيادة (فقط). (¬6) في ن ب ساقطة.

الحادية والعشرون: في الحديث ما كانت الصحابة عليه في الرجوع فيما يحدث لهم من الأمور كلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسؤال عن الأحكام والجواب عنها. الثانية والعشرون: فيه أيضًا دلالة على إثبات الاستحاضة، وأن حكم دمها غير حكم دم الحيض ومحل الخوض في [أقسامها] (¬1) كتب المذهب. خاتمة: يجوز وطء المستحاضة غير المتحيرة عند الجمهور، وقال أحمد: لا يأتيها إلَّا أن يطول ذلك بها، وعنه أنه لا يجوز وطؤها إلَّا أن يخاف العنت. ¬

_ (¬1) في ن ب (أحكامها).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 43/ 2/ 8 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن تغتسل، [فقال: هذا عرق] (¬1) فكانت تغتسل لكل صلاة (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في الطهارة. الثاني: قد تقدم في الحديث قبله أن أم حبيبة هذه إحدى المستحاضات على [عهده - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) وأنه يقال لها: أم حبيب، وصححه الحربي والدارقطني (¬4). وصحح الغساني أن اسمها حبيبة قال: وكذا قاله الحميدي عن سفيان. ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري (327). (¬2) البخاري (327)، ومسلم (334)، أبو داود (285)، والترمذي (129)، والدارمي (1/ 196)، وأحمد (6/ 82، 187)، وابن ماجه (626)، وابن حبان (2/ 320)، والنسائي (1/ 118). (¬3) في ن ب (عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 103).

وقال ابن الأثير: الأكثر أم حبيبة (¬1). قال [أبو] (¬2) عمر: والصحيح أنها وأختها زينب [و] (¬3) (¬4) حمنة مستحاضتان. وقد تقدم عن ابن العربي أنه وهم قائل هذا. وحكى القاضي (¬5) عن بعضهم: أن بنات جحش الثلاث كل منهن اسمها زينب ولقب أحداهن حمنة وكنية الأخرى أم حبيبة، وإذا كان هكذا فقد سلم مالك من الخطأ في تسمية أم حبيبة زينب. وأم حبيبة هذه حضرت أحدًا تسقي العطشى وتداوي الجرحى. الثالث: غسلها - رضي الله عنها - لكل صلاة لم يكن بأمره - عليه الصلاة والسلام - كما قاله الزهري وغيره، وإنما هو شيء فعلته وإنما الواجب عليها الغسل مرة واحدة عند إنقطاع حيضها كما سلف في الحديث قبله (¬6). وروى ابن إسحاق عن الزهري فأمرها أن تغتسل لكل صلاة [فلم] (¬7) يتابعه عليه أصحاب الزهري، وربما وقع ذلك في بعض ¬

_ (¬1) ابن الأثير رجح اسمها أم حبيبة. (¬2) في الأصل (ابن)، والتصحيح من ن ب. (¬3) في ن ب بدون واو. (¬4) ذكر ابن عبد البر بلفظ التثنية إشارة إلى أم حبيبة وحمنة بقوله الصحيح أنهما كانتا تستحاضان. انظر: الاستذكار (3/ 227)، وشرح مسلم (4/ 24) وهنا ذكر ثلاث. (¬5) إكمال إكمال المعلم (2/ 103). (¬6) انظر: الاستذكار (3/ 228)، والتمهيد (16/ 64، 65، 22/ 105). (¬7) في ن ب (ولم).

نسخ الكتاب (¬1)، وهو وهم من النساخ. نعم في أبي داود (¬2) والبيهقي (¬3) من طرق أنه أمرها بذلك لكنها ضعيفة كما بينها البيهقي وغيره، وحملها بعضهم على الناسية ¬

_ (¬1) تنبيه: كما هو واقع في تصحيح العمدة للزركشي حيث ذكر الحديث بهذا اللفظ ونبه على أنه يوجد في بعض النسخ: "فأمرما أن تغتسل لكل صلاة". (¬2) أبو داود، عون المعبود (289) أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرما بالغسل لكل صلاة، وساق الحديث. قال المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق وهو مختلف في الاحتجاج بحديثه، وهو ثقة لكنه مدلس، ولم يصرح في هذا الحديث بالتحديث. قال البيهقي (1/ 350): ورواية محمد بن إسحاق عن الزهري غلط لمخالفتها سائر الروايات عن الزهري، ومخالفتها الرواية الصحيحة عن عراك بين مالك، عن عروة، عن عائشة، قال الحافظ في الفتح (1/ 427): وأما ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بين غير، وابن إسحاق عن الزهري في هذا الحديث: "فأمرها بالغسل لكل صلاة"، فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة. لأن الإِثبات من أصحاب الزهري لم يذكروها. قال مسلم -رحمه الله-: في الصحيح مع النووي (4/ 23). قال الليث بن سعد: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل عند كل صلاة ولكنه شيء فعلته هي. (¬3) البيهقي (1/ 351)، من طريقين: أم حبيبة، زينب بنت أم سلمة. قال البيهقي (1/ 354): والصحيح رواية الجمهور عن الزهري، وليس فيها الأمر بالغسل إلا مرة واحدة، ثم كانت تغتسل عند كل صلاة من نفسها. وقال أيضًا (327:1): زيادة الوضوء لكل صلاة ليست محفوظة. اهـ. وأخرج النسائي (1/ 121) الأمر بالغسل عند كل صلاة.

للوقت والعدد، يجوز في مثلها أن ينقطع الدم عنها في وقت كل صلاة (¬1). ¬

_ (¬1) جمع الحافظ بين هذه الزيادة "فأمرها بالغسل لكل صلاة" وبين رواية أبي داود الأخرى، من طريق يحيى بين أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زينب بنت أبي سلمة في هذه القصة، "فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة"، فيحمل الأمر على الندب جمعًا بين الروايتين. هذا وقد حمله الخطابي على المتحيرة وفيه نظر. اهـ. من الفتح (1/ 427). انظر: معالم السنن طبعة الفقي (1/ 188) على حديث رقم (282). وقال بعدها في الفتح (1/ 428)، وقال الطحاوي: حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش، أي لأن فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة لا الغسل. والجمع بين الحديثين يحمل الأمر في حديث أم حبيبة على الندب أولى، والله أعلم. وقد رد شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- دعوى النسخ بين الحديثين ولا منافاة بينهما، فإن الحديث الأول، أي: حديث فاطمة فيمن كانت لها عادة تعلم قدرها، فإذا استحيضت قعدت قدر العادة. ولهذا قال: "فدعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها"، وقال: "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي"، فالمستحاضة المعتادة ترجع إلى عادتها. الحديث الثاني أم حبيبة: فليس فيه الأمر بالغسل لكل صلاة، ولكن أمرها بالغسل مطلقًا فكانت هي تغتسل لكل صلاة. والغسل لكل صلاة مستحب، فالواجب عليها إذا تعدت أيامًا هي أيام حيضها. ثم اغتسلت كما تغتسل من انقطاع حيضها، ثم صلت وصامت في هذه الاستحاضة، فالواجب عليها الوضوء عند كل صلاة. اهـ. من الفتاوي بتصرف (21/ 630).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 24/ 3/ 8 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب (¬1)، وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض (¬2)، وكان يخرج رأسه إليّ وهو معتكف فأغسله وأنا حائض" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: فيه جواز تطهير الرجل والمرأة من إناء واحد وهو إجماع كما قدمت في الحديث الثاني من باب الجنابة فراجعه منه، وتقدم هناك أيضًا الكلام على لفظ الجنب ومعناه. الثاني: قولها "فأتزر"، معناه أشد إزارًا أستر به سُرتي وما تحتها إلى الركبة. وقولها: "فيباشرني"، أي: بجميع أنواع الاستمتاع من القبلة ¬

_ (¬1) البخاري (250، 261، 263، 273، 299، 5956، 7339)، ومسلم (321)، وأبو داود (77). (¬2) البخاري (300)، ومسلم (293). (¬3) البخاري (301)، ومسلم (297).

والمعانقة سيما فوق الإِزار فوق السرة وتحت الركبة، فيؤخذ منه جواز المباشرة فوق الإِزار، وأما تحته ففيه خلاف بسطناه في كتب الفقه فإنه موضعه. والأصح عندنا تحريم المباشرة سيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر العلماء كما حكاه عنهم النووي في شرح مسلم (¬1). ومذهب أحمد الجواز، وهو قوي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصنعوا كل شيء إلَّا النكاح" رواه مسلم (¬2). واقتصاره - عليه الصلاة والسلام - في مباشرته على ما فوق الإِزار محمول على الاستحباب (¬3). وقال الشيخ تقي الدين (¬4): ليس في هذا الحديث ما يقتضي إباحته ولا منعه، وإنما فيه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجرد فعله لا يدل على الوجوب على المختار، وفيما ذكره نظر. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (3/ 204، 205). (¬2) مسلم (302). (¬3) المباشرة قسمين: الأول: فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر أو المعانقة أو القبلة أو ما أشبه ذلك، فهذا جائز. الثاني: فيا بين السرة والركبة. في غير القبل والدبر، وهذا فيه خلاف. المنع على سبيل التحريم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه". الثاني: الجواز، وهو رأي أحمد مستدلين بهذا الحديث. الثالث: التفصيل، فإن كان المباشر يملك نفسه فلا مانع وإلَّا فلا. (¬4) انظر: إحكام الأحكام (1/ 485).

الثالث: في الحديث بيان جواز النوم مع الحائض وغير ذلك والاضطجاع معها في لحاف واحد إذا كان هناك حائل يمنع من ملاقاة البشرة [فيما بين السرة] (¬1) والركبة، أو يمنع الفرج وحده عند من لا يحرم إلَّا الفرج. قال العلماء: لا يكره مضاجعة الحائض ولا قبلتها ولا الاستمتاع بها فيما فوق السرة وتحت الركبة، ولا يكره وضع يدها على شيء من المائعات، ولا يكره غسلها رأس زوجها وغيره من محارمها، ولا يكره طحنها وعجنها وغير ذلك من الصنائع، وسؤرها وعرقها طاهران، وكل هذا إجماع كما نقله ابن جرير الطبري في كتابه مذاهب العلماء، وأما قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬2). فالمراد اعتزلوا وطأهن ولا تقربوا وطأهن (¬3). الرابع: فيه دليل على أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد لا يبطل اعتكافه، وأن من حلف لا يدخل بيتًا أو يخرج منه فأدخل رأسه أو أخرجه لا يحنث. وفيه دليل على أنه إذا طاف بالبيت ومس جداره أنه يصح، وهو وجه عندنا لأن العبرة بالقدمين لا باليد والرأس، والأصح خلافه. ومن نظائر المسألة ما إذا رمى إلى صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فإنه يجب الجزاء، كذا قاله الرافعي. وهو في ¬

_ (¬1) الزيادة من ن ب. (¬2) سورة البقرة: آية 222. (¬3) في الأصل زيادة (إذا)، وهي مخلة بالمعنى.

القائم أما النائم فالعبرة بمستقره [كما] (¬1) قاله صاحب "الاستقصاء". وذكر الجرجاني في "المعاياة" فيما إذا كان بعضه في الحرم ثلاثة أوجه، أحدها: لا يضمنه، وثانيها: نعم إن كان أكثره في الحرم، وثالثها: نعم إن كان خارجًا من الحرم إلى الحل دون عكسه. ومن نظائرها ما لو مال من شجر الحرم غصن إلى الحل فإنه يحرم قطعه دون عكسه، والطائر على الغصن بالعكس. الخامس: فيه دليل على أن الحائض لا تدخل المسجد، لأنه لو جاز لما أحوجت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، بل بادرت إليه، وقد يقال: لعلها اعتقدت أن المسجد ليس محلًا للغسل. السادس: فيه جواز استخدام الرجل لامرأته فيما خف من الشغل، واقتضته العادة. وجواز غسل [رأس] (¬2) المعتكف حال اعتكافه وترجيله وما في معناه بشرط أن لا يقذر المسجد. واعلم أن المصنف ذكر في الاعتكاف من حديث عائشة أنها كانت ترجله وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها (رأسه) (¬3). فيحتمل أن تكون قضيتان، ويحتمل أن تكون قضية واحدة، ويحتمل الترجيل في الحديث الثاني على أنه مع الغسل كما هنا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (رأسها)، والصحيح ما أثبت من ن ب.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 45/ 4/ 8 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكئ في حجري، فيقرأ القرآن، وأنا حائض" (¬1). الكلام عليه من وجهين: الأول: في ألفاظه: "الحجر" معروف، وهو بفتح الحاء وكسرها، كما سبق في حديث أم قيس في باب المذي. قال القاضي (¬2): ووقع للعدوي: في "حجرتي" بدل "حجري"، وهو وهم، والمعروف الأول وهو الرواية. ومعنى "يتكىء": يميل بإحدى شقيه. الثاني: في فوائده: ¬

_ (¬1) البخاري (297)، ومسلم (301)، وابن ماجه (634)، وأبو داود (260). (¬2) مشارق الأنوار (1/ 182)، وقوله هنا ووقع للعدوى. الذي في المشارق وأخبرنا به أبو بحر عن العذرى.

الأولى: فيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن، لأن قولها: "فيقرأ القرآن"، إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثم ما يوهم منعه، ولو كانت القراءة جائزة لها لكان هذا التوهم [منفيًا] (¬1) أعني توهم امتناع قراءة القرآن، فارادت بهذا نفي توهم أنه لا يجوز مخالطتها والاتكاء في حجرها، ونفي ما كانت اليهود عليه من عدم مخالطة الحائض وصجانبتهم إياها في الأكل والشرب والمضاجعة، فكيف بالتلاوة والعبادة. ومذهب الشافعي امتناع القراءة عليها على الصحيح منه، وهو مذهب الجمهور. ومذهب أصحاب مالك جوازه، وما ذكرناه من هذه الإِشارة هو ما نبه عليه الشيخ تقي الدين. وأما صاحب الإِكمال (¬2) فخالف، فقال: فيه دليل على أنها تقرأ. قال وإليه نحى البخاري في كتابه (¬3)، قال: ووجه استدلاله أنها لو كانت ممتنعة منها لامتنع - صلى الله عليه وسلم - من قراءته في محل حامل للحيض تشريفًا للقرآن، لأن قراءتها له في تلك الحالة حالة استقذار وقراءته في حجرها قراءة في مكان حامل لمستقذر، ولا فوق بين حالة ¬

_ (¬1) في الأصل منتفيًا وما أثبت من ن ب. (¬2) هو سليمان بن مظفر بن غنائم بن عبد الكريم أبو داود الجيلي توفي في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وستمائة عن نيف وستين سنة. ترجمته في البداية والنهاية (13/ 141)، وطبقات السبكي (5/ 56)، وطبقات ابن قاضي شهبة: (2/ 72). (¬3) البخاري الفتح (1/ 401) وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز.

الاستقذار ومكان الاستقذار في تنزيه القرآن، كما منعت قراءته في الحمام والسوق ونحوهما. قال: ورخص جماعة من السلف وأهل الظاهر في القراءة للحائض والجنب ومس المصحف لهما وتأوّلوا قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} على أنه خبر عن الملائكة كآية عبس، قال: وإليه نحى مالك في الموطأ (¬1). وقال جمهور العلماء والشافعي ومالك في رواية وأبو حنيفة: أن الآية خبر بمعنى النهي وأنه لا يجوز مسه إلَّا طاهرًا ومشهور قول مالك في الحائض أنها تقرأ القرآن ظاهرًا وفي المصحف وتقلب لها أوراقه. ومشهور مذهبه أيضًا وهو مذهبنا منع الجنب من قراءة القرآن، وفرق بين الحائض والجنب بأن الحائض لا تملك التطهير بخلافه. الثانية: في الحديث تبليغ العلم والاقتداء به والإِخبار بأحواله - عليه الصلاة والسلام - للتأسي به، والإِخبار بما يستحي من ذكره عادة إذا ترتب عليه مصلحة من تبيين حكم وغيره، وقراءة القرآن في حجر الحائض وبقرب موضع النجاسة. الثالثة: قولها: "وأنا حائض" قال القاضي (¬2): وقع في بعض روايات مسلم "وأنا حائضة" والوجهان جائزان قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} (¬3). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 199)، والاستذكار (8/ 9، 17). (¬2) مشارق الأنوار (1/ 218). (¬3) سورة الأنبياء: آية 81.

وقال تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} (¬1). فإثبات الهاء فيها على إجرائها على فعل المؤنث، وإسقاطها على طريق النسب، أي: ذات حيض. ¬

_ (¬1) سورة يونس: آية 22.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 46/ 5/ 8 - عن معاذة - رضي الله عنها - قالت: "سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: [والسياق المذكور لمسلم وللبخاري بمعناه] (¬2). أحدها: معاذة هذه بصرية أم الصهباء ابنة عبد الله العدوية امرأة صلة بن أشيم تابعية ثقة، وكانت من العابدات، روي أنها لم تتوسد فراشًا بعد أبي الصهباء حتى ماتت. قال ابن حبان عنها: صحبت الدنيا سبعين سنة فما رأيت فيها قرة عين قط، وكيف أرى السرور فيها، وقد كدرت على الأمم قبلنا عيشهم، ماتت سنة ثلاث وثمانين، وقد أوضحت ترجمتها فيما أفردته في الكلام على رواة هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) البخاري (321)، ومسلم (335)، والترمذي (130)، وأبو داود (262)، وابن ماجه (631)، والدارمي (1/ 233). (¬2) زيادة من ن ب.

الثاني: معنى: "ما بال الحائض" أي: ما شأنها. و"البال": الشأن والحال. وقولها: "أحرورية أنت؟ " هو بفتح الحاء المهملة وضم الراء الأولى نسبة إلى حروراء بالمد. وحكى أبو عبيد [قصرها] (¬1) قرية قرب الكوفة على ميلين منها (¬2)، كما قاله السمعاني. وكان أول اجتماع الخوارج به (¬3)، وقال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها، كثر استعمال اللفظ فيهم حتى صار اسمًا لكل خارجي. وقال أبو القاسم الفوراني (¬4): حروراء موضع بالشام. وفيه نظر. ¬

_ (¬1) في ن ب (قصتها). (¬2) معجم البلدان (2/ 245). (¬3) قال في المغني لابن باطيش (1/ 604) ينسب إليها الحرورية، طائفة من الخوارج، وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد التحكيم، وصاروا بعد ذلك إلى حروراء، فلزمهم لقب الحرورية، ومضوا إلى النهروان، فقالتلهم على كرم الله وجهه بعد حجاج، ولم ينفلت منهم، وهم ثلاثون ألفًا، إلَّا أقل من عشرة، فذهب رجلان إلى عمان، ورجلان إلى سجستان، ورجلان إلى اليمن ورجلان إلى الجزيرة، ورجلان إلى تل مزون، فظهرت مذاهب الخوارج بهذه المواضع ... إلخ. (¬4) هو العلامة كبير الشافعية عبد الرحمن بن محمد بن فوران أبو القاسم توفي سنة إحدى وستين وأربع مائة وقد شاخ -رحمه الله-. المختصر في أخبار البشر (2/ 187)، وتتمة المختصر (1/ 563)، ومرآة الجنان (3/ 84).

قال المبرد: والنسبة إليها حروراوي، وكذا كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة. الثالث: إنما قالت عائشة ذلك لها لأن طائفة من الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة، إذ لم تسقط عنها في كتاب الله على أصلهم في رد السنة إلى الكتاب، وفيه خلاف بينهم، وقد أجمع المسلمون على خلافه. فالحائض والنفساء لا يجب عليهم الصوم والصلاة (¬1)، على أنه يجب عليهم قضاء الصوم دونها، والفرق أن الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها بخلافه. قال الأصحاب: وكل صلاة تفوت في زمن الحيض لا تقضى إلَّا ركعتي الطواف، كذا نقله عنهم المصنف في شرح مسلم (¬2)، وفيه نظر ذكرته في شرح المنهاج. الرابع: إنما أنكرت عائشة [لكونها] (¬3) فهمت أن السؤال سؤال منكر لا مستفهم، أي هذه الطريقة طريقة الحرورية، وبينت الطريقة، فأجابتها بأني أسأل سؤال مستفهم لا منكر، ففرقت عائشة لها بالنص، لأنه أبلغ وأقوى في الرد على المخالف، بخلاف الفرق المعنوي، فإنه عرضة للمعارضة، وقد اكتفت في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يأمر به، فيحتمل أن يكون أخذت إسقاط القضاء من سقوط الأداء، ويكون مجرد سقوط الأداء دليلًا على ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (واو). (¬2) (4/ 27). (¬3) في ن ب (لأنها).

سقوط القضاء، إلَّا أن يوجد معارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم، ويحتمل وهو الأقرب كما قال الشيخ تقي الدين (¬1) أن يكون السبب في ذلك أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم؛ فإن الحيض يتكرر فلو وجب قضاء الصلاة لوجب بيانه، وحيث لم يتبين دل على عدم الوجوب، لا سيما وقد اقترن بذلك قرينة أخرى، وهي الأمر بقضاء الصوم وتخصيص الحكم به. الخامس: فيه دليل للمذهب المثمهور أن القضاء إنما يجب بأمر جديد لأنها جعلته [مبلغًا] (¬2) من أمره بعد فوات وقت الأداء وذكر بعض أصحابنا وجهًا أنها مخاطبة بالصيام في حال الحيض [وتؤمر] (¬3) بتأخيره كما يخاطب المحدث بالصلاة، وإن كانت لا تصح منه في زمن الحدث، وهو غلط [والمحدث] (¬4) قادر على إزالة حدثه بخلافها. السادس: فيه دليل على أن قول الصحابي: "كنا نؤمر" محمول على الرفع، وفيه خلاف لأهل هذا الفن ذكرته في "المقنع في علوم الحديث" (¬5). السابع: ادعى بعضهم أنه ليس في السنة ما يدل على تحريم ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (1/ 494). (¬2) في ن ب (مسلفًا). (¬3) في ن ب (تؤمر). (¬4) في ن ب (فالمحدث). (¬5) (1/ 118، 126).

الصوم على الحائض (¬1)، وليس كذلك، فحديث حمنة بنت جحش في أبي داود (¬2) والترمذي فيه إشعار به، وقد ذكرته بطوله في "تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج" (¬3). الثامن: يؤخذ من الحديث السؤال عن العلم، وأن المسؤول [إذا] (¬4) فهم من لفظ السائل شيئًا يذكره له [ويبين] (¬5) إن كان مقصود السائل خلافه. التاسع: يؤخذ منه أيضًا بيان السائل مراده من لفظه. العاشر: يؤخذ منه أيضًا أن أمر الشارع ونهيه حجة بمجرده، ولا يفتقر إلى معرفة سره أو حكمته أو علته. ¬

_ (¬1) انظر تعليق (5) ص (185). (¬2) أبو داود في الطهارة، باب: من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة (1/ 76)، والترمذي (1/ 221)، وابن ماجه (1/ 205)، وأحمد (6/ 381، 382، 439، 440)، والبيهقي (1/ 338)، والحاكم (1/ 173)، والدارقطني (1/ 214)، وحسنة البخاري والترمذي (1/ 226). (¬3) (1/ 235). (¬4) ساقطة من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب.

كتاب الصلاة

9 - باب المواقيت

9 - باب المواقيت أصلها في اللغة: الدعاء بخير على ما صححه الأكثرون، والمواقيت: جمع ميقات، والأصل: مِوْقَاتٌ لأنه من الوقت: كميعاد وميزان من الوعد والوزن. سكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء (¬1). قال الجوهري (¬2): وهو الوقت المضروب للفعل، والموضع، يقال: هذا ميقات أهل الشأم للموضع الذي يحرمون [فيه]، وذكر المصنف في الباب أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: النظم المستعذب للركبي (1/ 52). (¬2) مختار الصحاح (304)، وفي الصحاح بدل "فيه" [] "منه".

الحديث الأول

الحديث الأول 47/ 1/ 9 - عن أبي عمرو الشيباني -واسمه سعد بن إياس- قال: حدثني صاحب هذه الدار- وأشار بيده إلى دار [عبد الله] (¬1) بن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة [على وقتها] " (¬2). قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قال: حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: أبو عمرو هذا: له إدراك (¬4) فقط، قال: أذكر أني سمعت وأنا أرعى إبلًا لأهلي بكظامة (¬5)، خرج نبي بتهامة. فهو ¬

_ (¬1) في ن ب (عبيد الله). (¬2) في ن ب (لوقتها). (¬3) رواه البخاري (527، 2782، 5970، 7534)، ومسلم (85، 139)، والنسائي (1/ 100)، والترمذي (173)، والدارمي (1/ 278)، وأحمد (1/ 409، 410، 439، 442، 451)، وابن حبان (3/ 18). (¬4) أي إدراك وقت ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول دعوته ولم يسلم إلَّا بعد وفاته. (¬5) انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 173).

تابعي مخضرم، وقد عد مسلم التابعين المخضرمين عشرين نفسًا، وأهمل جماعة، منهم الأحنف بن قيس، وأبو مسلم الخَوْلاَنِي، وعاش أبو عمرو مائة وعشرين سنة. وكان يقرىء القرآن في المسجد الأعظم، قرأ عيه عاصم بن (بهدلة) (¬1) وهو مجمع على ثقته، قال ابن حبان: كأنه مات سنة إحدى ومائة، وقال أبو عمر: سنة خمس وتسعين. وقال الذهبي يقال: سنة ثمان وتسعين. ثانيها: الشيباني [بالشين] (¬2) المعجمة نسبة إلى شيبان بن ثعلبة بن [عكابة] (¬3) وتشتبه هذه النسبة بخمسة أشياء ذكرتها في مشتبه النسبة فراجعها منه. ثالثها: في الرواة أبو عمرو [الشيباني] (¬4) اثنان: هذا والنحوي الكبير، وفي الرواة أيضًا أبو عمرو السيباني بسين مهملة مفتوحة ومكسورة وهو والد يحيى [بن] (¬5) زرعة (¬6). رابعها: عبد الله بن مسعود: هو أبو عبد الرحمن الْهُذَلِي أحد السابقين الأولين حليف الزهريين. ¬

_ (¬1) في ن ب (بهذلة). (¬2) في ن ب بالشين. (¬3) في ن ب (حكابة). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (أبي). (¬6) مشتبه النسبة للذهبي (382) السيباني. نسبة إلى سَيْبَان بمهملة بطن من مراد، منهم: أبو زرعة، ويحيى بن أبي عمرو، وقد ضبطه الفرضي بالفتح والكسر.

وأمه: أم عبد بنت عبد (¬1) [وهي] (¬2) هذلية أيضًا شهد بدرًا. والمشاهد، وقتل أبا جهل ببدر، وهاجر الهجرتين. وصلى إلى القبلتين. أسلم قبل عمر. روى الطبراني عنه قال: رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا. وهو صاحب سواد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني سره، وصاحب وساده يعني فراشه، وصاحب سواكه ونعليه وطهوره. وشهد له - عليه الصلاة والسلام - بالجنة مع العشرة في حديث حسن رواه أبو عمر في استيعابه. وهو ممن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد الأربعة الذين أمر بأخذه عنهم. وثانيهم: معاذ. وثالثهم: أبيٌّ. ورابعهم: سالم مولى أبي حذيفة. وكان - رضي الله عنه - رجلًا قصيرًا نحيفًا يكاد طوال الرجال يوازيه جلوسًا وهو قائم. وكان شعره يبلغ شحمة آذنيه. وكان [لا] (¬3) يغير شيبة، وكان أحمش الساقين. والحموشة الدقة. كثير العلم، فقيه النفس، كبير القدر. وله فتاوى، وقراءة ينفرد بها معروفة. وقال - رضي الله عنه -: إني لأعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، وما في كتاب الله سورة ولا آية إلَّا وأنا أعلم فيم نزلت ومتى نزلت. ولم ينكر هذا القول عليه أحد. رُوِي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة حديث وثمانية وأربعون حديثًا، ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (ود)، وما أثبت من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) زيادة من ن ب.

اتفقا منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. مات سنة اثنين. وقيل: سنة ثلاث. وقيل: ست وثلاثين ابن بضع وستين سنة. قال أبو الدرداء: وما ترك بعده مثله. ودفن بالبقيع. وقيل: بالكوفة، وصلى عليه الزبير بوصايته إليه. وقيل: عثمان. وقيل: عمار. فائدة: عبد الله بن مسعود (¬1) اثنان: أحدهما: صاحب هذه الترجمة: وثانيهما: الغفاري (¬2) روى عن نافع عن بردة في فضل رمضان. وقيل: أبو مسعود [له حديث. ولهم ثالث: عبد الله بن مسعود الثقفي (¬3) أخو أبي عبيد استشهد يوم الجسر كأخيه (¬4). ورابع: عبد الله بن مسعود (¬5). وقيل: ابن مسعدة فزاري أمير الجيوش في غزوة الروم بدمشق. له في معجم الطبراني حديث تفرد به إبراهيم بن الصنعاني عن عبد الرزاق، وهذا مرسل أو وهم] (¬6). خامسها: في فوائده: ¬

_ (¬1) الإِصابة (4/ 129). (¬2) الإِصابة (4/ 130). (¬3) الإِصابة (4/ 130). (¬4) في الإِصابة (4/ 130): "الجسر مع أخيه". (¬5) الإِصابة (4/ 127). (¬6) زيادة من ن ب؛ علمًا أن المؤلف قال: (اثنان)، فلينتبه لهذه الزيادة.

الأولى: قوله "حدثني صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود" فيه أن الإِشارة يكتفي بها عن التصريح بالاسم، وينزل منزلته إذا كانت معينة للمشار إليه مميزة له عن غيره، وربما كان ذلك أوقع وأبلغ في التفهيم من التصريح بالاسم، لأنه يصير بحيث يوضع اليد عليه، والاسم العلم ربما تطرق إليه الاشتراك، ولهذا والله أعلم ذهب بعض النحويين إلى أن اسم الإِشارة أعرف من العلم وإن كان الأرجح خلافه. الثانية: هذا السؤال عن طلب الأفضل لتشتد المحافظة عليه، فإن العبد مأمور بتزيل الأشياء منازلها؛ فيقدم الأفضل على الفاضل طلبًا للدرجة العليا. الثالثة: العمل يطلق على عمل القلب والجوارح كما قدمناه في أول الكتاب [في] (¬1) حديث: "إنما الأعمال بالنيات". والمراد: هنا عمل [القلب] (¬2) والجوارح حيث وقع الجواب بالصلاة على وقتها، وتكون النية مطلوبة فيه باللازم لا بمراد الحديث، وفي أعمال القلوب فاضل وأفضل: كالإِيمان وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، منها حديث أبي هريرة [أنه سئل - عليه الصلاة والسلام -] (¬3) أي الأعمال أفضل؟ قال: [إيمان] (¬4) بالله ¬

_ (¬1) في الأصل ون د (من)، وما أثبت من ب. (¬2) في الأصل ون د (البدن)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في ن ب (أنه عليه الصلاة والسلام سئل). (¬4) في الأصل (إيمانًا)، وما أثبت من ن ب ومسلم. انظر: النووي (2/ 72).

ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" (¬1). والأعمال في [هذا] (¬2) الحديث يراد بها عمل الجوارح والقلوب. الرابعة: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "الصلاة على وقتها" ليس [له] (¬3) [فيها] (¬4) ما يقتضي تفضيل أول الوقت على غيره، بل المقصود منه الاحتراز عن إخراج الصلاة عن وقتها المشروع لئلا تصير قضاء. نعم، صح في ابن خزيمة (¬5) وابن حبان (¬6) والحاكم (¬7): "الصلاة لأول وقتها" وهو ظاهر في الاستدلال على فضيلة التقديم، وما ذكرناه من أنه ليس في الحديث ما يقتضي ذلك. قاله الشيخ تقي الدين (¬8) أيضًا، لكن قد ينازعه صيغة "أحب" (¬9) لأنها تقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون للاحتراز عن إيقاعها في آخر الوقت. وحمل الحديث على الاحتراز [من] (¬10) إيقاع الصلاة خارجه ¬

_ (¬1) البخاري في الإِيمان، باب: من قال: الإِيمان هو العمل، وفي الحج المبرور، وفي مسلم، في الإِيمان، باب: كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (فيه). (¬5) ابن خزيمة (1/ 169). (¬6) ابن حبان (3/ 17). (¬7) الحاكم (1/ 188)، وقد أشار الحافظ في الفتح (2/ 10) إلى هذه الرواية. (¬8) إحكام الأحكام (2/ 9). (¬9) أي: الأعمال أحب إلى الله. (¬10) في ن ب (عن).

فيه نظر لأنه محرم، وأيضًا على [للاستعلاء] (¬1) فالمراد إيقاعها [على] (¬2) أول الوقت، ويستثنى من تفضيل الصلاة أول الوقت فروع فقهية بسطتها في شرح المنهاج فلتراجع منه. الخامسة: اعلم أن الأحاديث قد اختلفت في أفضل الأعمال وتقديم بعضها على بعض. ففي هذا الحديث قدم الصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد، وفي حديث أبي هريرة السالف (¬3) تقديم الإِيمان ثم الجهاد ثم الحج المبرور. وذكر في حديث أبي ذر (¬4) الإِيمان والجهاد وفي حديث عبد الله بن عمر (¬5) "وأيّ الإِسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". وفي حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو (¬6). "أي الإِسلام (¬7) خير؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده". وصح من حديث عثمان (¬8): "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وغير ذلك من ¬

_ (¬1) في الأصل (الاستعلاء)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) تقدم تخريجه في التعليق (7) من هذا الحديث ص (217). (¬4) البخاري في العتق ومسلم في الإِيمان، باب: كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. (¬5) البخاري. الإِيمان، باب: إطعام الطعام من الإِسلام رقم (12). (¬6) البخاري. الإِيمان، باب: أي الإِسلام أفضل رقم (11). (¬7) في الأصل (المسلمين)، والتصحيح من البخاري ومن ن ب. (¬8) البخاري في فضائل القرآن. باب: خيركم من تعلم القرآن وأبو داود (1452)، والترمذي (2909).

الأحاديث. والذي قيل في الجمع ببنها. أنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص بالنسبة إلى حاله. أو وقته أو بالنسبة إلى عموم ذلك الحال والوقت أو بالنسبة إلى المخاطبين بذلك أو من هو في مثل حالهم ولو خوطب بذلك الشجاع لقيل له: الجهاد، أو الغني لقيل له: الصدقة أو الجبان الفقير لقيل له: البر أو الذكر أو الفطن لقيل له: العلم أو الحديد (¬1) الخلق لقيل له: لا تغضب [وهكذا] (¬2) في حق جميع أحوال الناس [و] (¬3) قد يكون الأفضل في حق قوم أو شخص مخالفًا للأفضل في حق آخرين بحسب المصلحة اللائقة بالوقت أو الحال أو الشخص. وذكر الحليمي (¬4) عن شيخه العلامة أبي بكر القفال الشاشي الكبير (¬5) .................................... ¬

_ (¬1) قال صاحب لسان العرب - رحمنا الله وإياه - (3/ 80) رجل حَديدٌ وحُدادٌ من قوم أحِدَّاء وأحِدَّةٍ وحِدادٍ: يكون في اللَّسَنِ والفَهم والغضب ... إلخ كلامه. (¬2) في الأصل (وهذا)، والتصحيح من ن ب. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم القاضي أبو عبد الله الحليمي ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومات في جمادى -وقيل: في ربيع- الأول سنة ثلاث وأربعمائة. تذكرة الحفاظ (1030/ 3)، وطبقات السبكي (3/ 147). (¬5) هو محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر الشاشي القفال الكبير، أحد أعلام المذهب مولده سنة إحدى وتسعين ومائتين. مات في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلاثمائة. وذكر الشيخ أبو إسحاق أنه مات سنة ثلاثين وهو =

[] (¬1). وكان أعلم من [لقيته] (¬2) من علماء عصره أنه جمع بين هذه الأحاديث بوجهين: أحدهما: نحو ما ذكرناه. قال: فإنه قد يقال خير الأشياء كذا، ولا يراد إنه خير جميع الأشياء من جميع الوجوه. وفي جميع الأحوال والأشخاص بل في حال دون حال ونحو ذلك، واستشهد في ذلك بأخبار منها عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة، وغزوة [لمن] (¬3) حج أفضل من أربعين حجة" (¬4). ¬

_ = وهم. ترجمته في الفهرست (303)، ومنتخب السياق (ت: 138)، وفيات ابن قنفذ (212)، والتاج المكلل (110)، وأبجد العلوم (3/ 108)، والفتح المبين (1/ 201)، وتاريخ التراث لسزكين (3/ 205، 206)، وابن قاضي شهبة (1/ 148). فائدة: قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/ 282)، إذا ذكر القفال الشاشي فالمراد هذا، وإذا ورد القفال المروزي فهو الصغير، ثم إن الشاشي يتكرر ذكره في التفسير والحديث والأصول والكلام، والمروزي يتكرر ذكره في الفقهيات. اهـ. (¬1) في ن ب زيادة (قال). (¬2) في الأصل (لقيه)، وما أثبت من ن ب. وفي حاشية (أ) من طبقات ابن الصلاح (1/ 228) "لقينا". مع اختلاف آخر. (¬3) في الأصل زيادة (لم). (¬4) ضعيف الجامع (2689) ضعيف: الأحاديث الضعيفة ولفظه "حجة خير من أربعين غزوة. وغزوة خير من أربعين حجة". وقد جاء من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال =

الثاني: أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا ومن خيرها أو من [خيركم] (¬1) من فعل كذا، فحذفت من وهي مرادة، كما يقال: [من] (¬2) أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم، ومن ذلك قوله [عليه السلام] (¬3): "خيركم خيركم لأهله" (¬4) ومعلوم أن لا يصير بذلك خير الناس مطلقًا ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في عالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه، هذا كلامه، فعلى هذا الوجه يكون الإِيمان أفضلها مطلقًا، والباقيات متساوية في كونها من أفضل الأعمال أو الأحوال، ¬

_ = "حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات، وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج، وغزوة في البحر خير من عشر غزوات في البرُّ، و ... " الحديث. أخرجه عبد الرزاق (5/ 285)، وصححه الحاكم (2/ 143)، ووافقه الذهبي. وذكره المنذري في الترغيب (2/ 305)، وقال المناوي في فيض القدير (3/ 374): حديث حسن وإسناده لا بأس به. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2691). ومن رواية أبي هريرة: "لحجة أفضل من عشر غزوات ولغزوة أفضل من عشر حجات". أخرجه في الجامع لشعب الإِيمان (8/ 152)، ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 596)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4666). (¬1) في الأصل زيادة (أو). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (عليه أفضل الصلاة والسلام). (¬4) رواه الترمذي والدارمي عن عائشة وابن ماجه، عن ابن عباس، وقال الألباني في المشكاة (2/ 971): إسناده صحيح.

ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل عليها، وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص (¬1). السادسة: قدم في هذا الحديث [برّ] (¬2) الوالدين على الجهاد وهو دال على تعظيم برهما، ولا شك أن أذاهما موجب محرم وممنوع منه. والبر: خلاف العقوق قال أهل اللغة: [يقال] (¬3) بررت والدي أبره برًّا وأنا برٌّ به. بفتح الباء وبار. وجمع البر: الأبرار، وجمع البار: البررة. وبر الوالدين: الإِحسان إليهما، وفعل الجميل معهما، وفعل ما يسرهما، ويدخل فيه الإِحسان إلى صديقهما، كما ثبت في الصحيح، "إن من أبو البر أن يصل الرجل أهل ودِّ أَبيه" (¬4) وقد ألف الناس فيه تصانيف مفردة كالطرطوشي (¬5) وغيره. وفي ضبط ما يجب منه إشكال. ¬

_ (¬1) انظر: المنهاج للحليمي (2/ 469)، وذكره البيهقي في الجامع لشعب الإِيمان (8/ 148، 149). (¬2) في الأصل ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) صحيح مسلم (2552) في البر والصلة. (¬5) سبقت ترجمه في حديث ابن عباس (19/ 6/ 2) الجزء الأول وكتابه مطبوع "بر الوالدين ما يجب على الوالد لولده وما يجب على الولد لوالده".

قال سفيان بن عيينة: في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (¬1) من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقب الصلوات فقد شكرهما. السابعة: الجهاد: ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، فالعين يقدم على حق الوالدين، والكفاية لا يجوز إلَّا بأذنهما إذا تعطلت مصلحتهما الواجبة به، وكل حق متعين وكفاية كذلك حكمه بالنسبة إليهما، إذا تقرر هذا ففي هذا الحديث قدم برهما على الجهاد. وفي حديث أبي هريرة السالف تقديم الجهاد على الحج بلفظ "ثم". وهي موضوعة للترتيب خلافًا لمن شذ وهي [هنا] (¬2) للترتيب في الذكر كما قال تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3) ومعلوم أنه ليس المراد الترتيب في الفعل [كما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى قوله {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} (¬4) وكما قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (¬5) ونظائر ذلك كثيرة (¬6) ومما أنشدوا فيه: ¬

_ (¬1) سورة لقمان: آية 14. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة البلد: الآيات 12، 17. (¬4) في ن ب ساقطة، والآيات 151، 154 سورة الأنعام. (¬5) سورة الأعراف: آية 11. (¬6) انظر: الجامع لشعب الإِيمان (8/ 150).

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد [قبل] (¬1) ذلك جده وأجاب القاضي عياض: عن تقديم الجهاد على الحج بأن ذلك كان في أول الإِسلام، فكان السعي في [الجهاد] (¬2) أفضل بخلاف اليوم. والمراد بالجهاد: الجهاد المتعين وقت الزحف أو النفير العام، فإنه مقدم على الحج لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين. واعلم أن العبادات على ضربين: منها: ما هو مقصود لنفسه. ومنها: ما هو وسيلة إلى غيره وفضيلة الوسيلة بحسب مقصودها المتوسل إليه، فالجهاد وسيلة إلى إعلان الإِيمان ونشره وإخماد الكفر ودحضه، فعظم فضله بفضل مقصوده وهو الإِيمان. تنبيه: الذي يظهر والله أعلم في ترتيب هذه الأعمال أن الإِيمان أفضلها، ثم الصلاة. لأنها عنوانه، ثم الصيام، ثم الحج، ثم الجهاد، ثم الزكاة. والقياس يقتضي أن يكون الجهاد تلو الإِيمان لأنه وسيلة إلى إعلانه كما أسلفناه، وقد جاء في رواية [تأتي] (¬3) رتبة الإِيمان في قوله: "إيمان بالله وجهاد في سبيله" وقدم البر عليه في هذا الحديث تفخيمًا لشأنه. ¬

_ (¬1) في ن ب (بعد). (¬2) في الأصل (الطهارة)، والتصويب من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة.

وصرح القرافي أن الحج أفضل من الجهاد كما أسلفناه لأنه مطلوب [من] (¬1) جميع المكلفين على الأعيان بخلاف الجهاد فإنه من بعضهم، ولأن مصلحة الجهاد لا تتكرر بخلاف مصلحة الحج. وروى الحافظ محب الدين الطبري (¬2) في "أحكامه" من حديث ابن عمر سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟ قال: "قراءة القرآن في الصلاة ثم قراءة القرآن في غير الصلاة، فإن الصلاة [أفضل] (¬3) الأعمال عند الله وأحبها إليه، ثم الدعاء والاستغفار فإن الدعاء هو العبادة وإن الله يحب المُلِّحَّ في الدعاء، ثم الصدقة فإنها تطفيء غضب الرب، ثم الصيام فإن الله -عزّ وجلّ- يقول: "الصوم لي وأنا أجزي به، والصيام جنة للعبد من النار" ثم قال: حديث غريب رواه أبو عبد الله الثقفي في "أربعينه"، ولم يبرز إسناده حتى ننظر فيه. قال وورد من حديث أبي ذر رفعه: "أفضل الأعمال: الحب في الله والبغض في الله (¬4) " فيحمل على أفضل أعمال القلب. ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) عزاه السيوطي في الدر إلى ابن أبي الدنيا (1/ 354)، وأخرجه البيهقي في الشعب (5/ 191)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4/ 119) من رواية عائشة. ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة، وقراءة: القرآن في غير الصلاة أفضل من التكبير والتسبيح، والتسبيح أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والصوم جنة من النار". (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) أبو داود عون المعبود (4575). قال المنذري: في إسناده يزيد بن =

فائدتان: الأولى: الجهاد يشتمل على حق الله تعالى. وحق رسوله وحق المسلمين. فالأول: محو الكفر من القلوب، والألسنة، وتخريب محاله من البيع، والكنائس. والثاني: الشهادة له - عليه الصلاة والسلام - بالرسالة، وإجابة دعوته. والثالث: الذب عن المسلمين وأولادهم ونسائهم وأموالهم [وتحصيل الغنائم لهم] (¬1) والظفر بعدوهم. الثانية: الصلاة أيضًا مركبة من حق الله تعالى: كالنية والتكبيرات وغيرها، وحق رسوله: كالشهادة له بالرسالة، وحق الآدمي وهو الدعاء. فائدة ثالثة: أوقع - عليه الصلاة والسلام - البر ثانيًا بعد الصلاة كما جاء ثانيًا في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬2) وفي قوله تعالى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (¬3). ¬

_ = أبي زياد الكوفي ولا يحتج بحديثه، وقد أخرى له مسلم متابعة. وفيه أيضًا رجل مجهول. (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) سورة النساء: آية 36. (¬3) سورة لقمان: آية 14.

الثامنة: قوله: "ثم أي؟ " هو غير منون، لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه [فتنوينه] (¬1) ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه وقفة لطيفة ثم تأتي بما بعده فتنبه له. التاسعة: قوله: "حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" كأنه تقرير وتأكيد لما تقدم، إذ لاريب في أن اللفظ الأول يعطي أنه - عليه الصلاة والسلام - حدثه بذلك وهو أرفع درجات التحمل. العاشرة: قوله: "ولو استزدته لزادني" يحتمل أن يريد من هذا النوع المذكور أعني مراتب الأعمال وتفضيل بعضها على بعض، ويحتمل أن يريد لزادني عما أسأله. من حيث الإِطلاق. تنبيه على سعة علمه - عليه أفضل الصلاة والسلام - وترك ذلك خشية التطويل عليه. الحادية عشرة: فيه السؤال عن العلم ومراتبه في الأفضلية. الثانية عشرة: فيه جواز تكرير السؤال والاستفتاء عن مسائل شتى في وقت واحد. الثالثة عشرة: فيه أيضًا رِفْعَ العالم وصبره على السائل. الرابعة عشرة: فيه فضل الصلاة في الوقت وأن أوله أفضل كما سلف وخالف [أصحاب] (¬2) الرأي، فقالوا: إن التأخير إلى آخر الوقت أفضل إلَّا الحاج فإنه يغلس بالفجر يوم النحر بمزدلفة. ¬

_ (¬1) في ن ب (وتنوينه). (¬2) في الأصل (أصحابنا)، والتصويب من ن ب.

الخامسة عشرة: فيه أن الصلاة أفضل العمل. السادسة عشرة: فيه فضل بر الوالدين وأنه أفضل من الجهاد بشروطه. السابعة عشرة: فيه فضل الجهاد. الثامنة عشرة: فيه تقديم الأهم فالأهم من الأعمال. التاسعة عشرة: فيه تنبيه الطالب على تحقيق العلم وكيفية أخذه. العشرون: فيه التنبيه على مرتبته عند الشيوخ وأهل الفضل ليؤخذ علمه بقبول وانشراح [وضبط] (¬1). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 48/ 1/ 9 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن، ما يعرفهن أحد من الغلس" (¬1). [قال: المروط: أكسية معلمة تكون من خزِّ وتكون من صوف] (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: قد تقدم أن: "كان" هذه تعطي الملازمة والاستمرار على الشيء، ومن عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الصبح في هذا الوقت. نعم أسفر بها مرة كما أخرجه [أبو] داود (¬3) من حديث [أبا] (¬4) مسعود أنه ¬

_ (¬1) البخاري رقم (372، 578، 867، 872)، ومسلم (645)، وأبو داود (423)، والنسائي (1/ 271)، والدارمي (1/ 277)، والموطأ (1/ 5)، والترمذي (153)، وأحمد (6/ 37، 248). (¬2) زيادة من متن تيسير العلام للبسام. (¬3) أبو داود عون المعبود (390). وفي ن ب (ابن). (¬4) في الأصل ون ب (ابن)، والتصحيح من أبي داود، وابن حبّان وهو هكذا (ابن) في الفتح (2/ 55) فلينتبه له. قال المنذري- رحمنا الله =

- عليه السلام -: "صلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد بالغلس حتى مات - صلى الله عليه وسلم - ولم يعد إلى أن يسفر" صححه ابن حبان (¬1) وقال الخطابي (¬2): صحيح الإِسناد. ثانيها: معنى "يشهد" هنا يحضر ومنه قوله -تعالى-: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3) أي حضره. ثالثها: "النساء": من الجمع الذي لا واحد له من لفظه، إذ الواحد امرأة وله نظائر كثيرة. رابعها: قولها: "من المؤمنات" وفي رواية لمسلم (¬4): "نساء المؤمنات" وصورته صورة إضافة الشيء إلى نفسه. واختلف في تقديره على أوجه. أحدها: نساء الأنفس المؤمنات. ثانيها: نساء الجماعة المؤمنات. ¬

_ = وإياه- وهذه الزيادة في قصة الإِسفار رواتها عن آخرهم ثقات. والزيادة من الثقة مقبولة مختصر السنن للمنذري (1/ 233) طبعة فقي. (¬1) صححه ابن حبان (1449، 1494)، وابن خزيمة (352)، والدارقطني (1/ 250، 251)، وأبو داود (394)، الحاكم (1/ 192، 193)، والبيهقي (1/ 363، 441). (¬2) معالم السنن للخطابي طبعة فقي (1/ 245). (¬3) سورة البقرة: آية 185. (¬4) مسلم (645).

ثالثها: أن نساء [ها هنا] (¬1) بمعنى الفاضلات أي فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم أي فضلاؤهم ومتقدموهم. وقولها: "من المؤمنات" يحتمل أنه بيان لوصفهن ليخرج المنافقات وهو الأقرب، ويحتمل أنه بيان لنوعهن ليخرج الكافرات. خامسها: "متلفعات" هو بالعين المهملة بعد الفاء أي متلحفات كما فسره المصنف أثر الحديث (¬2). وروى (¬3) متلففات تكرير الفاء ومعناهما متقارب إلَّا أن التلفع يستعمل مع تغطية الرأس، بل قال ابن حبيب (¬4): لا يكون [الالتفاع] (¬5) إلَّا [بتغطية] (¬6) [الرأس] (¬7). ¬

_ (¬1) في ن ب (هنا). (¬2) لم يرد لذكر هذا التفسير في الأصل وفي ن ب. وهو موجود في بعض نسخ متن العمدة وقد كملت هذا المحذوف من المتن الموجرد مع تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للبسام (1/ 107). قال: المروط: أكسية معلمة تكون من خزًّ وتكون من صوف. و"متلفّعات" متلحفات. و"الغلس" اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل. متفق عليه. اهـ. وقوله -حفظه الله-: "متفق عليه" هنا لا معنى لها. (¬3) مسلم (645)، وقال الأنصاري في روايته: متلففات، وهي رواية يحيى بن يحيى في "الموطأ" كما ذكره الباجي في المنتقى (1/ 9)، والاستذكار (1/ 216). (¬4) ذكره في: المنتقي للباجي (1/ 9). (¬5) زيادة من إحكام الأحكام لاستقامة المعنى. (¬6) في جميع النسخ بالتغطية، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬7) زيادة من إحكام الأحكام.

سادسها: "المروط" جمع مرط بكسر الميم أكسبته معلمة تكون من خز وتكون من صوف كما فسره المصنف ومن كتان (¬1): قاله الخليل، وزاد بعضهم في صفتها أن تكون مربعة. وقيل: سداها شعر. الواحد مِرط بكسر الميم كما سلف. وقال ابن الأعرابي (¬2): هو الإِزار. وقال النظر (¬3): لا يكون إلَّا درعًا، وهو من خز أخضر، ولا يسمى المِرط إلَّا الأخضر ولا يلبسه إلَّا النساء. وفي الحديث (¬4): ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (كما). (¬2) هو محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي أبو عبد الله الهاشمي النسابة. مؤلفاته:" غريب الحديث"، و"النوادر"، و"خلق الإنسان"، و"خلق الفرس"، و"كتاب الخيل"، و"النبات" وغيرها. ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/ 687). (¬3) النظر بن شميل بن خرشة المازني المتوفي سنة (204)، مؤلفاته: "غريب القرآن"، و"غريب الحديث" و"خلق الإِنسان"، و"الصفات"، و"خلق الفرس"، و"كتاب الطير" و"كتاب الأنواء" وغيرها. سير أعلام النبلاء (9/ 328). (¬4) الحديث أخرجه مسلم في اللباس (2081)، باب: التواضع في اللباس. وفي فضائل الصحابة (2424)، باب: فضائل أهل البيت مطولًا. أبو داود (4032)، والترمذي (2814)، وأحمد (6/ 162). أقول: ففي هذا الحديث بيان بأن المِرط ليس خاصًا بالنساء، وقد جاء في حديث ميمونة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وعليه مرط، وعلى بعض أزواجه منه، وهي حائض، يصلي وهو عليه". أخرجه أبو داود "معالم" (346)، وابن ماجه (653)، وفي البخاري ومسلم نحوه.

"مرط [مرجل] (¬1) هن شعر أسود". سابعها: "الغلس" اختلاط ضياء الفجر بظلمة الليل كما فسره المصنف [أيضًا] (¬2). والغبش (¬3): -بالباء بدل اللام والشين المعجمة- قريب منه لكن يفترقان في أن الغلس آخر الليل [والغبش] (¬4) قد يكون في أول الليل وفي آخره. وأما الغبس: -بالسين المهملة- فيكون كون الرماد وهو بياض فيه كدرة، يقال: لبن أغبش. قال القاضي: والغبش بالمعجمة، قيل [العبس] (¬5) بالمهملة ثم الغلس، وكلها في آخر الليل [ويكون العبس في أول الليل] (¬6). ¬

_ = وأيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض، وعليَّ مِرْط لي، وعليه بعضه"، مسلم (514)، وابن ماجه (652)، وأبو داود معالم (347)، والنسائي (2/ 71)، وفي مسلم (2401)، وسنن البيهقي (2/ 231)، وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة". (¬1) زيادة من المراجع المذكورة وهو بالحاء المهملة والمعجمة. كما في الفائق (3/ 360)، ومشارق الأنوار (1/ 377). (¬2) في ن ب زيادة (أيضًا). (¬3) كما هي رواية الموطأ (1/ 8). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) زيادة من ن ب، وانظر: مشارق الأنوار (2/ 128).

وقال ابن الأثير (¬1): عند أول طلوع الفجر الغبش ثم الغبس ثم الغلس، ثم قال: وقد يكون بالمعجمة في أول الليل (¬2). [ثامنها] (¬3) قولها: "ما يعرفهن أحد من الغلس" وفي الموطأ (¬4) "ما يُعرفن من الغلس" على الباء للمفعول. قال الداودي: [معناه] (¬5) ما يعرفن أنساء هن أم رجال أي إنما يظهر للرأي الأشباح خاصة. وقيل: ما يعرف أعيانهن وضعفه. النووي (¬6) لأن المتلفعة في النهار لا يعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة. وادعى بعضهم أنه أرجح من الأول بقوله (¬7) "ما يعرفهن" والمعرفة إنما تتعلق بالأعيان فلو [كان] (¬8) المراد نفى كونهن ذكورًا أو إناثًا. لقال: لا يعلمهن لأن الحكم بالذكورة والأنوثة إنما يتعلق به العلم دون المعرفة. ¬

_ (¬1) النهاية (3/ 339). (¬2) أي الغبش. (¬3) في ن ب (تاسعها). (¬4) الموطأ (1/ 5). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في شرح مسلم (5/ 144). (¬7) في ن ب (- صلى الله عليه وسلم -)، والكلام ليس من كلامه وإنما كلام عائشة رضي الله عنها. (¬8) في ن ب ساقطة.

قال الباجي في المنتقى (¬1): وهذا الوجه يقتضي أنهن سافرات بوجوههن ولو كن غير سافرات لمنع النقاب وتغطية الوجه من معرفتهن لا من الغلس إلَّا أنه يجوز أن [لهن] (¬2) كشف وجوههن أحد أمرين [إما] (¬3) أن يكون ذلك قبل نزول الحجاب، أو يكون بعده [لكن هنّ] (¬4) أمنّ أن تدرك صورهنّ من شدة الغلس. وأبيح لهن كشف وجوههن (¬5). تاسعها: استدل بعضهم من هذا الحديث على جواز صلاة المرأة مختمرة الفم والأنف ولعله يجعل "متلفعات" صفة [لشهود] (¬6) الصلاة وانصرافهن. وقال القاضي: لا دليل فيه لأنها إنما أخبرت بذلك في الانصراف لا في الصلاة (¬7). عاشرها: في الحديث دليل لمالك والشافعي وأحمد والجمهور على أبي حنيفة في أن الأفضل التغليس بالصبح لا سيما ¬

_ (¬1) (1/ 9). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (إلَّا). (¬4) في ن ب (لكنهن). (¬5) رد ابن حجر رحمه الله ذلك في الفتح (2/ 55) بعد أن ذكر كلامه. "قلت وفيه ما فيه". لأنه مبني على الاشتباه الذي أشار إليه النووي. وأما إذا قلنا إن لكل واحدة منهن هيئة غالبًا فلا يلزم ما ذكر. (¬6) في ن ب (بشهود). (¬7) انظر: أيضًا تعقب الصنعاني في حاشية إحكام الأحكام (2/ 22).

مع طول قراءته - صلى الله عليه وسلم - فيها، وأما حديث: "أسفروا [بالفجر] (¬1) فإنه أعظم للأجر" صححه الترمذي (¬2) فعنه أجوبة: [أحدها] (¬3): أنه محمول على تحقق طلوع الفجر عند خفائه في [مبتدأ] (¬4) طلوعه. ثانيها: أنه محمول على الليالي [المقمرة] (¬5) التي يصبح فيها القمر فإن الفجر يخفى فيها غالبًا لغلبة ضوء القمر عليه. وقال الشيخ تقي الدين: فيه نظر لأنه [قبل] (¬6) التبين للفجر لا يجوز إيقاع الصلاة فيه، والحديث دل على أن ثم وقتين أحدهما. أعظم أجرًا ولا اشتراك بين إيقاع الفجر قبل وقتها وبعد دخول وقتها. وفيما ذكره نظر فتأمله. ثالثها: "أن أعظم" [هنا] (¬7) بمعنى عظيم كلاهما قوله تعالى: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) الحميدي في مسنده (408)، والشافعي في مسنده (1/ 50، 51)، وابن ماجه (672)، والترمذي (154)، والطيالسي (959): والدارمي (1/ 277)، وأحمد (3/ 465، 4/ 140، 142، 143)، وأبو داود عون المعبود (420)، والبغوي (354)، والنسائي (1/ 372)، والطبراني (4287، 4288، 4290)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 281). (¬3) في ن ب (منها). (¬4) في ن ب (مبدأ). (¬5) في ن ب (القمرية)، وما أثبت يوافق ما في معالم السنن (1/ 246). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) زيادة من ن ب.

{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬1) أي هين وشبهه فيكون المعنى: أسفروا بالفجر فإنه عظيم الأجر، وذلك بسبب التسبب والتبيين لطلوع الفجر على التحقيق وهذا يرجع إلى الذي قبله. رابعها: قال البيهقي في خلافياته: إنه حديث [ضعيف] (¬2) [اختلف في إسناده ومتنه، وقال ابن العطار في شرحه: إنه حديث ضعيف] (¬3) (¬4). خامسها: ذكره الخطابي أنه يحتمل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بعد الفجر الأول والثاني طلبًا للثواب، فقيل لهم صلوا بعد الثاني وأصبحوا بها، فإنها أعظم لأجركم. فإن قيل: لو صلوا قبل الفجر لم يكن فيها أجر. فالجواب: أنهم يؤجرون على نيتهم وإن لم تصح صلاتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" (¬5). (¬6) وأما حديث عبد الله بن مسعود قال: "ما رأيت ¬

_ (¬1) سورة الروم: آية 27. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) هذا الحديث صححه جماعة من المحدثين الترمذي (154)، وابن حبان (3/ 23) ابن تيمية في الفتاوى. وأقر الحافظ في الفتح (2/ 54) تصحيح من صححه. (¬5) متفق عليه. (¬6) انظر: معالم السنن (1/ 245) مفصلًا.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها إلَّا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء. بجمع يعني [المزدلفة] (¬1) وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها" متفق عليه (¬2). قالوا: ومعلوم أنه لم [يكن] (¬3) يصليها قبل طلوع الفجر، وإنما صلاها بعد طلوعه مغلسًا بها، فدل على أنه كان يصليها في جميع الأيام غير ذلك اليوم مسفرًا بها. وجواب هذا: أن معناه أنه صلاها في هذا اليوم قبل ميقاتها المعتاد بشيء يسير ليتسع الوقت لمناسك الحج، وفي غير هذا اليوم كان يؤخر بقدر ما يتطهر المحدث والجنب ونحوه. وأغرب الطحاوي (¬4): فادعى أن حديث الإِسفار ناسخ لحديث التغليس. قال الحازمي (¬5): وهو وهم لأنه ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - داوم على التغليس حتى فارق الدنيا كما رواه أجر داود (¬6) وهو حديث مخرج في الصحيح رواته عن آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة، وقد قدمت هذا الحديث في الوجه الأول، وأن ابن ¬

_ (¬1) في ن ب (بالمزدلفة). (¬2) البخاري (12/ 16). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) معاني الآثار (1/ 179). (¬5) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (103/ 106). (¬6) سبق تخريجه في ت (3/ 229).

حبّان صححه والخطابي (¬1) قال، إنه صحيح الإِسناد. واعلم أن البغوي (¬2) روى في شرح السنة من حديث معاذ قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: يا معاذ إذا كنت في الشتاء فغلس بالفجر وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وإذا كان في الصيف فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير، والناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوا" ولم أر من قال بهذا التفصيل، ولو قيل به لم يبعد، وبه يجمع بين الأحاديث، فالتغليس يحمل على الشتاء، وحديث الإِسفار يحمل على الصيف (¬3) والله أعلم بذلك. ¬

_ (¬1) معالم السنن، طبعة الفقي (1/ 245). (¬2) السنة للبغوي (2/ 199) قال المعلقان: ضعيف جدًّا، وهو في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الشيخ (76) بسبب: الجراح بن المنهال أبو العطوف، وقد ضعقه أحمد وابن المديني والبخاري، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: كان يكذب في الحديث. (¬3) قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في أعلام الموقعين: -بعد ذكر حديث رافع بن خديج ما لفظه، وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الأسفار دوامًا. لا ابتداء فيدخل فها مغلسًا، ويخرج مسفرًا، كما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -، فقوله موافق لفعله، لا مناقض له. وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه؟ وقد ذكر نحوه الطحاوي في مشكل الآثار (1/ 105)، وفيه حديث ذكره الألباني (1/ 287) في الإِرواء، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر". أخرجه أحمد في المسند (3/ 129، 169)، وإسناده صحيح: فهذا فيه الجمع بين الأحاديث حيث بين الابتداء بالصلاة ووقت خروجه منها وهو الإِسفار.

الحادي عشر: فيه دليل على خروج النساء إلى المساجد لصلاة الصبح وعشاء الآخرة ملحقة بها لكونها في معناها من حيث وجود الظلمة فيها، وهذا كله بشرط أمن الفتنة عليهن أو بهن. وادعى القاضي: أن فيه دليلًا على خروج النساء إلى المساجد، وتبعه النووي في شرحه (¬1)، فقال: فيه جواز حضور النساء الجماعة في المسجد، والحديث إنما فيه ذكر الليل فقط، وكأنهما أخذاه من باب أولى، لأن الليل مظنة الفساد، وليس في الحديث ما يدل على كونهن عجزًا أو شواب. وكره بعضهم للشواب الخروج. وقال بعض العلماء: لا تخرج المرأة إلَّا بخمسة شروط: أن يكون ذلك لضرورة، وأن تلبس أدنى ثيابها، وأن لا يظهر عليها الطيب، وما في معناه من البخور، وأن يكون خروجها في طرفي النهار، وأن تمشي في طرفي الطرقات دون وسطها لئلا تختلط بالرجال. وفي صحيح ابن حبّان (¬2) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ليس للنساء وسط الطريق". ¬

_ (¬1) لمسلم (5/ 144). (¬2) ابن حبان (7/ 423)، قال ابن حبان -رحمه الله-: قوله - صلى الله عليه وسلم - "ليس للنساء وسط الطريق" لفظة إخبار مرادها الزجر عن شيء مضمر فيه وهو مماسة النساء الرجال في المشي إذ وسط الطريق الغالب على الرجال سلوكه. والواجب على النساء أن يتخللن الجوانب حذر ما يتوقع من مماستهم إياهن.

وزاد بعضهم أن لا تكون ممن يفتتن بها وقد سلف. وأن لا تكون ذات خلخال يسمع صوته. وفي معناه الحذاء المصرصر [والإِزار] (¬1) المقعقع الذي يوجب رفع الأبصار إليها بسببها. وزاد بعضهم [أيضًا] (¬2) أن لا تخاف في طريقها مفسدة. وزاد بعض المتأخرين من المالكية على وجه البحث أن لا ترفع صوتها من غير ضرورة، وأن لا يظهر منها ما يجب ستره، والذي ينبغي في هذه الأزمان المنع مطلقًا إلَّا أن تكون عالمة عاملة لا يفتتن بها، وذلك أن صلاتها في بيتها أفضل من المسجد مطلقًا، وفي مخدع بيتها أفضل من بيتها مطلقًا للأحاديث (¬3) في ذلك. وفي صحيح ابن حبان (¬4) من حديث عبد الله مرفوعًا: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها [الشيطان] (¬5) وأقرب ما تكون من ربها إذا [هي] (¬6) في قعر بيتها". والثاني عشر: قال القاضي (¬7): فيه دليل على خروجهن قبل ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أبو داود عون المعبود (2/ 566) ولفظه: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها". (¬4) ابن حبان (7/ 446). (¬5) في الأصل (الناس)، والتصويب من ن ب. (¬6) في ن ب (تكون). (¬7) انظر: المنتقي (1/ 9).

الرجال اغتنامًا لظلمة الغلس ومبادرة حقوق الأزواج في بيوتهن، انتهى. ورواية الموطأ (¬1) إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات" ظاهرة في ذلك دون الرواية المذكورة فإن فيها "ثم" التي للتراخي. الثالث عشر: فيه دلالة على استقرار المرأة في بيتها، وأن لا تخرج منه إلَّا لمصلحة شرعية، وأن ترجع إليه بعد فراغها منه. الرابع عشر: للصبح خمسة أسماء أخر [غير الفجر] (¬2) كما ستعلمها في الحديث الرابع وقولها: "كان يصلي الفجر" أي صلاة الفجر على حذف المضاف. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 5)، وأخرجه البخاري ومسلم. (¬2) ساقطة من ن ب.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 49/ 3/ 9 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر: بالهاجرة، والعصرَ: والشمسُّ نقيةٌ، والمغربَ: إذا وجَبَتْ، والعشاءَ: أحيانًا [وأحيانًا] (¬1). إذا رآهم اجتمعوا: عجَّل، وإذا رآهم ابطأوا: أَخَّرَ، والصبحَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَليها بغَلَس (¬2) ". [الهاجرة: هي شدة الحر بعد الزوال] (¬3). الكلام عليه من وجوه وراويه تقدم في الغسل: أحدها: في ألفاظه. الظهر: في سبب تسميتها بذلك أقوال، ذكرتها في لغات المنهاج للنووي -رحمنا الله وإياه-. ومنها: لأنها ظاهرة وسط النهار. ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) البخاري (560، 565)، ومسلم (646)، وأبو داود (397)، والنسائي (1/ 264)، والدارمي (1/ 267)، وأحمد (3/ 369)، وأبو عوانة (1/ 267)، والبيهقي (1/ 434)، والطيالسي (1722)، والبغوي (351)، وابن أبي شيبة (1/ 318). (¬3) زيادة من العمدة.

والهاجرة: شدة الحر. والمراد هنا: نصف النهار بعد الزوال من الهجر، وهو الترك: لترك الناس التصرف حينئذ لشدة الحر، ويقيلون. قال الخليل (¬1): [الهجر] (¬2) والهجير و [الهاجرة] (¬3): نصف [النهار] (¬4) وأهجر القوم، وأهجروا: ساروا في الهاجرة. والعصر: [أصله الزمان] (¬5). والمراد [به] (¬6) هنا طرفه. ومنه قيل لصلاة الصبح والعصر. العصران. ويقال: العصران للغداة والعشي. [سميتا] (¬7) باسم الوقت. وقيل: لتأخيرها. ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي المتوفى سنة (175)، مؤلفاته: "النوادر"، و "كتاب العين"، و"فائت العين"، سير أعلام النبلاء (7/ 429). (¬2) في ن ب ساقطة. وأيضًا غير موجودة في إحكام الأحكام (2/ 24). (¬3) في ن ب (الهاجر). انظر كتاب "العين" (3/ 387). (¬4) في ن ب ساقطة. انظر: حاشية إحكام الأحكام (2/ 24)، وعرفها الجوهري بقوله: الهاجرة نصف النهار عند اشتداد الحر. انظر: المصباح المنير (88). (¬5) في ن ب مكررة. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في الأصل (سميت)، وما أثبت من المصحح. انظر: النظم المستعذب (1/ 54)، وتهذيب اللغة (2/ 14)، وقال فيه: والعصر الحبس. وسميت عصرًا، لأنها تعصر، أي: تحبس عن الأولى. اهـ.

والنقي: الصافي الخالص. والمغرب: في اللغة: يطلق على وقت الغروب، وعلى مكانه سميت المغرب بذلك: لفعلها في هذا الوقت، ويبعد أن يكون مصدرًا. وأصل الغرب: البعد. وتسمى المغرب أيضًا: صلاة الشاهد لطلوع نجم حينئذ، يسمى الشاهد، فنسبت إليه (¬1). وقيل: [لاستواء] (¬2) الشاهد وهو الحاضر والمسافر في عذرها أي أنها لا تقصر، وفيه نظر، لأن الصبح لاتقصر، وهي لا تسمى الشاهد. والوجوب: السقوط للغروب. والمراد: سقوط فرضها. ويستدل عليه. بطلوع الليل من [المشرق] (¬3) وهو الوقت الذي يفطر فيه الصائم، وفاعل [وجبت] (¬4) مستتر، وهو الشمس، وهو من الضمير الذي يفسره سياق الكلام، نحو قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} (¬5) ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) ومنه حديث أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما صلى العصر، قال: لا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (الشرق). (¬4) في ن ب (وجب). (¬5) سورة ص: آية 32.

والعشاء: كأنها سميت باسم الوقت الذي يقع فيه. والأحيان: جمع حين، وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزمان. وقيل: إنه يقع على ستة أشهر. وقيل: على أربعين سنة (¬1). والغلس: تقدم تفسيره في الحديث قبله. والصبح: [بضم] (¬2) الصاد وكسرها لغة حكاها ابن مالك (¬3) في مثلثه (¬4)، وهو في اللغة أول النهار، فسميت بذلك. ثانيها: الحديث دال على فضيلة أول الوقت، وعورض في الظهر بحديث الإِبراد بالصلاة، [وجمع] (¬5) بينهما فحمل حديث الإِبراد على الترخيص والتخفيف في التأخير. قاله بعض أصحابنا وغيرهم، وفيه بعد لأن علة الإِبراد تقتضي أن التأخير أفضل، أو يكون أطلق الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقًا، فإنه قد يكون فيه الهاجرة في وقت فيطلق على الوقت مطلقًا ¬

_ (¬1) انظر: المصباح المنير (160). (¬2) في ن ب (بفتح). (¬3) هو جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ومات في شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة. ترجمته في الأعلام (7/ 111)، وفوات الوفيات (2/ 227). (¬4) إكمال الأعلام بثليث الكلام (2/ 355)، طبعة جامعة أم القرى. (¬5) في ن ب (وحمل).

[بطريق] (¬1) الملازمة، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد. ذكره الشيخ تقي الدين (¬2) واستبعده. قال: أو يقول من يرى الأبراد سنة: إن الهجير لبيان الجواز. قال: وفيه بعد، لأن قوله "كان" يشعر بالكثرة والملازمة عرفًا. قلت: والأشبه أن حديث التعجيل نسخه حديث الإِبراد، كما قيل في حديث خباب: "شكونا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في [جباهنا] (¬3) وأكفنا فلم يشكنا" (¬4) أي لم يُزِلْ شكوانا أنه منسوخ بأحاديث الإِبراد. وقول القاضي عياض (¬5): إن معناه لم يحوجنا إلى الشكوى، فرخص لنا في الإِبراد عجيب لأن في آخره، قال زهير: قلت لأبي إسحاق (¬6): "أفي الظهر؟ قال: نعم. قلت: أفي تعجيلها؟ قال: نعم". وروى ابن المنذر والبيهقي (¬7) من طريق آخر فقال: "فما أشكانا. وقال: إذا زالت الشمس فصلوا" وصححه ابن القطان، ¬

_ (¬1) في ن ب (طريق). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 26). (¬3) في ن ب (وجوهنا). (¬4) مسلم (619)، والنسائي (1/ 247)، الحميدي (152)، والطيالسي (1052)، وابن أبي شيبة (1/ 323، 324)، أحمد (5/ 108، 110)، والطبراني (3698، 3699، 3700)، والبيهقي في السنن (1/ 438)، والبغوي (358). (¬5) مشارق الأنوار (2/ 252)، وانظر: شرح النسبة للبغوي (2/ 201). (¬6) البيهقي (1/ 438). (¬7) البيهقي (1/ 438، 439)، والفتح (2/ 17).

وهذه الرواية ترد أيضًا قول من حمله على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإِبراد فاعلمه. ثالثها: فيه دليل أيضًا على المبادرة بالعصر في أول وقتها، وأبعد من قال: إن أول وقتها ما بعد القامتين. رابعها: فيه دليل أيضًا على أن سقوط قرص الشمس يدخل [بها] (¬1) وقت المغرب. والأماكن تختلف فما كان منها منه حائل بين الرأي وبين القرص لم يكف بغيبوبته عن العين. ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا غربت الشمس من ها هنا، وطلع [الليل] (¬2) من ها هنا فقد أفطر الصائم" (¬3) وإن لم يكن ثَمَّ حائل. فقد قال بعض أصحاب مالك: إن الوقت يدخل بغيبوبة النمس وشعاعها المستولي عليها. وقال الماوردي: وقتها أن يسقط القرص، ويغيب حاجب الشمس، وهو [الضياء] (¬4) المستعلي عليها: كالمتصل بها؛ وهو غريب. ¬

_ (¬1) في ن ب (به). (¬2) في الأصل (بالنهار)، والتصويب من ن ب. (¬3) لفظة: "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم". البخاري، باب: الصوم في السفر والإِفطار، ومسلم (1101) في الصيام. ولفظ آخر: "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". البخاري، باب: متى يحل فطر الصائم ومسلم (1100). (¬4) في الحاوي الكبير (2/ 23، 24) الضوء.

خامسها: قال بعضهم: فيه دليل على أن المغرب لا يتنفل قبلها لقوله: "كان يصلي المغرب إذا وجبت" والمشهور عندنا أنه لا يستحب، وبه قال الخلفاء الأربعة ومالك وأكثر الفقهاء. وصحح المحققون: الاستحباب، وهو المختار لأحاديث ثابتة فيه، وبه قال أحمد (¬1). ووهم النخعي فقال: إنها بدعة. وأغرب من ادعى نسخ هذه الأحاديث المشار إليها، ومن قال: [إنه] (¬2) يؤدي إلى تأخير المغرب، فإنه زمن يسير. سادسها: استمر العمل بصلاة المغرب عقب الغروب، وقد أخذ منه أن وقتها واحد، وهو المشهور في المذهب، والحق امتداده إلى مغيب الشفق. سابعها: فيه دلالة لمن يقول: إن تقديم العشاء أفضل عند اجتماع الجماعة، والتأخير أفضل عند عدم [الاجتماع] (¬3). وهو قول عند المالكية وأكثر أهل العلم على أن تأخيرها أفضل، حكاه الترمذي (¬4) عن أكثر العلماء من الصحابة والتابعين، قال: وبه يقول أحمد وإسحاق. قلت: وأبو حنيفة والصحيح عند الشافعي ومالك أن تقديمها أفضل. ¬

_ (¬1) انظر: معجم فقهاء السلف (2/ 90). (¬2) في ن ب (به). (¬3) في ن ب (الجماعة). (¬4) في السنن (1/ 289).

وقال ابن أبي هريرة (¬1) من الشافعية: إن علم من نفسه أنه إذا أخرها لا يغلبه نوم ولا غسل استحب تأخيرها، وإلاَّ فتعجيلها. قال الشاشي: وهو متجه للمنفرد دون الجماعة لاختلاف أحوالهم. وقال قوم: إنه يختلف باختلاف الأوقات ففي الشتاء وفي رمضان تؤخر، وفي غيرهما تقدم لتشاغل الناس بفطرهم ونحو ذلك، وقد لا يدرك الجماعة لو أخرت، وإنما أخرت في الشتاء لطول الليل وكراهة الحديث بعدها، وهو قول في مذهب مالك، وتحرير مذهب مالك أن تقديم الصبح والمغرب في أول وقتها أولى [للفذ] (¬2) وللجماعة؛ حتى إذا أراد أن يصليها الفذ أول الوقت، أو ينتظر الجماعة: كانت صلاته لها أول الوقت أفضل من انتظار الجماعة. وأما الظهر: فالمستحب عند مالك أن يصلي في الصيف والشتاء والفيء قدر ذراع. والعصر: دون ذلك على المشهور. وقيل: هي كالظهر؛ ولا فرق في ذلك بين الفذ والجماعة. واستحب ابن حبيب: تعجيلها يوم الجمعة ليقترب انصراف المتطهرين لها ممن صلى الجمعة. وأما العشاء الآخرة: فعندهم أربعة أقوال [ثالثها] (¬3). ¬

_ (¬1) هو الحسن بن الحسين أبو علي بن أبي هريرة البغدادي مات ببغداد في رجب سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. طبقات ابن الصلاح (445)، وفيات الأعيان (1/ 358). (¬2) في الأصل (للعذر)، وما أثبت من ن ب وسياق الكلام بعده. (¬3) في ن ب (بالنهار).

ورابعها التفصيل كما تقدم. قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك أن من سنة الصلاة في الغيم تأخير الظهر، وتعجيل العصر، وتأخير المغرب حتى لا يشك في الليل، وتعجيل العشاء إلَّا أنه يتحرى ذهاب الحمرة، وتأخير الصبح حتى لا يشك في الفجر. وذهب بعض العلماء: إلى أن تأخير الصلوات إلى آخر الوقت أفضل؛ إلَّا الحاج يوم النحر بالمزدلفة فإنه يصليها بغلس، وقد أسلفت ذلك [في] (¬1) أواخر الكلام على الحديث الأول. ثامنها: قال الشيخ تقي الدين: هذا الحديث يتعلق [بشيء لم يتكلموا فيه] (¬2)، وهو أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت، وبالعكس حتى إنه إذا تعارض في [حق] (¬3) شخص أمران: أحدهما: أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردًا أو يؤخرها في الجماعة، أيهما أفضل؟ قال: والأقرب عندي أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل، وهذا الحديث يدل عليه، لقوله: "وإذا رآهم [ابطأوا] (¬4) أخّر" [وهو] (¬5) لأجل الجماعة مع إمكان التقديم، ولأن التشديد في ترك الجماعة، والترغيب في فعلها موجود في الأحاديث ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في إحكام الأحكام (2/ 32): "بمسألة تكلموا فيها". (¬3) زيادة من المرجع السابق. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في إحكام الأحكام (2/ 32): [فأخر].

الصحيحة، وفضيلة الصلاة في أول الوقت ورد على وجه الترغيب في الفضيلة (¬1). قلت: هذه المسألة النسبة فيها خلاف منتشر لأصحابنا والمختار التقديم في أول الوقت إن فحش التأخير؛ وإلَّا انتظار الجماعة. تاسعها: فيه دلالة على التغليس بالصبح وقد تقدم مبسوطًا في الحديث قبله مع الجواب عما عارضه. ¬

_ (¬1) انظر: حاشة إحكام الأحكام (2/ 33).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 50/ 4/ 9 - عن أبي المنهال -سيار بن سلامة- قال: "دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي. فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير [الذي] (¬1) تدعونها الأولى، حين تدحض الشمس. ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة، والشمس حية. ونسيت ما قال في المغرب. وكان يستحب أن يؤخر من العشاء، التي تدعونها العتمة. وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها. وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وبقرأ بالستين إلى المائة (¬2) ". الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في ن ب (التي). (¬2) البخاري (541، 547، 568، 599، 771)، ومسلم (647)، وأبو داود (398)، والنسائي (1/ 265)، وأحمد في المسند (4/ 420، 424)، والطيالسي (920)، وابن ماجه (1/ 123)، والمروزي في قيام الليل (45)، والترمذي لفظه: "كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" رقم (168).

أحدها: سيار هذا تابعي ثقة، قال ابن حبّان: مات سنة تسع وعشرين ومائة والده سلامة ذكره العسكري. وسيار: يشتبه بيسار بتقديم الياء على السين، وذكر الأمير مع سيار سنانا أيضًا. ثانيها: أبو برزة: هذا هو نضلة بن عبيد، هذا أصح ما فيه وأشهره، شهد الفتح. ورد أنه قتل ابن خطل يومئذ، وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوات، سكن المدينة، ثم تحول إلى البصرة. وغزا بِخُرَاسانَ، فمات بها أو بالبصرة أو بنيسابور أقوال بعد سنة أربع وستين، وقال ابن عبد البر: سنة ستين وقيل: سنة أربع وكان يقوم من جوف الليل فيتوضأ ولا يوقظ أحدًا من خدمه وهو شيخ كبير ثم يصلي. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثًا، اتفقا منها على حديثين. وقال ابن الجوزي: على حديث. وانفرد مسلم بأربعة والبخاري بحديثين. وأما نسبة الأسلمي: فإلى جد من أجداده [اسمه] (¬1) أسلم بن أفصى بالفاء، ابن حارثة. [فائدة] (¬2): برزة: بفتح أوله وإسكان ثانية ثم زاي ثم هاء ملفوظًا بها وهي تاء في الوصل. فيشتبه: بأبي بردة صورة لا لفظًا ولهم في الأسماء بُرزه بضم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (أمين).

أوله سمع منه ابن ماكولا (¬1). ونَضْلة بفتح أوله وسكون ثانيه. ويشتبه بنَضْلَةِ بن قُصَيَّةِ في [القريب] (¬2): قال ابن ماكولا: هو بفتح الضاد وما عداه فبإسكانها (¬3). ويشتبه أيضًا [ببَصَلة] (¬4) بالصاد المهملة لقب محمد بن محمد بن عبيد الله [الجرجاني] (¬5) المقريء. ثالثها: "كان" هذه قد تقدم أنها تشعر بالدوام. رابعها: قوله: "المكتوبة" أي الصلاة المكتوبة وهي المفروضة. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} (¬6) وأفردت لأن المراد الجنس وتصح المكتوبات على تقدير الصلوات المكتوبات. والألف واللام فيها للاستغراق، ولهذا أجاب فذكر الصلوات كلها لفهمه من السائل العموم. ¬

_ (¬1) انظر: الإِكمال (1/ 238). (¬2) في ن ب كأن الكلمة (الغرب) بالغين، وما أثبت اجتهاد من المصحح والتوفيق بيد الله، والله أعلم. (¬3) الإِكمال (7/ 273). (¬4) في ن ب ساقطة، وضبط من تبصير المنتبه لابن حجر (4/ 1422)، ومشتبه النسبة للذهبي (644). (¬5) وما أثبت من المراجع السابقة أيضًا ون ب. (¬6) سورة النساء: آية 103.

خامسها: في ذكره الصلواتِ الخمسَ دون الوتر يدل على أنها ليست مكتوبة، وأبو حنيفة قال: إنه واجب على قاعدته في الفرق بين الفرض والواجب (¬1). سادسها: للظهر أربعة أسماء: هذا، [والهجيرة] (¬2)، والهاجرة الظهر لما تقدم، والأولى، لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على المشهور. وقال الشيخ تاج الدين ابن الفركاح (¬3): يكره أن يقال لها: ¬

_ (¬1) قال الغزالي -رحمنا الله وإياه- في المنخول (76)، مسألة: قال أبو حنيفة -رحمه الله-، الفرض: هو ما يقطع بوجوبه، والواجب: ما يتردد فيه. وعندنا: لا فرق إذ الشارع لم ينص عليه. وقال في المستصفى (1/ 42) ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني، وقال شارح مسلم الثبوت (1/ 58) بهامش المستصفى: إن النزاع بيننا وبين الشافعية ليس إلَّا في التسمية. لا في المعنى. راجع: نهاية السول بهامش سلم الوصول (1/ 76)، وتيسير التحرير (2/ 187)، حاشية الأزميري على مرآة الأصول شرح مرقاة الوصول (2/ 392)، الإِبهاج لابن السبكي (1/ 34)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (1/ 83)، والمحصول (1/ 119، 120)، وانظر تعليق (121، 126). (¬2) في ن ب (الهجير). (¬3) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع العلامة المفتي، ولد في ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة، ومات في جمادى الآخرة سنة تسعين وستمائة. ترجمته في طبقات السبكي (5/ 60)، الدارس في تاريخ المدارس (1/ 108)، وتاريخ ابن الوردي (2/ 236).

الأولى فلم [يسمع] (¬1) في استعمال معتمد. والهجير، والهاجرة: نصف النهار كما سلف [والهجر] (¬2) أيضًا، فكأنها سميت باسم الزمان [التي تقع] (¬3) فيه، فيكون تسميتها به من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. [تقديره] (¬4) كأنه يصلي صلاة الهجير. وهما أعني الهجير والهاجرة في أصل اللغة اسم لشدة الحر كما سلف. وفي حديث أبي هريرة الآتي حيث ذكره المصنف: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي [العشي] (¬5) والمراد الظهو والعصر، وفي الصحيح (¬6): "من صلى البردين دخل الجنة" يعني الصبح والعصر. وسمتا بذلك لأنهما يفعلان في وقت البرد. وأما العصر فلها اسمان: هذا، والعشي، وفي الحديث: "حافظوا على العصرين. قيل: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" (¬7) سماهما العصرين، لأنهما يقعان في طرفي ¬

_ (¬1) في ن ب (يستعمل). أقول: وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد: الصحيح عدم الكراهة بدلالة الحديث، ولفظه: "وكان يصلي الهاجرة الي تدعونها الأولى". (¬2) في ن ب (البحر). (¬3) في ن ب (الذي يوقع). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (العشاء). (¬6) البخاري (574)، ومسلم (440). (¬7) من رواية فضالة بن عبيد أبو داود مختصر المنذري طبعه فقي (1/ 247)، =

العصرين، وهما الليل والنهار، وهو من باب تغليب أحد الاسمين على الآخر: كالعُمرين والقمرين. وأما المغرب: فلها اسمان هذا، والشاهد على ما تقدم، ويكره تسميتها عشيًا (¬1). وأما العشاء الآخرة: فلها اسمان: هذا، والعتمة، وفي كراهة الثاني خلاف. وصح النهي عنه (¬2)، وعنه أجوبة: ¬

_ = البيهقي (1/ 466)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 440)، والطبراني في الكبير (18/ 826)، وصححه الحاكم (1، 199/ 200، 3/ 628) ووافقه الذهبي. (¬1) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه: "باب من كره أن يقال للمغرب: العشاء" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب. قال الأعراب تقول العشاء" وفي هذه الترجمة عدم الجزم من البخاري بالكراهة. لأن لفظ الحديث بلفظ الخبر ولا يقتضي نهيًا مطلقًا، لكن فيه النهي عن غلبة الأعراب على ذلك. فهو لا يقتضي المنع من إطلاق العشاء عليها أحيانًا، وإنما شرع لها التسمية بالمغرب، لأنه اسم يشعر بمسماها أو بابتداء وقتها. وسبب الكراهة لئلا يقع الالتباس بالصلاة الأخرى. وعلى هذا فلا يكره تسميتها العشاء بقيد الأولى. لورود حديث في الصحيح "العشاء الآخرة". والتغليب جائز كمن يقول صليت العشاءين. اهـ. من فتح الباري بتصرف (2/ 44). (¬2) قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "باب ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعًاً". قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلمون ما في العتمة والفجر"، وقول الصحابة: "أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم -". في هذه الترجمة والأحاديث إثبات إطلاقه - صلى الله عليه وسلم - اسم العتمة على العشاء، وتسميتها بالعشاء يشعر بأول وقتها =

منها: أن المكروه أن يغلب عليها اسم العتمة، بحيث يهجر تسميتها بالعشاء. ومنها: أنه خاطب بذلك من لا يعرف العشاء، وفيه بعد. ومنها: أنه حيث وقع تسميتها بذلك يحمل على الجواز. وأما ابن عمر - رضي الله عنه - "فكان إذا سمع أحدًا يقول العتمة صاح به وغضب" (¬1). وأما الصبح: فلها أسماء هذا، والفجر، كما ذكره في الحديث الثالث من باب صلاة الجماعة، والغداة، كما هو مذكور هنا. نعم قال الشافعي في الأم: أحب أن لا تسمى بذلك، فإن الله -تعالى- سماها الفجر، ورسوله سماها الصبح. وقال صاحب "المهذب" (¬2): يكره وتسمى أيضًا الصلاة الوسطى، وصلاة التنوير، وقرآن الفجر. سابعها: قوله: "تدعونها العتمة" أي تسمونها، وفيه دليل على جواز تسميتها بذلك وإن تركها أحسن. ثامنها: معنى "تَدحض" بفتح أوله وثالثه، تزول عن كبد ¬

_ = بخلاف تسميتها عتمة، لأنه يشعر بخلاف ذلك وحاصل هذا ثبوت تسمية هذه الصلاة تارة عتمة وتارة عشاء. والاختيار أن يقول العشاء لقوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}. اهـ. من فتح الباري (2/ 45). (¬1) عبد الرزاق موقوفًا (1/ 566). (¬2) انظر: المهذب مع شرحه المجموع (3/ 43)، وتعقب النووي عليه في المجموع (3/ 46).

السماء، وهو الدلوك والميل أيضًا، فهذه أربعة أسماء لوقتها. والصلاة لها أوقات كما تقدم أيضًا، وظاهر قوله " [حين] (¬1) تدحض" يقتضي وقوع الظهر عند الزوال، فلا بد من تأويله، وقد يتمسك [به] (¬2) من يقول من أصحابنا: إن فضيلة أول الوقت لا تحصل إلَّا إذا قدم ما يمكن تقديمه على الوقت: كالطهارة وغيرها، وهو ضعيف، إذ لا يمكن وقوع جميع الصلاة عند الزوال لتعذره [ولا انطباق] (¬3) أول جزء من الصلاة على أول جزء من الوقت لعسره، ولهذا كان الصحيح عند أصحابنا أن فضيلة [أول] (¬4) الوقت يحصل بأن يشتغل بأسباب الصلاة كما دخل الوقت. وقوله: "والشمس حية" حياتها صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير. وقيل: وجود حرها وهو مجاز عن نقاء بياضها، وعدم مخالطة الصفرة لها (¬5). تاسعها: [قوله] (¬6) "وكان يستحب أن يؤخر من العشاء" فيه [دليل على] (¬7) استحباب التأخير قليلًا، لأن حرف التبعيض يدل ¬

_ (¬1) في ن ب (حتى). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (والانطباق). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) إحكام الأحكام مع الحاشيه (2/ 38). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) زيادة من ن ب.

عليه، قاله الشيخ تقي الدين (¬1): وفيه نظر لأن التبعيض مطلق، لا دلالة فيه على القليل بخصوصه (¬2). عاشرها: كره النوم قبلها خشية التمادي فيه إلى خروج وقتها المختار أو الضروري [أو] (¬3) [لخشية] (¬4) نسيانها وقد كرهه عمر وابنه وابن عباس وغيرهم من السلف، وبه قال مالك وأصحابنا، ورخص فيه علي وابن مسعود والكوفيون (¬5). قال الطحاوي: رخص فيه بشرط أن يكون معه من يوقظه. وروى عن ابن عمر مثله، وخص بعضهم الرخصة برمضان، وكره الحديث بعدها أي [بعد] (¬6) فعلها، إما لخشية أن ينام عن الصبح بسبب سهره أول الليل، وإما لخشية الوقوع في [الغلط] (¬7) واللغو وما لا ينبغي أن يختم به اليقظة، وهذا العموم يستثنى منه؛ إذا كان ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 38). (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (2/ 38)، في شرح الجامع على الكافية ما يشعر بأن دخول "من" التبعيضية على شيء بدل على أن المذكور بعدها أقل من البعض المقابل له، فإن تم فلا إطلاق. اهـ. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (خشية). (¬5) انظر: مصنف عبد الرزاق (1/ 561، 565) للاطلاع على هذه الآثار وما بعدها. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب (اللغط).

في خير كمذاكرة العلم ونحوه. وقد بوب البخاري عليه "باب: السمر في العلم" (¬1). وقال القرطبي في تفسيره (¬2): في قوله تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} (¬3). سبب كراهة الحديث بعدها أن الصلاة قد كفرت خطاياه فينام على سلامة وقد ختم كتاب صحيفته بالعبادة. وروى جابر مرفوعًا: "إياكم [والسهر] (¬4) بعد هدأة الرجل، فإن أحدكم لا يدري ما بيت الله من خلقه، أغلقوا الأبواب" (¬5) الحديث وروي عن عمر (¬6) أنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: "سمرًا أول الليل ونومًا آخره أريحوا كتابكم". وقد قيل: الحكمة في ذلك أن الله جعله سكنًا فلا يخالف. وقيل: إنه من أفعال الجاهلية فلا يتشبه بهم. وبالجملة فتقليل ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 211). (¬2) (12/ 136، 138). (¬3) سورة المؤمنون: آية 67. (¬4) في ن ب (والسمر). (¬5) الحاكم (4/ 284) مع اختلاف في بعض الألفاظ، ومصنف عبد الرزاق (11/ 46) عن طاوس، وحسنة الألباني في الصحيحة (4/ 345)، وصحيح الجامع (2/ 383). (¬6) مصنف عبد الرزاق -رحمه الله- باب النوم قبلها والسهر بعدها، وفيه عدة آثار قد رويت عن مجموعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وأثر عمر - رضي الله عنه - برقم (2132، 2134).

الكلام بالشخص أولى ما لم يتعلق بمصلحة دينية أو دنيوية، سواء كان في ليل أو نهار. ويقال: لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب، فنظمه بعضهم فقال: إذا ما اضطررت إلى كلمة ... فدعها وباب السكوت اقصد فلو كان كلامك من فضة ... لكان سكوتك من عسجد وسأل بعضهم مالكًا - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه، فقال: أوصني. فقال: إن شئت جمعت لك: علم العلماء، وحكم الحكماء، وطب الأطباء في ثلاث كلمات. أما علم العلماء إذا سئلت عما لا تعلم فقل: لا أعلم. وأما حكم الحكماء: فإذا كنت جليس قوم فكن أسكتهم، فإن أصابوا كنت من جملتهم. وإن أخْطَأُوا سلمت من خَطَّائهم. وأما طب الأطباء: فإذا أكلت طعامًا فلا تقم إلَّا ونفسك تشتهيه، فإنه لا يلم جسدك غير مرض الموت أو قريبًا من هذا وقال أيضًا: من عبد كلامه من عمله قل كلامه. أي إلَّا فيما يعنيه. وقيل: إنما جعل لك لسان واحد وأذنان، ليكون ما تسمع أكثر مما تقول. الحادي عشر: استنبط ابن الصلاح في فتاويه (¬1) من النهي عن ¬

_ (¬1) انظر: فتاوي ورسائل ابن الصلاح (1/ 228، 229).

النوم قبلها أنه لو قصد بالنوم حيث يحتمل عنده الاستيقاظ قبل خروج الوقت [وعدمه على السواء أنه يعصي، ولو غلب على ظنه الاستيقاظ قبل خروج الوقت] (¬1) فيظهر عدم عصيانه، وإن غلب على ظنه أنه لا يستيقظ عصى قطعًا مهما نام بعد الوقت، أما إذا نام قبله فلا؛ لأن التكليف لم يتعلق به [ورع] (¬2) يعلم من [عادته] (¬3) أنه لا يستيقظ إلَّا بعد الوقت. الثاني عشر: قوله: "وكان ينفتل من صلاة الغداة" إلى آخره فيه دلالة على ما تقدم من تقديم صلاة الصبح أول وقتها، فإن ابتداء معرفة [الإِنسان] (¬4) جليسه يكون مع بقاء الغلس. وفيه دلالة أيضًا على أنه لا كراهة في تسمية الصبح غداة، وقد تقدم [ما فيه] (¬5). [الثالث عشر] (¬6): معرفة الرجل جليسه حين يسلم هو نظره إلى وجهه، ولهذا جاء في رواية [في] (¬7) مسلم (¬8): "حين يعرف بعضًا وجه بعض" وليس في هذا مخالفة لقوله في الحديث السالف في ¬

_ (¬1) الزيادة من ن ب. (¬2) هكذا كتابتها في المخطوطة، ولعله: "وإذ لم". (¬3) في ن ب (عاداته). (¬4) في ن ب (الآن). (¬5) في الأصل (فيه)، والتصحيح من ن ب. (¬6) في الأصل (الرابع عشر)، والتصحيح من ن ب. (¬7) زيادة من ن ب. (¬8) مسلم (640).

النساء "ما يعرفهن أحد من الغلس" لأن هذا إخبار عن رؤية جليسه، وذلك إخبار عن رؤية النساء من بعد. [الرابع عشر] (¬1): انفتاله - عليه الصلاة والسلام - يحتمل أن يكون [أراد به الراوي السلام أي انفتل بوجهه للسلام. ويحتمل أن يكون] (¬2) أراد [أنه] (¬3) انفتل بجميع بدنه، وأقبل على المأمومين. واعلم أنه إذا أراد الإمام أن ينفتل في المحراب ويقبل على [الناس] (¬4) للذكر والدعاء جاز أن ينفتل كيف شاء، والأصح عندنا أن [الأفضل] (¬5) أن بجعل يمينه إليهم ويساره إلى المحراب. وقيل: عكسه، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال إمام الحرمين: إن لم يصح حديث يخير. قلت: صح بالأول في مسلم (¬6) من حديث البراء - رضي الله عنه - وفي فوائد الرحلة (¬7) لابن الصلاح [عن المدخل] (¬8) لزاهر ¬

_ (¬1) في الأصل (الخامس عشر)، والتصحيح من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (به). (¬4) في الأصل (النساء)، والتصحيح من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) مسلم (709) في صلاة المسافرين ولفظه: "كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحببا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه" (الحديث). (¬7) ذكر هذا الكتاب صاحب هدية العارفين في كلامه عن مؤلفاته (1/ 654). (¬8) زيادة من ن ب.

السرخسي (¬1): أن الإمام إذا مسلم من الظهر أو المغرب أو العشاء قام ليركع السنة إما عن يمينه أو عن شماله، وإن سلم من الصبح أو العصر أقبل بوجهه على الناس. ونقل ابن العطار في شرح هذا الكتاب: عن الشافعي ومن وافقه، وتبعه أن بقاء الإِمام مستقبل القبلة إذا لم يرد الانصراف أفضل خصوصًا إن جلس للذكر والدعاء لقوله - عليه السلام -: "خير المجالس ما اُستقبل به القبلة" (¬2)، ولحثه - عليه السلام - على نوع من الذكر بعد الصبح، وهو ثان رجليه على هيئة الجلوس في الصلاة (¬3) قبل أن يقوم؛ لأنه أجمع للقلب، وأبعد من شغله، قال: ¬

_ (¬1) زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو علي السرخسي، مات في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وله ست وتسعون سنة. طبقات الشافعية (2/ 223)، المنتظم (7/ 206)، وهدية العارفين (1/ 372). (¬2) إتحاف السادة المتقين (4/ 371) (10، 107)، وتخريج الإِحياء (4/ 390)، وتاريخ أصبهان (1/ 217، 2/ 7)، وكشف الخفاء (1/ 474)، والدرر المنتثرة (81). (¬3) أصل الحديث في الترمذي برقم (3474) وفي عمل اليوم والليلة للنسائي برقم (127)، من رواية أبي ذر - رضي الله عنه - ولفظه: "من قال دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات ... " الحديث. انظر: تنبيه القارئ للشيخ عبد الله الدويش -رحمنا الله وإياه- في طبعتي- حيث حكم عليه بالصحة رقم (32)، وقد صححه الألباني -حفظه الله- في السلسلة الصحيحة رقم (113)، وفي صحيح الترغيب (1/ 190)، وفي تمام المنة (229).

فيكون انفتاله -عليه السلام- على أحد الاحتمالين لبيان الجواز أو محمولًا على حالة دعت إليه مصلحتُها متعدية عامة. قال: وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى [أن] (¬1) انفتال الإِمام إلى المأمومين بجميع بدنه عقب السلام أفضل، واستدل بأحاديث أخر، قال فيها: فلما [سلم] (¬2) إنفتل، وأقبل على جلسائه، قال: والذي يقتضيه الجمع بين الأدلة أنه إن كانت المصلحة الشرعية في الاستقبال أكثر كان أفضل، وإن كانت في الانفتال إلى المأمومين [أفضل كان أكثر] (¬3). [الخامس عشر] (¬4): قوله: "كان يقرأ بالستين إلى المائة" أي كان يقرأ بالستين من الآى المائة آية، وهذا يدل أيضًا على التقديم، لأن - عليه الصلاة والسلام - كان يرتل قراءته، ومع ذلك يكون فراغه عند ابتداء معرفة الرجل جليسه، وتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وهذا الحكم وهو التطويل في القراءة أمته فيه كهو. نعم إذا أموا خففوا إلَّا إذا رضوا بالتطويل وانحصروا. [السادس عشر]: هل المراد بالجليس من جرت عادته مجالسته في غير الصلاة، أو [من] (¬5) بإزائه في الصلاة عن يمينه أو يساره ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) تقديم وتأخير بين النسخ. (¬4) في الأصل (السادس عشر)، والتصحيح من ن ب ... إلخ الأوجه فلينتبه. (¬5) زيادة من ن ب.

خاصة، فيه احتمال، والأول هو ظاهر اللفظ، لأن جليسًا "فعيل" وهو من أبنية المبالغة المشعرة بالتكرار والكثرة، ويختلف المعنى باختلاف ذلك، فإن معرفة من جرت عادته بمجالسته كثيرًا أسرع قطعًا من معرفة غيره. [السابع عشر]: فيه تأدب الصغير مع الكبير عند السؤال، وفيه [جواز] (¬1) مسارعة المفتي بالجواب إذا كان مستحضرًا له لإتيانه بالفاء المعقبة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 51/ 5/ 9 - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" (¬1). وفي لفظ لمسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر. ثم صلاها بين المغرب والعشاء" (¬2). الكلام عليه من جوه: أحدها: في راويه وقد تقدم بيانه في باب الْمَذْيِ وغيرِه. ثانيها: قوله: "يوم الخندق"، أي: في يوم من أيام حفر الخندق، وكان حضره في سنة خمس من الهجرة. وقيل: سنة أربع. ¬

_ (¬1) البخاري (2931) (4111، 4533، 6396)، ومسلم (627)، وأبو داود (409)، وابن ماجه (684)، والترمذي (409)، والنسائي (1/ 236)، وأحمد في المسند (1/ 79، 113، 122، 126، 135)، والبيهقي في سنة (1/ 460)، وعبد الرزاق (2192)، والطيالسي (164)، وشرح السنة (387)، والدارمي (1/ 280)، والطبري في تفسيره (5423، 5424، 5426، 5428). (¬2) مسلم رقم (627).

ويسمى أيضًا يوم الأحزاب لتحزب الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين إجلاء بني النضير. فخرج نفر منهم إلى مكة شرفها الله -تعالى- فحرضوا قريشًا على قتاله، [ثم عادوا إلى غطفان وسليم فحرضوهم أيضًا، فاجمع الكل على قاله] (¬1). فأولئك هم الأحزاب. فلما أقبلوا نحو المدينة أشار سلمان بحفر الخندق فحُفر. قال ابن حبّان في ثقاته (¬2): [وهي] (¬3) أول غزوة غزاها سلمان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخندق على المدينة فيما بين المذاد إلى ناحية راتج، وأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة في عشرة الآف رجل حتى نزلوا [بجنب] (¬4) نقمى، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في شهر شوال حتى جعل سلعًا وراء ظهره، والخندق بينه وبين القوم وهو في ثلاثة آلاف من المسلمين، ثم ساق القصة بطولها. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) الثقات لابن حبان (1/ 266) وتفسير المواضع. -المذاد- قال في معجم البلدان (5/ 77): موضع بالمدينة حيث حفر الخندق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: المذاد واد بين سلع وخندق المدينة راتج: أطم من إطام اليهود بالمدينة، وتسمى الناحية به له ذكر في كتب المغازي والأحاديث. رومة: أرض بالمدينة بن الجرف وزغابه، نزلها المشركون عام الخندق. نقمى: بالتحريك والقصر من النقمة موضع من أعراض المدينة كان لآل أبي طالب. معجم البلدان (5/ 300). (¬3) في ن ب (وهو). (¬4) في ن ب ساقطة.

ثالثها: قوله: "شغلونا" هذا هو الأفصح، وفيه لغة رديئة: أشغل والشغل. قال الجوهري (¬1): فيه أربع لغات: شُغْل، وشُغُل، وَشَغْل، وَشَغَل. والجمع: أشغال. رابعها: "الوسطى" فعلها مؤنث الأفعل وهو الأوسط، وكلاهما لا تستعمل إلَّا بالألف واللام والإِضافة أو من، فالوسطى على الرواية الأولى صفة، وعلى الثانية صلاة العصر بدل من الصلاة الوسطى، من باب بدل الكل من الكل والمعرفة من المعرفة. فائدة: "بين" [] (¬2) عبارة عن أحد معنين إما عن الغاية في الجودة، وإما عن معنى يكون ذا طرفين نسبتهما إلى الطرفين من جهتهما سواء، وذلك يكون بالعدد والزمان والمكان. خامسها: اختلف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬3) على سبعة عشر قولًا: أصحها: أنها العصر، كما هو صريح هذا الحديث وغيره. ومن الغريب قول ابن العربي (¬4) أن البخاري لم يخرج حديث الصلاة ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (146). (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة بدون سقط. انظر: مختار الصحاح (37)، والمصباح المنير (70). (¬3) سورة البقرة: آية 238. (¬4) في عارضة الأحوذي (1/ 295).

الوسطى، وقد خرجه في تفسير القرآن وغزوة الخندق من صحيحه، وهذا القول هو مذهب الإِمام [أحمد] (¬1). والصحيح من مذهب أبي حنيفة (¬2)، وحكى عن الشافعي أيضًا وهو مذهبه، كما قال الماوردي (¬3) لاتباع الحديث (¬4)، وهو قول الجمهور أيضًا (¬5). ثانيها: أنها الصبح ونص عليه الشافعي في الأم (¬6)، وهو مذهب مالك (¬7) وجماعات (¬8). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. انظر: المقنع (1/ 106)، وكشف المخدرات (1/ 56)، والمغني (1/ 378). (¬2) انظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب (1/ 226). (¬3) وذكره في شرح مسلم (5/ 128)، والحاوي الكبير (2/ 9، 10)، والروضة (1/ 182)، والمجموع (3/ 61). (¬4) انظر: المجموع، وشرح المهذب (1/ 11). (¬5) حكاه ابن المنذر في الأوسط (2/ 366) عن علي، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وعبيدة السلماني. وحكاه البغوي في شرح السنة (2/ 236) عن عائشة، وحفصة. وحكاه النووي في شرح مسلم (5/ 128)، والمجموع (3/ 61) عن ابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وقتادة بن دعامة السدوسي، والكلبي ومقاتل، وحكاه البيهقي في سننه (1/ 461) عن أبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو. (¬6) الأم (1/ 94). (¬7) في الموطأ (71). (¬8) للاطلاع على من قال به من الصحابة. انظر: ابن النذر في الأوسط (1/ 367). فقد حكاه عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعكرمة، وطاووس، وعطاء، ومجاهد. وحكاه البغوي في شرح السنة (2/ 235) =

ثالثها: أنها الظهر (¬1) وهو رواية عن أبي حنيفة (¬2). رابعها: أنها المغرب (¬3). خامسها: أنها العشاء الآخرة (¬4). سادسها: أنها واحدة من الصلوات الخمس غير معينة (¬5). سابعها: أنها الخمس (¬6). ¬

_ = عن أبي موسى، وجابر، والمكيين. وحكاه النووي في المجموع (3/ 60)، وشرح مسلم (1/ 128) عن عمر، ومعاذ والربيع بن أنس وقال به أبو أمامة، وأبو العالية وعبيد بن عمير، وهو قول لعلي. وحكاه البيهقي في السنن (3/ 462) عن أنس بن مالك. (¬1) لرواية مخرجة في سنن أبي داود (1/ 288) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، فنزلت: "حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى"، وقال: "إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين". (¬2) حكاه ابن المنذر في الأوسط (2/ 367) عن ابن عمر، وعائشة، وعبد الله بن شداد، ونقله البيهقي في سنة (1/ 458) عن أسامة بن زيد، وأبي سعيد، وابن عمر. وذكره عن أبي حنيفة العيني في عمدة القارئ (18/ 24). (¬3) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 293)، والدر المنثور (10/ 729) حيث نسباه إلى ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) حكاه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/ 210). (¬5) حكاه ابن العربي وقواه في أحكام القرآن (1/ 226)، وعارضة الاحوذي (1/ 295). (¬6) حكاه في المفهم عن معاذ بن جبل (2/ 1092)، واختاره ابن عبد البر في التمهيد (4/ 294)، وهذا أضعف الأقوال كما قاله في المفهم.

ثامنها: أنها الجمعة وادعى القاضي حسين في باب صلاة الخوف أنه الصحيح (¬1). تاسعها: أنها الجمعة في يوم [الجمعة] (¬2) وفي سائر الأيام الظهر (¬3). عاشرها: أنها صلاتا (¬4) العشاء والصبح (¬5). الحادي عشر: أنها صلاتان الصبح والعصر (¬6). الثاني عشر: أنها الجماعة في جميع الصلوات (¬7). ¬

_ (¬1) حكاه المازري في المعلم (1/ 432) وضعفه. والماوردي في النكت والعيون (1/ 258)، وذكره ابن حجر عن القاضي حسين في فتح الباري (8/ 197)، وضعفه وأيضًا ضعفه النووي في شرح مسلم (5/ 129). (¬2) في ن ب (الجمع). (¬3) ذكره في طرح التثريب (2/ 175)، وفي المجموع (3/ 61)، وشرح مسلم (5/ 129)، وعمدة القاري (18/ 124)، وقد جاء محكيًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في زاد المنير (1/ 249). (¬4) للاطلاع، انظر: حاشية الصنعاني مع إحكام الأحكام (2/ 52). (¬5) انظر: طرح التثريب (2/ 175)، وممن قال به أبو الدرداء رضي الله عنه. انظر: الجامع لأحكام القرآن (3/ 212). (¬6) انظر: فتح الباري (8/ 197)، فقد نسبه للأبهري من المالكية. وفيه قول آخر: أنها الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول المتقدم. انظر: اللفظ الموطأ (99). (¬7) ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 294)، والنكت والعيون (1/ 258)، وفتح الباري (8/ 197).

الثالث عشر: أنها الوتر (¬1) واختاره السخاوي (¬2). الرابع عشر: أنها صلاة الخوف (¬3). الخامس عشر: أنها صلاة عيد الأضحى (¬4). السادس عشر: أنها صلاة عيد الفطر (¬5). السابع عشر: أنها الضحى [حكاه] (¬6) الحافظ شرف الدين الدمياطي (¬7) في مصنفه في ذلك (¬8)، وقد لخصه في أوراق مع عزوها إلى قائلها، وذكر نبذ من أدلتها. ¬

_ (¬1) ذكره في تفسير ابن كثير (1/ 294)، وروح المعاني (2/ 156). (¬2) هو الحافظ علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني له مؤلفات منها: "هداية المرتاب"، و"جمال القراء"، مات بدمشق سنة (643)، وهدية العارفين (1/ 708)، وبغية الوعاة (2/ 192). (¬3) ذكره الدمياطي في كشف المغطي (144)، وعزاه إليه في اللفظ الموطأ (101). (¬4) انظر البحر المحيط (2/ 241)، وتفسير ابن كثير (1/ 294). (¬5) انظر المراجع السابقة. (¬6) (حكاهن) في ن ب. (¬7) هو الإِمام العلامة الحافظ شرف الدين: عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي ولد بدمياط في أواخر سنة ثلاث عشرة وستمائة، توفي وهو في درس الإِملاء يوم الأحد مغشيًا عليه عاشر ذي القعدة سنة خمس وسبعمائة، ترجمته في الديباج المذهب (3/ 164)، حسن المحاضرة (1/ 357). (¬8) كشف المغطي في تبيين الصلاة الوسطى (150)، وزاد صاحب اللفظ الموطأ ثلاثة. أقول: إنها صلاة الليل، التوقف، والثالت مضى عند الحادي عشر (102).

وفي تفسير ابن أبي حاتم بإسناد عن مسروق: الوسطى هي المحافظة على وقتها يعني الصلوات. وقال مقاتل بن حيان: مواتيتها ووضوؤها وتلاوة القرآن فيها والتكبير والركوع والسجود والتشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك فقد أتمها وحافظ عليها. وذكر أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن ابن عباس نحوه (¬1). قلت: وأصح الأقوال فيها الصبح والعصر، وأصحها العصر كما قدمته أولًا (¬2). سادسها: هذا التأخير كان قبل نزول صلاة الخوف، ورفع لشغل العدوّ [لهم] (¬3) عنها وترجم عليه ابن حبان (¬4) جواز تأخير الصلاة عن وقتها إذا شغله الخوف المباح. وأجاب جماعة عنه: بأنه كان قبل أن تنزل صلاة الخوف، وهو ماش على من يقول الخندق سنة أربع، وذات الرقاع التي صلاها فيها سنة خمس. ¬

_ (¬1) انظر: اللفظ الموطأ والتعليق عليه (47، 102) للاطلاع على حجج كل قول مما ذكر وما لم يذكر، فإنه قد توسع في ذلك. وأيضًا كشف المغطي (15، 150)، فإنهما ذكرا أشياء يطول ذكرنا لها وتثقل على القارئ. (¬2) انظر: شرح مسلم (5/ 129)، وتفسير الطبري (2/ 566)، والمغنى (1/ 378)، والبحر المحيط (2/ 241)، وفتح الباري (8/ 198)، وفتح القدير (1/ 256)، ونيل الأوطار (1/ 312) جميعها صححت على أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في صحيحه (7/ 148) وساقه من رواية حذيفة.

وقال النووي (¬1): إنه الصحيح بل ذكر البخاري أنها بعد خيبر لأن أبا موسى الأشعري جاء بعدها. سابعها: وقع هنا أن المؤخر صلاة العصر، وظاهره أنه لم يفته [غيرها] (¬2) ووقع في غيره أكثر من ذلك، وسيأتي الجمع بين ذلك في الحديث الثاني عشر [إن شاء الله] (¬3). ثامنها: قوله: "ثم صلاها بين المغرب والعشاء" فيه حجة لمالك وأبي حنيفة وآخرين في تقديم المنسية على الحاضرة وإن خرج وقتها؛ لا سيما من قال: وقت المغرب مضيق لا يسع غيرها، وقد أخرها لفعل العصر، وقد وافق على ذلك. واحتج الشيخ تقي الدين (¬4) لمذهب الشافعي فقال: يحتمل أن يريد فصلى العصر بين صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويحتمل أن يريد فصلى العصر بين وقت صلاة المغرب ووقت صلاة العشاء، فلا بد من ترجيح أحدهما، وإلاَّ تعين الاحتمال المسقط للاستدلال، هذا كلامه، لكن حديث جابر المذكور في آخر الباب رافع لهذا الاحتمال: إن كانت القصة واحدة، وهو الظاهر، فإنه قال: فصلى بعدما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (6/ 128). (¬2) للاستزادة، انظر: حاشية الصنعاني على إحكام الأحكام (2/ 43، 52) ففيه بحث مهم. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في إحكام الأحكام (2/ 52) مع الحاشية.

تاسعها: قال القاضي عياض: ظاهره أنه صلى العصر في جماعة ففيه صلاة الفوائت في جماعة، ولم يخالف فيه إلَّا الليث، فإنه قال: لا يجّمع لها. وقال بعضهم: إن كانت من يوم واحد جاز اتفاقًا، وإن كانت من أيام مختلفة ففيه قولان. قلت: وأطلق الرافعي [القول] (¬1) تبعًا للقاضي حسين من أصحابنا أن الفائتة لا تشرع لها الجماعة، وهذا الحديث يرد عليهم. عاشرها: قد يحتج بفعله - عليه الصلاة والسلام - العصر مقدمة على المغرب من يرى أن وقت المغرب متسع إلى غروب الشفق؛ لأنه لو كان ضيقًا لبدأ بالمغرب لئلا يفوت وقتها، فدل على أنه متسع وهو المختار. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث السادس

الحديث السادس 52/ 6/ 9 - قال المصنف: وله عن [عبد الله] (¬1) ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حبس المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر، حتى احمرت الشمس أو اصفرت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا، أو: "حشى الله أجوافهم وقبورهم نارًا" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في الباب. ثانيها: هذا التأخير كان قبل نزول صلاة الخوف أيضًا كما سلف في الحديث قبله ولا يخلو من نظر، فإن الخندق سنة خمس أو أربع كما سلف، وسيأتي في باب صلاة الخوف أن أول صلاة ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) مسلم (628)، وابن ماجه (686)، والبيهقي (1/ 460)، وأحمد (1/ 403، 404، 456). والطبري في تفسيره (5420)، والبزار (388)، وذكره في مجمع الزوائد (1/ 309)، وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع وأنها سنة خمس أو أربع فتأمل ذلك. ثالثها: لا يتوهم من قوله "حتى اصفرت" مخالفة لما في الحديث الذي قبله [فصلاها] (¬1) بين المغرب والعشاء وإنما الحبس انتهى إلى هذا الوقت، ولم تقع الصلاة إلَّا بعد المغرب، كما في الحديث الذي قبله، وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها مما هو مقتضٍ لذلك. رابعها: فيه أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر وقد عرفت الخلاف فيه واضحًا في الحديث قبله. خامسها: فيه دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا الدعاء، وعلى الإِخبار بسبب الدعاء لإِقامة العذر. [سادسها] (¬2): إنما تردد ابن مسعود - رضي الله عنه - في: "ملأ [الله"] (¬3) "أو حشى [الله"] (¬4) لاختلاف معناهما فإن "حشى" تقتضي التراكم وكثرة أجزاء المحشو بخلاف "ملأ" فلا يكون في ذلك متمسك لمن منع رواية الحديث بالمعنى إذ من شرط الرواية بالمعنى أن [لا] (¬5) ينقص معنى أحد اللفظين عن الآخر شيئًا مع أن الاتفاق ¬

_ (¬1) في ن ب (وصلاها). (¬2) في الأصل (سابعها)، والصحيح ما أثبت. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب ساقطة.

على أن رواية [اللفظ] (¬1) أولى فلعل ابن مسعود يجري الأولى، وفي رواية لابن حبان من حديث حذيفة: "شغلونا عن صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا" -أو قلوبهم نارًا- ولم يصلها [يومئذ] (¬2) حتى [غابت] الشمس (¬3). فائدة: روى الحسن وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "لم تحبس الشمس على أحد إلَّا ليوشع ليال سار إلى بيت المقدس" حديث حسن (¬4). كما قال الجوزقاني في موضوعاته، قال: وفيه رد لحديث أسماء بنت عميس قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر علي - رضي الله عنه - فلم يصلِّ العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صليت يا علي؟ فقال: لا، فقال اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. قالت أسماء: فأرنيها غربت، ثم أرانيها طلعت بعد ما غربت" قال: وهذا حديث ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ابن حبان. (¬3) ابن حبان (2891) وفي الأصل (غربت)، والتصحيح من ابن حبان. (¬4) الأباطيل والمناكير للجوزقاني -رحمه الله- (1/ 165)، وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، كتاب فرض الخمس، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحلت لكم الغنائم. وكتاب النكاح، باب: من أحب البناء قبل الغزو. ومسلم الجهاد (3/ 1366)، وأحمد (2/ 318، 325)، والمستدرك (2/ 192)، والبداية والنهاية (1/ 324).

منكر مضطرب (¬1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من علي، وعمر خير من علي، ¬

_ (¬1) الأباطيل والمناكير للجوزقاني -رحمه الله- (1/ 158)، وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 355، 356). من طريق عبد الوهاب بن منده به. وقال: موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه فرواه سعيد بن مسعود، وساق مثل إسناد الجوزقاني بعد قوله مضطرب ثم قال هذا غلط في الرواية وأعله بفضل ابن مرزوق وتعقبه السيوطي في اللآلىء (1/ 339) في الفصل وقد فاته جهالة إبراهيم بن الحسن وساق له طرقًا أخرى كلها معلولة ونقل عن الحافظ في الفتح (6/ 155)، وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في الموضوعات. وكذا ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض في زعمه وضعه، والله أعلم. قال الألباني: فهو عدم تصريحه بصحة إسناده، فقد يوهم من لا علم عنده أنه صحيح عنده وهو إنما يعني أنه غير موضوع فقط وذلك لا ينفي أنه ضعيف كما هو ظاهر وابن تيمية -رحمه الله- لم يحكم على الحديث بالوضع من جهة إسناده، وإنما من جهة متنه، أما الإِسناد فقد اقتصر على تضعيفه فإنه ساقه من حديث أسماء وعلي وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة ثم بين الضعف في أسانيدها، وكلها تدور على رجال لا يعرفون بعدالة ولا ضبط وفي بعضها من هو متروك منكر الحديث جدًّا، وأما حكمه على الحديث بالوضع متنًا فقد ذكر في ذلك كلامًا متينًا جدًّا لا يسع من وقف عليه إلَّا أن يجزم بوضعه. وسيأتي كلامه ملخصًا في آخر التعليق على هذا الحديث. وانظر أيضًا: تنزيه الشريعة (1/ 378)، وكشف الخفاء (1/ 220، 1/ 428)، والمقاصد الحسنة (ص 226)، والأسرار المرفوعة (121، 208، 415، 433)، وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة (350)، وقد أخرجه ابن الجوزي عن عبد الوهاب الحافظ بسند آخر فيه عمار بن مطر، وأورده أيضًا من طريق ابن شاهين وابن مردويه، ثم قال: ومن =

........................................................... ¬

_ = تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى سورة فضيلة، ولم يتلمح إلى عدم الفائدة، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء فرجوع الشمس لا يعيدها أداء، وفي الصحيح مرفوعًا: "إن الشمس لم تحبس على أحد إلَّا ليوشع". والحديث أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 8)، والطبراني في الكبير من طريق الفضيل بن مرزوق كما في مجمع الزوائد (8/ 297)، وأخرجه الطحاوي أيضًا من طريق أحمد بن صالح، ثنا ابن أبي فديك ثني محمد بن موسى عن عون بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن أسماء بنت عميس (2/ 9). وأورده الذهبي في الميزان (3/ 170)، وكذا في اللسان (4/ 276) في ترجمة عمار بن مطر عن فضيل، ثم ذكر خلاف حديث أبي هريرة في رد الشمس ليوشع الذي أورده الجوزقاني، وكذا أورده الذهبي في ترتيب الموضوعات (25/ ب). هذا وقد ذهب الطحاوي والبيهقي في دلائل النبوة والقاضي عياض في الشفاء والهيثمي في مجمع الزوائد إلى تصحيح الحديث، وكذا القسطلاني في المواهب اللدنية والسيوطي في اللآلئ (1/ 336، 341)، وقد ألف في ذلك جزءًا أسماه كشف اللبس في حديث رد الشمس، والسخاوي في المقاصد الحسنة، وابن عراق في تنزيه الشريعة وعلي القاري، والعجلوني وغيرهم. وأما الذين ذهبوا إلى أنه موضوع غير ابن الجوزي، وابن تيمية: الإِمام أحمد، والذهبي، وابن القيم، وابن كثير، والألباني، وإليك ما قاله شيخ الإِسلام في الرد على هذا الحديث، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: قد ذكره طائفة كالطحاوي، والقاضي عياض وغيرهما. وعدا ذلك من معجزات النبي - عليه السلام - ولكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع، كما ذكره ابن الجوزي =

............................................................ ¬

_ = في الموضوعات، ثم ذكر حديث الصحيحين في حبس الشمس لنبي من الأنبياء وهو يوشع بن نون، كما في رواية أحمد والطحاوي بسند جيد -كما بينه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (202) - ثم قال: فإن قيل: فهذه الأمة أفضل من بني إسرائيل، فإذا كانت قد ردت ليوشع، فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة. فيقال: يوشع لم ترد له الشمس ولكن تأخر غروبها وطوّل له النهار، وهذا قد لا يظهر للناس فإن طول النهار وقصره لا يدرك ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأيضًا لا مانع من طول ذلك لو شاء الله لفعل ذلك، لكن يوشع كان محتاجًا إلى ذلك، لأن القتال كان محرمًا عليه بعد غروب الشمس لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت. وأما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك ولا نفعة لهم فيه، فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطًا لم يسقط ذنبه إلَّا بالتوبة، ومع التوبة لا يحتاج إلى رد، وإن لم يكن مفرطًا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب. وأيضًا فبنفس غروب الشمس خرج الوقت المضروب للصلاة، فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليًا في الوقت الشرعي، ولو عادت الشمس، وقوله -تعالى-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} يتناول الغروب المعروف، فعلى العبد أن يصلي قبل هذا الغروب، وإن طلعت ثم غربت والأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب، فالصائم يفطر ولو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه، مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد، ولا وقعت لأحد، فتقديرها تقدير ما لا وجود له. وأيضًا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته العمر يوم الخندق، فصلاها قضاء هو وكثير من أصحابه، ولم يسأل الله رد الشمس، وفي الصحيح أن النبي - عليه السلام -، قال: لأصحابه بعد ذلك لما أرسلهم إلى بني قريظة: "لا يصلين أحد العصر إلَّا في بني قريظة" فلما أدركتهم الصلاة في =

........................................................ ¬

_ = الطريق، قال بعضهم: لم يرد منا تفويت الصلاة، فصلوا في الطريق، وقالت طائفة: لا نصلي إلَّا في بني قريظة، فلم يعنف واحدة من الطائفتين، فهؤلاء الذين كانوا مع النبي - عليه السلام - صلوا العصر بعد غروب الشمس، وليس علي بأفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا صلاها هو وأصحابه بعد الغروب فعلي وأصحابه أولى بذلك، فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزي أو ناقصة تحتاج إلى رد المسألة كان النبي - عليه السلام- أولى برد الشمس، وإن كانت كاملة مجزئة فلا حاجة إلى ردها. وأيضًا، فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، فإذا لم ينقلها إلَّا الواحد والاثنان علم كذبهم في ذلك. وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه، وأخرجوه في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه، ونزل به القرآن فكيف ترد الشمس التي تكون بالنهار ولا يشتهر ذلك؟ ولا ينقله أهل العلم نقل مثله؟ ولا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعيين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر وما يشتبه ذلك فليس الكلام في هذا المقام. لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفلك، وكثير من الناس ينكر إمكانه، فلو وقع لكان ظهوره ونقله أعظم من ظهور ما دونه ونقله، فكيف يقبل وحديثه ليس له إسناد مشهور فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع، وإن كانت الشمس احتجبت بغيم ثم ارتفع سحابها فهذا من الأمور المعتادة، ولعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشف الغمام عنها، وهذا إن كان قد وقع ففيه أن الله بين له بقاء الوقت حتى يصلي فيه، ومثل هذا يجري لكثير من الناس. ثم قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: ثم تفويت الصلاة بمثل هذا =

............................................................. ¬

_ = إما أن يكون جائزًا، وأما أن لا يكون، فإن كان جائزًا لم يكن على علي - رضي الله عنه - إثم إذا صلى العصر بعد الغروب، وليس علي أفضل من النبي - عليه السلام -، وقد نام - عليه الصلاة والسلام - ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس، ولم ترجع لهم إلى الشرق. وإن كان التفويت محرط فتفويت العصر من الكبائر، وقال - عليه السلام -: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". وعلي كان يعلم أنها الوسطى، وهي صلاة العصر، وهو قد روي عن النبي - عليه السلام - في الصحيحين أنه قال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، حتى غربت الشمس، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم نارًا"، وكان هذا في الخندق، وهذه القصة كانت في خيبر كما في بعض الروايات، وخيبر بعد الخندق فعلي أجل قدرًا من أن يفعل مثل هذه الكبيرة ويقره عليها جبريل ورسول الله - عليه السلام -، ومن فعل هذا كان من مثالبة لا من مناقبه، وقد نزه الله عليًّا عن ذلك ثم إذا فاتت لم يسقط الإِثم عنه يعود الشمس، وأيضًا فإذا كانت هذه القصة بخيبر في البرية قدام العسكر والمسلمون أكثر من ألف وأربعمائة كان هذا ممن يراه العسكر، ويشاهدونه، ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان، فلو نقله الصحابة لنقله أهل العلم كما نقلوا أمثاله، لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم وعدالتهم، وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت. تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ولا يعلم اتصال إسناده، وقد قال النبي - عليه السلام - عام خيبر: (لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، فنقل ذلك غير واحد من الصحابة وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمسانيد، وهذا الحديث ليس بشيء في كتب الحديث المعتمدة ولا رواه أهل الحديث ولا أهل السنن ولا المسانيد، بل اتفقوا على تركه والإِعراض عنه، فكيف =

................................................................. ¬

_ = يكون مثل هذه الواقعة العظيمة التي هي لو كانت حقًا من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة ولم يروها أهل الصحاح والمسانيد ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ المسلمين ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، قال: وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق، قال: قد صنف جماعة من علماء الحديث في فضائل علي كالإِمام أحمد، وأبي نعيم، والترمذي، والنسائي، وأبي عمر بن عبد البر وذكروا فيه أحاديث كثيرة ضعيفة. ولم يذكروا هذا لأن الكذب ظاهر عليه بخلاف غيره. ثم ختم شيخ الإِسلام بحثه القيم بقوله: "وسائر علماء المسلمين يودون أن يكون مثل هذا صحيحًا لما فيه من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضيلة علي عند الذين يحبسونه، ويتولونه، ولكنهم لا يستجيزون التصديق بالكذب فردوه ديانة، والله أعلم. منهاج السنة (4/ 184 - 189) طبعة محمد رشاد سالم (8/ 164، 198). انظر: الضعيفة للألباني (398، 401). وقال الذهبي في ترتيب الموضوعات: "أسانيد حديث رد الشمس لعلي ساقطة ليست بصحيحة، واعترض بما صح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". "لم تحبس الشمس إلَّا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس". وقال شيعي: إنما نفى - عليه السلام - وقوفها. وحديثنا فيه الطلوع بعد المغيب فلا تضاد بينهما. قلت: لو ردت لعلي لكان ردها يوم الخندق للنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى: فإنه حزن وتألم ودعا على المشركين لذلك. ثم نقول: لو ردت لعلي لكان بمجرد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما غابت خرج وقت العصر ودخل وقت المغرب، وأفطر الصائمون وصلى المسلمون المغرب. فلو ردت الشمس للزم تخبيط الأمة في صومها وصلاتها، ولم =

ولم ترد الشمس لهما، وصليا بعد ما غربت، فكيف ترد لعلي؟ هذا كلامه. وقد يجاب عنه: بأنها إنما ردت له ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم - وأما تضعيفه لحديث أسماء فيعارض بتصحيح الطحاوي وغيره له. وقال أحمد بن صالح [المصري] (¬1) لا ينبغي لأحد التخلف عن حفظ حديث أسماء فإنه من دلائل النبوة. ¬

_ = يكن في ردها فائدة لعلي إذ رجوعها لا يعيد العصر أداءًا. ثم هذه الحادثة العظيمة لو وقعت لاشتهرت وتوفرت الهمم والدواعي على نقلها إذ هي في نقض العادات جارية مجرى طوفان نوح وانشقاق القمر. انظر: الأباطيل (1/ 158، 166). (¬1) في ن ب (الحصري).

الحديث السابع

الحديث السابع 53/ 7/ 9 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء، فخرج عمر، فقال: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان. فخرج -ورأسه يقطر- يقول: "لولا أن أشق على أمتي -أو على الناس لأمرتهم- بهذه الصلاة في هذه الساعة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد تقدم التعريف بحاله في باب الاستطابة. ثانيها: يقال: "أعتم الليل" يعتم بكسر التاء إذا أظلم. قال الجوهري (¬2): العتمة وقت العشاء. وقال الخليل: بعد مغيب الشفق إلى ثلث الليل. قال: والعشاء بالكسر وبالمد مثل العشاء من صلاة المغرب إلى العتمة. ¬

_ (¬1) البخاري (571، 7239)، ومسلم (642)، والنسائي (1/ 267)، والدارمي (1/ 276)، وأحمد (6/ 150). (¬2) مختار الصحاح (176).

وزعم قوم أنه من الزوال إلى طلوع الفجر. وفي الموطأ عن القاسم بن محمد (¬1) قال: "ما أدركت الناس إلَّا وهم يصلون الظهر بعشي". وقال ابن عطية: العشي زوال الشمس. قال الجوهري (¬2): والعشاء بالفتح الطعام وهو [خلافًا لغدا] (¬3)، والعشي: مقصور مصدر الأعشى، وهو الذي لا يبصر ليلًا. وقوله: "أعتم" معناه دخل في وقت العتمة، كما يقال: أتهم إذا دخل تهامة. والمراد: أنه دخل في الصلاة في وقت من العتمة لم يعهد منه الدخول فيه؛ ليكون سببًا لقول عمر الماضي، وبهذا يرتفع الإِشكال على أن تأخيرها أفضل، لأن المعهود منه فيها إنما كان التعجيل، ولذلك نادى بالصلاة عمر. ثالثها: قد قدمت في الكلام على الحديث الرابع حكايته خلاف في كراهة تسمية [العشاء عتمة] (¬4) وليس في هذا الحديث دلالة على عدم الكراهة، لأن قوله: "أعتم" أي دخل في وقت العتمة، فالمراد ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 9). قال في النهاية: العشي: ما بعد الزوال إلى الغروب. وقيل: إلى الصباح. (¬2) مختار الصحاح (185). (¬3) في ن ب (خلاف الغدا). (¬4) في الأصل (الفاعلية)، وما أثبت من ب.

صلى فيه، ولا يلزم من ذلك أن يكون سمى الصلاة بالعتمة. رابعها: قوله: "الصلاة" [وهو] (¬1) منصوب بفعل مضمر تقديره: صلِّ الصلاة، أو أقم الصلاة، أو نحو ذلك مما يصح المعنى عليه. وإنما يجوز حذف الفعل والاكتفاء بالاسم إذا دل على الفعل المحذوف دليل [محال] (¬2) وإلَّا لم يجز الحذف. خامسها: قوله: "رقد النساء والصبيان" يحتمل أن يريد الحاضرين في المسجد لقلة صبرهم، ويحتمل إرادة أهل البيوت من طول انتظارهم. وقال عمر: ذلك لأنه ظن أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما تأخر عنها نسيانًا، ويحتمل أن يكون المراد تمكن الوقت حتى دخل وقت رقادهم عادة. سادسها: قوله: "فخرج ورأسه يقطر" فيه دلالة كما قال القاضي على أن التأخير كان بعذر، لكن لسان الحال: كلسان المقال، وأن الأفضل تعجيل الصلاة، ولا يعارضه قوله: "لولا أن أشق [على أمتي] (¬3) إلى آخره" لأن المراد خصوص تلك الساعة في كل ليلة؛ إذ لو كان مراده ذلك لقال: لأمرتهم بتأخير الصلاة إلى هذا الوقت الذي شمل هذه [الساعة] (¬4) من هذه الليلة وغيرها. تنبيه: قوله: "فخرج ورأسه يقطر" أي شعر رأسه يقطر لكون ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب.

القطر إنما يكون من الشعر لا من الرأس؛ فعبر به عنه مجازًا لبيانه فيه، وكان ذلك من أثر اغتساله، ويبعد كل البعد أن يكون من أثر وضوئه. سابعها: في هذا الحديث دليل على أن الأمر [المطلق] (¬1) للوجوب وإذا ضم إلى هذا الاستدلال الأمور الخارجية الدالة على استحباب التأخير، ويرجح على الدلائل المقتضية للتقديم، ويجعل ذلك مُقدمة فيكون المجموع دليلًا على ذلك (¬2). ثامنها: فيه دليل أيضًا على أن له أن يجتهد في الأحكام، وقد سلف الخلاف فيه في باب السواك. تاسعها: فيه دليل أيضًا على تنبيه الأكابر إما لاحتمال غفلة أو لإِثارة فائدة منهم في التنبيه، وعلى أنه يستحب للعالم أو [الإِمام] (¬3) أن يعتذر إلى أصحابه إذا تأخر عنهم أو جرى منه ما يظن أنه يشق عليهم، ويقول لهم وجه المصلحة فيه. عاشرها: فيه دليل على عدم التنشيف إذ لو تنشف - عليه الصلاة والسلام - لم يكن رأسه يقطر. ولا قائل بالفرق بين الرأس والبدن في التنشيف. الحادي عشر: قوله: "بهذه الصلاة في هذه الساعة" "هذه" الأولى في موضع المصدر الذي هو الصلاة، ويجوز أن تكون في ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في هذه المسألة اختصار. انظر: إحكام الأحكام (1/ 145، 146). (¬3) في ن ب (للإِمام).

موضع نصب على المفعولية إذا استُعمل المصدر استعمال الأسماء و"هذه" الثانية في موضع الظرف أعني أنه بدخول "في" عليه خرج عن الظرفية. الثاني عشر: قد أسلفنا في باب السواك في حديث: "لولا أن أشق على أُمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أن "لولا" حرف يدل على انتفاء الشيء لوجود غيره أي: لولا أن أشق لأمرت بالتأخير، وقد علمت ما فيه. الثالث عشر: النساء والصبيان تقدم الكلام عليهما الأول في الحديث الثاني من هذا الباب، والثاني في الحديث الرابع في باب المذي [وغيره] (¬1). الرابع عشر: في الحديث دلالة على تتبع [أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله] (¬2) وأقواله، ونقلها إلى أمته، وأنها كلها شرع مقتدى به. الخامس عشر: فيه تأخير صلاة العشاء، وقد عرفت ما فيه في الحديث الثالث. السادس عشر: فيه أيضًا شرعية المنظر في أمور الضعفاء: كالنساء والصبيان ونحوهم أكثر من غيرهم. السابع عشر: فيه أيضًا أنه يجوز لغير المؤذن الراتب أن يعلم الإِمام بالصلاة خصوصًا إذا كان في إعلامه مصلحة ظنها أو تحققها. الثامن عشر: فيه أيضًا ذكر المصلحة مبينة غير مجملة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب تقديم وتأخير.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 54/ 8/ 9 - عن عائشة - رضي الله عنها -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أقيمت الصلاة، وحضر العشاء، فابدؤا بالعشاء" (¬1). وعن ابن عمر نحوه (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد تقدم التعريف بعائشة في كتاب الطهارة، وبابن عمر في [باب] (¬3) الاستطابة، قال ابن منده في مستخرجه: ورواه مع عائشة وابن عمر أم سلمة وأنس وأبو هريرة. [الثاني] (¬4): "العشاء" بالمد تقدم بيانه في الحديث قبله. الثالث: قال الشيخ تقي الدين: الألف واللام في "الصلاة" لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق، ولا على تعريف الماهية. بل ينبغي أن تحمل على العهد لصلاة معينة وهي المغرب. لقوله - عليه ¬

_ (¬1) البخاري (671، 5465)، ومسلم (557)، وابن ماجه (935)، وأحمد (6/ 40، 51، 194). (¬2) البخاري (673، 674، 5464). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (ثانيها) ... إلخ الأوجه.

السلام-: "فابدؤا بالعشاء" فخرج به صلاة النهار، وتبين أنها غير مقصودة. ويبقى التردد بين المغرب والعشاء، ويترجح حمله على صلاة المغرب، بما ورد في بعض الروايات: "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم، فابدؤا به، قبل أن تصلوا" (¬1) وهو صحيح قال: وكذا (¬2) صح "فابدؤا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب" [والحديث] (¬3) يفسر بعضه بعضًا. وقال غيره من فضلاء المالكية: ينبغي أن تحمل الألف واللام على العموم نظرًا إلى العلة في ذلك، وهي التشويش المفضي إلى عدم الخشوع، وهذا لا يخص صلاة دون صلاة، وإن كان قد ورد ذلك في المغرب، فليس فيه ما يقتضي العصر فيها، ولأن الجائع غير الصائم قد يكون أتوق إلى الطعام [من الصائم وقد يكون الصائم لا تشوف له إلى الطعام] (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط وابن حبان (2068)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/ 160)، وقد أخرجه مسلم في صحيحه بدون زيادة "وأحدكم صائم". مشكل الآثار (2/ 402)، والشافعي (1/ 129)، والدارقطني. (¬2) عن أنس بدون لفظة: "وأحدكم صائم". أخرجه مسلم (557)، والبخاري (672)، والترمذي (353)، وابن ماجه (933)، والدارمي (1/ 293)، والنسائي (2/ 111)، وابن الجارود (223)، وابن خزيمة (934، 1651). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب.

والحالة هذه فينبغي أن يدور الحكم مع العلة وجودًا وعدمًا؛ فحيث أمنّا التشويش قدمت الصلاة، ولا يختص ذلك بالمغرب ولا غيرها، ويوضح ذلك الحديث الآتي بعده. "لا صلاة بحضرة طعام" (¬1) فهذه نكرة في سياق النفي فتعم وإن كان هذا العموم يخص منه من لا تشوف له إلى الطعام حينئذ. الرابع: اختلف العلماء كما قال صاحب القبس: في الشغل والصلاة إذا تعارضتا مع سعة الوقت، فقال أحبارهم: من فقه الرجل أن يبدأ بشغله قبل صلاته حتى يقيمها بقلب فارغ لها وقال قوم: يبدأ بالصلاة. وحكى القاضي عياض قولًا ثالثًا: أنه إن كان الطعام يسيرًا بدأ به، وإن كان كثيرًا بدأ بها. قلت: وظاهر الحديث دالٌ على البداءة بها مطلقًا، ورأيت في مستخرج ابن مسنده بإسناده عن وكيع بن الجراح (¬2) أنه قال: إذا كان الطعام حارًّا يخشى فساده بدأ به، وإذا [كان] (¬3) باردًا لا يخشى فساده بدأ بها. ¬

_ (¬1) مسلم (560)، وأبو داود (89)، وأبو عوانة (1/ 268)، والبغوي (801، 802)، والبيهقي (3/ 71، 72، 73)، وصححه الحاكم (1/ 168)، ووافقه الذهبي، وابن خزيمة (933)، وأحمد في المسند (6/ 43، 54، 73)، وهو الحديث التاسع في هذا الباب. (¬2) ذكره البغوي في شرح السنة (3/ 357) ولم يسنده، ولفظه: "قال وكيع: إنما يبدأ بالعشاء إذا كان طعامًا يخاف فساده" انتهى. (¬3) زيادة من ن ب.

الخامس: الجمهور على أنه إذا صلى بحضرة الطعام أنها صحيحة، وخالف أهل الظاهر فقالوا: باطلة، ولعلهم يوجبون الخشوع، كما قال [به] (¬1) بعض الشافعية. السادس: فيه دليل على اتساع وقت المغرب كما قاله القاضي، لكن قال الشيخ تقي الدين (¬2): إن [أُريد] (¬3) به مطلق التوسعة [فهو صحيح] (¬4) لكن ليس ذلك محل الخلاف المشهور، وإن أريد به التوسعة إلى غروب الشفق، ففيه نظر. [فإن] (¬5) بعض [القائلين] (¬6) بضيق وقتها جعله مقدرًا بزمان يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع، فعلى هذا لا يلزم أن يكون وقت المغرب موسعًا إلى غروب الشفق. قلت: لكن رواية مسلم (¬7) الأخرى صريحة في ذلك، فإن لفظها "إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدؤا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم" (¬8) ظاهرها أن يأكل حاجته بكمالها بحيث يسمى عشاء. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 66). (¬3) في ن ب (أراد). (¬4) في ن ب (فصحيح و). (¬5) في ن ب (قال). (¬6) في الأصل (العالمين)، وما أثبت من ن ب. (¬7) مسلم (557). انظر: ت (3، 4). (¬8) في ن ب زيادة (واو).

السابع: فيه دليل على أن الجماعة ليست بفرض على الأعيان كما قاله صاحب القبس، وقال الشيخ تقي الدين: إن أريد به أن حضور الطعام -مع التشوف إليه- عذر في ترك الجماعة فهو صحيح، وإن أُريد به الاستدلال على أنها ليست بفرض من غير عذر فليس بصحيح (¬1). الثامن: فيه دليل على تقديم فضيلة حضور القلب على فضيلة أول الوقت. التاسع: في "حسان المصابيح" (¬2) عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر إحكام الأحكام (2/ 67). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 161) واستدل القرطبي على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب، لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل وإن فاتته الصلاة في الجماعة. وفيه نظر لأن بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبان. قال في صحيحه (3/ 252)، باب: فرض الجماعة والأعذار التي تبيح تركها، واستدل بما سبق من الأحاديث: جعل حضور الطعام عذرًا في ترك الجماعة فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقًا. (¬2) أخرجه أبو داود مختصر المنذري (3611). قال المنذري -رحمنا الله وإياه-: في إسناده محمد بن ميمون المفلوج، وقد اختلف أئمة الجرح والتعديل في توثيقه وعدمه. وهذا مما دعا ابن حجر -رحمه الله-. لأن يصفه بصدوق في التقريب (321) له أوهام على إن عبارة ابن حبان تقطع بضعفه كما هو مذكور. وقد رجح الخطيب ما ذكره ابن حبان. انظر: سؤالات الآجري لأبي داود (113)، وقد وثقه أبو داود فيه ولم يخرج له في الستة سوى أبي داود. ووجه الجمع بن حديث عائشة وجابر أن الأول إنما جاء فيمن كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام، وكان شديد التوقان =

أنه قال: "لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا لغيره" وهذا [عام] (¬1) مخصوص بحديث عائشة المذكور. وغيره أو محمول على ما لم يشتغل قلبه [به] (¬2) جمعًا بين الأحاديث، وأعل الحديث عبد الحق بأن قال: في إسناده معلى بن منصور، وقد رماه أحمد بن حنبل بالكذب. قلت: إنما رماه بالخطأ وهو من رجال مسلم، ووثق، وأعله المنذري بمحمد بن ميمون المفلوج، فإنه وإن وثقه يحيى وأبو حاتم والدارقطني، فقد قال البخاري: إنه منكر الحديث، وكذا قال ابن حبان [وزاد] (¬3): ولا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد بأوابد. ¬

_ = إليه. فإذا كان كذلك وحضر الطعام وكان في الوقت فضل، بدأ بالطعام لتسكن شهوة نفسه. فلا يمنعه عن توفيه الصلاة حقها. وكان الأمر يخفُّ عندهم في الطعام، وتقرب مدة الفراغ منه، إذ كانوا لا يشكرون منه، ولا ينصبون الموائد ويتناولون الألوان، وإنما هو مذقه من لبن أو شربة من سويق، أو كف من تمر، أو نحو ذلك. ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها، ولا يخرجها عن وقتها. وأما حديث جابر: "لا تؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره"، فهو مما كان بخلاف ذلك من حال المصلي. وصفة الطعام، ووقت الصلاة. وإذا كان الطعام لم يوضع وكان الإِنسان متماسكًا في نفسه وحضرت الصلاة. وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام. وهذا وجه بناء أحد الحديثين على الآخر، والله أعلم. وانظر: تهذيب التهذيب (9/ 485). (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (وجاز)، والتصحيح من ن ب.

العاشر: في الحديث دلالة على فضيلة هذه الأمة وما منحها الله -تعالى- به من مراعاة حظوظها البشرية وتقديمها على الفضائل الشرعية، ووضع التشديدات عنها، وتوفير ثوابها على ذلك خصوصًا إذا قصده [للمتابعة] (¬1) (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب (للمبالغة). (¬2) فائدتان من فتح الباري لابن حجر -رحمنا الله وإياه- (2/ 162)، قال: الأولى: قال ابن الجوزي: ظن قوم أن هذا من تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة، ثم إن طعام القوم كان شيئًا يسيرًا لا يقطع عن لحاق الجماعة غالبًا. الثانية: ما يقع في كتب الفقه "إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤا بالعشاء" لا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ. كذا في شرح الترمذي لشيخنا أبي الفضل، لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين أن ابن أبي شيبة أخرج عن إسماعيل وهو ابن علية عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن رافع عن أم سلمة مرفوعًا: "إذا حضر العَشاء وحضرت العِشاء فابدؤا بالعَشاء"، فإن كان ضبطه فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في مسنده عن إسماعيل بلفظ: "وحضرت الصلاة"، ثم راجعت مصنف ابن أبي شيبة فرأيت الحديث كما أخرجه أحمد، والله أعلم.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 55/ 9/ 9 - قال: المصنف، ولمسلم عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: الأخبثان: [الغائط والبول] (¬2)، وقد ورد مصرحًا به في بعض الأحاديث (¬3). ثانيها: تقدم الكلام في الحديث قبله على حكم الصلاة بحضرة الطعام. ثالثها: اختلف العلماء كما قال صاحب القبس (¬4): في علة ¬

_ (¬1) مسلم (560)، وأبو داود (89)، وأحمد في المسند (6/ 42، 54، 73)، وأبو عوانة (1/ 268)، والطحاوي في المشكل (2/ 404)، والحاكم (1/ 168)، والبيهقي (3/ 71)، وابن أبي شيبة، والبغوي (801، 802)، وصححه ابن خزيمة (933). (¬2) تقديم وتأخير بين النسخ. (¬3) عند ابن حبان (2073). (¬4) القبس (1/ 349، 350) مع اختلاف يسير في النقل.

النهي عن الصلاة مع مدافعة الاخبثين، فقيل: علته عدم الخشوع والإِقبال على أفعال الصلاة. وقيل: علته أنه انصب للخروج، فإذا حقنه فكأنه حبسه في ثوبه. وقيل: إذا حقنه كأنه نقض طهارته فيكون مصليًا بغير طهارة. وهذا بعيد كما قاله الشيخ تقي الدين: لأنه إحداث سبب آخر في النواقض من غير دليل صريح فيه فإن استند في ذلك إلى [] (¬1) هذا الحديث فليس [بصريح] (¬2) فيما ذكره، وإنما غايته أن يكون مناسبًا أو محتملًا (¬3). رابعها: ظاهر الحديث أن المعتبر مدافعة الأخبثين معًا لا أحدهما، وليس كذلك بل كل واحد منهما مستقل بالكراهة (¬4) ¬

_ (¬1) في ن زيادة (غير). (¬2) في ن ب (صحيح)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام (2/ 74) مع الحاشية. (¬3) قال ابن حبان -رحمنا الله وإياه- (3/ 357): المرء مزجور عن الصلاة عند وجود البول والغائط، والعلة المضمرة في هذا الزجر هي أن يستعجله أحدهما حتى لا يتهيأ له أداء الصلاة على حسب ما يجب من أجله، والدليل على هذا تصريح الخطاب ولا هو يدافعه الأخبثان، ولم يقل ولا هو يجد الأخبثين. انظر: تعقب ابن العربي على هذا، ونسبة إلى الإِمام أحمد في عارضة الأحوذي (1/ 235). (¬4) قال ابن حبان -رحمنا الله وإياه- بعد ما سبق: "والجمع بين الأخبثين =

لحديث عبد الله بن أرقم: "إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة" رواه مالك (¬1) وغيره. وإن كان الغائط لا ينفك عن البول غالبًا، فإنه قد لا يدافعه البول معه لحقنه. قال الشيخ تقي الدين: ومدافعة الأخبثين إما أن تؤدي إلى [الإِخلال] (¬2) بركن أو شرط أو لا، فإن أدت امتنع الدخول، فإن دخل واختلا فسدت، وإن لم يؤد إلى ذلك، فالمشهور فيه الكراهة. ونقل عن مالك أن ذلك مؤثر في الصلاة بشرط شغله عنها، وأنه قال: يعيد في الوقت وبعده، وتأوله بعض أصحابه على أنه شغله حتى أنه لا يدري كيف صلى فهو الذي يعيد قبل وبعد، وإلَّا فإن كان خفيفًا فهو الذي يعيد في الوقت. قال القاضي عياض: وكلهم مجمعون على أنه [إن] (¬3) بلغ ¬

_ = قصد به وجودهما معًا، وانفراد كل واحد منهما لا اجتماعهما دون الانفراد". (¬1) مالك في الموطأ (1/ 159)، وأبو داود المنذري طبعة فقي (1/ 84)، والترمذي (184)، وكذا أخرجه الثاني (2/ 210)، وابن ماجه (1/ 202)، وابن حبان، وصححه ابن خزيمة (932، 1652)، والحاكم (1/ 168) ووافقه الذهبي، والدارمي (1/ 332)، وأحمد (3/ 483)، والحميدي (872)، وابن أبي شيبة (2/ 423)، عبد الرزاق (1759). (¬2) في ن ب (الاختلال)، ما أثبت يوافق إحكام الأحكام (2/ 69) مع الحاشية. (¬3) زيادة من ن ب، والنص ساقه في إحكام الأحكام وهي ساقطة فيه (2/ 70).

به ما لا يعقل به صلاته، ولا يضبط حدودها أنه لا يجوز له الدخول فيها، [وأنه] (¬1) يقطع الصلاة وإن أصابه ذلك فيها، قال: وهذا الذي قدمناه في التأويل. وكلام القاضي فيه بعض [احتمال] (¬2). والتحقيق: ما أشرنا إليه أولًا، لأنه إن منع من ركن أو شرط امتنع الدخول، وفسدت باختلالهما، وإلَّا فهو مكروه إن نظر إلى المعنى، أو ممتنع إن نظر إلى ظاهر النهي [فلا] (¬3) يقتضي ذلك الإِعادة على مذهب الشافعي، وأما ما [ذكره] (¬4) من التأويل [في أنه لا يدري] (¬5) كيف صلى [وما قاله] (¬6) القاضي: إن بلغ به ما لا يعقل صلاته، فإن أُريد بذلك الشك في شيء من الأركان فحكمه حكم من شك في ذلك بغير هذا السبب وهو البناء على اليقين، وإن أُريد به أنه يذهب خشوعه بالكلية فحكمه حكم من صلى بغير خشوع، ومذهب جمهور الأمة إن ذلك لا يبطل الصلاة. قلت: ولأصحابنا وجه ببطلانها، وحكاه [أبو] (¬7) عبد الله بن ¬

_ (¬1) في ن ب (أن)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬2) في ن ب (إجمال)، وأيضًا في إحكام الأحكام. (¬3) في الأصل (ولا)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب (ذكر). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في إحكام الأحكام "أو ما قال". (¬7) زيادة من كتب التراجم للتصحيح هو محمد بن خفيف أبو عبد الله الضبي الشيرازي، مات في رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة عن خمس وتسعين سنة. وقيل: بل جاوز المائة بأربع سنين. ترجمته طبقات =

خفيف قولًا عن الشافعي، أفاده عنه ابن العطار، ثم استغربه جدًّا، وهو كما ذكر، ثم بحث الشيخ تقي الدين (¬1) مع القاضي في قوله: لا يضبط حدودها بذلك أيضًا قال: وهذا الذي ذكرناه إنما هو بالنسبة إلى إعادة الصلاة، وأما بالنسبة إلى جواز الدخول فيها فقد يقال: إنه لا يجوز له أن يدخل في صلاة لا يتمكن فيها من ذكر إقامة أركانها وشرائطها. فتلخص أن لمدافع الأخبثين أربعة [أحوال] (¬2). أحدها: أن يكون بحيث لا يعقل بسببهما الصلاة وضبط حدودها، فلا تحل له الصلاة ولا الدخول فيها إجماعًا. ثانيها: أن يكون بحيث يعقلها مع ذهاب خشوعه بالكلية. ثالثها: أن يكون بحيث يؤدي إلى الإِخلال بركن أو شرط. رابعها: أن يكون بحيث يؤدي إلى الشك في شيء من الأركان، وقد عرفت حكم ذلك (¬3). ¬

_ = الصوفية (462، 466)، وطبقات الأولياء (290، 294)، وإيضاح المكنون (1/ 4، 35، 367)، وطبقات ابن شهبة (1/ 147). مؤلفاته: "شرف الفقراء المتعففين على الأغنياء المنفقين"، و"شرح الفضائل والفصول في الأصول"، و"جامع الإِرشاد وفضل التصوف". انظر: معجم المؤلفين (9/ 282). أقول: المحكي قولًا عن الشافعي: إن الخشوع شرط في صحة الصلاة. ذكره ابن قاضي شهبة في طبقاته (1/ 148). (¬1) في إحكام الأحكام (2/ 71، 73). (¬2) في الأصل (أقوال)، وما أثبت من ن ب. (¬3) قال ابن قاسم -رحمنا الله وإياه- في حاشية الروض (2/ 97): يبدأ =

خامسها: يلحق بالأخبثين ما في معناهما مما يشغل القلب، ويذهب كمال الخشوع. كما الحق بقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬1) ما في معناه من الجوع المؤلم، والعطش الشديد، والغم، والفرح، ونحو ذلك (¬2). ¬

_ = بالخلاء ليزيل ما يدافع من بول أو غائط أو ريح ولو فاتته الجماعة، ومن أهل العلم من قال بعدم صحتها، والأكثر أنها ناقصة. وقال شيخ الإسلام -رحمنا الله وإياه-: إذا كان على وضوء وهو حاقن بحدث ثم يتيمم. إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاته بالوضوء وهو حاقن، وقال: صلاته مع الاحتقان مكروهة، وفي صحتها روايتان. وصلاة المتيمم صحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق. اهـ. والصلاة مع الاحتقان مانع للخشوع إذ الخشوع هو لب الصلاة وروحها والخشوع الإِخبات، وهو معنى يقوم بالنفس يظهر منه سكون الأطراف. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه-: والخشوع قيام العبد بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه. وفي الحديث: "إذا صلى يتضرع ويتخشع ويتمسكن وإلَّا فهي خداع". وفي الأثر: "أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع". (¬1) من رواية أبي بكرة. البخاري (7158)، ومسلم (1717)، والترمذي (1334)، والنسائي (8/ 237، 238)، وابن ماجه (2316)، وأبو داود (3589)، والطيالسي (860)، والحميدي (792)، وأحمد (5/ 36، 38، 46، 52)، والبغوي (2498)، والدارقطني (4/ 205). (¬2) فائدة: قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه تعالى-: عشر يؤذي انحباسها ومدافعتها: الدم إذا هاج، والمني إذا اجتمع، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش، وكل واحد يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه.

سادسها: هذه الكراهة عند جمهور أصحابنا وغيرهم إذا صلى كذلك وفي الوقت سعة، فإن ضاق بحيث لو أكل أو تطهر خرج الوقت صلى على حالته محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز تأخيرها، وفي وجه شاذ أنه لا يصلي بحاله، بل يأكل ويتوضأ وإن خرج الوقت، لأن مقصودها الخشوع فلا يفوت، وإذا صلى على حاله وفي الوقت سعة فقد ارتكب المكروه، وصلاته صحيحة عند الجمهور، لكن يستحب إعادتها ولا يجب، خلافًا لأهل الظاهر كما سبق عنهم في حضرة الطعام أيضًا. [سابعها:] (¬1) لو لم يحضره الطعام ونفسه تتوق إليه فالحكم فيه كما لو حضره، لوجود المعنى وهو ترك الخشوع. قال الشيخ تقي الدين (¬2): والتحقيق أن الطعام إذا لم يحضر، فإن تيسر حضوره عن قرب فلا يبعد أن يكون كالحاضرة، وإلَّا فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر؛ فإن حضور الطعام يوجب زيادة تشوق وتطلع إليه، وهذه الزيادة يمكن أن يكون اعتبرها الشارع في تقديم الطعام على الصلاة، فلا ينبغي أن يلحق بها ما لا يساويها للقاعدة الأصولية "أن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرًا لم يلغ". ¬

_ (¬1) في ن ب (تاسعها). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 67) مع الحاشية بمعناه.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 56/ 10/ 9 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "شهد عندي رجال مرضيون -وأرضاهم عندي: عمر- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح، حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب" (¬1). أما راويه فتقدم في [باب] (¬2) الاستطابة التعريف به. ومعنى: "شهد" بيَّن وأعلم وأخبر، لا بمعنى الشهادة عند الحكام، كيف وعمر كان قاضيًا للصديق وخليفة بعده إلى أن مات، ولم يكن ابن عباس قاضيًا له ولا نائبًا في الإِمارة، فدل على ما ذكرناه. وقوله: "مرضيون" أي لا شك في صدقهم ودينهم. و"تشرق": بضم أوله وكسر ثالثه وبفتح أوله وضم ثالثه وهو ¬

_ (¬1) البخاري (581)، ومسلم (826)، وأبو داود (1276)، والترمذي (183)، والنسائي (1/ 276، 277)، وابن ماجه (1250)، وأحمد في المسند. (¬2) في ن ب ساقطة.

للأكثر عند رواة المشارقة، وأشار القاضي (¬1) إلى ترجيح الأول، وهو بمعنى تطلع؛ لأن أكثر الروايات على تطلع، فوجب حمل تشرق في المعنى على موافقتها. قال أهل اللغة (¬2): يقال: شرقت الشمس تشرق أي: طلعت على وزن طلعت تطلع، وغربت تغرب، ويقال: أشرقت تشرق أي: ارتفعت وأضاءت، ومنه قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (¬3) أي: أضاءت. فمن قال: إن الرواية: من أشرقت تشرق، احتج لها بالأحاديث الأخرى في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس (¬4) والنهي عن الصلاة إذا بدأ حاجب الشمس حتى تبرز (¬5). وحديث "ثلاث ساعات حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع" (¬6)، وكل هذا ¬

_ (¬1) في مشارق الأنوار (2/ 249). (¬2) انظر: مختار الصحاح (144). (¬3) سورة الزمر: آية 69. (¬4) حديث أبي سعيد مرفوعًا: "لاصلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس"، الحديث متفق عليه. (¬5) لحديث ابن عمر أخرجه البخاري: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب"، وفي لفظ: "تبرز". (¬6) لحديت عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ... " الحديث.

يبين أن المراد بالطلوع ارتفاعها وإشراقها وإضاءتها لا مجرد ظهور قرصها [ثم] (¬1). الكلام عليه بعد ذلك من وجوه: أحدها: فيه رد على الروافض فيما يدعونه من المباينة بين أهل البيت وأكابر الصحابة. ثانيها: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في أوقات النهي، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها. واختلفوا في النوافل التي لها سبب: كالعيد (¬2)، والجنازة، وقضاء الفوائت. ومذهب الشافعي -رحمه الله- وطائفة جواز ذلك كله إذا كان السبب متقدمًا بلا كراهة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) وقت صلاة العيد بعد زوال وقت الكراهة. لحديث خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإِمام، فقال: "إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح". قال السيوطي: أي حين يصلي الضحى. وقال القسطلاني: أي وقت صلاة السبحة، وهي النافلة إذا مضى وقت الكراهة. قال النووي: في الخلاصة وإسناده صحيح على شرط مسلم. وأحسن ما ورد من الأحاديث في تعيين وقت صلاة العيدين، حديث جندب عند الحافظ أحمد بن حسن البناء في كتاب الأضاحي، قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح". أورده الحافظ في تلخيص الحبير ولم يتكلم عيه. اهـ. من عون المعبود (3/ 486).

ومذهب أبي حنيفة وآخرين أنه داخل في النهي لعموم الأحاديث، وتباح الفوائت عنده بعد الصبح [والعصر] (¬1) ولا يباح في الأوقات الثلاثة إلَّا عصر يومه (¬2)، فيباح عند اصفرار الشمس، ¬

_ (¬1) في ن ب (الصبح). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (1/ 366) وقال أهل العراق، والكوفيون، وغيرهم: كل صلاة: نافلة أو فريضة أو على جنازة لا تصلى عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند استوائها، لأن الحديث لم يخص نافلة من فريضة إلَّا عصر يومه، لقوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". ولهم في ذلك حجج ذكرناه. انظر: (1/ 302، 305). وقد ردوا ظاهر الحديث إذ قالوا ببعضه، ودفعوا بتأويلهم بعضه، لأن الحديث جمع الصبح والعصر، وهم قالوا: عصر يومه دون صبح يومه، وزعموا أن مدرك ركعة من العصر يخرج إلى وقت تباح فيه الصلاة، وهو بعض المغرب، ومدرك ركعة من الصبح يخرج من الثانية إلى الوقت المنهي عنه وهو الطلوع. وهذا الحكم لا برهان لصاحبه فيه، ولا حجة له فيه، لأن من ذكرنا قد صلى ركعة من العصر والمغرب، وفي قوله - عليه السلام -: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذ ذكرها"، مع قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". أوضح دليل على أن نهيه - عليه السلام - كان عن الصلاة عند الطلوع وعند الغروب لم يقصد به إلى أن الفريضة وإنما قصد به إلى ما عدا الفرائض من الصلوات. =

وتباح المنذورة (¬1) في هذه الأوقات عندنا، ولا تباح عنده، والمشهور من مذهب داود منع الصلاة في هذه الأوقات مطلقًا سواء ذات السبب وغيرها، وهو رواية عن أحمد. ونقل القاضي عن داود أنه أباحها بسبب وبدونه. واحتج الشافعي وموافقوه بأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى سنة الظهر بعد العصر (¬2). وهذا تصريح في قضاء السنة الفائتة، فالحاضرة أولى، والفريضة المقضية أولى، وكذا الجنازة، وهو إجماع فيهما، وقال - عليه الصلاة والسلام - في التحية: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (¬3) وهذا خاص وحديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات عام، وقد دخله التخصيص بصلاة ¬

_ = وعلى هذا التأويل تكون الأحاديث مستعملة كلها في هذا الباب. اهـ. محل المقصود. (¬1) أشبهت الفرائض في قضائها في أوقات النهي لا اشتراكها في الوجوب. (¬2) أخرجه البخاري في باب: ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها. وقد نقل ابن حجر -رحمنا الله وإياه- عن البيهقي أنه من خصائصه المداومة على الركعتين لا أصل القضاء. أما الطحاوي فقد جزم بأنه من خصائصه أي القضاء، وقد رجح هذا ابن باز -حفظه الله- في تعليقه على الفتح (2/ 65) محسنًا الأحاديث الواردة بذلك. (¬3) متفق عليه. البخاري أطرافه (444)، ومسلم (714)، وأبو داود (467، 468) في الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد، ابن ماجه (1013)، والشافعي (2/ 53)، والترمذي (316)، والبغوي (480)، وأحمد (5/ 95).

الصبح وبصلاة العصر وصلاة الجنازة (¬1) كما تقدم، وبحديث: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (¬2) وأما حديث التحية فهو على عمومه لم يدخله تخصيص، ولهذا أمر بهما الداخل والإِمام يخطب (¬3). قلت: وكل واحد من الحديثين أعتم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فحديث: "لا صلاة" خاص في الوقت عام في الصلاة [وحديث] (¬4): "من نام عن صلاة [أو نسيها] (¬5) " عكسه بقيد كون ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمه الله- جامعًا بين الأقوال: "وقال غيرهم ادعاء التخصيص أولى من ادعاء النسخ، فيحمل النهي على ما لا سبب له، ويخص منه ما له سبب جمعًا ببن الأدلة". اهـ. قال ابن باز -حفظه الله- معلقًا على هذا: "هذا القول هو أصح الأقوال، وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد. واختاره شيخ الإِسلام وتلميذه ابن القيم، وبه تجتمع الأخبار، والله أعلم". اهـ. من الفتح (2/ 59). (¬2) متفق عليه. البخاري (597)، ومسلم (684)، وأبو داود (42،) في الصلاة، باب: من نام عن الصلاة، وابن ماجه (695، 696)، والنسائي في المواقيت (614، 615)، والترمذي (178)، والبيهقي (2/ 218)، وأحمد (3/ 100، 267)، والدرامي (1/ 280)، وابن خزيمة (992، 993). (¬3) وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الداخل يوم الجمعة حال الخطبة بهما بعد أن قعد، ولو كانت ترك في وقت لكان هذا الوقت أولى، لأنه من الصلاة لا التحية، ولأنه تكلم في الخطبة، وبعد أن قعد الداخل، وكل هذا مبالغة في تعميم التحية. اهـ. من حاشية الروض (2/ 252). (¬4) في ن ب (عام). (¬5) في ن ب ساقطة.

الصلاة فائتة، فلا يقدم أحدهما على الآخر إلَّا بدليل بخلاف العام مع الخاص من كل وجه. ثالثها: ذكر في هذا الحديث النهي عن الصلاة: " [حتى] (¬1) تشرق" وفي الحديث الآتي بقيد: "حتى ترتفع" وهما بمعنى وبذلك تبين أن المراد بالطلوع في باقي الروايات: ارتفاعها، وإشراقها، وإضاءتها، لا مجرد ظهور قرصها كما أسلفناه (¬2). رابعها: الكراهة في هذين الوقتين يتعلق بالفعل حتى إذا تأخر الفعل فإنه [لا] (¬3) تكره الصلاة قبلها، وإن تقدم كرهت (¬4)، وفي ¬

_ (¬1) في ن ب (حين). (¬2) كما جاء في بعض الروايات مفسرًا الطلوع بالارتفاع: "حتى ترتفع الشمس"، والمقصود بالارتفاع كما جاء مصرحًا به في حديث عمرو بن عبسة الذي أخرجه النسائي، وابن ماجه بتقييد الارتفاع: "حتى ترتفع الشمس قيد رمح"، ومعنى قيد رمح: أي قدر رمح: "أي حتى تطلع مرتفعة وهو بنظر الإِنسان". (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) فمن لم يصل العصر أبيح له التنفل وإن صلى غيره، وكذا لو أحرم بها ثم قلبها نفلًا، أو قطعها لعذر لم يمنع من التطوع حتى يصليها، ومن صلاها فليس له التنفل، ولو صلى وحده لحديث أبي سعيد، فلو قدم صلاة العصر جمعًا مع الظهر منع من التنفل، إلَّا سنة الظهر بعدها. لحديث أم سلمة أنه دخل عليها فصلى ركعتين بعد العصر، فقلت: صلاة لم أكن أراك تصليها؟ فقال: "إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وأن قدوم وفد بني تميم شغلوني عنها، فهما هاتان الركعتان"، متفق عليه. اهـ. حاشية الروض لابن قاسم -رحمنا الله وإياه- (2/ 247).

هذين يختلف وقت الكراهة في الطول والقصر. أما الكراهة المتعلقة بالوقت فهو طلوع الشمس إلى ارتفاعها والاصفرار حتى تغرب (¬1) والاستواء (¬2). ونقل بعض المالكية أن النهي عندهم متعلق بالوقت في الصبح وفي العصر بالفعل (¬3). ¬

_ (¬1) لحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها". وحديثه الآخر: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب". فهذه الأحاديث تتعلق بالوقت، فدل على أن الكراهة مختصة بمن قصد الصلاة في ذلك الوقت لا من وقع له ذلك اتفاقًا، ويقوي ذلك حديث: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها أخرى"، فأمر بالصلاة حينئذ. (¬2) لحديث عقبة بن عامر عن مسلم: "وحين يقوم قائم الظهيرة"، وحديث عمرو بن عبسة عند مسلم: "حتى يستقل الظل بالرمح، فإذا أقبل الفيء فصل". (¬3) لحديث ابن عباس: "شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب". وحديث أبي هريرة: "وفيه نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس". ومعنى: الفعل، أي: فعل الصلاة التي قبل وقت النهي مثل الفجر والعصر، فبعد أدائها يبتدىء وقت النهي. انظر: ت (4/ 314).

وذهب مالك وأصحابه إلى إجازة الصلاة عند الزوال (¬1). خامسها: استثنى الشافعي وأصحابه من أوقات النهي زمان ومكان لدليل آخر. فالزمان: وقت الاستواء يوم الجمعة (¬2). والمكان: حرم مكة (¬3). ¬

_ (¬1) مستدلًا بقوله: "ما أدركت أهل الفضل إلَّا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار". قال ابن عبد البر: قد روى مالك حديث الصنابحي (1/ 219)، فأما إنه لم يصح عنده، وأما أنه رده بالعمل الذهب ذكره. اهـ. قال ابن حجر حديث الصنابحي: مرسل مع قوة رجاله. اهـ. الفتح (2/ 63). (¬2) وهو اختيار شيخ الإِسلام وابن القيم وعمدتهم في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحب التبكير إلى الجمعة. ثم ركب في الصلاة إلى خروج الإِمام من غير تخصيص ولا استثناء. وجعل الغاية خروج الإِمام، وهو لا يخرج إلَّا بعد الزوال، فدل على عدم الكراهة. وجاء في حديث أبي قتادة مرفوعًا: "أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة نصف النهار إلَّا يوم الجمعة"، وفي إسناده انقطاع. وقد ذكر البيهقي له شواهد ضعيفة إذا ضمت قوى الخبر. اهـ. من فتح الباري (2/ 63) وقد عده ابن القيم من خصائص يوم الجمعة. انظر: زاد المعاد، والاستذكار (1/ 367، 37). (¬3) لحديث: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى آية ساعة من ليل ونهار". رواه الترمذي (1/ 164)، والمراد بذلك ما له سبب كركعتي الطواف، للإِجماع على تحريم إنشاء تطوع في أوقات النهي، ولم يخصوا مكة ولا غيرها، وبهذا تتفق الادلة. أما عند الشافعي فلا نهي مطلقًا لحديث أبي ذر وحديث عبد مناف.

والكلام في ذلك مبسوط في الفقه، وقد بسطته في "شرح المنهاج" و "التنبيه" وغيرهما مع بيان الاختلاف في الكراهة في هذه الأوقات: هل هي كراهة تحريم أو تنزيه، وظاهر [الحديث] (¬1) يدل للتحريم لأنه الأصل في النهي (¬2). سادسها: روى الشافعى (¬3) -رحمه الله-: "أن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب فارقها، فإذا غربت فارقها". وهو مرسل لأنه من رواية الصنابحي، وقد نبه على ذلك المصنف بعد كما ستعلمه من كلامه، وهذا أحد ما قيل في سبب الكراهة في هذه الأوقات، وللشيخ عز الدين بن عبد السلام فيه [نظر] (¬4) ذكرته في "شرح التنبيه" فراجعه منه. وقال الخطابي: قوله: "بين قرني الشيطان" وأمثاله من الألفاظ الشرعية مثل قوله: "تسجر جهنم " يجب علينا التصديق بها، والإِقرار بصحتها أو العمل بموجبها دون اعتقاد تكييف، والله ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) وبعضهم فصّل. فقال: النهي للكراهة بعد صلاة الصبح والعصر ويحرم عند طلوع الشمس وعند الغروب. الفتح (2/ 63). انظر: الاستذكار (1/ 372) مصنف عبد الرزاق (2/ 427). (¬3) رواه الشافعي في الرسالة فقرة (874) تحقيق أحمد شاكر، ومالك في الموطأ (1/ 219). قال ابن حجر: هو حديث مرسل مع قوة رجاله. انظر: ت (18) وأخرجه النسائي، وابن ماجه. (¬4) في ن ب (ذكر).

ورسوله أعلم بذلك؛ وتابعه البغوي (¬1) فقال: هذا التعليل وأمثاله مما ¬

_ (¬1) قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (1/ 130، 131): اختلفوا في تأويله على وجوه، فقال قائل: معناه مقارنة الشيطان للشمس عند دنوها للغروب. على معنى ما روي: إن الشيطان يقارنها إذا طلعت، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها. فحرمت الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لذلك، وقيل: معنى قرن الشيطان: قوته، من قولك: أنا مقرن لهذا الأمر، أي مطبق له قوي عليه، وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات، لأنه يسوّل لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأزمان الثلاثة. وقيل: قرنه حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس. يقال: هؤلاء قرن أي نشء جاءوا بعد قرن مضى. وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم، وتزيينه ذلك في قلوبهم، وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، فكأنهم لما دافعوا الصلاة وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس. صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها، وتدفعه بأوراقها. وفي وجه خامس، قاله بعض أهل العلم، وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها، وينتصب دونها، حتى يكون طلوعها بين قرنيه، وهما جانبا رأسه، فينقلب سجود الكفار عادة له. وقرنا الرأس فوداه وجانباه، وكذا ذكر هذا في أعلام الحديث (3/ 1508)، وقال وقيل: معنى القرن في هذا اقترانه بها، والوجه الأول أشبه لانتظامه معنى التثنية في القرنين. وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (154، 156)، في الرد على من أنكر الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس لطلوعها بين قرني الشيطان: "فكره لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي في الوقت الذي يسجد فيه عبدة الشمس للشمس، فهم يسجدون له بسجودهم للشمس، =

............................................................ ¬

_ = ولم يرد بالقرن ما تصوروه في أنفسهم من قرون البقر وقرون الشاء، وإنما القرن حرفا الرأس، وللرأس قرنان، أي: حرفان وجانبان، ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سمي قرنًا إلَّا بإسم موضعه، كما تسمي العرب الشيء بإسم ما كان له موضعًا أو سببًا، فيقولون: رفع عقيرته، يريدون صوته لأن رجلًا قطعت رجله فاستغاث من أجلها. فقيل لمن رفع صوته: رفع عقيرته. ومثل هذا كثير في كلام العرب، وكذلك قوله: في المشرق، من ها هنا يطلع قرن الشيطان، لا يريد ما يسبق إلى وهم السامع من قرون البقر، وإنما يريد: من ها هنا يطلع رأس الشيطان، والقرون أيضًا: خصل الشعر، كل خصلة قرن، ولذلك قيل للروم: ذات القرون، يراد أنهم يطولون الشعر، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس وعند سجود عبدتها لها مائل مع الشمس: "فالشمس تجرى من قبل رأسه، فأمرنا أن لا نصلي في هذا الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء ويصلون للشمس وللشيطان، وهذا أمر مغيب عنا لا نعلم إلَّا ما علمنا، والذي أخبرتك به شيء يحتمله التأويل". وما قاله ابن قتيبة -رحمه الله- واضح وصحيح: وقال النووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم على قوله: "بين قرني الشمس" هل هو على الحقيقة أو على المجاز، فقيل: هو على حقيقته وظاهر لفظه، والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها، وكذا عند طلوعها لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يجدون له، وقيل: هو على المجاز، والمراد بقرنيه: علوه وارتفاعه. وسلطانه وتسلطه وغلبة أعوانه. ثم ساق كلام الخطابي -رحمنا الله وإياهم-. وانظر كلام أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- في سنن الترمذي (1/ 301).

لا يدرك معناه، وإنما علينا الإِيمان [به] (¬1) وترك الخوض فيه والتمسك بالحكم [المعلق] (¬2) [بها] (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (المطلق)، والتصحيح من كتاب السنة للبغوي (3/ 330). (¬3) في الأصل ساقطة، وفي ن ب (به)، والتصحيح من كتاب السنة للبغوي (3/ 330).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 57/ 11/ 9 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس" (¬1). [وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، ومعاذ بن عفراء، وكعب بن مرة، وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عبسة السلمي، وعائشة رضي الله عنهم، والصنابحي ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (586، 1188، 1197، 1864، 1992، 1995)، ومسلم (827)، وأبو عوانة (1/ 380، 381)، والنسائي (1/ 277)، وابن ماجه (1249)، وأبو داود (2417)، والدارقطني (91)، والبيهقي (2/ 452)، وأحمد (3/ 95). (¬2) زيادة من نسخ متون العمدة، وفي نسخ إحكام الإِحكام مع الحاشية، وقد أضفته في صلب الكتاب، لأنه قد ذكره الشارح وأيضًا في متون العمدة.

أحدها: التعريف براويه واسمه سعد بن مالك الأنصاري وهو صحابي ابن صحابي بايع تحت الشجرة، [و] (¬1) شهد الخندق، واستصغر يوم أحد، والخدري بخاء معجمة مضمومة، ودال مهملة ساكنة، وراء مهملة وياء النسب، نسبة إلى خدرة جد من أجداده، وخدرة وخدارة بطنان من الأنصار. وكان - رضي الله عنه - من علماء الصحابة ومكثريهم روى فوق الألف. وكان ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا تأخذه في الله لومة لائم مات بالمدينة سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وتسعين. ثانيها: تقدم فقهه في الحديث الذي قبله، وقدمت هناك أيضًا أن الكراهة بعد الصبح والعصر متعلقة [بالفعل وهو ما أطلقه أصحابنا، وقد يقال إنها متعلقة] (¬2) به وبالوقت [معًا] (¬3) لأنه لو صلاهما قضاء، في وقت آخر لم يكره النفل بعدهما [ولو أوقع العصر في وقت الظهر بالجمع احتمل أن يكره النفل بعدها] (¬4) لأنه وقت العصر للجامع، وعليه دل كلام القاضي حسين، واحتمل أن لا يكره، لأنه ليس بوقت [للعصر] (¬5) ولذلك لا يجب إذا طرأ العذر على المكلف في أثناء وقت الظهر. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في الأصل ون د (معه)، وما أثبت من ن ب. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب (العصر).

[قلت] (¬1): وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: الكراهة في الصبح تدخل بطلوع الفجر. ونقله في شرح المهذب (¬2) عن أكثر العلماء، وأغرب الترمذي فنقل في جامعه الإِجماع عليه (¬3). ثالثها: استدل مالك ومن تبعه بهذا الحديث على أنه لا تكره الصلاة عند الاستواء؛ لأن مفهومه أنها إذا ارتفعت حلّت [له] (¬4) الصلاة مطلقًا، وهو معارض بحديث عقبة بن عامر. أخرجه مسلم (¬5). رابعها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا صلاة" أي: لا صلاة شرعية، لأن الحسية لم تنتف لوقوعها. ذكره الشيخ تقي الدين. قال: وإنما قلنا ذلك لأمرين: الأول: أن الشارع له عرف في الصلاة، فيحمل لفظه على عرفه. وثانيهما: إنا إذا حملناه على الحقيقة الجنسية احتجنا إلى إضمار يصح به الكلام، وهو المسمى بدلالة الاقتضاء [و] (¬6) ينشأ ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) المجموع شرح المهذب (4/ 167). (¬3) الترمذي (1/ 350). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) ولفظة: "ثلاث ساعات كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا"، وقال: "وحين يقوم قائم الظهيرة ... " الحديث. (¬6) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب.

[على] (¬1) ذلك الإِضمار احتمال: هل يكون اللفظ بالنسبة إليه عامًّا أو مجملًا أو ظاهرًا، أما إذا حملناه على الحقيقة الشرعية لم يحتج إلى إضمار، ومن هذا [حديث] (¬2) "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" (¬3) فإنه نفي للصوم الشرعي لا الحسيّ (¬4) [وحديث] (¬5): "لا نكاح إلَّا بولي" (¬6) فإن حمله على الحقيقة الشرعية [لا] (¬7) يبقى الاحتياج إلى الإضمار وحمله على الحقيقة الجنسية غير صحيح، -لأنها غير منتفية عند عدم الولي حسًّا- فيحتاج إلى إضمار فحينئذ يضمر بعضهم الصحة وبعضهم الكمال، وكذلك ما شَاكَلَ ذلك. قال المصنف: وفي الباب عن علي بن أبي طالب (¬8). ¬

_ (¬1) في ن ب (عن). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) صحيح أخرجه أبو داود (2454)، وابن خزيمة (1933). انظر: الإِرواء رقم (914). (¬4) في الأصل (للحسى). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) سنن الترمذي (1101)، وأحمد (4/ 394). انظر: الإِرواء (1839). (¬7) زيادة من إحكام الأحكام مع حاشية الصنعاني (2/ 79) وإن بها يستقيم الكلام ويظهر الفرق بن الحقيقة الشرعية والحسية. (¬8) ولفظه: عن علي رضي الله عنه، قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على إثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلَّا الفجر والعصر". أخرجه أبو داود (1/ 181)، وعبد الرزاق (4823)، وأحمد (1/ 81، 124، 144)، والبيهقي (2/ 459)، وابن أبي شيبة (2/ 350)، والأم (1/ 122)، وصححه ابن خزيمة (2/ 207).

قلت: تقدم التعريف به في باب المذي وغيره، وحديثه هذا أخرجه أبو داود كما سيأتي، وهذه الزيادة التي ذكرها المصنف أعني، قوله: وفي الباب إلى آخره ذكره الترمذي كذلك وبعض منه عقبة بن عامر، ويعلى بن أمية، ومعاوية، قال: وعبد الله بن مسعود. قلت: تقدم التعريف به في الباب، وحديثه هذا أخرجه (¬1) [] (¬2). قال: وعبد الله بن عمر بن الخطاب. قلت: تقدم التعريف به في باب الاستطابة، وحديثه هذا أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4). ¬

_ (¬1) ولفظه: عن عبد الله بن مسعود، قال: "إن الشمس تطلع حين تطلع بن قرني شيطان، قال: فكنا نُنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها"، وعند الطحاوي (1/ 74)، بزيادة: "ونصف النهار". أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 353)، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 227)، وقال: وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير وفيه ضرار بن صرد أبو نعيم وهو ضعيف جدًا. (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة، وفي ن ب. (¬3) البخاري (585)، ومسلم (289)، ومالك في الموطأ حديث رقم (29). (¬4) ولفظه: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ويرتفع النهار، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". أحمد بألفاظ (2/ 24، 42، 106)، ومثله ابن أبي شيبة (2/ 349، 350)، وعبد الرزاق (2/ 425، 430)، والطيالسي (3929).

قال: وعبد الله بن عمرو بن العاص. قلت: تقدم التعريف به في الطهارة، وحديثه هذا أخرجه (¬1) [] (¬2). قال: وأبو هريرة. قلت: تقدم التعريف به في الطهارة أيضًا، وحديثه هذا (¬3) أخرجه البخاري ومسلم (¬4). قال: وسمرة بن جندب. قلت: يأتي التعريف بعد إن شاء الله [تعالى] (¬5) في الجنائز، ¬

_ (¬1) ولفظه: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسند ظهره إلى الكعبة، فقال: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى الغرب". أحمد (2/ 179، 182، 207، 211)، وقال في مجمع الزوائد (2/ 226): رجاله ثقات. وابن أبي شيبة (2/ 349)، والطيالسي (2220). (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة. (¬3) في ن ب زيادة (في). (¬4) ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، مالك في الموطأ رقم (30)، ومسلم (285)، والبخاري ()، والنسائي (1/ 276)، والأم (1/ 147)، والسنن الكبرى (2/ 452)، ومعرفة السنن والآثار (3/ 5133). (¬5) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب.

وحديثه هذا أخرجه (¬1) [] (¬2). قال: وسلمة بن الأكوع. قلت: يأتي التعريف به إن شاء الله -تعالى- في [الجمعة] (¬3)، وحديثه هذا أخرجه (¬4) [] (¬5). قال: وزيد بن ثابت. قلت: يأتي في الصوم إن شاء الله، وحديثه هذا أخرجه (¬6) ¬

_ (¬1) ولفظه: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة قبل طلوع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان أو على قرني شيطان". أخرجه أحمد بألفاظ (5/ 15، 20)، والطيالسي (896)، وابن أبي شيبة (2/ 349)، وابن خزيمة (1274)، ذكره في مجمع الزوائد (2/ 225)، وقال فيه: رجال أحمد ثقات. (¬2) بياض في الأصل بمقدار كلمة. (¬3) في ن ب (الجمع)، والصحيح ما أثبت. (¬4) ولفظه: عن سلمة بن الأكوع، قال: كنت أسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيته صلى بعد العصر ولا بعد الصبح قط". أخرجه أحمد (4/ 51)، وذكر في مجمع الزوائد (2/ 226)، قال: وأخرجه الطبراني في الأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح. (¬5) بياض في الأصل بمقدار كلمة. (¬6) ولفظه: مختصرًا عن زيد بن ثابت رضي الله عنه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر". أخرجه أحمد (5/ 185)، وذكره في مجمع الزوائد (2/ 224)، قال: ورواه أحمد وفيه ابن لهيعة وفيه كلام وروى الطبراني طرفًا من آخره في الكبير. اهـ.

[] (¬1). قال: ومعاذ بن عفراء. قلت: هو معاذ بن الحارث بن رفاعة الأنصاري، وعفراء أمه، وهو داخل في نوع المنسوبين إلى غير أبائهم، شهد بدرًا والمشاهد كلها، يقال: إنه ورافع بن مالك الزرقي أول من أسلما من الأنصار، قال الواقدي: وآخى - عليه الصلاة والسلام - بينه وبين معمر بن الحارث، قال: ومات في زمن علي، وقال خليفة: مات أيام حرب علي ومعاوية، وقال ابن حبان في "ثقاته": قل بالحرة سنة ثلاث وستين، قال أبو عمر: ولمعاذ رواية في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، قلت: أخرجه (¬2) [] (¬3). ومعاذ وأخوه هما اللذان ضربا أبا جهل ببدر حتى برد، وأجهز عليه ابن مسعود بسيف أبي جهل. قال: وكعب بن مرة. قلت: هذا هو الأكثر. ¬

_ (¬1) بياض في الأصل بمقدار كلمة. (¬2) ولفظه: عن معاذ بن عفراء، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس". أخرجه أحمد (4/ 219، 220)، والبيهقي (2/ 464)، والطيالسي (5/ 170)، وابن أبي شيبة (2/ 348). (¬3) بياض في الأصل بمقدار كلمة.

وقيل: مرة بن كعب السلمي البهزي (¬1) نزيل البصرة ثم الأردن، له أحاديث مخرجها عن أهل الكوفة عن شرحبيل بن السمط عن كعب بن مرة وأهل الشام يروون تلك الأحاديث بأعيانها عن شرحبيل عن عمرو بن عبسة (¬2)، فالله أعلم. مات بالأردن من الشام سنة تسع وخمسين، وحديثه هذا أخرجه (¬3) [] (¬4). قال: وأبو أمامة الباهلي: قلت: أسمه صدي بن عجلان نزيل حمص، وكان سكن مصر من علماء الصحابة وأعيانهم. روى فوق المائتين، وهو آخر من مات [من] (¬5) الصحابة بالشام سنة إحدى وثمانين، وقال جماعة: سنة ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب التهذيب (8/ 441). (¬2) في التهذيب عنبسة (8/ 441) للتصحيح. انظر: تهذيب التهذيب (8/ 69). (¬3) ولفظه: عن كعب بن مرة رضي الله عنه عن سالم، عن مرة، أو عن كعب، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي اليل أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر"، ثم قال: الصلاة مقبولة حتى تصلي الصبح، ثم لا صلاة حتى تطلع الشمس وتكون قد رمح أو رمحين، ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح، ثم لا صلاة حتى تزول الشمس، ثم الصلاة مقبولة حتى تصلي العصر، ثم لا صلاة حتى تغيب الشمس" ... إلخ. أخرجه أحمد (4/ 235، 321)، وعبد الرزاق (3/ 425)، وذكره في مجمع الزوائد (2/ 225)، وقال: ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح إلَّا أن الإِسناد الثاني فيه رجل لم يسمّ. (¬4) بياض في الأصل بمقدار كلمة. (¬5) زيادة من ن ب.

ست وثمانين، وحديثه هذا أخرجه (¬1) [بياض في أصل المؤلف. والباهلي: نسبة إلى باهلة بن أعصر، قاله السمعاني (¬2). وقيل: غير ذلك] (¬3). قال: وعمرو بن عبسة السلمي. قلت: وهو أول رابع أو خامس [في الإِسلام] (¬4) روى ¬

_ (¬1) ولفظه: عن عبد الرحمن بن سابط أن أبا أمامة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما أنت؟ قال: "نبي"، قال: إلى من أرسلت؟ قال: "إلى الأحمر والأسود"، قال: أي حين تكره الصلاة؟ قال: "من حين تصلي الصبح حتى ترتفع الشمس قيد رمح، ومن حين تصفر الشمس إلى غروبها". أخرجه عبد الرزاق (2/ 424)، وعند أحمد بلفظ آخر (5/ 260)، وذكره في مجمع الزوائد (2/ 225)، وقال: وقد رواه الطبراني في الكبير أيضًا عن أبي أمامة أو أخي أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. (¬2) قال ابن الأثير -رحمنا الله وإياه- في اللباب (1/ 116)، قلت: قوله النسبة إلى باهلة بن أعصر غير صحيح لأنه ساق نسب قتيبة بن مسلم، كما ذكرناه ولم يذكر فيه باهلة. وإنما باهلة اسم امرأة مالك بن أعصر ولدت له سعد مناه بن مالك، ثم تزوجها ابن زوجها معن بن مالك، فولدت أودًا وجِآوه، وأمهما باهلة وكان له من غيرها شيبان وهو فراص وزيد وهو لحيان. إلى أن قال: على أن بعض النسابين، قال باهلة بن أعصر: وليس فيه حجة للسمعاني ... إلخ كلامه. (¬3) في ن ب ساقطة. أقول: جميع ما ذكر بياض لم يوضح إلَّا هنا أن البياض من أصل المؤلف فلعله -رحمنا الله وإياه- بيضه يريد العودة إليه لتخريجه فلم يخرجه. (¬4) في ن ب ساقطة.

[عدة] (¬1) أحاديث فوق الثلاثين. روى له مسلم منها حديثًا واحدًا [وهذا] (¬2) أخو أبي ذر الغفاري لأمه، نزل الشام، وسكن حمص إلى أن مات، وحديثه هذا أخرجه مسلم مطولًا (¬3). والسلمي: بضم السين المهملة وفتح اللام نسبة إلى سليم قبيلة، وهي سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان بن مضر وهي قبيلة مشهورة. قال: وعائشة، قلت: تقدم التعريف بها في الطهارة وحديثها هذا أخرجه أبو داود (¬4) من حديث ذكوان عنها. قال: والصُّنَابحي (¬5). ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - هو كما قال، ¬

_ (¬1) في الأصل عنه، والتصحيح من ن ب. (¬2) في ن ب (وهو). (¬3) مسلم (831)، في صلاة المسافرين: باب إسلام عمرو بن عبسة مطولًا، وابن ماجه (1364)، وأبو داود (1277)، والنسائي (2/ 279)، والبيهقي (2/ 454)، والبغوي (3/ 322، 323، 324)، وابن أبي شيبة (2/ 454)، وأحمد (4/ 111، 112، 114، 385). (¬4) ولفظه: عن عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال". أخرجه أبو داود (1280)، والبيهقي (2/ 458)، وأخرجه الطحاوي (1/ 148)، وابن أبي شيبة (2/ 348). (¬5) قال أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على الرسالة للشافعي: الصنابحي ثلاثة؛ الصنابح بن الأعسر الأحمسي صحابي، وأبو عبد الله، =

لأنه بلغه موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجحفة، فقدم المدينة بعد خمس ليال أو نحوها. واسمه عبد الرحمن بن عسيلة مات في خلافة عبد الملك، وكان جليل القدر. قال ابن الأثير: اختلف فيه على عطاء بن يسار فقيل عبد الله. وقيل: أبو عبد الله. وقال يحيى بن معين: يقال عبد الله وأبو عبد الله. وخالفه غيره، وقال: هو عبد الله وأما أبو عبد الله فاسمه عبد الرحمن، وسرد ذكره في التابعين. [قال أبو عمر: والصواب عندي أبو عبد الله اليافعي] (¬1) لا عبد الله الصحابي. قلت: وحديثه هذا أخرجه مالك (¬2) وغيره. ¬

_ = عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي تابعي، والثالث: عبد الله الصنابحي سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخطئ فيه مالك، والله أعلم. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ولفظه: عن عبد الله الصنابحي رضي الله عنه عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن شيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها". مالك ح (26)، والرسالة للشافعي فقرة (874)، والأم (1/ 130)، ومسند الشافعي (1/ 55)، وعبد الرزاق (2/ 425)، والنسائي (1/ 275)، وابن ما جه (1253)، وأحمد (4/ 348)، والبيهقي (2/ 454)، والبغوي (3/ 320).

والصُّنَابحي: بضم الصاد المهملة وفتح النون ثم ألف ثم باء موحدة ثم حاء مهملة ثم ياء النسب نسبة إلى الصُّنَابح بطن من مراد. قلت: وفي الباب أيضًا عن عقبة بن عامر أخرجه مسلم (¬1) ويعلى بن أمية (¬2) ومعاوية (¬3) كما أسلفناه عن الترمذي، وسعد بن أبي وقاص. ذكره أبو عمر (¬4)، وأبو ذر الغفاري رواه البيهقي في المعرفة (¬5)، وأبي قتادة رواه أبو داود ¬

_ (¬1) ولفظه: عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما، قال: ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: إذا طلعت الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب". أخرجه مسلم (831)، وأبو داود (3192)، والترمذي (1030)، والنسائي (1/ 275)، وابن ماجه (1519)، والدرامي (174)، وأحمد (4/ 152)، والبيهقي (2/ 454)، والطيالسي (1001). (¬2) عند أحمد (4/ 223)، قال في مجمع الزوائد (2/ 226): وفيه حي بن يعلى ولا يعرف. (¬3) عند أحمد (4/ 99)، والبيهقي (2/ 452، 453)، وابن أبي شيبة (2/ 349). (¬4) في الاستذكار (1/ 380)، ولم يذكر سنده ولا متنه ولا من أخرجه. أقول أخرجه: أحمد (1/ 171)، قال في مجمع الزوائد (2/ 225)، أخرجه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وموارد الظمان (1/ 163). (¬5) أحمد (5/ 165)، والبيهقي في السنن (2/ 461)، وفي المعرفة (3/ 433)، والدارقطني (1/ 424)، وذكره في مجمع الزوائد (2/ 228)، وقال: أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط وفي عبد الله بن =

[وأبو] (¬1) الدرداء رواه البيهقي (¬2). خاتمة: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصلوا بعد العصر إلَّا أن تصلوا والشمس مرتفعة" رواه أبو داود (¬3) وصححه ابن حبان (¬4). ¬

_ = المؤمل المخزومي ضعفه أحمد وغيره ووثقه ابن معين في رواية وابن حبان وثقه أيضًا، وقال: يخطئ وبقية رجال أحمد رجال الصحيح للاطلاع. انظر: سنن البيهقي ومجمع الزوائد فإن فيهما أحاديث وآثار لم نذكرها هنا خشية الإِطالة، وبالله التوفيق. (¬1) في الأصل (أبي)، والتصحيح من ن ب. (¬2) في السنن (2/ 463). (¬3) أبو داود عون المعبود (1260)، وأخرجه النسائي والبيهقي والطيالسي وأحمد في المسند (1/ 610) بسند صحيح، وقد قواه ابن حزم وابن حجر، قال في الفتح (2/ 63): رواه أبو داود بإسناد صحيح قوي، وصححه الألباني في الإِرواء (2/ 237). (¬4) ابن حبان (3/ 44) وحكم ابن حجر على إسناده بأنه حسن في الفتح (2/ 60). فائدتان: روى البيهقي بسند صحيح عن سعيد بن المسيب: أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة. اهـ. الدارمي (1/ 116). وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحبون كثيرًا من البدع باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم. ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر =

وفي رواية لأبي داود "نقية" وظاهره يخالف ظاهر الآحاديث الصحيحة في تعميم النهي من حين صلاة العصر إلى الغروب، ويخالف أيضًا ما عليه مذاهب جماهير العلماء. ¬

_ = والصلاة ونحو ذلك. اهـ. من الإِرواء (2/ 36). الثانية: قال: أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي، أخبرني ابن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة فدخل المسجد فجلس ولم يركع، فقال له الرجل: قم فصل تحية المسجد، وكان ابن ست وعشرين سنة، فلعله ابن ست عشرة سنة، فتصحفت العشر إلى عشرين، لأن أول سماعه سنة أربعمائة، قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الجنازة جئت المسجد فبادرت بالتحية، فقال لي: اجلس ليس ذا وقت صلاة، يعني: بعد العصر. فانصرفت حزينًا وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون فقصدته، وأعلمته بما جرى عليّ فدلني على الموطأ، فبدأت عليه قراءة ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره ثلاثة أعوام وبدأت بالمناظرة. اهـ. تذكره الحفاظ (3/ 1150)، ومعجم الأدباء (12/ 240، 242)، وهي أعلام النبلاء (18/ 191)، فانظر إلى علو الهمة وعزة النفس وجودة الفهم -رحمه الله-.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 58/ 12/ 9 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - "أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - والله ما صليتها. قال: فقمنا إلى بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس. ثم صلى المغرب بعدها" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سبق في آخر الجنابة وعمر - رضي الله عنه - تقدم في أول الكتاب. ثانيها: يوم الخندق تقدم بيانه في الحديث الخامس. ثالثها: فيه دليل جواز سبّ المشركين للتقرير عليه، والمراد به: ما ليس بفحش إذ هو اللائق [هنا] (¬2) بمنصب عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (596، 598، 641، 945، 4117)، ومسلم (631)، والنسائي (3/ 84، 85)، والترمذي (180). (¬2) في ن ب ساقطة.

رابعها: مقتضاه أن عمر صلى العصر قبل الغروب [لأن النفي] (¬1) إذا دخل علي "كاد" اقتضى وقوع الفعل في الأكثر كما في قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} (¬2) نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬3). قال القرافي: والمشهور في "كاد" أنها إذا كانت في سياق النفي أوجبت، وإن كانت في سياق الإِيجاب نفت. وقيل: النفي نفي، والإِيجاب إيجاب، انتهى. وكلاهما وقع في كلام عمر - رضي الله عنه -. فالأول: قوله: "ما كدت أصلي العصر". والثاني: "حتى كادت الشمس تغرب". وقال غيرهما: اختلف في "كاد" إذا دخل عليها حرف النفي كما في هذا الحديث هل يكون نفيها نفيًا كسائر الأفعال أو يكون نفيها إيجابًا أو التفرقة بين كون الفعل ماضيًا ويكون للإثبات أو مضارعًا فيكون كسائر الأفعال، وتوجيه ذلك وتحريره في كتب النحو فيخرّج قول عمر "ما كدت أصليها" على هذا الخلاف. فإن قلنا: إن نفيها إيجاب، فيكون صلى العصر قبل المغرب وإلَّا فبعدها. ¬

_ (¬1) في ن ب (لا النفي). (¬2) سورة البقرة: الآية 60. (¬3) إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 96).

خامسها: ورد في رواية أخرى في مسلم "حتى كادت الشمس أن تغرب" بإثبات "أن" فاستدل به على إثبات "أن" في خبر "كاد" والكثير حذفها [كما] (¬1) في رواية الكتاب (¬2). سادسها: فيه جواز الحلف من غير استحلاف إذا ترتب على ذلك مصلحة دينية وهو كثير في القرآن [وقد] (¬3) قيل: إنه- عليه السلام - إنما حلف تطيبًا لقلب - عمر رضي الله عنه - لأنه [لما] (¬4) شق عليه تأخيرها أخبره - عليه الصلاة والسلام - بأنه لم يصلها هو أيضًا، ليتأسى ويتسلى به - عليه الصلاة والسلام -[ثم] (¬5) إنه أكد ذلك [باليمين] (¬6) ليكون أبلغ في هذا المعنى. وقيل: [في] (¬7) قسمه - صلى الله عليه وسلم - إشفاق منه في تركها، وتحقيق هذا أن القسم تأكيد للمقسم عليه، وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع هذا المقسم عليه حتى كأنه لا يعتقد وقوعه، فأقسم على وقوعه، وذلك يقتضي تعظيم هذا الترك وهو مقتضى الإِشفاق منه أو ما يقارب هذا المعنى، ففيه الاعتناء بأمر الصلاة وشدة المحافظة عليها. وقيل: يحتمل أنه تركها نسيانًا لاشتغاله بالقتال، فلما قال له ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) انظر: شرح ابن عقيل، لألفية ابن مالك (1/ 304). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) زيادة من ن ب.

عمر ذلك تذكر فقال: "والله ما صليتها" والنسيان عذر واضح شرعي في تأخير الصلاة، ويكون في هذا النسيان فائدة يقتضي بيان حكم شرعي، كما ورد في ذلك الحديث المنقطع في الموطأ (¬1) "إني لأَنسى أو أُنسَّي لأسُنَّ" كما وقع بنومه - عليه الصلاة والسلام - في حديث الوادي بيان حكم من نام عن الصلاة بالفعل حتى يتظافر [على] (¬2) ذلك بالدليل الفعلي والقولي. سابعها: "بَطحَان" -بضم الباء الموحدة وإسكان الطاء وبالحاء المهملتين-. قال صاحب المطالع: كذا يرويه المحدثون أجمعون. وحكى أهل اللغة: فيه "بطحان" بفتح أوله وكسر الطاء وهو واد بالمدينة. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الموطأ (1/ 100): لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندًا ولا مقطوعًا. من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديت الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسنده ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول. تنبيه: وصل هذه الأحاديث ابن الصلاح رحمه الله. وقد قال ابن حجر -رحمه الله- إنه لا أصل له قال الزرقاني -رحمه الله- بعد هذا الكلام: فمعناه يحتج به، لأن البلاغ من أقام الضعيف، وليس معناه أنه موضوع إذ ليس البلاغ من أقسام الموضوع عند أهل الفن لا سيما مالك ... إلخ، وقد ضبطت: "إني لأَنْسَى أو أُنسَّى لأَسُنَّ، وروى: إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن)، أي: بلا النافية عوض عن لام التأكيد، وروى: لست أنسى ولكن أنسى لأسن. (¬2) في ن ب ساقطة.

قال البكري: هو على وزن فَعِلاَن لا يجوز غيره (¬1). قلت: ويجوز فيه [الصَّرْفُ] (¬2) وعدمه على تأويل المكان أو البقعة. ثامنها: قوله: "فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها" لله المراد: صلاة العصر وفيه إشعار بأنه توضأ لها على التعيين، وقد صحيح أصحابنا أن من توضأ لصلاة دون غيرها صح لكل شيء. وقيل: لا مطلقًا. وقيل: لها فقط. تاسعها: ظاهره أنه صلاهما في جماعة فيكون [فيه] (¬3) دليل للجماعة في الفائتة، وهو إجماع إلَّا ما حكاه القاضي عياض عن الليث بن سعد، فإنه منع ذلك، وهذا إن صح عنه فمردود بهذا الحديث وبحديث [الوادي] (¬4) وقد تقدمت المسألة في آخر الحديث الخامس من هذا الباب (¬5) أيضًا بزيادة فراجعها وما ذكرته من أن الظاهر أنه - عليه السلام - صلاهما في جماعة هو ما ذكره النووي في [شرحه لمسلم] (¬6) أيضًا، ¬

_ (¬1) معجم ما استعجم (1/ 258). (¬2) في ن ب (الظرف). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل (المادي)، والتصويب من ن ب. (¬5) في الوجه التاسع. (¬6) في ن ب (شرح مسلم). وهي مثبتة بكاملها فيه (5/ 132).

وقال الشيخ تقي الدين: إنه قد [يشعر] (¬1) به. وقال بعضهم: الظاهر أنه صلاها وحده لاشتغالهم بالقتال، ولهذا صلى عمر العصر وحده لأنه لو صلاها جماعة لقال فصلينا العصر وإنما قال: فصلى، وفيما ذكره بعد فليتأمل. عاشرها: فيه دليل على أن [من] (¬2) فاتته صلاة وذكرها في وقت آخر ينبغي له أن يبدأ بالفائته ثم بالحاضرة، وهذا إجماع لكنه عند الشافعي وطائفة وابن القاسم وسحنون على سبيل الاستحباب. وعند مالك وأبي حنيفة وآخرين: على الإِيجاب. واتفق مالك وأصحابه على أن حكم الأربع فما دونها حكم صلاة واحدة، يبدأ بهن وإن خرج الوقت. واختلفوا في خمس وعند أبي حنيفة الكثير ستًّا وفي قول محمد خمس. وقال زفر: من ترك صلاة شهر بعد المتروكة لا تجوز الحاضرة. وقال ابن أبي ليلى: من ترك صلاة لا تجوز صلاته سنة بعدها. ¬

_ (¬1) في ن ب (أشعر)، وما أثبت من إحكام الأحكام (2/ 99) مع الحاشية. والمراد: صلاتهم جماعة. (¬2) في الأصل (ما)، والتصويب من ن ب.

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وإذا ضم إلى هذا الحديث الدليل على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق لم يكن فيه دليل على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت، لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب (¬2) على المختار عند الأصوليين، وإن ضم إليه الدليل على تضييق وقت المغرب، كان فيه دليل على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة عند ضيق الوقت، لأنه لو لم يجب لم تخرج الحاضرة عن وقتها لفعل ما ليس بواجب، فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب ينبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر من امتداد وقت المغرب. قلت: وأما حديث: "لا صلاة لمن عليه صلاة" (¬3) فلا يعرف وحديث: "من نسي صلاة فلم يذكرها إلَّا مع الإِمام فليصل مع الإِمام فإذا فرغ من صلاته فليصل التي نسي، ثم ليعيد صلاته التي صلى مع ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 100)، وقد ساقه بمعناه من شرح مسلم (5/ 132). (¬2) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (2/ 72) بعد ما ذكر هذا: اللَّهم إلَّا أن يستدل له بعموم قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فيقوى، وقد اعتبر ذلك الشافعي في أشياء غير هذه. اهـ. (¬3) قال ابن الجوزي -رحمنا الله وإياه- في العلل المتناهية (1/ 443): هذا حديث نسمعه على ألسنة الناس وما عرفنا له أصلًا، ثم ساق بإسناده إلى الإِمام أحمد -رحمه الله-، قال: قيل لأحمد: ما معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن عليه صلاة"؟ فقال: لا أعرف هذا البتة قال إبراهيم: ولا سمعت أنا بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الإمام"، الصحيح وقفه على ابن عمر (¬1). قال القاضي عياض: واتفق العلماء على الاستدلال بهذا الحديث فيمن فاتته صلاة وأيقن أنه يصليها، ويدرك وقت الحاضرة أنه يبدأ بالمنسية، قال: واختلفوا [فيها] (¬2) إذا خشي فوات وقت الحاضرة بتقديم المنسيات عليها. فقال مالك: يبدأ بالمنسية. وقال الشافعي: يبدأ بالحاضرة وما ذكره القاضي من الاستدلال بهذا الحديث على ما ذكره إنما يأتي إذا قلنا: إن وقت المغرب إلى غروب الشفق فتأمله. الحادي عشر: قد يحتج به من يقول: إن وقت المغرب يتسع إلى غروب الشفق، لأنه قدم العصر عليها، ولو كان ضيقًا لبدأ بالمغرب لئلا يفوت وقتها أيضًا، كما قدمته في الحديث الخامس أيضًا. ¬

_ (¬1) ذكره ابن الجوزي -رحمنا الله وإياه- في العلل (1/ 443)، قال الدارقطني: وهم في رفعه، والصحيح أنه موقوف من قول ابن عمر، كذلك رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر قوله. انظر: الموطأ (1/ 168)، كذا قال في العلل لابن أبي حاتم (1/ 108)، وساق إسناده. ثم ذكر بعده وأخبرت أن يحيى بن معين انتخب على إسماعيل بن إبراهيم الترجماني، فلما بلغ هذا الحديث جاوزه، فقيل له: كيف لا تكتب هذا الحديث، فقال يحيى: فعل الله بي إن كتبت هذا الحديث. (¬2) في ن ب ساقطة.

لكن قال النووي في شرحه لمسلم (¬1): لا دلالة فيه لهذا القائل، لأن هذا كان بعد غروب الشمس بزمن بحيث خرج وقت المغرب عند من يقول إنه ضيق ... الثاني عشر: فيه دليل على عدم كراهة قول القائل [ما صليت] (¬2) خلاف ما يتوهمه بعضهم. وفي البخاري أن ابن سيرين كره أن يقول فاتتنا وليقل لم ندرك، قال البخاري (¬3): وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -[أصح] (¬4). الثالث عشر: هذا الحديث قبل نزول صلاة الخوف كما قدمته في الحديث السادس فلا يحسن تمسك بعض المتقدمين به في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن ولا تمسك الفقهاء على إقامة الصلاة في حالة الخوف (¬5). قال الشيخ تقي الدين (¬6): ومن الناس من سلك طريقًا أخر، وهو أن الشغل عنها بالقتال إن أوجب النسيان فالترك للنسيان وربما ادُعِي الظهور في الدلالة على النسيان، وليس كذلك، بل الظاهر تعليق الحكم بالمذكور لفظًا وهو الشغل. ¬

_ (¬1) (5/ 132). (¬2) في ن ب (صليت). قال البخاري -رحمنا الله وإياه- (باب: قول الرجل ما صلينا) رقم الحديث (641). (¬3) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- (باب: قول الرجل فاتتنا الصلاة)، تابع الحديث رقم (635). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) ساقه بمعناه من شرح مسلم (5/ 130). (¬6) إحكام الأحكام (2/ 99).

الرابع عشر: جاء في هذا الحديث أنه أخر صلاة العصر فقط، وكذا في حديث علي وابن مسعود السالفين في الباب، وجاء في الموطأ (¬1) وصحيح ابن حبان (¬2) أنها الظهر والعصر، وفي الترمذي (¬3) بإسناد منقطع أنه فاته أكثر من ذلك، والجمع ممكن، فإن الخندق كان أيامًا، فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 185). (¬2) ابن حبان (4/ 241)، قال الألباني في الإِرواء: "إسناده صحيح"، وأخرجه ابن خزيمة، والنسائي، والبيهقي (1/ 402)، والطيالسي (2231)، وأحمد (3/ 25، 49، 67). انظر: تلخيص الحبير (1/ 182)، وإرواء الغليل (1/ 257). (¬3) الترمذي (179)، قال أبو عيسى: حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلَّا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله. قال الألباني: فهو منقطع أفيصح نفي الباس عنه؟ وقد ضعفه في الإِرواء (1/ 256).

10 - باب فضل [الصلاة في] الجماعة ووجوبها

10 - باب فضل [الصلاة في] (¬1) الجماعة ووجوبها حديث ابن عمر وأبي هريرة دالٌ على فضلها، وحديث أبي هريرة الذي أوله: "أثقل الصلاة على المنافقين" كأنه ساقه لوجوبها وهو ماضٍ على ما ذكره القاضي عياض إن الحديث في المؤمنين دون المنافقين، لأنه كان يعلم طويتهم، ولم يتعرض لهم، لكن فيه نظر كما أبداه الشيخ تقي الدين لتصريح الحديث في أوله بالمنافقين، فالظاهر أنه في المنافقين كما قيل، وإذا كان كذلك فالتحريق إنما هو لمن ترك الصلاة في جماعة نفاقًا لا غيره، وترك تعرضه لهم للتأليف. نعم رواية أبي داود الآتية في الوجه الرابع عشر من الكلام على الحديث الثالث يؤيد ما قاله القاضي [عياض] (¬2) ولفظ الجماعة يحتمل أن يراد به [لعموم المجتمعون في الصلاة ويحتمل أن يراد ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة.

به] (¬1) الاجتماع نفسه، ويكون المعنى صلاة الاجتماع فعلى الأول تكون الجماعة صفة موصوف محذوف أي القوم ونحو ذلك وعلى الثاني لا حذف لوقوعه على المعنى الذي هو الاجتماع والحكمة في مشروعية الجماعة، وجوه ذكرها ابن القسطلاني في مقاصد الصلاة. أحدها: قيام نظام الألفة بين المصلين، ولهذه العلة شرعت المساجد في المحال [ليحصل التعاهد] (¬2) باللقاء في أوقات الصلوات [بين] (¬3) الجيران. ثانيها: حصر النفس أن تستقل بهذه العبادة وحدها فإنها ربما لم تف بالقيام بها وحدها، فإذا علمت انتظار جماعة بوقعها فيها [نشطها] (¬4) ذلك على المبادرة إلى فعلها، فإن النفوس تحب البطالة، وتركن إليها، فإذا وجدت محركًا من خارج أذعنت وأجابت. ثالثها: أن الناس بين عالم بأفعال الصلاة وأحكامها وجاهل بها، فإذا حصل إقامتها في الجماعة تعلم الجاهل من العالم فزال جهله. رابعها: أن الدرجات والمثوبات متقاربة في العمال لأجل قبول الأعمال، فإذا كانت الجماعة حصل فيها الكامل والناقص بحسب الحضور والغفلة، فيعود من بركة الكامل على الناقص فتكمل صلاته وذكر المصنف رحمه الله في الباب سبعة أحاديث: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (من). (¬4) في الأصل (بشرطها)، وما أثبت من ن ب.

الحديث الأول

الحديث الأول 59/ 1/ 10 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة. [الثاني] (¬2): في ألفاظه: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (645، 649)، ومسلم (650)، والموطأ (1/ 129)، والنسائي (2/ 103)، والشافعي في مسنده (1/ 121، 122)، والأم (1/ 154)، أبو عوانة (2/ 3)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 92)، والبيهقي (3/ 59)، وأحمد في المسند (2/ 65، 112)، والدارمي (1/ 292، 293)، وابن خزيمة (1471)، والترمذي (215)، (789). تنبيه: قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (2/ 103). وأما حديث ابن عمر فلم نره إلَّا بلفظ: "تفضل"، ولم نجده في الصحيحين بلفظ: "أفضل" ولا نبه عليه الزركشي. اهـ. (¬2) في ن ب (ثانيها).

"الفذ": هو المنفرد، ومعناه: المصلي وحده. قال صاحب المطالع: ولغة عبد القيس: الفند بالنون، وهي غنة لا نون حقيقية. قال: [وكذلك] (¬1) يقوله أهل الشام. الثاني: [إن] (¬2) قوله: "أفضل" إعلم أن صيغة أفضل للتفضيل بصفتي الاشتراك غالبًا حيث لا مانع [منه] (¬3)، وقد [لا] (¬4) يقتضيه لمانع [لقولهِ] (¬5) -[تبارك] (¬6) وتعالى-: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} (¬7) فإنه لا يجوز حمله هنا على الاشتراك إجماعًا. [الوجه] (¬8) الثالث: في فوائده؛ الأولى: فيه دلالة على سنية الجماعة. ونقله الشيخ تقي الدين (¬9) عن الأكثرين، ووجهه أن تفضيل فعل [على] (¬10) آخر يشعر بتفضيلهما كما قررناه، وهي هنا مقتضية لذلك، وزيادة فضل الجماعة. ¬

_ (¬1) في ن ب (ولذلك). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب (كقوله). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) سورة المؤمنون: آية 14. (¬8) في ن ب ساقطة. (¬9) إحكام الأحكام (2/ 102، 103) مع الحاشية. (¬10) زيادة من ن ب.

وفيه رد على داود حيث قال: إنها شرط للصحة، وعلى أحمد حيث قال: إنها فرض على الأعيان. وكذا على من قال بقوله، ولا يقال: إن هذه الصيغة قد ترد مع عدم الاشتراك في الأصل: كقولهم: العسل أحلى من الخل، لأن ذلك خلاف الأصل لغة، وأيضًا فإن ذلك إنما يقع عند الإِطلاق، وأما التفاضل بزيادة عدد فيقتضي قطعًا أن ثم جزاء معدودًا يزيد أجزاء أُخر، كما إذا قلنا: هذا العدد يزيد على ذلك بكذا وكذا من الآحاد؛ فلا بد من وجود أصل العدد، (¬1) [ويزيد هذا بيانًا رواية [التضعيف] (¬2) الآتية]، فإن ذلك يقتضي وجود شيء يزاد عليه وعدد يضاعف (¬3)، والمسألة مبسوطة في الخلافيات. الثاني: في حديث أبي هريرة الآتى بعد "تضعف خمسًا وعشرين ضعفًا" [وفي رواية للبخاري ومسلم "جزاء بدل ضعفًا"] (¬4) وفي رواية لمسلم "درجة" وفي الجمع [بينهما] (¬5) ثلاثة عشر وجهًا: إحداهما: أنه لا منافاة بينهما، فذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جمهور الأصوليين، كذا حكاه عنهم النووي ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (2/ 103)، زيادة: وجزء معلوم في الآخر، ومثل هذا -ولعله أظهر منه- ما جاء في الرواية الأخرى: "تزيد على صلاته وحده، أو تضاعف". وما بعده بين القوسين ساقه بالمعنى. (¬2) في الأصل (الضعيف)، وفي ن ب (الضعف). (¬3) انظر: بقية الكلام في إحكام الأحكام (2/ 103). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب (بينها).

في شرحه لمسلم (¬1) وتبعه تلميذه ابن العطار في شرحه، لكن نقله الغزالي في المنخول (¬2) عن الشافعي. وقال ابن برهان (¬3): إن الشافعي والجمهور يقولون به. ثانيهما: أن يكون أخبر أولًا بالقليل، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل، فأخبر بها. ولا بد من معرفة التاريخ على هذا، وقد يقال: إن الفضائل لا تنسخ فيتعين التأخير. ثالثهما: أنه يختلف باختلاف المصلين والصلاة؛ فيكون لبعضهم خمسًا وعشرين، ولبعضهم سبعًا وعشرين بحسب كمال الصلاة [و] (¬4) من المحافظة على هيأتها وخشوعها وكثرة جماعاتها وفضلهم وشرف البقعة ونحو ذلك. رابعها: أن الدرجة غير الجزء، وهو غلط؛ لأن لفظ الدرجة [ورد في الصحيح فيها، كما تقدم، فاختلف القدر مع اتحاد لفظ الدرجة] (¬5) وحذف التاء مع الجزء وإثباتها مع الدرجة [يدل] (¬6) على ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووي (5/ 151). (¬2) المنخول (209). (¬3) هو أحمد بن علي بن محمد أبو الفتح ولد ببغداد في شوال سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ومات سنة ثمان عشرة مثل: في ربيع الأول. وقيل: في جماد الأولى ترجمة البداية والنهاية (12/ 194)، ومرآة الجنان (3/ 235). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن ب ساقطة.

تأويل أحدهما بالآخر أيضًا، وقد سمع من العرب: جاءته كتابي فاحتقرها، على تأويل الكتاب بالصحيفة. خامسها: أن الجزء في الدنيا والدرجة في [الجنة] (¬1) ذكره العلامة أبو بكر [محمد] (¬2) بن أحمد بن القسطلاني (¬3) في الكتاب السالف ذكره احتمالًا. سادسها: أن الاختلاف بحسب قرب المسجد وبعده. سابعها: أن السبع والعشرين للصلاة الجهرية والخمس والعشرين للسرية، لأنها تنقص عن الجهرية بسماع قراءة الإِمام والتأمين لتأمينه، قاله بعض المتأخرين (¬4). ثامنها: أن الأول إذا كان فيها خُطَا إلى المسجد وانتظار الصلاة والثاني إذا انتفيا. ¬

_ (¬1) في ن ب (الآخرة). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) هو محمد بن أحمد بن علي القيسي الشاطبي أبو بكر، قطب الدين التوزري القسطلاني عالم بالحديث ورجاله، أصله من تورز (بإفريقية) مولده بمصر سنة (614)، ومنشأه بمكة وتوفي سنة (686)، واسم كتابه هذا: "مراصد الصلات في مقاصد الصلاة" مخطوط. ترجمته: طبقات الشافعية (5/ 18)، وفوات الوفيات (3/ 310). (¬4) رد ابن باز -رحمنا الله وإياه- هذا في تعليقه على الفتح (2/ 134)، قائلًا: في هذا الترجيح نظر، والأظهر عموم الحديث لجميع الصلوات الخمس، وذلك من زيادة فضل الله -سبحانه- لمن يحضر الصلاة في الجماعة، والله أعلم.

تاسعها: أن الأول: لصلاتي العشاء والصبح لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، والثاني: لغيرهما يؤيده حديث أبي هريرة (¬1): "تفضل صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزاء، ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"، فذكر اجتماع الملائكة بواوٍ فاصلة، واستأنف الكلام وقطعه من الجملة المتقدمة. عاشرها: أن الأول للصبح والعصر، حكاه القاضي عياض للحديث المذكور، وصح اجتماعهما أيضًا في صلاة العصر، فيكون التفضيل بالدرجتين لبركة اجتماع [الملائكة] (¬2) في الصلاتين، ونبه بصلاة الفجر على صلاة [العصر] (¬3) في الحديث السالف لثبوت اجتماعهما فيهما في [الصبح] (¬4). الحادي عشر: أن الأول لمن صلى في جماعة في المسجد، والثاني لمن صلى جماعة في غيره. الثاني عشر: [أن الأول لمن أدرك الصلاة كلها مع الإِمام والثاني لمن أدرك بعضها. الثالث عشر] (¬5): أن الأول لمن صلى في جماعة كثيرة، والثاني لمن صلى في جماعة قليلة، على من يقول: إن ما كثر جمعه ¬

_ (¬1) البخاري (648). (¬2) في الأصل (الليل)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في الأصل (الفجر)، والتصحيح من ن ب. (¬4) في ن ب (الصحيح). (¬5) في ن ب ساقطة.

أفضل، وسيأتي الكلام في ذلك، وهذه [كلها] (¬1) احتمالات. [والله أعلم] (¬2). الثالث (¬3): قال ابن الجوزي: تكلف جماعة تعليل هذه الدرجات وما جاؤوا بطائل. وذكر ابن التين، وابن بطال أيضًا مناسبات، ولابن حبان صاحب الصحيح في ذلك مصنف مفرد كما نبه عليه في أثناء صحيحه. الرابع: اختار القاضي عياض أن كل درجة هي بمقدار صلاة الفذ، كما يقتضيه [ظاهر] (¬4) [كثير من الروايات] (¬5) ورجحه الشيخ تقي الدين (¬6) أيضًا، فإنه قال: وقع البحث في أن هذه "الدرجات" هل هي بمعنى الصلوات؟ فتكون صلاة الجماعة بمثابة خمس وعشرين صلاة أو بسبع وعشرين، أو يقال: إن لفظ "الدرجة" و "الجزء" لا يلزم منهما أن يكونا بمقدار الصلاة؟ قال: والأول أظهر لأنه قد ورد مبينًا في بعض الروايات، وكذلك لفظة "تضاعف" مشعرة بذلك. لأن التضعيف إنما يكون بمثل الشيء المضاعف. قلت: وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود (¬7): "صلاة ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في الأصل (ساقطة)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في ن ب زيادة (عشر). (¬4) في الأصل (الظاهر)، والتصحيح من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) إحكام الأحكام (2/ 107). (¬7) مسند أحمد تحقيق أحمد شاكر رقم (3567)، قال: إسناده صحيح، =

الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده خمسة وعشرين ضعفًا كلها مثل صلاته". الخامس: استدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن صلاة الجماعة لا تفضل بعضها على بعض بكثرة الجماعة، وهو أشهر القولين عندهم، لأنه لم يذكر جماعة كثيرة دون قليلة، وهو مردود بحديث أبي بن كعب: "وما كثر فهو أحب إلى الله"، صححه ابن حبان (¬1) والعقيلي (¬2) وغيرهما، ووافق الشافعي ابن حبيب من المالكية وفي رد ابن عبد البر (¬3) [بأن] (¬4) حديث أبي بن كعب (¬5) غير قوي، وكذا قول القرطبي في تفسيره: في إسناده ¬

_ = وقال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 134): وأحمد من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات. (¬1) ابن حبان (3/ 250)، وأخرجه أبو داود مختصر المنذري طبعة فقي (1/ 292)، قال المنذري: وأخرجه النسائي مطولًا، وابن ماجه بنحوه مختصرًا. قال البيهقي: أقام إسناده شعبة والثوري وإسرائيل في آخرين. عبد الله بن أبي بصير سمعه من أبي مع أبيه، وسمعه أبو إسحاق منه، ومن أبيه، قاله شعبة وعلي بن المديني، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- بعد ذكر الحديث: وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم الفتح (2/ 136). (¬2) قال العقيلي -رحمنا الله وإياه- في الضعفاء الكبير (2/ 116): والحديث من رواية شعبة صحيح. (¬3) انظر: الاستذكار (5/ 317). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب زيادة (بأنه).

لين نظر. السادس: اختلف العلماء هل هذا الفضل لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما تكون الجماعة التي تكون في المسجد [لما يلازم] (¬1) ذلك من أفعال تختص بالمساجد. قال القرطبي في تفسيره (¬2): والأول. أظهر لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم، وما كان من إكثار الخُطا إلى [المسجد] (¬3)، وقصد الإتيان [إليها] (¬4) والمكث فيها، فذاك زيادة فوات خارج عن فضل الجماعة. وكذا قال الشيخ تقي الدين: إنه الظاهر [في] (¬5) إطلاقهم قال: ولست أعني أنه [لا] (¬6) تتفاضل صلاة الجماعة في البيت على الانفراد فيهِ، فإن ذلك لا شك فيه، إنما المنظر هل يتفاضل هذا القدر المخصوص أم لا؟ ولا يلزم من [عدم] (¬7) حصول هذا [القدر المخصوص من الفضيلة عدم حصول] (¬8) مطلق الفضيلة، قال: وإنما تردد أصحاب الشافعي في أن إقامة الجماعة في غير المسجد ¬

_ (¬1) في الأصل (لا يلزم)، وما أثبت من ن ب. (¬2) (1/ 348، 351). (¬3) في ن ب (المساجد). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب في. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) زيادة من ن ب، ومن إحكام الأحكام.

كالبيوت هل يتأدى بها المطلوب؟ [والأصح عندي] (¬1) أنه لا يكفي، لأن [في] (¬2) أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهذا وصف معتبر لا يتأتى إلغاؤه (¬3). السابع: قال ابن عبد البر في تمهيده (¬4): اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان. ¬

_ (¬1) نص العبارة في إحكام الأحكام (1/ 161)، والأول عندي أصح -وما بينهما تعرف فيه المؤلف-. (¬2) زيادة من ن ب. وغير موجردة في إحكام الأحكام. (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح بعد كلام سبق، فيختص به المسجد ويلحق به ما في معناه مما يحصل به إظهار الشعار (2/ 136). وقال البخاري-رحمنا الله وإياه-: باب فضل صلاة الجماعة، ثم قال: وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر، وجاه أنس إلى مسجد قد صُلي فيه، فأذن وأقام وصلى جماعة. قال ابن حجر: ومناسبة أثر الأسود للترجمة، أنه لولا ثبوت فضيلة الجماعة عنده لما ترك فضيلة أول الوقت والمبادرة إلى خلاص الذمة وتوجه إلى مسجد آخر، كذا أشار إليه ابن المنير، والذي يظهر في: أن البخاري قصد الإِشارة بأثر الأسود وأنس إلى أن الفضل الوارد في أحاديث الباب: مقصور على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلًا كما سيأتي، ثم قال: لأن التجميع لو لم يكن مختصًّا بالمسجد لجمع الأسود في مكانه، ولم ينتقل إلى مسجد آخر لطلب الجماعة، ولما جاء أنس إلى مسجد بني رفاعة ... إلخ (2/ 131). (¬4) انظر: التمهيد (8/ 116)، والاستذكار (5/ 158)، والمعرفة للبيهقي (4/ 5395).

فقال مالك والشافعي: [في] (¬1) صلاة المنفرد في بيته [برمضان] (¬2) أفضل. قال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. قال مالك: وأنا أفعل ذلك وما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا في بيته. واحتج الشافعي: بحديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قيام رمضان: "أيها الناس! صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلَّا المكتوبة" (¬3)، قال الشافعي: ولا سيما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده على ما كان في ذلك من الفضل. وروينا عن ابن عمر، وسالم، والقاسم، وإبراهيم، ونافع: أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. وقال قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة [وأصحاب] (¬4) الشافعي منهم المزني وابن عبد الحكم: الجماعة في المسجد في قيام رمضان أحب إلينا، وأفضل من صلاة المرء في بيته. وإليه ذهب أحمد وكان يفعله وابن جبير. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (في رمضان). (¬3) متفق عليه. البخاري أطرافه (731)، ومسلم (1794)، وأبو داود (1397) في الصلاة، باب: فضل التطوع في البيت، والترمذي (450)، والنسائي (3/ 198)، والسنن الكبرى له () التمهيد (8/ 116)، والاستذكار (5/ 158). (¬4) زيادة من ن ب.

وقال الطحاوي: قيام رمضان واجب على الكفاية، لأنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان، فمن فعل كان [أفضل] (¬1) ممن انفرد كسائر الفروض التي هي على الكفاية، قال: وكل من اختار التفرد فينبغي [أن يكون ذلك] (¬2) على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، وأما المنفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا. الثامن: تحصل الجماعة باثنين فصاعدًا. وقال مالك: لا تكون جماعة إلَّا أن يكون إمامًا راتبًا. وحكى الروياني من أصحابنا في "تلخيصه": إن أقل الجماعة ثلاثة. قال: وهو غلط (¬3). فرع: من صلى في جماعة استحب إعادتها في أخرى على ¬

_ (¬1) في الأصل جملة زائدة (على أن يكون ذلك). (¬2) في الأصل مكررة. (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 142) على قول البخاري، باب: اثنان فما فوقهما جماعة: هذه الترجمة لفظ حديث ورد من طرق ضعيفة، منها في ابن ماجه من حديث أبي موسى الأشعري، وفي معجم البغوي من حديث الحكم بن عمير، وفي أفراد الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو، وفي البيهقي من حديث أنس، وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي أمامة، وعند أحمد من حديث أبي أمامة أيضًا: "أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي وحده، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا يصل معه؟ فقام رجل فصلى معه، فقال: هذان جماعة" والقمة المذكورة دون قوله "هذان جماعة". أخرجها أبو داود والترمذي من وجه آخر صحيح.

الصحيح عندنا، ومشهور مذهب مالك أن من صلى في جماعة وإن قلّت لايعيد في أكثر منها. قال ابن العطار في شرحه: وهو قول عامة العلماء. وحُكي عن مالك إعادتها في المساجد الثلاثة جماعة (¬1). التاسع: المراد بالفذ إذا لم يكن معذورًا بترك الجماعة لمرض أو سفر أو نحوهما، أما إذا كان معذورًا بذلك فهل يقع التفاضل بينه وبين الصلاة في جماعة؟ الظاهر: نعم، والألف واللام في الفذ وإن كانت للعموم فالمعذور خرج بدليل، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" رواه البخاري من حديث أبي موسى الأشعري، وقد شرح بما ذكرته غير واحد. قال الروياني في "تلخيصه": تحصل له الفضيلة إذا كان قصده جماعة لولا العذر للأخبار الواردة فيه، ونقله في "البحر" عن القفال. وقال الماوردي (¬2): صلاة المريض منفردًا: كصلاة الصحيح جماعة في الفضل. وأما النووي في "شرح المهذب" (¬3) فخالف وقال: هذه الأعذار مسقطة للإِثم والكراهة، ولا تكون محصلة للفضيلة بلا شك. ويرده المنقول كما ذكرته. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (5/ 360). (¬2) الحاوي الكبير (2/ 380). (¬3) المجموع شرح المهذب (4/ 203).

العاشر: يؤخذ من الحديث إطلاق الفضيلة في الجماعة سواء تبدد قلب المصلي فيها أو لم يتبدد لطلب الشرع لها والحث عليها. خاتمة: صرح الروياني من المالكية في "شرح رسالة ابن أبي زيد" عند [ذكر] (¬1) تضعيف الحسنات بعشر: أن العشر زائدة على الأصل المضاعف، وأن العشر غير ملفقة من الأصل والتضعيف. ويلزمه مثل ذلك هنا، فيكون الأجر المرتب على صلاته وحده غير السبع والعشرين. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 60/ 2/ 10 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك: أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلَّا الصلاة لم يخطُ خطوة إلَّا رفعت له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة. وإذا صلّى لم تزل الملائكة تصلي عليه، ما دام في مصلاه: اللهم صلى عليه اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: قوله - عليه السلام -: "صلاة الرجل" هو في المرأة كذلك حيث يشرع لها الخروج [إلى] (¬2) المسجد، لأن وصف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649)، والترمذي (603)، وأبو داود (559)، وابن ماجه (786)، وأحمد (4862)، والنسائي (2/ 103)، وأبو عوانة (2/ 2)، والبيهقي (3/ 60)، وابن خزيمة (1472)، والشافعي في مسنده (1/ 122)، والأم (1/ 154)، ومالك (1/ 129). (¬2) في الأصل (في)، والتصحيح من ن ب.

الرجولية بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبر شرعًا، وهو مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من أعتق شركًا له في عبد" (¬1) من صلى كذا، من فعل كذا فله كذا، كله يتساوى فيه الرجال والنساء من غير نزاع، نبه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬2)، فتكون "الألف واللام" في "الرجل" ليست لتعريف ماهية الرجولية، بل للعموم من حيث المعنى، كما عم قول الرجال والنساء في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} (¬3) وإن كان لفظ "قوم" خاصًا بالرجال دون النساء، كما قاله الماوردي: نعم قال الروياني من أصحابنا: هل تكون جماعة النساء في الفضل و [إلا] (¬4) ستجاب كجماعة الرجال، فيه وجهان: أحدهما: نعم فتفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. وأظهرهما: أن جماعة الرجال أفضل من جماعتهن، لقوله تعالي: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (¬5). ثانيها: قوله - عليه السلام -: "تضعف على صلاته في بيته ¬

_ (¬1) البخاري رقم (2523) وفي مواضع أخرى، ومسلم (1501)، وأبو داود (3940) في العتق، باب: فيمن روى أنه لا يستسعي، وفي مواضع أخرى، وابن ماجه (2528)، والترمذي (1346)، والنسائي (7/ 319)، وأحمد (2/ 112، 156، 53، 142). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 119). (¬3) سورة الشعراء: آية 105. (¬4) في ن ب (للا). (¬5) سورة البقرة: آية 228.

وفي سوقه" المراد: في بيته وفي سوقه منفردًا، هذا هو الصواب، كما قاله النووي (¬1)، قال: وما عداه مما قيل فيه باطل. قلت: و [من] (¬2) ذلك [قول] (¬3) ابن التين في "شرح البخاري": لو صلى في سوقه جماعة كان كالفذ أخذًا بظاهر الحديث، أو لأن السوق مأوى الشياطين، وهذا واه جدًا [نعم] (¬4) رفع الدرجات وحط الخطيئات مشروطٌ بالمشي إلى المسجد، فمن فعل ذلك حصلا له، وإلاَّ فلا. ثالثها: إحسان الوضوء هو الإِتيان [بفرضه] (¬5) وسننه وآدابه، ويبعد تنزيله على الفرض فقط. وقوله: "توضأ" شمل الوضوء المجدد وغيره، وقد يقال: إن قوله: "توضأ" ليس للتقييد بالفعل، وإنما خرج مخرج الغالب أو ضرب المثال. رابعها: لفظ: "ثم خرج" لا يستلزم الفورية، نعم البدار أولى فيما يظهر لعموم قوله -تعالى-: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} (¬6). ¬

_ (¬1) في شرح مسلم (5/ 165). (¬2) في ن ب (بين). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب (به). (¬6) سورة المؤمنون: آية 61.

خامسها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا يخرجه إلَّا الصلاة" ظاهره ترتب المذكور من رفع الدرجات وحط الخطيئات على اشتراط الخروج لها فقط لا لأمر آخر من غير العبادات، ونظيره حَجُّ من خلط به التجارة أو غيرها من الأسباب [الدنيوية] (¬1)، فإنه ليس كمن محض الخروج للحج وكذا سائر العبادات من الجهاد وغيره، وأسند الفعل للصلاة، وجعلها هي المخرجة له: كأنه لفرط محافظته عيلها ورجاء ثوابها مجبر على خروجه إليها: وكأن الصلاة هي الفاعلة للخروج لا هو. سادسها: الخطوة هنا بالفتح لأن المراد فعل الماشي وهو بالضم ما بين قدميّ الماشي. قاله كله الشيخ تقي الدين (¬2)، وكذا قال ابن التين "شارح البخاري" رويناه بفتح الخاء وهي المرة الواحدة. وأما القرطبي (¬3) فقال: الرواية بضم الخاء وهي واحدة الخطأ، وهي ما بين القدمين، والتي بالفتح مصدر. وقال غيرهما من المتأخرين: كأن القياس أن يجيء في خَطوة ثلاثة أوجه -الضم، والكسر، والفتح- كما هو في [جذوة] (¬4) ¬

_ (¬1) في ن ب (الدينية). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (2/ 121)، ومختار الصحاح (82). (¬3) المفهم (2/ 1142). (¬4) في الأصل (حدوده)، والكلمة الثانية في ن ب (جذوة). قال في المنتخب لكراع (2/ 534): "ومما جاء على وزن. فَعْلَةٍ. وفُعْلَةٍ. وفِعْلَةٍ".ثم قال: جَذْوَةٌ. وجُذْوَةٌ. وجِذْوَةٌ.

وأشباهها، وقد قُرِىءَ بالأوجه الثلاثة في [جذوة] (¬1) في السبع على ما أصله أهل اللغة من أن كل ما كان على فعله لامه واو بعدها تاء التأنيث جاء فيه ثلاثة أوجه. سابعها: "الدرجة". واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب. والدرجة: -بضم الدال- مثال الهمزة لغة في الدرجة، وهي المرقاة، قاله الجوهري (¬2). وهل هذه الدرجة محسوسة أو معنوية بمعنى: ارتفعت رتبته، الله أعلم بذلك. وأما حط الخطيئة: فالظاهر أنه محوها من صحيفة السيئات حقيقة. تنبيه: [قوله] (¬3): "وحط عنه بها خطيئة"، قال الداودي: أي [إن] (¬4) كان له خطيئة وإلَّا رفع له درجات، قال: وهذا يقتضي أن الحاصل بالخطوة درجة واحدة، إما الحط، وإما الرفع، أي وتكون الواو بمعنى أو، لا بمعنى العطف، وخالفه غيره. فقال: الحاصل بالخطوة ثلاثة أشياء. لقوله في الحديث الآخر: " [كتب] (¬5) الله له ¬

_ (¬1) نفس المرجع السابق. (¬2) انظر: مختار الصحاح (91). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في الأصل (يكتب)، والتصحيح من صحيح مسلم ون ب.

بكل خطوة حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة" (¬1). فائدة: في فضل الانتظار، روى [البيهقي] (¬2) والحاكم (¬3) وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث عقبة بن عامر "إذا تطهير الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة، كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يمشيها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع". وفي مسند أحمد (¬4) من حديث عبد الله بن عمرو قال: "صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فعقب من عقب، ورجع من رجع، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كاد يحسر ثيابه عن ركبتيه، قال: أبشروا معشر المسلمين! هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى" [] (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم رقم (654). (¬2) البيهقي (3/ 63). وساقطة من ن ب. (¬3) الحاكم (1/ 211) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (3/ 246)، وابن خزيمة (2/ 372)، قال المعلق: وإسناده صحيح. وأحمد في المسند (1/ 157)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 177). (¬4) مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر (6750، 6751، 6752، 6860، 6946)، وقال: إسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه برقم (801). قال البوصيري في زوائده: "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات". (¬5) في ن ب زيادة بعد هذا الموضع ستأتي في الوجه الثالث عشر.

ثامنها: الملائكة: جمع ملك اسم لخلق من صفوة الله -تعالى- قال ابن كيسان وغيره: فعل من الملك. وقال أبو عبيدة: هو مفعل من لاك. إذا أرسل والألوكة، [والمألكة] (¬1) الرسالة [فأصله] (¬2) على هذا أليك الهمزة فاء الفعل، لكنهم قلبوها إلى عينه، فقالوا: مليك، [ثم سهلوه فقالوا: ملك] (¬3). وقيل: أصله مليك من ملك يملك [نحو سمير من سمره] (¬4) فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضًا. تاسعها: "ما" من قوله عليه السلام: "ما دام في مصلاه" مصدرية ظرفية، أي مدة دوام كونه في مصلاه، وكذلك "ما" في قوله:" ما انتظر الصلاة". عاشرها: قوله: "اللهم صلي عليه، اللهم ارحمه"، أي: تقول: اللهم. والقول يحذف كثيرًا في كلام العرب، قال تعالى: ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة من الملك والمألكة. قال العبكري -رحمنا الله وإياه- في المشوف المعلم ص 736 والملكوت، من المُلْكِ، والمَلَكُ، من الملائكة، وأصله مَلأَكِ، فخفف همزه، وهو من الأَلُوكِ والمأْلُكَةِ، والمَأْلَكَةِ، وهي الرسالة. اهـ. محل المقصود. انظر: الصحاح (1609، 1610). (¬2) في ن ب (فأصلها). (¬3) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة.

{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬1)، أي يقولون: سلام عليكم. وفي رواية لمسلم (¬2): "اللهم تب عليه" وقد تقدم الكلام على: "اللهم" في باب الاستطابة، فأغنى عن الإِعادة. وقوله: "اللهم" إلى آخره هو بيان لصلاتهم. الحادى عشر: هؤلاء الملائكة الذين يصلون يجوز أن [يكونوا] (¬3) الحفظة ويجوز أن [يكونوا] (¬4) سواهم، فالله أعلم. الثاني عشر: "في" [من] (¬5) قوله - عليه السلام -: "ولا يزال في صلاة" [من] (¬6) مجاز لظرف إذ الصلاة لا تكون ظرفًا للمصلي حقيقة، فما ظنك بمن هو في [حكم] (¬7) المصلي. الثالث عشر: ظاهر قوله: "ما دام في مصلاه" إن صلاة الملائكة مشروطة بدوامه في مصلاه بعد صلاته. وفي مسلم: "ما دام في مجلسه الذي صلى فيه". وفي الموطأ (¬8) ما يصرح بذلك من حديث أبي هريرة: "إذا ¬

_ (¬1) سورة الرعد: آيتا 23، 24. (¬2) مسلم (649). (¬3) في الأصل (يكونون)، وما أثبت من ن ب. (¬4) نفس المرجع السابق. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) نفس المرجع السابق. (¬8) الموطأ (1/ 161).

صلى أحدكم فجلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم يزل في [صلاة] (¬1) حتى يصلي". قال الباجي: المنتظر في غير مصلاه من المسجد يكون في صلاة: كالمنتظر في مصلاه، غير أن المنتظر في مصلاه يحصل له أنه في صلاة، وصلاة الملائكة عليه بخلاف المنتظر في غير مصلاه (¬2) [...] (¬3). [روى الحاكم في مستدركه من حديث داود بن صالح قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "يابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (¬4) قلت: لا، قال: إنه لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة"] (¬5). الرابع عشر: ظاهر هذا الحديث أن انتظار الصلاة مختصة بالمصلي في جماعة في المسجد، فلو صلى وحده وقعد ينتظر الصلاة لم تحصل له هذه الفضيلة. ¬

_ (¬1) في ن ب (مصلاه). (¬2) المنتقى (1/ 283). (¬3) في الأصل بياض بمقدار كلمة. (¬4) سورة آل عمران: آية 200. وما بين القوسين ساقط من ن ب. (¬5) المستدرك (2/ 301) ووافقه الذهبي.

قال الباجى (¬1): سُئل مالك -رحمه الله- عمن صلى في غير جماعة، [ثم] (¬2) قعد في موضعه ينتظر الصلاة، أتراه في صلاة كمن ينتظر الصلاة في المسجد؟ قال: نعم، إن شاء الله تعالى. الخامس عشر: ظاهره أيضًا أن الانتظار يكون في مشترك الوقت على رأي من رواه وهو مالك وفي غيرها. وقال الباجي (¬3): هذا مختص بمشترك الوقت: كانتظار العصر [بعد الظهر] (¬4)، [والعشاء بعد المغرب] (¬5)، [وأما انتظار الظهر بعد الصبح، والمغرب بعد العصر، والصبح بعد العشاء] (¬6) فليس من عمل الناس: قلت: ويرد هذا قول عبد الله ابن سلام في الساعة التي في يوم الجمعة لأبي هريرة: "إنها لآخر ساعة بعد العصر، فقال أبو هريرة: كيف وهي ساعة لا يصلى فيها. وقد قال - عيه السلام -: لا يوافقها عبد مسلم يصلي؟ فقال له عبد الله: أليس قال: من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة؟ " رواه مالك في الموطأ (¬7) ¬

_ (¬1) المنتقي (1/ 284). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) المنتقي (1/ 285). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في الأصل (والصبح بعد العشاء)، والتصحيح من ن ب. (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) الموطأ (1/ 109).

وصححه الترمذي (¬1) وابن حبان (¬2) والحاكم (¬3)، فجعل الانتظار يكون من العصر إلى المغرب، ولم ينكر عليه أبو هريرة. السادس عشر: جاء في رواية لمسلم (¬4) في آخر هذا الحديث بعد قوله: "اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث" قيل لأبي هريرة: ما الحدث؟ قال: يفسو أو يظرط". وفي البخاري (¬5) في "باب: من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين" عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث". فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت "يعني الضرطة". السابع عشر: يؤخذ من الحديث الحث على الصلاة في الجماعة المشروعة لها. الثامن عشر: يؤخذ منه أيضًا [أن] (¬6) فعلها في المسجد أفضل. ¬

_ (¬1) الترمذي رقم (491)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) ابن حبان (4/ 192). (¬3) الحاكم (1/ 278)، ووافقه الذهبي والنسائي (3/ 114)، وأبو داود مختصر المنذري طبعة فقي (2/ 4). قال الزرقاني -رحمنا الله وإياه-: وقد ذهب جمع إلى ترجيح قول ابن سلام، "فحكى الترمذي عن أحمد، أنه قال: أكثر الأحاديث عليه. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب". البيهقي (3/ 251). (¬4) مسلم (649). (¬5) البخاري، باب: رقم (34) حديث (176). (¬6) زيادة من ن ب.

التاسع عشر: يؤخذ منه أيضًا إحسان الوضوء بفعله على الوجه المأمور به من غير مجاوزة فيه ولا تقصير. العشرون: فيه أيضًا أن المسجد الأبعد للجماعة أفضل من القريب، ويستثنى منه ما إذا تعطل القريب لغيبته [أو] (¬1) [إذا] (¬2) كان إمام البعيد مبتدعًا. الحادي والعشرون: فيه أيضًا تكفير الذنوب، ورفع الدرجات، وصلاة الملائكة على من ينتظر الصلاة في المسجد [وهو] (¬3) الدعاء [له] (¬4). الثاني والعشرون: [فيه أيضًا أن من تعاطى أسباب الصلاة يسمى مصليًا] (¬5). الثالث والعشرون: فيه أيضًا أنه ينبغي لمن خرج في طاعة صلاة أو غيرها أن لا يشاركها شيء من أمور الدنيا وغيرها. خاتمة: ينعطف على هذا الحديث والذي قبله: اعلم أن ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب؛ حتى لو تصدق الرجل بعشرة الآف دينار، لكان الدينار الواجب أعظم أجرًا منه. وإن كانت مصلحة العشرة الآف أعظم، إذا تقررت هذه القاعدة، فقد جاء ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (وهذا). (¬4) في ن ب زيادة (له). (¬5) في ن ب ساقطة.

الحديث بالتضعيف على خلافها، فإن الشارع إنما رتب السبع والعشرين درجة على مجرد صلاة في الجماعة [ومجرد صلاة في الجماعة] (¬1) مندوب إليه، ولم يرتب على صلاة واحدة الذي هو الواجب عليه إلَّا درجة واحدة، فكان البخاري على القاعدة: أن يكون السبع والعشرون على صلاته وحده، والدرجة الواحدة على صلاته في الجماعة. نبه على ذلك القرافي -رحمه الله-. فإن قلت: [فإن الثواب] (¬2) المضاعف ليس بين واجب ومندوب، وإنما هو بين مباح ومندوب، فإن صلاة الرجل وحده مباح له، وصلاته مع الجماعة مندوب إليه، والتضعيف إنما هو بين وصف الوحدة المباح ووصف الجماعة المندوب؛ ولا شك أن ثواب المندوب أعظم من ثواب المباح. فالجواب: أنه يلزم على هذا أن يكون المباح [في] (¬3) فعله ثواب، والقاعدة: أنه مستوي الطرفين: لا ثواب في فعله، ولا عقاب في تركه. فثبت أن الدرجة الواحدة إنما هي على الفعل الواجب، لا على صفة الوحدة فيه. فإن قلت: لا نسلم أن السبعة والعشرين مرتبة على صلاة الجماعة فقط، بل على مجموع الفرض وصفته من صلاة الجماعة. فالجواب: أنه تفرض المسألة فيمن صلى وحده ثم أعاد في ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (من)، والتصحيح من ن ب.

[جماعة] (¬1) فإن ثواب الفرض حصل [له] (¬2) بصلاته وحده، وهو أجر صلاة واحدة، ولم يبق إلَّا ترتيب السبع والعشرين على مجرد صلاة الجماعة، فتوجه الإِشكال. ثم [أجاب] (¬3): بأن [من] (¬4) المندوبات ما يكون ثوابه أعظم من ثواب الواجب؛ لكن الشارع لم يوجبه رفقًا بالعباد، كما في السواك، فإنه جاء فيه من الثواب ما بلغ به رتبة الواجب، ولم يوجبه الشرع رفقًا بالعباد، فكذا صلاة الجماعة. تنبيه: حديث: "صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة" (¬5) مقتضاه أن يكون السواك أفضل من صلاة الجماعة، لأن الوارد في صلاة الجماعة دون ذلك كما علمته، والظاهر كما قال القرافي: إن الصلاة في الجماعة أفضل من السواك قال: فيحتاج إلى الجواب، وإلا فهو مشكل. قلت: وحديث السواك لا يقاومه حديث صلاة الجماعة في الصحة، وإن قدمنا في بابه ثبوته من طريقة ذكرناها في التحفة. ¬

_ (¬1) في ن ب (صلاة). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (فالجواب). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) ضعفه ابن حجر -رحمه الله- في تلخيص الحبير (1/ 69)، وضعفه ابن القيم في المنار المنيف (19). للاستزادة راجع تحفة المحتاج للمؤلف (1/ 176). وسبق تخريجه في باب السواك.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 61/ 3/ 10 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أمر رجلًا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: الثِقَّلُ: ضد الخفة، والثِّقَلُ: بالتحريك متاع المسافر وَحَشَمُهُ، ويقال: وجدت ثقلًا في جسدي، أي: فتورًا. حكاه الكسائي وثقلة القوم بكسر القاف أثقالهم، وأَثْقَلَتِ المرأةُ، فهي مُثْقِل، أي: ثقل حملها في بطنها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (657)، ومسلم (651)، والموطأ (1/ 129)، والترمذي (217)، والدارمي (1/ 291)، وابن ماجه (797)، والنسائي (2/ 107)، وأبو داود (548، 549)، وأبو عوانة (2/ 5)، والبيهقي (3/ 55)، وأحمد (2/ 424، 531).

قال الأخفش: صارت ذاتَ ثِقْلٍ (¬1). وألقى عليه مثاقيله، أي: مؤنته. فحصل من هذا أنه يستعمل حقيقة، وذلك في الأجسام، ومجازًا، وذلك في المعاني. ومنه الحديث إذ الصلاة ليست بجسم. ثانيها: يؤخذ من الحديث الصلوات كلها ثقيلة على المنافقين، لما تقرر من مدلول صيغة أفعل، وشاهد ذلك قوله -تعالى-: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} (¬2) وقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} (¬3) وهذا كله في صلاة الجماعة، وإن لم يذكر [لقوة] (¬4) السياق الدال على ذلك [ومنه: "لأتوهما"، و"لا] (¬5) يشهدون الصلاة". ثالثها: إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل عليهما من غيرهما لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما، وقوة الصارف عن الحضور. أما العشاء: فلأنها وقت الإيواء والراحة. وأما الصبح: فلأنها وقت لذة النوم صيفًا وشتاءً، والمؤمن الكامل لا مشقة عليه لابتغاء الأجر، ولهذا قال - عليه السلام -: "ولو يعلمون ما فيهما" أي جماعة في المسجد من الأجر والثواب، ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (43)، والمصباح المنير (83). (¬2) سورة التوبة: آية 54. (¬3) سورة النساء: آية 142. (¬4) في الأصل (لقوله)، وما أثبت من ن ب. (¬5) هكذا العبارة في الأصل، وفي ن ب مع البحث في المصادر.

وفي تركها من العقاب لأتوهما، أي [جاؤا] (¬1) إليها ولو حبوا أي: محتبين، يزحفون على إلياتهم من مرض أو آفة كحبو الصغير على يديه ورجليه. فائدة: قال الحسن البصري: من النفاق: اختلاف اللسان والقلب، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج. وقال الأوزاعي: المؤمن يقول قليلًا ويعمل كثيرًا، والمنافق يقول كثيرًا ويعمل قليلًا. رابعها: المنافق: من أظهر الإِيمان وأخفى الكفر؛ مشتق من النّافِقَاءَ: وهو جحر اليربوع، لأنه يكتم النافقاء، ويظهر القاصعاء، فإذا أُتي من قِبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانفتق أي: خرج. وفي كلام المحب الطبري عن ابن عباس: كان المنافقون ثلاثمائة رجل وسبعين امرأة، وكان ابن أُبي رأس القوم (¬2). خامسها: استدل بهذا الحديث من قال: الجماعة فرض عين في غير الجمعة، وهو مذهب أحمد وابن المنذر وداود وابن خزيمة وجماعة، والأظهر عن أحمد أنها ليست شرطًا للصحة. ¬

_ (¬1) في ن ب (لجاؤا). (¬2) قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة، ومن النساء مائة وسبعين. - والنفاق اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره، ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا. اهـ. من شرح ثلاثيات مسند أحمد للسفاريني -رحمه الله- (2/ 408).

وأجاب الجمهور: بأن هؤلاء المتخلفين كانوا منافقين، وسياق الحديث يقتضيه، فإنه لا يظن بالمؤمنين من الصحابة أنهم يؤثرون ترك الصلاة خلفه وفي مسجده؛ ولأنه لم يحرق، بل همَّ به وتركه، ولو كانت فرض عين لما تركهم، كذا ذكره النووي في "شرح مسلم" (¬1)، ورواية أبي داود الآتية قريبًا تخدشه، فإن ظاهرها أنهم كانوا مؤمنين، نعم رواية مسلم تقويه، فإن فيه بعد قوله: " [فتحرقوا بيوتهم] (¬2) ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها" يعني العشاء، وهذا ليس صفة للمؤمنين. سادسها: قوله: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة" الهمُّ بالشيء غير فعله. واختلف في الألف والسلام في الصلاة: هل هي لمعهود صلاة أو للجنس؟ [فمن قال: للجنس] (¬3) حمله على جميع الصلوات مطلقًا، ومن قال: للعهد اختلف فيها. ففي رواية: "أنها العشاء" (¬4) وفي أخرى: "إنها الجمعة" وفي أخرى: "العشاء والفجر" وفي أخرى: "يتخلفون عن الصلاة" (¬5) ¬

_ (¬1) شرح مسلم (5/ 153). (¬2) في صحيح مسلم (651)، لفظه: "فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم" ... إلخ. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) أخرجها أحمد. (¬5) أخرجها مسلم برقم (651).

مطلقًا، ولا منافاة بينهما؛ نعم إذا كانت هي الجمعة: فالجماعة شرط فيها. ومحل الخلاف إنما هو في غيرها، فلا دلالة حينئذ في الحديث. قال البيهقي (¬1): والذي يدل عليه سائر الروايات أنه عبر بالجمعة عن الجماعة ونوزع في ذلك. وقال المحب في "أحكامه": يحمل ذلك على تكرر الواقعة [ولا تضاد] (¬2). وقال الشيخ تقي الدين: يحتاج أن ينظر في هذه الروايات، فإن كانت أحاديث مختلفة، قيل بكل واحد منها، وإن كانت حديثًا واحدًا اختلف فيه فقد يتم هذا [الجواب] (¬3)، إن عُدم الترجيح بين بعض تلك الروايات وبعض، وعدمُ إمكان أن يكون الجمع مذكورًا، فترك بعض [الرواة] (¬4) بعضه [ظاهرًا] (¬5) بأن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد إحدى الصلاتين -أعني الجمعة، أو العشاء مثلًا- فعلى تقدير أن تكون هي الجمعة لا يتم الدليل، وعلى تقدير العشاء يتم. فإذا تردد الحال وقف الاستدلال، ومما بينه عليه هنا أن هذا الوعيد بالتحريق إذا ورد في صلاة معينة -وهي العشاء، أو الجمعة، أو الفجر- ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (3/ 55). (¬2) في ن ب (والاتصال). (¬3) في ن ب (الحديث). (¬4) في الأصل ون ب (الرواية)، وما أثبت من إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 134). (¬5) في إحكام الأحكام زيادة (ظاهرًا).

فإنما يدل على وجوب الجماعة في هذه الصلاة. فمقتضى مذهب الظاهرية أن لا يدل على وجوبها في غير هذه الصلوات، عملًا بالظاهر، وترك اتباع المعنى، اللهم إلَّا أن يأخذ بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "أن آمر بالصلاة فتقام" على عموم الصلاة، فحينئذ يحتاج في ذلك إلى اعتبار لفظ الحديث وسياق، وما يدل عليه، فيحمل لفظ "الصلاة" عليه إن أريد التحقيق وطلب الحق. سابعها: قال بعضهم: في هذا الحديث دليل على أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال، لأن تحريق البيوت عقوبة مالية. وقال بعضهم: أجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغال من الغنيمة، واختلف السلف فيهما. والجمهور: على منع تحريق متاعهما، نقلهما النووي في "شرح مسلم" (¬1). وقال ابن العطار في "شرحه": استدل [به] (¬2) بعضهم على جواز العقوبة بالمال، وهو مذهب مالك. ثامنها: "الحبو": حبو الصغير على يديه ورجليه كما سلف، ومعنى: "لو يعلمون ما فيهما" أي من الأجر كما تقدم، ثم لم يستطيعوا الإِتيان إليهما [إلَّا حبوا] (¬3) حبوا [إليها] (¬4) ولم يفوتوا ¬

_ (¬1) شرح مسلم (5/ 153). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (إليهما).

جماعتهما [في] (¬1) المسجد [ففيه] (¬2) الحث البليغ على حضورها. فائدة حديثيه: قال ابن مندة في مستخرجة: قوله - عليه السلام -: [لو يعلمون] (¬3) المتخلفون عن صلاة الفجر والعشاء لأتوهما ولو حبوًا"، رواه مع أبي هريرة، ابن مسعود (¬4)، وعائشة (¬5)، وأنس بن مالك (¬6)، وحذيفة بن اليمان. تاسعها: قوله - عليه السلام -: "ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس" فيه أن الإِمام إذا عرض له شغل يستخلف من يصلي بالناس؛ وإنما هم بإتيانهم بعد إقامة الصلاة، لأن ذلك الوقت يتحقق مخالفتهم وتخلفهم، فيتوجه اللوم عليهم. ¬

_ (¬1) في الأصل (من)، ولعل ما أثبت أقرب إلى الصواب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (لم يعلموا). (¬4) ولفظ عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد هممت أن آمر رجلًالا فيصلي بالناس، ثم آمر بأناس لا يصلون معنا، فتحرق عليهم بيوتهم". مسلم (652)، وأحمد (1/ 394)، وقال في مجمع الزوائد (2/ 43)، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. (¬5) ابن أبي شيبة (1/ 345)، وعبد الرزاق، والبيهقي (3/ 57). (¬6) قال في مجمع الزوائد (2/ 43)، ورواه الطبراني في الأوسط ورجال موثقون. أقول: انظر مجمع الزوائد (2/ 42، 47) فقد جاء عدة أحادث عن كثير من الصحابة. وكنز العمال (8/ 252، 259).

وفيه جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر، وهو الوجه العاشر. وفيه تقديم الوعد [والتهديد] (¬1) على العقوبة، وهو الوجه الحادى عشر. وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفي به عن الأعلى. الثاني عشر: قوله - عليه السلام -: "فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" ظاهره أنه أراد حرقهم وقتلهم بالنار، إذ لو لم يرد ذلك لقال: "فأحرق بيوتهم" ولم يقل: عليهم. وهو يقوي ما تقدم من أن المراد بهم المنافقون، لأن المؤمن لا يقتل بترك الجماعة إجماعًا. الثالث عشر: إذا تقرر أن الظاهر أن المراد حرقهم وقتلهم بالنار فيحتاج إلى الجمع بينه وبين حديث النهي عن التعذيب بالنار؛ فإنه - عليه الصلاة والسلام - لا يهم إلَّا بما يجوز. فإن قيل: إنه ناسخ لهذا، فيحتاج إلى دليل يدل عليه، فإن النسخ خلاف الأصل (¬2). والرابع عشر: فيه دليل على قتال تارك الصلاة متهاونًا بها، كذا قاله القاضي عياض، وتبعه بعضهم، ولا يخلوا من نظر، ففي ¬

_ (¬1) في ن ب (الشديد). (¬2) قال ابن باز في التعليق على الفتح (2/ 131)، عند كلام ابن حجر -رحمنا الله وإياه-: هذا وإنما المنسوخ التعذيب بالنار فقط، والله أعلم. وسيأتي تمام كلامه عند تعليق (11).

[سنن] (¬1) أبي داود (¬2) من حديث أبي هريرة: "لقد هممت أن آمر فتيتي، فيجمعوا حزمًا من حطب، ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم، ليست بهم علة، فأحرقها عليهم" وهذه الرواية ظاهرة في أن هذا التهديد لقوم مؤمنين، صلوا في بيوتهم لأمر توهموه مانعًا، ولم يكن كذلك، لأن المنافقين لا يصلون في بيوتهم، وإنما يصلون في الجماعة رياء وسمعة، وأما إذا خلوا فكما وصفهم الله من الكفر والاستهزاء. الخامس عشر: فيه دليل أيضًا على جواز أخذ أصحاب الجنايات والحرابة على غرة و [المخالفة] (¬3) إلى منازلهم، وعلى جواز إخراج أهل المعاصي من بيوتهم، [وقد] (¬4) ترجم البخاري عليه (¬5)، واستدل بهذا الحديث [عليه] (¬6): يريد أن من اختفى منهم طلب، وأخرج من بيته بما يقدر عليه، كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج هؤلاء، وهذا فيمن عرف واشتهر منهم. السادس عشر: فيه دليل كما قال صاحب القبس: على إعدام ¬

_ (¬1) في ن ب (متن). (¬2) أبو داود (517) في الصلاة، باب: التشديد في ترك الجماعة، والحديث أصله في البخاري ومسلم. انظر: ت (1). (¬3) في الأصل (وإلحاقهم)، والتصحيح من ن ب. (¬4) من ن ب (وبه). (¬5) قال البخاري: "باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة"، الفتح (5/ 74). (¬6) في ن ب ساقطة.

محل المعصية، كما ذهب إليه مالك وخالفه الشافعي وأحمد. استدل بما روي من [كسر] (¬1) دنان الخمر وتحريق عمر بيت خمّار. واستدلا بالنهي عن إضاعة المال. [قالا] (¬2): إن المعصية لا تعلق للمحل بها، والأحكام إنما تتعلق بالفاعل (¬3). خاتمة: في مسند أحمد (¬4) في هذا الحديث "لولا ما في ¬

_ (¬1) في ن ب (كبر). (¬2) في ن ب (قال). (¬3) أشار ابن حجر -رحمه الله- في الفتح بقوله: "وتعقب بأنه منسوخ كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم". اهـ. علق الشيخ ابن باز -حفظه الله- بقوله: "جزم الشارح بالنسخ ليس بجيد، والصواب: عدم النسخ لأدلة كثيرة معروفة في محلها، منها حديث الباب، وإنما المنسوخ التعذيب بالنار"، والله أعلم. اهـ، من الفتح (2/ 130). (¬4) مسند أحمد (2/ 367) من رواية سعيد المقبري، وهذا فيه بيان الترك في عدم التحريق، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر (2/ 126). فائدة: قد ورد النهي عن العقوبة بالنار أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود في الحدود، باب: المرتد، عن عكرمة، قال: "أتى علي - رضي الله عنه - بزنادقة، فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لِنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تعذبوا بعذاب الله)، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه)، وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: (إن وجدتم فلانًا وفلانًا) لرجلين من =

البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار" وهذا من شفقته - صلى الله عليه وسلم - على النساء والذرية. ¬

_ = قريش سماهما، (فاحرقوهما) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: (إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلَّا الله، وإن وجدتموهما فاقتلوهما) "، فتح الباري (2/ 104). وروى أبو داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها) ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: (من حرّق هذه)؟ قلنا: نحن. قال: (إنه لا ينبغي لأحد إن يعذب بالنار إلَّا رب النار). انظر: أبو داود رقم (2675)، والحاكم (4/ 239)، ووافقه الذهبي.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 62/ 4/ 10 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد، فلا يمنعها"، قال: فقال بلال [بن عبد الله] (¬1): والله لنمنعهنَّ. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا سيئًا، ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول والله لنمنعهنَّ (¬2). وفي لفظ: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬3). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري رقم (865، 873، 899، 900، 5238)، ومسلم (442 م)، وأبو داود (566، 567، 568)، ومالك في الموطأ (1/ 197)، والدارمي (1/ 293)، والترمذي (570)، وابن ماجه (16)، والحميدي (612)، وأحمد (2/ 7، 9، 151)، وأبو عوانة (2/ 56)، وابن خزيمة (1677)، وابن أبي شيبة (3/ 283)، والبيهقي (132/ 3)، والبغوي (864). (¬3) مسلم (442)، والبخاري (900)، وابن أبي شيبة (2/ 383)، والبيهقي (3/ 132)، وأحمد (2/ 16).

أحدها: في التعريف براويه، وقد سلفَ في [باب] (¬1) الاستطابة. وبلال هذا: هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب تابعي ثقة، قال بعض الأئمة: لا يعرف له غير هذا الحديث، كذا رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله وفي رواية ورقاء [...] (¬2) عن مجاهد عن ابن عمر، فقال: ابن له، يقال له: واقد، وواقد: هذا هو ابن عبد الله أيضًا. قال القرطبي: في "شرح مختصر مسلم" (¬3): وكلاهما صحيح، كان لابن عمر ابنان: بلال وواقد، وكلاهما قابله بالمنع، وكلاهما أدبه ابن عمر. وقوله: "قال: فقال بلال" وقوله بعدهُ "قال: فأقبل عليه" المراد بالقائل: هو سالم بن عبد الله كما سلف في تلك الرواية، فلو صرّح به المصنف [كان] (¬4) أوضح. ثانيها: استأذن: استفعل من الإِذن [أي طلبه] (¬5) يقال: أذن له في الشيء إذْنًا، ويكون أذِنَ بمعنى: علم، ومنه قوله -تعالى-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬6) وأذِنَ له أذِنًا بفتح الهمزة: استمع. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في فتح الباري (2/ 348)، زيادة: عن عمرو بن دينار. (¬3) المفهم (2/ 838). (¬4) في ن ب (لكان). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) سورة البقرة: آية 280.

قال الشاعر: إن يسمعوا (¬1) رِيبةً طَارُوا بها فرحًا ... مِنّي وما أَذِنوا مِن صالحٍ دَفَنُوا [ومنه الحديث: "ما أذن الله لشيء [كأذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن] (¬2) " (¬3) ومن فسر يتغنى بمعنى: استغنى فقد أبعد] (¬4). ثالثها: يقال: امرأة ومرأة بالهمز ومرة بغير همزة، كما تقدم في أول الكتاب. رابعها: "المسجد" بكسر الجيم وفتحها، ومسيد كما تقدم أيضًا في باب المذي. خامسها: الحديث نص صريح في النهي عن منع النساء من المساجد عند استئذانهن الأزواج، وينبغي أن يحمل عليه إذن السيد لأمته، لكن قال النووي (¬5) في "شرحه": إن هذا النهي للتنزيه فقط، وهو عام في النساء، ولكن الفقهاء خصصوه بشروط وحالات تقدمت ¬

_ (¬1) في مختار الصحاح (13): يَأْذَنُوا، وبعده: صُمُّ إذا سَمِعوا خيرًا ذُكرتُ به ... وإن ذُكرتُ بشر عندهم أذِنوا والأبيات للشاعر: قعنب بن أم صالح. (¬2) ساقط من الأصل، وسقته لأن المعنى المراد فيه. (¬3) متفق عليه. البخاري (5022، 5023)، ومسلم (792)، والنسائي (2/ 180)، وأبو داود في الصلاة (1473)، والدارمي (1/ 349، 2/ 472)، وأحمد (2/ 450، 271، 285)، والحميدي (949). (¬4) ساقطة من ن ب. (¬5) شرح مسلم (4/ 162).

في آخر الحديث الثاني من باب المواقيت؛ فهو من باب تخصيص العموم بالمعنى. وفي مسلم: "لا تمنعوا النساء الخروج إلى المساجد بالليل" (¬1) وصح: "وليخرجن تفلات" (¬2). وفي الصحيح: "أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" (¬3) وخصها بالذكر؛ لأنه يمكنها قضاء الوطر في ذلك ما لا يمكن في غيره بخلاف صلاة الصبح، فإنها عند إقبال النهار. فرع: لو لم يكن زوج ولا سيد واجتمعت الشروط حرم المنع، كما جزم به النووي في "شرح مسلم". سادسها: في صحيح مسلم (¬4) عن عائشة: "لو أن ¬

_ (¬1) مسلم (442). (¬2) من رواية زيد بن خالد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات". أخرجه أحمد (5/ 192، 193)، والبزار (445)، وذكره في مجمع الزوائد (2/ 32، 33)، وقال: إسناده حسن ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو صدوق. ومن رواية أبي هريرة بلفظ: أخرجه البغوي (760)، وأبو داود (565)، وابن الجارود (332)، والحميدي (978)، وأحمد (2/ 438، 475، 528)، وابن أبي شيبة (2/ 383)، وصححه ابن خزيمة (1679). (¬3) مسلم (444). (¬4) مسلم (445)، البخاري (869)، وأبو داود في الصلاة (569)، باب: التشديد في ذلك، وابن خزيمة (1698)، والبيهقي (3/ 133)، وأبو يعلى (4493)، ومالك في القبلة (15). انظر: كلام ابن حجر في =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد، كما منعت نساء نبي إسرائيل". قال النووي (¬1) وغيره: والمراد به إحداث الزينة والطيب وحسن الثياب ونحوها. سابعها: ما يخص به بعضهم هذا الحديث: أن المنع للمرأة الجميلة المشهورة، وفيما ذلمحره بعضهم مما يقتضي التخصيص أن يكون بالليل، وقد تقدم ما يشهد لذلك. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ومما قيل في تخصيصه أن لا يزاحمن الرجال. وقد قدمت هذا في الموضع المشار إليه أعلاه. ثامنها: هل عدم المنع خاص بصلاة أو عام، فيه خلاف حكاه بعضهم. تاسعها: استدل [بعضهم] (¬3) بهذا الحديث على أن للرجل منع امرأته من الخروج إلَّا بإذنه. قال الشيخ [تقي الدين] (¬4): وهذا إن أخذ من تخصيص النهي بالخروج إلى المساجد، وأن ذلك يقتضي بطريق المفهوم جواز المنع في غير المساجد. ¬

_ = الفتح (2/ 350). (¬1) في شرح مسلم (4/ 164). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 142). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة. انظر: إحكام الأحكام (2/ 143) مع الحاشية.

وقد يعترض عليه بأن هذا تخصيص الحكم باللقب. وهو ضعيف عند أهل الأصول. وأجاب غيره: بأن مفهوم اللقب إنما ضعف لعدم رائحة التعليل فيه، والتعليل هنا موجود، وهو: أن المسجد فيه معنى مناسب، وهو أنه محل للعبادة، فلا تمنع من التعبد فيه، فلا يكون ذلك من مفهوم اللقب. قال الشيخ: [و] (¬1) يمكن أن يقال في هذا: إن منع النساء من الخروج مشهور معتاد، وقد قرروا عليه، وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز، وإخراجه عن المنع المستمر المعلوم. فيبقى ما عداه على المنع، وعلى هذا فلا يكون منع الرجل لخروج امرأته لغير المسجد مأخوذ من تقييد الحكم بالمسجد، ويمكن أن يقال فيه وجه آخر وهو: إن في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". [مناسبة تقتضي الإِباحة -أعني كونهن "إماء الله"- بالنسبة إلى خروجهن إلى مساجد الله] (¬2). ولهذا كان التعبير: بإماء الله أوقع في النفس من التعبير بالنساء لو قيل. [وإن] (¬3) كان مناسبًا أمكن أن يكون علة للجواز [فإن] (¬4) انتفى انتفى الحكم، لأن الحكم يزول بزوال علته. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (وإذا). (¬4) في ن ب (فإذا).

عاشرها: أخذ من إنكار ابن عمر على ولده بلال وسبه إياه: تأديب المعترض على السنن والمعارض لها برأيه. وفيه تعزير الوالد ولده، وإن كان كبيرًا وهو الوجه. الحادي عشر: وتأديب العالم من يتعلم عنده إذا تكلم عنده بما لا ينبغي، وتقديم حق الله ورسوله على [غيرهم] (¬1) والقول بالحق وإن كان المقول له قريبًا وهو [الثاني عشر] (¬2). الثالث عشر: فيه أيضًا نفي التحسين والتقبيح العقليين، وإثبات أن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبّحه [الشرع] (¬3)، دون ما خبث في النفس والطبع. الرابع عشر: إن ثبت أن مستند بلال بن عبد الله في المنع القياس ففيه حجة لمن يقول بتقديم القياس على خبر الواحد. الخامس عشر: استنبط منه أنه لا يجوز للزوج منع زوجته من حج الفرض، وهو أحد القولين عندنا، والأظهر الجواز لحديث آخر فيه في البيهقي هو نص في المسألة (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (غيرهما). (¬2) في الأصل ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قال عبد الله بن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لها أن تنطلق إلَّا بإذن زوجها، ولا يحل للمرأة أن تسافر ثلاث ليال إلَّا ومعها ذو محرم تحرم عليه". أخرجه البيهقي (5/ 223، 224).

الحديث الخامس والسادس

الحديث الخامس والسادس 63، 64/ 5/ 10 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد الجمعة، وركعتين بعد المغرب] (¬1) وركعتين بعد العشاء" (¬2). وفي لفظ: "فأما المغرب والعشاء والجمعة ففي بيته" (¬3). وفي لفظ: "أن ابن عمر قال: حدثتني حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كان يصلي سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها" (¬4). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) هذا ساقط من الأصل. (¬2) البخاري (937، 1165، 1180)، ومسلم (729، 882) في الجمعة، ومالك في الموطأ (1/ 166)، والترمذي (433)، والنسائي (2/ 119)، وأبو داود (1252). (¬3) البخاري (1172)، ومسلم (729). (¬4) البخاري (1172).

أحدها: في راويهما وقد تقدم بيان حال ابن عمر في باب الاستطابة. وأما حفصة: فهي أم المؤمنين. قيل: إنها ولدت قبل المبعث بخمسة أعوام، تزوجها - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث من الهجرة. وقيل: سنة اثنين، روت ستين حديثًا، اتفقا منها على ثلاثة. وقال ابن الجوزي: على أربعة، وانفرد مسلم بستة، وقد بسطت ترجمتها فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب، وحكيت ستة أقوال في وفاتها منها سنة خمسين. ثانيها: هذا الحديث لا يظهر له مناسبة في هذا الباب، فإن كان [أراد] (¬1) أن قول ابن عمر: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" معناه: اجتمع معه في الصلاة [فليست الدلالة على ذلك قوية، فإن المعية مطلقًا أعم من المعية في الصلاة] (¬2) وإن كان محتملًا، ومما يقتضي أنه لم يرد ذلك أنه أورد عقبه حديث عائشة الآتي إثر هذا، لا تعلق له بصلاة الجماعة، نبّه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬3). وقد يقال: الظاهر من فعل ابن عمر هذه السنن بحضرته - عليه أفضل الصلاة والسلام - أن يكون عقب فعل الفرض، ويبعد منه وقوع صلاة الفرض وحده بحضوره، وحينئذ فقد ظهر وجه المناسبة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (2/ 165) مع الحاشية.

وقد يجاب أيضًا: بأن حكمة شرعية النوافل تكميل الفرائض، فإن عرض فيها نقص كما ثبت في سنن أبي داود (¬1) وغيره [وارتاض] (¬2) نفسه بتقديم النافلة، وينشط لها، ويتفرغ قلبه أكمل فراغ لها، ولهذا استحب أن تفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين (¬3)، فلما ذكر المصنف المقارن للصلاة وهو الجماعة، ذكر السابق واللاحق، فالجميع مكملات الفريضة. ثالثها: هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، ويدل على هذا العدد منها. وقد اختلفت الأحاديث في أعداد الركعات الرواتب قولًا وفعلًا. وقد اختلفت مذاهب الففهاء في الاختيار لتلك الأعداد. والمروي عن مالك أنه [قال] (¬4): لا توقيت في ذلك. ¬

_ (¬1) ولفظ من حديث تميم الداري مرفوعًا: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله تعالى للملائكة: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع تكملون به فريضته". أخرجه أحمد (4/ 65، 103، 5/ 377، 72)، من رواية تميم ورجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (1426)، والنسائي (1/ 234، 7/ 83)، من رواية أبي هريرة. (¬2) في ن ب (ولا ترتاض). (¬3) أخرجه مسلم من حدث زيد بن خالد الجهني والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأبو داود عون المعبود رقم (1353). (¬4) في ن ب ساقطة.

قال ابن القاسم صاحبه: وإنما توقف في هذا أهل العراق. والمتفق عليه عند الشافعية أن الرواتب المؤكدة ما في هذا الحديث. وفي البخاري (¬1) من حديث عائشة أيضًا: "كان لا يدع أربعًا قبل الظهر" وليس للعصر ذكر في الصحيحين وفي الترمذي (¬2) محَسِّنًا من حديث علي - رضي الله عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام -: "كان يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم" وفيه أيضًا مصححًا من حديث أم حبيبة (¬3): "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار" وفي صحيح البخاري (¬4) ¬

_ (¬1) البخاري رقم (1182). (¬2) الترمذي (429). انظر: تلخيص الحبير (1/ 272)، وقد صححه أحمد شاكر -رحمه الله- برقم (598). (¬3) الترمذي (428). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك (1/ 312). قال أحمد شاكر -رحمه الله-: وهذا إسناد صحيح، والنعمان بن المنذر ثقة، فهذه أسانيد ثلاثة للحديث صحاح. (¬4) البخاري رقم (1183)، وأبو داود في الصلاة (1281)، باب: الصلاة قبل المغرب، والبيهقي في السنن (2/ 474)، والبغوي في شرح السنة (894)، وابن خزيمة (1289). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في الفتاوى (22/ 281)، وقد ثبت عنه في الصحيح عن عبد الله بن مغفل: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة. وقال: في الثالثة لمن شاء" كراهية أن يخذها الناس سنة. وثبت في الصحيح أن أصحابه كانوا يصلون بين أذان المغرب وإقامتها ركعتين، وهو يراهم ولا ينهاهم. فإذا كان التطوع بين أذاني المغرب مشروعًا فلأن يكون مشروعًا =

من حديث ابن مغفل الأمر بالصلاة قبل المغرب، وهذه ليست مؤكدة بل مستحبة على الأصح بخلاف الأول، واختلاف الأحاديث في أعدادها محمول على التوسعة فيها، وأن لها أقل وأكمل، فيحصل [أصل] (¬1) السنة [بالأقل] (¬2) والأكمل بالأكثر، [وكذلك القول في الضحى والوتر يحصل أصل السنة بالأقل والأكمل بالأكثر] (¬3)، وما بينهما أوفى الكمال هذا ما يتعلق بالنوافل المقيدة. وأما النوافل المطلقةِ وتسمى: المرسلة، فقد بسط الشيخ تقي الدين (¬4) -رحمه الله- الكلام فيه أحسن بسط، فقال الحق والله أعلم في هذا الباب أعني ما ورد فيه أحاديث بالنسبة إلى التطوعات والنوافل المرسلة، أن [كل] (¬5) حديث صحيح دل على استحباب عدد من هذه الأعداد، أو هيئة من الهيئات، أو نافلة من النوافل، يعمل به في استحبابه، لم تختلف مراتب ذلك المستحب، فما كان الدليل دالًا على تأكده،- إما بملازمته فعلًا، وإما بكثرة فعله، وإما بقوة دلالة ¬

_ = بين أذاني العصر والعشاء بطريق الأولى. لأن النسبة تعجيل المغرب باتفاق العلماء. فدل على أن الصلاة قبل المغرب والعصر والعشاء من التطوع المشروع. وليس هو من السنن الراتبة التي قررها بقوله: ولا دوام عليها بفعله. ومن ظن أنه كان له سنة يصليها قبل العصر قضاها بعد العصر فقد غلط. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (الأكمل)، والصحيح من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) أحكام الأحكام (2/ 150) مع الحاشية. (¬5) في الأصل (كان)، والصحيح من ن ب.

اللفظ على تأكيد الحكم فيه، وإما [بمعاضدة] (¬1) حديث آخر له أو أحاديث فيه حكم بعلو مرتبته في الاستحباب، وما نقص عن ذلك كان بعده في [الرتبة] (¬2)، وما ورد فيه حديث لا ينتهي إلى الصحة، فإن كان حسنًا عمل به إن لم يعارضه صحيح أقوى منه، وكانت مرتبته ناقصة عن هذه المرتبة [الثانية] (¬3) أعني: الصحيح الذي لم يدم عليه أو لم يؤكد [اللفظ] (¬4) في طلبه، وما كان ضعيفًا لا يدخل في حيز الموضوع، فإن أحدث شعارًا في الدين منع منه، وإلَّا فهو محل نظر يحتمل أن يقال: إنه مستحب لدخوله تحت العمومات المقتضية لفعل الخير واستحباب الصلاة، ويحتمل أن يقال: هذه الخصوصيات بالوقت أو بالحال أو الهيئة والفعل المخصوص يحتاج إلى دليل خاص يقضي استحبابه بخصوص وهذا أقرب. ثم نبه بعد ذلك على أمور: أحدها: إنا حيث قلنا في الحديث الضعيف: إنه يحتمل أن بعمل به لدخوله تحت العمومات، فشرطه أن لا يقوم دليل على المنع منه أخص من تلك العمومات، مثال الصلاة المذكورة في ليلة أول جمعة من رجب (¬5) لم يصح فيها الحديث ولا حُسن، فمن أراد فعلها ¬

_ (¬1) في ن ب (بمعاصرة)، وهو تصحيف. وانظر: إحكام الأحكام (2/ 151)، للاطلاع على اختلاف النسخ. (¬2) في ن ب (المرتبة)، وإحكام الأحكام. (¬3) في ن ب ساقطة، ومثبتة في إحكام الأحكام. (¬4) في الأصل ساقطة، والصحيح في ن ب. (¬5) انظر ت (5/ 402).

إدراجًا لها تحت العمومات الدالة على [فضل] (¬1) الصلاة والتسبيحات لم يستقم، لأنه قد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام، وهذا أخص من العمومات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة. الثاني: أن هذا إلاحتمال الذي قلناه [في] (¬2) جواز إدراجه تحت العمومات يريد به في الفعل لا في الحكم باستحباب ذلك الشيء المخصوص بهيئته الخاصة؛ لأن الحكم باستحبابه على هيئته الخاصة يحتاج دليلًا شرعيًّا عليه ولا بد، بخلاف ما إذا فعل بناء على أنه من جملة الخيرات التي لا تختص بذلك الوقت ولا بتلك الهيئة، فهذا الذي قلنا باحتماله. الثالث: قد منعنا إحداث ما هو شعار في الدين، ومثال ما أحدثه الروافض من عيد ثالث سموه: عيد الغدير، وكذلك الاجتماع وإقامة شعاره في وقت مخصوص على شيء لم يثبت شرعًا، وقريب من ذلك أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص، فيريد بعض الناس أن يحدث فيها أمرًا آخر لم يرد به الشرع، زاعمًا أنه يدرجه تحت عموم؛ فهذا لا يستقيم، لأن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف، وهذه الصور حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه، فأما إذا دل فهو أقوى في المنع وأظهر من الأول، ولعل مثال ذلك: ما ورد [في] (¬3) رفع اليد [في ¬

_ (¬1) في ن ب (فعل). (¬2) في ن ب (عن). (¬3) في ن ب (من).

القنوت، فإنه قد صح رفع اليد] (¬1) في الدعاء مطلقًا. قال بعض الفقهاء: ترفع اليد في القنوت، لأنه دعاء فيندرج تحت الدليل الذي يقتضي استحباب رفع اليد في الدعاء. وقال غيره: يكره لأن الغالب على هيئة العبادة والعبد التوقف، والصلاة تصان عن زيادة عمل غير المشروع فيها، فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليدين في القنوت كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء. قلت: قد روى البيهقي (¬2) الرفع فيه بإسناد جيد، كما ذكرته في "شرح المنهاج". الرابع: ما ذكرنا من المنع تارة يكون منع تحريم، وتارة يكون منع كراهة، ولعل ذلك يختلف بحسب ما يفهم من نفس الشرع [من] (¬3) التشديد في الابتداع بالنسبة إلى ذلك الجنس، [و] (¬4) التخفيف؛ ألا ترى أنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأمور الدنيا لم تساوِ الدع المتعلقة بأمور الأحكام الشرعية أو لعلها -أعني البدع ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) البيهقي (3/ 41). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في الفتاوى (22/ 519)، وأما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه في الدعاء فقد جاء في أحاديث كثيرة صحيحة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (أو).

المتعلقة بأمور الدنيا] (¬1) لا تكره أصلًا، بل يحرم في كثير منها [بعدم] (¬2) الكراهة، وإذا [نظر] (¬3) إلى البدع المتعلقة بالأحكام الفرعية لم تكن مساوية للبدع المتعلقة بأصول العقائد. قال الشيخ: فهذا ما أمكن ذكره في هذه المواضع مع كونه من المشكلات القوية لعدم الضبط فيه بقوانين [تقدم] (¬4) ذكرها للتابعين، وقد تباين الناس في هذا الباب تباينًا شديدًا، حتى بلغني أن بعض المالكية مرّ في ليلة من إحدى ليلتي الرغائب، أعني في رجب أو التي في شعبان (¬5) بقوم يصلونها، وقوم عاكفين على محرم، فحسن حال العاكفين على المصلين لتلك الصلاة، وعلل ذلك بأن العاكفين عالمون بارتكاب المعصية فيرجى لهم الاستغفار والتوبة، والمصلون لتلك الصلاة في امتناعها عنده يعتقدون أنهم في طاعة فلا يتوبون ولا يستغفرون قال: والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (بعد). (¬3) في ن ب (نظرنا). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) سئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن الصلاة الرغائب هل هي مستحبة أم لا؟ فأجاب هذه الصلاة لم يصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من السلف ولا الأئمة، ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها- والحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك، ولهذا قال المحققون أنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم. للاستزادة انظر: الفتاوى (23/ 131، 132، 414، 23/ 132، 135، 24/ 201، 202) ومساجلة علمية بين ابن الصلاح والعز بن عبد السلام تحقيق الألباني.

ذكرنا، وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات أو طلب دليل خاص على ذلك الخاص، وميل المالكية إلى هذا الثاني، وورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع، ألا ترى أن ابن عمر قال في صلاة الضحى "إنها بدعة" لأنه لم يثبت عنده فيها دليل، ولم ير إدراجها تحت عمومات الصلاة لتخصيصها بالوقت المخصوص، وكذلك قال في القنوت الذي [كان] (¬1) يفعله الناس في عصره: إنه بدعة. ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء. وكذلك ما روى الترمذي (¬2) من قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسملة: "إياك والحدث" ولم ير إدراجه تحت دليل عام [وكذا] (¬3) ما جاء عن ابن مسعود [النهي] (¬4) فيما خرجه الطبراني (¬5) عن قيس بن أبي حازم قال: ذكر [لابن مسعود [قاص] (¬6) [يجلس] (¬7) بالليل، ويقول للناس: قولوا كذا، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) الترمذي (244)، وقال: حديث حسن. قال أحمد شاكر بعد أن ساق رواية مخرجة في المسند فيها التصريح باسم ابن عبد الله بن مغفل "يزيد بن عبد الله" (4/ 85): وهذا إسناد صحيح، لأن رواية الترمذي مبهم اسم ابن عبد الله بن مغفل. (¬3) في ن ب (ولذلك). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) انظر الطبراني الكبير (9/ 125، 128)، وقد ورد عدة روايات عن ابن مسعود في النهي عن البدع والتشديد فيها. (¬6) في الأصل (قال)، وفي ن ب (قوم)، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬7) في الأصل (يجلسون)، وما أثبت من ن ب وإحكام الأحكام.

قولوا] (¬1) فقال: إذا رأيتموه فأخبروني. قال: فأخبروه. فجاء عبد الله متقنعًا، فقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود (¬2): إنكم لأهدى من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يعني وإنكم [المتعلقون] (¬3) بذنب ضلالةٍ" وفي رواية: "لقد جئتم ببدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علمًا" فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل مع إمكان إدراجه تحت عموم فضيلة الذكر، على [أن] (¬4) ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات، هذا آخر كلام الشيخ تقي الدين (¬5) وهو من النفائس. ويجاب على تقدير ثبوت ذلك عنهم أنه محمول على أنه لم تبلغهم الأحاديث الخاصة فيه، أو أنه إقترن به أمر من زيادة أو ترك واجب شرعي، أو استدراج بذلك إلى مفاسد علموها؛ وإلَّا فالأحاديث الصحيحة ثابتة [بالأمر] (¬6) بالذكر فرادى ومجتمعين، والحث عليه وعلى صلاة الضحى والدعاء في الصلاة وكذا القنوت في الصبح. واعترض عليه بعض المالكية فيما ذكره من الجهر بالبسملة، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (تعلمون). (¬3) في ن ب (متعلقون). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) إحكام الأحكام (1/ 173). (¬6) زيادة من ن ب.

فقال: ليس النهي عن مجرد [الجهر] (¬1)، بل النهي عن زيادة البسملة في [أول] (¬2) الفاتحة، لأنه - عليه السلام - وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًا لم يكونوا يقرءون بها، كما جاء مصرحًا به في الصحيح (¬3) وهذا منه غلط، بل الحديث المذكور مؤول بل [معلول] (¬4)، وقد ذكرت وجه تعليله في "تخريجي لأحاديث منهاج البيضاوي في الأصول" فراجعه منه [وسأذكره إن شاء الله عند وصولي إلى موضعه] (¬5). [وأما] (¬6) إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - كما نقله البيهقي في مدخله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة أوجه. أحدها: ما أنزل الله -تعالى- فيه نص بالكتاب [فسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل نص الكتاب] (¬7). والثاني: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها أعامًّا أم خاصًّا، وكيف أراد أن تأتي به العباد. ¬

_ (¬1) في ن ب (النهي). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ"الحمد لله رب العالمين"، البخاري (743). (¬4) في ن ب (معلوم). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن ب (وقال). (¬7) زيادة من ن ب.

والثالث: [ما سنه] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله -تعالى- له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلَّا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته ليبين عدد الصلاة وعملها عن أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من الشرائع لأن الله -تعالى- قال: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3) فما أحل وحرم فإنما بيّن فيه عن الله، كما بين الصلاة. ومنهم من قال: جاءته رسالة الله -جلّ ثناؤه- فأثبتت به سنة بفرض الله -عزّ وجلّ-. ومنهم من قال: أُلقي في روعه كل ما سن وسببه الحكمة التي ألقيت في روعه عن الله -جلّ ثناؤه- هذا آخر كلامه. وفيه بيان لمعرفة وجوه السنة وما هي؟ وقال غيره: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله أو فعله أو حاله وتقريره كما اطلع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القول والفعل أو الحال بحضرته وسكت عليه [فالحاصل أن السنة في المعنى الشرعي أمر بين الغلو والإِهمال، أعاننا الله على القيام بها على أوفى حال] (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) سورة النساء: آية 29. (¬3) سورة البقرة: آية 275. (¬4) في ن ب ساقطة.

الوجه الرابع: من الكلام على الحديث فيه فعل النافلة في البيت والمسجد، نعم اختلف العلماء هل التنفل إثر الفرائض في المسجد أفضل أم في البيت على ثلاثة أقوال: أحدها: وهو مذهب الشافعي وقاله النخعي وغيره: إن فعلها في البيت أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل صلاة المرء في بيته إلَّا المكتوبة" (¬1) وعلل بخشية اختلاطها بالفرائض، ولئلا تخلى البيوت من الصلاة. وثانيها: إن فعلها أثر الصلاة في المسجد أجمع للخاطر، حكاها القاضي عياض عن قوم. وثالثها: الفرق بين الليل والنهار، ففي النهار في المسجد أفضل، وفي الليل البيت أفضل، حكاه القاضي عن مالك والثوري. واستدل مالك بقوله: "فأما المغرب والعشاء والجمعة، ففي بيته"، وهو دال على [أن] (¬2) ما سوى ذلك كان في المسجد، وما سوى المغرب والعشاء هو راتب النهار. قلت: هذه الرواية التي استدل بها قد ذكر فيها سنة الجمعة وهي نهارية فلا يحسن الاستدلال بها إذن؛ والحديث السالف عام في جميع النوافل الراتبة مع الفرائض، إلَّا في سنة الجمعة التي قبلها، وإلَّا في النوافل التي هي شعار الإِسلام: كالعيد والكسوف والاستسقاء وغير ذلك مما أوضحته في "شرح المنهاج"، فراجعه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في ن ب ساقطة.

منه. وفي بعض الروايات التصريح بأنه عليه السلام صلّى سنة الصبح في بيته، وهي صلاة نهار، فهو مما يرد على من فصّل أيضًا. ولو قيل: فعلها في البيت أفضل إلَّا أن يكسل عن فعلها فيه ففي المسجد أفضل لم يبعد. واعلم أن ابن حبان (¬1) روى في صحيحه من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد الجمعة في المسجد، [ولم يُرَ يصلي بعد الجمعة يوم الجمعة ركعتين في المسجد، وكان ينصرف إلى بيته قبل ذلك اليوم]. وهو محمول على بيان المشروعية منه - صلى الله عليه وسلم - وكذا حديث حذيفة أنه - عليه السلام -: "صلى المغرب فما زال يصلي في المسجد حتى صلى العشاء الآخرة" أخرجه الترمذي (¬2) معلقًا قبيل أبواب الزكاة، وقال: فيه دلالة أنه - عليه السلام - صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد (¬3). ¬

_ (¬1) ابن حبان (6/ 233)، وما بعده بين القوسين ساقط من الأصل، وأضيف من ابن حبان وابن خزيمة. وضعف الحديث الألباني في صحيح ابن خزيمة (3/ 183). (¬2) الترمذي (2/ 501). قال أحمد شاكر -رحمه الله-: وأخرجه أحمد في المسند (5/ 414)، ثم قال: وهذا إسناد جيد حسن أو صحيح. (¬3) قال أحمد شاكر -رحمه الله-: "يجمع بين الأحاديث بأن النهي للتنزيه، وأن صلاتهما في المنزل أفضل"، حيث إنه قال في التعليق على كلام الترمذي عند قوله: "والصحيح ما روي عن ابن عمر قال "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته". أخرجه البخاري والترمذي وغيرهم، قال أحمد شاكر: وتعليل الترمذي غير جيد، فإن الحديث الفعلي المؤيد للحديث القولي، لا يكون علة له. اهـ. (2/ 501).

الخامس: قول حفصة - رضي الله عنها -: "وكان يصلي سجدتين". المراد بهما: ركعتا الفجر، فهو من باب إطلاق الجزء على الكل. السادس: فيه أن سنة الصبح لا يدخل وقتها إلَّا بطلوع الفجر، ولا أعلم فيه خلافًا. السابع: فيه أيضًا استحباب تخفيفهما وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور (¬1). وقال بعض السلف (¬2): لا بأس بإطالتهما، ولعله أراد أن الإِطالة ليست محرمة ولا نزاع في ذلك. وبالغ قوم فقالوا: لا قراءة فيها أصلًا، حكاه الطحاوي والقاضي، وهو غلط، والأحاديث الصحيحة ترده. فقد صح أنه - عليه السلام - قال: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" (¬3). وصح أنه - عليه السلام - كان يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (¬4) [وقوله] (¬5) تعالي: ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (5/ 299). وقد ساقه بمعناه من شرح النووي لمسلم (6/ 3، 4). (¬2) وهو مروي عن الثوري وأبي حنيفة. انظر: الاستذكار (5/ 299). (¬3) أخرجه البخاري في جزء القراءة، وأحمد، والترمذي (2/ 25). انظر: تلخيص الحبير (1/ 231) فقد حسنه. (¬4) أخرجه الترمذي (2/ 417)، وأبو داود عون المعبود (1243)، ومسلم في الصحيح. (¬5) في ن ب (وبقوله).

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا ...} (¬1) الآيتان. واستحسن الغزالي في كتابه "وسائل الحاجات" (¬2) أن يقرأ في الأولى {أَلَمْ نَشْرَحْ} وفي الثانيه {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} وقال: إن ذلك يردّ شر ذلك اليوم (¬3). وفي "فضائل القرآن العظيم" لأبي العباس الغافقي (¬4) أنه - عليه السلام - "أمر رجلًا شكى إليه شيئًا أن يقرأ في الأولى والثانية بذلك". وتوسط مالك وجمهور أصحابه (¬5)، فقال: لا يقرأ غير الفاتحة، وهو مخالف للسنة الصحيحة المذكورة التي لا معارض لها. وفي مختصر ابن شعبان (¬6) عندهم يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ¬

_ (¬1) أبو داود (1247)، ومسلم في الصحيح. (¬2) ذكره ضمن كتب ابن الصلاح في هدية العارفين (1/ 654)، باسم: "تعليقه على شرح الوسائل للغزالي". (¬3) هذا ليس عليه دليل من كتاب الله ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) هو عبد الواحد بن محمد الغافقي الباهلي المقرىء المالكي المتوفي سنة (750)، له مؤلفات منها: "أصول الخمسة التي بنى عليها الإِسلام"، و"المنتخب في فضائل القرآن"، ومعجم المؤلفين (6/ 212)، وهدية العارفين (1/ 635). (¬5) انظر: الاستذكار (5/ 299). (¬6) هو العلامة أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة العمّاري، من ولد عمار بن ياسر له التصانيف البديعة، منها: "كتاب =

من قصار المفصل. الثامن: قوله: "وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها" هذا بيان لعذره في عدوله عن المعاينة لفعله -عليه السلام - إلى إخبار حفصة - رضي الله عنها - وفيه تنبيه على أنه لا يعدل في تحصيل العلم إلى خبر الواحد إلَّا لعذر، وإن كان حجة [كما سيأتي] (¬1). التاسع: في الرواية الأخيرة دلالة على رواية الأخ عن أخيه ذكرًا كان أو أنثى. العاشر: أخذ العلم عن المرأة خصوصًا إذا كانت أعلم بالواقعة والحالة. الحادي عشر: قبول خبر الواحد، وهو مذهب العلماء من جميع الطوائف، خلافًا لبعضهم، وعمل [بخبر الواحد من الصحابة فمن بعدهم] (¬2) [فيما لا يحصى من الأحكام] (¬3). الثاني عشر: عدم الدخول على الشخص في ذلك الوقت والاستئذان عليه. ¬

_ = الزاهي"، و"مناقب مالك" و"كتاب المنسك"، و"مختصر ما ليس في المختصر". مات في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. ترجمته: سير أعلام النبلاء (16/ 78)، والديباج المذهب (2/ 194). (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) ساقطة من ن ب.

الثالث عشر: فيه أيضًا الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في النوافل، وفعلها وتتبعها ونقلها؛ إن حملت المعية المذكورة في الحديث على المعية في الصلاة، وقد تقدم ما فيه في الوجه الثاني من الكلام على الحديث.

الحديث السابع

الحديث السابع 65/ 7/ 10 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر" (¬1). وفي لفظ لمسلم (¬2): "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". [وفي لفظ: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما عليها"] (¬3). الكلام عليه من وجوه: بعد أن تعلم أنه لا مناسبة لإِيراده في هذا الباب إلَّا ما أسلفناه في الحديث قبله. أحدها: النوافل: جمع نافلة. وأصلها في اللغة: عطية التطوع. والنافلة: أيضًا ولد الولد (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1169)، ومسلم برقم (724)، وأبو داود (1254)، والترمذي (416)، وابن خزيمة (2/ 160)، وابن حبان (4/ 80). (¬2) مسلم (725). (¬3) هذه الزيادة غير موجودة في كتب العمدة من الشروح والمتن. (¬4) انظر: مختار الصحاح (281).

[ثانيها] (¬1): التعاهد: المحافظة على الشيء، وتجديد العهد به والتعهد مثله. قال الجوهري: [وتعهدت فلانًا وتعهدت صنعتي] (¬2)، وهو أفصح من قولك: [تعاهدته] (¬3)، لأن التعاهد لا يكون إلَّا بين [شيئين] (¬4). قلت: وشدة تعاهده - عليه الصلاة والسلام - على صلاتها لعظم فضلها وجزيل ثوابها. [ثالثها] (¬5): في الحديث دليل على تأكد ركعتي الفجر، وهو إجماع فإن المراد [بها] (¬6) في هذا الحديث: السنة لا الفريضة. ومن الغرائب ما حكاه في "المحصول" عن الفقهاء أنهم قالوا: إن أهل محلة لو اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإِصرار فإنهم يقاتلون بالسلاح؛ وهذا لا نعرفه عنهم، ولا عن غيرهم، وإنما قالوه في الأذان والجماعة ونحوهما من الشعائر الظاهرة، ومع ذلك فالصحيح عندهم إذا قلنا بسنيتها أنهم لا يقاتلون على تركها. رابعها: فيه أيضًا أنهما غير واجبتين لقول عائشة: من النوافل. وقد انفرد الحسن البصري بدعواه وجوبهما. ¬

_ (¬1) في ن ب (الثاني). (¬2) في مختار الصحاح (ص 195)، "تعهد فلانًا وتعهد ضيعته". (¬3) في مختار الصحاح "تعاهد". (¬4) في مختار الصحاح "اثنين". (¬5) في ن ب (الثالث) ... إلخ المسائل. (¬6) في ن ب (بما).

وفي مذهب مالك أنها من الرغائب، لأنها قالت: من النوافل. ولم تقل من السنن. والمالكية فرقوا سنين السنة والرغيبة والنافلة. فقالوا: السنة آكدها، ثم الرغيبة، ثم النافلة. فما واظب عليه في الجماعة مظهرًا له فهو سنته. وما لم يواظب [عليه] (¬1) [وحده] (¬2) [وعده] (¬3) من النوافل فهو فصيلة. وما واظب عليه ولم يظهره كركعتي الفجر ففيه قولان: أحدهما: سنته. والثاني: فضيلة. وهذا اصطلاح لا أصل له (¬4)، وقد بينا السنة ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل ساقطة. (¬4) الرغيبة، أي: مرغوب فيها، وهي ما فوق المندوب ودون السنة. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 300). وعلى ما ذكرت لك جمهور الفقهاء، إلَّا أن من أصحابنا من يأبى أن يسميها سنته، ويقول: هما من الرغائب وليستا سنته. وهذا لا وجه له ومعلوم أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها سنه يحمد الاقتداء به فيها، إلَّا أن يقول - صلى الله عليه وسلم -: إن ذلك خصوص لي، وإنما يعرف من سنته المؤكدة منها من غير المؤكد بمواظبته عليها وندب أمته إليها؛ وهذا كله موجود محفوظ عنه - صلى الله عليه وسلم - في ركعتي الفجر. وتسميتها سنه هو قول الشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل، وأبي ثور وداود وجماعة أهل العلم. اهـ.

ومعناها في الحديث قبله لكن السنة تختلف رتبتها في الفضيلة، فبعضها آكد من بعض على حسب مقصود الشرع ومقتضاه وشرعية الجماعة فيها؛ نعم أكابر [الصحابة] (¬1) (¬2) على أنهما من السنن، وعرف الشرع إطلاق النافلة على الكل لقوله -عليه السلام - للأعرابي: "إلَّا أن تطّوع" (¬3) والتطوع والنافلة بمعنى واحد. [وإذا] (¬4) كان لفظ النافلة إسمًا جامعًا للثلاثة، فلا دلالة فيه على أحدها بعينه، ولأن لفظ الحديث شرح بأنها نافلة، والمستدل على أنها من الرغائب لا يقول بمرادفتها للنافلة. خامسها: استدل بهذا الحديث لأحد القولين عندنا في ترجيح سنة الصبح على الوتر، لكن لا دلالة فيه، لأن الوتر كان واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتناوله هذا الحديث. واستدل لهذا القول وهو قول قديم بأمور: أحدها: أن الوتر تبع للعشاء، وركعتي الفجر تبع للصبح، والصبح أفضل من العشاء، فتابعها آكد. ثانيها: أنه - عليه السلام - كان يصلي الوتر على الراحلة، وركعتي الفجر على الأرض. ثالثها: أن [ركعتي] (¬5) الفجر تتقدم على متبوعها، والوتر يتأخر. ¬

_ (¬1) في الأصل (أصحاب)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في الأصل بياض بمقدار كلمة ويغني عنه الضمير في كلمة الصحابة. (¬3) البخاري (46). (¬4) في ن ب (فإذا). (¬5) في ن ب (ركعتا).

رابعها: أنها محصورة بعدد متفق عليه بخلافه. خامسها: شدة المحافظة [عليها وكونها] (¬1) خير من الدنيا وما فيها، لكن المواظبة مشتركة [بينه] (¬2) وبين الوتر، فإن كان واجبًا عليه على ما صححوه، ومعلوم أنه كان على الواجب أشد محافظة من المندوب، وإذا كان فعل المندوب خير من الدنيا وما فيها، فما ظنك بالواجب؟ والجدير أن الوتر أفضل، وعلل بكونه اختلف في وجوبه وهو منتقض بما قدمناه عن الحسن البصري، فإنه قال: بوجوب ركعتي الفجر، ومعلوم [أنه] (¬3) من فضلاء التابعين وجلتهم فاستويا في ذلك. سادسها: هذا الحديث يقتضي تفضيل ركعتي الفجر على جميع الصلوات فرضها ونفلها، خرج الفرض بالإِجماع، وبقي ما عداه على عمومه، قاله الماوردي (¬4). سابعها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "خير من الدنيا وما فيها". قال النووي في شرح مسلم (¬5): أي خير من الدنيا ومتاعها. ¬

_ (¬1) في ن ب (عليهما وكونهما). (¬2) في ن ب (بينهما). (¬3) في ن ب زيادة (كان). انظر: شرح النووي لمسلم (6/ 5)، وقد مر بنا هذا المبحث. (¬4) الحاوي الكبير (2/ 362). (¬5) شرح مسلم (6/ 5)، وكلامه فيه: "أي من متاع الدنيا".

وقال غيره المراد بالدنيا حياتها وما فيها، متاعها لا ذاتها [وكأنه] (¬1) قال: خير من متاع الدنيا. وقال غيرهما: إنما قال: ذلك لأنه بشر أن حساب أمته يقدر بهما، فلهذا كانتا عنده خير من الدنيا وما فيها، لما يتذكر بها من عظم رحمة الله بأمته من ذلك الموقف العظيم. وقال بعض فضلاء المالكية في تفسير النووي السالف: نظر فإنه قد جاء في الحديث الآخر: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلَّا ذكر الله" (¬2) الحديث. وخير هنا أفعل تفضيل، وهو يقتضي المشاركة في الأصل وزيادة كما تقرر، ولا مشاركة بين فضيلة ركعتي الفجر ومتاع الدنيا المخبر عنه بأنه ملعون، ويبعد أن يحمل كلام الشارع على ما شذ من قولهم: العسل أحلى من الخل. إلَّا أن يقال: إن المعنى ما يحصل من نعيم ثواب ركعتي الفجر في الدار الآخرة خير مما يتنعم به في الدنيا فترجع (¬3) المفاضلة إلى ذات النعيم الحاصل بين الدارين، [لا] (¬4) إلى نفس ركعتي الفجر ومتاع الدنيا. ¬

_ (¬1) في ن ب (فكأنه). (¬2) أخرجه الترمذي (2323)، وابن ماجه (4112)، والبغوي في شرح السنة (14/ 230)، وله شاهد من حديث جابر عند أبي نعيم في الحلية (3/ 157، 7/ 90)، وصححه الضياء، وأيضًا من حديث ابن مسعود عند البزار. (¬3) في الأصل (ورفع)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة.

11 - باب الأذان

11 - باب الأذان أصله الإِعلام: قاله أهل اللغة. واشتقاقه: من الأَذَن بفتح الهمزة والذال وهو الاستماع. وهو في الشرع: ذكر مخصوص شرع في الأصل للإِعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، ونفتتح هذا الباب بمقدمات. أولها: الأذان كلمة جامعة لعقيدة الِإيمان مشتملة على نوعيه من العقليات والسمعيات. فأولها: إثبات الذات وما تستحقه من الكمال والتنزيه. ثم إثبات الوحدانية. ثم إثبات الرسالة والنبوة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم الدعاء إلى الصلاة، وجعلها عقب إثبات الرسالة، لأن معرفة وجودها من جهته لا من جهة العقل، ثم الدعاء إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء، ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإِعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإِيمان، نبّه على ذلك القاضي عياض، وهو من النفائس.

ولخّصه القرطبي في شرحه (¬1)، فقال: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، وذلك أنه - عليه السلام - بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله - تعالى - ووجوبه وكماله، ثم ثني بالتوحيد ثم ثلث برسالة رسوله، ثم ناداهم لما أراد من طاعاته، ثم ضمن ذلك بالفلاح وهو البقاء الدائم، فاشعر بأن ثَمَّ جزاء، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا. ثانيها: الأصل في مشروعية الأذان قصه عبد الله بن زيد أخرجها أبو داود والترمذي وغيرهما، وهي موضحة فيما خرجته من أحاديث الرافعي وأحاديث الوسيط فراجعها منهما. ثالثها: ذكر العلماء في حكمة الأذان أربعة أشياء: إظهار شعار الإِسلام، وكلمة التوحيد، والإِعلام بدخول وقت الصلاة، ومكانها، والدعاء إلى الجماعة (¬2). رابعها: المشهور عندنا أن الأذان والإِقامة سنته أي سنه [على] (¬3) كفاية، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقيل: فرض كفاية، وبه قال أحمد. وقال أهل الظاهر: إنه فرض على الأعيان. وقال بعضهم: إنه فرض مطلقًا على الجماعة سواء كانت الجماعة في حضر أو سفر. ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 756). (¬2) ذكرها في المفهم (2/ 746). (¬3) زيادة من ن ب.

وقال بعضهم: هو فرض السفر. واختار القاضي أبو الوليد من المالكية (¬1): أنه واجب على الكفاية في المساجد والجماعات الراتبة، وعلل الوجوب بإقامة الشعار وتعريف الأوقات. قال القاضي عياض: وهو ظاهر قول مالك في الموطأ (¬2). وروى الطبري عن مالك (¬3): إن ترك أهل [المصر] (¬4) الأذان عامدين أعادوا الصلاة. واختلف عند المالكية في المراد بالوجوب السالف، فقيل: معناه وجوب السنن المؤكدة. وقيل: على ظاهره من الوجوب على الكفاية، وتأول قول من قال: إنه سنة. أي ليس من شروط الصلاة لقولهم في ستر العورة وإزالة النجاسة قاله أبو عمر وفي وجه عندنا أنه سنة في غير الجمعة فرض كفاية فيها. وقال ابن المنذر (¬5): هو فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر. دون المنفرد، وأكثر أهل العلم على أن من صلى بلا أذان ولا إقامة في حضر أو سفر لا إعادة عليه. ¬

_ (¬1) انظر: المنتقى (1/ 136). (¬2) انظر: الموطأ (1/ 71). (¬3) انظر: الاستذكار (4/ 17). (¬4) في ن ب (مصر). (¬5) في الأوسط (3/ 24).

وقال عطاء ومجاهد (¬1): فيمن نسي الإِقامة أنه يعيد الصلاة. وقال الأوزاعي (¬2): من نسيها فإن كان الوقت واسعًا أعاد وإلَّا فلا. خامسها: ادعى ابن العربي في القبس (¬3) أنه - عليه السلام - أذن (¬4) وهذا لفظه: "أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام وصلى". فتعين الكل بفعله ثم سقط الوجوب في الأذان عن الفذ وفي ذلك غائلة، فراجعها من تخريجي لأحاديث الرافعي والوسيط وذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: عبد الرزاق (1/ 511)، وابن أبي شيبة (1/ 218). (¬2) الأوسط لابن المنذر (3/ 25). (¬3) (1/ 199). (¬4) الحديث أصله في الترمذي برقم (411) من رواية يعلى بن مرة الثقفي: (أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير فانتهوا إلى مضيق وحضرت الصلاة فمطروا السماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على راحته وأقام [أو أقام] فتقدم على راحته فصلى بهم يومئ إيماء، يجعل السجود أخفض من الركوع). والحديث أيضًا أخرجه أحمد (4/ 173، 174)، فقوله: "فأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس على ظاهره من أنه أذن بنفسه بل معناه أمر بالأذان". فرواية أحمد: "فأمر المؤذن فأذن وأقام"، وكذا في تاريخ الخطيب (11/ 182)، والدارقطني (ص 146)، فرواية الترمذي مختصرة يوضحها زيادة رواية أحمد للاستزادة. انظر: الفتح (2/ 79)، والحديث حسنه النووي كما في المجموع (3/ 106)، وضعفه البيهقي (2/ 7)، وابن العربي، كما نقل عهم ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 212). أقول: وكأن في صحيح أبي عوانة إثارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن (1/ 331).

الحديث الأول

الحديث الأول 66/ 1/ 11 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإِقامة" (¬1). [الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد تقدم في الاستطابة] (¬2). [ثانيها] (¬3): بلال هو ابن رباح بالموحدة، مولى الصديق، أمه: حمامة، سكن دمشق، وكان ممن عذب في الله، وهانت عليه نفسه، وهو أول من أذن في الإِسلام، مات سنه عشرين، وهو ابن بضع وستين على أحد الأقوال فيهما، وترجمته مبسوطة فيما أفردته في [الكلام على] (¬4) تراجم هذا الكتاب فراجعها منه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (605)، ومسلم (378)، والنسائي (2/ 3)، والدارمي (1/ 270)، والترمذي (193)، وأحمد (3/ 103، 189)، وأبو عوانة (1/ 328)، وأبو داود (508)، والبغوي (405)، وصححه ابن خزيمة (375)، والحاكم (1/ 198)، وواففه الذهبي. والبيهقي ((1/ 412). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (الثاني). (¬4) زيادة من ن ب.

ثالثها: قوله: "أُمر [بلال] (¬1) " هو بضم الهمزة وكسر الميم أي أمره بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء مصرحًا [به] (¬2) كذلك في النسائي (¬3) وصحيح أبي عوانة (¬4) وابن حبان (¬5) والحاكم (¬6) وزاد إنه على شرط الشيخين. ومثل هذا اللفظ من الصحابي يقتضي الرفع على الصحيح عند [المحدثين] (¬7) والأصوليين. وزعم بعضهم أن الآمر بذلك إنما هو أبو بكر وعمر (¬8)، وهذا [فاسد] (¬9). قال الخطابي (¬10): هذا تأويل فاسد؛ لأن بلال لحق بالشام بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف سعد القرظي على الأذان في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) النسائي (2/ 3). (¬4) أبو عوانة (1/ 326). (¬5) ابن حبان (3/ 92). (¬6) المستدرك للحاكم (1/ 198)، وقال: إنه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (¬7) في الأصل ون د (المحققين)، وما أثبت من ن ب. (¬8) في ن ب زيادة (وعلى). (¬9) في ن ب ساقطة. (¬10) في معالم السنن (1/ 274).

[رابعها] (¬1): "يشفع" بفتح أوله وثالثه معناه يأتي به مثنى، وهذا مجمع عليه اليوم، وحُكي في إفراده خلاف عن بعض السلف، وأسقط مالك (¬2) التكبير في أوله، وجعله مثنى، والترجيع ثابت في بعض نسخ مسلم من حديث أبي محذورة (¬3). وهو المشهور أيضًا في حديث عبد الله بن زيد. وقال أبو حنيفة: هو خمس عشرة بإسقاط الترجيع (¬4). وحكى الخرقي عن أحمد (¬5): أنه لا يرجع. ¬

_ (¬1) في ن ب (الرابع). (¬2) المدونة الكبرى (1/ 57). (¬3) مسلم (379)، ولكن فيه تثنية التكبير وهو في غير مسلم أربع مرات: الله أكبر. انظر: الأوسط لابن المنذر (3/ 14)، وسنن أبي داود معالم (1/ 273)، وابن ماجه (709)، وابن أبي شيبة (1/ 203). قال القاضي عياض -رحمه الله- ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 134): ووقع في بعض طرق الفارسي في صحيح مسلم أربع مرات. الترجيع: هو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت. (¬4) انظر: المبسوط (1/ 129)، وفتح القدير لابن الهمام (1/ 241). (¬5) انظر: المغني (2/ 56). فائدة: ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر أبا محذورة بذكر الشهادتين سرًا، ليحصل له الإِخلاص بهما، فإن الإِخلاص في الإِسرار بهما أبلغ من قوله إعلانًا للإِعلام، وخص أبا محذورة بذلك، لأنه لم يكن مقرًا بهما حينئذ، فإن في الخبر أنه كان مستهزئًا يحكي أذان مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوته، فدعاه، فأمره بالأذان، قال: ولا شيء عندي أبغض من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا مما يأمرني به، فقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - نطقه بالشهادتين سرًا =

واختار بعض أصحاب مالك الترجيع. وذهب البصريون إلى تربيع التكبير الأول، وتثنية الشهادتين والحيعلتين، فيشهد أولًا إلى حي على الفلاح نسقًا، ثم يرجع ثانيًا كذلك، وبه قال الحسن وابن سيرين (¬1). [خامسها] (¬2): قوله: "ويوتر الإِقامة" أي يأتي بها [على] (¬3) وتر، ولا يثنيها بخلاف الأذان وفي الصحيحين (¬4). "إلَّا الإِقامة"، فإنه يثنيها. والمراد: معظم الإِقامة وتر، وإلّاَ فلفظ التكبير [والإِقامة] (¬5) مثنى، وكذلك الأذان مثنى. المراد معظمه، وإلَّا فالتكبير في أوله أربعًا، ولا إله إلَّا الله في آخره مرة. وفي الإِقامة عندنا خمسة أقوال ذكرناها في كتب الفروع. وأصحها وهو مذهب أحمد أنها إحدى عشرة كلمة (¬6). ¬

_ = ليسلم بذلك، ولا يوجد هذا في غيره، ودليل هذا الاحتمال كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به بلالًا، ولا غيره ممن كان مسلمًا ثابت الإِسلام، والله أعلم. وقصة استهزاء أبي محذورة - رضي الله عنه - في الأذان أخرجها النسائي (2/ 50)، وابن ماجه (708). (¬1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (1/ 204). (¬2) في ن ب (الخامس). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) البخاري (604)، ومسلم (378)، وعبد الرزاق (1/ 464). (¬5) زيادة من ن ب. انظر: الأوسط لابن المنذر (3/ 13). (¬6) انظر: مسائل إسحاق (1/ 41)، ومسائل أبي داود (27)، والمغني (2/ 56).

ومشهور مذهب مالك أنها عشر بإفراد قوله: "قد قامت الصلاة" (¬1). وقال أبو حنيفة: الإِقامة سبع عشرة كلمة فثناها كلها (¬2). وروي ذلك في بعض روايات عبد الله بن زيد (¬3)، وهو مذهب شاذ، كما قاله النووي (¬4). وقال الخطابي (¬5): مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والشام ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإِسلام أن الإِقامة فرادى، وأن مذهب عامة العلماء أنه يكرر قوله: "قد قامت الصلاة" إلَّا مالكًا [فإن] (¬6) [المشهور] (¬7) عنه أنه لا يكررها. وأورد الشافعي على مالك سؤالًا لا جواب عنه، فقال له: إن كنت تحقق الإِفراد فاقتصر على التكبيرة الواحدة، ولا تعد إليها بعد الإِقامة. ¬

_ (¬1) المدونة الكبرى (1/ 58). (¬2) المبسوط (1/ 129). (¬3) قول: قد جاء من رواية أبي محذورة عبد أبي داود. انظر: معالم السنن (1/ 274). (¬4) انظر: شرح مسلم (4/ 78). (¬5) معالم السنن (1/ 272 - 279). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب (فالمشهور).

[نعم مالك] (¬1) [أيد] (¬2) مذهبه في ذلك [وغيره] (¬3) يعمل أهل المدينة ونقلهم، [وجعله أقوى] (¬4)، لأن طريقة النقل والعادة في مثله تقتضي شيوع العمل، [وأنه لو كان بغيره لعمل به] (¬5). وقد اختلف أصحاب مالك في أن إجماع المدينة حجة مطلقًا في مسائل الاجتهاد، أو يختص ذلك بما طريقه النقل [والأثار] (¬6): كالأذان، والإِقامة، والصاع، والمد، والأوقات، وعدم أخذ الزكوات. من الخضروات. [وقال] (¬7) بعض المتأخرين من [المالكية] (¬8): الصحيح التعميم. قال الشيخ تقي الدين: وما قاله غير صحيح عندنا جزمًا، ولا فرق في مسائل الاجتهاد بينهم وبين غيرهم من العلماء، إذ لم يقم دليل على عصمة بعض الأئمة، نعم طريقة النقل إذا علم اتصاله، وعدم تغيره، واقتضت العادة من صاحب الشرع -ولو بالتقدير عليه- فالاستدلال به قوي يرجع إلى أمر عادي. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. انظر: إحكام الأحكام (2/ 170) لاختلاف بعض العبارات. (¬2) في ن ب (وأيد مالك). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في إحكام الأحكام: وفعلهم في هذا أقوى. (¬5) في إحكام الأحكام: فإنه لو كان تغير لعلم وعمل به. (¬6) في إحكام الأحكام: الانتشار (2/ 171، 172). (¬7) في إحكام الأحكام: فقال. (¬8) في إحكام الأحكام: منهم.

سادسها: قد يستدل بهذا الحديث على وجوب الأذان من حيث أنه إذا أمر بالوصف لزم أن يكون [الأصل] (¬1) مأمورًا به، وظاهر الأمر الوجوب. وقد سلف الخلاف في ذلك في مقدمات أول الباب. سابعها: الحكمة في إفراد الإِقامة وتثنية الأذان، أن الأذان [لإِعلام] (¬2) الغائبين، فيكرر ليكون أبلغ في إعلامهم، والإِقامة للحاضرين فلا حاجة إلى تكرارها، ولهذا يكون صوته في الإِقامة دونه في الأذان، وإنما كرر لفظ الإِقامة خاصة؛ لأنه مقصود الإِقامة. خاتمة: يحترز من أغاليط المؤذنين في أشياء. أولها: مد الهمزة من أشهد فيخرج إلى الاستفهام. ثانيها: مد الباء من أكبر فينقلب المعنى إلى جمع كبر وهو الطبل. ثالثها: الوقف على إله ويبتدىء إلَّا الله فهو كفر. رابعها: إدغام الدال من محمد - صلى الله عليه وسلم - في الراء من رسول الله وهو لحن خفي عند القراء. خامسها: أن [النطق] (¬3) بالهاء من الصلاة فتركها يبقى دعاء إلى النار. ذكر هذه الخمسة صاحب الذخيرة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (أعلام). (¬3) في ن ب (ينطق).

سادسها: أن يبدل هاء الصلاة حاء زاد الماوردي. سابعها: وهو إخفاؤهم الشهادتين حتى لا تسمع، قال: وهو غلط؛ لأنه إخلال بالمقصود من الأذان الذي هو الإِسماع. قلت: وثامنًا: وهو أن يضم الراء في أكبر الأولى وإنما يفتحها ويسكن الثانية، وفي هذا غائلة ذكرتها في "شرحي المنهاج" فليراجع منه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 67/ 2/ 11 - عن أبي جحيفة- وهب بن عبد الله السوائي - رضي الله عنه - قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبة حمراء من آدم- قال: فخرج بلال بوضوء، فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حلة حمراء، كأني انظر إلى بياض ساقيه، فتوضأ، وأذّن بلال. فجعلت أتتبع فاه (¬1). ها هنا وها هنا، يقول -يمينًا وشمالًا-: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، ثم ركزت له عَنَزَةً، [فتقدم] (¬2). فصلى [الظهر ركعتين، ثم صلى العصر ركعتين ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى] (¬3) المدينه" (¬4). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، والمشهور في اسمه واسم أبيه ما ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (من). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) البخاري (187، 376، 495، 499، 501، 633، 634، 3553، 3566، 5786، 5959)، ومسلم (503)، وأبو داود (520)، والترمذي (197)، والمسند (4/ 307، 308)، والنسائي (2/ 12).

ذكره المصنف، وكان علي - رضي الله عنه - يسميه: وهب الخير، ووهب الله، له صحبة ورواية، روى خمسة وأربعين حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، نزل الكوفة وابتنى بها دارًا، قيل مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ الحلم، جعله علي - رضي الله عنه -[على] (¬1) بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، وكان إذا تعش لا يتغدى، وإذا تغدى لا يتعشى. قال أبو عمر: مات في [إمارة] (¬2) بشر بن مروان بالكوفة. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): مات سنة أربع وسبعين. والسُوَائي: بضم السين والمد- نسبة إلى سواءة بن عامر بن صعصعة كذا رأيته في الأنساب للسمعاني (¬4)، وكذا ذكره الشيخ تقي الدين في الشرح وغيره ووقع في "شرح ابن العطار" [أنها] (¬5) نسبة إلى بني سواه. ثانيها: "القبة": أصلها في البناء وشُبه الأديم وغيره به، والجمع: قبب، وقباب، وهي شيء يحمل من خشب مُقبًا وهو ضيق الرأس معروف ونعني [بالأدم] (¬6) المصبوغ بالحمرة. ¬

_ (¬1) في الأصل (في)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في الأصل (أيام)، وما أثبت من ن ب. (¬3) إحكام الأحكام (2/ 174). (¬4) انظر: اللباب (2/ 152). (¬5) في الأصل (أيضًا)، وما أثبت من ن ب. (¬6) في ن ب (الأيم).

وقوله: "حمراء" [وصفها] (¬1) بذلك، وهو من باب وصف الشيء بما ظهر [ورُئِيَ] (¬2). وهو أحسنه. ثالثها: "الأدم": الجلد جمع أديم وأدمه، وهو جمع نادر، وربما سُمِّي وجه الأرض: أديمًا. رابعها: "الوضوء": هنا بفتح الواو لا غير، وقد تقدم ذلك، قال الشيخ تقي الدين: أطلقه على الماء المعد للاستعمال، لأنه لم يستعمله بعد، لقوله بعد ذلك: "فتوضأ فأذن بلال" وفي هذا شيء ستعرفه بعد، وقد قدمنا فيما مضى عن الشيخ تقي الدين: أنه قال الأقرب إلى الحقيقة، أن الوضوء بالفتح هو الماء بقيد كونه مستعملًا في أعضاء الوضوء، فهنا صرفه [عن] (¬3). الحقيقة لأجل المذكور بعد. خامسها: قوله: "فخرج بلال" أي من القبة "بوضوء" أي بفضل الماء الذي توضأ به [عليه السلام] (¬4). وفي البخاري (¬5) "أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" قيل: ولا ينبغي ¬

_ (¬1) في ن ب (وصلها). (¬2) في ن ب (وروى). (¬3) في ن ب (إلى). (¬4) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬5) البخاري (376)، ومسلم (1616)، وأبو داود (2886)، وابن ماجه (2728)، والترمذي (2097)، والبغوي (2219)، والطيالسي (1719)، والبيهقي (1/ 235)، والدارمي (1/ 187)، وأحمد (3/ 298)، والحميدي (1229)، وابن خزيمة (106)، والحاكم (2/ 303).

أن يحمل ذلك على الساقط من أعضائه [عليه السلام] (¬1). لأنه ليس من عادته أن يتوضأ في إناء يسقط [فيه] (¬2) الماء المنفصل عن الأعضاء ويجمع ذلك في إناء بل كان يتوضأ على الأرض. قلت: حديث جابر بن عبد الله قال: "جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، وصب من وضوئه عليَّ" أخرجه البخاري (¬3) ومسلم وفي حديث صلح الحديبية (¬4) من رواية المسور ومروان: "ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة يومئذ إلَّا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه" رواه البخاري بطوله يدل بظاهره على التوضُىءِ في الإِناء فلِمَ لا يحمل [عليه]؟ (¬5). سادسها: النضح: الرش كما تقدم مبسوطًا في باب المذي وغيره. سابعها: قوله: "فمن ناضح ونائل" فيه إضمار تقديره: فتوضأ، فمن الناس من ينال من وضوئه شيئًا، ومنهم من ينضح عليه غيره شيئًا مما ناله، ويرش عليه بللًا مما حصل له تبركًا بآثاره - صلى الله عليه وسلم -، وكلاهما قد ورد مبينًا في الصحيح. ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) البخاري (194). (¬4) البخاري (4180)، وكلمة (يومئذ) ساقطة من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب.

ففي رواية، "ورأيت بلالًا أخرى وضوءًا فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء فمن أصاب منه شيئًا يمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه"، ففيه التبرك (¬1) بآثار الصالحين والتماس خيرهم وبركتهم. وفيه شدة تعظيم أصحابه له وإجلالهم لمكانه [وعظيم] (¬2) حقه وعظم الحرص على نيل بركته، وكانوا عنده كأنما على رؤوسهم الطير إذا تكلم أنصتوا، وإذا تنخم أو توضأ بادروا كما سلف قريبًا، وذلك بعض ما يجب من إعظامه وإجلاله، وكيف لا! وقد أنقذهم من النار، وأبعدهم عن دار البوار، وما أحسن قول القائل: ولو قيل لمجنون ليلى ووصلها ... تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبار من تراب نعالها ... أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها ثامنها: "الحلة": ثوبان [غير ملفقين] (¬3) إزار ورداء. وسميا بذلك لأن كل واحد يحل على الآخر. قال أهل اللغة: ولا يقال: حلة لثوب واحد. قال البطليوسي (¬4): إلَّا أن يكون له بطانة. ¬

_ (¬1) انظر الجزء الأول من هذا الكتاب، وللاستزادة. انظر: تيسير العزيز الحميد (153). (¬2) في ن ب (وعظم). (¬3) في الأصل (عراقيين)، وفي ن ب (غير لفقين)، والتصحيح من المصباح المنير (1/ 148). الحلة: بالضم لا تكون إلَّا ثوبين من جنس واحد. (¬4) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السَّيد البطليوسي المتوفى سنة =

وقال بعضهم: لا يقال له حلة حتى تكون جديدة يحلها عن طيها (¬1). وفي سنن البيهقي في الجنائز: "الحلة ثوبان أحمران غالبًا" (¬2) وظاهر هذا الحديث يشهد له، لكن لم أر من أهل اللغة [من قيدهما] (¬3) بالحمر. وقال أبو عبيد (¬4): الحلل برود اليمن. والدليل على أن الحلة لا تكون إلَّا ثوبان ما ثبت في الحديث أنه [عليه السلام] (¬5) رأى رجلًا عليه حلة إئتزر بإحداهما وارتدى بالأخرى. [تاسعها] (¬6): قوله: "كأني انظر إلى بياض ساقية" إن قلت من صفاته: إنه ليس بالأبيض الأبهق فإذا نفى عنه البياض، فكيف يوصف به؟! ¬

_ = (521)، له مؤلفات مها: "كتاب المثلث"، و"شرح الفصيح"، و"كتاب الفرق بين الحروف الخمسة". ترجمته في قلائد العقيان (192) الفتح بن خاقان مطبعة بولاق القاهرة 1284 هـ. التكملة لابن الأبار (2/ 228)، تحقيق: عزة العطار، مطبعة العادة القاهرة 1956 م. (¬1) غريب الحديث للخطابي (1/ 498). (¬2) البيهقي (3/ 403)، قال صاحب الجوهر التقي ابن التركماني -رحمنا الله وإياه-: قلت: ما رأيت أحدًا من أهل اللغة قيدهما بالحمرة. اهـ. (¬3) في الأصل (تقييدهما)، وما أثبت من ن ب. (¬4) النهاية لابن الأثير (1/ 432). (¬5) في ن ب (عيه الصلاة والسلام). (¬6) في ن ب تغير بالأرقام ثالثها إلى آخر الأوجه.

الجواب: أنه ليس [المنفي] (¬1) عنه مطلق البياض، فإنما نُفيَ عنه البياض المقيد بالمهق. [والأمهق] (¬2): هو الشديد البياض، لا يخالطه شيء من الحمرة، وليس بنير، ولكن كون الجص ونحوه. كذا ذكره أهل اللغة، وفي رواية الحاكم (¬3) في مستدركه: "كأني انظر إلى [بريق] (¬4) ساقيه". [عاشرها]: فيه دليل على تقصير الثياب، وهو أحد ما قيل في تفسير قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} (¬5) فيكون من باب تسمية الشيء بلازمه إذ يلزم من تقصيرها تطهيرها، وقد جاء [أنه] (¬6) أنقى وأتقى (¬7). الحادى عشر: فيه دليل على أن الساق ليس بعورة، وهو ¬

_ (¬1) في ن ب (نفي). (¬2) في ن ب (وإلَّا فهو). (¬3) الحاكم (1/ 202). أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الشيخ، ولفظه: عن أبي جحيفة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر بالأبطح، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء. كأني انظر إلى بياض ساقيه من ورائه (101). اهـ. وانظر ت (15). (¬4) في الأصل بياض، وما أثبت من ن ب والحاكم. (¬5) سورة المدثر: آية 4. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وصيته للشاب الذي زاره في مرض موته.

إجماع من الرجل؛ لكن إن نظر [إليهما] (¬1) بشهوة فهو حرام إجماعًا كسائر ما ينظر إليه من المحرمات. الثاني عشر: قوله: "فتوضأ، وأذَّن بلال" في ظاهره إشكال وذلك أنه قد تقدم قوله: "فخرج بلال بوضوء" وقد قالوا: إن الوضوء ها هنا فضلة ماء وضوئه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك ابتدره الصحابة [وازدحموا] (¬2) عليه تبركًا به كما تقدم، وقد جاء مبينًا في الرواية الأخرى، "فرأيت الناس يأخذون من فضل وضوئه"، فكيف يقال بعد هذا فتوضأ؟! وقد أجاب القاضي (¬3) عن هذا الإِشكال: بأن فيه تقديمًا وتأخيرًا. التقدير: فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج بلال بوضوءه وليس بظاهر لأن التقديم والتأخير وإن كان خلاف الأصل لا يكون مع التكرار جزمًا. قيل: وأقرب ما [يقال] (¬4) في ذلك والله أعلم: أن الوضوء الذي خرج به بلال يجوز أن يكون به فضلة وضوء له متقدم، ثم لما خرج توضأ لهذه الصلاة التي أذن لها بلال، قال قائل: هذا، وهذا أقل تكلفًا مما تقدم، إذ لا يلزم أن يكون الوضوء الذي خرج به بلال لهذه الصلاة ولا بد، ويحتمل أن يكون لها لكن عرض ¬

_ (¬1) في ن ب (إليها). (¬2) في ن ب (وارتحوا). (¬3) إكمال إكمال المعلم (2/ 218). (¬4) في ن ب (يكون).

[له] (¬1) [عليه السلام] (¬2) بعد وضوئه ما أوجب إعادة الوضوء إما وجوبًا لحدث أو [اختار التجديد] (¬3) وهذا ليس بقوي عندي، والظاهر أن قوله "فتوضأ" أي فتوضأ بلال لأجل الأذان ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ولا إلى التكلف السابق والله أعلم. ويبعد حمل الوضوء الأول على اللغوي، وهو إدخال اليد في الإِناء. الثالث عشر: قوله: "فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا" معناه أتتبع فاه في حال التفاته يمينًا وشمالًا يقول: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح". [وهنا] (¬4): ظرف مكان، ويتصل بآخرها حرف الخطاب، فيقال: "هناك" زيدت عليه [هاء] (¬5) التنبيه كزيادتها على اسم الإِشارة نحو "هذا". وهنا: مبنيّ لتضمنه معنى حرف الإِشارة تقديرًا، إذ لا وجود له لفظًا. [و] (¬6) فيها ثلاث لغات: ضم الهاء، وتخفيف النون كما هو في الحديث، وفتح الهاء ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه). (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬3) في ن ب (اختيارًا كتجديد). (¬4) في ن ب (وها هنا). (¬5) الزيادة من ن ب. (¬6) الزيادة من ن ب.

مع تشديد النون وكسرها مع ذلك، وهو أقلها ومثلها من ظروف المكان المشار بها، ثم بفتح الهاء [لكنها] (¬1) لا يشار بها إلَّا لما بعد من الأمكنة بخلاف [هنا] (¬2) فإنها لما قرب خاصة. الرابع عشر: قوله: "يمينًا وشمالًا" هما بدل من قوله "ها هنا وها هنا" ويجوز أن يكون منصوبين بإضمار أعني، مفعولين على التبعية. الخامس عشر: فيه دليل على جواز استدارة المؤذن للإِسماع عند الدعاء إلى الصلاة، وهو وقت التلفظ بالحيعلتين. وقوله: "يقول حي على الصلاة، حي على الفلاح" يبين وقت الاستدارة وأنه وقت الحيعلتين، كذا ذكره الشيخ تقي الدين (¬3)، لكن ظاهر الحديث استدارة الرأس والعنق فقط لا استدارة جميع البدن، ويؤيده رواية (¬4) أبي داود بعد ذلك: "ولم يستدر" وفي النسائي (¬5): "ينحرف يمينًا وشمالًا" وفي صحيح ابن خزيمة (¬6) "فيتبع ¬

_ (¬1) في ن ب (لكنه). (¬2) في ن ب (ها هنا). (¬3) إحكام الأحكام (2/ 176) مع الحاشية. (¬4) أبو داود (516)، والجمع بين الاستدارة وعدمها: فمن أثبت الاستدارة عني استدارة الرأس، ومن نفى عني استدارة الجسد. (¬5) النسائي (2/ 12). (¬6) ابن خزيمة (1/ 202)، وقد أشار الحافظ في الفتح (2/ 114) إلى رواية ابن خزيمة.

بفيه ووصف سفيان [يميل] (¬1) برأسه يمينًا وشمالًا" نعم في ابن ماجه (¬2) "فاستدار في أذانه" وفيها حجاج بن أرطأة وفي مسند الدارمي (¬3): "فرأيته يدور في أذانه". وفي صحيح الحاكم (¬4): "رأيت بلال يؤذن، ويدور، ويتبع فاه ها هنا وها هنا" ثم قال الحاكم: لم يذكر البخاري ومسلم الاستدارة في الأذان، وهو سنته مسنونة صحيحة على شرطهما. وأما البيهقي (¬5) فإنه لم يصحح رواية الاستدارة، كما ذكرت كلامه بطوله في تخريجي لأحاديث الرافعي، وليس هذا موضع ذكره فراجعه منه. وقد جوز مالك [دورانه] (¬6) [للاسماع] (¬7) مطلقًا فيما يظهر من ¬

_ (¬1) في ن ب (لميل). (¬2) ابن ماجه (1/ 236)، وفيه الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف. (¬3) الدارمي (1/ 272)، قال عبد الله: حديث الثوري أصح، ولم يذكر فيه الاستدارة. (¬4) الحاكم (1/ 202)، قال الذهبي: أخرجا منه، وقد أشار الحاكم إلى ما تركاه من الحديث وهو الاستدارة، وقد أخرى أبو عوانة في صحيحه من رواية عبد الرحمن بن مهدى عن سفيان: "رأيت بلال أذن فجعل يتبع بفيه يمينًا وشمالًا". وفي رواية أخرى في صحيحه: "فرأيته استدار في أذانه". وفي رواية: "فجعل يتبع فاه ها هنا وها هنا" ... إلخ (1/ 322). وقد أشار الحافظ في الفتح إلى الرواية الأولى (2/ 114). وانظر: إرواء الغليل (1/ 251) فقد صححه. (¬5) البيهقي (1/ 395)، والبخاري (495)، ومسلم (503). (¬6) في ن ب (رواية). (¬7) في ن ب (الإِسماع).

كلام القاضي عياض (¬1)، قال: ويكون مستقبل بقدميه وهو اختيار الشافعي أي: وإنما يلوي رأسه وعنقه وفي البلد الكبير وجه عندنا في جواز الاستدارة. حكاه الماوردي (¬2). واختلف في كيفية التفاته على مذاهب، وهي أوجه لأصحابنا: أصحها: أنه يلتفت في الحيعلتين الأولى: يمينًا، والثانية: شمالًا. والثاني: يقسمان للجهتين: والثالث: يلتفت يمينًا [فيحيعل] (¬3) [ثم يلتفت فيحيعل] (¬4)، ثم يستقبل، ثم يلتفت فيحيعل، وكذلك الشمال. قال الشيخ تقي الدين: والأقرب إلى لفظ الحديث [هو] (¬5) الأول. قلت: وهو محتمل للوجه الثاني والثالث أيضًا فليتأمل. السادس عشر: قوله: "حى على الصلاة، حى على الفلاح" معناه تعالوا إلى الصلاة تعالوا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء الدائم، يقال: حي على كذا، أي: هلمّ وأقبل، ويقال: حي علا وحي هلا وحي هلا وحي على كذا وحي إلى كذا [وحي] (¬6) [هل] (¬7) منصوبة ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 218). (¬2) الحاوي الكبير (2/ 56). (¬3) في ن ب (ويحيعل). (¬4) في الأصل ساقطة. (¬5) زيادة: من إحكام الأحكام (2/ 177). (¬6) في ن ب (وحيل). (¬7) في ن ب ساقطة.

مخففة مشبة بخمسة عشر وحي [هل] (¬1) بالسكون لكثرة الحركات وتشبيهًا بصه ومه [وحي هل] (¬2) بسكون الهاء [وحي هَلَن وحي هلن] (¬3). وذكر الزمخشري (¬4) لغة أخرى وهي [حَيَهَلاَ] (¬5) بتخفيف الياء. وقد نظم ابن مالك معظم لغاته في بيتٍ (¬6). فقال: حيَّهلُ حيهلَ احفظ ثم حيهلاَ ... أو نون أو حيهل ثم قل حي علا وهي كلمة استعجال مولدة ليست من كلام العرب، لأنه ليس في كلامهم كلمة واحدة فيها حاء وعين مهملتان. وقيل: معنى حي هلم، وهلا: حثيثًا (¬7). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (حيهل). (¬3) في ن ب (حيهَلَن حيهلنْ). (¬4) في الفائق (1/ 342)، قال: فيها لغات "حَيَّهَلَ" بفتح اللام، "وحَيهَلاَ"، بألف مزيدة، قال: بِحَيَّهَلاَ يُزْجُونَ كُلَّ مَطِيَّةٍ ... أَمَامَ الْمَطَايَا سَيْرُهَا المُتَقَاذِفُ "وَحَيَّهَلًا" بالتنوين للتنكير، "وحَيَهَلاَ " بتخفيف الياء، "وَحَيَّهْلَ" بالتشديد وإسكان الهاء، وعُلِّلَ باستثقال توالي الحركات واستدرك ذلك، وقيل: الصواب: حَيَهْلَ بتخفيف الياء وسكون الهاء، وأن هذا التعليل إنما يصح فيه لا في المشدد. اهـ. (¬5) في ن ب (حيعلا). (¬6) انظر: المطلع على أبواب المقنع (ص 51). (¬7) انظر: تهذيب اللغة (5/ 282)، وغريب الحديث للخطابي (1/ 438)، والنهاية (1/ 472).

وقيل: هلا أسرع [جعلا] (¬1) كلمة واحدة. وقيل: هلا أسكن. وحي: أسرع. وقيل: حي أعجل أعجلا، وهلا: صلة. السابع عشر: قوله: "ثم ركزت له عنزة" أي أثبتت له في الأرض. يقال: ركزت الشيء، أركزه بضم الكاف في المستقبل ركزا وأثبته، وتقدم بيان العنزة في الاستطابة، وأن المصنف، قال: إنها الحربة. وذكر مقالة غيره فيها أيضًا. وقال المحب الطبري في "أحكامه": في باب: استحباب السترة. العنزة: مثل نصف الرمح، والعكازة قريب منها، قال: والظاهر أن هذه العنزة هي التي قتل بها الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص يوم بدر، فإن في البخاري (¬2) من حديث عروة به الزبير عن أبيه أنه "لما قتله بها سأله إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه [فلما] (¬3) قبض أخذها، [ثم طلبها أبو بكر فأعطاه، فلما قبض أخذها، ثم سأله إياها عمر فأعطاه، فلما قبض أخذها] (¬4)، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل". ¬

_ (¬1) في ن ب (جهلا). (¬2) البخاري (3998). انظر: ح (17/ 4/ 2) الوجه الخامس الجزء الأول. (¬3) انظر البخاري (3998)، وسيرة ابن هشام (2/ 356). (¬4) في ن ب ساقطة.

الثامن عشر: [قوله] (¬1): "ثم لم يؤل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة" [يريد أن اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فلم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة] (¬2) وقد جاء مصرحًا بذلك في رواية أُخرى في الصحيح وأنه أتاه "بمكة وهو بالأبطح في قبة حمراء من أدم" وفيها فائدة زائدة رافعة لإِيهام أن يكون اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وصوله إلى مكة في رواية الكتاب، فيشكل قوله: "فلم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة من حيث إن السفر يكون له نهاية يوصل إليها قبل الرجوع، وذلك مانع من القصر عند بعضهم، فإذا تبين أن الاجتماع كان بمكة علم نهاية السفر وابتداء قصر الظهر، وأنه من ابتداء رجوعه من مكة إلى وصوله إلى المدينة. نبه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬3). التاسع عشر: "المدينة": مشتقة من دان إذا أطاع. وقيل: من مدن بالمكان إذا أقام به و [قد قدمنا في باب الجنابة] (¬4) أن لها أسماء كثيرة فوق العشرين وأحلنا [على] (¬5) مراجعتها [من] (¬6) كتابي المسمى بالإِشارات إلى ما وقع في المنهاج ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (2/ 178). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في الأصل (وفي)، وفي ن ب (ولعله في).

من الأسماء والمعاني واللغات (¬1). العشرون: في الإِشارة إلى ما حضرنا من فوائده. الأولى: إتيان [أهل القدوة وأهل الفضل] (¬2) إلى أماكنهم في السفر والحضر [] (¬3) وذكر منازلهم. الثانية: خدمتهم بإحضار الوضوء ونحوه. الثالثة: استعمال فضل طهورهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم والتبرك بأثارهم كما سلف. الرابعة: الازدحام على فعل الخير ما لم يكن فيه أذى. الخامسة: جواز لبس الأحمر من الحلة الحمراء وغيرها (¬4) ¬

_ (¬1) هو مختصر لكتابه "نهاية المحتاج إلى ما يدرك على المنهاج" مخطوط. انظر: مقدمة "تحفة المحتاج" (ص 68)، تحقيق: د. اللحياني. (¬2) في ن ب تقديم وتأخير. (¬3) في ن ب (للتبرك بهم والاقتباس منم)، وحكاية حالهم "سبق أن ذكرنا النهي عن التبرك بآثار الصالحين سواء كانوا أحياء أم أمواتًا" للاستزادة راجع تيسير العزيز الحميد (ص 153)، والجزء الأول من هذا الكتاب. (¬4) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (10/ 305) في باب الثوب الأحمر: وقد تخلص لا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر. سبعة أقوال: القول الأول: الجواز مطلقًا. القول الثاني: المنع مطلقًا لحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المفدم -بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع بالعصفر-" فسره بالحديث، وعن عمر أنه كان إذا رأى على =

وحديث: "إياكم والحمرة! فإنها أحب الزينة إلى الشيطان" باطل، ¬

_ = الرجل ثوبًا معصفرًا جذبه، وقال: دعوا هذا للنساء. أخرجه الطبري وبالحديث المذكور. القول الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفًا. وحجتهم حديث ابن عمر في القول الأول. القول الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقًا لقصد الزينة والشهرة ويجوز في البيوت والمهنة. القول الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما كان بعد النسج مستدلين بأن الحلة التي لبسها إحدى حلل السنن وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يصبغ غزلها ثم ينسج. القول السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالمعصفر لورود النهي، ولا يمنع ما صبغ بغيره من الأصباغ، ويعكر عليه حديث المغيرة. القول السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من البياض أو سواد وغيرها فلا، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء، فإن الحلل اليمانية غالبًا تكون ذات خطرط حمر وغيرها. بعد أن ذكر هذه الأقوال، قال: والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في المنبرة الحمراء. "وفصل فقال: إن كان لمصلحة دنيوية فالنهي نهي إرشاد، وإن كان النهي عنها من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية لكن ذلك كان شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر يختص بشعارهم زال ذلك المعنى فتزول الكراهة، والله أعلم". وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته، وإنه كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك.

وإسناده مضطرب منقطع، كما نبّه عليه الجوزقاني في "موضوعاته" (¬1): وقال الخطابي: عقب حديث أنه عليه السلام: "كان يلبس حلة حمراء" (¬2) [قال الشيخ: قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس المعصفر، وكره لهم] (¬3) الحمرة [للرجال] (¬4) في اللباس، وهو منصرف إلى [ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما] (¬5) صبغ غزله ثم نسج فغير داخل في النهي. والحلل إنما هي برود اليمن: حمر وصفر وخضر وما بين ذلك من الألوان، وهي لا تصبغ [إلَّا] (¬6) بعد النسج [وإنما] (¬7) يصبغ الغزل ثم يتخذ منه الحلل، وهي [العصبة] (¬8) ¬

_ (¬1) كتاب الأباطيل للجوزقاني (648). قال ابن حجر في الفتح (10/ 306): فالحديث ضعيف، وبالغ الجوزقاني فقال: إنه باطل. (¬2) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الشيخ (100)، وأبو داود مختصر (3913)، وأخرجه البخاري (5848)، ومسلم والترمذي والنسائي بمعناه. قال ابن حجر في الفتح (10/ 305)، عن حديث عامر وفيه: "وعليه برد أحمر" إسناده حسن. وقد أخرجه أبو داود (3914). (¬3) زيادة من ن ب، ومن معالم السنن (6/ 43). (¬4) للرجال: في المعالم ساقطة. (¬5) العبارة في الأصل: فذكر - صلى الله عليه وسلم - الحمرة ... إلخ. والتصحيح من معالم السنن للخطابي (6/ 43). (¬6) في ن ب ساقطة (وفي المعالم). (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) في المعالم (لكن)، وفي المعالم (العَصْب).

وإنما سمي عصبًا، لأن غزله [يصبغ ثم يعصب] (¬1) ثم ينسج. وقال الأستاذ أبو القاسم (¬2) قوام السنة إسماعيل الحافظ: إنما لبسه ونهى غيره عنه لمعنى هو مأمون منه. وسأل أبو بكر المروذي (¬3) الإِمام أحمد عن المرأة تلبس المصبوغ الأحمر فكرهه كراهة شديدة. [وقال] (¬4): إما أن تريد الزينة فلا. وقال: يقال: إن أول من لبس الثياب الحمر آل قارون [و] (¬5) آل فرعون، ثم قرأ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (¬6) قال: في ثياب حمر (¬7)، يروى بأسانيد في النهي عن لبس الأحمر. قال المروذي: سمعت غير واحد من أصحابنا يقول ¬

_ (¬1) في المعالم (يعصب ثم يصبغ). (¬2) هو أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي بن أحمد بن طاهر القرشي التميمي، مولده في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، ومات يوم النحر سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، له مؤلفات منها: "الترغيب والترهيب" المنتظم. (¬3) أبو بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي نزيل بغداد وصاحب الإِمام أحمد وكان والده خوارزميًا، وأمه مروذية. ولد في حدود المئتين، توفي أبو بكر في جمادى الأولى سنة خمس وسبعين ومئتين. ترجمته في: سير أعلام النبلاء (13/ 173)، وتاريخ بغداد (4/ 423). انظر: الآداب الشرعية (3/ 515) للاطلاع على ما ذكر هنا. (¬4) غير موجودة في الآداب. (¬5) في الآداب الشرعية: "أو" (3/ 515). (¬6) سورة القصص: آية 79. (¬7) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 515).

حدثنا (¬1) إسحاق بن منصور السلولي عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عمر، قال: "مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يرد عليه" (¬2). قال المروذي: ورأى أبو عبد الله بطانة جبتي حمراء. فقال: لم صبغتها حمراء؟ فقلت: للرقاع التي فيها. قال: وإيش تبالي أن يكون فيها رقاع؟ قلت: تكرهه؟ قال: نعم. قال المروذي: وأمرني يعني أبا عبد الله أن أشتري له تكة، فقال: لا تكون فيها حمرة. قلت: تكرهه. ¬

_ (¬1) في الأصل (ثناؤه)، وما أثبت من ن ب. (¬2) قال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه. ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنهم كرهوا لبس المعصفر ورأوا أن ما صبغ بالحمرة بالمدر، أو غير ذلك فلا بأس به إذا لم يكن معصفرًا. اهـ. سنن الترمذي (2807). قال في مختصر أبي داود (6/ 41) للمنذري في إسناده: أبو يحيى القتات، وكذا في الفتح (10/ 306)، وقال في مختصر أبي داود: تعليق (6/ 41)، وعون المعبود (11/ 120)، وقال الحافظ في الفتح: هو حديث ضعيف الإِسناد، وإن وقع في نسخ الترمذي أنه حسن.

قال: نعم. قال: وأمرني أن أشتري [له] (¬1) مدادًا، قال: لا يكون فيه حمرة ثم قال: هو شيء يصبغ به، إنما هو طاهر، وإنما كرهته من أجل هذا قلت لأبي عبد الله: الثوب الأحمر يغطي به الجنازة، فكرهه. قلت: ترى أن [أجذبه] (¬2)؟ قال: نعم. وقال النووي في شرح [المهذب] (¬3): يجوز لبس الثوب الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر والمخطط وغيرها من ألوان الثياب: قال ولا خلاف في هذا ولا كراهة. قال الشافعي والأصحاب: وأفضلها البيض. السادسة: جواز النظر إلى ساقي الرجل الصالح للاقتداء به في حاله ولباسه. السابعة: [أن] (¬4) الساق ليس بعورة كما تقدم. الثامنة: تقصير الثياب أيضًا كما تقدم أيضًا. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في الأصل ون د "احذره"، وفي ن ب (أحرمه)، وما أثبت من الآداب الشرعية. (¬3) في ن ب (مسلم). انظر: المجموع شرح المهذب (4/ 452). (¬4) ساقطة من ن ب.

التاسعة: شرعية الأذان في السفر، قال الشافعي: ولا أكره من تركه في السفر ما أكره من تركه في الحضر، لأن أمر المسافر مبني على التخفيف. العاشرة: الاستدارة في الأذان وقد تقدم ما فيه. الحادية عشرة: استحباب وضع السترة بين يدي المصلي عند خوف المرور وسيأتي بيانه في بابه. [الثانية عشرة] (¬1): أن المرور [من] (¬2) وراء السترة غير ضار. الثالثة عشرة: الاكتفاء في السترة مثل غلظ العنزة، وهو أقل السترة عند مالك، وعند الشافعي يكفي الغليظ وغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يجزي من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو بدقة شحرة" (¬3)، وقوله - عليه السلام -: "استتروا في صلاتكم ولو بسهم" (¬4) [رواهما] (¬5) الحاكم، وقال في كل منهما: صحيح على شرط مسلم. [وحديث النهي عن الصلاة إلى عود باطل، كما قاله الجوزقاني في موضوعاته] (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل (الثالث عشرة). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) الحاكم (1/ 252). قال الذهبي: على شرطهما وليس عندهما آخره، أي: "ولو بدقة شعرة". (¬4) الحاكم (1/ 252). قال الذهبي: على شرط -هكذا قال-. (¬5) في ن ب (رواها). (¬6) زيادة من ن ب. انظر: الأباطيل والمناكير (2/ 38)، والعلل لابن الجوزي (1/ 416).

الرابعة عشرة: استصحاب العنزة للصلاة ونحوها في السفر. الخامسة عشرة: جواز الاستعانة للإِمام بمن يركزها له ونحو ذلك. السادسة عشرة: أن الأفضل قصر الصلاة في السفر، وإن كان بقرب بلد ما لم ينو إقامة أربعة أيام أما كونه دليلًا على وجوب القصر فلا إلَّا على [قول] (¬1) من يقول: إن أفعاله [عليه السلام] (¬2) على الوجوب، وليس بمختار عند الأصوليين، وسيأتي الكلام على [ذلك] (¬3) في بابه إن شاء الله [تعالى] (¬4) [ذلك] (¬5) وقدره. السابعة عشرة: أن للمسافر القصر إلى وصوله إلى بلده. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬3) في ن ب (هذا). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) في ن ب ساقطة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 68/ 3/ 11 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى [تسمعوا] (¬1) أذان ابن أم مكتوم" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وبما وقع فيه من الأسماء أما ابن عمر وبلال فتقدما وأما ابن أم مكتوم فالأكثرون على أن اسمه [عمر] (¬3) بن قيس، وقيل: كان اسمه الحصين، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله. أمه: عاتكة بنت عبد الله كان قديم الإِسلام بمكة وهاجر إلى المدينة [و] (¬4) قدمها بعد بدر بيسير، قاله الواقدي. ¬

_ (¬1) الذي في متن العمدة (يؤذن ابن أم مكتوم)، وما أثبت يوافق ما في إحكام الأحكام. (¬2) البخاري (617، 620، 623، 1918، 2656، 7248)، ومسلم (1092)، والترمذي (203)، وأحمد (2/ 9، 57، 73، 79، 107، 123)، والدارمي (1/ 270)، والنسائي (2/ 10). (¬3) في ن ب (عمرو). (¬4) في الأصل ساقطة.

وقيل: قدمها مع مصعب بن عمير قبل قدومه [عليه السلام] (¬1) حكاه أبو عمر، وكان يؤذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بلال، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة، كما جزم به أبو عمر، شهد فتح القادسية ومعه راية سوداء، وعليه درع، وقتل شهيدًا بها. وقال الواقدي: رجع منها إلى المدينة فمات ولم يسمع له بذكر بعد عمر بن الخطاب. قلت: وكان رجلًا أعمى، ذهب بصره بعد بدر بسنتين (¬2)، وذكر أبو القاسم البغوي: أنه - عليه السلام - استعمله يوم الخندق. ثانيها: في الحديث ما كان [عليه السلام] (¬3) من المحافظة على أمر ربه -سبحانه وتعالى- في بيان الشرائع والأحكام دقها وجلها؛ فإن الله جعل البيان إليه فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬4). ثالثها: فيه جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر الصادق في الصوم وغيره، وهو حجة على أبي حنيفة والثوري (¬5) من أنه ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬2) قال ابن باز -غفر الله لنا وله- في تعليقه على الفتح (2/ 100): هذا فيه نظر، لأن ظاهر القرآن يدل على أنه عمي قبل الهجرة، لأن سورة عبس النازلة فيه مكية. وقد وصفه الله فيها بأنه أعمى، فتنبه. (¬3) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬4) سورة النحل: آية 44. (¬5) حيث منعوا الأذان قبل دخول الوقت وذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور واستدلوا بهذا الحديث واحتج المانعون بحديث ابن عمر إن =

لا يؤذن لها إلَّا بعد طلوع الفجر، ومن جهة المعنى إنباه النائم وتأهبه لإِدراك فضيلة أول الوقت، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى في حديث ابن مسعود: "لا يمنعن [أحدكم] (¬1) أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي [بليل] (¬2) ليرجع قائمكم [ولينبه] (¬3) نائمكم" (¬4). وفي "شرح التنبيه" لابن الحلي عن أحمد: أنه كره الأذان للصبح قبل الوقت في رمضان خاصة. قال صاحب "الإِقليد": وتقديمه على سبيل الاستحباب لا على سبيل الجواز، كما أطلقه الأكثرون وذلك في عبارة الشافعي. [رابعها] (¬5): فيه وجوب البيان عند الاشتباه، فإنه لما كان الأكل والشرب جائز إلى طلوع الفجر الثاني للصائم، والأذان في ¬

_ = بلالًا أذن في الفجر فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع فينادي الآ إن العبد نام فرجع فنادى"، رواه أبو داود في سننه وصحح وقفه على ابن عمر في أذان مؤذن له يقال له مسعود؛ وأجاب الجمهور بضعفه. ضعفه الشافعي وعلي بن المديني والذهبي وغيره. وعارضه على تقدير صحته ما هو أصح منه. قال البيهقي: والأحاديث الصحاح مع فعل أهل الحرمين أولى بالصواب. انظر: الفتح (2/ 103)، وسيأتي تخريجه في ت (25). (¬1) في ن ب (أحد منكم). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (فلينبه). (¬4) أخرجه البخاري برقم (621)، وأيضًا أبو داود في المختصر (2246)، وأيضًا أحمد في المسند (3654، 3717، 4147) تحقيق أحمد شاكر، وأيضًا جاء من رواية عدة من الصحابة سلمان وعائشة. (¬5) في ن ب ساقطة.

العادة مانع منهما بين حكمه - صلى الله عليه وسلم - وهو عدم الامتناع منهما بأذان بلال إلى سماع آذان ابن أم مكتوم، ومن هذا كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬1) فجعل حتى غاية للتبيين. قال ابن عطية (¬2): والمراد به فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل، وهو نص قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم في حديثه المشهور (¬3). قال: واختلف في الحد الذي يجب به الإِمساك. فقال الجمهور: بطلوع أول الفجر الصادق. وروي عن عثمان وحذيفة وابن عباس وطلق وعطاء والأعمش وغيرهم: أن الإِمساك يجب بتبيين الفجر [من] (¬4) الطرق وعلى رؤوس الجبال. وذكر عن حذيفة أنه قال: "تسحرت مع رسول - صلى الله عليه وسلم - وهو النهار ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 187. (¬2) المحرر الوجيز (2/ 91). (¬3) ولفظه في البخاري (1916)، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت انظر في الليل فلا يتبين لي، فغدوت على رسول - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له فقال: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار". اهـ. (¬4) لعلها (في) أقرب إلى المعنى، والله أعلم.

إلَّا أن الشمس لم تطلع" (¬1). "وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود" (¬2). قال الطبري: "ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها فكذلك أوله طلوعها" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه برقم (1695)، وأحمد في المسند (5/ 400)، والنسائي (1/ 303)، وابن حزم في المحلى (6/ 232)، وقال ابن حجر في الفتح (4/ 136): إنه رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص، عن زر، عن حذيفة، وساقه بلفظه، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه. وروى ابن أبي شيبة وعبد الرازق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحه. اهـ. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 324)، وانظر: تفسير الطبري تحقيق أحمد شاكر رقم (3011). (¬2) تفسير الطبري تحقيق أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- (3001، 3010). قال ابن حجر في الفتح (4/ 136) بعد أن ساقه بلفظه: وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي. (¬3) قال الطبري -رحمه الله- في تفسيره (3/ 524)، وعلة من قال هذا القول: إن الوقت إنما هو النهار دون الليل، قالوا وأول النهار طلوع الشمس، كما أن آخره غروبها. قالوا: ولو كان أوله طلوع الفجر لتوجب أن يكون آخره غروب الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على إن آخر النهار غروب الشمس. دليل واضح على أن أوله طلوعها، قالوا: وفي الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تسحر بعد طلوع الفجر. أوضح الدليل على صحة قولنا. اهـ. هذا كلامه بنصه.

وحكى النقاش عن الخليل أن النهار من طلوع الفجر، ويدل على ذلك قوله -تعالى-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} (¬1). والقول في نفسه صحيح قال [وقد ذكرت] (¬2) حجته في تفسير قوله تعالى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬3) قال: وفي الاستدلال بهذه الآية نظر. خامسها: اختلف أصحابنا في دخول وقت هذا الأذان على أوجه خمسة أوضحتها في شرح المنهاج. وأصحها عندهم: أنه يدخل من نصف الليل لأنه بمضيّه ذهب المعظم. وأقربها عندي: أنه يؤذن قبيل طلوع الفجر في السحر، وهو ظاهر المنقول عن بلال وابن أم مكتوم فإن في الصحيح (¬4) أنه ليس بين أذانهما إلَّا أن ينزل [ذا] (¬5) ويرقى [ذا] (¬6) مقيد لإِطلاق الحديث المذكور أن بلال يؤذن بليل. وضبط ابن أبي الصيف (¬7) في "نكته" في الصيام، السحر: بالسدس الأخير. ¬

_ (¬1) سورة هود: آية 108. (¬2) في الأصل (وقوله لزمته)، وما أثبت من ن ب. (¬3) سورة البقرة: آية 160. (¬4) البخاري (1918، 1919). (¬5) في ن ب (هنا). (¬6) في الأصل ون ب (هذا)، وما أثبت من صحيح البخاري، وفي صحيح ابن خزيمة (1/ 210). (¬7) طبقات الشافعية (2/ 63) لابن قاضي شهبة و "نكتة على التنبيه".

وعبارة القاضي حسين الصحيح: أنه يؤذن في نحو السحر؛ لئلا يؤدي إلى اشتباه الأمر على الناس. وضبط المتولي ذلك ما بين الفجر الصادق والكاذب. وعبارة ابن يونس في "شرحه للتنبيه" في حكايته هذا الوجه ما نصه، وقيل: يؤذن [قبل] (¬1) الصبح كوقت السحور. وقال الشيخ تقي الدين: الذين قالوا بجواز الأذان للصبح قبل وقته اختلفوا في وقته. وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه يكون في وقت السحر بين الفجر الصادق والكاذب ويكره التقديم على ذلك الوقت. قال: وقد يؤخذ من الحديث ما يقرب من هذا وهو أن قوله [عليه السلام] (¬2) "أن بلال يؤذن بليل" إخبار يتعلق به فائدة للسامعين قطعًا، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهًا محتملًا لأن يكون عند طلوع الفجر [فتبين أن] (¬3) ذلك لا يمنع الأكل والشرب إلَّا عند طلوع الفجر الصادق، وذلك يدل على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. قلت: ووقع في الأذكار (¬4) للنووي: حكايته وجه أنه يؤذن لها بعد ثلثي الليل وهو غريب، فالذي حكاه في غيره من كتبه أنه يؤذن لها بعد وقت العشاء المختار وهو ثلث الليل في قول، ونصفه في قول. ¬

_ (¬1) في ن ب (قبيل). (¬2) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬3) في ن ب (فبين ذلك). (¬4) الأذكار (30).

ومن الأوجه البعيدة أن الليل كله وقت له، كما أنه وقت لنية صوم الغد. ونقل القاضي عياض عن بعضهم: أنه لا يجوز تقديمه قبل الفجر إلَّا إذا كان ثم مؤذن آخر يؤذن بعد الفجر. وفي "الإِحياء" (¬1) للغزالي في باب الأمر بالمعروف: الجزم به لئلا يشوش الصوم والصلاة على الناس كذا علله. سادسها: فيه دليل على جواز [أن] (¬2) يكون للمسجد الواحد مؤذنان وهو مستحب. سابعها: فيه دليل على استحباب أن يؤذن كل واحد منهما منفردًا إذا اتسع الوقت (¬3) كصلاة الفجر ونحوها فإن كان ضيقًا ¬

_ (¬1) انظر: إتحاف السادة المتقين (8/ 111، 112). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) فائدة: أول من أحدث أذان اثنين معًا بنو أمية. اهـ. من الفتح (2/ 101). فائدة أخرى: على حديث مالك بن الحويرث ولابن عم له: "إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما"، قوله: "فأذنا"، أي: ليؤذن أحدكما ويجيب الآخر. ويشهد له الرواية الأخرى: "فليؤذن لكم أحدكم". قال السندي -رحمه الله- في حاشيته على النسائي: يريد أن اجتماعهما في الأذان غير مطلوب ... إلخ. وقال الألباني -حفظه الله- في الإِرواء (1/ 231): ومن جهل بعض المتأخرين بفقه الحديث أو تجاهلهم إنني قرأت لبعضهم رسالة مخطوطة في تجويز آذان الجماعة بصوت واحد المعروف في دمشق بأذان الجوقة، =

كالمغرب أذنوا متفرقين، وإلَّا معًا بلا تهويش، ثم لو اقتصر على مؤذن واحد لم يكره، وفرق بين أن يكون الفعل مستحبًا وبين أن يكون تركه مكروهًا. ثامنها: لبس في الحديث تعرض للزيادة على مؤذنين فإن احتيج إلى أكثر رتب قدر الحاجة. وقيل: لا يجاوز أربعة، وبه جزم الرافعي، ثم إن اتسع الوقت فبعضهم عقب بعض، وإلَّا معًا بلا تهويش، ومحل الخوض في ذلك كتب الفقه، وقد لخصته في "شرح المنهاج" (¬1)، فليراجع منه، ولما ذكر الشيخ تقي الدين أن بعض أصحاب الشافعي، قال: إن الزيادة على أربعة تكره، قال: استضعفه بعض المتأخرين لكن وجه الكراهة عند القائل بها أنه [عليه السلام] (¬2) لم يزد على أربعة مؤذنين: بلال وابن أم مكتوم وسعد القرظ وأبو محذورة إلَّا أن بلالًا كان الملازم له لوظيفة الأذان حضرًا وسفرًا، فكره الزيادة على ذلك لهذا المعنى. قلت: سعد القرظ كان بقباء، وأبو محذورة كان بمكة، فليس فيه أن الأربعة لمسجد واحد، كما هو المدعى فاعلمه. وجعل الماوردي (¬3) سعد القرظ مؤذن أبي بكر أي بعد ¬

_ = واستدل عليه بهذا فتساءلت في نفسي، ترى هل يجيز إقامة (الجوق) أيضًا، فإن الحديث يقول: "فأذنا وأقيما"، وهذا مثال من أمثلة كثيرة في تحريف المبتدعة لنصوص الشريعة، فإلى الله المشتكى. (¬1) ذكره في "شرح المنهاج"، مخطوط وخطها ضعيف وبدون ترقيم صفحات. (¬2) في ن ب (عيه الصلاة والسلام). (¬3) الحاوي الكبير (2/ 75).

النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن بلال لما ترك الأذان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - نقله إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يؤذن فيه إلى أن مات، وقيل: إنه أذن لعمر بعد أبي بكر. تاسعها: فيه دليل على جواز كون المؤذن أعمى، وأذانه صحيح ولا كراهة فيه (¬1) إذا كان معه بصير، ويكره أن يكون الأعمى مؤذنًا وحده قاله أصحابا. [العاشر] (¬2): فيه دليل على جواز تقليد البصير للأعمى في الوقت، وجواز اجتهاده فيه، فإن الأعمى لا بد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر إما [سماع] (¬3) من بصير أو اجتهاد. وفي الصحيح (¬4): "أنه كان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت" أي قاربت الصباح كما صححه القاضي عياض ومنه: "حتى مطلع الفجر" (¬5) [وقيل] (¬6) دخلت في الصباح. فهذا دليل على رجوعه إلى البصير ولو لم يرد ذلك لم يكن في هذا اللفظ دليل على جواز رجوعه إلى الاجتهاد بعينه، لأن الدال على أحد الأمرين منهما لا يدل على واحد منهما معينًا، وهذه المسألة عندنا فيها أوجه: أحدها: أن للأعمى والبصير اعتماد المؤذن الثقة العارف في ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (إلَّا). (¬2) في ن ب (عاشرها). (¬3) في ن ب (بسماع). (¬4) البخاري (617). (¬5) سورة القدر: آية 7. (¬6) في ن ب ساقطة.

الصحو والغيم، لأنه لا يؤذن في العادة إلَّا في الوقت، وصححه النووي (¬1) في كتبه. والثاني: لا يجوز لهما لأنه اجتهاد وهما مجتهدان. وقال الماوردي: إنه المذهب. والثالث: يعتمده أعمى مطلقًا وبصير في صحو دون غيم، وهو ما صححه الرافعي: لأنه في الغيم مجتهد، وفي الصحو مشاهد. والرابع: يجوز للأعمى دون البصير من غير فرق بين الصحو والغيم؛ نعم لو كثر المؤذنون في يوم صحو أو غيم وغلب على الظن أنهم لا يخطئون لكثرتهم، جاز اعتمادهم للبصير والأعمى بلا خلاف. الحادي عشر: فيه دليل أيضًا على صحة العمل بخبر الواحد. الثاني عشر: فيه دليل على أن ما بعد طلوع الفجر من النهار، وفيه مذاهب ثلاثة: أحدها: أنه من الليل. والثاني: أنه من النهار وهو قول الجمهور (¬2). والثالث: أنه منفرد بنفسه ليس من واحد منهما، لأنه زمان ¬

_ (¬1) شرح مسلم (7/ 202). (¬2) وعليه جميع العلماء. قال ابن حجر في الفتح (2/ 101): وعلى أن ما بعد الفجر من حكم النهار. وكذلك ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره (3/ 510) على قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قال: الليل من النهار.

ولوج الليل وينتقض بزمان ولوج النهار وهو وقت المغرب، وعزا الأول إلى الأعمش والشعبي وحكاه المحب الطبري عن السنجي (¬1) من أصحابنا، ولعله التبس عليه بالشعبي، فإنه القائل بذلك كما أسلفته، وممن حكاه عنه الماوردي (¬2) أو التبس على الناسخ. الثالث عشر: فيه دليل لمن يرى بجواز الأكل مع الشك في الفجر حتى يتحقق طلوعه، وهو قول الأئمة الثلاثة، وخالف مالك فقال: لا يأكل فإن أكل فعليه القضاء، وحمله بعض أصحابه على الاستجاب. الرابع عشر: اختلف فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع أو أكل فترك، فإنه لا يبطل صومه عندنا، وبه قال ابن القاسم. ¬

_ (¬1) هو الحسين بن شعيب بن محمد بن الحسين أبو علي أحد علماء الشافعية، توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائة. انظر ترجمه في: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 207). قال ابن باز -غفر الله لنا وله- في تعليقه على الفتح (2/ 480): هذا القول المحكي عن الشعبي باطل، لأن الأدلة على أنه من النهار في حكم الشرع. أعني بذلك ما بعد طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، والله أعلم. وقال ابن حجر رحمه الله (2/ 480). فائدة: يؤخذ من سياق الحديث أن ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، من النهار شرعًا. وقد روى ابن دريد في أماليه بسند جيد أن الخليل بن أحمد سئل عن هذا النهار، فقال: من الفجر المستطير إلى بداءة الشفق. (¬2) الحاوي الكبير (2/ 37).

وقال أبو حنيفة: يبطل في الأول دون الثاني، وبه قال عبد الملك من المالكية، ووجهه كونه جعل آذان بلال بليل فدل على أن آذان ابن أم مكتوم نهارًا، وإلَّا لم يكن لتخصيص آذان بلال بالليل فائدة. ويؤيده أن في رواية لمسلم: "وكان [لا] (¬1) ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت" كذا استدل به، وفيه نظر، ومعنى: "أصبحت"، أي: قاربت الصباح كما تقدم [قريبًا] (¬2) أنه الصحيح في معناه. الخامس عشر: فيه حجة على المالكية والحنفية حيث عممت [الرؤية] (¬3) في جميع الأرض، ولم يجعلوا لكل قوم رؤيتهم كما قاله الشافعية واكتفوا في الأذان بواحد والمخبر برؤية الهلال على قاعدة المالكية أشبه بالرؤية من المؤذن، فينبغي أن يقبل الواحد قياسًا على الواحد بطريق الأولى. قال القرافي في "قواعده": هنا سؤالان مشكلان على المالكية: الأول هذا. ويجاب: بأن الأذان عدل به عن الإِخبار إلى صفة العلامة على دخول الوقت. انتهى. وقد يجاب لهم: بأن الأذان يتكرر فلو أوجبنا العدد فيه لشق بخلاف رمضان. ¬

_ (¬1) هكذا في البخاري وفي ن ب، أما في الأصل ساقطة. (¬2) زيارة في ن ب. (¬3) في ن ب (الرواية).

الثاني: حصول الإِجماع في الأزمان على أنها مختصة بأقطارها بخلاف الأهلة مع أن الجميع مختلف باختلاف الأقطار عند العلماء بهذا الشأن، فقد [يطالع] (¬1) الهلال في بلد دون غيره بسبب البعد عن المشرق والمغرب منه، فإن البلد الأقرب من المشرق [هو] (¬2) بصدد أن لا يرى فيه الهلال، ويرى في البلد الغربي بسبب مزيد السير الموجب لتخلص الهلال من شعاع الشمس، وكذلك ما من زوال إلَّا وهو غروب لقوم وطلوع الشمس لقوم ونصف اليل عند قوم، وكل درجة تكون الشمس فيها فهي متضمنة لجميع أوقات الليل والنهار لأقطار مختلفة. فإذًا قياس الأهلة على أوقات الصلوات متجه، ويطلب الفرق ثم شرع يجيب عنه. السادس عشر: في مسند أحمد (¬3) وصحيح ابن حبان (¬4) عكس حديث ابن عمر الذي ذكره المصنف من حديث أنيسة بت حبيب وكذا في صحيح ابن خزيمة (¬5) من حديث عائشة وقالا يجوز أن يكون بينهما نوب. ¬

_ (¬1) في ن ب (يطلع). (¬2) في ن ب (وهو). (¬3) مسند أحمد حديث أنيسة (6/ 433)، وحديث عائشة له طريقان عنها (6/ 44، 54، 6/ 185، 186). (¬4) في صحيح ابن حبان (5/ 196) من حديث أنيسة وأيضًا من حديث عائشة. (¬5) وفي صحيح ابن خزيمة حديثا أنيسة وعائشة (1/ 210) من طريقين هشام بن عروة، والأسود بن يزيد.

[وأما] (¬1) ابن الجوزي فقال في "جامع المسانيد" عقب حديث أنيسة [هكذا] (¬2) رووه كأنه مقلوب إنما هو "إن بلالًا ينادي بليل". قلت: وحديث ابن عمر (¬3) "أن بلالًا أذن بليل فنهاه [عليه السلام] " (¬4) فضعيف، ضعفه ابن المديني وأبو داود، كما نقله عنهما صاحب الإِقليد. السابع عشر: "الباء" في "بليل" بمعنى "في" وهو أحد معانيها، ومنه زيد بالبصرة أي فيها هذا في ظرف المكان، وذاك ظرف الزمان. الثامن عشر: قوله: "فكلوا واشربوا" (¬5) إلى آخره، اعلم أن أكل، ومر، وأخذ، ثلاثتها حذفت العرب في الأمر همزاتها على ¬

_ (¬1) في ن ب (فأما). (¬2) في الأصل (هكذا)، وما أثبت من ن ب. (¬3) أبو داود معالم السنن (1/ 286)، والترمذي (2/ 394)، والبيهقي (1/ 383). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (2/ 103): فقد ذكر أن الحفاظ اتفقوا على أن حمادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادًا انفرد برفعه ... إلخ. اهـ. كلامه أيضًا كلام المنذري في مختصر السنن (1/ 286، 287)، انظر ت (5)] (455) ضعفه البيهقي في السنن، وضعفه النووي في المجموع (3/ 89). وانظر: كلام ابن التركماني في الجوهر النقي (1/ 383، 384). (¬4) في ن ب (عليه الصلاة والسلام). (¬5) في ن ب زيادة (حتى تسمحوا).

غير قياس كما نص عليه أهل العربية، وأبدى بعض الفضلاء له وجهًا من جهة القياس وهو أن إثبات الهمزة فيها يؤدي حالة الأمر إلى اجتماع همزتين همزة الوصل التي في مثل اضرب والهمزة التي [هي] (¬1) فاء الكلمة واجتماع الهمزتين مستثقل أو مرفوض ويوضح ذلك [أنه] (¬2) إذا أسقطت همزة الوصل ثبتت فاء الكلمة قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} لما استغنى عن همزة الوصل لاتصال الهمزة الساكنة [التي] (¬3) هي فاء الكلمة بما قبلها وهو الراء وثبتت فاء الكلمة ولم تحذف. التاسع عشر: استدل عبد الغني بن سعيد الحافظ بهذا الحديث على [جواز] (¬4) السماع من وراء حجاب اعتمادًا على الصوت (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (أنك). (¬3) في ن ب (هي). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) وعلى ذلك ذكره ابن حجر (2/ 101) في الفتح: "زاد، وإن لم يشاهد الراوي، وخالف في ذلك: شعبة لاحتمال الاشتباه".

الحديث الرابع

الحديث الرابع (¬1) 69/ 4/ 11 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (¬2) [المؤذن] " (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد تقدم بيانه في الصلاة. ثانيها: هذا الأمر للندب، وقيل: للوجوب حكاه [الخطابى] (¬4) والجمهور على الأول. ¬

_ (¬1) في ن ب بياض. (¬2) البخاري (611)، ومسلم (383)، والترمذي (208)، وأبو داود (522)، والموطأ (1/ 67)، النسائي (2/ 23) وابن ماجه (720)، والدارمي (1/ 272). (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 91): ادعى ابن وضاح أن قول "المؤذن" مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله: "مثل ما يقول" وتعقب بأن الإِدارج لا يثبت بمجرد الدعوى. وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها. تنبيه: في الأصل ون ب محذوفة، وأثبتناها على رواية البخاري. (¬4) في ن ب ساقطة.

ثالثها: هذا الحديث عام مخصوص بحديث عمر في صحيح مسلم (¬1) أنه يقول في الحيعلتين: "لا حول ولا قوة إلَّا بالله" والمناسبة في جواب الحيعلة بالحوقلة أن الحيعلة دعاء، فلو قالها السامع لكان الناس كلهم دعاة، فمن يبقى المجيب؟ فحسن من السامع الحوقلة، لأنها تفويض محض إلى الله [سبحانه] (¬2) وتعالى. نعم، قال [بعض] (¬3) أهل العلم: بظاهر الحديث [كما] (¬4) حكاه بعض المتأخرين. ولك أن تقول قد قال بعض أهل الأصول: إذا أمكن الجمع بين العام والخاص وإعمالهما وجب ذلك فلم لا قيل بالجمع بين الحيعلة والحوقلة ولم أر أحدًا قال به. رابعها: يستحب أن يتابع عقب كل كلمة لا معها ولا يتأخر عنها عملًا بظاهر فاء التعقيب المذكورة في الحديث هذا مذهبنا. وللمالكية في ذلك ثلاثة أقوال، ثالثها: للباجي إن كان في شغل من ذكر ونحوه عجل وإن كان [مستفرغًا] (¬5) قارنه. خامسها: ظاهر الحديث أنه يحكي السامع مثل قول المؤذن ¬

_ (¬1) مسلم (385)، وأبو عوانة (1/ 339)، وأبو داود (527)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 86)، والبيهقي (1/ 409). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب (متفرغًا). انظر: المنتقي للباجي (1/ 131) للاطلاع.

إلى آخره إلَّا ما تقدم استثناؤه والمشهور [في] (¬1) مذهب مالك أنه يحكيه إلى آخر الشهادتين لأنه ذكر وما بعده [بعضه] (¬2) ليس بذكر وبعضه مكرر، وأنه يحكي الشهادتين مرة واحدة. وفيه قول أنه [لا] (¬3) يحكي الترجيع. سادسها: ظاهره أنه يحكيه ولو كان في الصلاة وهو قول عندنا. وقيل: إنه خلاف الأولى. والأظهر أنه مكروه. نعم إن أتى بلفظ الخطاب بطلت صلاته إن علم أنه في الصلاة، وأنه كلام أدمى وفي وجه أنه مباح. [وفي مذهب] (¬4) مالك ثلاثة أقوال، ثالثها: أشهرها أنه يحكيه في النافلة لا في الفريضة. ومنعه أبو حنيفة فيهما. وفي مذهب مالك قول: إنه إذا أجاب بالحيعلة فيها لا تبطل (¬5). فرع: لا تكره متابعته في حال أو وقت من الأوقات إلَّا في [حالة] (¬6) نهي الشرع عن الذكر فيه. ¬

_ (¬1) في ن ب (من). (¬2) في ن ب ساقطة. انظر: المنتقي (1/ 131) للاطلاع. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (عن). انظر: المنتقي (1/ 131) للاطلاع. (¬5) للاطلاع على هذه الأقوال. انظر: الاستذكار (4/ 21، 25). (¬6) في ن ب (حال).

سابعها: ظاهر استحباب متابعة كل مؤذن، وأنه لا يختص بأول مؤذن، والمسألة خلافية في مذهب مالك ولا نقل فيها عندنا، لكن قال الرافعي (¬1) في كتاب سماه "الإِيجاز بأخطار الحجاز" على ما حكاه بعضهم [منه] (¬2). خطر لي: أنه إذا سمع المؤذن وأجابه وصلى في جماعة فلا يجيب الثاني لأنه غير مدعو به وهو حسن، لكن يخدشه إعادة الصلاة جماعة، ويؤخذ منه أن من لم يصلِ أجاب لأنه مدعو به (¬3). فرع: لم أر في مذهبنا هل يحكي المؤذن أذان غيره؟ فيه قولان [وظاهر] (¬4) الحديث يقتضي الحكاية. ثامنها: ظاهر الحديث حكايته في الترجيع ولا نقل في ذلك عندنا، والوجه استحبابه إن سمعه. تاسعها: ظاهره أيضًا [أن] (¬5) يجيب في التثويب مثل قوله، لكن صحيح النووي في كتبه أنه يجيبه: بصدقت وبررت. ولم يذكر له وجهًا (¬6). ¬

_ (¬1) ذكره ابن قاضي شهبة في طبقاته (2/ 77)، باسم "أخطار الحجاز". (¬2) في ن ب (عنه). (¬3) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في الاختيارات (39): "ويجيب مؤذنًا ثانيًا وأكثر حيث يستحب ذلك كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -". (¬4) في ن ب (فظاهر). (¬5) في ن ب (أنه). (¬6) ضعفها ابن حجر في التلخيص (1/ 211): ضعيف والزيادة فيه لا أصل =

وقال بعض الفقهاء: إن فيه خبرًا وبحثت عنه دهرًا فلم أره. عاشرها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فقولوا مثل ما يقول" فيه دليل على أن لفظة "مثل" لا تقتضى المساواة من كل وجه، فإنه لا يراد بقوله: "فقولوا مثل ما يقول" مماثلته في كل أوصافه حتى رفع الصوت، كذا قاله الشيخ تقي الدين هنا، وخالف في كتاب الطهارة فقال: إنها تقتضي المساواة من كل وجه إلَّا في الوجه الذي تقع به المغايرة بين الحقيقتين بحيث يخرجها عن الوحدة بخلاف لفظة "نحو" فإنها لا تقتضي ذلك. وأجاب غيره بأن قال: المراد تلفظوا بمثل ما يتلفظ به المؤذن من أذكار الأذان من غير تعرض لرفع صوت ولا خفضه. وإذا حصل هذا التلفظ حصلت المماثلة في جميع صفات الأذان، فلا إشكال. ألا ترى أنه حيث لم تمكلن المماثلة في وضوئه - عليه الصلاة والسلام - في جميع صفاته أتى "بنحو" التي هي [المقارنة] (¬1) دون المماثلة فقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا" ولم يقبل "مثل وضوئي" لتعذر مماثلة وضوئه - عليه الصلاة والسلام -[في] (¬2) جميع الوجوه، وهذا فيه شيء بيناه هناك فراجعه. ¬

_ = لها وكذا لا أصل لما ذكره في الصلاة غير من النوم. الزيادة: هي أقامها الله وأدامها، وفي الصلاة خير من النوم، صدقت وبررت. انظر: الإِرواء (1/ 259). (¬1) في ن ب (للمقاربة). (¬2) في ن ب (من).

وادعى بعض الأصولين من أهل التحقيق: أن المماثلة لا تقتضي الاشتراك في جميع الأوصاف ولا في الذاتيات بل في وصف مخصوص، وكذا المشابهة مثال. الأول: قوله -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (¬1)، أي: لم يكن له أب، ومثال الثاني: قولهم: وجه زيد: كالقمر، أي: شبيه بالبدر لاشتراكهما فيه. الحادي عشر: يتابع المؤذن في ألفاظ الإِقامة كالأذان إلَّا أنه يقول في كلمة الإِقامة: أقامها الله وأدامها (¬2). ... ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 59. (¬2) انظر: ت (3)، (369)، وأيضًا بناء على حديث ضعيف أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإِقامة (528)، والبيهقي في الصلاة (1/ 411)، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (2/ 136): "والقول الآخر عدم استحبابه، وهو أولى". اهـ.

12 - باب استقبال القبلة

12 - باب استقبال القبلة الاستقبال: استفعال من المقابلة، [وهذه] (¬1) الصيغة أعني استفعل تكون لطلب الفعل غالبًا، نحو استحقه واستعمله، إذا طلب حقه وعمله، وتكون من التحول نحو استحجر الطين (¬2) ومن الإِصابة على صفة كاستعظمته أي وجدته عظيمًا، وتكون بمنزلة فعل نحو قرَّ واستقر. وسميت القبلة: قبلة، لأن المصلي يقابلها وتقابله. والحكمة في استقبالها كما قاله الخطيب رحمه الله: إن للإِنسان قوة عقلية يدرك بها المعقولات المجردة، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية، ولذلك تنحصر الصور الخيالية معينة عن إدراك المعقولات كما في وضع الأشكال الهندسية؛ والعبد [إذا] (¬3) استقبل الملك العظيم [استقبله] (¬4) بوجهه [وإلاَّ] (¬5) كان معرضًا عنه، فاستقبال القبلة: ¬

_ (¬1) في ن ب (وهي). (¬2) في لسان العرب (استحجر الطين صار حجرًا). (¬3) في الأصل (إن)، والتصحيح من ن ب. (¬4) في ن ب (استقبل). (¬5) في الأصل (وإذا)، والتصويب في ن ب.

كاستقبال الملك، والقراءة والذكر والصيام والركوع والسجود كالخدمة، وحضور القلب هو المقصود في الصلاة، وإنما يكون مع السكون وعدم الالتفات والحركة، وذلك بمداومة جهة واحدة، فلذلك شرع استقبال القبلة، ولأن [موافقة] (¬1) المطلوبة [والافتراق] (¬2) في التوجه اختلاف ظاهر، فجمعهم على جهة واحدة لتحصل الموافقة المطلوبة، وجمعهم على استقبال الكعبة، لأن الكعبة بيته، وإضافتها [إليه] (¬3) بقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} (¬4)، وأضاف المؤمن إليه بوصف العبودية بقوله {قُلْ لِعِبَادِيَ} (¬5)، والكعبة بيته، والصلاة خدمته، فكأنه تعالى قال: أقبل بوجهك لي يا عبدي في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إلي. قال بعضهم: وإنما استقبلت اليهود المغرب، لأن النداء لموسى كان في الجانب الغربي، واستقبلت النصارى المشرق لأن الملك جاء لمريم في المكان الشرقي، قاله ابن عباس. وذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: ¬

_ (¬1) في ن ب (الموافقة). (¬2) في ن ب (الاقتران). (¬3) ساقطة من ب. (¬4) سورة الحج: آية 26. (¬5) سورة إبراهيم: آية 31.

الحديث الأول

الحديث الأول 70/ 1/ 12 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، أن [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1): "كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله" (¬2). وفي رواية: "كان يوتر على بعيره" (¬3). ولمسلم: "غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" (¬4). وللبخاري: "إلَّا الفرائض" (¬5). الكلام عليه من وجوه: أحدها: معنى يسبح: هنا يصلي النافلة، وأطلق التسبيح على مطلق الصلاة في قوله تعالى: {عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) البخاري (999، 1000، 1095، 1096، 1098، 1105)، ومسلم (700)، والدارمي (1/ 365)، وأحمد (2/ 132)، والنسائي (1/ 244). (¬3) البخاري (999، 1000). (¬4) مسلم (700). (¬5) البخاري (1097).

طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} (¬1) على صلاة الصبح والعصر عند أهل التفسير. والتسبيح حقيقة قوله: سبحان الله، فإذا أُطلق على الصلاة كان من باب تسمية الشيء باسم جزئه تنبيهًا على فضل ذلك الجزء، كما أن الصلاة الدعاء، ثم إنها سميت العبادة كلها به لاشتمالها عليه وكذلك [سميت] (¬2) الصلاة بالركوع [أو] (¬3) السجود أو القرآن أو القيام أو لأن المصلي منزه لله تعالى [بإخلاص العبادة له وحده، كالتسبيح فإنه تنزيه لله تعالى، فيكون من مجاز الملازمة، لأن التنزيه لازم للصلاة المخلصة لله تعالى] (¬4). والتسبيحة التطوع من الذكر والصلاة، ومنه أن عمر جلد رجلين سبّحا بعد العصر أي صليا، ويطلق التسبيح أيضًا بمعنى النور، ومنه الحديث (¬5): "لأحرقت سبحات وجهه"، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)} (¬6)، معناه: من المصلين، وقوله تعالى: {لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)} (¬7)، قيل: أراد باللسان، وقيل: أراد غيره. ¬

_ (¬1) سورة ق: آية 39. (¬2) في ب (وتسمية). (¬3) في ب (و). (¬4) ساقطة من ب. (¬5) مسلم (293). (¬6) سورة الصافات: آية 143. (¬7) سورة القلم: آية 28.

الثاني: "الراحلة" الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول. قال الجوهري (¬1): ويقال: الراحلة المركب من الإِبل ذكرًا كان أو أنثى. انتهى. فيكون كالبعير في وقوعه على الجمل والناقة على أحد القولين، وكالشاة، والإِنسان في وقوعه على الرجل والمرأة، وإن كان قد سمع إنسانة في المرأة كما حكاه بعض فضلاء المالكية سماعًا من شيوخه، ثم إنه كما يجوز التنفل على الراحلة يجوز أيضًا على الفرس والبغل والحمار قطعًا بشرط أن لا يكون الراكب مماسًا للنجاسة. الثالث: في "حيث" (¬2) لغات بتثليث الثاء مع [الياء] (¬3) والواو فهذه ست لغات، وفيها أكثر من ذلك قد ذكرته موضحًا في "الإِشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات" وهي مبنية لخروجها عن نظائرها من ظروف المكان. [الرابع] (¬4): "الإِيماء": الإِشارة أي يومئ برأسه في الركوع والسجود ليكون البدل على وفق الأصل، فيجعل السجود أخفض من الركوع، وليس في الحديث المذكور ما يدل على ذلك ولا ينفيه، لكن في اللفظ ما يدل على نفي حقيقة الركوع والسجود، نعم في ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (105). (¬2) انظر: مختار الصحاح (75). (¬3) في الأصل (الجاء)، والتصويب من ب. (¬4) في الأصل (الثالث)، وما أثبت من ن ب.

أبي داود (¬1) والترمذي (¬2) من حديث جابر [قال] (¬3): "بعثني [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬4) في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض من الركوع" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. [الخامس] (¬5): قوله (حيث كان [] (¬6) وجهه) يعني حيث ما توجه وجهه في السفر، وقد ثبت ذكر السفر في بعض الأحاديث أو معظمها، وهو مطلق في رواية الكتاب حتى تمسك بها الإِصطخري (¬7) من الشافعية في جواز النافلة في البلد وهو محكي عن أنس بن مالك وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة. السادس: السبب في التنفل على الراحلة لئلا ينقطع المتعبد عن السفر والمسافر عن التنفل. ¬

_ (¬1) أبو داود عون (1215). (¬2) الترمذي (351)، وابن خزيمة (1270)، وأحمد (3/ 332، 379، 388، 389)، وعبد الرزاق (4521)، والبيهقي (2/ 5). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) في الأصل (الرابع)، وما أثبت من ن ب ... إلخ المسائل. (¬6) في الأصل زيادة (من)، وهي غير مذكورة في الحديث وفي ن ب. (¬7) هو الحسن بن أحمد بن يزبد بن عيسى أبو سعيد الإِصطخري شيخ الشافعية ببغداد، توفي في ربيع الآخر، وقيل: في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وقد جاوز الثمانين، ومولده في سنة أربع وأربعين. طبقات الشافعية للسبكي (2/ 193)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 109).

وقال الشيخ تقي الدين: كأن سببه تيسير تحصيل النوافل وتكثيرها، فإن ما ضيق طريقه قل، وما اتسع طريقه سهل، فاقتضت رحمة الله للعباد أن يقلل الفرائض عليهم تسهيلًا للكلفة، وفتح لهم طريق التكثير للنوافل تعظيمًا للأجور. السابع: قوله: (على ظهر راحلته) قد يتمسك به من لا يرى التنفل للماشي، وهو مالك وأبو حنيفة. وعندنا وعند أحمد أنه يجوز قياسًا عليه ولأنه أشق. وعن مالك قول أنه يجوز لراكب السفينة التنفل أيضًا حيث ما توجهت به لكل أحد، وقول آخر أنه لا يجوز لتمكنه إلَّا للملاح وهو مذهبنا. الثامن: قوله (وكان ابن عمر يفعله) فيه تنبيه على أن رواية الحديث والعمل به أقوى في التمسك به من الرواية فقط لجواز أن يكون الحديث عند الراوي إذا لم يعمل به مخصوصًا بحاله أو منسوخًا أو معللًا أو نحو ذلك. التاسع: في هذه الرواية دلالة على جواز التنفل على الدابة في السفر حيث توجهت، ولا يشترط استقبال القبلة فيها، سواء كانت نافلة مطلقة أو راتبة، وفي وجه أنه لا يباح عيد، وكسوف، واستسقاء، وسجود شكر، ولا تلاوة خارج صلاة، وفيه قوة لأنه لم ينقل فعله. العاشر: لا فرق في ذلك بين السفر القصير والطويل عند الشافعي وأبي حنيفة والجمهور، وكما نقله القاضي عياض.

وقال [مالك] (¬1) في رواية عنه [أنه] (¬2) لا يجوز التنفل على الدابة إلَّا في السفر الطويل وهو قول غريب محكى عندنا. تنبيهات: أحدها: شرط السفر أن لا يكون له معصية، وأن يكون له مقصد معلوم. ثانيها: يحرم انحرافه عن طريقه إلَّا إلى القبلة، لأنه - عليه الصلاة والسلام - "كان يسبح حيث كان وجهه" اللهم إلَّا أن ينحرف إلى القبلة لأنها الأصل. ثالثها: في استقباله [القبلة] (¬3) عند الإِحرام خلاف، وتفصيله محله كتب الفقه، وقد بسطناه في "شرح المنهاج" وغيره. وعند أبي حنيفة وأبي ثور أنه يفتتح أولًا إلى القبلة استحبابًا ثم يصلي كيف شاء. الحادي عشر: قوله: "وكان ابن عمر يفعله" كيف يجمع بينه وبين ما رواه مالك في الموطأ عنه (¬4): "أنه لم يكن يصلي مع الفريضة في السفر شيئًا قبلها ولا بعدها إلَّا من جوف الليل، فإنه كان يصلي على الأرض وكان يقول: "لو كنت مسبحًا لأتممت" (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) الموطأ (1/ 150)، وشرح الزرقاني (1/ 302). (¬5) الموطأ (24). قال الزرقاني -رحمنا الله وإياه- (1/ 302): وتعقب بأن =

والجواب: أنه إنما منع في [رواية] (¬1) الموطأ النافلة الراتبة دون المطلقة، ومن تتمة حديث مالك في الموطأ: "يصلي على الأرض، وعلى راحلته حيث توجهت به". قال القاضي: ومنهم من تأول حديث ابن عمر بالمنع على أنه في النافلة التي تصلي على الأرض دون النافلة على الراحلة. [الثاني عشر] (¬2): قوله: "كان يوتر على بعيره" يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ابن عمر - رضي الله عنه-. واستدل به على أن الوتر ليس بواجب، بل سنة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور. وقال أبو حنيفة: واجب لا يجوز على الراحلة بناء على مقدمة أخرى، وهي أن الفرض لا يقام على الراحلة، وهو إجماع، كما حكاه القاضي، وهو مرادف للواجب، فلا يقام عليها [وترك الفعل] (¬3). ¬

_ = مراد ابن عمر - رضي الله عنه - بقوله: لو كنت مسبحًا لأتممت، أنه لو كان مخيرًا بين الإِتمام وصلاة الراتبة لكان الإِتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلهذا كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. مسلم (689)، وأبو داود (1223) في الصلاة، باب: التطوع في السفر، والنسائي (3/ 123)، والترمذي (544)، وابن ماجه (1071)، وأحمد (2/ 100، 95، 56)، والبغوي (4/ 184)، والبيهقي (3/ 158). (¬1) زيادة من ب. (¬2) في الأصل (الحادي عشر)، وما أثبت من ن ب. (¬3) ساقطة من ب.

فإن قيل: مذهب الشافعي أن الوتر واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلنا: وإن كان واجبًا [عليه] (¬1) فقد صح فعله على الراحلة، فدل على صحته منه على الراحلة، ولو كان واجبًا على العموم لم يصح على الراحلة: كالظهر. فإن قيل: الظهر فرض والوتر واجب، وبينهما فوق. قلنا: هذا الفرق اصطلاح منكم، لا يسلمه لكم الجمهور، ولا يقضيه شرع ولا لغة، ولو سلم لم يحصل به هنا غرضكم. الثالث عشر: قوله: "غير أنه لا يصلي عليه" المكتوبة" هو نعت للصلاة، وحذفت لدلالته عليها، ونعتها بالمكتوبة دون المفروضة اتباعًا للفظ القرآن في قوله -تعالى-: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} (¬2). وعبر في الرواية الأخرى بالفرائض، وأجمعت الأمة على أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة ولا على الدابة إلَّا في شدة الخوف، فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود على الدابة واقفة، عليها هودج، أو نحوه، جازت الفريضة على الصحيح، ولو كانت سائرة لم يصح على الصحيح. وقيل: يصح كالسفينة، فإنها تصح فيها الفريضة بالإِجماع. ولو كان في ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر، صلى عليها، وأعاد لندرته، كذا جزم به الأصحاب، وفيه نظر ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سورة النساء: آية 103.

خصوصًا إذا خاف فوت الوقت، لأنه أتى بما أمر به على حسب الطاقة، والإِعادة إنما تغيب بأمر جديد. واعلم أن الشيخ تقي الدين -رحمه الله- قال: هذا الحديث قد يتمسك به في أن صلاة الفرض لا تؤدى على الراحلة، وليس ذلك بالقوي في الاستدلال، لأنه ليس فيه إلَّا ترك الفعل، وليس التبرك دليلًا على الامتناع. وكذا الكلام على استثناء ابن عمر الفرائض من فعله - عليه الصلاة والسلام - فإنه يدل على ترك هذا الفعل وترك الفعل لا يدل على امتناعه (¬1). لكن قد يقال: إن وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين فترك الصلاة [لها دائمًا مع فعل النوافل على الراحلة، إشارة إلى الفرق بينهما في الجواز وعدمه مع تأييد المعنى له من كون الصلوات المفروضة قليلة محصورة؛ لا يؤدي النزول عن الراحلة لها إلى نقصان المطلوب. والنوافل المطلفة لا حصر لها، فيؤدي النزول إلى ترك المطلوب [من] (¬2) تكثيرها مع اشتغاله بأمور سفره] (¬3). قلت: ويحتمل أن يقال: إنما نزل عنها لأن فعلها في الأرض أفضل، فلا دلالة فيه، لكن صدنا عن هذا الإِجماع السابق (¬4). ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 198) كما ذكرنا. بدون (لكن). (¬2) في ب (مع). (¬3) عبارة الأحكام فيها زيادة عما ذكر. انظر: (1/ 188). (¬4) انظر: حاشية الصنعاني (2/ 198)، حيث ساقه عنه بزيادة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 71/ 2/ 12 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: [إن] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة" (¬2). الكلام عليه من وجوه: فقد جمع جملًا من اللغة والتاريخ والأصول والفروع. أحدها: "بينما": معناه بين أوقات كذا، ويجوز بينا أيضًا بلا ميم. ثانيها: "الناس": قد يكون من الإِنس والجن على ما قاله ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (40، 399، 4486، 4492، 7252)، ومسلم (526)، والترمذي (3401)، وأحمد في المسند (2/ 16، 105، 113)، والموطأ (1/ 195)، والنسائي (1/ 244، 245، 2/ 61)، والبغوي (445)، والشافعي في المسند (1/ 164)، والأم (2/ 113)، والدارقطني (1/ 273).

الجوهري (¬1)، ولم يجعلوا الألف واللام فيه عوضًا من الجملة المحذوفة، وهذا خلاف مذهب سيبويه كما حكاه عنه أبو البقاء وغيره، فإنه جعلها عوضًا منها. واختلف في عينه، فقيل: ياء والصحيح واو، بدليل قولهم في التصغير نويس، وهو من الأسماء التي لا واحد له من لفظه: كالخيل والإِبل والغنم والأنام وما أشبه ذلك. ثالثها: قباء: بالمد والقصر، ويذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف، فهذه ست لغات أفصحها أولها وهو موضع معروف بقرب المدينة على ثلاثة أميال، كما قاله النووي (¬2)، إلَّا أنه يحتمل أن يكون المراد [هنا قباء نفسه، ويحتمل أن يكون المراد] (¬3) المسجد وهو الظاهر، وهو المسجد الذي أسس على التقوى، وهو أول مسجد أسس في الإِسلام على ما حكاه البيهقي (¬4)، قال: وأول من وضع فيه حجرًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر ثم عمر، وفي حديث أخر أنه سئل عنه، فقال: هو مسجدي هذا. قال السهيلي (¬5): [ويمكن] (¬6) الجمع، فإن كل واحد منهما ¬

_ (¬1) الصحاح (984). (¬2) انظر: شرح مسلم (5/ 10)، ومعجم البلدان (4/ 301، 302). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) دلائل النبوة (2/ 544، 545). (¬5) الروض الأنف (2/ 246). (¬6) في ن ب (ولكن).

أسس على التقوى غير أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (¬1) يرجح الأول؛ لأن مسجد قباء أسس قبل مسجده - عليه الصلاة والسلام -، غير أن اليوم [قد] (¬2) يراد به المدة والوقت، فيكون معنى قوله: "من أول يوم" أي من أول عام من الهجرة. رابعها: قوله: "في صلاة الصبح" هو أحد أسمائها كما أوضحته في المواقيت، وفي رواية مسلم: "في صلاة الغداة" ففيه دليل على جواز تسميتها غداة ولا خلاف فيه، وإن كان الخلاف في الكراهة كما قدمته هناك. خامسها: قوله: "إذ جاءهم آت" في اسمه ثلاثة أقوال: أحدها: عباد بن نهيك الأنصاري. ثانيها: عباد بن بشر الأشهلي، وبه جزم ابن طاهر في إيضاح الإِشكال (¬3). ثالثها: عباد بن وهب. سادسها: قوله: "فاستقبلوها" كسر الباء فيه أفصح (¬4)، وأشهر من فتحها، وهو الذي [يقتضيه] (¬5) تمام الكلام بعده على الأمر، والفتح على الخبر. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 108. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ايضاح الأشكال (101). (¬4) انظر: شرح مسلم (5/ 10)، ويؤيده أيضًا رواية الدارقطني (1/ 273): "ألا فاستقبلوها". (¬5) في ن ب (يقتضي).

سابعها: حولت القبلة في السنة الثانية قطعًا، واختلفوا في الشهر الذي حولت فيه. فقال محمد بن حبيب الهاشمي (¬1): في الظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان. وقال غيره: في رجب قبل بدر بشهرين، وكان ذلك في ركوع الركعة الثانية من الظهر [في مسجد بني سلمة] (¬2)، فاستدار واستدارت الصفوت لما نزل قوله -تعالى-: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)} (¬3) الآية. وذكر القرطبي أن الآية نزلت في غير صلاة، وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب: "أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة صلاة العصر"، وفي أخرى: "صلاة الصبح" والأولى أثبت، ولذلك سمي المسجد الذي لبني سلمة مسجد القبلتين، ويجمع بينهما وبين رواية العصر: أن أول صلاة صلاها كاملة إلى الكعبة صلاة العصر بخلاف الظهر، ويحتاج إلى جواب عن رواية الصبح (¬4). ¬

_ (¬1) هو محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو الهاشمي البغدادي أبو جعفر المتوفى سنة (245)، له مؤلفات منها: "المحبر"، و"الأمثال"، و"غريب الحديث"، وكشف الظنون (1/ 393، 2/ 128، 1/ 37، 436). (¬2) الزيادة من ب. (¬3) سورة البقرة: آية 144. (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 97) بعد ذكر الروايات =

قلت: وكانت مدة صلاته لبيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا كما ثبت في الصحيحين من حديث البراء (¬1) [وفي رواية لمسلم "ستة عشر شهرًا"] (¬2) [بخلاف الظهر وفي سنن أبي داود "ثمانية عشر شهرًا" وحكى مسلم ثلاثة عشر] (¬3) وفي أخرى سنتين حكاه المحب الطبري. وقال ابن حبان: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام سواء، قال: لأن قدومه - عليه الصلاة ¬

_ = والتحقيق: إن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها في المسجد النبوي العصر. وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء. وقال أيضًا في الفتح (1/ 506): وهذا فيه مغايرة لحديث البراء المتقدم، فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر، والجواب أن لا منافاة بين الخبرين لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عباد بن بشر ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر. اهـ. محل المقصود منه، وهل كان ذلك في جمادي الآخرة أو رجب أو شعبان؟ أقوال. (¬1) البخاري (40)، ومسلم (525)، والترمذي (340)، وابن ماجه (1010)، والنسائي (2/ 60)، والبغوي (444)، والبيهقي في السنن (2/ 2)، وأبو عوانة (1/ 393)، وابن الجارود (165)، والدارقطني (1/ 273). (¬2) ما بين القوسين من ب. (¬3) في ن ب ساقطة.

والسلام - من مكة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وحولت يوم الثلاثاء نصف شعبان (¬1). وفي تفسير ابن الخطيب عن أنس: "إنها حولت بعد الهجرة بتسعة أشهر" وهو غريب، وعلى هذا القول يكون التحويل في ذي القعدة، إن عد شهر الهجرة وهو ربيع الأول، أو ذي الحجة إن لم يعد (¬2). ¬

_ (¬1) ابن حبان (4/ 620). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 96): والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الزائد. ومن جزم بسبعة عشر عدهما معًا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول، بلا خلاف. وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: "سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام"، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول. وشذت أقوال أخرى، ففي ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: "ثمانية عشر شهرًا" وأبو بكر سيِّئ الحفظ وقد اضطرب فيه. فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر وفي رواية ستة عشر. وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره أن النووي في الروضة، مع كونه رجح في مسلم رواية ستة عشر لكونها مجزومًا بها عند مسلم ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلَّا أن ألغى شهري القدوم والتحويل، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة، ومن الشذوذ رواية ثلاثة عشر، ورواية تسعة أشهر، أو عشرة ورواية شهرين، ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على =

واعلم أنه ينبغي أن يعرف كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الكعبة في صلاته وهو بمكة، فذهب نفر من العلماء إلى أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة لم تكن إلى بيت المقدس، وإنما [كان] (¬1) صلى إليه بعد مقدمه إلى المدينة، والذي عليه جمهورهم أنه كان يصلي إلى الشام. قال أبو عمر: وأصح القولين عندي أنه [كان] (¬2) يجعل مدة مقامه بمكة الكعبة بينه وبين بيت المقدس [فيقف] (¬3) بين الركنين اليمانيين ويستقبل الكعبة وبيت المقدس (¬4)، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك لأن المدينة عن يسار الكعبة، وكان تقلب وجهه في السماء. وقال الحافظ أبو اليمن ابن عساكر: سبب الاختلاف في ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان إذا صلى بمكة مستقبلًا بيت ¬

_ = الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، وجملة ما حكاه تسع روايات. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (يقف). انظر: الاستذكار (1/ 180، 7/ 186، 216)، والتمهيد (8/ 53، 56). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 96): قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وقد جزم به ابن حجر، فقال بعد ذكر الأقوال: والأول أصح - يعني ما ذكرناه - لأنه يجمع بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس.

المقدس جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فتحرى القبلتين معًا، فلم يظهر استقباله بيت المقدس ولا توجهه إليه للناس حتى هاجر إلى المدينة وخرج من مكة، هكذا روي عن ابن عباس من [طرق] (¬1) صحيحة، وقد روى ابن حبان في صحيحه (¬2) في هجرة البراء بن معرور، وكعب بن مالك ما يدل على ذلك، وهو أن البراء رأى أن لا يجعل الكعبة وراء ظهره في صلاته، وأنه شاور في ذلك كعبًا فلم يوافقه، وأنه بقي في نفسه من فعله، حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وعمه العباس جالسين بمكة، فسلم هو وكعب عليه - صلى الله عليه وسلم - في قصة طويلة، قال البراء: يا رسول الله إني [قد] (¬3) صنعت في سفري هذا شيئًا أحببت أن تخبرني عنه، فإنه قد وقع في نفسي منه شيء، إني قد رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر، وصليت إليها ومنعني أصحابي، وخالفوني حتى وقع في نفسي من ذلك ما وقع. فقال - عليه الصلاة والسلام -: "أما إنك قد كنت على قبلة لو صبرت عليها". قال: ولم يزده على ذلك. قال ابن حبان: أما تركه - صلى الله عليه وسلم - أمر البراء بإعادة الصلاة التي صلاها إلى الكعبة حيث [قال] (¬4) كان الفرض عليهم استقبال بيت ¬

_ (¬1) في الأصل (طريق)، والتصحيح من ن ب. (¬2) ابن حبان (9/ 74)، والسيرة لابن إسحاق (2/ 48)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 444)، كما نقله ابن حجر في الفتح بكامله، وذكر تصحيح ابن حبان (7/ 221). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة.

المقدس، لأن البراء أسلم لما شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم -[فمن أجله] (¬1): لم يأمره بإعادة تلك الصلاة [من أجل ذلك] (¬2)، واقتضى كلام أبي اليمن ابن عساكر أن البراء كان مسلمًا قبل هجرته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة هو ومن معه من الأنصار، ويحتمل أن تكون صلاة البراء إلى الكعبة اتباعًا لما علم [به من علماء] (¬3) اليهود أن هذا النبي المبعوث في عصرهم هو على ملة إبراهيم وفيه وقبلته الكعبة مستصحبًا لأصل الحكم في ذلك ورجّحه على ما وجد فيه التردد عنده في ثبوته والاختلاف في صحته أو وجوده وهو وجه من وجوه التراجيح. وقال الغزالي في "وسيطه": كان [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬4) يستقبل الصخرة من بيت المقدس مدة مقامه بمكة وهي قبلة الأنبياء (¬5)، ¬

_ (¬1) زيادة من ابن حبان (7011). (¬2) تغني عنها الجملة السابقة لأنه خلاف ما في ابن حبان. (¬3) في ن ب (على). (¬4) في ن ب (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (27/ 11) بعد كلام سبق: "فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلاَّ قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك. ثم قال: وأما الصخرة فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه ولا الصحابة، ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة. فوائد تتعلق بالصخرة: أولًا: قال شيخ الإِسلام في الفتاوي (15/ 153): وكانوا يكذِّبون -أي الصحابة رضوان الله عليهم-ما ينقله كعب- أن الله قال لها -أي الصخرة-: أنت عرشي الأدنى. ويقولون: من وسع كرسيه السموات =

[وكان] (¬1) يقف بين الركنين اليمانيين كان لا يؤثر استدبار الكعبة، وعيرته (¬2) اليهود، وقالوا: يخالف ديننا، ويصلي إلى قبلتنا. فسأل الله أن يحوله إلى الكعبة، فنزل قوله -تعالى-: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (¬3) الآية، هذا لفظه برمته، وقد غيرت بعضه، وأوضحت الكلام عليه فيما خرجته من أحاديثه المسمى بـ (تذكرة الأخيار بما في الوسيط من الأخبار) (¬4) فراجعه منه، ونقلت فيه عن المحاملي (¬5) في المجموع (¬6): أنه كان يقف ناحية الصفا، وأن رواية ¬

_ = والأرض كيف تكون الصخرة عرشه الأدنى؟!. ثانيًا: قال بعد كلام سبق: وإلاَّ فلا موجب في شريعتنا لتعظيم الصخرة. وبناء القبة عليها وسترها بالانطاع والجوخ. ولو كان هذا من شريعتنا لكان عمر وعثمان ومعاوية - رضي الله عنهم - أحق بذلك ممن بعدهم. ثالثًا: قال في (17/ 476) بعد كلام سبق: "فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاه فيها كما لا يحج إلى سائر المشاهد، ولا تمسح بها، ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة، ولا غيرها، ولا يقبل ما على وجه الأرض إلَّا الحجر الأسود". (¬1) في ن ب (فكان). (¬2) في الأصل (وعرته)، والتصحيح من ن ب. (¬3) سورة البقرة: آية 144. (¬4) انظر: تحفة المحتاج (1/ 75). (¬5) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المعروف، باب: المحاملي، ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وتوفي سنة أربع عشرة -أو خمس عشرة وأربعمائة-. العبر (3/ 119)، وطبقات ابن الصلاح (366)، وابن قاضي شهبة (1/ 174). (¬6) انظر: كشف الظنون (1606).

إمامة جبريل [فيه] (¬1) - عليه السلام - عند باب البيت (¬2) يقتضي بالقطع عدم استقبال ذلك. ثامنها: في الحديث دليل على جواز النسخ (¬3) ووقوعه، ولا عبرة بمن أحاله (¬4)، قال ابن ....................... ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) إمامة جبريل (عبد باب البيت) لم تذكر إلَّا في مسند الشافعي (26)، وشرح معاني الآثار (1/ 147)، أما جميع المسانيد والسنن فلم تذكر إلَّا الصلاة عند البيت. انظر: الدارقطني (1/ 158)، والبيهقي (1/ 364)، وعبد الرزاق (1/ 531)، والمسند (5/ 349)، والحاكم (1/ 193)، والمنتقى لابن الجارود وغيره. قال ابن حجر في الفتح (1/ 97): وحكى الزهري خلافًا في أنه هل كان يجعل الكعبة ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟ قلت وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلف وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين، وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة. فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني. ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند باب البيت. اهـ. (¬3) النسخ لغة: الإِزالة، وشرعًا: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي متراخ عنه. (¬4) النسخ جائز عقلًا، وواقع شرعًا، وأنكره. اليهود لعنهم الله وقالوا: يلزم منه البداء، وهو محال على الله. وقولهم باطل والدليل على بطلانه من ثلاثة أوجه: الأول: ما اتفقت عليه الأمم من نكاح الأخوات غير التوأمة في زمان آدم، ثم تحريمه في جميع الملل. =

عباس (¬1): أول ما نسخ من القرآن: شأن القبلة والصيام، فأول من صلى إلى الكعبة (¬2) البراء بن معرور. تاسعها (¬3): فيه قبول خبر الواحد وهو معمول به معتد به عند الصحابة، وهلم جرا، ومن منع قال: احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم، وخرج عن كونه خبر واحد. وقيل: إن النسخ بالواحد كان جائزًا في زمنه - عليه الصلاة والسلام - وإنما منع بعده. ¬

_ = الثاني: أن اليهود وافقوا على أن شريعتهم نسخت ما قبلها، فلما جاز ذلك يجوز أن ينسخها ما بعدها. الثالث: الفرق بين النسخ والبداء هو أن يظهر له ما كان خفيًا عليه، والنسخ ليس كذلك إنما هو كتجديد مدة للحكم، مثل أن يأمر السيد عبده بعمل، فإذا بلغ منه المقدار الذي أراد السيد، رفع يده عنه، وأمره يعمل آخر. اهـ. تقريب الوصول إلى علم الأصول. للغرناطي (312، 314). (¬1) أخرجه أحمد (1/ 325)، والمستدرك (2/ 267)، والبيهقي في المعرفة (2874)، والحازمي في الاعتبار (193)، وصحح الحافظ في الفتح إسناده. (¬2) فائدة: قال ابن حزم -رحمنا الله وإياه-: أول من صلى إلى الكعبة بعد النسخ أبو سعيد بن المعلى الأنصاري سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتحويل القبة فصلى ركعتين إلى الكعبة. اهـ، من جوامع السير (81). أما البراء فصلى إلى الكعبة قبل أن تصرف. انظر: ت (1)، (491)، وراجع ما ذكر. (¬3) ذكر هذه المسألة في إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 201). هذا رأي الإِمام أحمد وابن حزم وغيرهم. انظر: الزركشي البحر المحيط (4/ 108)، والأحكام لابن حزم (4/ 617).

وقيل: إنما تلا عليهم الآيات التي فيها ذكر النسخ، فتحولوا عند سماع القرآن، فلم يقع النسخ إلَّا بما سمعوه. قال القاضي: وأسد الجواب في هذا أن يقال: إن العمل بخبر الواحد مقطوع به. [عاشرها] (¬1): هل يجوز نسخ السنة بالكتاب وعكسه، فيه قولان: أصحهما عند الأكثرين. نعم كما سيأتي بعد أيضًا، ويشترط في السنة إذا كانت ناسخة أن تكون متواترة. الحادي عشر: جواز نسخ السنة بالكتاب (¬2)، ووجه تعلق ذلك بالحديث أن الآتي المخبر لهم ذكر أنه أنزل اليلة قرآن وأحال النسخ على الكتاب، وليس التوجه إلى بيت المقدس بالكتاب، إذ لا نص فيه عليه، فالتوجه إليه بالسنة، ويلزم من مجموع ذلك نسخ السنة بالكتاب، والأكثرون على الجواز (¬3). الثاني عشر: فيه أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له، وقد اختلف في ذلك ووجه استنباط هذا من الحديث أنه لو ثبت الحكم في أهل قباء قبل بلوغ الخبر إليهم لبطل ما فعلوه من التوجه إلى بيت المقدس، فلم ينعقد، وتجب الإِعادة في بعضها فتبطل. ¬

_ (¬1) في الأصل (العاشر)، وما أثبت من ن ب. (¬2) انظر: هذه المسألة والتي قبلها مفصلة بالتعليق على تقريب الوصول (318، 324) إلى علم الأصول. (¬3) ساق هذه المسألة وما قبلها مجموعًا من إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 205).

وتتعلق بذلك مسألة فقهية وهي أن الوكيل ينعزل من حين العزل على الصحيح بخلاف القاضي، والفرق تعلق المصالح الكلية بالقاضي بخلافه (¬1). ومسألة أخرى (¬2): وهي أن الأَمة لو صلت مكشوفة الرأس، ثم علمت بالعتق في أثنائه. فقال أصبغ: تبطل. وقال ابن قاسم: تصح، وكذا إذا أُعتقت في نفس الصلاة وهي مكشوفة الرأس وأمكنها الستر، ومذهب الشافعي ومالك والكوفيين أنها تبني، وقيل: تقطع. الثالث عشر: قد يؤخذ منه جواز الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بالقرب منه، لأنه كان يمكن قطع الصلاة، وأن يبنوا على ما صلوا كما فعلوه، فرجحوا البناء، وهو محل اجتهاد. قاله الشيخ تقي الدين (¬3)، وفيه نظر. وقد حكى الماوردي (¬4) خلافًا لأصحابنا: في أن استقبال بيت المقدس كان ثابتًا بالقرآن ثم باجتهاده - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاضي عياض: الذي شهبة إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن [فعلى] (¬5) هذا فيه دليل لمن يقول إن القرآن ينسخ ¬

_ (¬1) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 207). (¬2) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 209، 210). (¬3) انظر: إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 208). (¬4) الحاوي الكبير (2/ 86، 87). (¬5) في ن ب (وعلى).

السنة، وهو قول الأكثرين كما سلف، ووجه مقابله أن السنة مبينة، فكيف ينسخها؟ والقائل بهذا يقول: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة، بل بوحي من الله -تعالى- قال -تعالى-: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} (¬1) الآية، واختلفوا أيضًا في عكسه كما سلف. الرابع عشر: فيه دليل على أن الليلة لا تطلق إلَّا على الماضية ولا يراد بها المستقبلية إلَّا بقرينة أو دليل. الخامس عشر: [فيه] (¬2) جواز الصلاة إلى جهتين، وهو الصحيح عندنا، بل إلى أربع جهات بأربع اجتهادات، وجه الدلالة أنهم استداروا ولم يستأنفوا. السادس عشر: فيه تنبيه من لم يصل [المصلي] (¬3) على أمر يتعلق بالصلاة واجب أو ممنوع والحديث دال على الواجب وفي إلحاق غيره [به] (¬4) نظر للشيخ تقي الدين (¬5) إذ لا مساواة. السابع عشر: فيه مراعاة سمت القبلة بالاجتهاد لميلهم إلى جهة الكعبة عند بلوغهم الخبر بتحويل القبلة قبل قطعهم بالصلاة إلى عينها (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 143. (¬2) في الأصل (في)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) انظر: إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 210). (¬6) انظر: إحكام الأحكام (2/ 211).

الثامن عشر (¬1): فيه أن من صلَّى إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ لم تلزمه الإِعادة؛ لأنه فعل ما وجب عليه في ظنه، مع مخالفة الحكم في نفس الأمر، وهو قول عندنا، والأظهر وجوب الإِعادة، وترجم أبو داود (¬2) على هذا الحديث من طريق أنس: "من صلى لغير القبلة ثم علم". وترجم عليه البخاري (¬3): "من لم ير الإِعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة ثم علم". وفي أخذه منه نظر لأن السهو إنما يكون عن حكم (¬4) استقر. التاسع عشر (¬5): فيه أن من لم يعلم بفرض الله عليه ولا بلغته الدعوة ولا أمكنه الاستعلام بذلك من غيره، فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة عليه، فعلى هذا لو أسلم في دار الحرب، أو طرف بلاد الإِسلام، ولم يجد من يستعلمه عن شرائع الإِسلام، وأمكنه السير والبحث عما يجب عليه بالإِسلام. قال الشافعي ومالك: يجب عليه أن يقضي ما مر من صلاة وصيام لم يعلم وجوبهما، لأنه يعد مقصرًا بإعراضه عما يجب عليه بالإِسلام مع تمكنه منه. العشرون: قال القاضي: فيه دليل على أن المسافر إذا نوى ¬

_ (¬1) ذكرها في إحكام الأحكام (2/ 212). (¬2) أبو داود عون المعبود (3/ 365). (¬3) البخاري (1/ 504). (¬4) في ب (شيء). (¬5) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 212).

الإِقامة في أثناء الصلاة أنه يتمادى ولا يقطع وهو قول الأكثرين، قال: واختلفوا في إمام الجمعة يعزل في أثناء الصلاة، وقد عقد ركعة منها هل يتمادى وهو قول الأكثرين، قال: وهذا الحديث يدل عليه، أو يقطع، وهو قول البعض. قال: واختلفوا في المتيمم إذا طلع عليه رجل بماء وهو في الصلاة، أو نزل المطر عليه وهو في الصلاة، هل يتمادى أو يقطع؟ ولا يقال في هذا: إنه يستعمل الماء ويتمادى، لأنه عمل كثير في الصلاة، فلا يجوز التمادي معه، وهو مذهب الشافعي ومالك والجمهور. وقال الكوفيون والأوزاعي: يستعمل ويتمادى، وهذا الحديث حجة عليهم. الحادي والعشرون: استدل به أيضًا على أن المرأة إذا زوجها أحد ولييها زيدًا، والآخر عمرًا، فدخل بها زيد ولم يعلم بعقد عمرو، أن العقد للأول ووطء الثاني شبهة، والمشهور [في] (¬1) مذهب مالك أنها للداخل بها، واحتجوا بأن أهل قباء لم يثبت في حقهم النسخ إلَّا بعد بلوغه إليهم، ولذلك صح ما مضى من صلاتهم، قالوا: فكذلك الناكح الثاني لا يثبت المنع في حقه إلَّا بعد علمه بعقد الأول، قالوا: وكذلك القول في السلعة يبيعها وكيلان: المشهور أنها للثاني إذا قبضها. الثاني والعشرون: فيه دليل على أن الحظر بعد الوجوب ¬

_ (¬1) في ن ب (من).

للتحريم، فإن الصلاة لبيت المقدس كانت واجبة، ثم منع من استقباله بهذا الحديث، لأن الأمر بالشيء نهى عن ضده لقوله: (فاستقبلوها) على رواية الكسر وهي المشهورة كما سلف، وفيه خلاف حكاه في المحصول (¬1). ¬

_ (¬1) المحصول للرازي، الجزء الأول القسم الثاني (334، 339)، يعني أن الأمر بالشيء المعين يقتضي النهي تصريحًا عن أضداد المأمور به الموجودة وهو قول الأشعري، والباقلاني، والجصاص. وقيل: الأمر بالشيء يستلزم النهي عن أضداده. وبه قال الآمدي. وقيل: أمر الوجوب يقتضي النهي عن ضده بخلاف أمر الندب. وقيل: الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده. وقيل: الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده مطلقًا. اهـ. من تقريب الوصول إلى علم الأصول للغرناطي، تحقيق: الشنقيطي (189).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 72/ 3/ 12 - عن أنس بن سيرين قال: "استقبلنا أنسًا حين قدم من الشام، فلقيناه بعين التمر، فرأينه يصلي على حمار، ووجهه من ذا الجانب -يعني عن يسار الكعبة- فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟ فقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله لم أفعله" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: كان ينبغي للمصنف -رحمه الله- أن يذكر هذا الحديث عقب الأول لأنه في معناه، ثم يذكر حديث التحويل بعدهما، فإنه أنسب. ثانيها: أنس بن سيرين [والده] (¬2) مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، ولد أنس بن سيرين لسنة بقيت من خلافة عثمان، فيقال: إنه جيء به إلى مولاه أنس فسماه باسمه، وكناه أبا حمزة بكنيته، سمع أنسًا وابن عمر وغيرهما، مات سنة عشرين ومائة، قال ابن معين: أثبت ولد سيرين محمد يعني الإِمام المشهور، وأنس دونه ولا بأس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1100)، ومسلم (702) في صلاة المسافرين، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة. (¬2) في الأصل (ولده)، والتصويب من ب.

به، ومعبد يعرف وينكر، ويحيى ضعيف [الحديث] (¬1) [وكريمة] (¬2) كذلك، وحفصة أثبت منها. ثالثها: في ألفاظه: "الشام" تقدم [ذكرها] (¬3) في الاستطابة. و"عين التمر": موضع كانت به وقعة [زمن] (¬4) عمر بن الخطاب في أول خلافته، استشهد بها جماعة من الصحابة. و"الحمار": اسم للذكر من الحمر، والأنثى: أتان. رابعها: وقع في رواية مسلم: "حين قدم الشام" بإسقاط لفظة "من". قال القاضي: وقد قيل: إنه وهم وصوابه: "من الشام" كما هو في صحيح البخاري، وكذا قاله الشيخ تقي الدين (¬5) أيضًا، لأنهم خرجوا من البصرة للقائه حين قدم من الشام. وقال النووي: رواية مسلم صحيحة، ومعناه: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام، وإنما حذف ذكر رجوعه للعلم به. خامسها: قوله: "رأيتك" إلى آخره، هذا السؤال لأنس بن مالك إنما هو عن عدم استقبال القبلة فقط، لا عن غير ذلك من هيئة ونحوها، فعلى هذا لا يؤخذ منه أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى على الحمار، بل قد غلط الدارقطني وغيره [من ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (وفهمه)، وما أثبت من ن ب. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) في الأصل (رصى)، والتصويب من ب. (¬5) إحكام الأحكام (2/ 215).

نسبة] (¬1) ذلك إليه، وهو عمرو بن يحيى المازني قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار" وإنما المعروف في صلاته - عليه الصلاة والسلام - على راحلته أو على البعير، والصواب: أن ذكر الحمار في تنفل أنس كما حكاه [في] (¬2) مسلم (¬3) بُعْد، وفي الموطأ (¬4) من حديث عمرو بن يحيى على "راحلته". ¬

_ (¬1) في ن ب (نسب). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) مسلم (700) ذكر في هذا الحديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار، وذكر في الروايات بعدها على بعير وعلى راحلته. (¬4) الموطأ (1/ 150). قال النووي -رحمنا الله تعالى وإياه- في شرحه لمسلم (5/ 211): قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، قالوا: وإنما المعروف في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته أو على البعير. والصواب: أن الصلاة على الحمار من فعل أنس، كما ذكره مسلم بعد هذا. ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو، هذا كلام الدارقطني في الإِلزامات والتتبع (444). قال النووي: وفي الحكم بتغليط رواية عمرو نظر، لأنه ثقة، نقل شيئًا محتملًا فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة ومرات، لكن قد يقال: إنه شاذ، فإنه مخالف لرواية الجمهور في البعير والراحلة، والشاذ مردود وهو المخالف للجماعة. وقد ذكر الإِمام الذهبي في الميزان هذا الحديث مما أنكر على عمرو بن يحيى. قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الفتح (2/ 576): وقد روى السراج من طريق يحيى بن سعيد، عن أنس أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار، وهو ذاهب إلى خيبر، إسناده حسن، وله شاهد عند مسلم من طريق عمرو بن يحيى عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر، ثم ذكر الحديث. وقال: فهذا يرجع الاحتمال الذي أشار إليه البخاري، لأنه =

سادسها: فيه الصلاة على الدابة إلى غير القبلة إذا كانت نافلة كما تقدم في حديث ابن عمر. سابعها: فيه جواز النافلة في السفر على الحمار، ولم يبين في هذا الحديث كيفية الصلاة [على الحمار] (¬1)، وقد وقع مفسرًا في الموطأ من فعل أنس فقال: "يركع ويسجد إيماءًا من غير أن يضع جبهته على شيء" (¬2). قال مالك: وتلك سنة الصلاة على الدابة. ثامنها: قد يؤخذ منه طهارة الحمار، لأن ملامسته مع [التحري] (¬3) منه متعذر، لا فيما إذا طال الزمان في ركوبه، فاحتمل العرق، وإن كان يحمل أن يكون على حائل بينه وبينه، وقد يؤخذ منه أن من صلى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيء منه تصح صلاته؛ لأن الدابة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها. تاسعها: فيه الرجوع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كأقواله والوقوف عندها، وهكذا كانت عادة الصحابة غالبًا يجيبوا باتباعه - عليه الصلاة والسلام - من غير إبداء [معنى، إذ أبدأ] (¬4) المعنى عرضة ¬

_ = قال: "باب صلاة التطوع على حمار". أقول: وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد: الذي في الموطأ (1/ 150) من رواية عمرو بن يحيى، وسيد بن يسار، عن ابن عمر أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو على حمار متوجه إلى خيبر. (¬1) في ن ب (عليه). (¬2) الموطأ (1/ 151). (¬3) في ب (التحرز). (¬4) ساقطة من ب.

للاعتراض، كما تقدم في قول عائشة حين [سألتها معاذة] (¬1): "كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (¬2) فأجابتها بالنص دون المعنى. عاشرها: فيه تلقى المسافر. الحادي عشر: فيه سؤاله عن مستند عمله المخالف للعادة. الثاني عشر: فيه أن التابع إذا رأى من متبوعه ما يجهله يسأله عنه. الثالث عشر: فيه الجواب عن السؤال بالدليل، و [نص] (¬3) الصحابي وقوله حجة [فيما يخالف] (¬4). الرابع عشر: فيه التلطف في إنكار ما خفي على المنكر حتى أخرى في مخرج الخبر المحض. الخامس عشر: قوله: "من ذا الجانب" فيه العمل بالإِشارة، وكأنه والله أعلم متفق عليه في مسائل شتى منها: طلاق الأخرس، وبيعه، وشراؤه، وغير ذلك. وكذا غيره إذا قال: أنت طالق، وأشار بأصبعين أو ثلاثة كما هو مبسوط في الفروع. وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) في الأصل (سألها معاذ). (¬2) البخاري (321) سبق تخريجه. (¬3) في ب (فعل). (¬4) كذا في الأصل وفي ب (لمن يخالف)، ولعل الصواب (ما لم يخالف)، والله أعلم بالصواب.

13 - باب الصفوف

13 - باب الصفوف ذكر فيه أربعة أحاديث: الحديث الأول 73/ 1/ 13 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سووا صفوفكم، فإن تسوية [الصف] (¬1) من تمام الصلاة" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أولها: فيه الأمر بتسوية الصفوف الأول فالأول، وهو اعتدال القائمين للصلاة على سمت واحد وسد فرج الصفوف [جمعًا] (¬3) بين مدلول الأمر للصورة والمعنى، وقد ورد الأمر بسد الخلل في ¬

_ (¬1) في ن ب (الصفوف). (¬2) البخاري (723)، ومسلم (433)، وأبو داود (668) في الصلاة، باب: تسوية الصفوف، والبيهقي في السنن (3/ 99)، وابن ماجه (993)، وأبو عوانة (2/ 38)، والدارمي (1/ 289)، وابن خزيمة (1543)، والطيالسي (1982)، وأبو يعلى (3188، 2997). (¬3) في الأصل (جميعها)، والتصويب من ب.

الصفوف في حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1) من حديث جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها [فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟] (¬2)، قال: يتمون الصفوف الأُول [] (¬3)، [ويتراصون] (¬4) في الصف" وفي سنن أبي داود (¬5) وصحيح ابن حبان (¬6) من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأكتاف، فوالذي نفسي بيده! إني لأرى الشيطان يدخل [في] (¬7) خلل الصف: كأنها الحذف". قلت: الحذف (¬8) -بفتح الحاء المهملة ودال معجمة مفتوحة ثم فاء- وهي غنم صغار سود تكون باليمن. ¬

_ (¬1) مسلم (430)، وابن ماجه (992)، والنسائي (2/ 92)، وأبو عوانة (2/ 39)، وابن خزيمة (1544)، وأحمد (5/ 101). وفي أبي داود عون المعبود (652) من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (الأول). (¬4) في الأصل (يتزاحمون)، وما أثبت من ن ب وصحيح ابن حبان. (¬5) أبو داود عون المعبود (653). (¬6) في الأصل ون ب (بالأعناق)، وما أثبت من صحيح ابن حبان (3/ 298)، والبغوي (813)، والنسائي (2/ 92)، وأحمد (3/ 260، 283)، والبيهقي (3/ 100)، وابن خزيمة (1545). (¬7) في ب (من). (¬8) انظر: مختار الصحاح (61)، والمصباح المنير (126).

وفي رواية البيهقي (قيل: يا رسول الله [] (¬1) وما الحذف؟ قال: ضأن جرد سود تكون بأرض اليمن). قال الخطابي (¬2): ويقال: أكثر ما تكون بأرض الحجاز. فحصل من ذلك التسوية صورة ومعنى تصريحًا، وإن كان الشيخ تقي الدين (¬3)، قال: الأظهر أن المطلوب بالحديث الأول. ثانيها: فيه إشارة إلى أن تسويتها مستحب ليس بواجب بجعله - عليه الصلاة والسلام - تسويتها من تمام الصلاة، ومعلوم أن الشيء إذا لم يكن من أركان الصلاة ولا واجباته، وكان من تمامه، كان مستحبًا، لكونه أمرًا زائدًا على وجود حقيقته التي لا تسمى إلَّا بها في الاصطلاح المشهور، كما قاله الشيخ تقي الدين، قال: وقد ينطلق من حيث الوضع على [بعض] (¬4) ما لا تتم الحقيقة إلَّا به (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (وما أولاد). (¬2) في المعالم (1/ 333)، ويقال: إنها أكثر ما تكون باليمن. اهـ. (¬3) إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 217). (¬4) ساقطة من ب. (¬5) هذا نص كلام ابن دقيق -رحمنا الله وإياه- قال: ويؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - من تمام الصلاة الاستحباب، لأن تمام الشيء في العرف أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلَّا بها. وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلَّا به أحكام الأحكام (1/ 195). قال ابن حجر في الفتح (2/ 209): وهذا الأخذ بعيد، لأن لفظ الشارع لا يحمل إلَّا على ما دل عليه في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث.

وقال القاضي عياض: تمام الشيء وحسنه وكماله بمعنى واحد. قلت: ولهذا جاء في رواية ابن حبان: "حسن" مكان: "تمام" (¬1)، وأما ابن حزم فزعم أن تسويتها فرض، لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض [ثم] (¬2) استدل بهذا الحديث. ثالثها: قيل: فيه رد على من يقول: إن المفرد المحلى بالألف واللام لا يعم. ووجهه أنه أضاف الصفوف [بصيغة] (¬3) الجمع، فعمت، ثم أفرد فلو لم يكن للعموم لتناقض. رابعها: يمكن أن يؤخذ منه أن الأمر للوجوب عند التجرد عن القرائن، لأنه لو كان محمولًا على الندب لما [احتاج] (¬4) لزيادة ¬

_ (¬1) الرواة لم يتفقوا على لفظة: "تمام"، فبعضهم رواه من: "إقامة الصلاة"، أما رواية: "من حسن الصلاة"، فقد أخرجها البخاري من طريق أبي هريرة (722)، وابن حبان (3/ 303) عنه. قال ابن حجر في الفتح (2/ 209): ولذا تمسك ابن بطال بظاهر لفظ حديث أبي هريرة فاستدل به على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وأورد عليه رواية: "تمام الصلاة"، وأخرجها ابن حبان (3/ 302) والبيهقي وأبو داود ومسلم -رحمهم الله-. فائدة حديثية: قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (2/ 209)، من طريق أبي داود الطيالسي: "سمعت شعبة يقول: داهنت في هذا الحديث لم أسأل قتادة: أسمعته من أنس أم لا؟ ولم أره عن قتادة إلَّا معنعنًا". (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في الأصل (نصف) كذا. (¬4) في ن ب زيادة (إلى).

قوله: (فإن تسوية الصف من تمام الصلاة). فلما أتى بلفظ التمام الذي هو ظاهر في عدم الوجوب دل على أنه لولا تلك الزيادة لكان الأمر للوجوب، وفيه أنه ينبغي للمفتي [والأمير] (¬1) إذا أمر بأمرٍ أن يذكر مقام ذلك الأمر من المأمورات. [ثم] (¬2) اعلم أنه يسوي الأول فالأول، فلا يشرع في صف حتى يفرغ مما قبله، ثم الأمر بتسوية الصفوف لا يختص بالإِمام، نعم هو آكد من غيره (¬3). [خامسها: السر في تسويتها موافقة الملائكة كما تقدم والمطلوب منها محبة الله لعباده. فائدة: متعلقة بما نحن فيه في "الإِحياء" للغزالي: أن المنبر يقطع بعض الصفوف، وإنما الصف الأول المتصل الذي في فناء المنبر وما على طرقيه مقطوع] (¬4). قال وكان سفيان الثوري يقول: الصف الأول هو الخارج بين يدي المنبر، وهو متجه لأنه متصل، ولأن الجالس فيه يقابل الخطيب، ويسمع منه، ولا يبعد أن يقال: الأقرب إلى القبلة [هو] (¬5) الصف الأول، وما ذكره في تفسير الصف الأول مقالة مرجوحة. ¬

_ (¬1) في الأصل (أوالآمر)، وما أثبت من ن ب. (¬2) ساقط من ب. (¬3) البخاري (717)، ومسلم (436)، والترمذي (227)، والنسائي (2/ 89)، وأبو داود (663)، وابن ماجه (994). (¬4) ما بين القوسين في الأصل بعد قال وكان سفيان، وما أثبت حسب ن ب. (¬5) زيادة من ن ب.

قال النووي في "شرح مسلم" (¬1): الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله والحث عليه هو [الصف] (¬2) الذي يلي الإِمام سواء جاء صاحبه متقدمًا أو متأخرًا، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي تقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقالت طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها. قال: فإن تخلل الذي يلي الإِمام فليس بأول، بل الأول ما لا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل: الصف الأول عبارة عن مجيء الإِنسان إلى المسجد أولًا وإن صلى في صف متأخر، قال: وهذان القولان غلط صريح وإنما [ذكرته] (¬3) أو مثله لأنبه على بطلانه كيلا [يغتر] (¬4) به. [وقال] (¬5) في شرح المهذب (¬6). في [باب] (¬7) (موقف الإِمام والمأموم): اعلم أن المراد بالصف الأول: الصف الذي يلي الإِمام، سواء تخلله منبر ومقصورة وأعمدة وغيرها، أم لا. هذا لفظه ولم يذكر غيره. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (4/ 160). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (أذكره)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في الأصل (بعلم)، وما أثبت من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) شرح المهذب (4/ 301). (¬7) زيادة من ن ب.

وجزم القرطبي في "شرحه لمختصر مسلم" في باب ([التنفل] (¬1) [بعد] (¬2) الجمعة): أن المقصورة إذا اتخذت لغير التحصين لا يجوز، ولا يصلى فيها لتفريقها الصفوف، وحيلولتها مع التمكن من المشاهدة. ورأيت في "الشامل الصغير" (¬3) لبعض المتأخرين من الفقهاء الشافعية: [أن] (¬4) الصف الأول أفضل، ثم أقربهم من الإِمام ثم اليمين من كل صف، كذا قال. وقال الغزالي في "الإِحياء": يراعي [في] (¬5) الصف الأول إلَّا أن يكون فيه منكر يعجز عن تغييره: كلبس حرير أو صلاة في ساح كثير شاغل أو مذهبة ونحو ذلك، فإن كان شيء من ذلك فالتأخير أسلم، نقله جماعة من العلماء طلبًا للسلامة. ¬

_ (¬1) في المفهم (3/ 1478): "الصلاة" بدل "التنفل". (¬2) في ن ب (يوم). (¬3) لعل هذا المؤلَّف صاحبه عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر بن الصباغ، كما ذكر في ترجمته في: طبقات الشافعية (5/ 122)، وذكر في كشف الظنون (2/ 1025)، تعريفًا به: وذكر له عدة شروح وكلها ألفت قبل وفاة ابن الملقن. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب ساقطة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 74/ 2/ 13 - عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (¬1). ولمسلم: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أن قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلًا باديًا صدره، فقال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وهو صحابي ابن صحابي، كنيته أبو عبد الله، أمير الكوفة وحمص، وقاضي دمشق، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة، وأول من حيّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحية الإِسلام، ولد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة على الأصح، ¬

_ (¬1) من هنا في الأصل تقديم وتأخير وما أثبتناه من ب، وما في الإِحياء للغزالي (1/ 184) يطابق ذلك. (¬2) مسلم (436)، وابن حبان (3/ 298، 302).

ومات بحمص أو بقرية من قراها أو بالشام، أقوال: سنة أربع وستين، وقيل غير ذلك، وكان كريمًا جوادًا، شاعرًا، وترجمته أوضحتها فيما أفردته لرجال هذا الكتاب، فراجعها منه فإنها مهمة. ثانيها: في التعريف بما وقع فيه من المبهم وهو قوله "فرأى رجلًا باديًا صدره" ولم أقف على تسميته بعد البحث عنه. ثالثها: في ألفاظه ومعانيه وأحكامه: أولها: الظاهر أن اللام في "لتسون" [جواب قسم محذوف التقدير: والله لتسون صفوفكم] (¬1) "لتسون صفوفكم" الواقع ولا بد [من] (¬2) أحد [الأمرين] (¬3) من تسوية الصفوف أو وقوع المخالفة بين الوجوه. [ثانيها] (¬4): هذه المخالفة للوجوه هل هو بالصورة أو بالمعنى، اختلف فيه، فقيل: معناه مسخ الوجوه وتحويلها عن خلقتها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام أن يجعل الله صورته صورة حمار" (¬5)، وقيل يغير صفتها، وقيل: المراد ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (أمرين). (¬4) في ن ب (رابعها). (¬5) البخاري (691)، ومسلم (427)، والترمذي (582)، وابن ماجه (961)، والنسائي (2/ 96)، وأبو داود (623) في الصلاة، باب: التشديد فيمن يرفع قبل الإِمام أو يضع قبله، البيهقي (2/ 93)، وابن خزيمة (1600)، وأحمد (2/ 260).

بالوجوه القلوب، فإن تقدم الشخص على المصلي إلى جنبه يوغر صدره، وذلك موجب لاختلاف القلوب فعبر عنه باختلاف وجوههم [لكونه] (¬1) يلزم من تغير القلب تغير الوجه غالبًا، فلما كان لازمًا له عبر به عنه. قلت: ويؤيده رواية أبي داود (¬2) وابن حبان (¬3) (بين قلوبكم). وقال النووي (¬4): الأظهر والله أعلم: أن معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال: تغير وجه فلان عليّ، أي: ظهر لي من وجهه كراهة لي، وتغير قلبه (¬5) عليّ. قلت: ومقتضى الوجه الأول وجوب تسوية الصفوف لترتيب الوعيد المذكور على عدمها، فإن حمل الوعيد على ترك ائتلاف القلوب فهو على تركه واجب. ¬

_ (¬1) في الأصل (لكنه)، وما أثبتناه من ب. (¬2) أبو داود عون (648)، ومن طريقه البيهقي (3/ 100)، والدارقطني (1/ 282)، والدولابي في الكنى (2/ 86). (¬3) ابن حبان (3/ 302). (¬4) في شرح مسلم (4/ 157). (¬5) قال ابن حجر في الفتح (2/ 207): ويؤيده حمله على ظاهره حديث أبي إمامة في المسند: "لتسون الصفوف أو لتطمس الوجوه" أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. ولهذا قال ابن الجوزي: الظاهر أنه مثل الوعيد المذكور في قوله -تعالى-: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}.

[ثالثها] (¬1): "القداح" بكسر القاف جمع قدح بكسرها أيضًا وسكون الدال كذلك، وهي خشب السهام، حين تنحت وتبرى وتهيأ للرمي به، وهو تمثيل حسن جدًّا، فإن السهام يطلب في تسويتها التحذير وحسن الاستقامة، كيلا يطيش عند الرمي، فلا يصيب الغرض. فشبه تسوية الصفوف بها، فالمعنى كان يبالغ في تسويتها، حتى يصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، وإنما قال: القداح ولم يقل القدح لأجل مقابلة الصفوف، وقد كان بعض أئمة السلف يوكلون رجالًا يسوون الصفوف. [رابعها] (¬2): قوله: "حتى رأى أن قد عقلنا" أي فهمنا ما أمرنا به من التسوية، [وكأنه] (¬3) - صلى الله عليه وسلم - راقبهم في التسوية حتى ظهر له فهمهم المقصود منها وامتثالهم له. خامسها: هذه الرؤية رؤية علم لا رؤية بصر، لأن فهمهم ليس مما يدرك بحاسة البصر. و"أن": هذه مخففة من العقيلة. سادسها: قوله: "حتى كاد أن يكبر" تتعلق به مسألة نحوية، وهو دخول "أن" على "كاد" وهو قليل عندهم، والأكثر حدفها عكس "عسى". سابعها: فيه جواز كلام الإِمام بعد الإِقامة وقبل الإِحرام، وهو ¬

_ (¬1) في ن ب (رابعها) ... إلخ المسائل. (¬2) في ن ب (خامسها). (¬3) في ن ب (فكأنه).

مذهبنا ومذهب الجمهور للحاجة، سواء كان الكلام لمصلحة الصلاة أو لم يكن، ومنعه أبو حنيفة، وقال: يكبر الإِمام إذا قال المؤذن "قد قامت الصلاة"، والحديث حجة عليه، نعم إذا كان لا لمصلحة أصلًا يكون مكروهًا. وقال اللخمي: من أصحاب مالك إذا طال الكلام أعاد الإِقامة. ثامنها: فيه أن تسوية الصفوف من وظيفة الإِمام وقد تقدم في الحديث الأول أنه آكد في حقه من غيره، وقدمت قريبا أن بعض أئمة السلف كانوا يوكلون رجالًا يسوون الصفوف وهو المنقول عن عمر وعثمان. تاسعها: قوله: "عباد الله لتسوّن صفوفكم" [هذا تفسير لشدة مراقبته - عليه الصلاة والسلام - لهم في التسوية في الصفوف، والمحافظة على ذلك] (¬1)، وتنبيه المأمومين عليه" والأمر المؤكد لهم بها، فإنه أكده بلام الأمر ونون التوكيد، والتهديد على تركها باختلاف القلوب والأبشار. عاشرها: فيه أنه ينبغي للإِمام والراعي أمر أتباعه بالخير، ومراقبته لهم في ذلك ظاهرًا وباطنًا والشفقة عليهم في الدنيا والآخرة، ولا يهمل واحد منهم، ولا يخصه بالمخاطبة، بل يعم جميعهم بالخطاب وإن وقعت من [أحد] (¬2) منهم. ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) في ن ب (واحد).

الحادي عشر: فيه التحذير من المخالفة في الظاهر والباطن، والحث على الموافقة في الظاهر والباطن. الثاني عشر: فيه أنه لا يهمل مخالفة، حتى لو حصل الامتثال من الجميع، وتخلف واحد [خشي] (¬1) من شؤمه عليهم. الثالث عشر: فيه كراهة المتقدم على المأمومين في الصف، سواء كان المتقدم بقدمه أو بمنكبه أو بجميع بدنه، فإنه إذا كان - صلى الله عليه وسلم - منع بادي الصدر الذي [لا] (¬2) يظهر فيه كبير مخالفة [في التسوية، وهدد من فعله، فما ظنك بغيره من البدن والقدم والمنكب؟!] (¬3). الرابع عشر: [فيه] (¬4) جواز التمثيل للأمور المأمور بها بعضها ببعض، فإن تسوية الصف مأمور بها، وتسوية القداح مأمور بها، ومثل بتسوية الصف تسوية القداح. الخامس عشر: فيه اختبار الإِمام أو المعلم أتباعه بعد فهمهم عنه. السادس عشر: فيه التهديد على المخالفة والتوكيد للتحذير. ¬

_ (¬1) في الأصل (حتى)، والتصويب من ب. (¬2) ساقطة من ب. (¬3) ساقطة من ب. (¬4) في الأصل (؟؟؟)، وما أثبت من ن ب.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 75/ 3/ 13 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، (أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته فأكل منه، ثم قال: "قوموا لأصلي لكم". قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسودّ من طول ما لبس، فنضحته بماء، وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). ولمسلم: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه (¬2) فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أولها: التعريف براويه وقد تقدم في الاستطابة. ¬

_ (¬1) البخاري (380، 727، 860، 871، 874، 1164)، ومسلم (658)، والترمذي (234)، ومالك (1/ 153)، وأبو داود (612)، وأحمد (3/ 164)، والنسائي (2/ 56، 57، 85، 86). (¬2) زيادة من صحيح مسلم (660). (¬3) مسلم (660).

ثانيها: هذا اليتيم، قال المصنف فيه: أنه ضُميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة ولم ينسبه، وإنما عرفه بكونه جد حسين المذكور وهو ضُميرة بن أبي ضُميرة الليثي، قاله ابن حبان. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬1): ضميرة بن سعد الحميري، ولا تنافي بينهما، فإن ليثًا من حمير. وفي كتاب [ابن] (¬2) الحذاء قيل: اسمه روح [بن سندر] (¬3)، وقيل: ابن شيرزاد. وادعى بعض الشراح أن في "تاريخ الصحابة" لابن حبان بدل ضميرة والد عبد الله عميرة بفتح العين المهملة وكسر الميم، قال: فيكون أحدهما تصحيفًا، وهذا غريب، فإن الذي رأيته في كتاب ابن حبان (¬4) المذكور هو كما قال المصنف سواء، وهذا لفظه: (ضميرة بن أبي ضميرة الليثى) جد حسين بن عبد الله بن ضميرة من ¬

_ (¬1) شرح مسلم (5/ 164)، والمذكور فيه ضمير بدون هاء فلا ادري هل هو تصحيف أم غلط مطبعي. (¬2) في الأصل (أبى)، والتصويب من ب. (¬3) كذا وهي ساقطة من ب. وقد أثبتها وما بعدها حسب ما رسمت في المخطوط. وقد حاولت الحصول على مخطوطة لهذا الكتاب ولكن لم يتيسر ذلك. وابن الحذاء: هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أحمد التميمي من أهل قرطبة، توفي سنة عشر وأربعمائة. الصلة لابن بشكوال (2/ 47)، والديباج (2/ 237). (¬4) الثقات لابن حبان (3/ 199).

أهل المدينة له صحبه. [انتهى] (¬1). وكأنه والله أعلم تصحف عليه فضبطه ثم ادعى التصحيف. ثالثها: مليكة: بضم الميم، وزعم الأصيلي بأنها -بفتح الميم وكسر اللام (¬2) - وهي أم سليم، وقد قدمنا التعريف بها في باب الجنابة. رابعها: قوله: "أنَّ جدته مليكة"، كذا شرح بأنها جدته، ويؤيده ما رواه أبو الشيخ (¬3) الحافظ في "فوائد العراقيين" (¬4) من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: "أرسلتني جدتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمها مليكة فجاءنا فحضرت الصلاة، فقمت إلى حصير لنا ... " الحديث. وقال أبو عمر (¬5): الضمير في جدته يعود إلى إسحاق بن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال النووي في شرح مسلم (5/ 162) بعد نقله. وهذا ضعيف مردود. اهـ. وأيضًا في مشارق الأنوار (1/ 399)، وقال بعده: ولا يصح. اهـ. (¬3) هو الإِمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان الأنصاري، ويعرف بأبي الشيخ ولد سنة (274)، ومات سنة (369)، له مؤلفات منها: "التفسير"، و"الأحكام" وغيرها من المصنفات: "غاية النهاية" (1/ 447)، والعبر (2/ 351، 352). (¬4) الكتاب ذكره السمعاني في كتابه التحبير في المعجم الكبير (1/ 161 - 190). (¬5) التمهيد (1/ 264).

عبد الله الراوي عن أنس، فعلى هذا كان ينبغي للمصنف وغيره أن يذكر إسحاق فإن إسقاطه يوهم أن تكون جدة أنس لا جدة إسحاق، وكذا قال القاضي عياض، [وعبد الحق] (¬1) أن الضمير يعود إلى إسحاق. وقال النووي (¬2): إنه الصحيح فتكون أم أنس، لأن إسحاق ابن أخي أنس لأمه (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل (وعند إسحاق) وبينهما شطب، والتصويب من ن ب. (¬2) شرح مسلم (5/ 162). (¬3) في إحكام الأحكام (1/ 198) زيادة (اليتيم: هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة). (¬4) "مليكة": بضم الميم وفتح اللام وقد أخطأ من ضبطه بفتح الميم وكسر اللام. وقوله: "جدته" اختلف في الضمير العائد هل هو عائد على أنس فتكون مليكة جدته هو؟ أو على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. فتكون جدة إسحاق؟ وقد ادّعى ابن عبد البر إن مليكة هي أم أنس بن مالك؟ وأنها أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري، وأن الضمير في "جدته" عائد على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة "واستدل لذلك لرواية عبد الرزاق لهذا الحديث عن مالك، عن إسحاق عن أنس، أن جدته مليكة يعني جدة إسحاق" وذكر الحديث بمعنى ما في الموطأ وقلد كثير من العلماء ابن عبد البر في ذلك. ورواية عبد الرزاق رواها أحمد في المسند (8/ 127)، (3/ 164)، وليس فيها قوله: "يعني جدة إسحاق" إنما جاء الوهم ابن عبد البر -رحمه الله- ومن قلده في تسمية أم سليم بمليكة وهذا خطأ، فإن أم سليم ثبت ملحان اختلف في اسمها، فقيل: الغميضاء، وقيل: الرميضاء، وقيل: رميلة، وقيل: رميثة. وهذه الأسماء بضم الأول فيها كلها، ولم يقل أحد إن اسمها "مليكة". وأما =

خامسها: العجوز: هي أم سليم [أم آنس] (¬1) قاله غير واحد. سادسها: فيه دليل على عظم تواضعه - صلى الله عليه وسلم - بإجابة دعوة داعيه. سابعها: فيه دليل أيضًا على إجابة الداعي لغير وليمة العرس، ولا خلاف في أن إجابتها مشروعية، لكن إجابتها عندنا غير واجبة على الأظهر، وظواهر الأحاديث الإِيجاب، ونشره مالك إجابة أهل الفضل لكل من دعاهم إلَّا في وليمة العرس، كذا نقله القاضي عياض، والحديث حجة عليه، وتكلف بعض المالكية فقال: ¬

_ = "مليكة" فهي أمها وهي جدة أنس لأمه، وهي جدة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لأنها جدة أبيه عبد الله لأمه. وكانت ابنتها أم سليم تحت مالك بن النضر، فولدت له أنسًا في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات بها، فتزوجها بعده أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له عبد الله، وأبا عمير وهؤلاء بنو ملحان معروفون أخوة أشقاء: سليم، وزيد، وحرام، وعباد، وأم سليم، وأم حرام، وأبوهم ملحان بكسر الميم وإسكان اللام واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام، من بني النجار، وأمهم مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد بن مناة بن عدي من بني النجار. (الإِصابة ج 8، 190، 191)، وطبقات ابن سعد ويؤيد هذا ما نقله السيوطي في شرح الموطأ (1/ 169) عن فوائد العراقيين لأبي النسخ من طريق القاسم بن يحيى المقدمي، عن عبد الله بن عمر، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس قال: "أرسلتني جدتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمها مليكة، فجاءت فحضرت الصلاة"، فهذا صريح في أنها جدة أنس لا أمه. اهـ. من كلام أحمد شاكر في سنن الترمذي (1/ 455). (¬1) في ن ب (أم أم أنس) بزيادة (أم) فيه، والصواب ما في الأصل.

المقصود بهذه الدعوة إنما كان للصلاة لهم ليتخذوا مكانه مصلى، والطعام تبع، ويرده قوله: (لطعام صنعته) (¬1). ثامنها: اللام في قوله: (فلأصلي) مكسورة لام كي، والفاء زائدة وقد جاءت زيادتها في قولهم: (زيد فمنطلق)، كما قال: (وقائلة خولان فانكح فتاتهم) وهو مذهب الأخفش، وقد [ورد] (¬2) بكسر اللام وجزم الياء على أنه أمر نفسه، وروي بفتح اللام الأولى والياء ساكنة وهي [أشدها] (¬3) لأن اللام تكون جواب قسم محذوف، وحينئذ يلزمها النون في الأشهر. وقال البطليوسي: كثير من الناس يتوهمه قسمًا، وهو غلط، لأنه لا وجه للقسم هنا، ولو كان قسمًا لقال (فلأصلين) بالنون، وإنما الرواية الصحيحة فلأصلّ على معنى الأمر، والأمر إذا كان للمتكلم والغائب كان باللام أبدًا، وإذا كان للمخاطب كان باللام وغيره. وحكى صاحب المطالع: (فلنصل) (¬4) بالنون وكسر اللام الأولى والجزم، كأنه أمر للجميع. تاسعها: فيه جواز النافلة جماعة. ¬

_ (¬1) ذكر هذا مختصرًا في الاستذكار (6/ 152)، وفي التمهيد (1/ 264)، وذكر مفصلًا في التمهيد (1/ 271، 276). (¬2) في ن ب (روى). (¬3) في ن ب (أشد). (¬4) وهي رواية الترمذي (234).

عاشرها: فيه الصلاة للتعليم، ولحصول البركة للاجتماع فيها أو بإقامتها في المكان المخصوص، فإن قوله - عليه الصلاة والسلام - (فلأصل لكم) يشعر بتخصيصهم. [وفيه] (¬1) تبريك الرجل الصالح والعالم (¬2) أهل المنزل بصلاته في منزله، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد تعليمهم أفعال الصلاة مشاهدة مع [تبريكهم] (¬3)، فإن المرأة قلّ ما تشاهد أفعاله في المسجد، فأراد أن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غيرها. الحادي عشر: فيه جواز صلاة النافلة في الجماعة اليسيرة وهو مذهب مالك، أعني جواز الجمع في النافلة في غير رمضان في موضع خفي، والجماعة يسيرة، وإلاَّ فالكراهة على المشهور. الثاني عشر: قال بعض العلماء: المتعبد له حالتان. الأولى: أن يصلى لنفسه قاصدًا وجه الله -تعالى- ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سبق أن ذكرنا النهي عن التبرك بالصالحين. انظر: تيسير العزيز الحميد. قال ابن باز -حفظه الله- في الفتح (1/ 327)، بعد ذكر التبرك بأهل الفضل ونحوهم: هذا فيه نظر. والصواب: إن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقاس عليه غيره، لما جعل الله فيه من البركة وخصه به دون غيره، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غيره - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الناس بالشرع، فوجب التأسي بهم، ولأن جواز مثل هذا لغيره قد يفضي إلى الشرك فتنبه. (¬3) في ن ب (تبركهم).

والإِخلاص في العبادة لمن يستحق أن يكون معبودًا لذاته، وهو الله -سبحانه وتعالى-[وهذا] (¬1) أعلى مراتب الإِخلاص. الثاني: أن يأتي بالعبادة ليعلم الجاهل، فهذا جائز، وهو مستحب، وعلى هذا الحديث يكون سنة، لكن هذا في حقه ملتحق بالأول، فإنه في حقه - صلى الله عليه وسلم - أبلغ فإنه من باب التبليغ والتعليم الواجب عليه، وأفضل العبادات أداء المفروضات، ويكون فعله - صلى الله عليه وسلم - هذا موصوف بأحسن الصفات، ويقرب من هذا تعليم العالم للمتعلم، وإن لم يبلغ تلك المرتبة العلية. الثالث عشر: قوله: (فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس) أخذ منه أن الافتراش يطلق عليه لباس، ولا شك أن لباس كل شيء بحسبه شرعًا ولغة، فافتراش الحصير لا يسمى لباسًا عرفًا، ولو حلف لا يلبس ثوبًا، ولم يكن له نية بافتراشه، فافترشه حنث عند مالك (¬2) احتجاجًا بقوله: (من طول ما لبس) خلافًا للشافعية، لأن الأيمان مبناها العرف، وهذا في العرف لا يسمى لباسًا، وافتراش الحرير لباسًا له فيحرم على الرجل مع أن فيه نصًّا يخصه بالتحريم على المذكور والتحليل للإِناث، واختلف أصحابنا في جواز افتراش الحرير للنساء على وجهين: ¬

_ (¬1) في ن ب (وهو). (¬2) ذكره في التمهيد (1/ 265)، والاستذكار (6/ 153)، ولم ينسب لمالك وإنما في التمهيد أثر عن ابن سيرين.

أصحهما عند النووي: الجواز، لأنه يسمى لباسًا، وقد أحل لهن اللباس. وأصحهما عند الرافعي: المنع، لأن اللباس العرفي في البدن، وجوز لهن لما فيه من الزينة للرجال، وليس ذلك في الجلوس والاستناد إليه. وفي "المدخل" لابن الحاج المالكي -رحمه الله- أنه يجوز لها استعمال ذلك خاصة، قال: وأما زوجها فسمعت سيدي أبا محمد -رحمه الله- يقول: إنه لا يجوز له ذلك إلَّا على سبيل التبع لها، فلا يدخل الفراش إلَّا بعد دخولها، ولا يقيم في الفراش بعد قيامها، ويجب عليها أن توقظه إذا قامت أو تزيله عنه. الرابع عشر: (النضح): الرش، قاله الجوهري (¬1)، وقد يطلق على الغسل، والأول أشهر، فنضحه للحصير يجوز أن يكون لأجل تليينه وتهيئته للجلوس عليه، فإنه كان من جريد، كما جاء في رواية لمسلم، واختار هذا التأويل النووي (¬2). ويجوز أن يكون لطهارته [وزوال] (¬3) ما يعرض من الشك [من] (¬4) نجاسة، ورجحه القاضي (¬5)، فإن احتراز الصبيان عن ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (277). (¬2) شرح مسلم (5/ 164). (¬3) في ن ب (وقال). (¬4) في ن ب (في). (¬5) نقله النووي عنه في شرح مسلم (5/ 164).

النجاسة بعيد، ويقوي هذا كون أبي عمير في البيت معهم، وكان طفلًا صغيرًا، كما جاء في رواية [في] (¬1) غير الصحيحين، فيدل للمالكية حينئذ على اعتبار النضح حال الشك (¬2)، وقد قدمت خلافًا في حديث أم قيس في باب المذي وغيره في الفرق بين النضح بالحاء المهملة والمعجمة. الخامس عشر: (اليتيم): جمعه أيتام ويتامى، وقد يتمِ الصبي بالكسر [يتمَ بالفتح] (¬3) يُتما ويَتْما بالتسكين فيهما قاله أهل اللغة قالوا: واليُتْمُ في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم. وحكى الماوردي: أنه يقال في بني آدم أيضًا أيتمت المرأة، فهي مؤتم أي صار أولادها يتامى. وكلُّ شيءٍ مفرد يعز نظيره، فهو يتيم، يقال: درة يتيمةٌ، ويتّمهم تيتيمًا، جعلهم أيتامًا. السادس عشر: فيه صحة [صلاة] (¬4) الصبي المميز. السابع عشر: فيه أن للصبي موقفًا في الصف، وبه قال الجمهور. قال النووي في "شرح مسلم" (¬5): وهو الصحيح المشهور من مذهبنا، وعن أحمد كراهته في الفرائض والمساجد. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. انظر: مختار الصحاح (308). (¬2) انظر: الاستذكار (6/ 153)، والتمهيد (1/ 265). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل (سلامة)، والتصويب من ب. (¬5) شرح مسلم (5/ 163).

وروي عن عمر أنه إذا أبصر صبيًّا في الصف أخرجه، ونحوه (¬1) عن بعض السلف وهو محمول على صبي لا يعقل الصلاة ويعبث فيها. الثامن عشر: أن الاثنين يكونان صفًا وراء الإِمام، وهو مذهب العلماء كافة إلَّا ابن مسعود وصاحبيه وأبا حنيفة والكوفيين، فإنهم قالوا: يكونان عن يمينه [وعن] (¬2) يساره، ويكون بينهما، واستدل بحديث عنه أجوبة أوضحتها في "شرح المنهاج" (¬3). ¬

_ (¬1) أثر عمر في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 413)، وذكره في الاستذكار (6/ 157)، وابن حبان (2/ 304). روي عن أُبَيّ بن كعب أنه أخرج صبيًّا من الصف، وأخبر أنه عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ابن خزيمة (1573)، والنسائي (2/ 88)، وعبد الرزاق (2460، 5/ 140)، والطيالسي (555). وحسن إسناده الألباني من ابن خزيمة. قال في الاستذكار: وروى عن زر بن حبيش، وأبي وائل، وأما الإِمام أحمد فيذهب إلى الكراهة (6/ 157). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 212): وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود الذي أخرجه أبو داود وغيره عنه أنه أقام علقمة عن يمية والأسود عن شماله، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان. رواه الطحاوي. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (1/ 267) بعد سياقه حديث ابن مسعود أنه قال: "هكذا صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، قال: وهذا الحديث لا يصح رفعه، والصحيح عندهم فيه التوقيف على ابن مسعود، أنه كذلك صلى بعلقمة والأسود، وحديث أنس أثبت عند أهل العلم بالنقل، والله أعلم. اهـ. انظر: الاستذكار (6/ 153، 154).

التاسع عشر: فيه أن موقف المرأة في الصلاة وراء الصبي، وأنها إذا لم تكن معها امرأة أخرى تقف وحدها وهذا لا خلاف فيه (¬1). العشرون: يجوز أن يتمسك به على أن المرأة لا تؤم الرجال، لأن مقامها في الائتمام متأخر عن مرتبتهم، فكيف تتقدم أمامه؟ وهذا مذهب جمهور العلماء خلافًا للطبري [وأبي] (¬2) ثور، فإنهما أجازا إمامة المرأة للرجال والنساء جملة، وحكي عنهما إجازته في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرها. واختلف أيضًا في إمامتها للنساء فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى المنع أيضًا، وأجازه الشافعي وغيره، وهو رواية عن مالك (¬3). الحادي والعشرون: فيه دليل على أن موقف المنفرد من المأمومين عن يمين الإِمام سواء كان رجلًا أو صبيًّا. الثاني والعشرون: فيه جواز الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض، وهو مجمع عليه، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلاف هذا، وهو محمول على استحباب التواضع بمباشرة الأرض نفسها، وكره مالك نبات القطن والكتان، وأجازه ابن مسلمة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (6/ 155، 156)، والتمهيد (1/ 268). (¬2) في الأصل (أبو)، وما أثبت من ن ب. (¬3) انظر: معجم فقه السلف فإنه بحث هذه المسألة ولكن بدون التعرض لإِمامة المرأة للرجال (2/ 24). (¬4) انظر: ففه السلف (8/ 112)، وشرح مسلم (5/ 163).

الثالث والعشرون: فيه أن الأصل في الثياب والحصر والبسط الطهارة، وأن حكم الطهارة مستمر حتى تتحقق النجاسة. واستفد هنا أن إسحاق بن راهويه انفرد فقال: لا يجوز لأحد أن يلبس ثوبًا جديدًا من ثياب النصارى حتى يغسله، ويرده أنه - عليه الصلاة والسلام -: "لبس جبة من جباب الروم ضيقة الكمين" (¬1)، ولم يرو واحد أنه غسلها. الرابع والعشرون: فيه أن الأفضل في نوافل النهار أن تكون ركعين: كنوافل الليل. الخامس والعشرون: جاء في هذا الحديث [فعيل] (¬2) في [الصفات] (¬3) من غير مبالغة، وذلك (يتيم وعجوز) وهو مما جاء على خلاف القياس، ومثله حصور للناقة الضيقة الإِحليل وهي التي ضاق مجرى لبنها من ضرعها وهو كثير. السادس والعشرون: فيه دليل على ترك الوضوء مما مست النار، لأنه لم يذكر في الحديث أنه توضأ. السابع والعشرون: أدخل مالك (¬4) هذا الحديث في ترجمة جامع لسبحة الضحى، واستدل به القاضي عياض على ذلك. ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه، وأخرجه الترمذي (1768). وانظر: كلام النوري في المجموع شرح المهذب (1/ 207) في الرد على من لا يلبس الثياب حتى يغسلها. (¬2) في الأصل (فعل)، وما أثبتناه من ب. (¬3) في ن ب (الصلاة). (¬4) الموطأ (1/ 153).

وقال الباجي (¬1): حديث أنس أنه لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إلَّا مرة واحدة في دار رجل من الأنصار، سأله أن يصلي في بيته ليتخذ مكانه مصلى، قد يجمع بينه وبين هذا بأن يقال: لعل مالكًا بلغه أن صلاته في دار مليكة كانت ضحى، وأن أنسًا لما اعتقد فيها أن المقصود [منها] (¬2) التعليم دون الوقت لم يعتقدها صلاة ضحى، ويحتمل أن يكون مالكًا لم يبلغه ذلك، ولكنه لما كانت عنده صلاة الضحى نافلة عبر عنها بصلاة الضحى، وجعلها تنوب عنها. وقال صاحب القبس (¬3): إنما أخذ مالك أنها صلاة الضحى من قوله: "أن جدته مليكة دعته لطعام صنعته"، والظاهر منه أن الدعوة في وقت الغداة عند تناول الغداء، وفيما ذكره نظر. الثامن والعشرون: احتج بعضهم بهذا الحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف ولا دلالة فيه لأنه موقفها (¬4)، وملخص ما في هذه المسألة ثلاثة مذاهب. ¬

_ (¬1) المنتقي للباجي مع اختلاف سير (1/ 274). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) القبس (1/ 337). (¬4) قال الترمذي -رحمنا الله وإياه- (1/ 456): وقد احتج بعض الناس بهذا الحديث على إجازة الصلاة إذا كان الرجل خلف الصف وحده، وقالوا: إن الصبي لم تكن له صلاة وكأن أنسًا كان خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده في الصف هذا وجه احتجاجهم بصحة صلاة الفذ خلف الصف. ثم قال: وليس الأمر على ما ذهبوا إليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقامه مع اليتيم خلفه، =

أحدها: الصحة مطلقًا، وهو قول النووي وابن المبارك وأصحاب الرأي ومالك والشافعي والأكثرين. وثانيه: البطلان مطلقًا، وهو قول النخعي وحماد وابن أبي ليلى ووكيع، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الزهري والأوزاعي: من ركع دون الصف إن كان قريبًا من الصف أجزأه وإلاَّ فلا. وقال ابن حبان (¬1): من فعل هذا الفعل المنهي عنه بعد أن علم بالنهي كان مأثومًا في ارتكابه وصلاته صحيحة. لحديث أبي بكرة أي في صحيح البخاري (¬2). ¬

_ = فلولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لليتيم صلاة لما أقام اليتيم معه، ولأقامه عن يمينه. قال ابن باز -غفر الله لنا وله- في تعليقه على الفتح (2/ 347): الصواب صحة مصافة الصبي في الفرض والنفل لحديثي أنس وابن عباس، المذكورين في هذا الباب، والأصل أن الفريضة والنافلة سواء في الأحكام إلَّا ما خصه الدليل، وليس هنا دليل يمنع من مصافة الصبي في الفرض فوجبت التسوية بينهما، والله أعلم. انظر: الاستذكار (6/ 154، 156). (¬1) في صحيح ابن حبان (3/ 309) نحوه. (¬2) أخرجه البخاري (783)، والنسائي (2/ 118)، وأبو داود (683، 684) في الصلاة، باب: الرجل يركع دون الصف ومن طريقه البيهقي (3/ 106)، والبغوي (822، 823)، وأحمد (5/ 39، 45)، وابن الجارود (318).

التاسع والعشرين: قوله: (فصلى لنا ركعتين ثم انصرف) الأقرب كما قال الشيخ تقي الدين: إنه أراد الانصراف عن البيت، ويحتمل أنه أراد الانصراف من الصلاة بناء على أن السلام لا يدخل تحت مسمى [الصلاة] (¬1) عند أبي حنيفة. وأما على رأي غيره فيكون الانصراف عبارة عن التحلل، ويؤيده الحديث الآخر: "لا تسبقوني بالركوع ولا بالانصراف" (¬2) أي بالسلام، فيكون أراد الانصراف عن الصلاة، وهو السلام، وهذا الاحتمال هو الأظهر. ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل، ومثبتة في ن ب والمنتقى. (¬2) رواه مسلم (426)، وأبو عوانة (2/ 136)، والدارمي (1/ 302)، والبيهقي (2/ 91، 92)، وأحمد في المسند (102/ 3، 126، 217، 240)، وابن خزيمة (1602). وجاء من رواية معاوية بن أبي سفيان: وإسناده حسن، وصححه ابن خزيمة (1594).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 76/ 4/ 13 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي، فأقامني عن يمينه" (¬1). الكلام عليه من تسعة عشر وجهًا: الأول: في التعريف براويه وقد تقدم في باب الاستطابة، وميمونة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في باب الجنابة. الثاني: فيه جواز نوم بعض محارم المرأة في بيت زوجها، إذا لم يكن على الزوج ضرر في ذلك. ¬

_ (¬1) البخاري (117، 138، 183، 697، 698، 699، 728، 859، 1124، 1198، 4569، 4570، 4571، 4572، 5919، 6215، 6316، 7452)، ومسلم (763)، وابن ماجه (423، 1363)، وأبو داود (610، 611) في الصلاة، باب: الرجلين يؤم أحدهما صاحبه، والترمذي (232)، وأبو عوانة (2/ 315 - 318)، والنسائي (2/ 87، 3/ 210، 211)، والبغوي (826)، والبيهقي (3/ 99)، وأحمد (1/ 242، 358، 284، 364)، والحميدي (472)، والطيالسي (2706)، وابن خزيمة (1533، 1534).

الثالث: ورد في رواية ضعيفة (¬1) في مبيته عندها أنها كانت حائضًا وهي حسنة المعنى جدًّا إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حاجة إلى أهله، لأنه معلوم أنه - عليه الصلاة والسلام - لا يفعل حاجته مع حضرة ابن عباس معها في الوسادة، فإن مبيته إنما كان ليراقب أفعاله ليقتدي به في الصلاة وغيرها، ولعله لم ينم أو نام قليلًا جدًّا. رابعها: فيه فضل قيام الليل، وكان واجبًا عليه، ثم نسخ وجوبه عليه [على] (¬2) الأصح. خامسها: فيه أن أقل الجماعة اثنان، وأن الجماعة تحصل بالصبي المميز. سادسا: فيه أن موقفه موقف الرجال في الصف عن يمين الإِمام. سابعها: فيه أن موقف الواحد مطلقًا عن يمينه صغيرًا كان أو كبيرًا، خلافًا لسعيد بن المسيب في أن قيام الواحد مع الإِمام عن يسار الإِمام، وقال أحمد: [إن وقف] (¬3) عن يساره بطلت صلاته. ثامنها: فيه جواز الجماعة في النافلة في صلاة الليل. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 482)، على قوله: "في عرض وسادة" في رواية محمد بن الوليد المذكورة: "وسادة من أدم حشوها ليف"، وفي رواية طلحة بن نافع المذكورة. "ثم دخل مع امرأته في فراشها"، وزاد: "إنها كانت ليلتئذ حائضًا"، فأثبت لفظ الحيض. (¬2) في الأصل (في)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في الأصل (أمن ذلك)، والتصويب من ب.

تاسعها: فيه أن الإِمام إذا اطلع على مخالفة من المأموم يرشد إليها بالفعل وهو في الصلاة. عاشرها: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة ولا يسجد لسهوه. الحادي عشر: أن المأموم إذا وقف في غير موقفه يحول إلى غيره، سواء كان في الصلاة أو خارجها، بشرط عدم تكرار الأفعال ثلاثًا متوالية. قال ابن بشير المالكي: وتكون الإِدارة من وراء الإِمام. قلت: وهو المنقول، قال القاضي عياض: قوله (فأقامني عن يمينه) فسره في حديث محمد بن حاتم: (فأخذ بيدي من وراء ظهري [يعدلني] (¬1) كذلك إلى الشق الأيمن) (¬2). الثاني عشر: فيه جواز الائتمام لمن لم ينو الإِمامة، فإن إحرامه كان بعد دخوله - عليه الصلاة والسلام - فيها، ويحتمل (¬3) أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نوى الإِمامة لما اقتدى به، فلا دلالة فيه إذن. قال القاضي: واختلفوا فيمن لم ينو هو أن يؤمك. فذهب مالك: إلى جوازه. وذهب إسحاق والثوري: إلى منع ذلك على الجملة. ¬

_ (¬1) في ب (يحولني). (¬2) البخاري (726، 728)، وانظر: تمام تخريجه في حديث الباب. وفي بعض ألفاظ مسلم: "فقمت عن يساره فأخلفني فجعلني عن يمينه". قال النووي في شرح مسلم (6/ 48) معنى أخلفني أدارني من خلفه. اهـ. (¬3) في ن ب زيادة (أن يقال).

وذهب غيرهم: إلى منعه لغير الإِمام والمؤذن الداعي إلى الصلاة. وذهب أبو حنيفة: إلى منع ذلك للنساء دون الرجال. قال القاضي: وقد يجاب عنه بأن في بعض الروايات: "فحركني النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي ظني نية الائتمام به". [قلت: ومذهبنا أنها مستحبة محصلة للفضل إلَّا في الجمعة] (¬1). الثالث عشر: فيه نقل أفعاله وأقواله ليقتدى بها. الرابع عشر: فيه دليل على أنه لا يجوز المتقدم على الإِمام، لأنه لو جاز ذلك لكانت إدارة ابن عباس من قدامه أسهل، والمنقول عنه أداره من خلفه، كما سلف كذا استنبطه بعضهم، وفيه نظر، لأن المرور بين يدي المصلي مكروه، فجاز أن تكون إدارته من خلفه لذلك. الخامس عشر: قوله: "من الليل" يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون بمعنى في لقوله -تعالى-: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬2) أي في يوم الجمعة. السادس عشر: قد قدمنا أن مبيته ليراقب أفعاله، فيستفاد منه مسألة حديثية، وهو طلب علو المسند في الرواية، فإنه كان يكتفي بإخبار خالته وفيها خلاف، فذهب بعضهم إلى أن النزول أحسن، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) سورة الجمعة: آية 9.

لأنه كلما طال السند كثر البحث عن أحوال الرجال، وذهب بعضهم أن العلو أحسن طلبًا للقرب منه - صلى الله عليه وسلم -. السابع عشر: كان سن ابن عباس إذ ذاك عشر سنين، كما رواه أحمد، وأخذه القاضي عياض منه. الثامن عشر: قوله: "فأخذ برأسي" كذا جاء في رواية، وفي أخرى: "فوضع [يده] (¬1) اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها"، وفي أخرى: "فأخذ بأذني"، وفي أخرى: "فأخذ برأسي من ورائي"، وفي رواية: "بيدي أو عضدي" (¬2) والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات، قال الماوردي: قيل: في أخذه بأذنه أنه أراد أن يذكره القضية بعد ذلك لصغر سنه. وقيل: لينفي عنه النوم لما أعجب قيامه معه. وقيل: تنبيهًا للفهم، وفي بعض طرقه أنه قال: "وكنت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني"، فقد بين في هذا الحديث: أنه إنما فعل ذلك لينبهه من النوم (¬3). التاسع عشر: يؤخذ من الحديث أيضًا أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام فيها، لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكلمه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: ت (1)، (539)، لتخريج الروايات. (¬3) انظر: شرح مسلم (6/ 46).

14 - باب الإمامة

14 - باب الإِمامة ذكر فيه سبعة أحاديث: الحديث الأول 77/ 1/ 14 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام أن يحول الله رأسه: رأس حمار؛ أو يجعل صورته: صورة حمار" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث ترجم عليه البخاري باب (إثم من رفع رأسه قبل الإِمام) ثم أخرجه بلفظ (أما يخشى أحدكم [أو ألا] (¬2) يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإِمام أن يجعل الله رأسه: رأس حمار، أو يجعل صورته: سورة حمار)، كذا رواه بلفظ (يجعل) ¬

_ (¬1) البخاري (691)، ومسلم (427)، والدارمي (1/ 302)، وابن ماجة (961)، والنسائي (2/ 96)، والترمذي (582)، وأبو داود (1/ 413)، وأحمد (2/ 260، 456، 469، 472، 504)، والطيالسي (2490)، والبيهقي (2/ 93). وانظر: الحديث الثاني من باب الصفوف ت (3). (¬2) في ن ب ساقطة.

فيهما، وكذا ذكره الحميدي في جمعه بين الصحيحين بلفظ (يجعل) فيهما، وذكره صاحب المنتقى (¬1) بلفظ (يحول) فيهما، وعزاه إلى رواية الجماعة، وأما لفظ رواية المصنف (¬2). وهذا الحديث رواه مع أبي هريرة، عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وحذيفة بن اليمان، كما أفاده ابن مندة في مستخرجه (¬3). ثانيها: (أما) مخفف لفظهُ: لفظ استفهام ومعناه: التقرير والتوبيخ، ويسمى حرف استفتاح [وحرفا الاستفهام] (¬4) "أما، وألا" أي يستفتح بعدها الكلام، والأصل فيه ما النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وهي كليس في قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬5). وفي الصحاح (¬6): "أمَا" مخففة تحقق الكلام الذي يتلوه، تقول: "أما إن زيدًا قائم" بمعنى أنه قائم على الحقيقة، لا على المجاز، وهذا معنى آخر، وكذا قولهم: (أما والله قد ضرب زيد عمرًا) معناه غير معنى أما في الحديث. ¬

_ (¬1) المنتقي للمجد (1/ 606). (¬2) في هامش النسخة ب: بياض في النسخة المنقول منها، وفي الأصل كذلك بياض. (¬3) ذكر في مجمع الزوائد (2/ 80، 82) رواية أبي سعيد الخدري، وابن مسعدة صاحب الجيوش، وأنس، والنعمان بن بشير، وجبير بن مطعم، وسمرة، وأبي أمامة، وأبي هريرة، وأبي الأحوص، وعبد الله بن يزيد. (¬4) زيادة من ب. (¬5) سورة الأعراف: آية 172. (¬6) انظر: مختار الصحاح (19)، مع اختلاف يسير.

ثالثها: (يخشى) معناه: يخاف. رابعها: الحديث نص في النهي عن الرفع قبل الإِمام في الركوع والسجود، [ويقاس عليها الخفض: كالهويّ في الركوع والسجود] (¬1) كذا قاله الشيخ تقي الدين (¬2). وقد يقال: الرفع وسيلة للفصل بين الأركان والاعتدال، وهو مختلف في [وجوبه، والخفض وسيلة إلى الركوع والسجود، وهما متفق على وجوبهما، وإذا دل الحديث على] (¬3) وجوب الموافقة فيما هو وسيلة لأمر مختلف فيه، فأولى أن تجب الموافقة فيما هو وسيلة لأمر مجمع عليه، نبه على ذلك الباجي. خص الركوع والسجود دون غيرهما، لأنهما آكد أركان الصلاة من حيث إن غاية الخضوع والتذلل ظاهر، إنما يحصل بهما فهما محل القرب: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬4). وذلك يناسب الطمأنينة فيهما، فلما عجل حتى سبق الإِمام فيهما، فقد قصر فيما ينبغي التطويل فيه نهى عن ذلك ونبه عليه. خامسها: إنما خص الحمار دون غيره كالكلب مثلًا لمناسبة حسية وهي التنبيه بذكر الحمار على البلادة وعدم الفهم، لأن ¬

_ (¬1) زيادة من ب، والزيادة مذكورة في إحكام الأحكام. (¬2) إنظر: إحكام الأحكام (2/ 234). (¬3) زيادة من ب. (¬4) رواه مسلم (482)، وأبو داود (875) في الصلاة، باب: الدعاء في الركوع والسجود أحمد (2/ 421)، وأبو عوانة (2/ 180)، والنسائي (1/ 171)، والبيهقي (2/ 110).

المتعاطي بمخالفة إمامه ومسابقته في أفعاله: كأنه بلغ هذا المبلغ من البلادة، فناسب بذلك أن [يجعل] (¬1) الله رأسه رأس حمار لشبهه به، لا سيما وقد قالوا: إن العقوبة تكون من جنس الجناية والذنب: كقوله - عليه الصلاة والسلام -: (من تحلم كاذبًا ألزم أن يكلف عقد شعيرتين وليس بعاقد) (¬2)، وكقوله في المصور: (كلف أن ينفخ فيه الروح، وليس بنافخ) (¬3)، وفي الحديث الآخر: (أحيوا ما خلقتم) (¬4). قلت: وجاء في صحيح ابن حبان في هذا الحديث (أن يحول الله رأسه: رأس كلب) (¬5) فيتأمل لهذه الرواية مناسبة [أخرى] (¬6)، وروى ابن جُمَيعْ (¬7) في حديث أبي هريرة أيضًا (أنه يحول الله رأسه: رأس شيطان). ¬

_ (¬1) في ب (يحول). (¬2) البخاري (2225)، ومسلم (2107)، والنسائي (8/ 214، 216)، والبغوي (3215)، والبيهقي (7/ 267). (¬3) متفق عليه. راجع ما قبله من رواية ابن عباس. (¬4) متفق عليه. راجع ما قبله. (¬5) ابن حبان (2283)، ذكر ابن حجر في الفتح بلفظ: "ويقوى حمله على ظاهره" أن في رواية ابن حبان من وجه آخر عن محمد بن زياد (2/ 184). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) هو الشيخ العالم الصالح أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد صاحب المعجم، ولد في سنة خمس وثلاثمائة، وقيل: في سنة ست. توفي في رجب سنة اثنتين وأربعمائة. وعاش ستًا وتسعين سنة. اهـ. سير أعلام النبلاء (17/ 152). وانظر: مكان وجود النسخ الخطية لمعجمه "تاريخ التراث العربي"، لسزكين (1/ 366).

سادسها: إنما خصت الرأس بذلك دون غيرها، لأن بها وقعت الجناية. واعلم: أنه جاء في رواية (الرأس) وفي أخرى (الوجه) وفي أخرى (الصورة) وكلها بمعنى واحد، كما قال القاضي، لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه (¬1). سابعها: هذا الحديث فيه الوعيد على الفعل المذكور، ولا يلزم وقوعه بخلاف الوعد، فإنه لازم وقوعه، ثم التحويل والجعل هل يرجع إلى أمر معنوي كما أسلفناه أو صوري أو أعم، فيرجع إلى المعنى والصورة جميعًا، ويكون أبلغ في [الوعيد] (¬2) والتخصيص على عدم المخالفة واجتنابها، فإن الحمار موصوف بالبلادة، ويستعار للجاهل البليد عن ترك ما يجب عليه من فروض الصلاة ومتابعة الإِمام، فيرجح المعنى المجازي بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع غالبًا مع كثرة [رفع] (¬3) المأمومين قبل الإِمام، وإن كان قد نقل وقوعه بإسناد صحيح لشخص أو شخصين في أزمنة ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (2/ 183): والظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة، لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: -أي ابن حجر- لفظ الصورة يُطلق على الوجه أيضًا، وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمدة. اهـ. (¬2) في الأصل (الوعد)، وما أثبت من ن ب. (¬3) ساقطة من ب.

قديمة (¬1). لكن الحديث لا يدل على وقوعه، وإنما فاعل الرفع قبل الإِمام متعرض له خصوصًا إن كان مستهزءًا بالحديث. فإنه يقع به كما ذكرنا ونعوذ بالله من ذلك، والمتعرض للشيء لا يلزم وقوع ما تعرض له، والمتوعَّد به لا يلزم وقوعه في الفعل الحاضر عند المخالفة، والجهل موجود عنده -فإن الجهل عبارة عن فعل ما لا ينبغي- وعن الجهل بالحكم فإن العالم بالشيء ولم يعمل به، يقال له: جاهل، لأن الشيء يفوت بفوات ثمرته ومقصوده وإن كان سببه موجودًا، ولهذا يقال: فلان ليس بإنسان، لفوات وصف يناسب الإِنسانية، ولما كان المقصود من العلم العمل به جاز أن يقال لمن لا يعمل به: جاهل غير عالم، وقد يقال: عالم غير عارف، فسمى عدم المعرفة جهلًا. ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (2/ 236): رواه ابن حجر الهيثمي في فهرسته على أن التحويل مطلق في الأزمنة، فيحتمل أنه يقع في دار الدنيا أو البرزخ أو الآخرة لبعض، أو يقع بعض في هذه وفي هذه، ومن هنا يعرف ضعف ما يجيء به الشارح -أي ابن دقيق العيد- من قوله: "وربما رجح هذا المجاز". أقول: ولفظه هنا: "فيرجح المعنى المجازي" بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإِمام، ولا يتم الترجيح به، إذ هو مبني على أن المراد التحويل في هذه الدار. اهـ. وقد نقل الصنعاني في هذا الموضع عن ابن الملقن -رحمهما الله جميعًا-. وقد ساق المؤلف هذا بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 235، 238).

ويجوز -والله أعلم- أن المراد تحويل صورته يوم القيامة، فيحشر على تلك الحالة، علمًا له على المخالفة. ثامنها: في المصنف عن أبي هريرة - رضي الله عنه -[موقوفًا] (¬1) "إن الذي يخفض ويرفع رأسه قبل الإِمام إنما ناصيته بيد شيطان" (¬2) وكذا قاله أيضًا سلمان من [طريق] (¬3) ليث بن أبي سليم. ونظر ابن مسعود إلى من سبق إمامه فقال: "لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت" (¬4) وعن ابن عمر نحوه وأمره بالإِعادة (¬5). تاسعها: فيه دليل على تحريم مسابقة الإِمام وغلظها كما سلف، إن سبقه بركن لا تبطل صلاته على الأصح مع ارتكابه الحرام، فيندب العود إن كان عامدًا، ويخير بينه وبين الدوام إن كان ساهيًا، وإن سبقه بركنين بطلت. ¬

_ (¬1) في ب (مرفوعًا). (¬2) أخرجه عبد الرزاق موقوفًا (2/ 374)، ومالك (1/ 92)، وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن، وكشف الأستار (1/ 233). قاله الهيثمي (2/ 80) في مجمع الزوائد، وذكره ابن حجر في الفتح، وسكت عنه، وقال: أخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفًا، وهو المحفوظ (2/ 183). (¬3) في ن ب (حديث). (¬4) موسوعة ابن مسعود (394)، والمغني (2/ 210). (¬5) مصنف عبد الرزاق (2/ 47)، والاستذكار (4/ 306)، والمغني (2/ 210)، والفتح (2/ 183).

وقال القرطبي وغيره: من خالف الإِمام فقد خالف سنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء. وقال ابن قدامة في المغني (¬1): إن سبق إمامه فعليه أن يرفع ليأتي بذلك مؤتمًا بالإِمام، فإن لم يفعل حتى لحقه الإِمام سهوًا أو جهلًا فلا شيء عليه، فإن سبقه عالمًا بتحريمه فقال أحمد في "رسالته" (¬2): ليس لمن سبق الإِمام صلاة لقوله: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام" الحديث، ولو كانت له صلاة لرجى له الثواب، ولم يخش عليه العقاب. عاشرها: فيه التهديد على المخالفة خشية وقوعها. الحادي عشر: فيه وجوب متابعة الإِمام، وقال القاضي عياض: لا خلاف أن متابعة الإِمام من سنن الصلاة. الثاني عشر: فيه كمال شفقته - عليه الصلاة والسلام - بأمته، وبيانه لهم الأحكام، وما يترتب على المخالفة. الثالث عشر: قال صاحب القبس (¬3): جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أن [الشيطان مسلط] (¬4) على الإِنسان من إفساد صلاته [عليه] (¬5) قولًا بالوسوسة ¬

_ (¬1) المغني (2/ 210). (¬2) الرسالة السنية، مطبوعة مع مجموعة الأحاديث النجدية (446). وذكره ابن حجر في الفتح عنه (2/ 183). (¬3) القبس (1/ 342) مع اختلاف يسير. (¬4) في ن ب (أن الله يسلط). (¬5) في ن ب ساقطة.

حتى لا يدري كم صلى، وفعلًا بالتقدم على الإِمام حتى يخل بالاقتداء، فأما الوسوسة فدواؤها الذكر والإِقبال على الصلاة، وأما التقدم فعلته طب الاستعجال ودواؤه أن يعلم أنه لا يسلم قبل الإِمام، فلا يستعجله في هذه الأفعال. الرابع عشر: هذا الحديث دال بمنطوقه على عدم المسابقة، وبمفهومه على جواز المقارنة، ولا شك فيه لكن يكره، ويفوت به فضيلة الجماعة، نعم تضر مقارنته في تكبيرة الإِحرام، هذا في الأفعال، وأما الأقوال فإنه يتابعه فيها، فيتأخر ابتداؤه عن ابتداء الإِمام إلَّا في التأمين، فيستحب المقارنة للنص فيه، وحكى القاضي عن مالك ثلاثة أقوال في الأفعال: أحدها: عقبة. ثانيها: بعد تمامه. ثالثها: معه إلَّا القيام من اثنين فبعد تمامه. واعلم أن النووي -رحمه الله- في "شرحه لمسلم" (¬1) أجحف في شرح هذا الحديث، فلم يذكر فيه غير أنه قال بعد أن روى: (رأسه ووجهه وصورته): هذا كله بيان لغلظ تحريم ذلك، ولم يزد. ¬

_ (¬1) (4/ 151).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 78/ 2/ 14 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا [و] (¬1) لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (722، 734)، ومسلم (414)، وأبو داود (603)، والنسائي (2/ 141)، وابن ماجه (1239)، والبيهقي (3/ 79)، وأبو عوانة (2/ 109)، وأحمد (2/ 314).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 79/ 3/ 14 - عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته، وهو شاكٍ، فصلى جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم: أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" (¬1). الكلام عليهما من وجوه: الأول: قوله: "إنما جعل الإِمام" لا بد فيه من تقدير محذوف وهو المفعول الثاني لجعل، لأنها هنا بمعنى صير، و [] (¬2) التقدير [إنما] (¬3) جعل الإِمام إمامًا، والأول ارتفع لقيامه مقام الفاعل. ¬

_ (¬1) البخاري (1113)، ومسلم (411)، والنسائي (3/ 9)، ومالك (1/ 135)، وأبو داود (302)، وابن ماجه (1237)، والبيهقي (3/ 79)، وأحمد (6/ 51، 57، 58، 68، 148، 194)، والطحاوي وابن أبي شيبة. (¬2) في ن ب زيادة (إنما). (¬3) في ن ب ساقطة.

الثاني: معنى (ليؤتم به) ليقتدى به. الثالث: الفاء تقتضي التعقيب، فتقتضي أن تكون أفعال المأموم عقب أفعال الإِمام القولية والفعلية، فنبه - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير والتسميع على القولية، وبالركوع والرفع على الفعلية، وقد تقدم الكلام في الحديث قبله على مسابقته ومقارنته. الرابع: (إنما) تقتضي العصر، والائتمام والمسابقة في كل شيء حتى في النية والهيئة من الوقف وغيره، وقد اختلف في ذلك العلماء. فقال الشافعي: لا يضر اختلاف النية فتصح قدوة المؤدي بالقاضي، والمفترض، بالمتنفل، وبالعكس، وجعل الحديث مخصوصًا بالأفعال الظاهرة (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 388). قال الشافعي، والأوزاعي، وداود، والطبري، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل: يجوز أن يُقتدى في الفريضة بالمتنفل، وأن يُصلي الظهر. خلف من يصلي العصر، فإن كل مصل يصلي لنفسه، وله ما نواه من صلاته، فالأعمال بالنيات. ومن حجتهم أن قالوا: إنما أمرنا أن نأتم بالإِمام فيما يظهر إلينا من أفعاله، فأما النية فمغيبة عنها، ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفي من أفعاله علينا. قالوا: وفي الحديث نفسه ما يدل على ذلك، أنه قال: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا". وقد ذكرنا في "التمهيد" من زاد في الحديث: "وإذا كبر فكبروا، وإذا =

وقال أبو حنيفة (¬1): يضر اختلافها وجعل اختلاف النيات داخلًا ¬

_ = سجد فاسجدوا". ولم تختلف الرواية فيه، في قوله: "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا"، فعرفنا أفعاله التي نأتم به فيها - صلى الله عليه وسلم - بما يقتدي فيه بالإِمام، وهي أفعاله إليهم. من أفعاله إليهم من التكبير والركوع والسجود والقيام والقعود، ففي هذا قيل لهم: لا تختلفوا عليه. قالوا: ومن الدليل على صحة هذا التأويل حديث جابر من نقل الأئمة في قصة معاذ إذ كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرف فيؤم قومه في تلك الصلاة التي صلاها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الصلاة التي صلاها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي له نافلة، ولهم فريضة. انظر: الاصطلام للاطلاع على حجة كل قول (283، 290) للسمعاني. (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 287). وحجتهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به"، فمن خالف في نيته فلم يأتم به. وقال: "فلا تختلفوا عليه" ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات التي عليها مدار الأعمال. واعتلوا في قصة معاذ برواية عمرو بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة الزرقي، عن رجل من بني سلمة أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطويل معاذ بهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكن فتانًا، إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك". قالوا: وهذا يدل على أن صلاته بقومه كانت فريضته، وكان متطوعًا بصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: وصلاة المتنفل خلف من يصلي الفريضة جائزة بإجماع العلماء على ذلك. =

تحت الحصر في الحديث. وقال مالك وغيره: لا يضر الاختلاف في الهيئة بالتقدم في الموقف وجعل الحديث عامًّا فيما عدا ذلك (¬1). وحجة الشافعي في أن اختلاف النيات لا يضر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ¬

_ = وأجاب ابن عبد البر عن استدلالهم بهذا بقوله: ولا يوجد من نقل من يوثق به: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إما أن تجعل صلاتك معي، وإما أن تخفف بالقوم". وهذا لفظ منكر لا يصح عن أحد يحتج بنقله، ومحال أن يرغب معاذ عن صلاة الفريضة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاته مع قومه وهو يعلم فضل ذلك وفضل صلاة الفريضة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على صحة هذا التأويل أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبة". فهي أصحابه وسائر أمته أن يشتغلوا بنافلة إذا أقيمت المكتوبة. فكيف يظن بمعاذ أن يترك صلاة لم يصلها بعد ولم يقض ما افترض عليه في وقتها، ويتنفل، وتلك الصلاة تقام في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد قال لهم: لا صلاة إلَّا المكتوبة التي تقام. وقد روى ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هي له تطوع ولهم فريضة. وهذا نص في موضع الخلاف. (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 387). قال مالك وأصحابه: لا يجزي أحد أن يصلي الفريضة خلف المتنفل، ولا يصلي عصرًا خلف من يصلي ظهرًا، ومتى اختلفت نية الإِمام والمأموم في الفريضة بطلت صلاة المأموم دون الإِمام، وكذلك من صلَّى فرضه خلف المتنفل. اهـ.

بأصحابه ببطن نخل صلاة الخوف مرتين بكل فرقة مرة، وصلاته الثانية وقعت له نفلًا وللمقتدين فرضًا، وبأن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصليها بهم هي له تطوع، ولهم مكتوبة، كما سيأتي في موضعه، ومما يدل أن الائتمام إنما يجب في الأفعال الظاهرة قوله - عليه الصلاة والسلام - في رواية جابر: "ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا" (¬1). فإن قلت: يدخل في النهي الوارد في الحديث إمامة القائم للعاجز عن القيام ولا شك في صحتها. فالجواب: بأن النهي إنما يتناول من أمكنه الموافقة. الخامس: قوله: "فإذا كبر فكبروا" وسيأتي الكلام على التكبير الإِحرام أنها لا تنعقد، وتكبيرة الإِحرام ركن. وقيل: شرط، وخرّج المالكية على ذلك الإِحرام قبل دخول الوقت وغيره مما سيأتي في الباب الآتي. السادس: قد يؤخذ من الحديث عدم قراءة المأموم الفاتحة في الجهرية، إذ لم يقل: "وإذا قرأ فاقرءوا"، كما قال: (فإذا كبر فكبروا)، وإنما خصصنا الجهرية لأنها الذي يمكن استعلامها دون السرية. ¬

_ (¬1) مسلم وأبو عوانة (2/ 108)، وابن ماجه (1240)، وأحمد (3/ 334).

سابعها: معنى "سمع الله لمن حمده" أي أجاب، ومعناه أن من حمد الله متعرضًا لثوابه استجاب له فأعطاه ما تعرض له، و"الواو" في (ربنا ولك الحمد) ثابتة في فهم هذين الحديثين، وصح حذفها أيضًا، وإثباتها أحسن (¬1)، لأنها تدل على زيادة معنى، وهو النداء بالاستجابة، فكأنه يقول: يا ربنا استجب أو تقبل ونحوهما، وعطف ذلك بقوله: (ولك الحمد) فكأنه خبر بأن له الحمد -سبحانه وتعالى- فكأنه حمد الله بلفظ الخبر الدال على ثبوت الحمد له ملكًا واستحقاقًا، فاشتمل الكلام على معنى الدعاء ومعنى الخبر، وحذف الواو دالٌ على أحد هذين المعنيين فقط، وكذا في الرد في قوله وعليكم السلام بإثبات [الواو فإنه يتضمن] (¬2) الدعاء لنفسه ولمن سلم عليه لأن تقديره علينا وعليكم السلام فحذف علينا لدلالة العطف عليه بخلاف إسقاطها، فإنه لا يقتضي إلَّا إثبات الدعاء لغيره خاصة. واعلم أن ما جاء من الدعاء بصيغة الخبر مثل: سمع الله لمن حمده، وغفر الله لنا، ورضي عنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ونحو ذلك، قد قيل: إنه من باب التفاؤل بإجابة الدعاء، وكأنه وقع واستجيب وأخبر عن وقوعه. ثامنها: فيه أن التسميع مختص بالإِمام، وأن "ربنا ولك الحمد" مختص بالمأموم، هكذا استدل به أحمد، وهو اختيار مالك وأبي حنيفة وابن المنذر. ¬

_ (¬1) انظر ت (3)، (560). (¬2) في ن ب ساقطة.

ومذهب الشافعي (¬1) أن الإِمام والمأموم والمنفرد يجمعون بين التسميع والتحميد في الركوع والاستواء منه، فالتسميع ذكر لحالة الرفع منه، والتحميد ذكر لحالة الاستواء من الرفع، وقاله من المالكية عيسى بن ديار، ونافع، وإن كان القاضي عياض في "إكماله" خطَّأ من تأول عليهما ذلك. وقال مالك: في "مختصر ما ليس في المختصر"، للمأموم أن يجمع بينهما. وادعى الطحاوي أن الشافعي خالف الإِجماع، وليس كما ذكر. والجواب عن الحديث: أنه - عليه الصلاة والسلام - علمهم ما جهلوه من ذكر الاستواء بخلاف ذكر الرفع من الركوع، وهو التسميع فإنهم كانوا يعلمونه، ويعملون به، ويتابعون فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يحتج إلى [التنبيه] (¬2) عليه بخلاف قوله: "ربنا لك الحمد"، وكذا حديث أبي هريرة: "إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة كفر له ما تقدم من ذنبه" رواه مالك في الموطأ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (4/ 110، 113، 5/ 404، 406). (¬2) في ن ب (البينة). (¬3) مسلم وأبو عوانة (2/ 110)، والطحاوي والطيالسي (2577)، وأحمد (2/ 467)، والموطأ (1/ 88). في الأصل زيادة (واو) في قوله: (اللهم ربنا ولك الحمد)، وهي غير واردة في روايات الكتب المذكورة. فائدة: قال الشوكاني في نيل الأوطار (2/ 280): قال ابن القيم: لم يأت =

[فجوابه] (¬1) ما ذكرناه، وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد"، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر (¬3) وأبي هريرة (¬4) الجمع بينهما أيضًا، وقد ذكرها المصنف في باب صفة الصلاة (¬5). وسيأتي الكلام عليهما هناك إن شاء الله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني ¬

_ = في حديث صحيح الجمع بين لفظ "اللهم" وبين "الواو". وأقول: قد ثبت الجمع بينهما في صحيح البخاري في باب صلاة القاعد من حديث أنس، بلفظ: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد"، وقد تطابقت على هذه اللفظة النسخ الصحيحة من صحيح البخاري. وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 406)، وحكى الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل ثبت الواو في: "ربنا ولك الحمد"، وقال: روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث؛ أحدها: عن أنس، والثاني: عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، والثالث: عن سالم عن أبيه يعني حديث رفع اليدين. وقال في حديث علي رضي الله عنه: "اللهم ربنا ولك الحمد" بالواو. اهـ. (¬1) في ن ب (جوابه). (¬2) هذا الحديث من أفراد مسلم دون البخاري وأخرجه أيضًا الدارمي (1/ 301)، والبيهقي (2/ 94)، وأبو داود والطحاوي وأبو عوانة (2/ 176) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) البخاري (735)، ومسلم (390). (¬4) البخاري (789)، ومسلم (392). (¬5) الحديث الثالث.

أصلي" (¬1). تاسعها: اختلف المتأخرون من أصحاب مالك في صلاة المسمع وصلاة المصلي بتسميعه على ثلاثة أقوال: أحدها: الصحة للصلاة، لأنه نائب عن الإِمام، ففعله كفعله، وعمدتهم اقتداء الصديق - رضي الله عنه - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في واقتداء الناس بالصديق وهذا على أنه خرج من الإِمامة وائتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الراجح، ولأن العمل استمر في سائر الأعصار على الصلاة بالتسميع. والثاني: بطلان الصلاة، لأنه إنما شرع الاقتداء بالإِمام، لا لعوض عنه كما هو ظاهر الحديث. والثالث: الصحة عند إذن الإِمام له، والبطلان عند العدم، وحكى القاضي عياض: أنه إنما يجوز ذلك في مثل: الأعياد والجنائز وغير الفرائض التي يجتمع لها الناس. قال: وقيل يجوز في هذا وفي الجماعات لضرورة كثرة الجمع، قال: وقيل: إنما يجوز ذلك إذا كان بصوت وطيء غير متكلف، فإن تكلف أفسد على نفسه وعلى من ائتم به. عاشرها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فقولوا ربنا ولك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري أطرافه (628)، ومسلم (674)، والنسائي (2/ 9)، أبو داود (589) في الصلاة، باب: من أحق بالإِمامة، الترمذي (205)، وابن ماجه (979)، والدارمي (1/ 286)، والبيهقي (1/ 385)، وابن خزيمة (397)، والبغوي (432)، وأحمد (3/ 436).

الحمد" في معناه " [لك] (¬1) الحمد ربنا"، أو "من حمد الله سمع له" للإِتيان باللفظ والمعنى. نص عليه الشافعي في الأم. قال الماوردي (¬2): ولو قال حمد الله من سمعه أجزأه وإن خالف السنة. الحادي عشر: قوله: "وإذا سجد فاسجدوا" يؤخذ منه الطمأنينة فيه، وكذا من قوله: "وإذا ركع فاركعوا" فإنه يقتضي تقديم ما يسمى ركوعًا وسجودًا، كذا قاله الشيخ تقي الدين في الحديث الرابع الآتي، ولا يخلو من مشاحَّةٍ فيه. الثاني عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" كذا وقع التأكيد في الروايات "بأجمعون" (¬3) مرفوعًا، ومقتضاه أن يكون منصوبًا، لأن التأكيد (¬4) ¬

_ (¬1) زيادة من ب. (¬2) الحاوي الكبير (2/ 161). (¬3) قوله: (أجمعون) كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو، إلَّا أن الرواة اختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة كما سيأتي في "باب إقامة الصف"، فقال بعضهم: (أجمعين) بالياء، والأول: تأكيد لضمير الفاعل في قوله: (صلوا)، وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه، والثاني: نصب على الحال أي جلوسًا مجتمعين أو على التأكيد لضمير مقدر منصوب كأنه قال: أعنيكم أجمعين. اهـ، من الفتح (2/ 180) وكذا في رواية مسلم أجمعين، وفي البيهقي (3/ 79). (¬4) أي: أن (أجمعون) وقع توكيدًا لواو الجماعة وهي فاعل مرفرع، والتأكيد يتبع المؤكد في إعرابه نصبًا ورفعًا وجرًا.

يتبع المؤكد في إعرابه، وقد وقع في بعض الروايات لذلك (بأجمعين) منصوبًا، وقد تكلف (¬1)، للجواب عن الأولى. الثالث عشر: هذا الحديث عند الشافعية ومهم البخاري والحنفية والجمهور: منسوخ بحديث عائشة - رضي الله عنها - أنه - عليه الصلاة والسلام -: "صلى قاعدًا، وأبو بكر والناس قيامًا" (¬2) متفق عليه. وكان هذا في مرض موته، فإنها كانت صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين كلما رواه البيهقي (¬3). وأما ابن حبان (¬4) فإنه أبى هذا في صحيحه، وبسط القول فيه بسطًا بليغًا، وقال: هو عندي ضرب من إجماع الصحابة أن صلاة المأمومين قعودًا إذا صلى إمامهم قاعدًا من طاعة الله، وأن عليهم ذلك، وأوجبه أحمد وابن المنذر أيضًا. ¬

_ (¬1) ليس فيه تكلف، وإنما وجه النصب في الرواية المشار إليها، على أن (أجمعين) حال من واو الجماعة، فتنبه. (¬2) البخاري (688، 1113، 1236، 5658)، ومسلم (412)، وأبو داود (605) في الصلاة، باب: الإِمام يصلي من قعود، وابن ماجه (1237)، والموطأ (1/ 135)، والبغوي (851)، وأحمد (6/ 148)، وابن خزيمة (1614). (¬3) البيهقي (3/ 83)، كتاب السنن الكبرى. قال البيهقي في الدلائل (7/ 193): وفيما روينا عن عبد الله عن عائشة وابن عباس بيان الصلاة التي صلاها أبو بكر خلفه بعدما افتتحها بالناس، وهي صلاة الظهر من يوم السبت، أو الأحد فلا يتنافيان. (¬4) صحيح ابن حبان (3/ 272).

وقال مالك: في المشهور عنه وعن أصحابه: لا يجوز أن يؤم أحد جالسًا لحديث "لا يؤمن أحدٌ بعدي جالسًا" (¬1) لكنه حديث ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح بعد ذكر هذا الحديث والرد على من استدل به نقلًا عن الشافعي، فقال: قد علم من احتج بهذا أن لا حجة فيه لأنه مرسل، ومن رواية: رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه يعني "جابر الجعفي"، وقال ابن بزيزة: لو صح لم يكن فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون المراد منع الصلاة بالجالس، أي: يعرب قوله "جالسًا" مفعولًا لا حالًا. اهـ، (2/ 175). وقال ابن حبان: عليه (3/ 273): وهذا لو صح إسناده لكان مرسلًا، والمرسل من الخبر وما لم يرو سيان في الحكم عندنا، لأنا لو قبلنا إرسال تابعي وإن كان ثقة فاضلًا على حسن الظن منا لزمنا قبول منه عن اتباع التابعين ... إلخ. وانظر: عمدة القاري (5/ 220). وقال أحمد شاكر -رحمه الله- في تعليقه على الرسالة (256): بعد وهذا الحديث غاية في الضعف، ثم نقل كلامًا عن العراقي في "طرح التثريب" (2/ 340)، وذكر أنه روي من رواية (عبد الملك بن حبيب عمن أخبره عن مجالد عن الشعبي ومجالد ضعيف، وفي السند إليه من لم يسم، فلا يصح الاحتجاج به، والحديث أخرجه الدارقطني من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا. وقال: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. الدارقطني (1/ 398)، والبيهقي من طريق الدارقطني (3/ 80)، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (4088)، ومحمد بن الحسن في الموطأ (158). وانظر: الزيلعي في نصب الراية (2/ 50). وضعفه ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 394)، وقال فيه (5/ 400): منكر باطل لا يصح من جهة النقل. اهـ.

ضعيف [مرسل ولترك الخلفاء الراشدين الإِمامة من قعود وهو ضعيف] (¬1) لأن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، ولعلهم اكتفوا بالاستنابة [للقادرين] (¬2) وإن كان وقع الاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة، وأن الأولى تركها، فذلك سبب ترك الخلفاء الإِمامة من قعود [ورائهم] (¬3). وقال ابن القاسم [عمل] (¬4) [أهل] (¬5) المدينة [على] (¬6) ذلك، وفيه البحث المذكور (¬7). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (للقاعدين)، وما أثبت من ن ب. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب (على). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) على قوله: وقال مالك في المشهور عنه وعن أصحابه، إلى قوله: وفيه البحث المذكور، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 175): والعجب أن عمدة مالك في منع إمامة القاعد. قول ربيعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في تلك الصلاة مأمومًا خلف أبي بكر، وإنكاره أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أم في مرض موته قاعدًا كما حكاه عنه الشافعي في الأم، فكيف يدعي أصحابه عدم تصوير أنه صلى مأمومًا. وكأن حديث إمامته المذكور لما كان في غاية الصحة ولم يمكنهم رده، لهذا سلكلوا في الانتصار وجوهًا مختلفة. وقال أبو بكر بن العربي، لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلَّا أني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتبرك به "لأنه =

ومن العلماء من زعم أن إمامة الجالس كانت خاصة به - صلى الله عليه وسلم - وهو ضعيف، لأن الأصل عدمه حتى يدل دليل عليه، وأبعد بعضهم، فقال: المراد بقوله: "فإذا (¬1) صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" الجلوس في موضع الجلوس في الصلاة، فإنه ذكر الركوع والرفع والسجود، ولم يذكر الجلوس، وحديث عائشة يرده ردًّا صريحًا (¬2). ¬

_ = بحضرته وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره، وأيضًا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره، والجواب بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة. وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم. (¬1) في ن ب (وإذا). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 180): قوله: "وإذا صلى جالسًا" استدل به على صحة إمامة الجالس كما تقدم. وادعى بعضهم بأن المراد بالأمر أن يقتدي في جلوسه في التشهد وبين السجدتين. لأنه ذكر عقب ذلك الركوع والرفع منه والسجود، قال: فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيمًا له فأمرهم بالجلوس تواضعًا. وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: "إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا"، وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد وبأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال: وإذا جلس فاجلسوا، ليناسب قوله: "وإذا سجد فاسجدوا"، فلما عدل عن ذلك إلى قوله: "وإذا صلى جالسًا"، كان قوله: "وإذا صلى قائمًا"، فالمراد بذلك جميع الصلاة، ويؤيد ذلك قول أنس: "فصلينا وراءه قعودًا". وانظر: أقوال أهل العلم نقلها ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 390، 401).

فرع: اختلف أصحاب مالك في جواز ائتمام الجالس العاجز عن القيام بمثله، والمشهور الجواز كما حكاه القاضي. وقيل: لا، فيعيد المأموم فقط. وروي عن ابن القاسم "لا يؤم المضطجع وهو وهم". الرابع عشر: قولها: (وهو شاك) هذه الشكاية يحتمل أنها كانت من سقطة عن فرس ركبها بالمدينة فصرعته (¬1) [جذم نخلة] (¬2) فانفكت قدمه فدخل عليه أصحابه يعودونه في مشربة لعائشة في غير وقت صلاة فريضة، ووجدوه يصلي نافلة فقاموا خلفه [ثم أتوه مرة أخرى فوجدوه يصلي المكتوبة فقاموا خلفه] (¬3)، فأشار إليهم، فقعدوا، فلما قضى الصلاة، قال: "إذا صلى الإِمام جالسًا، فصلوا جلوسًا، وإذا صلى قائمًا، فصلوا قيامًا، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها". رواه ابن حبان في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - (¬4) فهذه الرواية صريحة في أن الصلاة الأولى ¬

_ (¬1) في ن ب (فصرعه). (¬2) جذم بالميم، قال الشوكاني في النيل (على جذم): بجيم مكسورة وذال معجمة ساكنة وهو أصل الشيء، والمراد هنا أصل النخلة، وفي رواية ابن حبان: (على جذع نخلة ذهب أعلاها وبقي أصلها في الأرض). اهـ، (4/ 71)، وقد جاءت بالميم في سنن أبي داود (1/ 64)، وابن خزيمة (3/ 53)، وبالعين عند ابن أبي شيبة (2/ 325)، وأحمد (3/ 300)، وابن حبان (3/ 274، 275). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) أبو داود (602)، ابن خزيمة (1615)، والبيهقي في السنن (3/ 79، =

كانت نافلة، وأن العلة في أمرهم بالجلوس خلفه في الثانية عدم ¬

_ = 80)، ابن حبان (2112). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 180). فائدة: وقع في رواية جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما. لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرهم على القيام وهو جالس. والثانية: كانت فريضة وابتداؤا قيامًا، فأشار إليهم بالجلوس. وفي رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإِسماعيلي نحوه (588)، ورواية أنس عند ابن حبان (2113، 3/ 274). وقال: في هذا الخبر بيان واضح أن اللفظة التي في خبر حميد حيث صلى - صلى الله عليه وسلم - بهم قاعدًا وهم قيام، إنما كانت تلك سبحة فلما حضرت الصلاة الفريضة أمرهم أن يصلوا قعودًا كما صلى هو، ففي هذا أوكد الأشياء أن الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - لما وصفنا أمر فريضة لا فضيلة. ثم قال (3/ 276) فيقول جابر: فصلينا بصلاته، ونحن قيام، بيان واضح على دحض قول هذا المتأول إذ القوم لم يتشهدوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم قيام. وكذلك قوله: صلى في الصلاة الأخرى، فصلينا بصلاته، ونحن قيام. فأومأ إلا أن اجلسوا، أرإد به القيام الذي هو فرض الصلاة لا التشهد. وقال ابن حجر -رحمنا الله وإياه-: في جمعه بين الأدلة بعد أن ساق الروايات وما ذكر فيها من الاختلاف "ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعودًا إذا صلى إمامهم قاعدًا"، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإِعادة. لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودًا على الاستحباب، لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم، وترك أمرهم بالإِعادة هذا مقتضى الجمع بين الأدلة، وبالله التوفيق، والله أعلم. الفتح (2/ 177).

التشبه بالكفار في قيامهم خلف عظمائهم، فالعظمة لله. وكان سقوطه - صلى الله عليه وسلم - عن فرسه وجحش شقه الأيمن أي خدش جلده [وإشحاحه] (¬1) فخرج فصلى بهم جالسًا، وقال: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" إلى آخر الحديث في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة كان - صلى الله عليه وسلم - ركب وأتى الغابة فسقط عن فرسه (¬2). وفي هذا الشهر [دفت] (¬3) دافة [من] (¬4) عامر بن صعصعة فأمرهم أن ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) ابن حبان (3/ 281). قال ابن حجر في الفتح (2/ 177): وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم: لكن ذلك لم يكن في مرض موته، وإنما كان ذلك حيث سقط عن الفرس، كما في رواية أبي سفيان عن جابر. ابن حبان (3/ 274)، ولفظه: "ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربة لعائشة، يسبح جالسًا، فصلينا بصلاته ونحن قيام، ثم دخلنا عليه مرة أخرى وهو يصلي جالسًا، فصلينا بصلاته ونحن قيام، فأومأ إلينا أن اجلسوا ... " الحديث. ثم قال: والحديث أخرجه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح، وأخرجه مسلم (413) في الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإِمام وأبو داود (606)، والنسائي (3/ 9)، وابن ماجه (1240)، وأبو عوانة (2/ 108)، والبيهقي (3/ 79). (¬3) في ن ب ساقطة. انظر: مسند أحمد (6/ 51)، والثقات لابن حبان (1/ 280)، وأبو داود (2812) في الأضاحي، باب: الادخار من الأضاحي، والطحاوي (4/ 188). (¬4) في الأصل (بن)، وما أثبت من ن ب والمراجع السابقة. والدافة: الجماعة من الناس يريدون المصر وعامر بن صعصعة لم أجد من ترجم له.

لا يدخروا من ضحاياهم شيئًا ليواسوا المحتاجين، ثم قال لهم: كلوا وادخروا بعد ثلاث. فهذان النقلان يدلان على أنه انقطع غير مرة، وصلى بهم جالسًا شاكيًا غير مرة من سقطة، فإن أمرهم بالصلاة خلفه جلوسًا متقدم على قصة الصديق، وصلاته بالناس وخروجه - عليه الصلاة والسلام - في مرضه الذي مات فيه بين بريرة ونوبة [بضم النون و] (¬1) بالباء الموحدة قبل الهاء، وإجلاسه - عليه الصلاة والسلام - إلى جنب الصديق - رضي الله عنه - (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 155): من العلماء من سلك الترجيح، فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأمومًا للجزم بها، ولأن أبا معاوية أحفظ في حديث الأعمش من غيره. ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إمامًا وتمسك بقول أبي بكر في "باب من دخل ليؤم الناس"، حيث قال: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من سلك الجمع، فحمل القصة على التعدد، وأجاب عن قول أبي بكر كما سيأتي في بابه، ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة خبر عائشة، فحديث ابن عباس فيه أن أبا بكر كان مأمومًا، كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة. وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل التي أشرنا إليها عن ابن عباس وحديث أنس فيه أن أبا بكر كان إمامًا، أخرجه الترمذي وغيره من رواية حميد عن ثابت عن أنس بلفظ: "آخر صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر في ثوب"، وأخرجه النسائي، والدليل على تعدد القصة إن في خبر عبيد الله بن عبد الله عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بين رجلين، يريد أحدهما العباس والآخر عليًّا. وفي خبر مسروق عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بين بريرة ونوبة، فهذا يدلك على أنها كانت صلاتين لا صلاة واحدة، والله أعلم.

فائدة: قرر الحافظ أبو المعز عبد المغيث بن زهير البغدادي (¬1) في كتابه [الاستنصار] (¬2) لا [فضل] (¬3) المهاجرين والأنصار: أن الصديق - رضي الله عنه - كان إمامًا والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان [مأمومًا] (¬4) من عدة طرق، وقال: إن قول بعض العلماء: إن الحديث الذي روى أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى وراء الصديق، وكان الصديق إمامًا آخر صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يصل بعدها صلاة، وكانت صلاة الصبح وقبض - صلى الله عليه وسلم - حين ارتفع نهار ذلك اليوم، [غير صحيح] (¬5) ومداره على شبابة بن سوّار وقد تكلم فيه أحمد، وقال: إنه غلط فيه، ليس كما ذكره، بل [ابن] (¬6) سوّار من رجال الصحيحين، وقد أخرج الحديث من طريقه أحمد (¬7) والترمذي (¬8) وصححه وأبو داود ¬

_ (¬1) هو عبد المغيث بن زهير بن زهير بن علوي، الشيخ الإِمام المحدث، ولد سنة خمسمائة وتوفي في محرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. الكامل لابن الأثير (11/ 230)، وسير أعلام النبلاء (21/ 159)، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (1/ 354، 358). (¬2) في ن ب (الانتصار). (¬3) كذا في ب، وفي الأصل غير واضحة. (¬4) في ن ب (إمامًا). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) زيادة من ب. (¬7) أحمد في المسند (3/ 159، 233، 243)، ولفظه: "آخر صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحًا به خلف أبي بكر .. ". (¬8) الترمذي (363).

وإمام المشرق ابن حبان في صحيحه (¬1) وغيرهم، وقول أحمد في [ابن] (¬2) سوار [أليس] (¬3) هو صاحب حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف أبي بكر؟ أراد تعريفه به [وإشهاره بروايته] (¬4) إن صح هذا عنه. وقد أخرج أحمد هذا الحديث في مسنده، وهو يدحض هذه المقالة المعزية إليه، وإنما أنكر أحمد على شبابة شيئًا بلغه عنه من ¬

_ (¬1) ابن حبان (5/ 496، 497)، والنسائي (2/ 79)، والبيهقي في الدلائل (7/ 192). قال ابن حجر في النكت الظراف على تحفة الأشراف (1/ 132): أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن جعفر بن أبي غير عن حميد أنه صمع أنس. وكذا سيأتي من طريق محمد بن إسماعيل بن جعفر، عن حميد معنعنًا -وهي رواية النسائي- وهذا أخرجه ابن المنذر من طريق أبي ضمرة، عن حميد، عن أنس فيحتمل أن يكون حميد سمعه من أنس، وكان استثبت فيه "ثابتًا"، وكذلك في الأكثر يحدث به عن ثابت عن أنس، كما أخرجه ابن حبان من طريق سليمان بن بلال- عن حميد الطويل عن ثابت- والطحاوي والبزار من طريق يحيى بن أيوب- عن حميد- ورواية البيهقي في الدلائل فيها بيان الصلاة، وهي صلاة الصبح، ثم قال: قلت: فالذي تدل عليه هذه الروايات مع ما تقدم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى خلفه في تلك الأيام التي كان يصلي بالناس مرة، وصلى أبو بكر خلفه مرة. وعلى هذا حملهما الشافعي -رحمه الله- في مغازي موسى بن عقبة وغيره، وبيان تلك الصلاة التي صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضها خلف أبي بكر وهي صلاة الصبح من يوم الاثنين. (¬2) زيادة من ب. (¬3) في ن ب (ليس). (¬4) في الأصل (واشتهاره براويه).

الإِرجاء، وجاء شبابة إليه معتذرًا مما بلغه عنه، ذكره العقيلي في "كتابه" (¬1)، ثم ساق الحديث من ثلاثين طريقًا، ليس فيها ذكر شبابة بن سوار، وفي بعض طرقه عن ابن عباس لم يصلِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف أحد من أمته صلاة تامة إلَّا خلف أبي بكرة، ولم في خلف عبد الرحمن بن عوف (¬2) ركعة وفي بعض طرقه: أن أبا بكر أراد أن يتحول من الصف من إمامته فرده - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما كان لنبي أن يموت حتى يؤمه رجل من أمته" رواه أحمد (¬3). وفي رواية لابن سعد (¬4) أنه - عليه الصلاة والسلام - قال ذلك حين انصرف، وبذلك أجاب الحافظ أبو علي أحمد بن محمد ¬

_ (¬1) الضعفاء الكبير (2/ 195)، وتهذيب التهذيب (4/ 300). (¬2) مسلم (1/ 317). (¬3) الدلائل (7/ 202) من رواية عائشة، والمستدرك للحاكم (1/ 242)، والدارقطني (1/ 282) من رواية المغيرة بن شعبة، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5/ 32)، ورواه أحمد في مسنده (1/ 13)، والبزار (1/ 55)، والمطالب العالية (4/ 77)، وضعفه أحمد شاكر في المسند (1/ 187) لجهالة أحد رواته كلهم من رواية عمر عن أبي بكر. وقال البوصيري: رواه الحارث والبزار بسند فيه راوٍ لم يسم. وقال ابن ماجه في سننه (1/ 292)، باب: ما جاء في صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف رجل من أمته. وذكر حديث صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف ولم يذكر اللفظ فيه السابق. وقد جاء في رواية فيها انقطاع عن مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن. انظر: الاستذكار (5/ 392). (¬4) ابن سعد (2/ 222).

البرداني (¬1) وابن ناصر السلامي (¬2)، وقال: إنه صح، وثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى خلفه مقتديًا به في مرضه الذي توفي فيه ثلاث مرات، ذكره أبو داود والترمذي (¬3)، ولا ينكر ذلك إلَّا جاهل، لا علم له بالرواية، ووافقه أيضًا [في] (¬4) ذلك الحافظ أبو بكر محمد بن منصور القصري، وصنف فيه أيضًا الحافظ ضياء الدين المقدسي. الخامس عشر: في الحديث وجوب متابعة الإِمام، وتحريم الاختلاف عليه، وقد سبق الكلام على الاختلاف. السادس عشر: فيه أن ركوعه وسجوده متأخر عن الإِمام. السابع عشر: فيه جواز الإِشارة والعمل القليل في الصلاة للحاجة. ¬

_ (¬1) هو الشيخ الإِمام الحافظ الثقة أبو علي أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد البَرَداني، ثم البغدادي ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة، ومات في سؤال سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. ذيل طبقات الحنابلة (1/ 94، 95)، وشذرات الذهب (3/ 408)، وسير أعلام النبلاء (19/ 219). (¬2) هو محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي، الفارسي الأصل ولد ليلة السبت نصف شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، توفي في ثامن عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة. ترجمته المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن النجار (38، 40)، ومرآة الزمان (8/ 138)، وسير أعلام النبلاء (20/ 265)، وذيل طبقات الحنابلة (1/ 225). (¬3) سبق. (¬4) في ن ب (علي).

الثامن عشر: لم يذكر في الحديث: وإذا سلم فسلموا، لأنه -والله أعلم- لا يلزم المتابعة فيه على الفور، فإن له أن يطول التشهد والدعاء بعده، ولأنه مندرج في [عموم قوله] (¬1): "إنما جعل الإِمام ليؤتم به"، وما ذكر فيه على التفصيل فهو من أفراد ذلك العموم. ¬

_ (¬1) في الأصل (عمولة قوم)، وما أثبت من ن ب.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 80/ 4/ 14 - عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري قال: حدثني البراء -وهو غير كذوب- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحنِ أحد منا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: عبد الله هذا صحابي ابن صحابي، شهد [والده] (¬2) أحدًا والمشاهد بعدها، ومات [قبل] (¬3) فتح مكة، وأما هو فشهد الحديبية وهو ابن سبع عشر سنة، وشهد مع علي حروبه، وولي [إمرة] (¬4) الكوفة، ومات في زمن ابن الزبير، وكان استعمال ابن الزبير له على الكوفة سنة خمس وستين ذكره بقي بن مخلد فيمن روى أربعة أحاديث، وقال عبد الغني: روى سبعة وعشرين حديثًا، ¬

_ (¬1) البخاري (690، 747، 811)، ومسلم (474). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (بعد). (¬4) في الأصل (أمر)، وما أثبت من ن ب.

أخرى له البخاري حديثين ولم يخرج له مسلم شيئًا، وقال غيره: خرج له مسلم أحد حديثي البخاري. وقول المصنف: "الخطمي" هو بفتح الخاء وسكون الطاء نسبة إلى بطن من الأنصار. الثاني: "البراء": هو ابن عازب صحابي ابن صحابي، نزيل الكوفة، له زيادة على ثلاثمائة حديث، شهد أحدًا والحديبية وغيرهما، وشهد مع علي الجمل وصفّين والنهروان مات بالكوفة سنة إحدى أو اثنين وسبعين قيل: إنه افتتح الريّ. فائدة: البراء بالتخفيف [يشتيه] (¬1) بالبراء بالتشديد وهو أبو العالية البراء وأبو معشر البراء. الثالث: قوله: "غير كذوب" قال ابن معين: قائل هذا هو أبو إسحاق السبيعي في عبد الله بن يزيد الخطمي، فإنه الراوي عنه لأن مثل البراء لا يحتاج إلى تزكية، وتبعه [على] (¬2) ذلك الحميدي، والخطيب في "الفصل المدرج للوصل" (¬3)، وابن الجوزي وفيه نظر، لأن عبد الله بن يزيد صحابي أيضًا كما قررناه، وعبد الله لم يرد به التعديل، وإنما أراد به قوة الحديث. ¬

_ (¬1) في ب (نسبته). (¬2) في ن ب (في). (¬3) مخطوط نسخة منه في مكتبة سلطان أحمد الثالث برقم (612)، وقد لخص ابن حجر في كتابه "تقريب المنهج بترتب المدرج".

قال النووي في شرح مسلم (¬1): هذا الذي قاله ابن معين خطأ عند العلماء، قالوا: بل الصواب أن قائل ذلك هو عبد الله بن يزيد، ومراده التقوية لا التزكية، قال: ونظيره قول ابن مسعود حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، وقول: أبي مسلم الخولاني حدثني الأمين عوف بن مالك، وما ادعاه من التنظير ليس بجيد. قال بعض فضلاء المالكية: كأنه كلام من لم يلم بشيء من علم البيان أصلًا، ومن ذا الذي لا يفرق بين قولنا: زيد صدوق، وزيد غير كذوب، وبين قولنا: زيد عاقل، وزيد ليس بمجنون، ألا ترى أن ابن مسعود [لو] (¬2) قال عوض قوله "وهو الصادق المصدوق [] وهو غير كذوب" لوجدت الطبع ينفر والشعر يقف عند سماعه، فإنا نفرق بين إثبات الصفة للموصوف وبين نفي ضدها عنه، والسر -والله أعلم- أن نفي الضد، كأنه يقع جوابًا لمن أثبته، بخلاف إثبات الصفة فإنه على الأصل، فإذا قلت: جاء زيد العالم. فكأنك قلت: المعروف بالعلم [إلَّا] (¬3) أن ثم منازعًا في ذلك إنما هو كلام خرج في معرض تعريف الذات الموصوفة بالعلم (¬4). الرابع: قوله: "لم يحن" معناه: لم يعطف، ومنه: حنيت العود عطفته ويقال: حنيت وحنوت لغتان حكاهما الجوهري (¬5) ¬

_ (¬1) شرح مسلم (4/ 190). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ب (لا). (¬4) للاستزادة انظر: فتح الباري (2/ 181)، وشرح السنة للبغوي (3/ 413). (¬5) مختار الصحاح (73).

وغيره، وقد روي منهما في صحيح مسلم (¬1) "يحنو" و"يحني"، والأكثر في اللغة والرواية الياء. الخامس: فيه ما كانت الصحابة عليه من الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتابعة له في الصلاة وغيرها، حتى لم يتلبسوا بالركن الذي ينتقل إليه [حين] (¬2) يشرع في الهوي إليه، بل يتأخرون عنه. السادس: في فعل الصحابة ذلك دليل على طول الطمأنينة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف أصحاب مالك في وجوبها، قالوا: ومذهب ابن القاسم أنها سنة في جميع الأركان. [السابع] (¬3): فيه أن السنة للمأموم أن لا ينحني للسجود حتى يضح الإِمام جبهته على الأرض، إلَّا أن يعلم من حاله أنه لو أخر إلى هذا الحد لرفع الإِمام من السجود قبل سجوده. [الثامن] (¬4): فيه مع مجموع ما ذكر أن السنة للمأموم أن يتأخر عن الإِمام قليلًا، بحيث يشرع في الركن بعد شروعه [فيه] (¬5) وقيل فراغه منه. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (4/ 191). (¬2) في ن ب (حتى). (¬3) في ن ب (الخامس). (¬4) في ن ب (السابع). (¬5) في ن ب ساقطة.

[التاسع] (¬1): قوله: "ثم نقع سجودًا بعده" هو بالرفع على الاستئناف، وليس معطوفًا على "يقع" الأول المنصوب بـ"حتى"، إذ ليس المعنى عليه. ¬

_ (¬1) في ن ب (الثامن).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 81/ 5/ 14 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمَّن الإِمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: فيه دليل على استحباب التأمين للإِمام والمأموم، وأما المنفرد: فيستحب له أيضًا، ولكل قارئ في غير الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه (¬2) من حديث ¬

_ (¬1) البخاري (780، 6402)، ومسلم (410)، وأبو عوانة (2/ 130، 131)، ومالك (1/ 87/ 2)، والنسائي (1/ 147)، والترمذي (2/ 3)، والدارمي (1/ 284)، وابن ماجه (846)، وابن الجارود (100، 101)، والبيهقي (2/ 55)، وأحمد (2/ 233، 270، 312، 440، 459). (¬2) البخاري أطرافه (472)، ومسلم (410)، والنسائي (2/ 141، 144)، وابن ماجه (852)، ومالك (1/ 87)، والترمذي (250)، وأبو داود (935، 936) في الصلاة، باب: التأمين وراء الإِمام. ابن الجارود (190).

أبي هريرة، وهو أعم من أن يكون إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا أو في غير صلاة، نعم في رواية لمسلم (¬1) (إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين ...). الثاني: فيه دليل على استحباب مقارنة الإِمام في التأمين، فإن المراد إذا أراد التأمين فأمنوا جميعًا بينه وبين حديث أبي هريرة الآخر في الصحيحين (¬2): (إذا قال الإِمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) وهذا كقولهم إذا رحل الأمير فارحلوا أي إذا تهيأ للرحيل فتهيؤوا ليكون رحيلكم معه، وبيانه في الحديث السالف: (إذا قال أحدكم آمين ... إلى آخره) فظاهره الأمر بوقوع الجميع في حالة واحدة، فهذا جمع بين الأحاديث، وأبعد من قال المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمن، إذا قال آمين) وكذا قول من قال: المراد إذا دعا بقوله الصراط المستقيم. الثالث: قد يدل به على الجهر بالتأمين للإِمام وهو ضعيف، فإن فعله والتخصيص عليه لا يلزم منه الجهر به ووجه الاستدلال على [جهة] (¬3) الإِمام به أنه علق تأمينهم بتأمينه فلا بد أن يكونوا عالمين [به] (¬4)، ولا يحصل لهم العلم إلَّا بالسماع (¬5)، وأظهر قولي ¬

_ (¬1) مسلم (410)، والبخاري (781). (¬2) مسلم (410)، والبخاري (782). (¬3) في ن ب (جهة). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) قال ابن حجر في الفتح (2/ 264): حديث "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: =

الشافعي: إن المأموم يجهر به أيضًا. وأما المنفرد فيجهر به قطعًا، وفي "تعليق" القاضي حسين. أنه يسر به وهو ضعيف. وقال مالك: في رواية قيل: إنها المشهورة عنه لا يؤمن الإِمام في الجهرية، ولم يختلف قوله في السرية، لأنه قد عري دعاؤه من مؤمن عليه غيره. واختار القاضي أبو (¬1) الوليد: أنه يؤمن في الجهر. وقال [أبو بكر] (¬2). يتخير [قالوا] (¬3) وحيث قلنا: يؤمن فيسر. وقيل: [يجهر] (¬4) حكاه في "الجواهر". وقيل: يتخير بينهما. ¬

_ = ولا الضالين، جهر بآمين" أخرجه السراج. ولابن حبان من رواية الزبيري في حديث الباء عن ابن شهاب: "كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته، وقال آمين". وللحميدي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه بلفظ: "إذا قال ولا الضالين". ولأبي داود من طريق أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة مثله، وزاد: "حتى يسمع من يليه من الصف الأول". ووجه الدلالة من الحديث أنه لو لم يكن التأمين مسموعًا للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه. (¬1) في الأصل ون د زيادة: الطيب. انظر: المنتقى (1/ 163). (¬2) في الأصل غير واضحة، وما أثبتناه من ب. (¬3) ساقطة من ب. (¬4) ساقطة من ب.

وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يجهر به (¬1)، والأكثرون على خلافه. واستدل مالك على أن الإِمام لا يؤمن لأن المراد من الحديث إذا بلغ موضع التأمين وهو خاتمة الفاتحة. ويؤيده الرواية الأخرى (إذا قال: ولا الضالين، فقولوا آمين) فإذا بلغ موضعه قيل: أمن وإن [لم] (¬2) يتلبس به، كما قال أنجد إذا بلغ نجد، وأتهم إذا بلغ تهامة، وأحرم إذا بلغ الحرم، وهذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه على ظاهر الحديث فإن حقيقته في التأمين عمل به، وإلَّا فالأصل عدم المجاز. قلت: والحديث حجة للشافعي ومن قال بقوله لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمن" وهو يعطي أن التأمين ثابت له معلوم من عادته، [وشأنه من حيث] (¬3) كانت "إذا" للشرطية المحقق بخلاف "إن" فإنها للمشكوك فيه. وفي البخاري (¬4) قال عطاء: "أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى أن للمسجد [لجة] " (¬5). ¬

_ (¬1) ودليلهم حديث عبد الله بن مسعود "أربع يخيفهن الإِمام: التعوذ والتسمية: والتأمين والتحميد". (¬2) ساقطة من ب. (¬3) في الأصل (وثباته من حديث)، وما أثبتناه من ب. (¬4) البخاري، باب: جهر الإِمام بالتأمين وهذا معلق الفتح (2/ 262). (¬5) في ن (للجة).

وقال أيضًا (¬1): "أدركت مائتين من الصحابة في هذا المسجد يعني المسجد الحرام، إذا قال الإِمام: ولا الضالين رفعوا أصواتهم بآمين"، رواه ابن حبان في "ثقاته" (¬2). قال القاضي (¬3): وشذت طائفة فأنكرت التأمين جملة، وقال: إنه يفسد جملة الصلاة لأنه كلام فيها. الرابع: فيه دليل على فضل الإِمام، فإن تأمينه موافق لتأمين الملائكة، ولهذا شرع موافقة المأمومين له بخلاف غيره. الخامس: فيه دليل أيضًا على فضل الله وكرمه حيث جعل غفران الذنوب على ما ذكرنا مرتبًا على موافقة الإِمام في التأمين. السادس: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "غفر له ما تقدم من ذنبه" ظاهره يشمل الصغائر والكبائر، فإن دل دليل على تخصيص أحدهما رجع إليه، وإلَّا بقينا مع ظاهر الحديث، وزاد الغزالي في "وسيطه" و"وجيزه" في هذا الحديث زيادة، قال ابن الصلاح: إنها ليست صحيحة وهي بعد قوله: "ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (¬4) وليس ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (2/ 59). وفي لفظ: "سمعت لهم رجة بآمين"، وذكره ابن حجر في الفتح (2/ 267). (¬2) الثقات (6/ 265). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 166). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 265): فائدة: وقع في أمالي الجرجاني عن أبي العباس الأصم عن بحر بن نصر عن ابن وهب عن يونس في آخر هذا الحديث "وما تأخر" وهي زيادة شاذة. فقد رواه ابن الجارود عن بحر بن =

كما ذكر كما أوضحته في تخريج "أحاديث الوسيط". السابع: اختلف في هذه الموافقة على أقوال: أحدها: وهو أظهرها أنها في القول لقوله: "قالت الملائكة في السماء آمين" كما أسلفناه من حديث أبي هريرة أيضًا. ثانيها: في الصفة [من] (¬1) الخشية والإِخلاص، وبه جزم ابن حبان (¬2)، وأبدى فيه المحب الطبري في "أحكامه" نظرًا. ثالثها: أن يكون دعاؤه لعامة المؤمنين كالملائكة "فالفاء" في الحديث للمشاركة لا للتعقيب. ¬

_ = نصر بدونها، وكذا رواه مسلم عن حرملة وابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى كلاهما عن ابن وهب في جميع الطرق عن أبي هريرة، إلا إنى وجدته في بعض النسخ من ابن ماجه عن هشام بن عمار وأبى بكر بن أبي شيبة كلاهما عن ابن عيينة بإثباتها ولا يصح: لأن أبا بكر قد رواه في مسنده ومصنفه بدونها. وكذلك حفاظ أصحاب ابن عيينة: الحميدي وابن المديني وغيرهما. وله طريق أخرى ضعيفة من رواية أبي فروة محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه عن عثمان والوليد ابني ساج عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. (¬1) في ن ب (في). (¬2) قال ابن حبان في صحيحه (3/ 146): معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - "فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة" أن الملائكة تقول آمين من غير علة من رياء وسمعه أو إعجاب، بل تأمينها يكون خالصًا لله، فإذا أمن القارئ لله من غير أن يكون فيه علة من إعجاب أو رياء أو سمعة كان موافقًا تأمينه في الإِخلاص تأمين الملائكة غفر له حينئذ ما تقدم من ذنبه.

رابعها: معناه استجيب له كما يستجاب للملائكة، وإنما كانت موافقتهم سببًا لغفران الذنوب، لأن موافقتهم تقع في وقت إجابة الدعاء، لأن دعاءهم مستجاب، فيتفضل الله -جل وعلا- عليهم بذلك، وإن لم يتضمنه سؤال الداعي، أفاده المحب الطبري في "أحكامه". الثامن: اختلف العلماء في هذه الملائكة: هل هم الحفظة أو غيرهم من أهل السماء على قولين: واحتج للثاني بالرواية السالفة: (وقالت الملائكة في السماء آمين). وأجاب الأول بأنه إذا قالها الحاضرون من الحفظة قالها من فوقهم حتى تنتهي إلى أهل السماء (¬1). التاسع: في (آمين) خمس لغات ذكرتها في "شرح المنهاج" ¬

_ (¬1) قال ابن حجر (2/ 265): ظاهره أن المراد الملائكة جميعهم. واختاره ابن بزيزة، وقيل: الحفظة منهم، وقيل: الذين يتعاقبون منهم، إذا قلنا إنهم غير الحفظة. والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو السماء. وسيأتي في رواية الأعرج بعد حديث (781): "وقالت الملائكة في السماء آمين". وفي رواية محمد بن عمرو الآتية أيضًا "فوافق ذلك قول أهل السماء" ونحوها لسهيل عن أبيه عند مسلم. وروى عبد الرزاق ح (2648) عن عكرمة يقول: "صفوف أهل الأرض على صفوت أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر له". وفي الفتح: "للعبد" ومثله لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى.

أفصحها تخفيف الميم والمد (¬1)، والأظهر في معناها: اللهم استجيب (¬2). [وقال الزمخشري (¬3): آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجيب] (¬4) وفيه أقوال أخرى منتشرة. العاشرة: استدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن المأموم لا يقرأ فيما يجهر [به] (¬5) الإِمام، لأنه يكون مأمورًا بالتأمين مطلقًا، وإن كان في حال قراءته خلف إمامه. ¬

_ (¬1) وفيها ثلاث لغات شاذة. القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاهدًا وأنكره ابن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر، والتشديد مع المد والقصر. وخطأهما جماعة من أهل اللغة، وآمين من أسماء الأفعال مثل صه للسكوت. وتفتح في الوصل لأنها مبنية بالاتفاق، مثل كيف وإنما لم تكسر لثقل الكسرة بعد الياء. اهـ. من الفتح (2/ 262). ذكر لغتان في الاستذكار المسند، والقصر (4/ 251). (¬2) وقيل: معناه: اللهم آمنا بخير. وقيل: كذلك يكون. وقيل: درجة في الجنة تجب لقائلها. وقيل: لمن استجيب له كما استجيب للملائكة. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى رواه عبد الرزاق ح (2651) عن أبي هريرة بإسناد ضعيف، وعن هلال بن يساف التابعي- عبد الرزاق (2650) - التابعي مثله. وعند أبي داود ح (901) من حديث أبي زهير الصحابي أن آمين مثل الطابع على الصحيفة ثم ذكر: "إن ختم بآمين فقد أوجب". قال الخطابي في معالم السنن (1/ 441)، وذكر له أبو عمر النمري هذا الحديث، وقال: ليس إسناده بالقائم. انظر: الاستذكار (4/ 251). (¬3) انظر: الكشاف (1/ 12). (¬4) زيادة من ب. (¬5) في ن ب (فيه).

وجوابه: أن هذا لا يقطع الولاء. الحادي عشر: استدل به على تفضيل الملائكة على الآدميين، لأنه - عيه الصلاة والسلام - جعل تأمين الملائكة سببًا لقبول تأميننا، ولا شك في شرف الشافع على المشفوع له عند المشفوع عنده فتأمله. ومذهب أهل السنة أن النوع الإِنساني أفضل من نوع الملائكة خلافًا للمعتزلة، ولخص ملخص في ذلك سبعة أقوال: أحدها: بعض الآدميين ممن ليس بنبي أفضل. ثانيها: بعض الأنبياء وبعض المؤمنين أفضل من بعض الملائكة غير المقربين، وممن عصى كهاروت وماروت. ثالثها: أن الأنبياء أفضل مطلقًا. رابعها: أن الملائكة أفضل مطلقًا. خامسها: الرسل أفضل. سادسها: ملائكة السماء أفضل من الرسل، والرسل أفضل من ملائكة الأرض. سابعها: التوقف بين الملائكة والأنبياء (¬1). ¬

_ (¬1) سئل شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية. والملانكة أفضل باعتبار البداية فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر. وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة، فيصير حال صالحي البشر أكمل حالًا من حال الملائكة، وبهذا التفضيل =

[الثاني عشر] (¬1): فيه دليل لقراءة الإِمام وكونها ملتزمة للصلاة وغير منفصلة منها. [الثالث عشر] (¬2): تستحب للإِمام سكتة بعد فراغه من التأمين، ليقرأ المأموم فيها الفاتحة، وهو مذهب الشافعي ومن وافقه (¬3). ¬

_ = يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة كل الفريقين ولصالح كل منهم على حقه. انظر: مجموع الفتاوي (4/ 350، 392)، والاختيارات الفقهية (113)، وبدائع الفوائد (4/ 197). (¬1) في ن ب (الثامن عشر). (¬2) في ن ب (التاسع عشر). (¬3) قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (1/ 207): وكان له سكتتان: سكتة بين التكبير والقراءة، وعنها سأله أبو هريرة. واختلف في الثانية فروي أنها بعد الفاتحة، وقيل: إنها بعد القراءة وقبل الركوع، وقيل: هي سكتتان غير الأولى، فتكون ثلاثًا. والظاهر إنما هي اثنان فقط، وأما الثالثة: فلطيفة جدًا لأجل تراد النفس ولم يكن يصل القراءة بالركوع بخلاف السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح. والثانية قد قيل إنها لأجل قراءة المأموم، فعلى هذا ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة. وأما الثالثة: فللراحة والنفس فقط، وهي سكتة لطيفة فمن لم يذكرها، فلقصرها. ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة، فلا اختلاف بين الروايتين. وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث. وقد صح حديث السكتتين من حديث سمرة وأبي وعمران بن حصين. ذكر ذلك أبو حاتم في صحيحه، وسمرة هو ابن جندب. وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب، وقد قال حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وفي بعض طرق الحديث، فإذا فرغ من القراءة سكت وهذا كالمجمل. واللفظ =

وذهب مالك وأبو حنيفة ونقله القاضي عياض عن جمهور السلف والعلماء: إلى إنكار ذلك في هذه السكتة، وكذا في السكتة بعد فراغ قراءة السورة، قال: وقد رويت في ذلك أحاديث لا تتفق فيها عند أهل الحديث، قال: وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "وإذا قال الإِمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين" حجة لمن لا يرى السكتة الأولى ولا قراءة المأموم خلفه فيما يجهر فيه، لأنه ذكر ما يفعل الإِمام والمأموم فذكر التكبير للإِمام ثم ذكر بعده تكبير المأموم ثم ذكر قراءة الإِمام ولم يذكر [للمأموم قراءة] (¬1) ولو كانت السكتة من حكم الصلاة لقال: وإذا سكت فاقرؤوا، وهو موضع تعليم وبيان. قلت: الحديث في سنن أبي داود (¬2) وجامع الترمذي (¬3) صرح بالسكتتين فهو حجة لمن استحبهما، ومقدم على من لم يتعرض لهما. ¬

_ = الأول مفسِّر مبين، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإِمام سكتتان، فاغتموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: "ولا الضالين ... " إلخ كلامه. انظر: الاستذكار (4/ 237، 248). (¬1) في ن ب تقدبم وتأخير. (¬2) أبو داود معالم السنن (1/ 376). (¬3) الترمذي (251)، ورواه أحمد (5/ 7، 15، 20، 21، 23). قال أحمد شاكر: في الترمذي وهو صحيح رواته ثقات، وابن ماجه (844)، والبيهقي (2/ 195، 196)، والدارقطني (1/ 336)، والدارمي (1/ 213)، والطبراني (6942)، والبخاري في جزء القراءة (23)، وصححه الحاكم (1/ 215)، ووافقه الذهبي، وقد ذكر ابن عبد البر له علل. انظر: التمهيد (11/ 46، 47).

الحديث السادس

الحديث السادس 82/ 6/ 14 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: المراد بالتخفيف: تخفيف لا يخل بمقاصد الصلاة وأركانها وسننها، والضابط: في التطويل وعدمه إذا لم يكن [المأمومون] (¬2) يؤثرونه [فإذا] (¬3) آثروه [طوّل] (¬4). وحدّ التطويل مقدر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله فيها غالبًا، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدخل في الصلاة ويريد إطالتها، فيسمع بكاء الصبي، ¬

_ (¬1) البخاري (703)، ومسلم (467)، وأبو داود (794، 795)، والترمذي (236)، والشافي (2/ 94)، والمسند (2/ 317، 486، 502)، والبيهقي (3/ 115)، والأم (1/ 161)، وعبد الرزاق (3712)، وابن أبي شيبة (2/ 54). (¬2) في ن ب (المأمون). (¬3) في ن ب (فإن). (¬4) في ن ب ساقطة.

فيتجوز فيها، ولا بد مع الإِيثار من حصرهم بأن اجتمعوا لصلاة الليل أو كان المسجد صغيرًا في الفرائض وإلَّا فيخفف بهم مطلقًا، بحيث لا يخل بالفرائض والسنن، وهذا الحكم مذكور في هذا الحديث والذي بعده مع علته، وهي المشقة اللاحقة للمأمومين إن طوّل عليهم، ثم المشقة في التطويل أمر إضافي، [فليس] (¬1) المعتبر فيه عادة بعض المصلين الجاهلين المقصرين ولا الغالين المتنطعين، بل هو معتبر بما قاله العلماء، فلا يزيد في القيام بالقراءة الطويلة المؤدية المملة إلى كراهة الصلاة ولا في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات، ونحوها من دعاء في السجود وتعظيم في الركوع، كما كان - عليه أفضل الصلاة والسلام - يفعله مع أمره بالتخفيف، وشدة غضبه في الموعظة في إطالة الإِمام الصلاة بهم، كما سيأتي في الحديث بعد هذا، فهذا لا يعد تطويلًا ومشقة شرعًا، بل التخفيف عنه مكروه، وعن الواجب حرام. ثانيها: "الضعيف": يعم السقيم، فذكره بعده من باب: ذكر الخاص بعد العام، أو من باب: تعداد الصفات الموجبة للعذر في ترك الإِمام التطويل عليهم في الصلاة، ويحتمل أن يراد بالضعيف هنا النحيف البدن الذي يشق عليه طول القيام والركوع والسجود، ويحتمل أن يراد به الشيخ الكبير والصغير كما [هو] (¬2) مفسر في الحديث الآتي بعد. ¬

_ (¬1) في ن ب (وليس). (¬2) في ن ب ساقطة.

وأما السقيم: فهو المريض ليس إلَّا. وأما ذو الحاجة: فالحاجة أعم من أن توصف، وينص عليها، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - ذوي: حرف، وأعمال، ومعايش، وزروع يعملون فيها، كما ورد أنهم كانوا أصحاب نواضح [وعمال] (¬1) أنفسهم - رضي الله عنهم -، وقد تقدم الكلام على لفظ [الحاجة] (¬2) في التيمم في حديث عمار، فأغنى عن إعادته. [ثالثها] (¬3): قوله - عليه السلام -: "فليطول ما شاء" قد يؤخذ منه أنه لو مد الصلاة بتطويل القراءة حتى خرج وقتها جاز، وهو كذلك على الصحيح عند الشافعية، بل في "عمد" الفوراني (¬4) حكاية وجهين في استحباب المسند، وفي "الإِحياء" للغزالي: إن مد الصلاة بتطويل السورة إلى ما بعد أول الوقت وهو وقت الفضيلة خلاف الأفضل؛ وهو غريب. رابعها: فيه الرد على من قال: لا تجوز صلاة الجماعة إلَّا خلف معصوم. ¬

_ (¬1) في الأصل (وأعمال)، وما أثبت من ن ب. (¬2) في ن ب (الدحة). (¬3) في ن ب (الثالث) ... إلخ السابع. (¬4) عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن فُوران -بضم الفاء- الفُوراني أبو القاسم له مصنفات منها: (الإِبانة)، و "العمد". توفي في شهر رمضان سنة إحدى وستين وأربعمائة عن ثلاث وسبعين سنة. ترجمته: مرآة الجنان (3/ 84)، وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 248)، ووفيات الأعيان (2/ 314).

خامسها: فيه أن الإِمام يخفف الصلاة، على الشرط والتفصيل الذي أسلفناه. سادسها: فيه ذكر الأحكام للناس بعللها. سابعها: جواز حضور الضعيف والسقيم وسائر من به ضعف الجماعة، وفي الصحيح (¬1): "إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز فيها" وقد سلف، ومذهب مالك أنه لا ينبغي أن يدخل الصبى المسجد، إلَّا أن يكون مميزًا يعقل الصلاة. ثامنها: فيه مراعاة الضعفاء في أمور الآخرة وكذلك في أمور الدنيا ومنه الحديث (¬2): "سيروا لسير أضعفكم". تاسعها: فيه دليل واضح على أن الجماعة ليست شرطًا للصحة لقوله: "فليطول ما شاء" وقد أسلفنا الخلاف في ذلك في موضعه. عاشرها: قوله: "فليطول ما شاء" ظاهر في تطويل كل في ذلك الأركان، واستثنى بعض أصحابنا الاعتدال والجلوس بين السجدتين لقصرهما، والحق تطويلهما. ¬

_ (¬1) البخاري (709)، ومسلم (470)، والترمذي (376)، وابن ماجه (989)، والبغوي (845)، والبيهقي (2/ 393، 3/ 109)، وابن خزيمة (1610). (¬2) انظر: كشف الخفاء (1/ 563)، والأسرار (221)، ولفظه: "سيروا على سير أضعفكم".

الحديث السابع

الحديث السابع 83/ 7/ 14 - عن [أبي] (¬1) مسعود [الأنصاري] (¬2) - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3)، فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح [لأجل] (¬4) فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظته قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة" (¬5). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، واسمه عقبة بن عمرو، والأكثر على أنه لم يشهد بدرًا، ولكنه نزلها فنسب إليها، وقال البخاري: شهدها، شهد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم، وشهد أحدًا وما ¬

_ (¬1) في ب (ابن)، وهو تصحيف. (¬2) ساقطة من ب. (¬3) في ن ب (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في العمدة (من أجل). (¬5) البخاري (90، 702، 704، 6110، 7159)، ومسلم (466)، وابن ماجه (984)، والدارمي (1/ 88).

بعدها، وكان من [جلة] (¬1) الصحابة، مات بالكوفة أو بالمدينة قولان، وفي وفاته أقوال: أحدها: سنة إحدى وثلاثين. ثانيها: سنة أربعين. ثالثها: سنة إحدى أو اثنين وأربعين. رابعها: بعد الستين. فائدة: أبو مسعود في الصحابة جماعة: أحدهم: هذا. ثامنهم: الغفاري ذكره الطبراني قيل اسمه عبد الله. ثالثهم: غير منسوب. الثاني: في بيان المبهم فيه في هذا الرجل خمسة أقوال: أحدها: [حزم] (¬2) بن أبي كعب، كذا جاء في سنن أبي داود وتاريخ البخاري الكبير (¬3)، ووهم الفاكهي، فقال: إنه كعب بن ¬

_ (¬1) في ب (جملة). (¬2) تصحفت في ب إلى (جزم) بالجيم. (¬3) الذي في سنن أبي داود معالم (754): حزم بن أبي كعب. وفي التاريخ الكبير (2/ 102): حزم بن أبي كعب. وذكر محققه أنه الصواب، وعلى ذلك الإِصابة والاستيعاب وأسد الغابة. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 198) قال: ووهم من زعم وأنه حزم بن أُبَيّ بن كعب لأن قصته، مع معاذ لا مع أُبيّ بن كعب، وقد اختلف ضبط اسمه عبد ابن حجر في الفتح، فقال على ح (90): =

أبي [حزّة] (¬1) بفتح الماء المهملة وتشديد الزاي ابن أبي القين، كذا ذكره وضبطه فاجتنبه (¬2). ثانيها: حرام بن ملحان وعليه اقتصر الخطيب (¬3). ثالثها: حازم. رابعها: سليم بن الحارث (¬4)، ووقع في أصل قرئ ¬

_ = حزم بن أبي، وفي ح (702): حزم بن أبي بن كعب، فلينتبه له. وعند ابن بشكوال غوامض الأسماء (1/ 15) زيادة لفظة (ابن)، وفي كتب التراجم والتعاليق (حزم بن أبي كعب). (¬1) في الأصل (حزم)، ون ب (حزة). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في أسد الغابة (5/ 329): كذا ضبطه الفاكهي في شرح العمدة، وزعم أنه هو الذي صلى العشاء مع معاذ ثم انصرف وقد وهم فيه، فإن الحديث في سنن أبي داود وسماه حزم بن أبي كعب، فانقلب على التاج وتحرف ولم يشعر وما اكتفى بذلك حتى ضبطه بالحروف وهذا شأن من يأخذ الحديث من الصحف. نبه على ذلك شيخنا تاج الدين بن الملقن في شرح العمدة (ز). (¬3) كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (50) حرام بن ملحان. (¬4) غوامض الأسماء المبهمة (1/ 350)، وقد ذكر الأسماء الثلاثة وأتى لكل واحد بحجة. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه-: وقيل اسم المنصرف (سليم) كما رواه الإِمام أحمد، أي ابن الحارث من بني سلمة. ورجح ابن حزم ان اسمه (سلم) بفتح أوله وسكون اللام، وكأنه تصحيف. وقد جمع بعض القصة، فإن لم نقل بالتعدد فأقوى ما تنسب القصة لسليم بن الحارث من بني سلمة. اهـ. تلخيص الحبير (1/ 591)، وهكذا قاله في الفتح للاستزادة. انظر: نيل الأوطار (3/ 164)، وثلاثيات أحمد =

[على] (¬1) القرطبي من شرحه (¬2) عن رواية البزار أنه سلْم وعلى اللام علامة الإِسكان. خامسها: [ملك] (¬3). وقوله: "من أجل فلان" هو معاذ - رضي الله عنه - (¬4). الثالث: في ألفاظه: ¬

_ = (1/ 243). ومن جمعوا بمثل هذا وهو التعدد ابن حبان في صحيحه. (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) المفهم (2/ 855)، والمطبوع بين يدي خالي من الضبط المذكور. (¬3) في ن ب (ملكية). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 198): والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى بعض ما ورد في بعض طرق الحديث كعادته. وأما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب لأن قصة معاذ كانت في العشاء، وكان الإِمام فيها معاذًا أو كانت في مسجد بني سلمة. وهذه كانت في الصبح، وكانت في مسجد قباء، ووهم من فسر الإِمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبي بن كعب كما أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن من رواية عيسى بن جارية، وهو بالجيم عن جابر قال: "كان أبي بن كعب يصلي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلة، فدخل غلام معه من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبي فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيًّا. فغضب النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى عرف الغضب في وجهه ثم قال: "إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والمريض وذا الحاجة" واستفيد منه تسمية الإِمام، وبأي موضع كان. اهـ. محل المقصود منه.

الأول: قوله: "جاء رجل" جاء هنا تعدى [بإلى] (¬1) والمعروف أن جاء تتعدى للمفعول [به] (¬2) بنفسه قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬3) {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)} (¬4) وهو كثير، وقد لا تتعدى أصلًا قال -تعالى-: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} (¬5) {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} (¬6) وأمثاله كثيرة، ويحتمل أن يكون هذا قد حذف منه المفعول والتقدير وقيل جاءكم الحق، وزهق عنكم الباطل، وجاء ربك [الحق] (¬7) فيرجع إلى ما قبله. الثاني: قوله: "ومن أجل فلان" الظاهر أن لفظة فلان كناية من الراوي، فإن الرجل سماه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من الأدب وحسن التعبير. الثالث: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليوجز" أي [فليقتصر] (¬8). قال أهل اللغة: [وجزت] (¬9) الكلام قصرته وكلام موجَز ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) ساقطة من ب. (¬3) سورة المنافقون: آية 1. (¬4) سورة عبس: آية 8. (¬5) سورة الإِسراء: آية 81. (¬6) سورة الفجر: آية 22. (¬7) في ب (الخلق). (¬8) في الأصل (فليقصر). (¬9) في ن ب (وجز).

وموجِز بفتح الجيم وكسرها وَجْز [ووجز] (¬1) والظاهر أن الإِيجاز والاختصار بالنسبة إلى الكلام مترادفان. وفي الصحاح (¬2): اختصار الكلام إيجازه. الوجه الرابع: في فوائده غير ما سلف في الحديث قبله، ويحضرنا منه سبع عشرة: الأولى: جواز ذكر الإِنسان في الشكوى والانتصار عليه. الثانية: التأخر عن الجماعة للأعذار. الثالثة: الموعظة لأمر الدين وذكر الأحكام عند المخالفة. الرابعة: الغضب في الموعظة، وذلك يكون إما لمخالفة [الموعوظ] (¬3) لما علمه أو المصير في تعلمه أو لهما. الخامسة: تألف الناس على الطاعات وعدم تنفيرهم عنها. فإن قلت: يؤخذ منه أن الجماعة من [الفرائض] (¬4) الأعيان. قلت: [لا] (¬5)، لأن هذا الرجل لم يؤمر بالإِعادة، فدل على أن غضبه إنما كان للتنفير عنها. السادسة: تسمية الصلاة وإضافتها إلى وقتها المأمور بإتيانها فيه. ¬

_ (¬1) في ب (ووجيز)، وكذا ذكره في الصحاح. (¬2) انظر: مختار الصحاح (80). (¬3) في ن ب (الموعظة). (¬4) في ن ب (فرائض). (¬5) في ن ب ساقطة.

السابعة: خطاب الاس و [نداؤهم] (¬1) في الموعظة بما تكرهه نفوسهم من المخالفة وإظهار ذلك القصد والإِرشاد والتعليم والتبليغ من غير تخصيص بالذكر لفاعل المخالفة. الثامنة: شكاية الأئمة إلى الإِمام الأعظم، وذكر حاله وحالهم معه، ولا يكون ذلك من باب الغيبة. التاسعة: خص صلاة الصبح لأنها مما يطول فيها القراءة والقيام أكثر من غيرها، ولأنه وقت السعي لمن له حرفة يبكر إليها. العاشرة: شدة غضبه - عليه الصلاة والسلام - إنما هو لفرط شفقته على أمته والحرص على [تألفهم] (¬2)، وصرف المشقة عنهم، ولا ينافي هذا ما جاء من النهي عن أن يقضي القاضي وهو غضبان، لأنه - عليه الصلاة والسلام - معصوم بخلاف غيره، فلا يقول إلَّا حقًا، ولا يحكم إلَّا بالحق. الحادية عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن منكم منفرين" هو من باب قوله (¬3) - عليه الصلاة والسلام -: "ما بال أقوام يفعلون كذا" من غير مناجات بالخطاب لمعين كما أسلفته، وإن كان هو معينًا عنده - صلى الله عليه وسلم - لقوله في حديث بريرة (¬4): "ما بال أقوام ¬

_ (¬1) في الأصل (بدارهم)، هكذا وما أثبت من ب. (¬2) في ن ب (الفهم). (¬3) البخاري (5063)، ومسلم (1401). (¬4) البخاري (2168)، ومسلم (1504).

يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله .. " الحديث، ومنه أنه لم يعين مهاجر أم قيس في حديث: "إنما الأعمال بالنيات" سترًا عليه، ولا يبعد والله أعلم أن يكون ذلك أدخل في الزجر إذ فيه الإِعراض منه - صلى الله عليه وسلم - عن مواجهة ذوي المخالفة، والإِعراض عن المخالف من أشد العقوبات لا سيما إعراضه - صلى الله عليه وسلم -. الثانية عشر: تطويل الإِمام الصلاة عذر في التخلف عن حضور الجماعة، كما سلف إذا علم من عادة الإِمام التطويل، ولهذا غضب - صلى الله عليه وسلم - في موعظته، لكون التطويل على المأمومين سببًا لترك الجماعة، وربما يكون في حق بعض الجهال سببًا لترك الصلاة، ولا شك أن ترك أصل الجماعة فيه من الخلاف ما علقه في موضعه، وفي صحيح ابن حبان من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلَّا من عذر" (¬1). ثم الأعذار في ترك الجماعة كثيرة محل الخوض فيها كتب الفقه، وقد بسطنا الكلام عليها فيها، وذكر ابن حبان (¬2) أن المنصوص عليه في السنة منها عشرة: (المرض- وحضور الطعام وهو تائق إليه- الثالث: النسيان لحديث الوادي- الرابع: السمن المفرط لحديث أنس الثابت في الصحيحين في قصة الرجل ¬

_ (¬1) ابن حبان (2604)، وابن ماجه (793)، والبغوي (794). انظر: إرواء الغليل (551). (¬2) ابن حبان (5/ 417)، وأحاديث الأعذار في صحيحه في (5/ 417، 439).

الضخم- الخامس: مدافعة الأخبثين البول والغائط- السادس: خوف الإِنسان على نفسه وماله في طريقه إلى المسجد لحديث عتبان في سيلان الوادي. السابع: وجود البرد الشديد المؤلم- الثامن: المطر المؤذي- التاسع: وجود الظلمة لحديث ابن عمر- العاشر: أكل الثوم والبصل إلى أن يذهب ريحها، وكذلك ما في معناهما مما له رائحة كريهة كالكراث والبقول المنتنة، وقد ثبت في النهي عن ذلك أحاديث صحيحة تمنع إتيان المساجد حتى يذهب ريحها، سواء كان في جماعة أم لا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وألحق الفقهاء بهذه المنصوص عليها أعذارًا في معناها، وبعضها أولى بأن يكون عذرًا، وسيأتي في موضعه مبسوطًا. الثالثة عشر: قال المازري (¬1): هذا الحديث يعارض ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من تطويل القراءة في بعض الصلوات. ثم أجاب: بأن يحمل على أنه أراد أن يسن جواز الإِطالة أو على أنه يحمل على أنه علم من حال الصحابة أنه لا يشق عليهم. قلت: ولا شك في ذلك ولا مرية. الرابعة عشرة: فيه دليل على أن حديث النفس في الصلاة لا يبطلها، فإن ذا الحاجة يريد استعجال الإِمام لينصرف إليها. [الخامسة عشرة: فيه دليل على رعاية مصلحة الواحد، وأنه إذا كره تطويل الإِمام روعي، وفيه شيء ستعرفه على الإِثر، والمسألة ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (1/ 403) مع اختلاف يسير في النقل ولعله نقله بمعناه.

فيها اختلاف عندنا، وقد أوضحته في "شرح المنهاج" فراجعه منه] (¬1). [السادسة عشرة] (¬2): فيه دليل لمن يقول بسد الذرائع، لأن غضبه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لنفور هذا الرجل وحده، بل خشية استرسال الناس في النفور حتى يقع الإِخلال بالجماعة. السابعة عشرة: جاء في رواية في مسند البزار وغيره: أنه لما شكى تطويله، قال له - عليه الصلاة والسلام -: "إما أن تخفف بقومك أو تجعل صلاتك معنا" (¬3). قال القرطبي (¬4): وظاهر هذا يدل أنه كان يصلي الفريضة مع قومه. قلت: فيه نظر وسيأتي الكلام على ذلك في الحديث الخامس في باب جامع. ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) في ن ب (الخامس عشر) ... إلخ المسائل. (¬3) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 389): ولا يوجد من نقل من يوثق به: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إما أن تجعل صلاتك معي، وإما أن تخفف بالقوم". وهذا لفظ منكر لا يصح عن أحد يحتج بنقله، ومحال أن يرغب معاذ عن الصلاة الفريضة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاته مع قومه، وهو يعلم فضل ذلك وفضل صلاة الفريضة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) المفهم (2/ 856).

مسألة: الصحيح عندنا جواز المفارقة بعذر وبغيره، ومنعه أبو حنيفة، وهو المشهور من مذهب مالك، كما قال القاضي. وقال المازري: يجوز إن كان لعذر من الخوف على تلف بعض ما له بشرط أن يتعدى الإِمام في التطويل على العادة، قال: وله أن يتم وحده غير أنه لا يتم معه في الموضع للنهي عن صلاتين معًا وليصل خارج المسجد. واختلفوا: يخرج بسلام، أم لا؟ فالذي قال بسلام: فالخروج من المسجد [طول يمنع البناء] (¬1). ومن قال بغير سلام: فهو في حكم الإِمام، فيتناول النهي عن صلاتين معًا. ومن قال: إنه يخرج بغير سلام. أجاب عن ذلك: النهي عن صلاتين معًا، إنما يكون إذا كانا جميعًا في المسجد. قلت: ويرده قصة ذلك الرجل مع معاذ، وهي مشهورة في الصحيحين وغيرهما (¬2). ¬

_ (¬1) وفي ب (طول المنع البنا). (¬2) قال الألباني -حفظه الله- (2/ 331) في الإِرواء: تنبيه: استدل المؤلف بهذه القصة على أنه للمأموم أن ينوي مفارقة الإِمام لعذر يبيح ترك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = الجماعة، وفي ذلك نظر. فإن الظاهر من روايات القصة أن حرامًا قطع الصلاة وراء معاذ واستأنف الصلاة وحده من جديد. كما في الرواية السابقة: "فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد"، فإن الانصراف دليل القطع الذي ذكرنا. وقول الحافظ في الفتح (2/ 194، 195): "وهذا يحتمل أن يكون قطع الصلاة أو القدوة" فيه بعد، لأنه لو أراد القدوة لما كان هناك ما يبرر له الانصراف إلى ناحية المسجد، لأنه يتضمن عملًا كثيرًا تبطل به الصلاة كما لا يخفى. على أن الحافظ استدرك، فقال: "لكن في مسلم فانصرف الرجل فسلم، ثم صلى وحده" فهذا نص فيما ذكرنا والله أعلم.

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء حققه وضبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه وَوثّق نقوله وعَلّق عليه عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح غفر الله ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء الثالث تابع كتاب الصلاة إلي نهاية باب الوتر (84 - 128) حديث دار العاصمة للنشر والتوزيع

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ -1997 م دار العاصمة المملكة العربية السعودية الرياض - ص ب 42507 - الرمز البريدي 11551 هاتف 4915154 - 4933318 - فاكس 4915154

بسم الله الرحمن الرحيم

15 - باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -

15 - باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) المراد بالصفة الكيفية، وذكر في الباب أربعة عشر حديثًا: الحديث الأول 84/ 1/ 15 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: أقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء [والبرد] (¬2) " (¬3). الكلام عليه من وجوه فوق العشرين: ¬

_ (¬1) بداية ن د (بسم الله الرحمن الرحيم، رب أعن برحمتك)، وفي الأصل باب صفة الصلاة، وما أثبت من ن ب. (¬2) في الأصل (البارد) وهي رواية، وما أثبت من ب والعمدة والصحيحين. (¬3) البخاري (744)، ومسلم (598)، وأبو داود (781)، والنسائي (2/ 129)، وابن ماجه (805)، والبغوي (574)، والدارمي (1/ 283)، وأبو عوانة (1/ 98)، والبيهقي (2/ 195).

أولها: لا شك أن "كان" هنا تشعر بكثرة الفعل، أو المداومة عليه، وقد تكون لمجرد وقوعه. ثانيها: قوله: "مكث هنيهة" أي قليلًا من الزمان، وأصله هنه ثم صغر [هنيهة] (¬1) ثم أبدلت الياء المشددة هاء، وفي رواية في الصحيح (هنيّة) بغير هاء والياء مشدة من [غير همز] (¬2). قال النووي في "شرح مسلم" [و] (¬3): من همزها فقد أخطأ. وخالف القرطبي فقال في "شرحه" (¬4): هنيئة بضم الهاء وياء التصغير وهمزة مفتوحة [كخطيئة] (¬5) (¬6) رواية الجمهور. وعند الطبري (¬7): "هنئهة" بالهاء بعد الهمزة تصغير هنة، قال: [وهنٌ] (¬8)، وهنة كناية عن أسماء الأجناس، هذا هو المعروف. وقال أبو الحسن بن خروف (¬9): [هن] (¬10) كناية عن كل اسم ¬

_ (¬1) في ن د (هنية). (¬2) في الأصل ون ب (من غيرهم)، وما أثبت من ن د. (¬3) زيادة من ن ب د، وأيضًا يوافق لشرح مسلم (5/ 96). (¬4) المفهم (2/ 1046). (¬5) في الأصل (لحظ به) ون ب (كحطبه)، وما أثبت من ن د. (¬6) في المفهم: زيادة "واو". (¬7) في المفهم: هنيهة، يبدل من الهمزة هاء ... الخ. (¬8) في ن ب (وهي). (¬9) هو إمام النحو أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن خروف الإِشبيلي مصنف "شرح سيبويه"، مات سنة عشر وستمائة. سير أعلام النبلاء (22/ 26). (¬10) في ن ب (هي).

نكرة [عاقل] (¬1) كـ"فلان" في الأعلام. ثالثها: قوله: "رأيت" هو بضم التاء، وهي من رؤية القلب لا العين. رابعها: المراد بالسكوت هنا سكوت عن الجهر، لا سكوت مطلق عن القول، وسكوت عن قراءة القرآن، لا عن الذكر والدعاء، بدليل قوله بعده: "ما تقول"، فإنه مشعر بأنه فهم أن في سكوته قولًا. خامسها: وقع السؤال بقوله: "ما تقول؟ " دون قوله: هل تقول؟ مع أن السؤال "بهل" مقدم على السؤال "بما" ها هنا لكنه استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدل الصحابة على قراءته سرًّا [باضطراب] (¬2) لحيته. سادسها: فيه الحرص على تتبع أقوال الإِمام وأفعاله من حركة وسكون، وهذا كان دأب الصحابة معه - عليه الصلاة والسلام - محافظة على الاقتداء به، وذلك من نعم الله -تعالى- على هذه الأمة، إذ هم الذين نقلوا الشريعة إلينا، ولو [تساهلوا] (¬3) في ذلك لاختل النظام. سابعها: "اللهم" تقدم الكلام عليه في باب الاستطابة، فأغنى عن الإِعادة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. وما أثبت يوافق إكمال إكمال المعلم (2/ 288). (¬2) في الأصل (اصطلاب)، وما أثبتاه من ب د. (¬3) في ن ب (تسالوا).

ثامنها: قوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... إلى آخره" [و] (¬1) المراد محو الخطايا وترك المؤاخذة بها أو المنع من وقوعها، والعصمة منها، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - على قصد التعليم أو إظهار العبودية، وإلَّا فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والثاني: أظهر إذ لو قصد التعليم لجهر به، ولا يبعد أن يكون ذلك دعاء لأمته - صلى الله عليه وسلم - وقال: القرطبي (¬2) في شرحه: هذا الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - على جهة المبالغة في طلب غفران الذنوب وتبرئته منها. تاسعها: في قوله: "اللهم باعد ... إلى آخره"، مجازان: الأول: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة، والمباعدة إنما تكون في الزمان أو المكان. الثاني: استعمالها في الإِزالة الكلية مع أن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد البقاء مع البعد، ولا ما يطابقه من المجاز، بل المراد الإِزالة الكلية، ومثله قوله -تعالى-: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬3) والمراد التبري منه، وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب، فإن المراد منه ترك المؤاخذة. عاشرها: قوله: "من الدنس" هو أيضًا مجاز عن زوال الذنوب وأثرها، ولا شك أن الدنس في الثوب يكون غير البياض، وطعم غير طيب، ورائحة كريهة. وجاء في رواية في صحيح مسلم: "من ¬

_ (¬1) في ن د ساقطة. (¬2) المفهم (2/ 1046). (¬3) سورة آل عمران: آية 30.

الدرن"، وفي رواية: "من الوسخ"، ولما كان ذلك في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به. الحادي عشر: "اللهم اغسلني ... إلى آخره" هو مجاز عن المؤاخذة كما ذكرنا، ويحتمل بعده أمران، الأول: التعبير بالغسل عن الغاية بالمحو، أعني: مجموع أنواع المياه في مشاهدة نزولها إلى الأرض من الماء والثلج والبرد، فيكون المراد منه الثواب الذي تكرر تنقيته [للذنوب] (¬1) بثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الثلاثة مجازًا عن صفة يقع بها التكفير والمحو، وهذا كقوله -تعالى-: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} (¬2) وكل واحد من العفو والمغفرة والرحمة صفة لها أثر في محو [الذنب] (¬3)، ففي الأمر الأول نظر إلى كل واحد من أفراد الألفاظ، وفي الثاني نظر إلى كل فرد من أفراد المعاني، وكلاهما دالان على الغاية في محو الذنب والتطهير منه. الثاني عشر: قوله: "بالثلج والماء والبرد" فيه استعارة للمبالغة في التنظيف من الذنوب، ورُوي (والماء البارد) وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك مسجد الجامع. وانظر تخصيص الماء البارد دون الساخن، وإن كان الساخن أذهب للوسخ من البارد، وكأن سِرّه والله أعلم، أنه استعاره لبرد القلب من الذنوب. ¬

_ (¬1) في ن ب (الذنوب). (¬2) سورة البقرة: آية 286. (¬3) في ن ب (الذنوب).

قال الهَروي: [يقال] (¬1) إنما سمي بَردًا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشر، وجاء في الصلاة على الجنازة: واغسله بالماء، والثلج، والبرد. قال بعض العلماء: عبر بالماء عن الرحمة، وبالثلج عن العفو، وبالبرد عن المغفرة. فائدة: ترقى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدعاء فطلب أولًا مطلبًا يليق بالعبودية وهو المباعدة، ثم ترقى فطلب [التنقية، ثم ترقى فطلب] (¬2) الغسل فإنه أبلغ [منها] (¬3)، وكذلك أدخل حرف التشبيه على التنقية، وأسقطه في الغسل تحقيقًا للنقاء من كل وجه، لأن الغسل بثلاثة أشياء أبلغ من التنقية بالماء وحده، لأن تنقية الثوب إنما عهدت بالماء خاصة، ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح. "أعوذ برضاك من سخطك" ... الحديث فطلب أولًا الرضا، فلما رآها لا تسلم من الأسقام، انتقل إلى المعافاة، ثم انتقل إلى الذات، ثم أثنى، ثم اعترف بالعجز عن ثنائه، ثم أثبت الثناء اللائق به عزّ وجلّ. الثالث عشر: استدل [الشاشي] (¬4) وأصحابنا بهذا الحديث على طهورية الثلج والبرد وهو إجماع، لكن قال الشيخ عز الدين: لم يرد عين الثلج والبرد والماء البارد، وإنما أراد إذاقته [لذة] (¬5) غفران ذنوبه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ساقطة من ب، ومثبتة في د. (¬3) في ن ب (فيها). (¬4) في الأصل ون د غير واضحة، وما أثبتناه من ب. (¬5) في ب (إلى).

الرابع عشر: الخطايا. جمع خطيئة. وأصل: "خطايا" عند الخليل: خطائي فالهمزة الأولى بدل من الياء الزائدة [في خطيئة، والهمزة الثانية هي لام الفعل ووزنه فعائل واستثقل الجمع بين همزتين في كلمة، فقدمت الياء الزائدة] (¬1) بعد الهمزة التي هي لام الفعل فصار خطائي بالهمزة بعدها ياء، ثم أُبدلت الياء ألفًا بدلًا لازمًا مسموعًا من العرب (¬2) في هذا البناء من الجمع، وإذا أبدل من الياء ألفًا لزم أن يبدل من كسر الهمزة التي قبلها فتحة إذ الألف لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا، فلما انفتحت الهمزة صارت خطاءًا اجتمع ألفان بينهما همزة، فأبدل من الهمزة ياء فصارت خطايا، فوزنها فعالى [محول] (¬3) من فعالى مقلوب من فعائل، وسيبويه يرى أن لا قلب فيه، ولكنه أبدل من الهمزة الثانية التي هي لام الفعل [بانكسار] (¬4) ما قبلها، ثم أبدل منها ألفًا على ما تقدم في مذهب الخليل، فوزنه عنده فعالى [محول] (¬5) من فعائل. الخامس عشر: فرق بعضهم بين الخطيئة والإِثم، بأن الخطيئة: فيما بين العبد وربه. والإِثم: فبما بين المخلوقين، وفيه نظر، فإنه قد كثر إطلاق ¬

_ (¬1) ساقطة من ب. (¬2) في ب (من العرب). (¬3) في الأصل (محمول)، والتصحيح من ن ب د. (¬4) في الأصل (بالانكسار)، وفي ن د. (¬5) في الأصل (محمول)، والتصحيح من ن ب د.

الفقهاء اسم الإِثم على من أخرج الصلاة عن وقتها [وكذا] (¬1) فيمن أفطر متعمدًا في الفرض، وهي فيما بين العبد وبين ربه. السادس عشر: فيه استحباب هذا الدعاء ببن تكبيرة الإِحرام وقراءة الفاتحة، وهو مستحب عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور، والحكمة فيه تمرين النفس على انشراحها لأفضل الأذكار وتدبرها، وهي الفاتحة وما شرع معها من القراءة، وجاء في الاستفتاح أحاديث: أحدها: هذا وهو مما اتفق على إخراجه الشيخان في صحيحيهما كما صرح به المصنف. ثانيها: حديث علي (¬2) - رضي الله عنه -: "وجهت وجهي ... إلى آخره" وهو من أفراد مسلم، وكأن الشافعي إنما اختاره لموافقته ألفاظ القرآن. ثالثها: حديث عائشة (¬3) في الاستفتاح بـ"سبحانك اللهم ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب. أقول: انظر: تفسير القرطبي للاطلاع على الفرق (5/ 380). (¬2) صحيح مسلم (771) في صلاة المسافرين وقصرها، وأبو داود (761) في الصلاة، باب: ما تستفتح به الصلاة من الدعاء، والترمذي (3423)، وأبو عوانة (1/ 102)، والدارقطني (1/ 297)، وعبد الرزاق (2567)، وأحمد (1/ 102)، والنسائي (2/ 129). (¬3) الترمذي (243)، وأبو داود (776)، وابن ماجه (806)، والدارقطني (1/ 112)، والحاكم (1/ 235)، وابن منده في التوحيد (2/ 223) بسند صحيح.

وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" رواه أبو داود والترمذي وضعفاه (¬1)، وبه قال أبو حنيفة وأحمد: قال ¬

_ (¬1) قال الترمذي: وحارثة قد تكلم فيه من قبل حفظه. لكن أخرجه معه أبو داود، والدارقطني (1/ 112)، والحاكم (1/ 235) من طرق أخرى، ورجاله ثقات، ويشهد له حديث أبي سعيد رواه أحمد (3/ 50)، وأبو داود (775)، والترمذي (242)، والنسائي (2/ 132)، وابن ماجه (804) وإسناده حسن، وذكر الهيثمي في المجمع (2/ 265) عن أحمد وقال: رجاله ثقات. تنبيه: فيه زيادة عن أحمد وأبي داود: "ثم يقول: لا إله إلَّا الله، ثلاثًا أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه"، وأخرجه مسلم -رحمه الله- (399) من طريق عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". قال النووي -رحمه الله- (4/ 111) شرح مسلم: قال أبو علي الغساني: هكذا وقع عن عبدة أن عمر هو مرسل يعي أن عبدة وهو ابن أبي لبابة لم يسمع من عمر. قال أحمد شاكر -رحمه الله- في الترمذي (2/ 11)، والحديث صحيح رواه أحمد مطولًا رقم (11493، 3/ 50) والنسائي مطولًا ومختصرًا ورواه أيضًا أبو داود ... إلخ. انظر: إرواء الغليل (2/ 48) سيأتي في ح (105) بعد التعليق (5). تنبيه: ذكر ابن القيم -رحمه الله- في الزاد (1/ 205) سبب اختيار أحمد لاستفتاح "سبحانك اللهم وبحمدك" عشرة أوجه نوجزها: منها اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن، وهي: سبحان الله والحمد لله ... إلخ، وقد تضمنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإِحرام، ومنها أنه استفتاح أخلصُ للثناء على الله، وغيره متضمن للدعاء. والثناء أفضل من الدعاء، ولهذا =

البيهقي (¬1): والصحيح وقفه على عمر، وفيه غير ذلك من الأحاديث. وانفرد مالك (¬2)، فقال: لا يأتي بعد بشيء بل [يقرأ] (¬3): "الحمد لله" إلى آخرها، ولعله لم تبلغه الأحاديث، أو لم يجد عملًا على وفقه، وحديث المسيء صلاته: "كبر ثم اقرأ" لا حجة [له] (¬4) فيه، لأنه علمه الواجبات. قال الشيخ تقي الدين: في حديث المسيء صلاته، وقد نقل بعض المتأخرين ممن لم يرسخ قدمه في الفقه ممن يُنسب إلى غير الشافعية أن الشافعي يقول بوجوب دعاء الاستفتاح، قال: وهو غلط ¬

_ = كانت سورة الإِخلاص تعدل ثلث القرآن، لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى، ومنها أن الاستفتاحات عامتها في قيام الليل وعمر فعله وعلمه للناس في الفرائض. ومنها أن هذا استفتاح إنشاء للثناء على الرب تعالى، متضمن للإِخبار عن صفات كماله، والاستفتاح "بوجهت وجهي" إخبار عن عبودية العبد. ومنها أن من اختار "وجهت وجهي" لا يكمله وإنما يأخذ بقطعة من الحديث ويذر باقيه بخلاف سبحانك اللهم، فإنه يقوله إلى آخره. ومنها جهر عمر به يعلمه الصحابة. انظر: زاد المعاد (1/ 202، 205) فقد ذكر عدة أنواع من الاستفتاحات التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بها في صلاته فينبغي للمصلي ان يغاير بين ما يستفتح به في صلاته ليحصل له العمل بالسنة، وأيضًا "الأوسط" لابن المنذر فقد ساق ثمانية أنواع من الأدعية التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بها (3/ 81، 86). (¬1) السنن الكبرى (2/ 33). (¬2) انظر: المدونة الكبرى (1/ 62). (¬3) في ن د (يقول). (¬4) ساقطة من ن ب.

قطعًا لم ينقله غيره، وإن نقله غيره كالقاضي عياض وغيره من الفضلاء ممن هو في رتبته، فالوهم منهم لامنه. السابع عشر: سكوته - عليه الصلاة والسلام - إنما [هو] (¬1) للدعاء كما بينه - عليه الصلاة والسلام - فلا حجة فيه لمن يرى أن سكوت الإِمام حتى يقرأ من خلفه الفاتحة، وبدليل أنه - عليه الصلاة والسلام - كان لا يسكت إذا نهض في الركعة الثانية، قال ذلك القرطبي (¬2). وقال القاضي عياض: اختلف العلماء هل على الإِمام سكتة أم لا؟. فذهب الشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن على الإِمام ثلاث سكتات: واحدة: بعد التكبير لدعاء الاستفتاح، والثانية: بعد تمام أم القرآن أي للتأمين وهي سكتة لطيفة، والثالثة: بعد التأمين ليقرأ من خلفه، وذهب مالك إلى إنكار جميعها. وذهب أبو حنيفة وجمهور العلماء من السلف: إلى إنكار السكتتين الأخيرتين، وقد سلف ذلك في الحديث الخامس من الباب قبله مع الدلالة على الاستحباب، وقدمت هناك سكتة رابعة وهي [بعد] (¬3) فراغ قراءة السورة. قال الغزالي في الإِحياء (¬4): وهي قدر "سبحان الله". ووقع له تخالف في الإِحياء ينبغي أن تعرفه، وهو أنه قال: وللإِمام سكتة ¬

_ (¬1) في ن د (كان). (¬2) المفهم (2/ 1046). (¬3) زيادة من ب. (¬4) انظر: إتحاف السادة المتقين (3/ 80).

عقب الفاتحة ليقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية فيها، كذا قال: في وسط الباب الثاني في الأعمال الظاهرة، وقال: في الباب الرابع في الإِمامة (¬1). الثانية: أن يكون للإِمام في القيام ثلاث سكتات أولهن: إذا كبر وهي الطولى منهن مقدار ما يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب، وذلك وقت قراءته لدعاء الاستفتاح، الثانية: إذا فرغ من الفاتحة ليتم من لم يقرأ الفاتحة في السكتة الأولى وهي نصف السكتة الأولى، ثم ذكر. الثالثة فتنبه لذلك، ووافقه على قراءة الفاتحة في هذه السكتة، الفارقي وابن أبي عصرون. وقال المتولي: تكره قراءتها له قبل شروع الإِمام فيها، فإن فرغ منها بطلت صلاته في وجه. واعلم أيضًا أن تسمية الأولى سكتة مجاز، فإنه لا يسكت حقيقة، بل يقول دعاء الاستفتاح، لكن سميت سكتة في الحديث الصحيح الذي نحن فيه لأنه لا يسمع أحد كلامه، فهو كالساكت، وقد سلف ذلك أيضًا. وأما السكتة الثالثة: فقال السرخسي: يستحب أن يقول فيها دعاء، وذكر فليست سكتة [حقيقة] (¬2) أيضًا، وذكر صاحب "الشامل الصغير" من المتأخرين: إنه يندب سكتة أيضًا [بعد] (¬3) السلام الأول. الثامن عشر: فيه تفدية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآباء والأمهات وهو إجماع، وهل يجوز تفدية غيره من المؤمنين فيه ثلاثة مذاهب. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (3/ 317). (¬2) في ن ب د (حقيقة). (¬3) في الأصل (عند)، وما أثبت من ن ب د.

أصحها: نعم بلا كراهة. وثانيها: المنع، وذلك خاص به - صلى الله عليه وسلم -. وثالثها: يجوز تفدية العلماء الصالحين الأخيار، دون غيرهم، لأنهم هم [الورّاث] (¬1) المنتفع بهم (¬2) بخلاف غيرهم. التاسع عشر: فيه استعمال المجاز، وتسمية الكلام اليسير سكوتًا. العشرون: فيه سؤال العلماء عن العلم. الحادية والعشرون: فيه تخصيص الإِمام نفسه بالدعاء دون المأمومين، فإن الظاهر منه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إمامًا، فيحمل النهي الوارد في تخصيص الإِمام نفسه به وأنه جاء [نهيهم] (¬3) على كراهة التنزيه لا التحريم بيانًا للجواز. قال ابن المنذر في (الإِشراف): قال الشافعي: لا أحب للإِمام تخصيص نفسه بالدعاء دون القوم. قال ابن المنذر: وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا كبر في الصلاة قبل القراءة: "اللهم باعد بيني ... فذكر الحديث"، قال: وبهذا نقول (¬4). الثاني والعشرون: فيه شرعية سؤال المباعدة من الذنوب، والتنقية منها، والغسل وتأكد ذلك، فإن ذلك ليس من التحجر في الدعاء، بل هو من باب العلم بسعة رحمة الله تعالى وجوده وكرمه. ¬

_ (¬1) في ن ب (الفدات). (¬2) في ن ب زيادة (دون). (¬3) في الأصل ون د (نهم). (¬4) أقول انظر: الأوسط (3/ 81، 86).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 85/ 2/ 15 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة: بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان وينهى أن يفترش [الرجل] (¬1) ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم" (¬2): هذا حديث عظيم كثير الأحكام. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) مسلم (498)، باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به، وأبو داود (783) في الصلاة، باب: من لم ير الجهر بسم الله الرحمن الرحيم، ابن ماجه (869) في الإِقامة، وفي (812)، وابن أبي شيبة (1/ 229، 252، 284، 285، 410)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 15، 85، 172)، وأحمد (6/ 31، 171، 194، 281)، والطيالسي (1547)، وابن حبان (1768).

والكلام [فيه] (¬1) من أربعة وثلاثين وجهًا: أحدها: هذا الحديث سها المصنف في إيراده في كتابه فإنه من أفراد مسلم، وشرطه إخراج ما اتفقا عليه. قلت: وفي إسناده علة ذكرتها في تخريج أحاديث الرافعي فسارع إليه (¬2). ثانيها: تقدم الكلام على: "كان" وأنها تقتضي المداومة أو الأكثرية، لكن لا يأتي فيها هنا إلَّا المداومة لافتتاح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، أي بسورة الحمد، ومعلوم أنّه - صلى الله عليه وسلم - لا يخل بالتكبير والقراءة. ¬

_ (¬1) في ن ب د (عليه). (¬2) العلة التي تقدح في هذا الحديث هي: الانقطاع بن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي وعائشة. فنقول وبالله التوفيق: أبو الجوزاء قد وثقه كثير من أئمة الجرح والتعديل، وأيضًا أخرج له البخاري حديثًا واحدًا من رواية ابن عباس. وروى مسلم وأصحاب السنن عنه، وأيضًا أدرك عائشة رضي الله عنها، فقد توفي بعد ست وعشرين سنة من وفاتها علمًا أن من قال: إنه لم سمع من عائشة يفتقر إلى دليل، وهو مفقود هنا. أيضًا هذا الحديث له شواهد تقويه، فقد روى البخاري في صحيحه (738) من حديث ابن عمر: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة"، وأيضًا قال في تحفة الأشراف (11/ 386) بعد سياقه: ورواه حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة انظر: كتاب الفوائد المجموعة في بيان ما وقع صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة (34) مخطوط تأليف رشيد الدين يحيى بن علي بن عبد الله القرشي. مصورة لدي، وانظر: الإِرواء (2/ 21).

ثالثها: الرواية في القراءة بالنصب عطفًا على مفعول يستفتح، وهو الصلاة، وفي الحمد ضم [داله] (¬1) على الحكاية أي ويستفتح القراءة بـ"الحمد لله رب العالمين" أي بسورة الحمد، ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة السالف قبله إذن. لأن المعنى أنه يسكت السكوت المذكور بعد التكبير، ثم يستفتح القراءة بذلك، ولا يصح الخفض في القراءة، ويكون دليلًا على عدم السكوت لئلا يؤدي إلى معارضته لحديث أبي هريرة فاعلمه. [رابعًا] (¬2): الفقهاء يستدلون بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في كثير منها في الصلاة على الوجوب، لأنهم يرون أن قوله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} خطاب مجمل مبين بالفعل، والفعل [المبين للمجمل المأمور به] (¬3) يدخل تحت الأمر، فيدل [بمجموع] (¬4) ذلك على الوجوب، لا لأن الفعل بمجرده يدل على الوجوب، وإذا كان المسلك ذلك ووجدت أفعال غير واجبة وجب أن يحال على دليل آخر دل على [عدم] (¬5) وجوبها؛ وفي ذلك بحث؛ وهو: أن الخطاب المجمل يبين بأول الأفعال وقوعًا، فلا يكون ما وقع بعده ¬

_ (¬1) في ن ب (قاله). (¬2) في ن د (رابعها). (¬3) في ب (المجمل المبين للمأمور به)، وما أثبتناه من الأصل وهو الموافق لإِحكام الأحكام. (¬4) في ن ب (مجموع)، وهو يوافق إحكام الأحكام (2/ 273). (¬5) في الأصل (وله) ون ب د (عموم)، وما أثبتناه من الأحكام.

بيانًا له [بوقوع] (¬1) البيان بالأول، بل تبقى أفعالًا مجردة لا تدل على الوجوب، إلَّا أن يدل دليل على أن الفعل المستدل به بيانًا، فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجوده، بل قد [يقوم] (¬2) الدليل على خلافه: كمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل فعلًا، وهو من أصاغر الصحابة الذين لهم تمييز بعد إقامته عليه الصلاة والسلام مدة للصلاة مثلًا؛ فهذا مقطوع بتأخيره عن وقت البيان، وكذا من أسلم بعد [مكة] (¬3) وأخبر برؤية الفعل، فإنه حينئذ يتحقق تأخير الفعل. قال الشيخ تقي الدين (¬4): وهذا تحقيق بالغ، قال: وقد يجاب عنه بأن يقال: دل الدليل من الحديث المعين على وقوع هذا الفعل، والأصل عدم غيره، فتعين أن يكون بيانًا، وهذا قوي فيما إذا وجدنا فعلًا لم يقم الدليل على عدم وجوبه، فأما إذا وجد فإن جعلناه مبينًا بدلالة الأصل على عدم غيره، ودل الدليل على عدم وجوبه لزم النسخ لذلك الوجوب الذي ثبت فيه أولًا، ولا شك أن مخالفة الأصل أقرب من التزام النسخ. خامسها: قولها: "يستفتح الصلاة بالتكبير" تعني بالتكبير الذي هو تحريم للصلاة، كما ثبت: "تحريمها التكبير" (¬5) صححه الحاكم ¬

_ (¬1) في ن ب (لوقوع). (¬2) في ب (تقدم)، وما أثبتناه من الأصل موافق للأحكام. (¬3) في ن دب (مدة). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (2/ 275). للاطلاع على اختلاف في سياق العبارة. (¬5) أخرجه الشافعي (1/ 69)، وأبو داود في الطهارة (61)، باب: فرض الوضوء وسنده حسن، وأحمد (1/ 123، 129)، والترمذي (3)، وابن =

من حديث أبي سعيد على شرط مسلم، ولا شك أن التحريم لا يحصل بالتكبير وحده، بل به وبالنية، وهما أمران أحدهما قائم بالقلب، والثاني بالنطق، فيحتمل أنها عبرت بالأخص عن الأعم للعلم به، ويحتمل أنها ذكرته للتنبيه على تعين لفظ التكبير دون غيره، وأن استفتاح الصلاة بالنية كان معلومًا عندهم، وهي قصد الطاعة بالصلاة، كما أن الإِخلاص في الطاعة لله لا بد منه في الاستفتاح وغيره، وهو تصفية العمل من الشوائب، بأن لا يقصد بالعمل للنفس، ولا للهوى، ولا للدنيا، بل [للتقرب] (¬1) إلى الله -تعالى- فكذلك النية، وكلاهما كان عندهم معلومًا، فلهذا استغنت بذكر التكبير عنهما، ونقل خلاف ذلك عن بعض المتقدمين. قال الشيخ تقي الدين (¬2): تأوله بعضهم على مالك، والمعروف خلافه عنه وعن غيره. سادسها: تكبيرة الإِحرام: ركن على المشهور عندنا، وبه قال مالك. وقيل: شرط، حكاه الروياني في (بحره)، وهو مقتضى قول ¬

_ = ماجه (275) وحسنه النووي في الخلاصة، وصححه الحاكم (1/ 132) عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ حديث علي، على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. (¬1) في ن ب (التقرب). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 276).

الطبري في الصلاة الرباعية: خمسة وأربعون خصلة: ثمانية منها قبل الدخول، النية، والتكبير، ثم [عد باقي] (¬1) الشروط، وهو مذهب أبي حنيفة، وتظهر فائدة الخلاف فيما لو كبّر وفي يده نجاسة ثم ألقاها في أثناء التكبير، أو شرع في التكبير قبل [ظهور] (¬2) الزوال، ثم ظهر الزوال قبل فراغها، فلا تصح صلاته على المشهور عندنا [فيها] (¬3) وتصح على الثاني كستر العورة. وقال بعض المالكية: فائدة الخلاف ما ذكره سحنون، إن الناظر إلى عورة إمامه في الصلاة متعمدًا تبطل صلاته. فإذا قيل: إنها ركن بطلت صلاة الناظر إلى عورة إمامه حين إحرامه وإلاَّ فلا. وقال بعضهم: فائدته في صحة تقديم الإِحرام على وقت العبادة. فإن قلنا: بالأول فلا تصح، وإلاَّ صحّت، إذ لا يشترط في إيقاع شرط العبادة المؤقتة دخول الوقت كالطهارة. واحتج من قال: بأنها ركن بحديث المسيء صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" (¬4) الحديث، واعترض بأن فيه إسباغ الوضوء واستقال القبلة، وهما شرطان. ¬

_ (¬1) في الأصل (عدنا إلى)، وما أثبتناه من ب د. (¬2) في ب (شروع). (¬3) في ن د (فيهما). (¬4) البخاري (793)، ومسلم (397)، وأبو داود (856)، والترمذي (302)، والنسائي (2/ 125).

وأجيب: بأن الشرط [قد] (¬1) لا يفارق الصلاة: كالستر والاستقبال. ويحتج له أيضًا بحديث معاوية بن الحكم السلمي في الصحيح "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬2) فجعل التكبير منها. واحتج من قال: بأنها شرط بقوله -تعالى-: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} (¬3)، والفاء للتعقيب، والذكر: التكبير، والصلاة معطوفة عليه بالفاء، فهو غيرها. قال الزمخشري (¬4): فصلى صلاة العيد، وذكر اسم ربه، فكبر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة عليها. وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه -عز وجل-. ثم قال: وعن ابن عباس: ذكر معاده وموقفه ببن يدي ربه، فصلى له. وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى، فصلى صلاة العيد. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) مسلم (537) في المساجد، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، وأبو داود (930، 3282)، وأبو عبيد في الإِيمان (84)، وابن الجارود (212)، والطبراني في الكبير (19/ 938)، والطيالسي (1105)، وأحمد (5/ 447، 448)، والنسائي (3/ 14) في السهو، باب: الكلام في الصلاة، ومالك (3/ 5، 6) في العتق والولاء، باب: ما يجوز في العتق في الرقاب الواجبة. (¬3) سورة الأعلى: آية 15. (¬4) الكشاف (4/ 205).

وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد بالذكر هنا النية، فالآية خارجة عن النصوصية على ما ادعوه، [وإذا] (¬1) تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال. وقال بعض المتأخرين: ليس المراد بالذكر هنا تكبيرة الإِحرام بالإِجماع قبل خلاف المخالف. واحتجوا أيضًا: بالحديث السالف: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" والمضاف غير المضاف إليه. وجوابه: أنه قد يضاف البعض إلى الجملة. كما تقول: راس زيد، فلا حجة فيه. وفي المسألة قول ثالث: أن تكبيرة الإِحرام سنة. روى ابن المنذر (¬2): عن ابن شهاب أنه قال في رجل نوى الصلاة ورفع يديه ولم يحرم: إن الصلاة تجزئه. وحكى القاضي وجماعة: عن ابن المسيب والحسن والزهري والحكم والأوزاعي: أن تكبيرة الإِحرام سنة (¬3). وأنكر ذلك على ابن ¬

_ (¬1) في ن ب (وبه). (¬2) الأوسط لابن المنذر (3/ 77). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 145). قال ابن سيد الناس -رحمنا الله وإياه- في النفح الشذي شرح الترمذي (1/ 401، 402): قلت: وقد ثبت من حديث عائشة - رضي الله عنها - في صحيح مسلم، وهو حديث الباب، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح صلاته بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالين، ففيه رد على من أجاز الدخول في الصلاة بالنية ممن حكينا عنه ذلك.

شهاب وابن المسيب. وقالوا: إنهما يريانها سنة في حق المأموم خاصة (¬1). وإليه أشار بن الموارد. قال: ولم يختلف في الفذ والإِمام، وإنما اختلف في المأموم. سابعها: إذا تقرر أنه لا بد من لفظ فاختلف العلماء [فيه] (¬2) [فعند] (¬3) أبي حنيفة أنه يكفي مجرد التعظيم كالله أجل، أو أعظم فإن لم [يقصد] (¬4) [فروايتان] (¬5) عنه. ورويمما عنه أنه قال: أكره أن تنعقد الصلاة بغير: الله أكبر (¬6). وعنه روايتان: فيما إذا قال: الله ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 217): فائدة: تكبيرة الإِحرام ركن عبد الجمهور. وقيل: شرط، وهو عبد الحنفية، ووجه عبد الشافعية، وقيل: سنَّة. قال ابن المنذر: لم يقل به أحد غير الزهري، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم صريحًا. وإنما قالوا فيمن أدرك الإِمام راكعًا تجزئة تكبيرة الركوع. نعم، نقله الكرخي من الحنفية عن إبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم ومخالفتهما للجمهور كثيرة. وذكره النووي في المجموع (3/ 232). (¬2) في ن ب (فيها). (¬3) في الأصل ون ب (وعند)، والتصحيح من ن د. (¬4) في ن د (يقصده). (¬5) في الأصل ون ب (فروايتين)، وما أثبت من ن د. (¬6) دليلهم قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ}، لم يفصل بين اسم واسم. والمعنى في المسألة وهو أنها عبادة تفتتح باسم من أسماء الله تعالى لا على سبيل النداء. فوجب أن تستوي فيها جميع الأذكار، ودليله لفظ الإِيمان. اهـ، من رؤوس المسائل للزمخشري (147).

أو الرحمن، واقتصر عليه. [ووافقه] (¬1) على عدم الانعقاد بيا الله ارحمني وبيا اللهم اغفر لي، وبالله أستعين. والجمهور على تعين لفظ التكبير، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. مستدلين على وجوبه وتعينه بهذا النقل (¬2) ¬

_ (¬1) في ن د (ووافق). (¬2) قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 49): فصل: الحكم الثاني، قوله: "وتحليلها التسليم" وفي هذا من حصر التحريم في التكبير، نظير ما تقدم في حصر مفتاح الصلاة في الطهور من الوجهين. وهو دليل بين أنه لا تحريم لها إلَّا التكبير. وهذا قول الجمهور وعامة: أهل العلم قديمًا وحديثًا. وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يدل على التعظيم فاحتج الجمهور عليه بهذا الحديث، ثم اختلفوا، فقال أحمد ومالك وأكثر السلف: يتعين لفظ: "الله أكبر" وحدها. وقال الشافعي: يتعين أحد اللفظين "الله أكبر" و"الله أكبر" وقال أبو يوسف: يتعين التكبير وما تصرف منه، نحو "الله الكبير" ونحوه. وحجته أنه يسمى تكبيرًا حقيقة فيدخل في قوله: "وتحريمها التكبير" وحجة الشافعي أن المعرف في معنى المنكر، فاللام لم تخرجه عن موضوعه، بل هي زيادة في اللفظ غير مخلة بالمعنى بخلاف "الله الكبير" و"كبرت الله " ونحوه، فإنه ليس فيه من التعظيم. والتفضيل والاختصاص ما في لفظة: "الله أكبر" والصحيح قول الأكثرين، وأنه يتعين "الله أكبر" لخمس حجج: إحداها: قوله: "تحريمها التكبير" والسلام هنا للعهد فهي كالكلام في قوله: "مفتاح الصلاة الطهور"، وليس المراد به كل طهور، بل الطهور الذي واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه لأمته، وكان فعله له تعليمًا وبيانًا لمراد الله من كلامه. وهكذا التكبير هنا هو التكبير المعهود. الذي نقلته الأمة نقلًا ضروريًّا، خلفًا عن سلف عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقوله في كل صلاة، لا يقول غيره ولا مرة واحدة، فهذا هو المراد بلا شك في قوله: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = "تحريمها التكبير" وهذا حجة على من جوز "الله الأكبر" و "الله الكبير" فإنه وإن سمي تكبيرًا، لكنه ليس التكبير المعهود المراد بالحديث. الحجة الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" ولا يكون ممتثلًا للأمر إلَّا بالتكبير. وهذا أمر مطلق يتقيد بفعله الذي لم يخل به هو ولا أحد من خلفائه ولا أصحابه. الحجة الثالثة: ما روى أبو داود من حديث رفاعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر". الحجة الرابعة: أنه لو كانت الصلاة تنعقد بغير هذا اللفظ لتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو في عمره مرة واحدة لبيان الجواز، فحيث لم ينقل أحد عنه قط أنه عدل عنه حتى فارق الدنيا دل على أن الصلاة لا تنعقد بغيره. الحجة الخامسة: أنه لو قام غيره مقامه لجاز أن يقول غير كلمات الآذان مقامها. وأن يقول المؤذن "كبرت الله" أو "الله الكبير" أو "الله الأعظم" ونحو، بل تعين لفظة "الله كبر" في الصلاة أعظم من تعينها في الآذان، لأن كل مسلم لا بد له منها، وأما الآذان فقد يكون في العصر مؤذن واحد أو اثنان والأمر بالتكبير في الصلاة آكد من الأمر بالتكبير في الآذان. وأما حجة أصحاب الشافعي على ترادف "الله أكبر" و"الله الأكبر" فجوابها أنهما ليسا بمترادفين، فإن الألف واللام اشتملت على زيادة في اللفظ ونقص في المعنى. وبيانه: أن أفعل التفضيل إذا نكر وأطلق تضمن من عموم الفضل، وإطلاقه عليه ما لم يتضمنه المعرف. فإذا قيل "الله أكبر" كان معناه: من كل شيء. وأما إذا قيل: "الله الأكبر" فإنه يتقيد معناه ويتخصص، ولا يستعمل هذا إلَّا في مفضل عليه معين كما إذا قيل: من أفضل أزيد أم عمرو؟ فيقول زيد الأفضل. هذا هو المعروف في اللغة والاستعمال. =

على الطريقة السابقة من كونه بيانًا للمجمل وفيه ما ذكرنا، لكن انضم إليه قوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، فصار البيان بفعله وقوله./ وصح من حديث ¬

_ = فإن أداة التعريف لا يمكن ان يؤتى بها إلَّا مع "من" وأما بدون "من" فلا يؤتى بالأداة. فإذا حذف المفضل عليه مع الأداة أفاد التعميم. وهذا لا يتأتى مع اللام. وهذا المعنى مطلوب من القائل: "الله كبر" بدليل ما روى الترمذي. من حديث عدي بن حاتم الطويل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر! فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ " وهذا مطابق لقوله تعالى (6/ 19). {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} وهذا يقتضي جوابًا، لا شيء أكبر شهادة من الله. فالله أكبر شهادة من كل شيء كما أن قوله لعدي: "هل تعلم شيئأ أكبر من الله؟ " يقتضي جوابًا لا شيء أكبر من الله، فالله أكبر من كل شيء. وفي افتتاح الصلاة بهذا اللفظ المقصود منه استحضار هذا المعنى وتصوره سر عظيم يعرفه أهل الحضور المصلون بقلوبهم وأبدانهم. فإن العبد إذا وقف بين يدي الله -عز وجل- وقد علم أنه لا شيء أكبر منه. وتحقق قلبه ذلك، وأشربه سره استحى من الله ومنعه وقاره وكبرياؤه أن يشغل قلبه بغيره، وما لم يستحضر هذا المعنى فهو واقف بين يديه بجسمه وقلبه يهيم في أودية الوساوس والخطر والله المستعان. فلو كان "الله أكبر" من كل شيء في قلب هذا لما اشتغل عنه، وصرف كلية قلبه إلى غيره، كما أن الواقف بين يدي الملك المخلوق لما لم يكن في قلبه أعظم منه لم يشغل قلبه بغيره ولم يصرفه عنه صارف. اهـ. (¬1) البخاري (628، 630، 631، 658، 685، 819، 2848، 6008، 7246)، ومسلم (674)، وأبو داود (589)، والترمذي (205)، والنسائي (2/ 8، 9، 21، 77)، وابن ماجه (979)، وأبو عوانة =

أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -: قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة: استقبل القبلة، ورفع يديه، وقال: الله أكبر"، رواه ابن ماجه (¬1)، وصححه ابن حبان (¬2) في كتابه "وصف الصلاة بالسنة". وذهب أبو يوسف إلى [الانعقاد] (¬3) بالله الكبير. وجوابه: أن أكبر أبلغ. واختلف أصحابنا في الانعقاد بقوله: [الله الأكبر] (¬4) ¬

_ = (1/ 331)، وابن حبان (1658، 2128، 2129، 2130). فائدة: قال الحافظ في الفتح (2/ 11): واستدل به على أفضلية الإِمامة على الآذان، وعلى وجوب الآذان. (¬1) ابن ماجه (803، 1061). (¬2) ابن حبان (1865، 1866، 1867، 1869، 1870، 1871، 1876)، وأحمد (5/ 424)، وأبو داود (730، 963)، والترمذي (304، 305)، والنسائي (3/ 34)، وشرح السنة (555)، وصححه ابن خزيمة (587، 651، 685، 700، 677)، وابن أبي شيبة (1/ 235)، والبيهقي (2/ 26، 73، 116، 118) والبخاري في قرة العينين في رفع اليدين (ص 5). قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (1/ 355): حديث أبي حميد هذا حديث صحيح متلقى بالقبول لا علة له، وقد أعله قوم بما برأه الله وأئمة الحديث منه ونحن نذكر ما عللوه به، ثم نبين فساد تعليلهم وببطلانه بعون الله. اهـ، محل المقصود. راجع: تهذيب السنن. (¬3) في ن ب (انعقادها). (¬4) في الأصل (الله أكبر)، وما أثبت من ن ب د.

والأصح: نعم، بل هو أبلغ في التعظيم. ووجه مقابله أنه إذا أدخل الألف واللام على أكبر صار نعتًا، وبقي المبتدأ بلا خبر، كذا علله الأبهري المالكي. واعترض عليه: بأنه لا يمتنع أن يكون الأكبر خبرًا، لأن خبر المبتدأ قد يكون معرفة، إلَّا أنه قد صار محتملًا للنعت وللخبر، فكيف يقوم [ذلك] (¬1) مقام الله أكبر الذي تعين فيه أن أكبر خبر، ولعل هذا هو السر في اقتصار الشارع على الثاني. واعترض الأبهري على من قال بالانعقاد بالله الأكبر: بأنه لا يجوز الجمع بين الألف واللام ومن في أفعل التفضيل إذ المعنى الله الأكبر من كل كبير. فإذا قلت: الأكبر جاز أن يكون معه من يشاركه في الكبر، بخلاف أكبر. وفيما ذكره نظر، لأن صيغة أفعل التي للمفاضلة تقتضي وضعها للمشاركة في أصل الشيء والزيادة عليه، كان فيه الألف واللام أو لم يكن: كقولنا: زيد أفضل من عمرو، وزيد الأفضل. وكذا مع الإِضافة نحو زيد أفضل القوم (¬2). فرع: لو قال: الله أكبر بالتنوين أو بالنصب [فلا] (¬3) نقل في ذلك، والذي يظهر المنع إذ لم يأت بالتكبير اللغوي، كما صرحوا به فيما إذا مد الهمزة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: ت (2) ص (27). (¬3) في ن ب (ولا).

فرع: من عجز عن المنطق بالحربية ولم يقدر على التعلم ترجم بلسانه، ووجب عليه التعلم إن قدر، فإن فقد من يعلمه ترجم ولا إعادة، فإن أهمل التعلم مع إمكانه [وضاق] (¬1) الوقت صلى بالترجمة، والأصح وجوب الإِعادة لتقصيره. وللمالكية ثلاثة أقوال فيما إذا ضاق الوقت عن التعلم: أحدها: لا ينطق بغير التكبير إذ لا يقوم غيره مقامه ومقتضاه، أن يدخل في الصلاة بالنية، وهو قول الأبهري. وصوبه المازري. والثاني: يفتتح الصلاة بالحرف الذي دخل به في الإِسلام، قاله أبو الفرج، وهو أولى من الاكتفاء بالنية. والثالث: كمذهبنا. فرع: [قال] (¬2) صاحب (البيان والتقريب) من المالكية: اختلف فيمن افتتح الصلاة، ثم شك في صحة إحرامه، فتمادى، ثم تبين له أنه كان أحرم. وكذا من زاد في الصلاة متعمدًا أو ساهيًا، ثم تبين له أنه الواجب، ومن صلى شاكًّا في إتمام صلاته، ثم تبين [له] (¬3) أنه أتم أو شك في طهارته، فتمادى، ثم تبين أنه متطهر في جميع ذلك قولان: الإِجزاء، وعدمه. فائدة: الحكمة في تقديم التكبير تنبيه [للمصلي] (¬4) على معنى ¬

_ (¬1) في الأصل (وصار)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) في ن ب (فإن). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن د (المصلى).

هذه [الكلمة] (¬1) التي معناها أنه الموصوف بالجلال وكبر الشأن، وأن كل شيء دون جلاله وسلطانه حقير، وأنه جل وتقدس عن شبه المخلوقين والعابثين [وليشغل] (¬2) المصلي فهمه وخاطره بمقتضى هذه اللفظة، ويستحضر أن يذكر معه غيره أو يحدث نفسه بسواه جل اسمه (¬3). ثامنها: قوله: "والقراءة بالحمد لله رب العالمين" تمسك به مالك وأصحابه في ترك الذكر بين التكبير والقراءة، لأنه لو تخلل بينهما ذكر لم يكن الاستفتاح بالحمد لله رب العالمين، وقد تقدم ما فيه في الوجه الثالث. تاسعها: قولها: "بالحمد" استدل به أصحاب مالك وغيرهم ¬

_ (¬1) في ن ب (الحكمة). (¬2) في الأصل (وليشغل)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) قال ابن القاسم في حاشية الروض (2/ 11): وحكمة الاستفتاح بها ليستحضر عظمة من يقف بين يديه وأنه أكبر شيء يخطر بباله. فيخشع له ويستحي أن يشتغل بغيره، ولهذا أجمع العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلَّا ما عقل منها وحضر قلبه. وروى ابن ماجه عن حذيفة مرفوعًا: "إن الرجل إذا دخل في صلاة أقبل الله عليه بوجهه، فلا ينصرف عنه حتى ينقلب أو يحدت حدث سوء"، وفي الأثر: "لو يعلم من يناجي ما انفتل"، لابن خزيمة: "إنما يقوم يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه"، ونظائره كثيرة ومناجاة الرب تعالى أرفع وأشرف درجات العبد. وعن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكره حري أن يحسنها، وصل صلاة من يظن أن لا يصلي غيرها". حسنه الحافظ. اهـ.

على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة، وأنها ليست منها (¬1)، ونقله القرطبي (¬2) في شرحه عن الجمهور، وتأوله الشافعي والأكثرون القائلون بأنها من الفاتحة، كما نقله عنهم النووي في شرح مسلم (¬3) على أنّ المراد يستفتح القراءة بسورة الحمد كما تقدم، لا بسورة أخرى، وقد قامت أدلة على أن البسملة منها، وقد صنف في ذلك وفي الجهر بها (¬4) أبو شامة المقدسي -قدس الله روحه- مجلدة ¬

_ (¬1) قال الشافعي في الأم (1/ 94): "إن أغفل أن يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وقرأ من: "الحمد لله رب العالمين" حتى يختم السورة، كان عليه أن يعود فيقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين"، حتى يأتي على السورة". قال الشافعي: ولا يجزئه أن يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، بعد قراءة: "الحمد لله رب العالمين"، ولا بين ظهرانيها حتى يعود فيقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم يبتدىء أم القرآن فيكون قد وضع كل حرف منها في موضعه. وكذلك لو أغفل فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ثم قال: "مالك يوم الدين" حتى يأتي على آخر السورة عاد، فقال: "الحمد لله رب العالمين" حتى يأتي على آخر السورة، وكذلك لو أغفل "الحمد" فقط، فقال: "لله رب العالمين". عاد فقرأ: "الحمد" وما بعدها لا يجزئه غيره، حتى يأتي بها كما أنزلت، ولو أجزت له أن يقدم منها شيئًا عن موضعه أو يؤخره ناسيًا أجزت له إذا نسي أن يقرأ آخر آية منها، ثم التي تليها قبلها ثم التي تليها حتى تجعل "بسم الله الرحمن الرحيم" آخرها، ولكن لا يجزئ عنه حتى يأتي بكمالها كما أنزلت". وما ذكر حكم يخالف الجهر. اهـ. (¬2) المفهم (2/ 778). (¬3) (4/ 111). (¬4) أما مسألة الجهر بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" قبل قراءة الفاتحة، قال ابن =

ضخمة. فأفاد فيها وأجاد، وأغنى عن الخوض فيها. وقد صنف قبله في ذلك سليم الرازي، والخطيب، حتى ابن عبد البر من المالكية. وأجاب بعض المخالفين عن تأويل الشافعي وغيره: بأن لفظ الحديث. إن أجرى [مجرى] (¬1) الحكاية [اقتضى] (¬2) البداءة [به] (¬3) بعينه [فلا] (¬4) يكون غيره قبله [لأن الغير حينئذ] (¬5) يكون هو المفتتح [به] (¬6) وإن جعل اسمًا فالفاتحة لا تسمى سورتها مجموع الحمد لله ¬

_ = القاسم في حاشية الروض (2/ 25): أما الاستفتاح والتعوذ فسر إجماعًا وليسا واجبين، ويسقطان بفوات محلهما، وكذا البسملة، وأما كون البسملة سرًا فلحديث كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة (بالحمد لله رب العالمين) أي الذي يسمع منهم، لا بجهرون بالبسملة، فلا يسن الجهر بها. قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، قال الشيخ: ويستحب بها للتأليف، ويختار أن يجهر بها وبالتعوذ والفاتحة في الجنازة ونحوها تعليمًا للسنة. وذكر أن المداومة على الجهر بذلك بدعة مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأحاديث المصرحة في الجهر بها كلها موضوعة. وذكر الطحاوي أن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وذهب ابن القيم أن الجهر تفرد به نعيم من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثمانمائة ما بين صاحب وتابع. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في إحكام الأحكام. (¬2) في إحكام الأحكام العبارة (فذلك يقتضي). (¬3) في إحكام الأحكام (بهذا اللفظ). (¬4) في ن د (ولا). (¬5) العبارة في إحكام الأحكام (لأن ذلك الغير). (¬6) زيادة من إحكام الأحكام.

رب العالمين، بل بسورة الحمد. فلو كان لفظ الرواية " [كان] (¬1) يفتتح بالحمد" لقوي تأويل الشافعي وغيره، فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة التي البسملة بعضها عندهم، قاله الشيخ تقي الدين. وقوله: "لا تسمى بهذا المجموع" غلط. ففي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله في: "الحمد لله رب العالمين: أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني" (¬2) وفيها أيضًا من حديث أبي سعيد بن المعلى: "الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني الذي [أوتيت] (¬3) والقرآن العظيم" (¬4)، [وهذا] (¬5) ظاهر، ونص في أن الفاتحة تسمى بهذا المجموع الذي هو: الحمد لله رب العالمين، وبالله التوفيق. وأجاب بعض المتأخرين من المخالفين؛ عن التأويل المذكور: بأن هذا الاحتجاج إنما [كان] (¬6) يحتمل لو كانت الرواية بخفض ¬

_ (¬1) ساقطة من ن د. (¬2) أبو داود عون المعبود (1444). قال المنذري: وأخرجه البخاري والترمذي. رواية الترمذي (3124). سيأتي في التعليق (8) ح (98). (¬3) في ن ب د (أوتيته). (¬4) البخاري (4474، 5006، 4447، 4703)، وأبو داود عون (1445)، وأحمد (2/ 9، 4/ 211)، والنسائي (2/ 139)، وفضائل القرآن له (35)، وابن ماجه (3785)، والدولابي (1/ 34) من طرق عن شعبة به، والطبراني (22/ 303)، وابن حبان (777)، والبيهقي (2/ 368). (¬5) في ن د (فهذا). (¬6) في ن ب ساقطة.

الدال. وأما على الضم فهو على الحكاية كما تقدم، أعني حكايته لفظه - صلى الله عليه وسلم -. وكأنها قالت: كان يبتدىء الصلاة بهذا اللفظ (¬1). فائدة: تتعلق بإثبات البسملة في الفاتحة. روى الروياني (¬2) في "بحره" عن أبي سهل الأبيوردي (¬3) أن خطيبًا ببخارى من العلماء الزهاد رأى خبرًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن من قرأ قل هو الله أحد ألف ¬

_ (¬1) قال ابن حجر على حديث أنس في الفتح (2/ 227): قوله: "الحمد لله رب العالمين" بضم الدال على الحكاية. واختلف في المراد بذلك، فقيل: المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة، وهذا قول من أثبت البسملة في أولها وتعقب بأنها إنما تسمى الحمد فقط وأجيب بمعنى الحصر. ومستندة ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي: "الحمد لله رب العالمين" في صحيح البخاري، أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن" فذكر الحديث وفيه، قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني" وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم من قوله كانوا يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرءوا: "بسم الله الرحمن الرحيم سرًّا". وقد أطلق أبو هريرة السكوت على القراءة سرًا، كما في الحديث الذي قبل هذا. اهـ. وهذا كلام ابن حجر على حديث أنس. (¬2) هو عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد أبو المحاسن الروياني (415 هـ، 501 هـ)، ترجمته في الأعلام (4/ 324)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 287) وغيره. (¬3) أحمد بن علي أبو سهل الأبيوردي، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 242، 248)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (157، 158)، وطبقات الشافعية للسبكي (4/ 43، 45).

مرة رفع الله عنه وجع السن [فلا يجع] (¬1) أبدًا فوجع سنه، فقرأها ألفًا، فلم يزل الوجع وزاد. فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فسأله عن وجع السن وعما يفعل؟ فقال: رأيت خبرًا عنك يا رسول الله! كذا، وفعلت كذا، فلم يسكن وجعي، فقال عليه الصلاة والسلام: لأنك قرأتها بلا تسمية [فاقرأ بها] (¬2) بالتسمية فقرأها، بها فزال وجع سنه، ولم يعد (¬3). قال هذا الخطيب: فاعتقدت مذهب الشافعي في هذه المسألة فلا أصلي إلَّا بها. وروى بعض العلماء عن بعض العارفين وقد قيل له: بماذا ترى ظهر اسم الإِمام الشافعي وغلب ذكره، فقال: أرى ذلك بإظهار اسم الله في البسملة لكل صلاة. عاشرها: قولها: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه" هو بضم الياء، وماضيه أشخص، أي لم يرفع رأسه. ومادة الإِشخاص تدل على الارتفاع، ومنه أشخص بصره إذا رفعه إلى العلو: ومنه الشخص لارتفاعه للأبصار. ومنه شخص المسافر إذا خرج [من] (¬4) منزله إلى غيره، والأصل شخص الرجل غير متعد، فلما دخلت عليه همزة النقل تعدى إلى مفعول واحد، ويقال للرجل إذا ورد عليه أمرٌ أقلقه: ¬

_ (¬1) في ن ب د (فلا يتجع). (¬2) في ن ب د (فانتبها فقرأها بها). (¬3) هذا الخبر يحتاج إلى تمحيص ونظر فبعد المراجعة لم أجد هذا الخبر الذي نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الكتب المؤلفة في الصحيحة ولا الضعيفة. فليتأمل. (¬4) في ن ب د ساقطة.

شخص، كأنه ارتفع عن الأرض لقلقه. الحادي عبر: قولها: "ولم يُصَوِّبه" هو بضم الياء وفتح الصاد وكسر الواو المشددة، أي لم ينكسه، ومنه الصيب للمطر، يقال صاب يصوب إذا نزل، ومن أطلق الصيب على الغيم، فهو من المجاز [لأنه] (¬1) سبب الصيب الذي هو المطر. الثاني عشر: قولها: "ولكن بين ذلك" أي بين الارتفاع والتنكيس. فإن قلت: الأصل في "بين" أن تضاف إلى شيئين فصاعدًا كقولك: المال بين زيد وعمرو، وبين الزيدين ونحو ذلك. فما بالها جاءت مضافة إلى مفرد وهو "ذلك"؟ فالجواب: أنه لما كانت الإِشارة بـ"ذلك" إلى ما تقدم من الأشخاص والتصويب المفهومين من فعليهما ساغ فيها ذلك. ومنه قوله -تعالى-: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (¬2) وهذا منها إشارة إلى المسنون في الركوع، وهو الاعتدال [باستواء] (¬3) الظهر والعنق. الثالث عشر: قولها: "وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا". فيه دليل على الرفع من الركوع والاعتدال فيه بأن يستوي قائمًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (لا). (¬2) سورة البقرة آية 68. (¬3) في ن ب (فاستواء).

وقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: يجب. وثانيها: يستحب. وثالثها: يجب فيما هو إلى الاعتدال أقرب، ويستحب ما زاد عليه، ولكن الرفع من الركوع من الأفعال التي ثبت استمرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها، ورواية ابن القاسم: أنه إذا أخل به وجبت الإِعادة، ولم تجب في رواية ابن زياد. [فإذا] (¬1) قيل برواية ابن القاسم: فهل يجب الاعتدال أم لا؟ فيه الأقوال السالفة. الأول: لابن القاسم. والثاني: لأشهب. والثالث: للقاضي عبد الوهاب. وحيث قالوا بالوجوب فتجب الطمأنينة عندهم وقيل: لا. ومن الفوائد الغريبة: أن منصورًا التميمي من قدماء الشافعية، أخذ عن الربيع ذكر في كتاب المسافر عن نص الشافعي أنه [] (¬2) يكفي الاعتدال في الرفع من الركوع وفي الجلوس بين السجدتين. وهذا غريب عن الشافعي. وفي (التتمة) وجه أن الاعتدال لا يجب في النافلة، وأجراه ¬

_ (¬1) في ن ب د (وإذا). (¬2) في الأصل زيادة (لا)، وما أثبت من ن ب د.

القفال فيما رأيته من (فتاويه) في الجلوس بين السجدتين. وبناه على أن صلاة التطوع هل تجوز بالإِيماء مع القدرة؟ وصحح الجواز، وأما غيره فصحح عدم الجواز. الرابع عشر: قولها: "وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعدًا" فيه دليل على الرفع من السجود والاستواء في الجلوس بين السجدتين، أما الرفع فلا بد منه لعدم تصور عدد السجدتين [بغيره] (¬1). بخلاف الركوع فإنه غير متعدد فلهذا أجرى الخلاف في وجوب الرفع منه. قال الشيخ تقي الدين: [وأجرى بعض الفضلاء من المتأخرين [الخلاف] (¬2) الذي في الرفع من الركوع في الرفع من السجدة الأولى، وقال: الرفع منها والاعتدال والطمأنينة: كالرفع من الركوع وهو سهو لعدم تصوره في الرفع من السجود لتعدده شرعًا بخلاف الركوع، فإنه غير متعدد، وهو متميز عن السجود بخلاف السجدة الثانية، فإنها غير متميزة عن الأولى، فافتقرت إلى التمييز بالرفع الفاصل بينهما] (¬3) وكأن الذي نسب إليه الشيخ ¬

_ (¬1) في ن ب (لغيرهِ). (¬2) في الأصل مكرر. (¬3) العبارة في إحكام الأحكام (2/ 286)، وسَهَا بعض الفضلاء من المتأخرين. فذكر ما ظاهره الخلاف في الرفع من الركوع والاعتدال فيه. فلما ذكر السجود قال: الرفع من السجود والاعتدال فيه والطمأنينة كالركوع. فاقتضى ظاهر كلامه أن الخلاف في الرفع من الركوع جاز في الرفع من السجود. وهذا سهو عظيم، وليس كذلك بالضرورة، لأنه =

[هذا] (¬1) السهو هو ابن الحاجب، فإنه قال: والرفع منه والاعتدال فيه: كالركوع، وبعض المالكية شرع يؤوله ويقول: لا سهو فيه، وليس بظاهر، ومحل الكلام في أقل السجود وأكمله كتب الفقه، وقد بسطناه فيها، فلا نطول بإيرادها منه. ونص صاحب (الجواهر) من المالكية: على أنه يستحب كشف الكعبين، واستحب متأخروا المالكية أن يسجد بين كفيه ولم يحد مالك في ذلك حدًّا. ثم إذا سجد الثانية قام مكبرًا كسائر تكبيرات الانتقالات. ومذهب مالك أنه يستثنى [من] (¬2) ذلك تكبيرة القيام من الجلوس، فإنه لا يكبر حتى يستقل قائمًا، وفرقوا بأن الشروع في تكبير الانتقال إنما هو في الأركان، فلم ينتقل من ركن إلى ركن فيكبر فيه. قال القاضي عياض: وهو مذهب عمر بن عبد العزيز. قال: وعامة الفقهاء على خلافه. قال مالك: وإن كبرها في نهوضه فهو في سعة. الخامس عشر: قولها: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" تريد التشهد كله، وهو من باب إطلاق لفظ البعض على الكل، وهذا الموضع مما فارق فيه الاسم المسمى فإن التحية: الملك ¬

_ = لا يتصور خلاف في الرفع من السجود، إذ السجود متعدد شرعًا، ولا يتصور تعدده إلَّا بالرفع الفاصل بين السجدتين. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. ذكره عن القاضي في إكمال إكمال المعلم (2/ 146).

[أو] (¬1) البقاء أو غيرهما (¬2) وذلك لا يتصور قوله بل يقال: اسمه الدال عليه بخلاف قولنا: أكلت الخبز وشربت الماء. فإن الاسم فيه أريد به المسمى. وأما لفظة الاسم: فقد قيل فيها: إن الاسم هو المسمى، وفيه نظر دقيق، كما قال الشيخ تقي الدين (¬3): وهذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى الله -تعالى- فلا يقال الاسم غير المسمى، ولا هو [هو] (¬4)، بل يجب إطلاقه كما أطلقه الله -تعالى- من غير خوض ¬

_ (¬1) في ن ب (و). (¬2) قال ابن القاسم في حاشية الروض (2/ 66): ملكًا واختصاصًا أو كل ما يحيى به من الثناء والمدح بالملك والعظمة لله تعالى. وهو سبحانه يحيّى ولا يسلم عليه، وفي الصحيحين: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله، من عباده. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام" لأن السلام دعاء بالسلامة، والله سبحانه هو المدعو وهو السالم من كل نقص وعيب، وله الملك المطلق وكانوا إذا نال أحدٌ الملك قيل: نال فلان التحية، أي نال الملك الذي يستدعي له التحية. فهو سبحانه المستحق أن يحيّى بأعلى التحيات لتمام ملكه، ولا يسلم عليه لكماله وغناه المطلق. فائدة: الحكمة من جمع التحيات لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة. أبيت اللعن، وأنعم صباحًا، إلخ. فقيل للمسلمين: قولوا: التحيات لله ... إلخ، فهو أولى بالتحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاه والدوام، ولا يستحق هذه التحيات إلَّا الحي الباقي الذي لا يموت ... الخ. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (2/ 287) وفيه تعليق نفيس للصنعاني. (¬4) في ن ب ساقطة.

فيه (¬1). وقد أفرد هذه المسألة (¬2) بالتصنيف البطليموسي -رحمه الله-. ولم تعين - رضي الله عنها -، ما كان يتشهد به في هذا الحديث. وقد ورد في ذلك أحاديث عدة جمعتهم في تخريجي لأحاديث الرافعي. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (10/ 186): (والمقصود هنا) أن المعروف عن أئمة السنة إنكارهم على من قال: أسماء الله مخلوقة، وكأن الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم. فلهذا يروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما، أنه قال: إذا سمعت الرجل، يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة، ولم يعرف أيضًا عن أحد من السلف أنه قال: الاسم هو المسمى، بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة، وأنكره أكثر أهل السنة عليهم. ثم منهم من أمسك عن القول في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا، إذ كان كل من الإِطلاقين بدعة كما ذكره الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره. وكما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه "صريح السنة" ذكر مذهب أهل السنة المشهور في القرآن والرؤية والإِيمان والقدر والصحابة وغير ذلك، إلى أن قال: إن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التي لا نعرف فيها قولًا لأحد من الأئمة، وأن حسب الإِنسان أن ينتهي إلى قوله -تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وهذا هو القول بأن الاسم للمسمى. وهذا الإِطلاق اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره ... إلخ كلامه. وقد سبق هذا المبحث في الجزء الأول وكراهة السلف الخوض فيه، وقد تكلم على هذه المسألة الصنعاني في حاشيته على إحكام الأحكام (2/ 287). (¬2) باسم "الاسم والمسمى"، وقد طبع هذا الكتاب في مجلة اللغة العربية بدمشق في الجزء الثاني مجلد (47)، عام 1392 هـ.

واختار الشافعي منها: حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم (¬1). واختار أبو حنيفة وأحمد: تشهد ابن مسعود (¬2). واختار مالك: تشهد عمر (¬3). وسيأتي الكلام على ذلك إن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (403) في الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، وأبو داود (974)، والنسائي (2/ 242) في التطبيق باب نوع آخر من التشهد، والبيهقي (2/ 140)، والبغوي في شرح السنة (679)، والشافعي في المسند (1/ 89، 90)، وأحمد (1/ 292)، وابن ماجه (900)، وأبو داود (974)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 263)، والطبراني (10996)، وابن خزيمة (705)، وأبو عوانة (3/ 227)، وابن حبان (1952، 1953، 1954). (¬2) البخاري (831، 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381)، ومسلم (402)، وأحمد (1/ 382، 413، 414، 437، 440، 459)، وأبو عوانة (2/ 229، 230)، وابن ماجه (889، 444)، وأبو داود (968)، والنسائي (3/ 41)، والدارمي (1/ 308)، والبيهقي (2/ 138)، وابن أبي شيبة (1/ 291، 292)، وابن خزيمة (704)، والطبراني في الكيير (9902، 9903، 9885، 9886، 9892، 9904، 9891، 9894)، والطيالسي (249)، وشرح معاني الآثار (1/ 262)، وابن حبان (1948، 1950، 1951، 1955، 1956، 1961، 1962، 1963). (¬3) مالك في الموطأ (1/ 90)، والشافعي في الرسالة (268)، والحاكم في المستدرك (1/ 266) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن (2/ 143)، وفي المعرفة (3/ 58)، وأشار إليه البغوي في السنة (3/ 184)، وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 422): وهذا إسناد صحيح. اهـ.

شاء الله [تعالى] (¬1) في بابه. السادس عشر: قولها: "وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى". يفرش بضم الراء أشهر من كسرها. واستدل أصحاب أبي حنيفة: بهذا الحديث على اختيار هذه الهيئة في الجلوس من الرجل وهو مذهب سفيان. ومالك: اختار التورك. وأحمد: يتورك في آخر الرباعي. والشافعي: فصل بين الأول والأخير، فيفترش في [الأول] (¬2)، كما يجلس بين السجدتين وجلسة الاستراحة، ويتورك في الأخير. واحتج بحديث أبي حميد الساعدي في صحيح البخاري (¬3): أنه لما وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. انظر ص (439). (¬2) في ن ب زيادة (ويتورك). (¬3) البخاري (828)، انظر: ت (2) ص (301). قال الحافظ في الفتح (2/ 309): وفي هذا الحديث حجة للشافعي، ومن قال في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول: مغايرة لهيئة الجلوس في التشهد الأخير، وخالف في ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: يُسوَّى بينهما. لكن قال المالكية: يتورك فيهما، كما جاء في التشهد الأخير وعكسه الآخرون. واستدل به الشافعي أيضًا على أن تشهد الصبح: كالتشهد الأخير من غيره لعموم قوله: "وفي الركعة الأخيرة" واختلف فيه قول أحمد، والمشهور عنه اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان.

رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته، وحمل حديث عائشة هذا على غير الأخير، جمعا بينه وبين حديث أبي حميد، ورجح من حيث المعنى بأمرين: أحدهما: أن المخالفة في هيئة الجلوس قد يكون سببًا للتذكر عند الشك في كونه الأول أو الأخير. والثاني: أن الافتراش هيئة استيفاز [فناسب] (¬1) الجلسات الأول. والتورك هيئة اطمئنان فناسب الأخير. كيف وهو مطابق للنقل في حديث أبي حميد السالف فكان أولى. ومذهب الشافعي: جلوس المرأة كجلوس الرجل. وذهب بعض السلف إلى أن سنة المرأة التربع في الجلسات سواء فيه الفريضة والنافلة، وخصه بعضهم بالنافلة، حكاه عنهما القاضي. ومذهب الجمهور: أنه لا فرق. وقد وردت هيئة التورك في بعض الأحاديث، لكن ليست لها قوة في الصحة: كأحاديث الافتراش والتورك (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب (فيناسب). (¬2) قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 243): وأما حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - الذي رواه مسلم في صحيحه رقم (579) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى، فهذا في التشهد الأخير، كما يأتي، وهو أحد الصفتين اللتين رويتا عنه، ثم ساق حديث أبي حميد هذا، إلى أن قال: ومعنى حديث =

واختلف قول الشافعي - رضي الله عنه - في الأفضل في جلوس العاجز عن القيام في الفريضة وجلوس المتنفل الذي له أجر نصف القاعد على أقوال، ذكرتها في "شرح المنهاج" وغيره أصحها: الافتراش، لأنه غالب جلسات الصلاة الأربع. السابع عشر: قولها: "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" هو بضم العين وإسكان القاف. ويروى "عقب" -بفتح العين وكسر القاف- وحُكي ضم العين فيه وهو ضعيف. وفسره أبو عبيدة وغيره بالإِقعاء المنهي عنه. وهو أن يلصق إليته بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض [كذا] (¬1) حكاه النووي في [(شرحه لمسلم)] (¬2) عن ¬

_ = ابن الزبير - رضي الله عنه - أنه فرش قدمه اليمنى: أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته، فتكون قدمه اليمنى مفروشة وقدمه اليسرى بين فخذه وساقه، ومقعدته على الأرض، فوقع الاختلاف في قدمه اليمن في هذا الجلوس: هل كانت مفروشة أو منصوبة؟ هذا والله أعلم ليس اختلافًا في الحقيقة، فأنه كان لا يجلس على قدمه، بل يخرجها عن يمينه، فتكون بين المنصوبة والمفروشة، فإنها تكون على باطنها الأيمن، فهي مفروشة بمعنى أنه ليس ناصبًا لها، جالسًا على عقبه، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالسًا على باطنها، وظهرها إلى الأرض، فصح قول أبي حميد ومن معه وقول عبد الله بن الزبير أو يقال: إنه كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا وهذا، فكان ينصب قدمه، وربما فرشها أحيانًا، وهذا أروح لها، والله أعلم. وللنووي -رحمه الله- تأويل مثل هذا في شرح مسلم (5/ 80). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب د (شرح مسلم). انظر: (4/ 214).

أبي عبيدة وغيره، وحكاه في (شرح المهذب) (¬1) عن أبي عبيد أنه حكاه عن شيخه أبي عبيدة. وقال الشيخ تقي الدين: فسر بأن يفرش قدميه ويجلس بإليته على [عقبيه] (¬2) وقد سمى ذلك بالإِقعاء أيضًا. قلت: فأما الإِقعاء الذي هو سنة الثابت في صحيح مسلم (¬3) ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (3/ 438). (¬2) في ن ب (عقبه)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام (2/ 292). (¬3) مسلم، باب: جواز الإِقعاء على العقبين النووي (5/ 18)، وأبو داود (845)، والترمذي (2/ 73)، والحاكم (1/ 272)، والبيهقي (2/ 119)، وأحمد (1/ 313)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الألباني في الإِرواء (2/ 22): وبالجملة فالإِقعاء بين السجدتين سنة كالافتراش فينبغي الإِتيان بهما تارة بهذه، وتارة بهذه، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، وأما أحاديث النهي عن الإِقعاء فلا يجوز التمسك بها لمعارض هذه السنة لأمور: الأول: أنها كلها ضعيفة. الثاني: أنها إن صحت أو صح ما اجتمعت عليه فإنها تنص على النهى عن إقعاء الكلب. وهو شيء آخر غير الإِقعاء المسنون، كما بيناه في "تخريج صفة الصلاة". الثالث: أنها تحمل على الإِقعاء في المكان الذي لم يشرع فيه هذا الإِقعاء المسنون كالتشهد الأول والثاني، وهذا مما يفعله بعض الجهال، فهذا منهي عنه قطعًا لأنه خلاف سنة الافتراش في الأول والتورك في الثاني على ما فصله حديث أبي حميد، والله أعلم. قال ابن حجر في التلخيص (1/ 257): عن طاوس قال: رأيت العبادلة يقعون. أسانيدها صحيحة، وأيضًا صححها الألباني في الإِرواء (2/ 22) وهم: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير. اهـ. وانظر: كلام أحمد شاكر في سنن الترمذي (2/ 74) فقد استوفى الموضوع.

من حديث ابن عباس فهو: أن ينصب أصابع قدميه ويجلس بوركيه على عقبيه، فليس من هذين التفسيرين في شيء. وقال صاحب (التبصرة) [و] (¬1) لا يجوز أن يقعي في الجلوس بين السجدتين إقعاء الكلب. قال: وهو أن يجلس على قدميه وهما منصوبتان. وقال البيهقي في سننه (¬2): يحتمل أن يكون حديث عائشة هذا واردًا في الجلوس في التشهد الأخير فلا منافاة. وقال القاضي [عياض] (¬3): ذهب جماعة من السلف إلى أن المنهي عنه من الإِقعاء هو الرجوع على صدور القدمين فيما بين السجدتين وتمس أليته بعقبيه. قلت: وهو ما صدره المحب الطبري في (أحكامه). ثم قال: وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولتين في الوضوء، ولم يذكر غير ذلك في تفسيره. الثامن عشر: قولها: "وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع" هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، والسنة أن يرفعهما، ويكون الموضوع على الأرض كفيه، وإنما نهى عن ذلك لأنها صفة الكاسل والمتهاون بحاله، مع ما فيه من [التشبه] (¬4) ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) السنن الكبرى (2/ 120). (¬3) في ن ب ساقطة. ذكره في "شرح مسلم" (4/ 214). (¬4) في ن ب (التشبيه).

بالسباع والكلاب، كما نهى عن التشبه [بهما] (¬1) في الأفعال. التاسع عشر: قولها: "وكان يختم الصلاة بالتسليم" معناه: يتحلل منها بالتسليم، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث السالف: "وتحليلها التسليم". ولا شك أن تحريمها التكبير، أو ما في معناه من التعظيم على قول أبي حنيفة، فكذلك تحليلها فتقتضي الوجوب فيه مع قوله - عليه الصلاة والسلام -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وبوجوبه، قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور سلفًا وخلفًا، وأن الصلاة لا تصح إلَّا به. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: هو سنة ولو تركه صحت صلاته. قال أبو حنيفة: لو فعل [فعلًا] (¬2) منافيًا للصلاة من [حدث] (¬3)، أو غيره في آخرها صحت صلاته. واحتج: بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يعلمه [للأعرابي] (¬4) حين علمه واجبات الصلاة، واحتج الجمهور بفعله وما ذكرناه (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب (بها). (¬2) زيادة يقتضيها المعنى. (¬3) في ن ب (حديث). (¬4) في ن ب (الأعرابي). (¬5) قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 51): الحكم الثالث: قوله "وتحليلها التسليم"، والكلام في إفادته الحصر كالكلام في الجملتين قبله والكلام في التسليم على قسمين: أحدهما: أنه لا ينصرف من الصلاة إلَّا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالتسليم، وهذا قول جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: لا يتعين التسليم بل يخرج منها بالمنافي لها. من حدث أو عمل بطل ونحوه. واستدل له بحديث ابن مسعود الذي رواه أحمد وأبو داود في تعليمه التشهد، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه المسيء في صلاته، ولو كان فرضًا لعلمه إياه، وبأنه ليس من الصلاة، فإنه ينافيها، ويخرج به منها، ولهذا لو أتى به في أثنائها لأبطلها، وإذا لم يكن منها، علم أنه شرع منافيًا، والمنافي لا يتعين، وهذا غاية ما يحتج له به. والجمهور أجابوا عن هذه الحجج. أما حديث ابن مسعود: فقال الدارقطني والخطيب والبيهقي وأكثر الحفاظ: الصحيح أن قوله: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود. فصله شبابه عن زهير: وجعله من كلام ابن مسعود. وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه. وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود - رضي الله عنه - على حذفه. وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه المسيء في صلاته، فما أكثر ما يحتج بهذه الحجة على عدم واجبات في الصلاة ولا تدل. لأن المسيء لم يسيء في كل جزء من الصلاة. فلعله لم يسيء في السلام، بل هذا هو الظاهر. فإنهم يكونوا يعرفون الخروج منها إلَّا بالسلام. وأيضًا فلو قدر أنه أساء فيه لكان غاية ما يدل عليه ترك التعليم استصحاب براءة الذمة من الوجوب، فكيف يقدم على الأدلة الناقلة لحكم الاستصحاب؟ وأيضًا، فأنتم لم توجبوا في الصلاة كل ما أمر به المسيء، فكيف تحتجون بترك أمره على عدم الوجوب؟ ودلالة الأمر على الوجوب أقوى من دلالة تركه على نفي الوجوب؟ فإنه قال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" ولم توجبوا التكبير. وقال: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا"، وقلتم: لو ترك الطمأنينة لم تبطل صلاته وإن كان مسيئًا، وأما قولكم: إنه ليس من =

قال القاضي: وعندنا مثل قول أبي حنيفة عن ابن القاسم غير أنها قولةٌ منكرةٌ غير جارية على أصولنا. واحتج له: بأنه - عليه الصلاة والسلام - علم ابن مسعود (¬1) التشهد. وقال: "إذا قضيت هذا فقد تمت صلاتك، فإن شئت فقم، وإن شئت فاقعد". والجواب: أن هذا مدرج في الحديث كما [نبه] (¬2) الحفاظ. قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الدين ينشدنا في الدرس. ويرى الخروج من الصلاة بظرطة ... أين الضراط من السلام عليكم ¬

_ = الصلاة، فإنه ينافيها ويخرج منها به. فجوابه: أن السلام من تمامها، وهو نهايتها ونهاية الشيء منه ليس خارجًا عن حقيقته، ولهذا أضيف إليها إضافة الجزء بخلاف مفتاحها، فإن إضافته أضافة مغاير بخلاف تحليلها، فإنه يقضي أنه لا يتحلل منها إلَّا به. وأما بطلان الصلاة إذا فعله في أثنائها فلأنه قطع لها قبل إتمامها، وإتيان بنهايتها قبل فراغها، فلذلك أبطلها، فالتسليم آخرها وخاتمها، كما في حديث أبي حميد: "ويختم صلاته بالتسليم" فنسبة التسليم إلى آخرها كنسبة تكبيرة الإِحرام إلى أولها، نقول: "الله أكبر" أول أجزائها، وقول: "السلام عليكم" آخر أجزائها، ثم لو سلم أنه ليس جزءًا منها، فإنه تحليل لها لا يخرج منها إلَّا به، وذلك لا ينفي وجوبه، كتحللات الحج، فكونه تحليلًا لا يمنع الإِيجاب، فإن قيل: ولا يقتضي. قيل: إذا ثبت انحصار التحليل في السلام تعين الإِتيان به، وقد تقدم وإن الحصر من وجهين. (¬1) انظر: ت (2) ص (27). (¬2) في الأصل (ينبه)، وما أثبت من ن ب.

ومحل الخلاف في أقل السلام وأكمله، بسطناه في الفقه، فراجعه منه. وانفرد مالك من بين الأربعة فقال: المشروع تسليمة واحدة (¬1). وهو قول ضعيف ....................... ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (1/ 258): فصل: ثم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك. هذا كان فعله الراتب رواه عنه خمسة عشر صحابيًا. وهم: عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسهل بن سعد الساعدي، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رمثة، وعدي بن عميرة - رضي الله عنهم -. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح. وأجود ما فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان يسلم تسليمة واحدة السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا، وهو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل، والذين رَوَؤا عنه التسليمتين رَوَوْا ما شاهدوه في الفرض والنقل، على أن حديث عائشة ليس صريحًا في الاقتصار على التسليمة الواحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة، يوقظهم بها، ولم تنف الأخرى، بل سكتت عنها، وليس سكوتُها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عددًا وأحاديثهم أصح، وكثير من أحاديثهم صحيح، والباقي حسان. قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُسلم تسليمة واحدة من حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس، إلَّا أنها معلولة، ولا يصححها أهل العلم بالحديث. ثم ذكر علة حديث سعد: أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة. وهذا وهم غلط، وإنما الحديث: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره. ثم ساق الحديث من طريق ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسلم عن يمنيه وعن شماله حتى كأني انظر إلى صفحة خده. فقال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له إسماعيل بن محمد: أكل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سمعته؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: لا. قال: فأجعل هذا من النصف الذي لم تسمع. قال: وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة واحدة، فلم يرفعه أحدٌ، إلَّا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره، وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتج به. وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث. فقال: حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما قال: وأما حديث أنس فلم يأت إلَّا من طريق أيوب السختياني عن أنس، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئًا. قال: وقد روي مرسلًا عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانوا يسلمون تسليمة واحدة، وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة، قالوا: وهو عمل قد توارثوه كابرًا عن كابر. ومثله يصح الاحتجاج به، لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارًا. وهذه طريقة قد خالفهم فيها سائر الفقهاء، والصواب معهم، والسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تدفع ولا ترد بعمل أهل بلد كائنًا من كان. وقد أحدث الأمراء بالمدينة وغيرها في الصلاة أمورًا استمر عليها العمل، ولم يلتفت إلى استمراره، وعمل أهل المدينة الذي يحتج به ما كان في زمن الخلفاء الراشدين، وأما عملهم بعد موتهم وبعد انقراض عصر مَن بها من الصحابة فلا فوق بينهم وبين =

[عندنا] (¬1). وشذ بعض الظاهرية والمالكية: فأوجب الثانية، وهو رواية عن أحمد، وهو مخالف لإِجماع من قبله. [ولا يسلم المأموم عند المالكية: حتى يفرغ الإِمام منها، ويضيف إليها المأموم اثنتين على المشهور عندهم: أولاهما يرد بها على إمامه، والثانية عن يساره إن كان عن يساره أحد. وقيل: يبدأ منها باليسار. وقيل: يتخير ولو كان مسبوقًا، ففي رده على الإِمام ومن على يساره روايتان عندهم] (¬2). العشرون: في الحديث نقل أقواله وأفعاله وأحواله إلى الأمة كما فعلته عائشة - رضي الله عنها -. [الحادي والعشرون] (¬3): فيه افتتاح الصلاة بالتكبير ووجوبه وتعيينه وقد سلف واضحًا. الثاني والعشرون: فيه وجوب القراءة في الصلاة وأنه بالفاتحة. وفي الصحيحين (¬4) من حديث عبادة: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة ¬

_ = عمل غيرهم. والسنة تحكم بين الناس، لا عمل أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وبالله التوفيق. اهـ. انظر أيضًا: شرح مسلم (4/ 215، 216). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب (الثاني والعشرون) ... إلخ الأوجه، فيه تقديم على الأصل. (¬4) البخاري (756)، ومسلم (394)، والدارمي (1/ 283)، وأبو عوانة =

الكتاب"، وفي رواية للدارقطني، وقال: إسنادها صحيح: "لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب" (¬1). الثالث والعشرون: فيه تسمية السورة [ببعضها] (¬2) وكل سور القرآن في التسمية: كالفاتحة، ثم التسمية بالبعض قد يكون لعظم لفظه [ومعناه] (¬3). وقد يكون لشهرة قصّته. وقد يكون لعظم [المثوبة] (¬4). وقد يكون لتفخيم ذكر [المنعوت] (¬5) في السورة. وقد يكون لغير ذلك على ما اقتضته التسمية. الرابع والعشرون: فيه تسوية الظهر في الركوع بحيث يستوي [رأسه] (¬6) ومؤخره وقد مر، وفي الطبراني من حديث أبي برزة الأسلمي (¬7) ¬

_ = (2/ 125)، والبيهقي في السنن (2/ 164)، والحميدي (386)، وابن ماجه (837)، والنسائي (2/ 137)، والدارقطني (1/ 321)، والبغوي (576)، وابن خزيمة (488)، وأحمد (5/ 321)، وابن حبان (1786، 1793، 1785، 1792، 1848). (¬1) الدارقطني (1/ 322)، وصححه ابن خزيمة (490) ومعاني الآثار (1/ 216)، ومشكل الآثار للطحاوي (2/ 23)، وأحمد (2/ 457، 478)، وأبو عوانة (2/ 127)، وابن حبان (1789، 1794): إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (وغناه). (¬4) في ن ب (المنبه). (¬5) في ن ب (المبعوث). (¬6) في ن ب (ظهره). (¬7) حديث استواء الظهر: أخرجه أحمد في المسند من رواية علي بن أبي طالب (2/ 215)، قال أحمد شاكر: إسناده ضعيف لجهالة الشيخ =

قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ركع لو صب على ظهره ماء لاستقر". الخامس والعشرون: فيه وجوب الاعتدال إذا رفع رأسه من الركوع بحيث يستوي قائمًا. السادس والعشرون: فيه وجوب الجلوس بين السجدتين. السابع والعشرون: فيه وجوب التشهد الأول والأخير وهو مذهب أحمد وأصحاب الحديث. وقال الشافعي: الأول سنَّة، والثاني فرض. وقال مالك، وأبو حنيفة والأكثرون: هما سنتان، لكن أوجب أبو حنيفة الجلوس [بقدره] (¬1). والأشهر عن مالك أنه يجب الجلوس ¬

_ = الذي روى عنه أحمد. وفي المعجم الصغير (1/ 21) من رواية أنس، وفي سنن ابن ماجه من رواية وابصة بن معبد (872)، ورواية أبو برزة الأسلمي في المعجم الكبير، ورواية ابن عباس في المعجم الكبير (12755، 12781)، ومسند أبي يعلى (4/ 335). قال الهيثمي (2/ 126): رجاله موثقون. وفي المعجم الكبير من رواية عقبة بن عامر. قال المناوي: حديث عقبة من طريق الطبراني جيد. قال الهيثمي: رجاله موثقون. ورواه أبو يعلى بسنده كذلك، وجميع هذه الروايات ذكرها صاحب المجمع (2/ 126). وانظر: تمام تخريجه في تلخيص الحبير (1/ 24)، حيث حسن بعض الروايات وذكر الألباني هذه الصفة في الصلاة (130)، وفي بعضها: "إذا سجد"، بدل: "ركع". (¬1) في الأصل (بقدر)، والتصحيح من ن ب.

[بعد] (¬1) السلام فقط. دليل أحمد هذا الحديث مع حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويقول ابن مسعود: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" وبقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا صلى أحدكم فليقل التحيات" والأمر للوجوب، لكنه قال في التشهد الأول: إن تركه محمدًا بطلت صلاته، وإن تركه سهوًا أجزأته صلاته، ويسجد للسهو لأنه - عليه الصلاة والسلام - تركه وجبره به، ونقيسه على واجب الحج في أنه إذا تركه جبر بدم. لكن الفرق بينهما أن الأصل في الواجب أنه يتعين الإِتيان به، ولا يجوز تركه ولا جبره، جُوِّز في الحج لمشقة العبادة، ولمواساة الفقراء من أهل الحرم، ولدخول النيابة فيه للتخفيف، بخلاف الصلاة فإنها عبادة بدنية لا مشقة فيها، ولا تدخلها النيابة، ولا تكفر بالمال، بل لا بد من الإِتيان بها على كل حال ما دام العقل ثابتًا، حتى في مقابلة العدو وغيره. واحتج من أوجب الثاني: بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن غيره تركه عمدًا ولا سهوًا، فاقتضى وجوبه: كالركوع والسجود، بخلاف التشهد الأول مع أن التشهد لم يجر له ذكر فيما أعلم [في] (¬2) حديث المسيء صلاته. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (من)، والتصحيح من ن ب د.

فيجاب عنه: بأنه كان معلومًا عنده، ولهذا لم يذكر له النية وقد [أجمعنا] (¬1) على وجوبه، ولم يذكر القعود للتشهد، وقد وافق أبو حنيفة على وجوبه، ولم يذكر السلام. وقد وافق مالك والجمهور على وجوبه. واعلم أن المحب الطبري نقل في (أحكامه): عن الإِمام أحمد أنه [إن] (¬2) لم يتشهد ومسلم أجزأه، كذا أطلق النقل عنه، وقد عرفت تفصيل مذهبه فيه. الثامن والعشرون: فيه شرعية الافتراش في جلسات الصلاة، وقد تقدم مستوفى، وكيف قعد جاز، وإنما الخلاف في الأفضل. التاسع والعشرون: فيه شرعية مخالفة الشيطان في الجلوس في الصلاة وغيرها، ولا شك أن كل حالة من قول أو فعل أو حركة أو سكون أو خطرة أو نظرة أو فكرة مخالفة للشرع، فهي شيطانية لكن بعضها دخل في المجاوزة التي امتن الله بها، وبعضها لم يدخل. الثلاثون: فيه مخالفة الحيوان كالكلب وغيره في حالة افتراش ذراعيه وغيرها خصوصًا في الصلاة، ولا شك أن الله -تعالى- جبل الحيوانات على أحوال محمودة ومذمومه [فتبين بالشرع] (¬3) محمودًا منها ومذمومًا للاكتساب وللاجتناب، وقد صنف بعض العلماء كتابًا ¬

_ (¬1) في ن ب (أجمعا). (¬2) زيادة يقتضيها سياق الكلام. (¬3) في ن ب (فبين الشرع).

في (تفضيل الكلاب على كثير [ممن] (¬1) لبس الثياب)، [ولنا به] (¬2) سماع متصل. وكل ذلك كرمًا منه سبحانه لتفضيل النوع الإِنساني ليقتدي أو يرتدي. الحادي والثلاثون: فيه شرعية السلام آخر الصلاة وقد تقدم واضحًا. الثاني والثلاثون: فيه دليل على أن السلام ركن من أركان الصلاة لقولها: "وكان يختم الصلاة بالتسليم" وليس ذلك [بقوي] (¬3) الظهور، كما قاله الشيخ تقي الدين. وادعى الرافعي الاتفاق على ركنيته، وليس كما ادعى، فقد حكى القاضي مجلى: أنه شرط. الثالث والثلاثون: فيه حجة لمن نكّر السلام، وهو ما صححه الرافعي، وخالف النووي (¬4)، فصحح المنع، وعلله بأنه لم ينقل لكنه صحيح إجزاء: "عليكم السلام" ولم ينقل فيما أعلم. فرع: لم أره منقولًا لو قال "سلم عليكم" -بكسر السين ¬

_ (¬1) في ن ب (فمن)، والكتاب قد تم طبعه تأليف محمد بن خلف ابن المرزبان. (¬2) في ن ب (وكتابه). (¬3) في الأصل (القوي)، وصححت لاستقامة المعنى. وفي إحكام الأحكام (2/ 393) بالشديد. (¬4) انظر: المجموع شرح المهذب (3/ 476).

وإسكان اللام- فظاهر كلامهم المنع، لكنها لغة في [السلام] (¬1)، حكاها الخطابي (¬2). الرابع والثلاثون: فيه استحباب مجافاة المرفقين عن الجنبين في السجود، لأنه إذا نهى عن افتراش ذراعيه لزم منه رفعهما، فلزم منه مجافاتهما، كما استنبطه بعضهم، ووجه تلازمهما غير ظاهر. ¬

_ (¬1) في ن ب (السلم). (¬2) في كتابه "شأن الدعاء" (43).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 86/ 3/ 15 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. وكان لا يفعل ذلك في السجود (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: اختلف في سبب مشروعية رفع اليدين، فقيل: إن كفار قريش وغيرهم كانوا يظهرون الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) البخاري (735، 736، 738، 739)، ومسلم (390)، ومالك في الموطأ (1/ 75)، وأبو داود (721)، والترمذي (255)، والنسائي (2/ 121)، وابن ماجه (858)، وأحمد في المسند (2/ 8، 18، 100، 132، 134، 147)، والدارمي (1/ 285)، والشافعي (1/ 71)، وشرح معاني الآثار (1/ 223)، والبيهقي في السنن (2/ 66، 69، 70، 83)، والبغوي في السنة: (559، 560، 561)، وعبد الرزاق (2518، 2520)، وابن أبي شيبة (1/ 234، 235)، وابن حبان (1861، 1864، 1868، 1877)، وابن الجارود (178)، وابن خزيمة (456)، والدارقطني 1/ 288، 289)، والطبراني في الكبير (13111، 13112).

وأصنامهم تحت آباطهم، فأمر - صلى الله عليه وسلم - برفعهما ليرفعوها معه فتسقط أصنامهم (¬1). وقيل: كانوا يرفعون أيديهم عند طلب العفو في محاصرة أعدائهم [لهم] (¬2) فجعل الله -تعالى- ذلك في الصلاة استسلامًا له وانقيادًا. وقيل: لرفعهم أيديهم في الغارات بالصياح والتكبير فجعل ذلك في الصلاة. [الثاني] (¬3): اختلفوا أيضًا في حكمته (¬4)، فقال الشافعي -رحمه الله-، فعلته إعظامًا لجلال الله واتباعًا لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجاء ثواب الله. ¬

_ (¬1) رد هذا الصنعاني في حاشية على إحكام الأحكام (2/ 304)، حيث قال: لا يخفى نكارة هذا القول، فإنه ما كان يصلي معه - صلى الله عليه وسلم - الكفار، ولا تتسع الأباط للأصنام. (¬2) في ن ب (له). (¬3) في ن ب (ثانيها). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 218): الحكمة في اقترافها أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى. فائدة: ذكرها ابن حجر في الفتح (2/ 218)، نقل ابن عبد البر عن ابن عمر، أنه قال رفع الدين من زينة الصلاة، وعن عقبة بن عامر، قال: "بكل رفع عشر حسنات، بكل أصبع حسنة". قال الشوكاني في نيل الأوطار (2/ 185): هذا له حكم الرفع، لأنه مما لا مجال في للاجتهاد. وانظر: تخريج الروايات في "جلاء العينين تخريج جزء رفع اليدين".

وقال الدرزماري: هو إشارة إلى رفع الحجاب بين العبد والرب -جلَّت عظمته-. وقيل: إنه تعبد لا يعقل معناه، وقيل هو إشارة إلى التوحيد. وقيل: الحكمة فيه عند الإِحرام أن يراه من لا يسمع التكبير، فيعلم دخوله في الصلاة فيقتدي به. قلت: وكذا في غيرها عند من استحبه كما سيأتي ليتبع. وقيل: هو استسلام وانقياد، وكان الأسير إذا [غلب] (¬1) مدّ يديه علامة لاستسلامه وهذا نحو ما سلف. وقيل: هو إشارة إلى طرح أمور الدنيا وراء ظهره والإِقبال بكليته على صلاته ومناجاته، كما تضمن ذلك قول: "الله أكبر" فيتطابق فعله وقوله. وقيل: القصد به إشعار النفس استعظام ما يدخل فيه، وكثيرًا ما يجري للناس مثل ذلك عند [مفاجاة] (¬2) أمر استعظمه، فيرفع يديه: كالفزع منه والمستهول له. [الثالث] (¬3): رفع اليدين مع التكبير للإِحرام مشروع بالإِجماع، للأحاديث الثابتة فيه لهذا الحديث وغيره. واختلف العلماء في الرفع فيما سواه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (مناجاة). (¬3) في ن ب (ثالثها).

فقال الشافعي وأحمد وجمهور الصحابة ممن بعدهم: يشرع رفعهما أيضًا عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك، وهذا الحديث دال على ذلك. واختلف أصحابنا في موضع رابع، وهو: إذا قام من التشهد الأول، وصححوا أنه لا يستحب. والصواب: استحبابه لصحة الحديث فيه من طريق ابن عمر في البخاري (¬1)، ومن طريق أبي حميد الساعدي (¬2) في سنن أبي داود والترمذي. وقال بعض أصحابنا: يستحب أيضًا في السجود، وهو قوي، فقد صح في النسائي من حديث أبي قلابة، وحكى النووي في "تحقيقه" وجهًا أنه يستحب الرفع من كل خفض ورفع، ويستدل له بأحاديث صحيحة،. قال ابن القطان: صح الرفع بين السجدتين وعند الرفع من ¬

_ (¬1) البخاري (839)، وفي جزء رفع اليدين: قال البخاري في الجزء المذكور: وكذلك يروى عن سبعة عشر نفسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع وعند الرفع منه، ثم ذكرهم أبو داود (710) في الصلاة، باب افتتاح الصلاة، وابن خزيمة في صحيحه (693)، وابن حبان (1868). (¬2) الترمذي (305)، وأبو داود (730، 963)، والدارمي (1/ 313، 314)، وابن ماجه (1061)، وابن خزيمة (588)، والطحاوي (1/ 223، 258)، وابن الجارود (192، 193)، والبيهقي في السنن (2/ 72، 118، 123، 129)، وابن حبان (1865، 1866، 1868).

السجود حتى النهوض إلى ابتداء الركعة من حديث ابن عباس (¬1) ومالك بن الحويرث (¬2) عند النسائي، وابن عمر (¬3) عند الطحاوي ¬

_ (¬1) النسائي (2/ 232)، وابن ماجه (1/ 282)، وقال في الزوائد (1/ 107): إسناده ضعيف، أبو داود في سننه (709) وابن حزم في المحلى، والدولابي في الأسماء والكنى (1/ 198). (¬2) النسائي (2/ 231، 205)، وأحمد (3/ 436، 437)، وانظر: كلام ابن حجر على هذه الرواية في الفتح (2/ 223)، وأيضًا قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 365) على حديث أبي هريرة ولفظه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك، وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك". قال ابن القيم -رحمه الله-: وهذا الحديث على شرط مسلم، رواه جماعة عن الزهري عن أبي بكر. اهـ. (¬3) ولفظه: "كان يرفع يديه في كل خفض ورفع وركوع وسجود وقيام وقعود وبين السجدتين". وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 234، 237)، وابن حزم في المحلى، وقال: هذا إسناد لا داخلة فيه. وقال ابن حجر في الفتح (2/ 223): هذه رواية شاذة. قد اختلف العلماء في رفع الأيدي للسجود وعند الرفع منه، والذين يثبتون رفع الأيدي أقرب إلى السنَّة من المانعين لأن الأحاديث في ذلك صحيحة وصريحة. انظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة (172)، كتاب صفة الصلاة (151)، والمحلى لابن حزم (4/ 85، 94)، وسنن الترمذي (2/ 43)، كلاهما تعليق أحمد شاكر، بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 89)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 106)، وطرح التثريب (2/ 239)، مع ما مر من تخريج الأحاديث الواردة في ذلك. انظر: قرة العينين في تخريج أحاديث رفع الدين، المسند (4/ 317)، وأبو داود (723)، ومشكل الآثار (1/ 222)، والمعتصر من =

وفي هذا رد لقول البغوي: -أظنه في، "شرح السنة" (¬1) - لم يقل أحد من أهل العلم نعلمه أنه يرفع إذا قام من السجدتين في وتر من [صلاته] (¬2). وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة: لا يستحب في غير تكبيرة الإِحرام- وهو مشهور الروايات عن مالك. قال صاحب (البيان والتقريب): المشهور من مذهب مالك إثبات الرفع في الجملة. قال ابن القاسم: ولم أرَ مالكًا يرفع يديه عند الإِحرام [وأحب إلى ترك] (¬3) الرفع عنده. قلت: ودليله أحاديث كلها معلولة، وقد ذكرتها بعللها موضحة فيما أخرجته من أحاديث الرافعي، فسارع إليه. وأما حديث: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل [شمس] (¬4) ¬

_ = المختصر (1/ 36). انظر: بدائع الفوائد (3/ 89)، ومن خلاصة البدر المنير (1/ 113) لهم. وانظر: رسالة في هذا الموضوع "فتح الودود في تحقيق رفع اليدين عند السجود" لعبد الحق الهاشمي -رحمنا الله وإياه- حيث ذكر جميع الروايات الواردة ونقل كلام أهل العلم على بعض الأحاديث. (¬1) بحثت عنه في شرح السنة فلم أجده. (¬2) في الأصل (صلاة وهي). (¬3) هكذا العبارة. انظر: إكمال إكمال المعلم (2/ 144). (¬4) في ن ب ساقطة.

اسكنوا في الصلاة" (¬1). فجوابه: أنَّ المراد بالرفع رفعهم أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صرح به في الرواية الأخرى. وأيضًا: فلم ينكر - عليه الصلاة والسلام - مطلق الرفع [و] (¬2) إنما المراد أنكر كثرة تحريك الأيدي واضطرابها وعدم استقرارها. ويفهم ذلك من تشبيهه (¬3) بأذناب الخيل الشمس، وهي التي لا تكاد تستقر، هكذا فسره ابن فارس في (مجمله) (¬4). والمشهور أنه لا يجب شيء من الرفع، وحكى الإِجماع عليه. وحُكي عن داود إيجابه في [تكبيرة الإِحرام، وبه قال ابن سيار من أصحابنا، وقال: إذا لم يرفع فيها تبطل صلاته، كما نقلته ¬

_ (¬1) جاء في بعض ألفاظه بعد قوله: "أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذه ثم يسلم عن يمينه وعن شماله"، فهذا اللفظ يبين موضع النهي عن التحريك. والحديث أخرجه مسلم (430) في الصلاة، باب: الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإِشارة باليد ورفعها عند السلام. أبو داود (661، 1000)، والطبراني في الكبير (1822، 1825، 1826، 1827، 1828، 1829)، وأحمد في المسند (5/ 101، 107)، والنسائي (3/ 4، 5)، والسنن للبيهقي (2/ 280)، وصححه ابن خزيمة (733)، والشافعي في المسند (1/ 92)، وابن حبان (1879، 1880، 1881). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب زيادة (به). (¬4) مجمل اللغة (1/ 511).

في] (¬1) "فتاوى" القفال عنه، وعلله بأنها واجبة بخلاف باقي التكبيرات لا يجب لها الرفع لأنها غير واجبة، واستغربه النووي في (طبقاته) (¬2)، فقال: نظرت فيما استقصى فيه العلماء خلاف العلماء، فلم أجد ذلك محكيًّا عن أحد أصلًا. وهذا عجيب منه، فقد حكاها هو في (تهذيب الأسماء) (¬3)، و (شرح مسلم) (¬4) عن داود الظاهري، وقال في (شرح المهذب) (¬5): إن صاحب (التتمة) نقله عن بعض العلماء. وحكاه القرطبي (¬6): في أول تفسير البقرة عن بعض المالكية، ونقل عن بعض أصحاب داود أنه أوجبه أيضًا عند الركوع وعند الرفع منه، وهو قول الحميدي ورواية عن الأوزاعي. وقال ابن خزيمة إمام الأئمة: من ترك الرفع في الصلاة فقد ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) انظر: طبقات الشافعية لابن الصلاح. تهذيب النووي (1/ 343). في هامش الطبقات منقولًا عن أحد النسخ "الطبقات". قلت: هو مذهب أهل الظاهر وجماعة من السلف، وعجيب قوله: لم يجد ذلك محكيًا عن أحد من العلماء، ولعله أراد تخصيصه بالوجوب بالرفع عند التحريم دون غيره من المواضع المشروع فيها الرفع، فإن أهل الظاهر وغيرهم قالوا بالوجوب فيها. ثم ساق ما ذكره في تهذيب الأسماء وساق ما ذكر عن ابن خزيمة. اهـ. (¬3) (1/ 113). (¬4) شرح مسلم (4/ 95). (¬5) المجموع شرح المهذب (3/ 304، 306). (¬6) انظر: تفسير القرطبي (1/ 171، 19/ 62، 20/ 221، 222).

ترك ركنًا من أركانها (¬1)، حكاه عنه الحاكم في (تاريخ نيسابور) في ترجمة محمد بن علي العلوي. وقال ابن حزم (¬2): رفع اليدين في أول الصلاة فرض لا تصح الصلاة إلَّا به، وقد روي عن الأوزاعي (¬3). وهو قول من تقدم من أصحابنا، فاستفد من ذلك، ولله الحمد على تيسيره. الرابع: اختلفت الروايات في صفة الرفع ففي الكتاب الرفع إلى حذو المنكبين. -والمنكب: مجمع عظم العضد والكتف- وفي رواية لمسلم: "أنه رفعهما حتى حاذى بهما أذنيه"، وفي رواية له أيضًا: "أنه حاذى بهما فروع أذنيه"، وجمع الإِمام الشافعي بينهما: بأنه - عليه الصلاة والسلام -، جعل كفيه محاذيًا منكبيه، وأطراف أصابعه أعلا أذنيه، وإبهاميه شحمتي أذنيه، فاستحسن الناس ذلك منه، وذلك معنى رواية الكتاب. وحكى قولًا أنه يرفع حذو الأذنين، وحكى عن أبي حنيفة. وحكى الرافعي: قولًا أسقطه النووي من الروضة: أنه يرفع إلى أن يحاذي رؤوس أصابعه منكبيه، وأنكر على الغزالي حكايته ثلاثة أقوال في ذلك. ¬

_ (¬1) ذكره السبكي في طبقاته (3/ 119). (¬2) المحلى (3/ 300، 302)، وفتح الباري (2/ 218)، والمجموع (3/ 304، 306)، والمغني (1/ 470). (¬3) انظر: معجم فقه السلف (2/ 87).

وحكى عن الطحاوي: أن الرفع إلى الصدر والمنكبين في زمن البرد وإلى الأذنين وفوق الرأس في زمن الحر، لأن أيديهم في زمن البرد تكون ملفوفة في ثيابهم، وفي غيره تكون بادية، واعتمد رواية وائل (¬1) الرفع إلى الأذنين (¬2) وحمل رواية المنكبين أنهم فعلوا ذلك في البرد، وهذا تمنع منه رواية سفيان بن عيينة، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه" (¬3). قال وائل: "ثم أتيتهم في الشتاء فرأيتهم يرفعون أيديهم في البرانس"، كذا رواه الشافعي والحميدي عن سفيان، وهي مصرحة أن الرفع إلى المنكبين كان في الشتاء، وقال ابن سريج: هذا [من] (¬4) الاختلاف المباح. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (بن الأسقع)، والصحيح ما أثبت. (¬2) أبو داود (726، 727)، وأحمد في المسند (4/ 316، 317، 318)، والبخاري في قرة العينين في رفع اليدين النسائي (2/ 126، 3/ 34، 35)، وابن ماجه (867)، وابن الجارود (202، 208)، والدارمي (1/ 314، 315)، وابن خزيمة (1/ 242، 243)، والبغوي (563، 564، 565)، والبيهقي (2/ 72، 111، 112)، والطبراني في الكبير (22/ 78، 79، 80، 81)، والحميدي (885)، وعبد الرزاق (2522)، وابن حبان (1860، 1945). (¬3) البخاري في قرة العينين في رفع اليدين، ومسلم (390)، وأبو داود (721)، والترمذي (255، 256)، وابن ماجه (858)، وابن الجارود (177)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (222/ 1)، والبيهقي في السنن (2/ 69)، وابن حبان (1861، 1868، 1877). (¬4) في الأصل (في)، وما أثبت من ن ب د.

الخامس: اختلف في وقت الرفع، فظاهر رواية الكتاب: أنه يبتدىء الرفع مع ابتداء التكبير، ولم يتعرض فيهما لوقت وضعهما وفي رواية لمسلم: "أنه رفعهما ثم كبر" وفي رواية له: "كبر ثم رفع يديه" فهذه حالات فعلت لبيان جواز كل منها، وهي أوجه لأصحابنا، وأصحها: عندهم أنه يبتدىء الرفع مع ابتداء التكبير ولا استحباب في الانتهاء، صححه الرافعي في كتبه، والنووي في (الروضة)، و (المنهاج)، و (شرح مسلم) (¬1)، لكنه خالف في (شرح المهذب) (¬2)، و (الوسيط)، و (التحقيق)، فصحح أنه ينهيه مع الانتهاء أيضًا، وفي المسألة ثلاثة أوجه ذكرتها في شرحي المنهاج وغيره فليراجع عليه، وعن الشيخ أبي محمد ونسبه الغزالي إلى المحققين أن هذه الكيفيات كلها سواء، ولا أولوية، فقد صحت الروايات بها كلها (¬3). فقد حمل الكلام في الرفع في ستة مواضع: الأول: في سبب مشروعيته. الثاني: في [حكمه] (¬4). الثالث: في أصله. ¬

_ (¬1) (4/ 95). (¬2) (3/ 307). (¬3) ذكر الخلاف في ابتداء الرفع وانتهائه ابن حجر في الفتح (2/ 218) فلينظر. (¬4) في ن ب (حكمته).

والرابع: في موضعه. والخامس: في صفته. والسادس: في وقته، ولله الحمد. فروع متعلقة بالرفع: تكون كفاه للقبلة مكشوفتين وهو ما اختاره الباجي من المالكية، وعلله بأنا نتمكن من ذلك الجمع بين الحديثين، وأنه أبعد في التكلف، وأيسر في الرفع، ثم حكى عن سحنون: تكون يداه [مبسوطتين] (¬1) ظهورهما إلى السماء وبطونهما إلى الأرض. وحكى بعض متأخريهم: اختيار إقامة الكف مع ضم الأصابع، لأن هذا الشكل فيه معنى من حال الرهبة ومن حال الرغبة، وهي الإِشارة بالكف نحو السماء. قال الغزالي في (الإِحياء): وينبغي أن يرفع يديه إلى قدام [دفعًا عند التكبير] (¬2)، ولا يردهما إلى خلف منكبيه ولا يتفضهما يمينًا ولا شمالًا. قال المتولي: وينبغي قبل الرفع والتكبير أن ينظر إلى موضع سجوده، ويطرق رأسه قليلًا ثم يرفع يديه ويكبر ويستحب جزم تكبيرة الإِحرام بخلاف تكبيرات الانتقالات. فائدة: في كل صلاة ثنائية إحدى عشرة تكبيرة، تكبيرة ¬

_ (¬1) في المنتقى (2/ 142) منصوبتين. (¬2) زيادة من الإِحياء. انظر: إتحاف السادة المتقين (3/ 63).

الإِحرام، وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي الرباعية ثنتان وعشرون، ففي المكتوبات الخمس أربع وتسعون تكبيرة (¬1). السادس: قوله: "وقال سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد" قد تقدم الكلام على معنى ذلك في الحديث الثاني من باب الإِمامة واضحًا وإثبات الواو وحذفها (¬2)، وتقدم الكلام هناك على أن الإِمام ¬

_ (¬1) البخاري (787، 788)، وأحمد في المسند (1/ 218، 292، 339، 351)، والطحاوي (1/ 221)، وابن أبي شيبة (1/ 241)، وعبد الرزاق (2506)، وابن حبان (1765)، والطبراني في الكبير (11832، 11918، 11933). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 282)، على قوله: (ولك الحمد)، كذا ثبت زيادة الواو في طرق كثيرة، وفي بعضها كما في الباب الذي يليه بحذفها. قال النووي: المختار لا ترجيح لأحدهما على الآخر. وقال ابن دقيق العيد: كأن إثبات الواو دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير مثلًا: ربنا استجيب، ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر، انتهى. وهذا بناء على أن الواو عاطفة. وقد تقدم في "باب التكبير إذا قام من السجود" قول من جعل الواو حالية. وأن الأكثر رجحوا ثبوتها. وقال الأثرم: سمعت أحمد يثبت الواو في "ربنا ولك الحمد" ثبت فيه عدة أحاديث. فائدة: ذكر ابن حجر في الفتح (2/ 283) في معرض الرد على ابن القيم في عدم ورود الجمع بين الواو، واللهم، فقد ذكر ابن القيم هذا في زاد المعاد (1/ 222)، لكن ابن القيم -رحمه الله- ساق الجمع في أعلام الموقعين (2/ 380).

والمأموم والمنفرد يجمعون بين التسميع والتحميد في الركوع والاستواء منه (¬1)، والجواب عما ظاهره المخالفة فراجعه. وهذا الحديث ظاهر في جمع الإِمام بينهما وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 283) على قوله: (إذا قال الإِمام)، استدل به على أن الإِمام لا يقول: (ربنا ولك الحمد) وعلى أن المأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده) لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية كما حكاه الطحاوي، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وفيه نظر لأنه ليس فيه ما يدل على النفي، بل فيه أن قول المأموم: "ربنا ولك الحمد" يكون عقب قول الإِمام "سمع الله لمن حمده"، والواقع في التصوير ذلك لأن الإِمام يقول التسميع في حال انتقاله والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإِمام كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله: "إذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين" أن الإِمام لا يؤمن بعد قوله: "ولا الضالين"، وليس فيه أن الإِمام يؤمن كما أنه ليس في هذا أنه يقول: "ربنا ولك الحمد" لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة كما تقدم في التأمين، وكما مضى في الباب الذي قبله وفي غيره، ويأتي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين التسميع والتحميد، وأما ما احتجوا به من حيث المعنى من أن معنى "سمع الله لمن حمده" طلب التحميد فيناسب حال الإِمام، وأما المأموم فتناسبه الإِجابة بقوله: "ربنا لك الحمد" ويقويه حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم وغيره ففيه: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم" فجوابه أن يقال: لا يدل ما ذكرتم على أن الإِمام لا يقول: "ربنا ولك الحمد" إذ لا يمتنع أن يكون طالبًا ومجيبًا، وهو نظير ما تقدم في مسألة التأمين ... إلخ.

السابع: قوله: "وكان لا يفعل ذلك في السجود" معناه لا يرفع يديه في ابتداء السجود والرفع منه. ولعلَّ مراده في الابتداء أو كأنه أقرب، وبه قال أكثر الفقهاء، وخالف فيه بعضهم كما قدمته [وأنه] (¬1) صح في [النسائي] (¬2) من حديث أبي قلابة (¬3)، وكأنه اعتمد أنه زيادة فقدمت على من [نفاها] (¬4) أو سكت عنها لكن من ترك الرفع ورجح رواية ابن عمر في الترك، لكن الترجيح إنما يكون عند التعارض، ولا تعارض بين رواية من أثبت الزيادة أو نفاها أو سكت عنها إلَّا أن يكون ذلك جميعه منحصرًا متحدًا في وقت واحد فيجب العمل بالزيادة، وادعى بعض الشارحين أن إثبات الرفع فيه ضعيف، وهو غلط منه، فقد صح كما أسلفناه. الثامن: فيه إثبات تكبيرة الإِحرام، وقد تقدم الكلام عليها في الحديث قبله. التاسع: في الحديث التكبير في الهوي إلى الركوع، وهو سنة عند العلماء كافة، إلَّا أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه فإنه أوجبها، وكذا [سائر تكبيرات] (¬5) الانتقالات [وحجة] (¬6) الجمهور أنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته وهو موضع غاية البيان. ¬

_ (¬1) في ن ب (فإنه). (¬2) في الأصل (الثاني)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) انظر: ت (1، 2) ص (67) من حديث ابن عباس، ومالك بن الحويرث. (¬4) في ن د (النسائي). (¬5) في ن ب تقديم وتأخير. (¬6) في الأصل ون ب (ورجحه)، وما أثبت من ن ب.

العاشر: فيه أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حجة كأقواله. الحادي عشر: فيه وجوب نقلها وتبليغها والعمل بها على مراتبها من الوجوب والندب. الثاني عشر: فيه فضل الصحابة على من بعدهم حيث ضبطوا وبلغوا وعملوا وبذلوا الجهد في ذلك، واعلم أنه إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة وجب اعتقاد شرعيتها والعمل بها، فإن كانت واجبة كان الاعتقاد والعمل واجبين، وإن كانت مندوبة وجب اعتقاد ندبيتها من حيث هو مندوب، ولم يجب العمل بها لكن يستحب، ويتأكد ما لم يعارضه مراعاة واجب في نفس أو مال أو عيال أو حق واجب غيرهما. وقد صنف الأئمة كتبًا مستقلة في الرد على من مع الرفع، ومنهم البخاري، ولله الحمد (¬1). ¬

_ (¬1) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في قرة العينين في جزء رفع اليدين (ص 149): من زعم أن رفع الأيدي بدعة، فقد طعن في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف، ومن بعدهم وأهل الحجاز وأهل المدينة وأهل مكة وعدة من أهل العراق وأهل الشام وأهل اليمن وعلماء أهل خرسان منهم ابن المبارك ... إلخ كلامه. وقال ابن القيم في أعلام الموقعين (2/ 3): وانظر إلى العمل في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة خلفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة عند الركوع والرفع منه، ثم العمل في زمن الصحابة بعد حتى كان عبد الله بن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه، وهو عمل كأنه رأي عين. اهـ. وممن صنف في رفع اليدين: - البخاري. - الإِمام محمد بن نصر المروزي. =

الثالث عشر: روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر: "أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما دون ذلك" (¬1)، وروايته في الكتاب "وإذا رفع رأسه ¬

_ = - السبكي. - ابن القيم ذكره ابن رجب في الطبقات. وكل من ألف كتابًا في الفقه أو الحديث جعل له باب مستقلًا. فائدة: ذكر ابن العربي في أحكام القرآن (4/ 1903) في تفسير سورة الانشقاق، قال: ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه فحضر عندي يومًا بمحرس ابن الشواء بالثغر وضع تدريسي عند صلاة الظهر، ودخل المسجد في المحرس المذكور فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعد على طاقات البحر أتنسم الريح من شدة الحر، ومعه في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة لأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا، فقوموا إليه فاقتلوه، وارموا به البحر، فلا يراكم أحد، فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله هذا الطرطوسي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه؟ فقلت: كذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه، وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته. وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي فأنكره وسألني فأعلمته فضحك، وقال: من أين لي إن قتل على سنة؟ فقلت له: لا يحل لك هذا فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك، وذهب دمك فقال: دع هذا الكلام وخذ في غيره. اهـ. وكذا حكى القصة القرطبي في تفسيره (19/ 279)، والشاطبي في الاعتصام (1/ 358). (¬1) هذا الحديث من رواية نافع عن ابن عمر قال أبو داود في السنن رقم =

من الركوع رفعهما كذلك" قد يشعر بذلك، فإن المشبه بالشيء دون المشبه [به] (¬1). ¬

_ = (711)، لم يذكر "رفعهما دون ذلك" أحد غير مالك فيما أعلم. وأما الحديث الآخر فهو من رواية ابنه سالم عن ابن عمر وهو حديث الباب. قال البخاري في قرة العينين في رفع اليدين (109): حدثنا محمود أنا عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يكبر بيديه حين يستفتح، وحين يركع، وحين يقول: سمع الله لمن حمده، وحين يرفع رأسه من الركوع، وحين يستوي قائمًا. قلت لنافع: كان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن قال: لا. اهـ. محل المقصود منه، وهو في سنن أبي داود (710)، معالم السنن للخطابي فحديث الباب مرفوع ورواية نافع عن ابن عمر موقوفة. (¬1) في ن ب د ساقطة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 87/ 4/ 15 - عن ابن عباس - رضي الله [عنهما] (¬1) -. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين" (¬2). الكلام عليه من [وجوه ثمانية] (¬3): ¬

_ (¬1) في الأصل ون (وعنه)، وما أثبت من ن ب. (¬2) البخاري (809، 810، 812، 815، 816)، ومسلم (490)، والنسائي (2/ 209)، والدارمي (1/ 302)، وشرح السنة للبغوي (644)، والشافعي في المسند (1/ 84، 85)، والحميدي (494)، وأبو عوانة (2/ 183)، وابن ماجه (884، 1040)، والبيهقي في السنن (2/ 103)، وابن خزيمة (635)، والطيالسي (2603)، وأبو داود (890)، وعبد الرزاق (2971، 2972، 2973)، وأحمد (1/ 221، 255، 279، 285، 286، 324)، والطبراني في الكبير (10855، حتى 10868)، والصغير (91)، وابن أبي شيبة (1/ 261)، وابن حبان (1923، 1924، 1925). (¬3) في ن ب (ثمانية وجوه).

أحدها: الأصل: (أمرت بأن أسجد). ولكن حديث حرف البحر مع أن، وأن [قياس] (¬1) مطرد. ثانيها: الأمر له - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه الصلاة والسلام - وبالإِلهام [وغير] (¬2) ذلك من الطرق: كالرؤيا. والأمر: يقتضي الوجوب. ثالثها: تسمية كل واحد من هذه الأعضاء عظمًا، وإن كان كل واحد منها يشتمل على عظام من باب تسمية الجملة باسم بعضها. وأراد - صلى الله عليه وسلم - الأعضاء. كما جاء في رواية. وفي رواية "سبعة أراب" وهي الأعضاء أيضًا. رابعها: قوله: "على الجبهة" إلى آخره هو من بدل التقسيم كقولك: مررت برجال زيد [وبكر] (¬3) وعمرو. والجبهة: هي ما أصاب السجود من الأرض، ولا يكفي جانباها، وهما الحبينان. خامسها: إشارته - صلى الله عليه وسلم - إلى الأنف دون الجبهة، بعد ذكرها يحتمل أن معناه: أنهما جعلا كعضو واحد. فنبه بالإِشارة إلى ذلك [وعيّنها] (¬4) بالذكر [ليتبين] (¬5) أنهما المردان من الوجه دون سائره. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (وبغير). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب د (وعينهما). (¬5) في ن د (ليبين).

وهذا المعنى يقوي قول من يوجب السجود على الأنف مع الجبهة، كما ستعلمه، لكن [في] (¬1) بعض طرق هذا الحديث: "الجبهة والأنف معًا" (¬2) واصل العطف [للمغايرة] (¬3)، وذلك [يضعف] (¬4) دليل الوجوب. سادسها: ظاهر الحديث دال على وجوب السجود على هذه الأعضاء. أما الجبهة: فالسجود عليها واجب عينًا عندنا (¬5). وبه قال مالك والجمهور. وأوجب أحمد (¬6): السجود على الأنف أيضًا، وهو قول عندنا. ووافقه ابن حبيب المالكي، وقال أبو حنيفة وابن القاسم: هو مخير بينهما، وله الاقتصار على أحدهما. والمشهور عند المالكية: الإِجزاء عند الاقتصار على الجبهة دون الأنف. واختلف قول الشافعي في السجود على اليدين والركبتين ¬

_ (¬1) في ن د ساقطة. (¬2) في بعض طرق البخاري من طريق عبد الله بن طاووس في الأذان الفتح (2/ 297)، ومسلم من طريق ابن وهب، وابن خزيمة (1/ 321)، وابن المنذر في الأوسط (3/ 321)، والنسائي (2/ 209). (¬3) في ن ب د (المغايرة). (¬4) في ن ب (موجب). (¬5) الأم (1/ 114)، والمجموع (3/ 366). (¬6) انظر: مسائل أحمد إسحاق (1/ 54).

والقدمين، فالراجح عنده كما نقله النووي في (شرح مسلم) (¬1) الوجوب، ورجح الرافعي في كتبه: المنع. ونقل القاضي عياض عن الجمهور: أن السجود على ما عدا الوجه واليدين غير واجب (¬2). واستدل من قال بالمنع بأدلة: أحدها: حديث رفاعة بن رافع: "ثم يسجد فيمكن جبهته" (¬3) وهذا غاية دلالة مفهوم لقب أو غايته. ودلالة المنطوق مقدمة وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم [في] (¬4) حديث: "جعلت [لي] (¬5) الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬6) مع الزيادة المنقولة عن جماعة من الثقات: "وتربتها طهورًا" فإنه يعمل بها لما يلزم من ¬

_ (¬1) (4/ 208). (¬2) انظر: الأوسط لابن المنذر (3/ 180). (¬3) البيهقي في السنن (2/ 102، 133، 134، 372، 373، 374)، وابن حبان (1787)، والترمذي (302)، وأبو داود (857، 858، 859، 860، 861)، والنسائي (2/ 225)، وابن الجارود (194)، وعبد الرزاق (3739)، وأحمد (4/ 340)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/ 386)، وفي المعاني (1/ 232)، وابن خزيمة (545)، وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 241، 242)، ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (4520 حتى 4529)، وقد جاء من رواية أبي حميد الساعدي. (¬4) في ن ب (من). (¬5) ساقطة من الأصل. (¬6) سبق تخريجه حديث (42).

العمل بالعموم، المفهوم بخلاف هذا، فإنا إذا قدمنا دلالة المفهوم أسقطنا المنطوق، وهو السجود على الأعضاء الستة مع تناول اللفظ لها بخصوصها. ثانيها: إضافة السجود إلى الوجه في حديث: "سجد وجهي للذي خلقه" (¬1)، وهذا أضعف من الأول من حيث أنه لا يلزم من الإِضافة [إليه] (¬2) انحصار السجود فيه. ثالثها: إن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة، وهذا أضعف [منهما] (¬3)، فإن الحديث يدل على إثبات زيادة في المسمى فلا تترك. وأضعف من الكل المعارضة بقياس شبهي، وهو أنه لا يجب كشفها، فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء سوى الجبهة. نعم الرافعي استدل له بأنه لو وجب وضعها لوجب الإِيماء بها عند العجز كالجبهة. ¬

_ (¬1) مسلم (771)، والترمذي (266، 3421، 3422)، والبيهقي في السنن (2/ 32)، والطيالسي (152)، وأبو عوانة (2/ 100)، ومشكل الآثار (1/ 488)، وابن أبي شيبة (1/ 232)، وأبو داود (760)، والنسائي (2/ 129، 130)، والدارمي (2/ 282)، وابن خزيمة (462، 463، 743)، وأحمد (1/ 94، 102، 103)، وابن حبان (1773، 1903، 1977)، والبغوي (572). (¬2) في ن د ساقطة. (¬3) في الأصل (منها)، وما أثبت من ن ب د.

ولك أن تقول: الفرق أن الجبهة عضو لا يتحقق السجود بدونه، فلذلك وجب الإِيماء به عند العجز، لا لمجرد وجوب السجود به، وأما غير الجبهة فإنها يجب السجود بها لتمكن الجبهة من السجود فلا يحمل المقصود بالإِيماء عند العجز، ولا يدعي أن هذا من خصانصه لقوله: "أمرت" لأنه لا قائل به. واحتج لأبي حنيفة ومن وافقه بالرواية السالفة "والأنف" وقد قدمنا تأويل رواية الكتاب "وأشار بيده إلى أنفه" وأنه يحتمل أن معناه: أنهما جعلا كالعضو، ويكون الأنف كالتبع للجبهة، وقوي هذا الاحتمال بوجهين: الأول: لو كان الأنف كعضو منفرد عن الجبهة حكمًا لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها: ثمانية لا سبعة، فيخرج الحديث عن مطابقة العدد المذكور فيه. الثاني: اختلاف [عبارة] (¬1) الحديث في ذكره لفظًا أو إشارة، فإذا جعلا كعضو واحد أمكن أن تكون الإِشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، فتتطابق الإِشارة والعبارة، وحينئذ ربما [استنتج] (¬2) منه إجزاء السجود على الأنف وحده، لأنهما كعضو واحد، فإذا سجد على بعضه أجزأه، لكن هذا لا يعارض رواية التصريح بذكرهما ودخولهما تحت الأمر، وإن اعتقد أنهما كعضو من حيث العدد فهو في التسمية لفظًا؛ لا في الحكم الدال عليه الأمر مع أن الإِشارة ¬

_ (¬1) في ن ب (رواية). (¬2) في ن ب د (نستنتج).

لا تغير المشار إليه، بل قد تتعلق بالجبهة، فتكون الإِشارة إلى ما قاربه، لا إليه يقينًا بخلاف اللفظ، فإنه يتعين لما وضع له. سابعها: المراد باليدين المأمور بالسجود عليهما: الكفان، كما جاء في رواية أخرى، فهو من باب تسمية الجملة ببعضها، اعتقد قوم أن مطلق اليدين يحمل عليهما، كما في -قوله تعالى-: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1) واستنتجوا من ذلك أن التيمم إلى الكوعين كما تقدم، ولو حملنا الحديث على الكفين والذراع لكان آمرًا بالمنهي عنه من افتراش الكلب أو السبع، وهو مستحيل أن يكون الشيء الواحد مأمورًا به منهيًّا عنه. ثم المراد بالكفين الراحة والأصابع من غير اشتراط جمعهما، بل يكفي أحدهما فلو سجد على ظهر الكف لم يكفه، هكذا ذكره الشيخ تقي الدين (¬2) عن بعض مصنفي الشافعية. وقال النووي في (تحقيقه): المعتبر في القدمين بطون الأصابع. وقيل: يكفي ظهر القدم، وفي الكفين بطنهما. وقيل: يشترط بطن الراحة. وقال ابن عبد البر: لو سجد عليهما مقبوضتين جاز ذلك. ثامنها: أقل السجود مباشرة [بعض] (¬3) جبهته مصلاه مع الطمأنينة، والتحامل على موضع سجوده، وارتفاع الأسافل على ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آيه 38. (¬2) إحكام الأحكام (2/ 312). (¬3) في ن ب د (عليه).

الأعالي، وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين لم يجب كشفهما قطعًا، بل يكره كشف الركبتين، كما نص عليه في الأم، وإذا أوجبنا وضع الكفين لم يجب كشفهما أيضًا على أظهر القولين، وهو ظاهر الحديث، فأنه دال على الوضع فقط. والزائد هل يجعل علة للإِجزاء [أوجزء] (¬1) [علة] (¬2) فيه نظر، والخلاف متردد بين الجبهة، فيجب كشفها قطعًا، وبين الركبتين والقدمين فلا يجب قطعًا. وقال القاضي عياض: استحب ستر الجبين أو بعضه بما خف: كطاقات العمامة مع كراهة ذلك ابتداء، قال: ويكره السجود على اليدين وهما ملفوفتان في الثياب. قال الشيخ تقي الدين (¬3): ورخص في ذلك بعض السلف، ولعله لكثرة حر أو برد. ¬

_ (¬1) في ن ب كلمة غير واضحة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (2/ 313).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 88/ 5/ 15 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة، ثم [يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد"، ثم يكبِّر حين يهوي، ثم يكبِّر حين يرفع رأسه، ثم يكبِّر حبن يسجد ثم يكبِّر حين يرفع رأسه] (¬1)، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها، حتى يقضيها، ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس (¬2). الكلام عليه من وجوه عشرة: أحدها: فيه مشروعية التكبير في كل خفض ورفع [ما عدا ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬2) البخاري (785، 789، 795، 803)، ومسلم (392)، والنسائي (2/ 134، 233، 235)، والموطأ (1/ 76)، والشافعي في المسند (1/ 81)، وأبو داود (836)، والبيهقي في السنن (2/ 67)، وابن خزيمة (578، 579)، وابن أبي شيبة (1/ 241)، وعبد الرزاق (2496)، وأحمد (2/ 236، 270، 452، 502)، وابن حبان (1766، 1767، 1797).

الرفع] (¬1) من الركوع، وهذا إجماع اليوم، وقد كان فيه خلاف زمن أبي هريرة، فكان بعضهم لا يرى التكبير إلَّا للإِحرام، وبعضهم يزيد على بعض ما في حديثه، [وكأنه] (¬2) لم يبلغهم فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان أبو هريرة يقول في بعض الروايات: "إني لأشبهكم صلاة [بصلاة] (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، واستقر العمل عليه بعده إلى الآن. وأغرب بعضهم، فقال: لا يسن إلَّا للجماعة ليشعر الإِمام بحركته من وراءه. وذهب أحمد إلى وجوبها كما قدمته في الحديث الثالث. ثانيها: هذا الحديث مصرح [....] (¬4) بتكبيرات في الركعة، وقد تقدم عددها في الحديث الثالث. ثالثها: قوله: "يكبِّر حين يقوم" ظاهره إيقاع التكبير في حال القيام، ولا شك في وجوبه للتكبير وقراءة الفاتحة عند من يوجبها مع القدرة، وكل انحناء يمنع اسم القيام عند التكبير يبطل التحريم، فلا بد من [صرف] (¬5) اللفظ عن ظاهره. رابعها: قوله: "ثم يكبِّر حين يركع" مقتضاه مقارنة التكبير ¬

_ (¬1) ساقطة من ن ب. (¬2) في ن ب د (وكأنهم). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) في ن د بياض بمقدار كلمة، وما وجد منه مطابق لباقي النسخ. (¬5) في الأصل (حذف) ون ب ساقطة، وما أثبت من ن د.

لابتداء الركوع إلى حين انتهائه إلى حده ويمده على ذلك، ويشرع في تسبيح الركوع المشروع فيه. خامسها: [قوله] (¬1): "ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة"، مقتضاه ابتداء قولة التسميع حال ابتداء الرفع من الركوع إلى حين ينتصب قائمًا ويمده عليه، ويدل على أنه ذكر هذه الحالة، ولا شك أن الفعل يطلق على ابتداء الشيء وجملته حالة مباشرته، فحمله [عليها] (¬2) لكونه مستصحبًا للذكر في جميع مباشرته أولى لئلا يخلو جزء من الفعل عن ذكر، ومعنى يرفع صلبه من الركعة أي حين يبتدىء الرفع. سادسها: "الصُّلب"، من لدن الكاهل إلى عجيب الذنب، وفي الصلب الفقار، وهي ما بين كل مفصلين. "والنخاع"، وهو الخيط الأبيض الذي يأخذ من الهامه ثم ينقاد في فقار الصلب حتى يبلغ عجب الذنب. و (المتنان) [جانبًا] (¬3) الظهر من [عن] (¬4) يمين الصلب ويساره قد اكتنفا الصلب من الكاهل إلى الورك. سابعها: قوله: "ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد" فيه دليل على أن التحميد ذكر الاعتدال من الركوع، وأن ابتداءه حال ابتداء الاعتدال حين ينتصب قائمًا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن د (عليهما). (¬3) في ن د (جانب). (¬4) في ن ب (هن).

ثامنها: فيه دليل أيضًا على أن كلاًّ من التسميع والتحميد في محلهما، يشرعان لكل مصلٍّ جمعًا بينه وبين الحديث الآخر: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1) وتخصيص جمعهما [بالإِمام خلاف الأصل وتخصيص] (¬2) من غير مخصص، وقد تقدم إيضاح ذلك في باب الإِمامة. وأغرب المازري المالكي فقال: إن أراد صلاةً كان - صلى الله عليه وسلم - فيها إمامًا، [فذاك] (¬3) حجة للقول الشاذ عن مالك، أنه كان يرى أن يقول الإِمام اللفظين جميعًا، والمشهور أنه يقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده". هذا كلامه، وفيه بعض تحامل، فالظاهر أنه كان إمامًا. تاسعها: قوله: "يهوي" هو بفتح الياء وكسر الواو أي يسقط إلى أسفل، ومنه الحديث: "فهو يهوي في النار" أي ينزل ساقطًا، وماضيه هوى -بالفتح-. وزعم بعضهم أن صوابه: أهوى إلى الأرض، وليس ذلك بشيء، ويقال: هوى بمعنى: هلك ومات، ومنه قوله -تعالى-: ¬

_ (¬1) البخاري (628)، ومسلم (674)، والنسائي (2/ 9)، وأبو عوانة (1/ 331)، وأبو داود (589)، والترمذي (205)، وابن ماجه (979)، والبغوي (431)، والدارقطني (1/ 346)، والشافعي (1/ 129)، وابن خزيمة (397)، وأحمد (3/ 436)، والبيهقي (3/ 120). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (فذلك)، ويوافق المعلم للمازري (1/ 392).

{وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)} (¬1). وأما هوى يهوى [بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل فمعناه أحب. وأما الرباعي: فأهوى يهوي] (¬2) يقال: أهوى إليه بيده ليأخذه. قال الأصمعي: أهويت إلى الشيء [إذا] (¬3) أومأت به، ويقال: أهويت له بالسيف. وقيل: أهوى من قريب، وهوى من بعيد. والكلام في ابتدائه وانتهائه: كالكلام فيما قبله، وكذلك الكلام فيما بعده. عاشرها: قوله: "ويكبِّر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس". [مقتضاه] (¬4): أنه يشرع في التكبير للقيام من التشهد الأول [حين] (¬5) يشرع في الانتقال ويمده حتى ينتصب قائمًا. وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلَّا مالكًا، فإنه قال: لا يكبِّر للقيام منه حتى يستوي قائمًا. وقد قدمته في آخر الوجه الرابع عشر في الكلام على الحديث الثاني من هذا الباب. وظاهر هذا الحديث يخالف ذلك. ¬

_ (¬1) سورة طه: آية 81. (¬2) في الأصل ساقط. (¬3) في ن ب (إلى). (¬4) في ن ب (بمعناه). (¬5) في ن ب (حتى).

الحديث السادس

الحديث السادس 89/ 6/ 15 - عن مطرف بن عبد الله، قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبّر، وإذا نهض من الركعتين كبّر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين، وقال: [لقد] (¬1) ذكرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: "صلى بنا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). الكلام عليه من وجوه سبعة: أحدها: مطرف هذا كنيته أبو عبد الله بن عبد الله [بن] (¬3) الشخير -بكسر [الشين] (¬4) وتشديد الخاء المشددة المعجمتين ثم مثناة تحت ثم راء- الحرشي العامري التابعي الجليل البصري، لوالده صحبة. روى عن أبيه وعائشة وغيرهما، وعنه أخوه أبو العلاء ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (2/ 317) (قد). (¬2) البخاري (784، 786، 826)، ومسلم (393)، وأبو داود (798)، والنسائي (2/ 233) (3/ 2)، وأحمد (4/ 440، 444). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (الشخير).

يزيد، وآخرون. وكان ثقة، له فضل وورع، وعقل وأدب، وكان مجاب الدعوة، كان بينه وبين رجل كلام فكذب عليه، فقال مطرف: اللهم إن كان كاذبًا فأمته فخر ميِّتًا. فرفع [ذلك إلى] (¬1) زياد فقال: قتلت الرجل. قال: لا، ولكنها دعوة وافقت أجلًا. ولم ينج من فتنة ابن الأشعث بالبصرة إلَّا هو وابن سيرين. وكان يلبس المطارف، والبرانس، ويركب الخيل، ويغشى السلطان، وكان ربما نور له سوطه فأدلج ليلة [جمعة] (¬2)، فرأى أهل القبور، صاحب كل قبر جالسًا على قبره فلما رأوني قالوا: هذا مطرف [يأتي] (¬3) [يوم] (¬4) الجمعة، قلت: أتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم! نعلم ما تقول الطير فيه؟ تقول: سلام سلام من يوم صالح (¬5). ومناقبه كثيرة في الحلية وغيرها. تزوج امرأة على عشرين ألفًا وأكثر. مات سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة سبع وثمانين وهو أكبر من الحسن بعشرين سنة، وفي [الرواة] (¬6) مطرف أربعة: أوضحتهم فيما أفردته في الكلام على [أسماء] (¬7) هذا الكتاب فراجعه منه. ¬

_ (¬1) في ن ب (الكمال). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (ثاني). (¬4) في ن د ساقطة. (¬5) انظر: النص بتمامه في حلية الأولياء، ترجمة رقم (178). (¬6) في ن ب (الرواية). (¬7) في ن ب (رجال).

ثانيها: علي، وعمران، تقدم الكلام عليهما فيما مضى فأغنى عن الإِعادة. ثالثها، ورابعها: هذا الحديث دال على إتمام التكبير في حالات الانتقات [وهو الذي استقر عليه العمل، وأجمع عليه فقهاء الأمصار، وقد] (¬1) تقدم قريبًا، وتقدم الاختلاف في وجوبها أيضًا، وهو مبنى على أن الفعل للوجوب أم لا؟ [وإذا لم يكن للوجوب رجع البحث إلى أن الفعل وإن للمجمل أم لا؟] (¬2)، ومن هنا مأخذ من يرى الوجوب، والأكثرون على الاستحباب. فإذا قلنا: به فتركه هل يسجد للسهو له إذا تعدد أم لواحد منه أم لا يسجد؟ فيه اختلاف وليس لذلك تعلق بهذا الحديث إلَّا أن يستدل به على أن التكبيرات سنة مع انضمام [إلى] (¬3) المستحب مطلقًا يقتضي سجود السهو لتركه، فيصير المجموع دليلًا على ذلك، وأما التفرقة بين كون المتروك مرة أو أكثر فهو راجع إلى الاستحباب، وتخفيف أمر المرة الواحدة. والصحيح من مذهبنا أن تركها لا يوجب السجود. وقال القاضي عياض (¬4): اختلف قول مالك في السجود لقليل الفعل وكثيره على ثلاثة أقوال: ثالثها: يسجد لكثيره فقط. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) ساقطة من ن ب، ومثبتة في د. (¬3) في ن ب د (أن). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 146).

خامسها: فيه دليل على أن التكبير لم يكن معمولًا به حينئذٍ لقوله: "لقد ذكرني"، وإنما يتذكر من نسي ولو كان معمولًا به لم ينس وقد قدمنا أن ذلك كان في زمن أبي هريرة، ثم استقر العمل عليه إلى الآن. قال بعض المالكية: ونظيره قول عائشة - رضي الله عنها -: "ما أسرع ما نسي الناس أن يعيبوا ما لا علم لهم به. والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل وأخيه إلَّا في المسجد" (¬1) حتى استدل به بعضهم على أن المعمول به عند الصحابة ترك الصلاة على الجنازة في المسجد. وفي ذلك نظر لا يخفى. سادسها: فيه دليل على أن تأخر المأمومين خلف الإِمام وهو مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة والكوفيين في أن موقفهما عن يمين الإِمام وشماله. وقد تقدم الكلام في ذلك في باب الصفوف. سابعها: هذا الحديث لم يستوف فيه تكبيرات الانتقالات ولا الذي قبله، فقد يستدل به على عدم وجوبها. ¬

_ (¬1) مسلم (99، 100) في الجنائز، والثاني (4/ 68)، والترمذي (1033)، والطحاوي (1/ 490)، والبغوي (1491، 1492)، وأبو داود (3189، 3190)، وابن ماجه (1518)، وأحمد في المسند (6/ 79، 133، 261، 169)، والموطأ (1/ 229)، وابن حبان (3065، 3066).

الحديث السابع

الحديث السابع 90/ 7/ 15 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -، قال: رمقت محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد الركوع، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء. وفي رواية للبخاري: "ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء" (¬1). الكلام عليه من وجوه عشرة: أحدها: البراء تقدم التعريف به في باب الإِمامة: فأغنى عن إعادتها. ثانيها: قوله: "رمقت" [أي] (¬2) نظرت. والمصدر رمق مثل ضرب، ورمق ترميقًا، مثل كلم تكليمًا، أدام النظر. ومعنى: رمقت هنا المبالغة في النظر وشدة التتبع لأفعاله ¬

_ (¬1) البخاري (792، 801، 820)، ومسلم (471)، والترمذي (279)، وأبو داود (815)، والنسائي (2/ 197). (¬2) في ن ب (أني).

وأقواله [- صلى الله عليه وسلم - ففيه الحث على استحباب مراعاة أفعال العالم وأقواله] (¬1) للاقتداء به، فإن تعارض القول والفعل فعلى أيهما يعتمد، فيه خلاف للأصوليين ليس هذا موضعه. ثالثها: هذا الحديث بصراحته يدل على تخفيف القراءة والتشهد وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع وعن السجود، كما نبه عليه القاضي عياض. وقوله: "قريبًا من السواء" دال على أن بعضها كان فيه طول يسير على بعض، وذلك في القيام والتشهد لأنه يقتضي إما تطويل ما العادة فيه التخفيف، أو التخفيف ما العادة فيه التطويل في القيام: كقراءة ما بين الستين إلى المائة في الصبح (¬2) [وكما ثبت في] (¬3) قراءة صلاة الظهر بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الركعة الأولى مما يطولها (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، ومثبت من ن ب د. (¬2) للحديث الوارد في ذلك، ولفظه عن أبي برزة الأسلمي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الغداة بالستين إلى المئة". أخرجه مسلم (461)، والبخاري (541، 771)) والبيهقي في السنن (2/ 389)، وابن خزيمة (528، 529)، وابن ماجه (818)، والطيالسي (920)، وأبو داود (398)، والنسائي (1/ 241، 2/ 157)، وابن حبان (1503، 1822). (¬3) في الأصل (وكانت في)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) من حديث أبي سعيد الخدري ولفظه: "سألت ابا سعيد الخدري عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس لك في ذلك خير، كانت الصلاة تقام =

وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون (¬1)، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور (¬2) والمرسلات (¬3). وفي البخاري ¬

_ = للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيخرج أحدنا إلى البقيع ليقضي حاجته، ثم يجيء، فيتوضأ، فيجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى من الظهر". أخرجه مسلم (454)، والنسائي (2/ 164)، والبيهقي في السنن (2/ 66)، وابن ماجه (825)، وابن حبان (1854). (¬1) مسلم (455)، وأبو داود (649)، والبغوي (604)، والنسائي (2/ 176)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 347)، والبيهقي في السنن (2/ 389)، والحميدي (821)، وابن خزيمة (546)، وأحمد في المسند (3/ 411)، وعبد الرزاق (2707)، والشافعي في المسند (1/ 77)، وابن ماجه (820)، وابن حبان (1815، 2189)، وأخرجه البخاري تعليقًا في صحيحه، باب: الجمع بين السورتين في الركعة (2/ 255). (¬2) من حديث جبير بن مطعم ولفظه، قال: قدمت في فداء أهل بدر، فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي بالناس المغرب وهو يقرأ: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}. أخرجه البخاري (765)، ومسلم (463)، وأبو عوانة (2/ 153، 154)، والحميدي (556)، وابن ماجه (832)، وأبو داود (811)، والنسائي (2/ 169)، والبيهقي في السنن (2/ 193)، والدارمي (1/ 296)، والطحاوي في المعاني (1/ 211)، والشافعي في المسند (1/ 79)، وابن خزيمة (514)، والطبراني في الكبير (1496، 1497)، وابن حبان (1833، 1834)، والطيالسي (943)، وأحمد في المسند (4/ 80، 83، 85)، وعبد الرزاق (2692). (¬3) من حديث أم الفضل بنت الحارث سمعته يقرأ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}، فقالت: "يا عبد الله، ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها في المغرب". أخرجه البخاري (763)، ومسلم =

"أنه قرأ فيها بالأعراف" (¬1). وفي الحاكم على [شرط] (¬2) الشيخين " [قرأ فيها] (¬3) في الركعتين كلتيهما" (¬4)، وأشباه هذا ويوافق هذا أن مسلمًا لم يعد في روايته "القيام". ورواية البخاري "أن ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء"، شاملة لقيام القراءة والاعتدال والقعود [و] (¬5) التشهد والجلوس بين السجدتين فحينئذ يجمع بين الروايات ¬

_ = (462)، وأبو داود (810)، والنسائي (2/ 168)، والطحاوي في المعاني (1/ 211)، وأبو عوانة (2/ 153)، وابن أبي شيبة (1/ 257)، والحميدي (338)، والترمذي (308)، وابن ماجه (831)، والدارمي (1/ 296)، وابن خزيمة (519)، والبغوي (596)، والموطأ (1/ 78)، وعبد الرزاق (2694)، وابن حبان (1832)، وأحمد (6/ 338، 340). (¬1) ولفظه: عن زيد بن ثابت أنه سمع مروان يقرأ بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)}، فقال زيد: فحلفت بالله، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بأطول الطوليين (المص). أخرجه البخاري (764)، والنسائي (2/ 169، 170)، وابن خزيمة (515، 516، 517، 541)، وأبو داود (812)، والبيهقي في السنن (2/ 392)، والطبرانى (4823، 4825)، وعبد الرزاق (2691)، ومعاني الآثار (1/ 211)، وابن حبان (1836). (¬2) في ن ب مكرر. (¬3) في ن ب (فرقها). (¬4) الحاكم (1/ 237)، قال الذهبي: فيه انقطاع واتفقا على حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة. يراجع ت (1). (¬5) في ن ب ساقطة.

كلها بأنها محمولة على اختلاف أحوال، ففي أوقات يُطوِّل، وفي أوقات يُخفّف. وذهب بعضهم: إلى أن التخفيف هو المتأخر من فعله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك التطويل، [وقد ورد] (¬1) في بعض الأحاديث [من حديث جابر بن سمرة] (¬2) أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت بعد ذلك تخفيفًا" (¬3). وأن رواية البخاري المذكورة صحيحه، وأن ذكر القيام وهم من الراوي، وهو بعيد كما قاله الشيخ تقي الدين (¬4)، لأن توهيم [الراوي] (¬5) الثقة على خلاف الأصل، لا سيما إذا لم يدل دليل قوي -لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة- على كونه وهمًا، وليس هذا من باب العموم والخصوص، حتى يحمل العام على الخاص فيما عدا القيام، فإنه قد صرح في حديث البراء بذكر القيام، ويمكن الجمع، بينهما بأن يكون فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كان مختلفًا. فتارة يستوي الجميع، وتارة يستوي ما عدا القيام والقعود، وليس في هذا إلَّا أحد أمرين: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل ساقطة ون د، وما أثبت من ن ب. (¬3) مسلم (458)، وابن خزيمة (526)، والبيهقي في السنن (2/ 389)، وابن أبي شيبة (1/ 353)، والطبراني في الكبير (1929)، وابن حبان (1816، 1823)، وأحمد في المسند (5/ 91، 102، 103، 105)، وعبد الرزاق (2720)، والحاكم (1/ 240)، ووافقه الذهبي. (¬4) إحكام الأحكام (2/ 324) مع الاطلاع على كلام الصنعاني في الحاشية. (¬5) في ن ب ساقطة.

إما الخروج عما تقتضيه لفظة "كان" من المداومة أو الأكثرية. وإما أن يقال الحديث [واحد] (¬1) اختلفت [رواته] (¬2) عن واحد، فيقتضي ذلك التعارض، ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرنا عنه أنه نسب تلك الرواية إلى الوهم [ممن] (¬3) قاله، وهذا هو الوجه الثاني، -يعني اتحاد الرواية- أقوى من الأول في وقوع التعارض، وإن احتمل غير ذلك على الطريقة الفقهية، ولا يقال: إذا وقع التعارض، فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه [من] (¬4) نفاه، فإن المثبت [مقدم] (¬5) على النافى، لأنا نقول: الرواية الأخرى تقتضي بنصها عدم التطويل في القيام، وخروج تلك الحالة أعني حالة القيام والقعود عن بقية حالات أركان الصلاة، فيكون النفي والإِثبات محصورين في محل واحد، [والنفي والإِثبات إذا انحصرا في محل واحد تعارضا إلَّا أن يقال باختلاف هذه الأحوال] (¬6) [بالنسبة إلى صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يبقى فيه انحصار إلى محل واحد] (¬7) بالنسبة إلى الصلاة، ولا يعترض على هذا إلَّا بما قدمناه ¬

_ (¬1) زيادة من إحكام الأحكام (2/ 327). (¬2) في الأصل (إلى من)، والتصحيح من إحكام الأحكام. (¬3) في جميع النسخ (من)، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬4) في ن ب (ما). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) ساقطة من ن ب. (¬7) زيادة من ن د، ومن إحكام الأحكام (2/ 328).

من مقتضى لفظة "كان"، أو كون الحديث واحدًا عن مُخَرِّج (¬1) واحد اختلف فيه، فلينظر ذلك من الروايات، ويحقق الاتحاد أو الاختلاف في مخرج الحديث، هذا آخر كلامه. رابعها: فيه دليل على أن الرفع من الركوع ركن طويل لأنه لا يتأتى أن تكون القراءة في الصلاة فرضها ونفلها بمقدار ما إذا فعل في الرفع من الركوع ويكون قصيرًا. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ورجح أصحاب الشافعي: أنه ركن قصير. قلت: المعروف أنهم جزموا به من غير حكاية خلاف فيه، بخلاف ما تقتضيه هذه العبارة، واستثنوا من ذلك القنوت وصلاة التسبيح. نعم قال النووي في (شرح المهذب) (¬3): الأقوى جواز إطالته بالذكر. وقال في (الروضة): إنه الراجح دليلًا. وقال في (التحقيق): إنه المختار. خامسها: فيه دليل على أن الجلوس بين السجدتين ركن طويل أيضًا. وادعى بعض شراح هذا الكتاب من الشافعية: أن الشافعية لم يتكلموا في الجلوس بين السجدتين في طوله وقصره وأنه على الخلاف، بل أطلقوا أنه قصير، ومقتضى الحديث أنه طويل: كالاعتدال عن الركوع. ¬

_ (¬1) انظر: حاشية إحكام الأحكام (2/ 328). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 321). (¬3) المجموع شرح المهذب (3/ 416، 4/ 127).

قلت: لا بل حكوا الخلاف فيه، وصحح الرافعي في كتبه، والنووي في (المنهاج): أنه قصير ونقل الإِمام عن الجمهور: أنه طويل. ونقله النووي في (شرح المهذب) (¬1) في باب سجود السهو عن الأكثرين، ولم يخالفهم، وصححه في (تحقيقه) في هذا الباب، وخالف في باب صلاة الجماعة فصحح في (شرح المهذب) (¬2). والتحقيق: أنه قصير، وينبغي أن تكون الفتوى في مذهب الشافعي بما قاله الجمهور مع اعتضاده بالدليل القوي. وفي صحيح ابن حبان (¬3) من حديث عائشة: أنه - عليه الصلاة والسلام - انتظر فراغ الفرقة الأولى ومجيء الثانية في ذات الرقاع في الجلسة ببن السجدتين، فسجد بها السجدة الثانية، وهو صريح في تطويله. وفائدة الخلاف في تطويله: أنه هل يقطع الموالاة الواجبة من الصلاة أم لا؟. فالقائل بقصره يبطله. وقيل: لا، حتى ينقل إليه ركنًا قوليًّا: كفاتحة أو تشهد، حكاه الشيخ تقي الدين (¬4). ¬

_ (¬1) (4/ 127). (¬2) (3/ 437). (¬3) ابن حبان (1873) من حديث عائشة (1878) من حديث أبي هريرة، وصححه ابن خزيمة (1363)، والبيهقي (3/ 265)، وأحمد (6/ 275)، وصححه الحاكم (1/ 336، 337) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. (¬4) إحكام الأحكام (2/ 322).

واختلف أصحابنا في أن الركن القصير مقصود في نفسه أم لا؟ وفي ذلك اضطراب ترجيح عندنا، ذكرته في (شرح المنهاج) وغيره، وهذا الحديث قد يدل على أنه مقصود فليتأمل. سادسها: فيه دليل على أن أفعال الصلاة تكون مقاربة بعضها بعضًا في الطول والقصر، فلو طول بعضها على بعض جاز. سابعها: قوله: "فجلسته ما بين التسليم والانصراف" يحتمل أن يكون المراد ما بين التسليم في التشهد [والصلاة] (¬1) على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين، فعبر عن جميع ذلك بالتسليم. وقوله: "والانصراف" يعني به الخروج من الصلاة بالسلام، وذلك مستعمل في الخروج من الصلاة، وقد نص عليه بعضهم، وجاء التعبير بالانصراف عن السلام في عدة أحاديث في الصحيح، ومنها حديث أنس المذكور في باب الصفوف: "فصلى لنا ركعتين ثم انصرف" (¬2) على ما تقدم فيه هناك. [و] (¬3) منها حديث: "لا تسبقوني بالركوع ولا بالانصراف" (¬4) أي بالسلام. ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) البخاري (380)، ومسلم (658)، والموطأ (1/ 153)، وأبو داود (612،)، والترمذي (234)، وأحمد (3/ 164)، والنسائي (2/ 56، 57، 85، 86) انظر: حديث (75) وما ذكر من الأحكام فيه. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) رواه مسلم (426)، وأبو عوانة (1/ 136)، والدارمي (1/ 302)، والبيهقي (2/ 91، 92)، وأحمد في المسند (3/ 112، 126، 217، =

ومنها قول الراوي: كان ينصرف عن يمينه وعن شماله، ويحتمل أن يكون ذلك [من] (¬1) باب [التعبير] (¬2) بالشيء عما يقاربه، وقد حمله بعض المتأخرين على الانصراف بعد السلام. فقال: فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس في مصلاه بعد التسليم شيئًا يسيرًا، وقد نص على ذلك القاضي عياض، وقد جاء مبينًا في الصحيح أنه - عليه السلام - كان إذا سلم لم ينصرف من مصلاه حتى يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإِكرام" (¬3). ثامنها: فيه استحباب الجلوس في مصلاه بعد التسليم، والانصراف بقدر قيام أو ركوع أو سجود كما أسلفنا. ¬

_ = 240)، وابن خزيمة (1602)، وجاء من رواية معاوية بن أبي سفيان وإسناده حسن عند أبي داود (619) في الصلاة، باب: ما يؤمر به المأموم من اتباع الإِمام، ابن ماجه (963)، وابن الجارود (324)، وصححه ابن خزيمة (1594). انظر: حديث (75)، تعليق (7). (¬1) في ن ب (في). (¬2) في ن ب (التقصير). (¬3) مسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وصفته (592)، الترمذي في الصلاة، باب: ما يقول إذا سلم من الصلاة (299)، أبو داود في الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم (1512)، والنسائي (3/ 69) في السهو، باب: الذكر بعد الاستغفار، وابن ماجه (924) في الإِقامة، باب: ما يقول بعد التسليم، النسائي في عمل اليوم واليلة، (95، 96، 97)، وأبو عوانة (2/ 241، 242)، والبغوي (713)، وابن حبان (2000، 2001، 2002)، وأحمد (6، 62، 184)، وابن أبي شيبة: (1/ 302، 304).

تاسعها: فيه دليل على أن التابع يستحب له أن يرمق أفعال متبوعه [في صلاته] (¬1) وعبادته، كما أسلف ليعمل بها وينقلها، ولا يسأل باللفظ عنها، بل يحمل عنه: كلغة الجواب والتعليم بالقول خصوصًا إذا تعلقت بالمتبوع تكاليف كثيرة. عاشرها: فيه دليل أيضًا على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حجة كأقواله. ¬

_ (¬1) زيارة من ن د وفي ن ب (في مصلاة)، وفي الأصل ساقطة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 91/ 8/ 15 - عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك. - رضي الله عنه - قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئًا لم أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي. وإذا رفع من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي (¬1). الكلام عليه من ثلاثة عشر وجهًا: أحدها: ثابت هذا هو ابن أسلم أبو محمد البناني نسبة إلى بنانه. قيل: هي أم سعد بن لؤي. ¬

_ (¬1) البخاري (800) في الآذان، باب: الطمأنينة حين رفع رأسه من الركوع (821) في الآذان، باب: المكث بين السجدتين، ومسلم (472) في الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، وأبو داود (853)، والبغوي (629)، وابن خزيمة (609)، والبيهقي في السنن (2/ 98)، وابن حبان (1885، 1902)، وأحمد (3/ 162، 226).

وقيل: غيرها. البصري [أحد] (¬1) الأعلام: الثقة، العابد، الزاهد، الجليل، تابعي [كالزبير] (¬2). روى عن أنس وغيره، وعن خلق من التابعين، وروى عنه جماعة من التابعين [الصغار] (¬3) وخلق سواهم، وهو أحد الثلاثة الذين هم أثبت الناس في أنس، الزهري، ثم قتادة، ثم ثابت، وأحاديثه مستقيمة، وما وقع في حديثه من النكرة فإنما هو من الراوي عنه، لأنه روى عنه ضعفاء. قال أنس - رضي الله عنه -: إن للخير لأهلًا، وإن ثابتًا من مفاتيح الخير. وقال حماد بن سلمة: كان ثابت يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري، وكان حماد أروى الناس عن ثابت فيما ذكره الإِمام أحمد. [و] (¬4) روى أنه رؤي في قبره يصلي، وقال محمد بن ثابت: ذهبت ألقن أبي، فقال: دعني! فإني في وردي السابع. كان يقرأ، ونفسه تخرج. قال سليمان بن المغيرة: رأيت ثابتًا يلبس الثياب الثمينة والطيالسة والعمائم. قال ابن علية: مات سنة سبع وعشرين ومائة. وكذا قال يحيى القطان. وزاد وهو ابن ست وثمانين سنة، ويروى أنه مات سنة ثلاث وعشرين. ثانيها: قوله: "لا آلو" أي: لا أقصر و "الألو" بمعنى التقصير ¬

_ (¬1) في ن ب (أخر). (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعله كالزهري أقرب وما بعده يدل عليه. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د.

وبمعنى الاستطاعة (¬1)، والسياق يرشد إلى المراد، كما قال الشيخ تقي الدين (¬2): والألو على مثال العُتُو، ويقال: الألِيّ على مثال العتيِّ والماضي "ألا" مخففًا، وقد يقال بهذا المعنى: "إلَّا" مشددًا، وكلاهما صواب. يقال: ألى الرجل وألى إذا قصّر وترك الجهد. واسم الفاعل منه: آل مثل قاض والمرأة آليّة. وجمعها: [أوال] (¬3) وقد تحذف الواو منه في المضارع لغير جازم، كما حذفت الباء من أدري كذلك فقالوا: لا أدر. قال الجوهري: حكى الكسائي، عن العرب أقبل [يضربه] (¬4) لا يَأْلُ (¬5)، يريد يألوا. ثالثها: قوله: "أن أصلي" أي في أن أصلي، وحذف حرف الجر في أن، وأن قياس مطرد فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل بنفسه فنصب، وقد تقدم مثل هذا. رابعها: إنما قدم أنس - رضي الله عنه - هذا القول على ¬

_ (¬1) ويأتي بمعنى المنع، والاجتهاد والعطية. لسان العرب (1/ 193) مادة "ألا". (¬2) إحكام الأحكام (2/ 330). (¬3) في ن ب (أوالى). (¬4) في منه ب (يضرب). (¬5) لسان العرب (1/ 192) وبعده مضمومة اللام دون واو، وما بعده غير مذكور فيه.

روايته لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يفعل] (¬1) ليدل السامعين على التحفظ والاهتمام به ولتحقق عندهم المراقبة لاتباع أفعاله. خامسها: قوله: "حتى يقول القائل: قد نسي" فيه تنبيه على تطويل فعله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتدال والجلوس بين السجدتين على العادة فيه والمشروع، فيحمل القائل فعله - عليه السلام - على النسيان لا على المشروع. سادسها: فيه نص على [أن] (¬2) الاعتدال طويل، وكذا الجلوس بين السجدتين أيضًا، فلا يجوز العدول عنه لقول من قال: إنها ركن قصير، بدليل أن التسبيحات لم تسن فيه استرسالًا كما سنت القراءة في القيام والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقًا، وقد يخدش هذا بأنه [لو] (¬3) كان طويلًا لما عمل بعض الصحابة بخلافه. ويجاب: بأنه ما بلغه ذلك. سابعها: فيه دليل على وجوب الاعتدال في الركوع والسجود، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوعبًا في الحديث الثاني من أحاديث الباب. ثامنها: فيه دليل على إحياء السنن إذا أميتت، والإِنكار على مخالفة السنة. تاسعها: إنما خص ذكر الاعتدال في الركوع والسجود دون ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة.

غيرهما، لأنه كان قد رأى الناس في زمانه (¬1) ذلك قد وقع منهم أو من بعضهم التقصير في الطمأنينة فيها دون [غيرهما] (¬2)، ولذلك قال: يصنع شيئًا لم أركم تصنعونه. عاشرها: [فيه] (¬3) البيان بالفعل، والتنبيه عليه بالقول. الحادي عشر: "مكث" بفتح الكاف وضمها، وقد قرئ بهما قوله -تعالى-: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} (¬4) ومعناه: لبث وانتظر. والاسم: المكث، مثلث الميم، كما حكاه أبو البقاء في (إعرابه) (¬5) في سورة سبحان، وكذا ابن مالك في (مثلثه)، ويمكث يلبث، والمكيثي مثل الخصيصي المكث. وسار الرجل ممكثًا أي: ملتزمًا، ورجل مكيث أي رزين (¬6). أنشد الجوهري (¬7): فإني عن تقفر كم مَكِيثُ ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (في). (¬2) في ن ب (غيرها). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) سورة النمل: آية 22. (¬5) إملاء ما منَّ به الرحمن في إعراب القرآن (3/ 502) مع حاشية الجمل. (¬6) تم ضبط هذه الألفاظ من لسان العرب (13/ 158). (¬7) أول البيت من لسان العرب (13/ 158). انسل بني شعارة. مَن لصخرٍ؟ ... ويروى عن تفقركم: أي أعمل بكم فاقرة، وعلى الأول: أي عن أن أقتفي آثاركم.

وهو قياس اسم الفاعل من مكث -بالضم وبالفتح- ماكث منه قوله -تعالى-: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)} (¬1). الثاني عشر: قوله: "حتى يقول القائل: قد نسي" يقول هنا بمعنى: يظن، ومنه: أتقول زيدًا قائمًا، أي أتظن، ومنه قول الشاعر: متى يقول القلص الرواسما ... يدنين أم قاسم وقاسما أي متى تظن. الثالث عشر: فيه دليل على قبول خبر الواحد العدل. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: آية 77.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 92/ 9/ 15 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). الكلام عليه من وجوه خمسة: أحدها: هذا الحديث مبين لحديث ثابت، عن أنس المتقدم أيضًا من التطويل والتخفيف، ولا تعارض [بينهما] (¬2) وبين تطويله ¬

_ (¬1) البخاري (706) في الآذان، باب: الإِيجاز في الصلاة وإكمالها، ومسلم (469) في الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، والترمذي (237) في الصلاة، باب: ما جاء إذا أم أحدكم فليخفف، والنسائي (2/ 94، 95) في الإِمامة، باب: ما على الإِمام من التخفيف، وابن ماجه (985) في الإِقامة، باب: من أم قومًا فليخفف، والدارمي (1/ 288، 289)، وأبو عوانة (2/ 89)، والبغوي (840)، وعبد الرزاق (3718)، وابن حبان (1759، 1856، 1886، 2138)، وأحمد (3/ 182، 262)، والبيهقي (3/ 115)، والطبراني (726)، وابن أبي شيبة (2/ 57). (¬2) في ن ب (بينها).

- عليه الصلاة والسلام - القراءة في بعض [الأحيان] (¬1)، بل يحمل حديث أنس هذا على أنه آخر الأمرين من فعله - صلى الله عليه وسلم -، كما قدمت ذلك عن بعضهم في الحديث السابع. ثانيها: "وراء" من الأضداد (¬2) تستعمل بمعنى قدام، كما في قوله -تعالى-: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (¬3) الآية، أي أمامهم، وهي مؤنثة بدليل إلحاق الهاء في تصغيرها تقول: وُرَئِّيةٌ، وكذلك قدام تقول: قديديمة (¬4)، وهما شاذان لأن الرباعي لا يلحقه التأنيث ووجه شذوذهما. أنه ليس في الظروف مؤنث غيرهما فلو لم تلحقهما الهاء لأوهم تذكيرهما كسائر الظروف. ثالثها: سمي الإِمام إمامًا لأن الناس يأتمون به، أي يؤمون أفعاله، أي يقصدونها ويتبعونها، ويقال: للطريق: إمام، لأنه يؤم، أي يقصد ويتبع، ومنه قوله -تعالى-: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)} (¬5) ¬

_ (¬1) في ن ب (أحيان). (¬2) قال الزجاج: وراء يكون لخلف ولقدام، ومعناها ما توارى عنك أي ما استتر عنك، قال: وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللغة. اهـ، من لسان العرب (15/ 265). (¬3) سورة الكهف: آية 79. (¬4) تصغير قدام: قُدَيْدِمُ ذلك وقُدَيْدِمةُ ذلك. اهـ، من لسان العرب (15/ 265). قال في المصباح المنير (494): قالوا: ولا يصغر رباعي بالهاء إلا قدام ووراء. (¬5) سورة الحجر: آية 79.

أي لبطريق واضح، يمرون عليها في أسفارهم، يعني القريتين المهلكتين: قريتي قوم لوط، وأصحاب الأيكة فيراهما ويعتبر بهما من يخاف وعيد الله تعالى. والإِمام: أيضًا الكتاب، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (¬1) أي بكتابهم. [ويقال: بدينهم. وقيل: بنبيهم. وقيل: بكتابهم] (¬2) الذي فيه أعمالهم. وقيل: بمتبعهم من هاد ومضل. قال ابن عطية: ولفظ الإِمام يعم هذا كله، لأن الإِمام هو ما يؤتم به، ويهتدي به في [المقصد] (¬3): ومنه [قيل] (¬4): لخيط البناء إمام (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: آية 71. (¬2) زيادة من ب د، أما في ن ب (بنيتهم) بدل: (بنبيهم). (¬3) في ن ب (القصد). (¬4) في ن ب (لقيل). (¬5) ومن معانيه أيضًا: يكون بمعنى: قادة إلى الخير. قال -تعالى-: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)}، ويكون بمعنى: اللوح المحفوظ. قال -تعالى-: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}، ويكون بمعنى: التوراة. قال -تعالى-: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا}. انظر: للاستفادة كشف السرائر لابن العماد (83).

رابعها: قط (¬1): على قسمين [زمانية] (¬2) كهذه التي في الحديث وغير زمانية: فالأولى: مفتوحة القاف مشددة الطاء، وفيها لغات أُخر منها ضم القاف أيضًا وقط مخففة وبنيت لأنها غاية كسائر الغايات. والثانية: [بمعنى] (¬3) حسب [وهو] (¬4) الاكتفاء فهي مفتوحة القاف ساكنة الطاء. خامسها: الظاهر هو أن هذه الصفة المذكورة في الحديث من صلاته - عليه الصلاة والسلام - تختص بحال الإِمامة، وأما حال الانفراد فإنه - عليه السلام -[كان] (¬5) يطول: من ذلك قيام الليل وغيره، وقد جاء ذلك صريحًا في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا [في] (¬6) غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا" (¬7)، وكما تقدم ¬

_ (¬1) حروف المعاني والصفات لأبي القاسم الزجاجي (46)، إعراب بحديث للعكبري (432، 433). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (حتى). (¬4) في ن ب (وهي). (¬5) زيادة من ن د، وفي ن ب (فإنه). (¬6) في الأصل ساقطة، وفي ن د (على). (¬7) البخاري (1147) في التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؛ =

من قوله - عليه السلام -: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، وإذا صلى [أحدكم] (¬1) لنفسه فليطول ما شاء" (¬2)، فذكر الحكم والعلة. واعلم: أن المطلوب [في] (¬3) كل أمر العدل وهو الوسط [من] (¬4) كل شيء، وهذا الحديث من هذا فيدل على طلب أمرين في الصلاة التخفيف في حق الإِمام مع الاتمام وعدم التقصير [وذلك] (¬5) هو الوسط العدل، والميل إلى أحد الطرفين خروج عنه، فالتطويل في حق الإِمام إضرار [بالمأمومين] (¬6) والتقصير عن الاتمام بخس ¬

_ = و (2013) في صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان، وفي المناقب، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومسلم (738) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، وأبو داود (1341) في الصلاة، باب: في صلاة الليل، والنسائي (3/ 234) في قيام الليل، باب: كيف الوتر بثلاث، الترمذي (439) في الصلاة، باب: ما جاء في وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، وأحمد (6/ 36، 73، 104)، والموطأ (1/ 120)، والبيهقي (1/ 122)، (2/ 495، 496)، (3/ 6)، (7/ 62)، وابن حبان (2430، 2613)، والبغوي (899)، وابن خزيمة (1166). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سبق تخريجه في باب الإِمامة، الحديث السادس. (¬3) في ن ب د (من). (¬4) في ن ب د (في). (¬5) في ن ب د (وهذا). (¬6) في ن ب (بالمؤمنين).

يلحق العبادة، وليس المراد بالتقصير [هنا] (¬1) ترك الواجبات، فإن تركها مفسد للصلاة موجب لنقصها فيرفع حقيقتها، بل المراد والله أعلم، التقصير [في] (¬2) المسنونات والتمام بفعلها، فينبغي للإِمام التوسط في ذلك وتكون حاله دائمًا بين التفريط والإِفراط، لأنه إذا كان هذا في الصلاة التي هي [أجل] (¬3) أركان الإِسلام، فما ظنك بغيرها من [العبادات] (¬4)، والعادات، كيف وهو قدوة؟!. ¬

_ (¬1) في ن ب (هما). (¬2) في ن ب د (من). (¬3) في ن د (أحد). (¬4) في ن ب (العبوات).

الحديث العاشر

الحديث العاشر 93/ 10/ 15 - عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: "جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا [قال] (¬1): إني لأصلي بكم! وما أريد الصلاة أصلي كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي! فقلت: لأبي قلابة كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض" (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب (فقال). (¬2) البخاري (823) في الآذان، باب: من استوى قاعدًا في وتر من صلاته ثم نهض (677)، باب: من صلى بالناس وهو لا يريد إلَّا أن يعلمهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته (802)، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع (824)، باب: كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة، والترمذي (287) في الصلاة، باب: ما جاء كيف النهوض من السجود، وأبو داود (844) في الصلاة، باب: النهوض في الفرد، والنسائي (2/ 234) في التطبيق، باب: الاستواء للجلوس عند الرفع من السجدتين، وابن خزيمة (678)، وابن الجارود في المنتقى (204)، وأحمد (3/ 436)، (5/ 53، 54)، والبيهقي (2/ 123، 124)، وابن حبان (1934، 1935)، والبغوي (668).

الكلام عليه من وجوه عشرة يجمعها علم الأنساب والتاريخ والمبهمات وبيان المعاني والأحكام: الأول: هذا الحديث من أفراد البخاري، فهو خارج عن شرط المصنف كما سلف نظيره [في] (¬1) حديث عائشة، وحديث مالك هذا أخرجه البخاري من طرق منها، رواية وهيب (¬2) وأكثر ألفاظ رواية الكتاب فيها وفي آخرها: "وإذا رفع رأسه من السجدة [الثانية] (¬3) جلس واعتمد على الأرض، ثم قام"، وفي رواية خالد عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث الليثي (¬4): "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في [وتر] (¬5) من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا". الثاني: أبو قلابة هذا أحد [أئمة] (¬6) التابعبن، ونزيل الشام، [نزل] (¬7) داريا، ثقة كثير الحديث، عابد زاهد، طُلِبَ للقضاء بالبصرة فهرب إلى الشام. وقال: ما وجدت مثل القاضي العالم إلَّا مثل رجل وقع في بحر فأعي أن يسبح حتى يغرق. مات سنة ست أو أربع ومائة [أو سبع ومائة] (¬8). قال السمعاني: توفي بالعريش، وقد ذهبت يداه ¬

_ (¬1) في الأصل ون د (من). (¬2) في البخاري برقم (824). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في البخاري برقم (823). (¬5) في الأصل دبر وما أثبت من ن ب و. (¬6) في الأصل ون د (الأئمة)، وما أثبت من ب. (¬7) في ن ب د (سكن). (¬8) زيادة من ب د.

ورجلاه وبصره، وهو مع ذلك يحمد الله ويشكره. وقال ابن يونس: قدم مصر زمن عمر بن عبد العزيز. الثالث: الجرمي -بفتح الجيم وسكون الراء ثم ميم ثم ياء النسب- نسبة إلى جرم قبيلة وهو جرم بن ريان بن عمران بن الحاف بن قضاعة (¬1). الرابع: البصري -بفتح الباء الموحدة وكسرها- نسبة إلى البصرة مثلثة الباء والفتح أشهرها، ولم يذكروا في النسبة الضم خوفًا من الاشتباه بالنسبة إلى [بصرى] (¬2) البلدة المعروفة بالشام، وطلبًا للتخفيف، ويقال لها: البصيرة [بضم الباء وفتح الصاد] (¬3) على التصغير. [ويقال] (¬4): تدمر والمؤتفكة. قال السمعاني: ويقال لها: قبة الإِسلام، وخزانة العرب، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب سنة سبع عشرة، وسكنها الناس سنة ثمان عشرة، ولم يعبد بأرضها صنم قط (¬5). الخامس: مالك بن الحويرث أبو سليمان، ويقال في اسم أبيه: الحارث. وحويرثة تأنيث حويرث، وتصغير حارث، صحابي ¬

_ (¬1) اللباب في الأنساب لابن الأثير (1/ 273). (¬2) في الأصل (مصري)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (قال). (¬5) اللباب في الأنساب (1/ 158).

ليثي له [وفادة ورواية] (¬1) روى خمسة عشر حديثًا. اتفقا على حديثين وللبخاري حديث واحد نزل البصرة. ومات بها سنة أربع وتسعين. السادس: قوله: "فقلت لأبي قلابة" القائل له [أبو] (¬2) أيوب ابن أبي تميمة [كيساني] (¬3) السختياني البصري، سيد شباب أهل البصرة الثقة. مات سنة إحدى وثلاثين ومائة عن ثلاث وستين سنة، وهذا الشيخ هو عمرو بن سلِمة -بكسر اللام- وسلمة قبيلة معروفة من الأنصار، والنسبة إليهم سلَمى -بفتح اللام- وكسرها كثير من المحدثين كنيته أبو بريد- بموحدة مضمومة ثم راء. وقيل: بمثناة فوق ثم زاي- واختلف [في] (¬4) رؤية عمرو وسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - والأشهر عدمها، ولأبيه وفادة، وروى عن عمرو جماعة من التابعين، وهو معدود فيمن نزل [البصرة] (¬5) وروى له: خ. د. س (¬6). السابع: قوله: "إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة" إني أصلي صلاة لقصد التعليم لا لغيره من مقاصد الصلاة، ونظير هذا الحديث ما تقدم من حديث عبد الله بن زيد وحديث عثمان في الوضوء، ويشبه أن يكون قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث المتقدم ¬

_ (¬1) في ن ب (وفاد راوية). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب د (كيسان). (¬4) في ن د ساقطة. (¬5) في ن ب د (بالبصرة). (¬6) هذه رموز (خ: للبخاري، د: لأبي داود، س: للنسائي).

" [قوموا] (¬1) فلأصلي لكم" من هذا الباب، وأنه قصد التعليم، وكذا حديث سهل في صلاته على المنبر الآتي في الجمعة، ففي ذلك جميعه دليل على جواز فعل مثل ذلك، وليس هو من باب التشريك في العمل، والظاهر أنه من فعل ذلك يكون له أجر الصلاة التي قصد بها التعظيم مع أجر التعليم، لا أجر التعليم خاصة. الثامن: فيه دليل على البيان بالفعل وأُجْرِيَ مجرى القول وإن كان البيان بالقول أقوى في الدلالة على آحاد الأفعال إذا كان القول ناصًّا على كل فرد منها. التاسع: هذا الحديث دليل ظاهر على إثبات جلسة الاستراحة عقب الفراغ من الركعة الأولى والثالثة، [لقوله] (¬2): " [وكان] (¬3) يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض" وهو أصح قولي الشافعي. وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد: إلى عدم استحبابها، وبه قال كثيرون أو الأكثرون، كما نقله عنهم النووي [في] (¬4) (شرح المهذب) (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (يقول). (¬3) في ن ب (فكان). (¬4) في ن ب ساقطة (بشرح). (¬5) (3/ 443).

وقال القاضي عياض: قال بها الشافعي ونفاها مالك وسائر الفقهاء. وقال مرة، نفاها الجمهور. وقال الإِمام أحمد: أكثر الأحاديث عليه، وحملوا الحديث على أنها إنما فعلت بسبب الضعف [للكبر] (¬1) لا لأنها مقصودة لقصد القربة. وقد فصَّل [بعض] (¬2) أصحاب الشافعي في استحبابها بين الشاب القوي والشيخ الضعيف، [فقال] (¬3): لا تستحب للشاب، وتستحب لغيره. واختاره الشيخ [عز] (¬4) الدين في (الفتاوى الموصلية) (¬5). [و] (¬6) في الموطأ (¬7) عن المغيرة بن حكيم: "أنه رأى عبد الله بن عمر [...] (¬8) يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه. قال: فلما انصرف ذكرت ذلك له، فقال: "إنها ¬

_ (¬1) في ن ب (للكثير). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل (فقل)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) في ن ب (تقي). (¬5) الفتاوى الموصلية (فتاوى شيخ الإِسلام عز الدين بن عبد السلام (421). (¬6) زيادة من ن ب د. (¬7) الموطأ (1/ 89)، والاستذكار (4/ 267)، والبيهقي (2/ 124). (¬8) في ن ب د زيادة (واو).

ليست بسنة الصلاة، وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي"، وقوله: "ليست بسنة الصلاة" من المرفوع، وفي حديث آخر في فعل آخر لابن عمر أنه قيل له في ذلك قال: "إن رجلاي لا تحملاني" (¬1). والأفعال إذا كانت للجبلة أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القرب المطلوبة، فإن تأيد هذا التأويل بقرينة تدل عليه مثل إن تبين أن أفعاله [السالفة] (¬2) على حالة الكبر والضعف، لم تكن فيها هذه الجلسة أو يقترن فعلها بحالة الكبر من غير أن يدل دليل على قصد القربة، فلا بأس بهذا التأويل، وقد رجح في علم الأصول أن ما لم يكن من الأفعال مخصوصًا بالرسول ولا جاريًا مجرى أفعال الجبلة، ولا ظهر أنه بيانًا لمجمل، ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره، فكما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا، فإن ظهر فمندوب وإلَّا فمباح، لكن لقائل أن يقول: ما وقع في الصلاة، فالظاهر [أنه] (¬3) من هيئتها، لا سيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه [وهو] (¬4) أقوى إلَّا أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب [الكبر أو الضعف] (¬5) فتظهر حينئذ [تلك] (¬6) القرينة أن ¬

_ (¬1) البخاري (827)، والموطأ (1/ 90). (¬2) في ن ب د (السابقة). (¬3) في ن ب (أن). (¬4) في ن ب د (وهذا). (¬5) في الأصل (الكبير أو الضعيف)، والتصحيح من ن ب د. (¬6) في ن ب د (بتلك).

ذلك أمر جبلي، فإن قوي باستمرار عمل السلف على ترك الجلوس فهو زيادة في الرجحان [للترك] (¬1) مع أن [في] (¬2) فعلها تنبيهًا على الاستعانة على النشاط في القيام للصلاة وإظهار [الضعف] (¬3) بين يدي الله -تعالى- ولهذا إذا نهض إلى القيام يقوم كالعاجز [...] (¬4) [لا] (¬5) كالقادر، فهو أقرب إلى الخشوع الذي هو جل مطلوب الصلاة. واحتج بعض الشراح من المالكية لمذهبه بحديث وائل بن حجر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا رفع رأسه من السجود استوى قائمًا" (¬6). قال: فيكون هذا في حال الصحة، ¬

_ (¬1) في الأصل (للتبرك)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب د (التضعف). (¬4) في ن ب زيادة (في). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) قال ابن حجر في التلخيص (1/ 259): حديث وائل بن حجر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائمًا"، هذا الحديث بيض له المنذري في الكلام على المهذب وذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف، وذكره في شرح المهذب، فقال: غريب ولم يخرجه، وظفرت به في سنة أربعين في مسند البزار، في أثناء حديث طويل في صفة الوضوء والصلاة، وقد روى الطبراني عن معاذ في أثناء حديث طويل: "أنه كان يمكن جبهته وأنفه من الأرض، ثم يقوم كأنه السهم" وفي إسناده الخطيب بن جحدر. وقد كذبه شعبة، ويحيى القطان، ولأبي داود: "وإذا نهض نهض على =

وذاك [في] (¬1) [حال] (¬2) الضعف جمعًا بين الحديثين، فإنه أولى من إطراح أحدهما، وهذا كلام فقيه صرف؛ فالحديث الذي استدل به لنفيها لا يعرف مخرجه البتة. وادعى الطحاوي الحنفي: أنها لم ترد في حديث أبي حميد الساعدي، وهو غريب منه مع جلالته، فقد أخرجها من حديثه في [غيره] (¬3) من الصحابة الترمذي وقال: حسن صحيح (¬4)، وتبع القاضي عياض الطحاوي فقال: حجة الجمهور في نفيها حديث أبي حميد الساعدي: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقوم ¬

_ = ركبتيه، واعتمد على فخذيه"، وروى ابن المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش قال: "أدركت غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا رفع رأسه عن السجدة في أول ركعة، وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس". (¬1) في ن د ساقطة. (¬2) في الأصل (خلل)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في ن د (عشرة). (¬4) الترمذي (305) في الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، وابن ماجه (1061) في الإِقامة، باب: إتمام الصلاة، وأبو داود (730) في الصلاة، باب: افتتاح الصلاة (963)، باب: من ذكر التورك في الرابعة عن أحمد بن حنبل، وابن خزيمة (588)، والدارمي (1/ 313، 314)، وابن حبان (1865، 1866، 1867)، والبيهقي في السنن (2/ 72، 118)، ولفظه: بعد الفراغ من السجدة الثانية قال: "ثم ثنى رجليه وقعد، واعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه".

ولا يتورك. وقد علمت ورودها وصحتها. ووهم بعضهم فادعى أنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته. وأجاب عنه النووي (في شرح المهذب) (¬1) بأن قال إنما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الواجبات دون المسنونات، وهو غريب منه فهي مذكورة فيه في صحيح البخاري (¬2) إلَّا في كتاب الاستئذان في باب ¬

_ (¬1) (3/ 443). (¬2) كتاب الاستئذان (11/ 36)، ومسلم (397)، وأبو داود باب صلاه ما لا يقيم صلبه في الركوع ولا في والسجود، والبغوي (552)، والبيهقي (2/ 126)، وابن ماجه (1060)، ولفظه: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا". قال البخاري عقب روايته: وقال أبو أسامة في الأخير: "حتى تستوي قائمًا". قال ابن حجر في الفتح (2/ 279): تنبيه: وقع في رواية ابن نمير في الاستئذان بعد ذكر السجود الثاني: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا"، وقد قال بعصهم. فإذا يدل على إيجاب جلسة الاستراحة ولم يقل به أحد. وأشار البخاري إلى أن هذه اللفظة وهم، فإنه عقبه بأن قال: "قال أبو أسامة في الأخير حتى تستوي قائمًا"، ويمكن أن يحمل إن كان محفوظًا على الجلوس للتشهد، ويقويه رواية إسحاق المذكورة قريبًا، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير بلفظ: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اقعد حتى تطمئن قاعدًا ثم افعل ذلك في كل ركعة"، وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال: كذا قال والصحيح "باختصار" لفظ: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا". انظر: تخريجه في باب الطمأنينة الحديث الأول.

[من] (¬1) رد فقال: عليكم السلام. من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قال-[للمسيء] (¬2) صلاته-: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم [ارفع] (¬3) حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم [ارفع] (¬4) حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك [في] (¬5) صلاتك كلها"، فاستفد ذلك، بل لو ادعى وجوبها عملًا بهذا الجواب أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما علمه الواجبات، لم يبعد، لكن لا أعلم من قال به، وقد ذكرت في (شرح المنهاج): مقدار هذه الجلسة، وصفة جلوسها، وما يتعلق بها، فراجع ذلك منه، فإنه أليق به (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (المسىء). (¬3) في ن ب (ارتفع). (¬4) في ن ب (ارتفع). (¬5) في ن د ساقطة. (¬6) سئل شيخ الإِسلام في الفتاوى (22/ 451) عن جلسة الاستراحة فبعد ذكر الأقوال فيها، وهما قولان: الاستحباب، وعدمه. قال: ومثل هذه المسائل هي من مسائل الاجتهاد، والأقوى أن متابعة الإِمام أولى من التخلف، لفعل مستحب، والله أعلم. أما ابن اسم فنقل عنه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله في التقريب (144) قائلًا: وظاهر كلامه أنها ليست من سنن الصلاة، وصرح بذلك في كتاب الصلاة، زاد المعاد (1/ 61)، وكتاب الصلاة (ص 125، 126)، وأعلام الموقعين (2/ 201). للاستزادة، انظر: جزء في كيفية النهوض في الصلاة وضعف حديث =

العاشر: فيه دلالة على ائتمام المفترض بالمتنفل خلافًا لمالك، وجه الدلالة أن غالب الصلاة في المسجد الفرض. والظاهر أن صلاة مالك بن الحويرث نافلة لقوله: "وما أريد الصلاة"، فتأمله. ¬

_ = العجن (98 - 106)، وفيه نقول مفيدة، وقال في آخره: إنما كتب هذا بحثًا لا تقريرًا، أي لم يتم رأي الشيخ بكر بعد.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 94/ 11/ 15 - عن عبد الله بن مالك ابن بحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا صلى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه" (¬1). الكلام عليه من وجوه عشرة: [أحدها] (¬2): التعريف براويه هو أبو محمد عبد الله بن مالك بن القِشْب -بكسر القاف وسكون الشين المعجمة ثم باء موحدة- واسمه جندب بن نضلة الأزدي صحابي بن صحابي وأمه بحينة صحابية، وقيل إنها أم أبيه، كان ناسكًا فاضلًا، يصوم الدهر. واسم بحينة عبدة بنت الحارث وهو الأرت، وعبد الله هذا أحد المنسوبين إلى أمهاتهم فعلى هذا يكتب ابن بالألف ويقرأ مالك ¬

_ (¬1) البخاري (390) في الصلاة، باب: يبدي ضبعية ويجافي في السجود (807) في الأذان، باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود (3564) في المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (495) في الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختتم به، والنسائي (2/ 212) في التطبيق، باب: صفة السجود، وابن خزيمة (648)، والبيهقي (2/ 114)، وابن حبان (1919)، وأبو عوانة (2/ 185). (¬2) في ن ب (الأول).

منونًا، وقد أوضحت ذلك فيما أفردته في أسماء هذا الكتاب، فسارع إليه [و] (¬1) روى عدة أحاديث، روى له الشيخان أربعة منها. قال أبو عمر: [...] (¬2) مات في خلافة معاوية، قال ابن الأثير: ما بين سنة أربع وخمسين وثمان وخمسين. الثاني: قد تقدم أنّ "كان" هذه تدل على الملازمة والتكرار. الثالث: قوله "فرَّج" -بتشديد الراء- أي رفعهما عن جنبيه حال وضع كفيه على الأرض وبعده حتى يرفع من السجود وتسميه [الفقهاء] (¬3) مجافاة المرفقين عن الجنببن، ويسمى أيضًا تَخْويةً وتجنيحًا والكل في الحديث، وفي رواية (¬4) "جخي" والجميع بمعنى واحد. الرابع: قوله: "حتى يبدو بياض إبطيه" [بمعنى] (¬5) يبالغ في رفع مرفقيه وساعديه عن الأرض مبالغة بحيث يرى الأجنبي بياض إبطيه لشدة رفعهما والمعنى فيه إعمال اليدين في الصلاة، وإخراج هيئتها إلى صفة الاجتهاد عن صفة التكاسل والاستهانة بالعبادة، ولأنها أيضًا هيئة تدل على التواضع وهي أبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (واو). (¬3) في ن ب (الفقا). (¬4) النسائي (2/ 212). (¬5) في ن ب د (يعني).

واعلم: أني رأيت في شرح هذا الكتاب للفاكهي أن قوله: "حتى يبدو بياض إبطيه" يروى بالنون وبالياء المثناة تحت والمحفوظ المعروف في ذلك الياء المضمومة على ما لم يسم فاعله، هذا لفظه وهو عجيب، بل لا يتأتى النطق بما ذكره وهذا الاختلاف إنما هو مذكور في رواية مسلم (¬1): "كان يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه"، فإنه روى بالنون في يرى وبالمثناة تحت المضمومة. قال النووي (¬2) في (شرحه [لمسلم]) (¬3): وكلاهما صحيح. وقال القاضي: لا وجه لفتح النون، فهذا وهم حصل من انتقال نظري. الخامس: الإِبط: ما تحت الجناح يذكر ويؤنث والجمع: آباط. قاله الجوهري: والإِبط أيضًا من الرمل منقطع معظمه (¬4). السادس: فيه استحباب مجافاة اليدين كما مر، قال القاضي: وإليه ذهب جماعة السلف والعلماء إلَّا إحدى روايتي ابن عمر. قلت: وذلك في حق الرجال. أما النساء: فالضم مستحب في حقهن لأنه أستر لهن، وفيه ¬

_ (¬1) مسلم (497). (¬2) (4/ 211). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) انظر: لسان العرب (1/ 47).

حديث مرسل في مراسيل أبي داود، وروى وصله أيضًا (¬1)، والخنثى: كالمرأة، لأنه أحوط. وقال أبو الفتوح (¬2): من أصحابنا لا تستحب له مجافاة ولا ضم، لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر. السابع: لفظ الحديث في الكتاب ليس مقيدًا بالسجود فيدخل فيه الركوع أيضًا، لأن قوله: "كان إذا صلى فرّج"، يشملهما، وقد يلزم من ذلك الحمل على الجبهة في السجود ولا يكفي الإِمساس وهو الأصح عندنا خلافًا للغزالي. الثامن: فيه دليل أيضًا على عدم بسط اليدين على الأرض، فإنه لا يرى بياض الإِبطين مع بسطهما. التاسع: فيه أيضًا الاقتداء بفعله كما يقتدى بقوله. العاشر: قوله: "حتى يبدو بياض إبطيه"، [و] (¬3) قد أسلفنا الرواية الأخرى "حتى يرى وضح إبطيه" [وجاء] (¬4)، في [رواية لمسلم (¬5) في حديث ميمونة: "كان إذا سجد خوى بيديه حتى يرى ¬

_ (¬1) المراسيل (130)، قال ابن حجر: ورواه البيهقي من طريقين موصولين، لكن في كل منهما متروك. اهـ، من التخليص (1/ 42). (¬2) هو أحمد بن محمد بن محمد الغزالي وهو أخو الغزالي. النظر: ترجمته عيون التواريخ (12/ 175)، وتاريخ إربل (1/ 33)، ووفيات ابن قنفذ (272). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) مسلم (395).

وضح إبطيه"] (¬1)، وفي رواية "حتى إني لأرى بياض إبطيه". قال ابن أبي جمرة -رحمه الله- في (إقليد التقليد على المدونة) (¬2): استدل بعضهم على سعة الأكمام بهذا الحديث، لأنه لا يُرى بياض إبطيه إلَّا مع سعة [الكم] (¬3)، وفي الأثر (¬4): "كانت ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال في طبقات الشافعية للسبكي (8/ 24)، ولابن القليوبي "شرح على التنبيه" أنه استنبط من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ ...} الآية، أن ما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم، من سعة الأكمام وكبر العمة، ولبس الطيالس حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييز لهم، يعرفون به، ويلتفت إلى فتاويهم وأقوالهم. أقول: هذا خلاف ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث أنه لم يتميز عن أصحابه بلباس، ولذا كان يجلس معهم ولا يعرفه الغريب. ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ليس ثوب الشهرة. (¬3) في الأصل (اللام)، والتصحيح من ب د. (¬4) في الترمذي (1782) عن أبي كبشة "بلفظ كانت كمام أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بُطحًا". قال الترمذي: هذا حديث منكر. انظر: ميزان الاعتدال للذهبي (2/ 397). وجاء في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الشيخ (91) عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: "كانت كمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحًا". قال في النهاية (4/ 200)، وفي رواية: "أكمة" هما جمع كثرة وقلة لكلمة القلنسوة، يعني أنها كانت منبطحة غير منتقبة. اهـ. وقال ابن الجوزي في غريبه (1/ 75) الكمام جمع كُمة: وهي القلنسوة. وقال في النهاية (1/ 135)، وغريب ابن الجوزي (1/ 75)، والغريبين =

أكمام الصحابة بطحًا"، أي واسعة، وإنما كانت ضيقة في الأسفار، انتهى. وللمانع أن يقول: تقدير الحديث حتى يبدو بياض إبطيه لولا الساتر: وهو القميص، فإنه كان أحب الثياب إليه، كما أخرجه الترمذي في "شمائله" من حديث أم سلمة (¬1). ¬

_ = (1/ 179): "بطحا" لازقة بالراس غير ذاهبة في الهواء -أي منصبة-. قال القاري في شرح المشكاة على حديث (4333)، ومعنى: "بطحاء" أنها كانت عريضة واسعة فهو جمع أبطح من قولهم للأرض المتسعة بطحاء، والمراد أنها ما كانت ضيقة رومية أو هندية، بل كان وسعها بقدر شبر كما سبق. وأشار بقوله كما سبق إلى ما نقل عن بعض كتب الحنفية: أنه يستحب اتساع الكم بقدر شبر. وقال ابن حجر المكي: وأما ما نقل عن الصحابة من اتساع الكم فمبني على توهم أن "الأكمام" جمع "كم" وليس كذلك، بل جمع "كمة" وهو ما يجعل على الرأس كالقلنسوة. فكأن قائل ذلك لم يسمع قول الأئمة أن من البدع اتساع الكمين. قال القاري: ويحمل على الاتساع المفرط. اهـ. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وصار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء حتى ترى أحدهم ويجعل لنفسه كمين كل واحد منهما يصلح جبة لصغير من أولاده أو يتيم. اهـ. وأما الأكمام الضيقة: فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس جبة رومية ضيقة الكمين من حديث المغيرة. انظر: تخريجه في باب المسح على الخفين. (¬1) أخرجه الترمذي في الشمائل (46)، وفي السنن في كتاب اللباس (1762)، وابن ماجه (3575)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد (6/ 317)، والحاكم (2/ 192)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

وقد قال الشيخ عز الدين في (فتاويه) توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف وتضييع للمال (¬1) [وكذا قال المحب الطبري في (أحكامه) في باب الاستسقاء. مما يعد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن الإِبط من سائر الناس متغير بخلافه (¬2)] (¬3) [فائدة جليلة روى] (¬4) [] (¬5). ¬

_ (¬1) وكذا قال الصنعاني في إحكام الأحكام (2/ 340): فيه أن سعة الأكمام من الأمور الحادثة المبتدعة لعله أحدثها بعض أمراء مصر ... إلخ. (¬2) قال الشيخ ابن باز في تعليقه على الفتح (2/ 295): مثل هذا التخصيص يحتاج إلى دليل، ولا أعلم في الأحاديث ما يدل على ما قاله المحب، فالأقرب ما قاله القرطبي، وهو: أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لرئي، قاله القرطبي، وهو ظاهر كثير من الأحاديث، ويحتمل أن يكون شعر إبطيه - صلى الله عليه وسلم - كان خفيفًا فلا يتضح للناظر من بعد سوى بياض الإِبطين، والله أعلم. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في ن ب د ساقطة. (¬5) في الأصل بمقدار كلمتين.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 95/ 12/ 15 - عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: "سألت أنس بن مالك: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في عليه؟! قال: نعم" (¬1). الكلام [عليه] (¬2) من وجوه ت [الأول] (¬3) أبو [مسلمة] (¬4) هذا أزدي، ويقال: طاحي -بطاءٍ وحاءٍ مهملتين- ووقع في "ثقات" ابن حبان بدل الطاحي: الطحان. والظاهر أنه تصحيف، وهو بصري تابعي صغير ثقة، مات سنة اثنين وثلاثين ومائة. ثانيها: "النعل" معروف، والصلاة فيه جائزة، لكن لا توصف بالاستحباب لكونه خارجًا عن المطلوب في الصلاة، وهو عدم الزينة الشاغلة عن استكمال هيئة الجلوس والسجود ونحوهما. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في (386)، ومسلم (555)، والترمذي (400)، والنسائي (2/ 74). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (أحدها). (¬4) في الأصل (سلمة)، وما أثبت من ن ب د.

فان قلت: إن لبسهما من باب التزين للصلاة والتجمل لها كالأردية والثياب الحسنة فيكون مستحبًا. فالجواب: أن التزين والتجمل إنما يستحب إذا لم يكن مانع من الإِلهاء كالخميصة أو يلبس بقذر أو وسخ غالبًا: كالنعال، فتحط رتبة الصلاة فيها عن الاستحباب، ويبقى الجواز ولمراعاة مصالح الصلاة من أمر النجاسة أولى من التحسين فإنه ضروري، فيعمل بالحديث في الجواز ما لم يمنع منه مانع في عدم الاستحباب. وادعى بعض الشراح: أن التزين والتجمل في الصلاة لم يرد نص خاص [به] (¬1) وإنما هما داخلان في عموم قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فالله أحق من تزين [له] (¬2) ": "إن الله جميل يحب [الجمال] (¬3) " (¬4). [وهذه] (¬5) غفلة عن صدر الحديث فإن في أوله: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله [أحق] (¬6) من تزين له" رواه البيهقي (¬7) وابن المنذر وكذلك قال ابن القطان ¬

_ (¬1) في ن ب (منه). (¬2) في الأصل (الله)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) في ن ب (الجميل). (¬4) مسلم (91) في الإِيمان، والترمذي (1998، 1999)، وأبو داود (4091) في اللباس، وابن ماجه (4173) في الزهد، وأحمد (1/ 412، 416، 399)، وابن مسنده في الإِيمان (542)، وابن حبان (224، 5466)، وابن خزيمة في التوحيد (ص 384)، وأبو عوانة (1/ 31). (¬5) في ن ب د (وهذا). (¬6) في الأصل (أن)، وما أثبت من ن ب د. (¬7) السنن للبيهقي (2/ 236).

في كتاب "الوهم والإِيهام" وهو طريق جيد. ثالثها: قد يستدل بالحديث على جواز العمل بالأصل في حكم [الطهارة] (¬1) والنجاسة، وقد اختلف الفقهاء في تعارض الأصل، والظاهر أيهما يقدم؟ نعم قد يعارض هذا بأنه - عليه الصلاة والسلام - أمر بالنظر إلى النعلين، ودلكهما بالأرض إن كان فيهما أذى، فلو لم يكن الغالب إصابة القذر للنعل لم يؤمر بذلك ودلّ ذلك على أن دلكهما طهورهما إن فسر الأذى بالظاهر المستقذر وإن فسر بالنجس، فهو قول للشافعي -رحمه الله-، وإذا كان كذلك لم يكن هذا من باب تعارض الأصل [والغالب] (¬2)، وإنما هو من باب البيان، كما لو صلى فيهما من غير دلك، مع أن الأصل عدم الدلك، لكن الشارع إذا أمر بشيء لم يترك، والظن المستفاد من الدلك أرجح من عدمه. تنبيه: التحقيق في تعارض الأصل والغالب أنه إن كان الغالب الظاهر اتبع ما لم يعارضه غيره، وإلَّا عمل بالأصل، ورجح بعض المالكية تقديم الغالب على الأصل، إلَّا في موضع [يلزم] (¬3) من تقديمه حرج أو إضاعة مال محترم [كطعام] (¬4) [أهل] (¬5) الكتاب، فإن الأصل طهارته، والغالب نجاسته، لأنهم لا يتوقونها، ويلزم ¬

_ (¬1) في ن ب (الصلاة). (¬2) في ن ب (والظاهر). (¬3) في ن ب (يلزمه). (¬4) في ن د ساقطة. (¬5) في ن ب (لطعام).

من اجتنابه حرج، والأمر بغسل اليدين عند القيام من النوم قدم فيه الغالب لانتفاء الحرج فيه، وقدم فيما نحن فيه الأصل لما في غسل النعل في كل وقت من الضرر. [رابعها] (¬1): "نعم" حرف عدة وتصديق وجواب الاستفهام، سمع فيه كسر العين والأكثر الفتح، وهو قائم في الكلام مقام الجملة المفيدة، وذلك من محاسن كلام العرب. [خامسها] (¬2): قد قدمنا جواز الصلاة في النعلين من غير استحباب. قال الشيخ تقي الدين (¬3): ولا يؤخذ من الحديث الاستحباب لما سلف. وعبارة القاضي عياض (¬4): أنه رخصة مباحة. وفي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان (¬5) من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خالفوا اليهود، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (رابعها). (¬3) إحكام الأحكام (2/ 344). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 251). (¬5) أبو داود (652) في الصلاة، باب: الصلاة في النعل، وابن حبان (2186)، والبغوي (534)، والبيهقي (2/ 432)، والحاكم (1/ 260)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقد انفرد ابن حبان بزيادة لفظة "النصارى"، والطبراني (7164، 7165).

فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" وظاهره أن ذلك سنة لأجل المخالفة. وقال الغزالي في (الإِحياء): الصلاة في النعلين جائزة، وإن كان نزع النعلين سهلًا، فليست الرخصة في الخف لعسر النزع، بل هذه النجاسة معفو عنها، قال: وفي معناها المداس، قال: وقال بعضهم: الصلاة في النعلين أفضل [قال] (¬1) فمن خلع فينبغي أن لا يضع عن يمينه ويساره، بل يضع بين يديه (¬2) ولا يتركه وراءه فيكون قلبه ملتفتًا إليه، قال: ولعل من رأى الصلاة فيه أفضل راعى هذا المعنى. قلت: وأظهر من هذا أنه راعي المخالفة كما أسلفته. قال: ووضعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يساره وكان إمامًا فللإِمام أن يفعل ذلك، إذ لا يقف أحد [عن] (¬3) يساره (¬4)، والأولى أن لا يضعهما ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬2) لورود حديث بذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذي بهما أحدًا وليجعلها بين رجليه أو ليصل فيهما". أبو داود (655)، والبيهقي (2/ 432)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/ 260)، والبغوي (301)، وابن حبان (2182، 2183، 2187، 2188). (¬3) في الأصل (على)، والتصحيح من ن ب د. (¬4) عن عبد الله بن السائب قال: "حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وصلى في الكعبة فخلع نعليه، فوضعهما عن يساره. ... " إلخ. أخرجه أحمد (3/ 411)، وابن ماجه (1431)، وأبو داود (648)، والنسائي (2/ 74)، وابن خزيمة (1014، 1015)، وابن حبان (1815، 2189).

بين قدميه فيشغلاه، ولكن قدام قدميه، ولعله المراد بالحديث (¬1). سادسها: قد [يؤخذ] (¬2) من الحديث أنه يجوز المشي في المسجد بالنعل، وقد استنبطه النووي أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري، لما خلع نعله في الصلاة فخلع الناس [نعالهم] (¬3) [الحديث] (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية في الفتاوى (22/ 165): ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يصلون تارةً في نعالهم، وتارة حفاة كما في سنن أبي داود (650)، والمسند (3/ 20، 92)، ثم قال بعد سياق الحديث: ففي هذا بيان أن صلاتهم في نعالهم، وأن ذلك كان يفعل في المسجد إذ لم يكن يوطأ بهما على مفارش. وانظر: كلام ابن القيم ورده على الموسوسين في إغاثة اللهفان (1/ 147)، ومدارج السالكين (3/ 419). وقال ابن حجر في الفتح (1/ 495) مستدركًا على ابن دقيق العيد الذي جعل خلع النعلين أولى وجعلهما من باب الرخص. قلت: قد ورد حدث شداد بن أوس: "خالفوا اليهود ... " الخ. فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة ... إلخ. (¬2) في ن ب (يقصد). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن د ساقطة. (¬5) أبو داود (650)، وأحمد (3/ 20، 92)، والطيالسي (2154)، والدارمي (1/ 320)، والبيهقي (2/ 431)، وأبو يعلى (1194)، وابن حبان (2185)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/ 260).

فائدة: رأيت أنا ذكرها [هنا] (¬1) قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا في جواز لبس النعال السبتية [في غير المقابر] (¬2) وكرهها قوم في المقابر لحديث (¬3): "ألقِ سبتيتيك" وقال قوم: يجوز ذلك لحديث: ["إذا وضع الميت في قبره إنه ليسمع قرع نعالهم" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (ها هنا). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أحمد (5/ 83، 84، 224)، والنسائي (4/ 96)، وأبو داود (3230)، وابن ماجه (1568)، وابن حبان (3170)، وابن أبي شيبة (3/ 396)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/ 373). (¬4) عبد الرزاق (6703)، وابن أبي شيبة (3/ 283، 384)، وهناد السري في الزهد (338)، والطبري في التفسير (3/ 215، 216)، والبيهقى في الاعتقاد (ص 220، 222)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (67)، وابن حبان (3113، 3118، 3120)، والحاكم (1/ 379)، وصححه ووافقه الذهبي. قال البغوي (في السنة 5/ 413، 414) بعد أن أورد حديث أبي هريرة "إن الميت ليسمع حس نعالهم": فيه دليل على جواز المشي في النعال بحضرة القبور وبين ظهرانيها، ثم ذكر حديث بشير بن الخصاصية، وقال: قذهب بعض الناس إلى كراهية المشي بين القبور في النعال، وقيل إن أهل القبور يؤذيهم صوت النعال، والعامة على أن لا كراهة فيه، والأمر بالنزع قيل: إنما كان لأن أكثر أهل الجاهلية كانوا يلبسونها غير مدبوغة إلَّا أهل السعة منهم، فأمر بنزعها لنجاستها، وقال أبو عبيد: أراه أمره بذلك لقذر رآه في نعليه، فكره أن يطأ بهما القبور كما كره أن يحدث الرجل بين القبور. وقال أبو سليمان الخطابي: يشبه أن يكون إنما كُره لما فيه من الخيلاء، =

قلت: وذكر الحكيم الترمذي (¬1)، في "نوادر الأصول": "أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما قال له: "ألقِ سبتيتيك"] (¬2) لأن الميت كان يسأل، فلما صر نعل ذلك الرجل شغله عن جواب الملكين، فكاد يهلك، لولا أن ثبته الله. ¬

_ = وذلك أن نعال السَّبت من لباس أهل الترفه والتنعُّم، فأحب - صلى الله عليه وسلم -، أن يكون دخول المقابر في زي التواضع ولباس أهل الخشوع، والله أعلم به. (¬1) نوادر الأصول للحكيم الترمذي (244)، قال بعد سياق الحديث، وفي رواية: "ألق سبتيتيك لا تشغله". وهذا الكتاب الأحاديث الواردة فيه بدون إسناد فيحتاج إلى نظر. (¬2) في ن ب ساقطة.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 96/ 13/ 15 - عن أبي قتادة الأنصاري، - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي وهو حامل أمامة ابنة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: أبو قتادة تقدم التعريف به في باب الاستطابة. ثانيها: أمامة: هذه ولدت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان [رسول الله] (¬2) - صلى الله عليه وسلم - يحبها، ويحملها في الصلاة، تزوجت بعلي بعد ¬

_ (¬1) البخاري (516) في الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة و (5996)، ومسلم (543) في المساجد، والنسائي (3/ 10) في السهو، باب: حمل الصبايا في الصلاة، والدارمي (1/ 316)، والموطأ (1/ 170) في قصر الصلاة في السفر، وأبو داود (917) في الصلاة، باب: العمل في الصلاة، وأحمد (5/ 295، 296، 297، 303، 304، 310، 311)، والحميدي (422)، والشافعي (1/ 96)، وابن حبان (1109، 1110)، والطبراني في الكبير (22/ 1066 حتى 1071). (¬2) في ن ب ساقطة.

وفاة فاطمة بوصاية فاطمة رضي الله عنهم، وتزوجها بعد وفاة علي المغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب] (¬1) بوصاية علي، لأنه [يخاف] (¬2) أن يتزوجها معاوية، فولدت للمغيرة يحيى وبه كان يكنى، وهلكت عن المغيرة، وقيل: إنها لم تلد لعلي ولا [للمغيرة] (¬3). ثالثها: "زينب" بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدتها خديجة في الجاهلية سنة ثلاثين من الفيل، وهي أكبر بناته، واختلف بين القاسم وبينها أيهما أكبر، تزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، فلما أسر يوم بدر وفادى نفسه وأطلق، أخذ [] (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم -[عليه] (¬5) العهد أن ينفذها [إليه] (¬6) إذا عاد إلى مكة، ففعل فجاءت مهاجرة إلى المدينة، وولدت من أبي العاص غلامًا، يقال له: علي، وجارية، يقال لها: أمامة السالفة [فلما] (¬7) أسلم أبو العاص وهاجر، ردها النبي [- صلى الله عليه وسلم - إليه] (¬8) بالنكاح الأول. وقيل: بعقد جديد، وماتت بالمدينة سنة ثمان، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرها. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب د (وخاف). (¬3) في الأصل (لغيره)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب زيادة (عليه). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب د (ولما). (¬8) في ن ب تقديم وتأخير.

رابعها: "أبو العاص" فهو ابن الربيع بن عبد العزى بن عبد العاص بن شمس وأسقط المصنف عبد العزى، ووقع في الموطأ (¬1) "ربيعة" بدل "ربيع"، وكذا رواه البخاري (¬2) من رواية مالك، وقال الأصيلي: هذا نسبة إلى الجد (¬3). وقال الشيخ تقي الدين: هذا قاله بعضهم وأن "ربيعه" بعد "الربيع"، وهذا ليس بمعروف. وفي اسمه أقوال: مُهَشم. وقيل: مقسم. وقيل: لقيط. وقيل: ياسر. وقيل: القاسم. وقيل: هشيم. أمه: هالة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة لأبيها وأمها. قال أبو عمر: وكان أبو العاص مواخيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مصاهرته، وأثنى عليه خيرًا، هاجرت زينب وتركته على شركه حتى كان قبل الفتح أسلم وهاجر، فردها عليه كما سلف مات ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 246) من رواية الأصيلي. (¬2) البخاري (516). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/ 591): نعم نسبه مالك إلى جده في قوله: "ابن عبد شمس"، وإنما هو ابن عبد العزى بن عبد شمس.

في ذي الحجة سنة [اثنتي] (¬1) عشرة، ويقال: إنه استشهد في بعض المغازي، ثم أحرق بالنار حتى صار فحمة - رضي الله عنه -. وأما قول المصنف: "ولأبي العاص بن الربيع" دون نسبة أمامة إليه، وإنما نسبها إلى [أمها تنبيهًا على أن الولد إنما ينسب إلى] (¬2) أشرف أبوبه دينًا ونسبًا، لأنه - عليه السلام - لما حملها كان أبوها مشركًا، وكانت أمها هاجرت فنسبها إليها دونه وبيّن بعبارة لطيفة أنها لأبي العاص بن الربيع تحريًا للأدب في نسبتها، نبه على ذلك الشيخ علاء الدين بن العطار -رحمه الله-. [خامسها] (¬3): في أحكامه وفوائده. الأولى: فيه دلالة على صحة صلاة من حمل آدميًّا أو حيوانًا طاهرًا من طير أو شاة وغيرهما، وإن كان غير مستجمر؛ لأنه الغالب على الصغار، بل على الكبار في ذلك الوقت، ولو قيل: الغالب على الصغار عدم الاستنجاء [لكان] (¬4) سائغًا. الثانية: فيه أن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة، حتى يتحقق نجاستها، وكره الحسن الصلاة في ثوب الأطفال، حكاه عنه المحب الطبري في (أحكامه) في باب: ما يعفى عنه من الفعل. ¬

_ (¬1) في ن د (اثنتي). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب (رابعها). (¬4) في الأصل ساقطة، ومثبتة من ن ب د.

الثالثة: أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وكذا الكثير المتفرق. الرابعة: فيه التواضع مع الصبيان وسائر الضعفة ورحمتهم وملاطفتهم. الخامسة: فيه دلالة للشافعي ومن وافقه على حمل الصبى والصبية في الصلاة، وسواء [الفرض في ذلك] (¬1) والنقل، وسواء [في ذلك] (¬2) الإِمام والمأموم والمنفرد. وحمله أصحاب مالك: على أن ذلك كان في النافلة، وحكاه القاضي عياض (¬3) عن ابن القاسم عن مالك، وأفسده النووي (¬4) بأن قوله في الصحيح: "يؤم الناس" صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة. قلت: بل ورد ذلك صريحًا، فروى أبو داود (¬5) في سننه: أن ذلك كان في [ظهر أو عصر] (¬6) وروى الزبير بن بكار في كتاب النسب، والطبراني (¬7) في أكبر معاجمه عن عمرو بن سليم: أن ذلك كان في صلاة الصبح. ¬

_ (¬1) تقديم وتأخير بن الأصل ون ب د. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 245). (¬4) شرح مسلم (5/ 32). (¬5) أبو داود (917) في الصلاة، باب: العمل في الصلاة. (¬6) في ن ب د (الظهر أو العصر). (¬7) الطبراني (22/ 442).

وادعى [بعض] (¬1) المالكية: أنه منسوخ. واستدلوا: بما روي عن مالك أنه منسوخ بتحريم العمل في الصلاة وهو حديث (¬2): "إن في الصلاة لشغلًا". ورده الشيخ تقي الدين (¬3): بأن حديث: "إن في الصلاة لشغلًا" كان [قبل قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة، وأن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان] (¬4) بعد ذلك، ثم لو ثبت أنه بعده لكان فيه إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يجوز. [وادعى بعضهم: أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قاله القاضي عياض (¬5)، معللًا بأنه - عليه الصلاة والسلام - يعصم من ملابسة بول الولد، وإذا كان يعصم من ذلك فهو خاص. وضعفه الشيخ تقي الدين (¬6): بأنه لا [يلزم] (¬7) إن كان قبل ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري أطرافه (1199)، ومسلم (538)، وأبو داود (923) في الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، والنسائي (3/ 19)، وابن خزيمة (855، 858)، وأحمد (1/ 376، 409، 415)، وابن أبي شيبة (2/ 73، 74)، والدارقطني (1/ 341) سيأتي في ح (113) التعليقة (3). (¬3) إحكام الأحكام (2/ 351). (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 245). (¬6) إحكام الأحكام (2/ 352). (¬7) في ن ب ساقطة.

قدوم عبد الله بن مسعود، لا يلزم من الاختصاص في أمر الاختصاص في آخر بلا دليل ولا مدخل للقياس في مثل هذا. والأصل عدم التخصص، وضعفه بغر ذلك أيضًا،. وادعى بعضهم (¬1): أنه كان لضرورة. قالوا: لرواية أشهب عن مالك أن ذلك كان لضرورة إذا لم يجد من يكفل الولد، ولا يجوز ذلك [بحب] (¬2) الولد. وفرق الباجي (¬3): بين الضرورة وغيرها، فقال: إذا لم يجد كافلًا يجوز فيهما وإلاَّ ففي النافلة فقط، ولا يخفى بطلان ذلك. وقال غيره: قد يكون حمله لها: لأنه لو تركها بكت، وشغلت سرّه في صلاته أكثر من شغله [لحملها (¬4)] (¬5). قال النووي (¬6): كل هذه الدعاوى باطلة أو مردودة، فإنه لا دليل عليها، ولا ضرورة إليها، وهو كما قال. وادعى الخطابي (¬7): أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد حملها في الصلاة، لكنها كانت تتعلق به فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يتوهم أن حملها ووضعها مرة بعد مرة عمدًا، لأنه ¬

_ (¬1) الاستذكار (6/ 314). (¬2) في ن د (لحب). (¬3) المنتقى (1/ 304). (¬4) في ن د (يحملها). (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) شرح مسلم (5/ 32). (¬7) معالم السنن (1/ 431).

عمل كثير، ويشغل القلب. فإذا كان علم الخميصة يشغله، فكيف لا يشغله هذا؟! وهذا باطل ودعوى مجردة، كما قاله النووي ومما يرده قوله: (وإذا قام حملها)، وفي رواية [في] (¬1) مسلم: "وإذا رفع من السجود أعادها"، وفي رواية له: "خرج علينا حاملًا أمامة فصلى"، وذكر الحديث. وأما قصة الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب [و] (¬2) إن شغله فيترتب عليه فوائد، فاحتمل ذلك الشغل لها بخلاف الخميصة. وقال الشيخ تاج الدين الفاكهي -رحمه الله-: كأن السر في حملها في الصلاة رفعًا لما كانت العرب [تأنفه] (¬3) من [كراهة] (¬4) حمل البنات كبرًا؛ فحملها على عنقه حتى في الصلاة. قال: ونظيره قوله - عليه السلام -: "الحج عرفة" (¬5) أي لا حج إلَّا عرفة على طريق المبالغة دفعًا لعادتهم من ترك الوقوف. وقد ذهب بعضهم إلى أن البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول أخذه من قضية الحلاق حين أمرهم - عليه السلام -[به] (¬6) فأبوا عليه أو بعضهم أو ترددوا فلم يكن إلَّا أن دعا حالقه فلم يتخلف منهم أحد (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب تألفه. (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) زيادة من ن ب د. (¬7) انظر: فتح الباري (1/ 592)، وإحكام الأحكام (2/ 350)، أي: الحلقِ في صلح الحديبية.

السادسة: فيه ترجيح الأصل، وهو الطهارة على الغالب. وفي كلام الشافعي إشارة إليه حيث قال: وثوب أمامة ثوب صبي. وأورد الشيخ تقي الدين (¬1) على هذا: بأن هذه حالة فردة، والناس يعتادون تنظيف الصبيان في بعض الأوقات، وتنظيف ثيابهم عن الأقذار، وحكايات الأحوال لا عموم لها، فيحتمل أن يكون هذا وقع في تلك الحالة التي وقع فيها التنظيف. واعترض بعضهم، فقال: هذا إيراد فيه ضعف. والشيخ أكبر من أن يعذر مثله، فإن الغالب عدم التنظيف بالنسبة إلى الصبيان عملًا بالوجدان. والحكم للغالب لا للنادر، فلا يصار إلى رد المذاهب المشهورة بالاحتمال المرجوح. السابعة: استدل النسائي (¬2) بهذا الحديث على جواز إدخال الصبيان المساجد فإن عورض بالنهي عنه فهو ضعيف (¬3). الثامنة: استدل به كما قال الشيخ تقي الدين (¬4) على أن حمل ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 254). (¬2) النسائي (2/ 45). (¬3) ولفظه: "جنِّبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم" ... إلخ الحديث، رواه ابن ماجه، وانظر الكلام عليه في: نصب الراية للزيلعي، كتاب الصوم (2/ 491)، والفوائد المجموعة (ص 35)، والمقاصد الحسنة رقم (372)، وضعفه ابن الجوزي والمنذري والهيثمي والحافظ ابن حجر والبوصيري، وقال عبد الحق الأشبيلي: "لا أصل له". اهـ. (¬4) إحكام الأحكام (2/ 254).

المحارم ومن لا يشتهى غير ناقض للطهارة. قال: وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون من وراء حائل. قال: وهذا يستمد مما ذكرناه على أن حكايات الأحوال لا عموم لها. وأما القاضي عياض (¬1). فقال: هذا المأخذ ليس بشيء، لأن من في هذا السن من غيرهن لا اعتبار بلمسه، فكيف بذوي المحارم؟!. التاسعة: فيه أيضًا أن شغل القلب بالحمل في الصلاة معفو عنه. العاشرة: فيه إكرام أولاد المحارم: كالبنات والأخوات ونحوهم بالحمل ومؤانستهم جبرًا لهم ولآبائهم وأمهاتهم. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 245).

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 97/ 15/ 14 - عن أنس بن [مالك] (¬1) - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: راويه سلفت ترجمته في باب الاستطابة. ثانيها: فيه الأمر بالاعتدال في السجود على الوجه المشروع، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (822) في الأذان، باب: لا يفترش ذراعيه في السجود، ومسلم (493) في الصلاة، باب: الاعتدال في السجود، وأبو داود (897) في الصلاة، باب: صفة السجود، والترمذي (276) في الصلاة، باب: ما جاء في الاعتدال في السجود، والنسائي (2/ 213، 214) في التطبيق، باب: ما جاء في الاعتدال في السجود (2/ 183) في الافتتاح، باب: الاعتدال في الركوع، والبيهقي في السنن (2/ 113)، وأحمد (3/ 115، 177، 179، 202، 274، 291)، وابن حبان (1926، 1927)، وابن ماجه (892) في الإِقامة، باب: الاعتدال في السجود، والدارمي (1/ 303)، وأبو عوانة (2/ 183، 184).

والاعتدال: وضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عنها وعن جنبيه رفعًا بليغًا بحيث يظهر بياض إبطيه إذا لم تكن مستورة، والحكمة في ذلك: أنه أشبه في التواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض وأبعد من هيئات الكسالى، وليس المراد الاعتدال الخلقي المطلوب في الركوع [فإن] (¬1) المراد فيه استواء الظهر والعنق. والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل [عن] (¬2) الأعالي [مع] (¬3) ما تقدم حتى لو تساويا بطلت الصلاة على الأصح عدنا، ولهذا نهى عقب ذلك عن بسط ذراعيه انبساط الكلب لكونه مناف لمقصود الشرع، فإنه ذكر الحكم مقرونًا بعلته. وقوله: "ولا يبسط" إلى آخره، هو كالتتمة للأول، فإن الأول كالعلة له، فيكون الاعتدال المطلوب للشرع علة لترك انبساط الكلب، فذكر الحكم مقرونًا بعلته تنبيهًا على الأشياء الخسيسة المشبهة بفعل الكلب، لتترك في الصلاة، فإن المنبسط يشعر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها والإِقبال عليها، ومثل هذا قوله - عليه السلام -: "العائد في هبته: كالكلب يعود في قيئه" (¬4). فإنه - عليه الصلاة والسلام - لما قصد التنفير عن الرجوع في الهبة شبهه برجوع الكلب في قيئه. ¬

_ (¬1) في ن ب د (فإن). (¬2) في ن ب (على). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) سيأتي تخريجه إنشاء في كتاب الهبة.

ثالثها: فيه النهى عن التشبه بالأفعال الخسيسة كما بينا، [وإنما جاز لقصد التنفير عنه] (¬1). [رابعها: فيه إضافة الخسيس إلى أهله، [وإنما جاز] (¬2) لقصد التنفير عنه. خامسها] (¬3): جاء المصدر في هذا الحديث مخالف لفعله فإنه من الثلاثي، والانبساط من الخماسي، وهو جائز أن يكون المصدر مخالفًا لفعله [في] (¬4) صيغته وهو في القرآن العزيز كقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} (¬5) الآية. وقوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} (¬6)، وفي الآية الأولى شاهدان. [سادسها] (¬7): جاء في رواية لمسلم: "ولا يتبسط" بزيادة التاء المثناة فوق، ومعناها: لا يتخذهما بساطًا، فرواية الكتاب وهذه صحيحتان. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب، وهي مكررة فيما بعدها. (¬2) في ن د (وأنا جائز). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل من ون ب ساقطة، وما أثبت من ن د. (¬5) سورة آل عمران: آية 37. (¬6) سورة نوح: آية 17. (¬7) في ن ب (خامسها).

16 - باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

16 - باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود أي وفي الجلوس بين السجدتين كما سيأتي، والشيخ حذفه اختصارًا، وصح أيضًا وجوبها في الاعتدال في هذا الحديث أعني: حديث المسيء صلاته، لكن من حديث رفاعة بن رافع. أخرجه ابن حبان في صحيحه (¬1)، وفيه رد على قول إمام الحرمين من أصحابنا: أنها غير مذكورة فيه، وأقره عليه الرافعي وأغرب منه أنه: نفاها أيضًا في الجلوس بين السجدتين، وهو في الصحيح أيضًا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (1787)، وأحمد (4/ 340)، وأبو داود (857، 858، 859، 860، 861) في الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (302) في الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة النسائي (2/ 193) في الافتتاح، باب: الرخصة في ترك الذكر في الركوع، وصححه ابن خزيمة (545)، والحاكم (1/ 241، 242)، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والطبراني (4520 حتى 4529)، والبيهقي في السنن (2/ 133، 134، 372، 373، 374، 380)، وعبد الرزاق (3739).

والطمأنينة: أصلها في اللغة الاستقرار. ومعناها شرعًا: أدنى لبث في الركن بعد بلوغ أول حده في الأقل، وفي الأكمل اللبث قبل الذكر المشروع في الركن بعد بلوغ أكمله، وبذلك يعرف ما بين ذلك. قاله صاحب (الإِقليد)، وذكر المصنف في الباب حديث أبي هريرة:

[الحديث الأول]

[الحديث الأول] (¬1) 98/ 1/ 16 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فصل! فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ارجع فصل! فإنك لم تصل، [فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فصل! فإنك لم تصل] (¬2) ثلاثًا فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني. فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها" (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من المحقق حسب ترتيب الكتاب. (¬2) ساقطة من ن ب د. (¬3) البخاري (757، 793) في الآذان، باب: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإِعاده (6251) في الاستئذان، باب: من ردَّ فقال: عليك السلام (6667)، وفي الأيمان والنذور، ومسلم (397) في الصلاة، باب: وجوب قرأة: الفاتحة في كل ركعة، والترمذي (303) في الصلاة، باب: =

(¬1) الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الرجل المبهم هو خلاد، كما ذكره ابن بشكوال (¬2) بعد أن ذكر الحديث من رواية رفاعة بن رافع، والحديث من رواية [يحيى بن علي] (¬3) بن يحيى بن خلّاد [بن رافع] (¬4) الزرقي عن أبيه عن جده عن رفاعة [بن رافع] (¬5) كذا أخرجه أبو داود فليتأمل. ثانيها: اعلم أن الواجبات في الصلاة على ضربين: متفق عليها ومختلف فيها، وليس هذا الحديث موضوعًا لحصرها [بل لحصر ما] (¬6) أهمله [...] (¬7) هذا الرجل المصلي وجهله في صلاته، وقد استدل به الكثير من الفقهاء على [أن] (¬8) ما ذكره فيه فهو واجب، وما لم يذكره فيه ليس بواجب، وليس الحديث موضوعًا لبيان سنن الصلاة اتفاقًا. ¬

_ = ما جاء في وصف الصلاة، وابن ماجه (1060) في الإِقامة، باب: إتمام الصلاة، وأبو داود (856) في الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع، والبغوي (552)، والبيهقي (2/ 126)، وأحمد (3/ 437)، والطحاوي (1/ 233)، وابن حبان (1890). (¬1) في ن د زيادة (واو). (¬2) غوامض الأسماء المبهمة رقم الخبر (196)، واسمه خلاد بن رافع. (¬3) زيادة من سنن أبي داود. (¬4) زيادة من سنن أبي داود. (¬5) زيادة من سنن أبي داود. (¬6) زيادة من ن ب د. (¬7) في الأصل كلمة (كأنها المصنف)، وهي غير موجودة في باقي النسخ. (¬8) زيادة من ن ب د.

فالنية والقعود في التشهد الأخير، وترتيب أركان الصلاة: واجبات مجمع عليها، وليست مذكورة في الحديث، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، والسلام من المختلف [فيه] (¬1) أوجبها الشافعي وأوجب الجمهور: السلام، وكثيرون: التشهد. وللشافعي قول بوجوب نية الخروج من الصلاة، وأوجب أحمد التشهد الأول، وكذا التسبيح وتكبيرات الانتقالات فالجواب عما استدل به الكثير من الفقهاء من أن المذكور في الحديث واجب وغيره ليس بواجب مع ماذكرنا من الواجبات المجمع عليها، والمختلف فيها، أن المجمع عليه إن كان معلومًا عند السائل لم يحتج إلى بيانه، وكذا المختلف فيه عند من يوجبه بحمله على ذلك وجه استدلالهم على الوجوب بذكره في الحديث وعدمه بعدمه، إن الأمر يتعلق بالوجوب وإن عدمه ليس [بمجرد] (¬2) أن الأصل عدم الوجوب، بل لأمر زائد، وهو أن ما ذكره ي في هذا الحديث تعليم وبيان للجاهل وتعريف واجب الصلاة وهو يقتضي انحصاره فيما ذكر وقويت رتبة الحصر فيه بذكر ما تعلقت به الإِساءة من المصلي من الواجب فيها وما لم تتعلق به، وذلك دليل على عدم الاقتصار على المقصود مما وقعت فيه الإِساءة فقط فكل موضع اختلف [الفقهاء] (¬3) في وجوبه، وكان مذكورًا في الحديث فلك أن تتمسك ¬

_ (¬1) زيارة من ن ب د. (¬2) في ن د (لمجرد). (¬3) في ن ب د (العلماء).

به في وجوبه، وكل موضع اختلفوا في تحريمه، فلك أن تستدل على عدم تحريمه لأنه لو حرم لوجب التلبس بضده. فإن النهي [عن] (¬1) [الشيء] (¬2) أمر بأضداده، ولو كان التلبس بالضد واجبًا لذكر على ما قررناه، فإذا انتفى ذكره -أعني ذكر الأمر بالتلبس بالضد- انتفى ملزومه، وهو النهي عن ذلك الشيء، وكل موضع اختلفوا في وجوبه [و] (¬3) لم يكن مذكورًا في الحديث فلك أيضًا أن تتمسك [به] (¬4) في عدم وجوبه أيضًا، لكونه غير مذكور فيه لما تقدم [من] (¬5) كونه موضع [للتعليم] (¬6) وبيان، فظهرت القرينة. مع ذلك على قصد ذكر الواجبات، فهذه الطرق الثلاثة يمكن الاستدلال بها على كثير من المسائل المتعلقة بالصلاة إلَّا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف: إحداها: جمع طرق الحديث [وإحصاء] (¬7) الأمور المذكورة فيه، والأخذ بالزائد فالزائد منها، فإنه واجب. الثانية: استمراره على طريقة واحدة فيها، فلا يستعمل في مكان ما نتركه في آخر، فينقلب نظره، بل يستعمل القوانين المعتبرة ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (بالشيء). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) زيادة من ب د. (¬5) في الأصل (في)، وما أثبت من ن ب د. (¬6) في ن ب د (تعليم). (¬7) في الأصل (واختصار)، والتصحيح من ن ب د.

في ذلك استعمالًا واحدًا، فإنه قد يقع هذا الاختلاف في كلام [كثيرين] (¬1) من المناظرين. الثالثة: إذا قام دليل على أحد أمرين- إما على عدم الوجوب، أو الوجوب- فالواجب العمل به، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا في باب النفي يجب التحرز فيه أكثر. فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين فيعمل به. وإذا استدل على عدم وجوب شيء [بعدم] (¬2) ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر في حديث آخر فهي مقدمة. وإن قيل: إن الحديث دل على عدم الوجوب [وتحمل] (¬3) [صيغة] (¬4) الأمر [على] (¬5) الندب لكن عدم الوجوب أقوى، لأنه متوقف على مقدمة أخرى (¬6)، وهي أن عدم الذكر في الرواية يدل ¬

_ (¬1) في ن ب د (كثير). (¬2) في ن ب د (تقدم). (¬3) في الأصل ون ب (ويحتمل). (¬4) في إحكام الأحكام (صفة). (¬5) في الأصل (في)، والتصحيح من ن ب، وإحكام الأحكام. (¬6) العبارة هكذا في إحكام الأحكام (2/ 263)، وهو أن عدم الذكر في الرواية يدل على عدم الذكر في نفس الأمر، وهذه غير المقدمة التي قررناها. وهو أن عدم الذكر يدل على عدم الوجوب، لأن المراد ثمة أن عدم الذكر في نفس الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على الوجوب، فإنه موضع بيان، وعدم، وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية، وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على عدم الذكر في نفس الأمر، =

على عدم الوجوب، لأن المراد: ثم إن عدم الذكر في نفس الأمر (¬1) من الشارع يدل على عدم الوجوب فإنه [] (¬2) موضع البيان، وعدم الذكر في نفس الأمر [غير عدم الذكر في الرواية، وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على عدم الذكر في نفس الأمر] (¬3) بطريق أن يقال: لو كان لذُكر أو بأن الأصل عدمه، وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب أيضًا (¬4). فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة، فيعمل بها، وهذا البحث كله بناءًا على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهرٌ فيها، والمخالف يخرجها عن حقيقتها، بدليل عدم الذكر. فيحتاج الناظر المحقق إلى الموازنة بين الظن المستفاد من عدم الذكر في المخالفة، وبين الظن المستفاد من كون الصيغة للوجوب. قال الشيخ تقي الدين (¬5): والثاني عندنا أرجح. ثالثها: إذا تقرر أن عدم الذكر في الحديث يدل على عدم الوجوب، فقد استدلوا بهذا الحديث على مسائل من حيث إنها غير مذكورة فيه. ¬

_ = بطريق أن يقال: لو كان لذُكِر، أو بأن الأصل عدمه، وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب. اهـ. (¬1) في ن ب زيادة. (¬2) في ن ب زيادة (غير عدم الذكر في الرواية وعدم الذكر في نفس الأمر). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) نقل هذا الموضع من إحكام الأحكام في الهامش. (¬5) إحكام الأحكام (2/ 366).

الأولى: إنّ الإِقامة غير واجبة. وقال بعض العلماء: بوجوبها لما ورد في بعض [طرق] (¬1) الحديث الأمر بها. فمن استدل بعدم الذكر في الحديث على عدم الوجوب [يحتاج إلى عدم رجحان الدليل الدال على وجوبها عند الخصم، فإن صح الأمر بالوجوب فقد عدم أحد الشرطين، وإن لم يصح فقد تم الدليل على عدم الوجوب] (¬2) وإلَّا فيتعارض عدم الذكر والأمر بها لو صح، فينتفي الوجوب ويبقى الندب (¬3). قلت: هذا الأمر قد أخرجه أبو داود في سننه (¬4) بإسناد لم يضعفه. الثانية: إنّ دعاء الاستفتاح غير واجب، لأنه لم يذكر فيه، ومن نقل من المتأخرين -من غير المنسوبين إلى مذهب الشافعي- أنه قال بوجوبه فقد غلط ووهم (¬5). الثالثة: التعوذ، رفع اليدين في تكبيرة الإِحرام، ووضع اليد ¬

_ (¬1) من رواية علي بن يحيى بن خلاد بعكس ما ذكر. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 366). (¬4) انظر ت (3) ص (163)، وقد أخرج الأمر بالإِقامة أبو داود والترمذي والنسائي. (¬5) في إحكام الأحكام (2/ 367) تحديد القائل: وهو القاضي عياض -رحمه الله-.

اليمنى على اليسرى، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود، وهيآت الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ، وغير ذلك مما لم يذكر في الحديث ليس بواجب، إلَّا ما ذكرناه من [المجمع] (¬1) عليه والمختلف فيه. الرابعة والخامسة (¬2): استدل بعض المالكية على عدم وجوب التشهد بما ذكرنا من عدم الذكر. واستدل به الحنفية على عدم وجوب السلام، لكن الدليل على راجح وجوبه أقوى، وكذلك دليل إيجاب التشهد [هو] (¬3) الأمر به، وهو راجح، وقد تقع المناظرة بين الرجحانين بأن دلالة اللفظ على الشيء لا تنفي معارضة المانع الراجح، لكونها أمر يرجع إلى اللفظ، أو إلى أمر لو جرد النظر إليه -وذلك يمهد عذر أحد الرجحانين- ويثبت الحكم ولا ينفي وجود المعارض، أما لو استدل بلفظ يحتمل أمرين على السواء، لكانت الدلالة منتفية، وقد يطلق الدليل على الدليل التام الذي يجب العمل به، وذلك يقتضي عدم وجوب المعارض الراجح، لكن الأولى أن يستعمل في دلالة ألفاظ الكتاب والسنة الطريق الأول، ومن ادعى المعارض فعليه البيان. السادسة (¬4): فيه دليل على وجوب التكبير بعينه لنصه عليه ¬

_ (¬1) في ن ب (الجمع). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (2/ 367، 369). (¬3) زيادة من إحكام الأحكام (2/ 368). (¬4) هذه المسألة ساقها من إحكام الأحكام (2/ 370، 372).

بقوله: "فكبر"، والمخالف وهو أبو حنيفة يقول: المراد منه التعظيم وبأي لفظ أتى به [حصل] (¬1). [وغيره] (¬2) قصر التعظيم بلفظ التكبير، ولم يعده إلى غيره نظرًا إلى التعبد به والاحتياط فيه [والاتساع] (¬3) بخصوص التعظيم به، وهو الله أكبر. واعلم: أن رتب الأذكار مختلفة، فلا يتأدى بذكر ما يتأدى بآخر، ولا تعارض يكون المعنى مفهومًا، فقد يكون التعبد واقعًا في التفصيل، كما يفهم من الركوع بالخضوع، ولو أقام مقامه خضوعًا آخر لم يكتف به، فكذلك لفظ التكبير، ويتأيد باستمرار عمل الأمة على الدخول في الصلاة و [هو] (¬4): "الله أكبر" [ومما] (¬5) اشتهر في الأصول بأن كل علة مستنبطة تعود على النص بالإِبطال أو التخصيص فهي باطلة، وعلى هذا يخرّج حكم المسألة، فأنه إذا استنبط من النص أن مطلق التعظيم هو المقصود، بطل خصوص التكبير، فيخرج عن القاعدة. السابعة: فيه وجوب القراءة في الصلاة في الركعات كلها، وهو مذهب الشافعي والجمهور [و] (¬6) لكن ظاهر هذا الحديث من هذا الطريق أن الفاتحة غير متعينة. والفقهاء الأربعة عينوها ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب (الاتساع)، ون د (الاتباع). (¬4) زيادة من ن د. (¬5) في ن ب د (وما). (¬6) في ن ب د ساقطة.

للوجوب، إلَّا [أن] (¬1) أبا حنيفة منهم جعلها واجبة، وليست بفرض، على أصله في الفرق بين الواجب والفرض (¬2). وحكى القاضي (¬3) عن علي بن أبي طالب وربيعة ومحمد بن أبي صفرة، وأصحاب مالك: أنه لا تجب قراءة أصلًا، وهي شاذة عن مالك. وفي مذهب مالك في قراءة الفاتحة في كل ركعة ثلاثة أقوال: أحدها: كمذهب الجمهور تجب في كل ركعة. والثاني: في الأكثر. والثالث: تجب في ركعة واحدة. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا تجب القراءة [...] (¬4) في الركعتين الأخيرتين، بل هو بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت. والصحيح الذي عليه [جمهور العلماء] (¬5) من السلف والخلف: [وجوب] (¬6) الفاتحة في كل ركعة، لقوله - عليه السلام - ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) سبق أن ذكرت بيان الفرق. وانه لفظي ساق هذه المسألة من إحكام الأحكام. انظر: حاشية الصنعاني (2/ 373). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 149). (¬4) في الأصل زيادة (إلَّا)، وساقطة من ن ب د. (¬5) في ن ب (الجمهور من العلماء). (¬6) زيادة من ن ب د.

[للأعرابي: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" مع قوله - عليه السلام -:] (¬1) "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما (¬2) من رواية أبي هريرة وهو مبين أن المراد من قوله - عليه السلام -: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب" (¬3) عدم الإِجزاء لا نفي الكمال. والجواب: عن الرواية في هذا الحديث: أن المراد منه اقرؤوا ما تيسر ما زاد على الفاتحة بعدها، جمعًا بينه وبين دلائل إيجابها، وتؤيده الأحاديث الحسنة التي رواها أبو داود في سننه مرفوعة: "ثم اقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر من القرآن"، وفي رواية: "وما شاء الله"، وروى ابن حبان في صحيحه (¬4) عن أبي سعيد الخدري: "أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر في الصلوات". ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ابن خزيمة (490)، وابن حبان (1789)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 216)، وفي المشكل (2/ 23)، وأحمد (2/ 478)، وأبو عوانة (2/ 127). (¬3) مسلم (394)، والبخاري (756)، وأبو داود (822)، والنسائي (2/ 137)، وابن ماجه (837). (¬4) أحمد (3/ 3، 97)، وأبو داود (818) في الصلاة، باب: من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، وابن حبان (1790)، قال الحافظ (2/ 243) في الفتح: بعد أن أورده عن أبي داود، وسنده قوي، ولفظة: "في الصلوات" غير موجودة في ابن حبان، وفي مسند أحمد.

قلت: وأعلا من هذا [كله] (¬1) وأعلا أن أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه (¬2) رويا [من] (¬3) حديث رفاعة بن رافع الزرقي قال: جاء رجل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فصلى قريبًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم انصرف إليه، فسلم عليه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعد صلاتك، فإنّك لم تصل. إلى أن قال: يا رسول الله كيف أصنع فقال: "إذا استقبلت القبلة، فكبر، ثم اقرأ بأمِّ القرآن" إلى أن قال: "ثم اصنع ذلك في كل ركعة". ترجم عليه ابن حبان في صحيحه (¬4) ذكر البيان بأن فرض المصلي في صلاته قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من صلاته لا أن قراءته إياها في ركعة واحدة تجزئه عن باقي صلاته. قلت: فاستفد هذا فإنه مهم جدًّا، ويبين أن المراد بما تيسر: الفاتحة. أما رواية الزائد عليها فقد قال به جماعة من التابعين وغيرهم، ونقله الشيخ تقي الدين (¬5) عن الأكثرين وحملوا الحديث على من عجز عن الفاتحة، وكذا حديث أبي هريرة: "اقرأ بها في نفسك" أن المراد [اقرأها] (¬6) سرًّا بحيث تسمع نفسك لا تدبر ذلك، وتذكره كما حمله بعض المالكية، لأن القراءة لا تطلق إلَّا على حركة ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة. (¬2) سبق تخريجه في ت (3) ص (162). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) ابن حبان (5/ 88). (¬5) إحكام الأحكام (2/ 374، 375). (¬6) في ن ب د (اقرأ).

اللسان بحيث يسمع نفسه، ولهذا اتفق العلماء على أن الجنب لو تدبر القرآن بقلبه من غير حركة بلسانه لا يكون قارئًا مرتكبًا لقراءة الجنب المحرمة، وكذلك لو أمرّه الجنب على قلبه من غير لفظ جاز، مع أنه يقال: قرأت بقلبي. فدل على أن مراد أبي هريرة ما ذكرنا، ويدل له فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءته وأصحابه ثم مذهب الشافعي ومن وافقه: أنها واجبة على الإِمام والمأموم والمنفرد عملًا بحديث أبي هريرة: "اقرأ بها في نفسك"، ثم إنه لا يصح أن يكون المراد بقوله: "اقرأ ما تيسر معك" الاحتمال الذي يريده الأصوليون، فإن المجمل ما لم يتضح المراد منه، وهذا متضح المراد، إذ يقع امتثاله [بفعل] (¬1) كل ما يتيسر حتى لو لم ترد أحاديث تعيين الفاتحة لاكتفينا في الامتثال [بكل ما] (¬2) تيسر، وإن أريد بالمجمل الذي لا يتعين فرد من إفراده، فهذا لا يمنع الاكتفاء بكل فرد ينطلق عليه الاسم: [لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب. مطلق وهو مقيد بقيد المتيسر الذي يقتضي التخيير في قراءة كل فرد من أفراد المتيسرات، فليس المطلق مطلقًا هنا من فرد من أفراد المتيسرات] (¬3)، [فليس المطلق مطلقًا هنا] (¬4) من كل وجه [والتقييد] (¬5) المخصوص يقابل التعيين ونظير المطلق الذي لا ينافي التعيين أن يقول: اقرأ قرآنًا، ثم يقول: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (بما). (¬3) في ن د ساقطة. (¬4) هذه الجملة لعلها زائدة فليس لها معنى هنا. (¬5) في ن ب د (والقيد).

اقرأ الفاتحة. فإنه يحمل المطلق على المقيد حينئذ، ويوضح ذلك بمثال وهو أنه لو قال لعبده: اشتر لي لحمًا ولا تشتر لحم الضأن. لم يتعارض [فلو] (¬1) قال: اشتر أي لحم شئت ولا تشتر لحم الضأن في وقت واحد لتعارض، وأما التخصيص فأبعد لأن سياق الكلام يقتضي تيسير الأمر عليه، وإنما يقرب هذا إذا جعلت "ما" بمعنى "الذي" وأريد بها شيء معين وهو الفاتحة لكثرة حفظ المصلين لها فهي المتيسرة. الثامنة: فيه إيجاب (¬2) الركوع والطمأنينة فيه. وقد يتخيل من لا يعتقد وجوبها بأن الغاية: هل تدخل في المغي أم لا؟ فيه مذاهب خمسة أسلفتها في الحديث العاشر من كتاب الطهارة، فمن فرق بين أن يكون من جنس المغيا وصف الركوع بوصف ووصف الطمأنينة [معه] (¬3) بوصف، حتى لو فرضنا أنه ركع ولم يطمئن ارتفع مسمى الركوع، ولم يصدق عليه أنه [جعل] (¬4) مطلق الركوع مغيا للطمأنينة. وادعى بعض المتأخرين: أن الطمأنينة لا تجب، وهو قول ابن القاسم. من حيث إن الأعرابي صلى غير مطمئن ثلاث مرات، والعبادة بدونها فاسدة، ولو كانت فاسدة لكان فعل الأعرابي فاسدًا، ¬

_ (¬1) في ن ب د (ولو). (¬2) في الأصل كلمة، كأنها رسم الفاتحة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل (فعل)، وما أثبت من ن ب د.

ولو كان كذلك لم يقره الشارع عليه في حال فعله. وإذا تقرر بهذه الدعوى عدم الوجوب حمل الأمر في الطمأنينة على الندب، وفي قوله: "فإنك لم تصلِّ" على عدم الكمال وهذا التحيل والدعوى: فاسدان مخالفان لمدلول اللفظ ومفهوم الشريعة (¬1). التاسعة: فيه وجوب الرفع من الركوع والاعتدال [منه] (¬2)، خلافًا لمن نفى وجوب الرفع من الركوع والاعتدال فيه. ومذهب الشافعي وجوبها. وفي مذهب مالك خلاف استدل من قال بعدم الوجوب: أن المقصود من الرفع الفصل، وهو يحصل بدون الاعتدال: وهو ضعيف، فإن الفصل مقصود، وصيغة الأمر دلت عليه [فلا] (¬3) يجوز تركه. وعند الشافعية خلاف أيضًا في الاعتدال والجلوس بين السجدتين: هل كل منهما مقصود أم لا؟!، وقد أوضحت ذلك في (شرح المنهاج)، وقريب من هذا الاستدلال في الضعف عن قال في عدم وجوب الطمأنينة: بأن الله -تعالى- قال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فلم يأمر -سبحانه- بما زاد على ما يسمى ركوعًا وسجودًا [وهو واه جدًّا، ولا شك أن المكلف يخرج [من عهدة] (¬4) ¬

_ (¬1) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 379). (¬2) في ن ب د (فيه). (¬3) في ن ب (ولا). (¬4) في ن د (عن عمدة).

الأمر بما يسمى ركوعًا وسجودًا] (¬1) لكن [لا] (¬2) يخرج عن عهدة الأمر الآخر وهو الطمأنينة إلَّا بفعلها، وبه يحصل امتثاله، كما يحصل امتثال الأمر في الركوع والسجود بفعل مسماهما (¬3). العاشرة: فيه وجوب السجود والطمأنينة فيه، والكلام فيه: كالكلام في الركوع والرفع منه كما مر. الحادية عشرة: فيه وجوب الجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه كما مر، وهو صريح الرواية التي سنذكرها قريبًا. الثانية عشرة: فيه وجوب ذلك في كل ركعة كما ذكرناه. الثالثة عشرة: فيه الرفق بالمتعلم والجاهل في التعلم وملاطفته وإيضاح المسألة له، وتلخيص المقاصد والاقتصار على المهم، دون المكملات التي [لا] (¬4) يحتمل حاله حفظها والقيام بها. قال القاضي عياض (¬5): وفيه دلالة على أن فعل الجاهل بغير علم في العبادات لا يتقرب بها إلى الله -تعالى-، ولا تجزئ لقوله: "فإنك لم تصل". الرابعة عشرة: فيه استدراجه بفعل ما جهله مرات، لعله أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا فيتذكره فيفعله من غير تعليم وأمر، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 380). (¬4) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬5) ذكر في إكمال إكمال المعلم (2/ 153).

وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ [بل] (¬1) من باب تحقيق الخطأ، وفعله عن جهل لا عن غفلة ونسيان. الخامسة عشرة: فيه استحباب السلام وتكراره على قرب المتلاقيين: [وأنه لا يشترط في تكراره التفرق خلاف ما أشعَر به حديث أبي هريرة في أبي داود (¬2): " [إذا] (¬3) لقيَ أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر، ثم لقيه فليسلم عليه"] (¬4). وفيه أيضًا: وجوب الرد عليه في كل مرة، وهذا وإن لم يكن له ذكر في هذا الحديث، لكنه مذكور فيه في بعض طرقه في الصحيح. وفيه (¬5) أن صيغة الرد: "وعليكم السلام" أو "وعليك السلام" بالواو ونظير تكرار الرد تكرار تحية المسجد (¬6) بالدخول على قرب وحكاية قول المؤذن وسجود التلاوة والإِحرام لدخول [مكة] (¬7) والوضوء لمس المصحف وقصد الأعرابي بتكرار سلامه تكرار الرد ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) أبو داود (5036)، باب: الرجل يفارق الرجل ثم يلقاه أيسلم عليه؟ والمنذرى (8/ 71). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل ساقطة، وما أثبت زيادة من ن ب د. (¬5) في ن ب زيادة واو. (¬6) انظر التعليق (5) ص (338) من الحديث الأول في باب جامع. (¬7) في ن ب ساقطة.

استكثارًا لدعائه - عليه السلام - كما في قصة سعد لما زارهم - عليه السلام - كما أخرجه أبو داود (¬1) [والنسائي] (¬2). السادسة عشرة: فيه أن من أخل ببعض واجباب الصلاة: لا تصح صلاته، ولا يسمى مصليًا، بل يقال: لم يصل. فإن قلت: كيف تركه الشارع يصلي مرارًا صلاة فاسدة؟. [فجوابه: أنه - عليه السلام - لم يعلم من حاله أنه يأت بها في المرة الثانية والثالثة فاسدة] (¬3) بل كان محتملًا عنده أنه يأتي بها صحيحة، وفعل الرجل الداخل في المرة الأولى إياها على وجه الغفلة والنسيان، وتضمن أمره - عليه السلام - بالرجوع والصلاة وبيان أنه لم يصل مجملًا من غير تفصيل. فائدة زائدة: وهي إقامة عذره بالغفلة والنسيان تجويزًا لذلك، إعلامًا أنه فعله جهلًا وعنادًا مع أن ذلك أبلغ في التعليم والتعريف والأدب، وأخذ ما يجهل بقوله له ولغيره كما أمرهم بالإِحرام بالحج ثم بفسخه إلى العمرة، ليكون أبلغ في تقرير ذلك عندهم. السابعة عشرة: فيه أنه ينبغي للجاهل أن يسأل التعليم من العلماء، والاعتراف بعدم العلم، وأن يقربه ويقسم. الثامنة عشرة: فيه وجوب النظر إلى صلاة الجاهل فيها، ¬

_ (¬1) أبو داود (5023)، (8/ 61)، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب ساقطة.

وتعريفه الصواب وما جهله، وأن ذلك [ليس] (¬1) من باب التجسس ولا الدخول فيما لا يعني. التاسعة عشرة: فيه جواز صلاة الفرض منفردًا إذا أتى أي: بفرائضها وشروطها. العشرون: فيه وجوب القيام للصلاة قبل الدخول فيها على القادر لقوله: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر". الحادي والعشرون: روى البخاري في [صحيحه] (¬2) في هذا الحديث: الجلسة بعد السجدة (¬3) الثانية، ولم يقل أحد بوجوبها، بل اختلفوا في استحبابها، وهذه الرواية ذكرها في كتاب الاستئذان (¬4) في باب من رد فقال: عليكم السلام، فقد يقال ذكرها فيه أنه يبين له الأكمل من حال الصلاة لا الأقل. [الثانية] (¬5) والعشرون: روى النسائي هذا الحديث من رواية رفاعة بن رافع بزيادات وفيها زيادة: "فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منها شيئًا انتقص من صلاتك، ولم تذهب كلها" (¬6). قال ابن عبد البر: وهو حديث ثابت، وفي هذه الزيادة ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) نهاية الجزء الأول من ن ب. (¬4) البخاري، الفتح (6251). انظر: ت (3) ص (163). (¬5) في ن ب (الثاني). (¬6) انظر: ت (1) (161). وانظر: الدراية في تخريج الهداية (1/ 143).

ما مر في المسألة قبلها من الأشكال، وفي حديث رفاعة هذا ما هو غير واجب أيضًا. [الثالثة] (¬1) والعشرون: فيه أن المفتي إذا سئل عن شىء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه: يستحب له أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة، لأن في الحديث من رواية رفاعة أنه علمه الوضوء والاستقبال. ¬

_ (¬1) في ن ب (الثالث).

17 - باب وجوب القراءة في الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) حسبنا الله ونعم الوكيل، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدًا 17 - باب وجوب القراءة في الصلاة ذكر فيه، رحمه الله، ستة أحاديث: الحديث الأول 99/ 1/ 17 - عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬2). ¬

_ (¬1) بداية الجزء الثاني من الأصل. (¬2) البخاري أطرافه (756) في الآذان، ومسلم (394)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 360)، والشافعي في مسنده (1/ 75)، والحميدي (386)، وأبو داود (822) في الصلاة، باب: من ترك القراءة: في صلاته، والنسائي (2/ 37) في الافتتاح، وابن ماجه (837)، والدارقطني (1/ 321)، وأبو عوانة (2/ 124)، والبيهقي في السنن (2/ 38، 164)، والبغوي في شرح السنة (576)، وصححه ابن خزيمة (488)، وأحمد في المسند (5/ 321)، وابن حبان برقم (1782).

الكلام عليه من سبعة أوجه: الأول: في التعريف براويه، هو أبو الوليد: عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن قيس بن ثعلب بن غنم بن (مالك بن سالم) (¬1) بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي السالمي، أخو أوس بن الصامت، أمه قُرَّة العَين بنت عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان وهو أحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة، ومن [القواقل] (¬2) وإنما سموا [قوقل] (¬3) لأنهم كانوا في الجاهلية إذا نزل بهم الضيف قالوا: [قوقل] (¬4) حيث شئت. يريدون: اذهب حيث شئت، وقدر ما شئتَ، فإن لك الأمان، لأنك في ذمتي (¬5)، قاله ابن حبان. شهد العقبتين الأولى والثانية وبدرًا والمشاهد كلها [وآخا] (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي، له مائة حديث وثمانون حديثًا اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بأخرين، قال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن [في] (¬7) زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة من ¬

_ (¬1) في كتاب الثقات لابن حبان ساقطة (2/ 302) مكرر. (¬2) في ن ب (القوافل). (¬3) في ن ب (قوفل)، من هنا إلى نهاية محمد بن عبادة الواسطي شيخ البخاري مكرر في نهاية الجزء الأول وبداية الجزء الثاني من الأصل. (¬4) في ن ب (قوفل). (¬5) النص في كتاب الثقات لابن حبان (3/ 302). (¬6) في الأصل (فاخا)، والتصحيح من ن ب. (¬7) في ن ب ساقطة.

الأنصار: معاذ، [وعبادة] (¬1)، وأُبي، وأبو أيوب، وأبو الدرداء (وَجَّهَهُ عمر) (¬2) إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، وهو أول من ولي القضاء بها، روى عنه جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وجابر، وروى عنه أيضًا بنوه: الوليد، وعبد الله، وداود بنو عبادة، وجماعة من التابعين وغيرهم. مات سنة أربع وثلاثين عن اثنين وسبعين سنة، وقيل خمس وأربعين، ودفن ببيت المقدس، وهو مشهور بها قريب من باب الرحمة يزار (¬3)، قال ابن حبان: مات بالرملة، ودفن ببيت المقدس، وقال ابن طاهر: المشهور أنه مات [بقبرص] (¬4) بالشام. فائدة: "عبادة" -بضم العين يشتبه- بعبادة بفتحها وتخفيف الباء- وهم جماعة منهم محمد بن عبادة الواسطي شيخ البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والتصحيح من ن ب، وفي ن د تقديم بينه وبين أبي. (¬2) زيادة من ن ب د، وانظر: سير أعلام النبلاء (2/ 6). (¬3) لعل قصد المؤلف -رحمنا الله وإياه- الزيارة الشرعية، أما ما كان فيه سفر وتبرّك فهو بدعة وربما يصل إلى درجة الشرك إذا كان يطلب ويرجى منه النفع ودفع الضر. (¬4) في ن ب (بفترس). (¬5) إلى هنا نهاية المكرر من الجزء الأول والثاني في نسخة الأصل. وبعده كتب: ثم الثلث الأول من الإِعلام بشرح عمدة الأحكام للحافظ الجهبذ المنفرد على رأس المائة الثامنة بكثرة التصانيف السراج عمر ابن الملقن رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً يتلوه في أول الثلث الثاني، باب وجوب القراءة في الصلاة، وهو مكرر مع هذه الحصة التي في هذا =

ثانيها: فاتحة الكتاب سميت بذلك، لأنه افتتح بها القرآن ولها أسماء أخر. أحدها: أم القرآن. ثانيها: أم الكتاب: لأن أصل القرآن منها بدىء، وأم الشيء أصله، ومنه سميت مكة أم القرى، لأنها أصل البلاد، ودحيت الأرض من تحتها. وقيل: لأنها مقدمة، وإمام لما يتلوها من السور وبُدىء بكتابتها في المصحف ويقرأ بها في الصلاة. ثالثها: السبع المثاني: لأنها سبع آيات باتفاق العلماء، وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة، وتقرأ في كل ركعة. وقال مجاهد: سميت مثاني لأن الله استثناها لهذه الأمة، وادخرها لهم، وقد امتن الله -تعالى- على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بها فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} (¬1) والمراد بها فاتحة الكتاب. رابعها: سورة الحمد. خامسها: الصلاة. سادسها: الوافية [بالفاء] (¬2)، لأن تبعيضها لا يجوز. ¬

_ = المجلد من هذا الباب ليثق الواقف من أهل العلم على هذين المجلدين بصحة القيد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (¬1) سورة الحجر: آية 87. (¬2) زيادة من ن د.

سابعها: الكافية. ثامنها: الشفاء. تاسعها: الأساس. عاشرها: الكبر. الحادي عشر: الشافية (¬1) وقد أوضحتها في (مختصري لتفسير القرطبي) فراجعها منه. ومنع بعضهم تسميتها: بأم الكتاب، زعمًا بأن هذا اسم اللوح المحفوظ، فلا يسمى به غيره، وهو غلط، فقد ثبت في صحيح مسلم (¬2)، عن أبي هريرة قال: "من قرأ بأم الكتاب أجزأت عنه"، وفي سنن أبي داود (¬3) عنه مرفوعًا أيضًا: "الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني". الوجه الثالث: قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، فيه دليل (¬4) على وجوب قراءتها في الصلاة، ووجه الاستدلال ظاهر، واعتقد بعض علماء الأصول: الإِجمال في مثل هذا اللفظ لدورانه بين نفي الحقيقة والكمال، وأما نفي الحقيقة فلا سبيل إليه للزومه نفي كل إضمار محتمل، وهو منتفٍ لأن الإِضمار إنما احتيج إليه للضرورة، وهي تندفع بإضمار فرد فلا يحتاج إلى إضمار أكثر منه، وإضمار الكل يتنافض، فإن إضمار الكمال يقتضي إثبات أصل ¬

_ (¬1) انظر: الفتوحات الإِلهية تفسير الجمل (4/ 613). (¬2) مسلم (396). (¬3) أبو داود رقم (1457). انظر تخريجه في الحديث الثاني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - التعليقة (2) و (4) ص (36). (¬4) ساقه بمعناه في إحكام الأحكام (2/ 386، 388).

الصحة، ونفيه يعارض الأصل، وليس واحد منهما بأولى من الآخر، فيتعين الإِجمال، وهذا إنما يتم إذا حمل [لفظ] (¬1) الصلاة والصيام وغيرهما على غير عرف الشرع، أما إذا حمل على عرف الشرع فيكون منتفيًا حقيقة، ولا يحتاج إلى الإِضمار المؤدي إلى الإِجمال، فإن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه في الغالب لأنه المحتاج إليه، فإنه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان موضوعات الألفاظ في اللغة، ثم إن الصلاة اسم لمجموع الصلاة التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، حقيقة لا كل ركعة، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة"، فلو كان كل ركعة تسمى صلاة لقال: سبع عشرة صلاة. الوجه الرابع: قد يستدل بالحديث من يرى وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، بناءًا [على أن [كل] (¬2) ركعة تسمى صلاة، وقد بينَّا عدمه (¬3). الخامس، قد يستدل به من يرى وجوبها في ركعة] (¬4) واحدة بناءًا على أنه يقتضي حصول اسم الصلاة عند قراءة الفاتحة، فإذا حصل مسمى قراءتها وجب أن تحصل الصلاة، والمسمى يحصل بقراءتها مرة واحدة، فوجب القول بحصول مسمى الصلاة، بدليل أن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن د ساقطة. (¬3) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 389). (¬4) في ن ب ساقطة.

إطلاق اسم الكل يطلق على الجزء، [لكن] (¬1) بطريق المجاز لا الحقيقة. والجواب عن هذا: أنه دلالة مفهوم على صحة الصلاة بقراءة الفاتحة في ركعة، فإذا دل المنطوق على وجوبها في كل ركعة كان مقدمًا عليه (¬2). السادس: قد يستدل به من يرى وجوبها على العموم؛ لأن صلاة المأموم: صلاة. فتنتفي عند انتفاء قراءتها، فإن وجد دليل يقتضي تخصيصه من هذا العموم قدم، وإلاَّ فالأصل العمل به (¬3). قلت: بل صح ما يدل على عمومه، وهو أنه - عليه الصلاة والسلام - ثقلت عليه القراءة في صلاة الفجر، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، قلنا: نعم هذا يا رسول الله!، قال: "لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (¬4)، ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) ساقه بمعناه من إحكام الأحكام (2/ 389). (¬3) ساقه بمعناه من المرجع السابق. (¬4) ابن حبان (1785)، والدارقطني (1/ 318)، والحاكم في المستدرك (1/ 238)، وأبو داود في الصلاة (823)، والبيهقي في "كتاب القراءة خلف الإِمام"، وفي السنن (2/ 164)، وفي شرح السنة للبغوي (606)، والحديث حسنه الترمذي (311)، والدارقطني، وأخرجه البخاري في جزء القراءة (18، 63)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 242): وقد ثبت الإِذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبان وساق الحديث إلى أن =

حديث حسن، كما قاله الترمذي، وصحيح كما قاله ابن حبان، وما عارض هذا فضعيف [أو] (¬1) مؤول. وفي مذهب الشافعي في وجوب قراءتها على المأموم تفصيل، إن كانت سرية وجبت على المشهور، وادعى ابن الرفعة في الكفاية أنها تجب قطعًا، وتبعه بعض شراح هذا الكتاب عليه والخلاف في الرافعي. وإن كانت جهرية وجبت أيضًا على أصح القولين. وقال الشيخ تاج الدين الفاكهي المالكي: إن قرأ المأموم خلف إمامه حال الجهر فبئس ما صنع، ولا تبطل صلاته. ورأى قوم بطلان صلاته، وقد روي ذلك عن الشافعي، وما نقله عن الشافعي غريب، وقوله: بئس ما صنع: عجيب. السابع: قد يستدل به على عدم وجوب ما زاد على الفاتحة. ورُوي [عن عمر] (¬2) [و] (¬3) عثمان بن أبي العاص: ¬

_ = قال: والظاهر أن حديث الباب وهو حديث عبادة، انظر ت (2) (ص 185)، مختصر من هذا وكان هذا سببه، والله أعلم. وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، ومن حديث أنس عند ابن حبان برقم (1835). قال الدارقطني: "إسناده حسن ورجاله ثقات"، وقال الخطابي: "إسناده جيد لا يطعن فيه"، وقال البيهقي: "صحيح". وانظر: نتائج الأفكار (1/ 432، 434). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

وجوب ثلاث آيات (¬1). وعند المالكية حكايته قولين: الأول: أنه سنة. والثاني: فضيلة. قال صاحب (البيان والتقريب): ومنشأ الخلاف النظر إلى تأكد الأمر، وعدم تأكده، وهذا في الفرائض، أما السنن والتطوعات فما عدا الفاتحة فيها سنة ما عدا ركعتي الفجر، فالمشهور عندهم الاقتصار فيها على الفاتحة. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (2/ 252): وفيه استجاب السورة أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور في الصحيح، والجمعة والأوليين من غيرهما، وصح إيجاب ذلك عن بعض الصحابة كما تقدم وهو قول عثمان بن أبي العاص. اهـ. أقول: وهو مروي عن عمر بن الخطاب حيث قال: لا تجزئ صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب وشيء معها: وآيتين معها، فإن كنت خلف إمام فاقرأ في نفسك. وجاء عن عمران بن حصين أيضًا لا تتم صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب، وثلاث آيات فصاعدًا. انظر: المحلى (3/ 312)، والمجموع (3/ 381، 385)، والمغني (1/ 485).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 100/ 2/ 17 - عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر [بفاتحة] (¬1) الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصّر في الثانية يسمعنا الآية أحيانًا. وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، [وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى في صلاة الصبح، ويقصر في الثانية] (¬2) " (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة. ¬

_ (¬1) في الأصل (بأم الكتاب)، والتصحيح من مصادر الحديث. (¬2) تقديم وتأخير بين النسخ ومصادر الكتب فأثبت ما في المصادر. (¬3) البخاري (759، 762، 776، 778، 779)، ومسلم (451) في الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر. وأبو داود (798)، والنسائي (2/ 166)، وأبو عوانة (2/ 151)، وابن خزيمة (504)، وابن ماجه (829)، والبيهقي في السنن (2/ 95، 348)، وابن حبان (1829، 1831).

الثاني: "الأوليان": تثنِية أولى [وكذلك] (¬1) "الأخريان" تثنية أخرى، وأما ما يشيع على الألسنة من الأولى وتثنيتها [بالأولتين] (¬2) فمرجوح في اللغة، كما نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬3). والسورة في معناها أقوال. أحدها: لانفصالها عن أختها. ثانبها: لشرفها وارتفاعها، كما يقال لما ارتفع من الأرض: [سورة] (¬4). ثالثها: لأنها قطعة من القرآن، فعلى هذا يكون أصلها الهمز، ثم خففت وأبدلت واوًا لضمِّ ما قبلها. رابعها: لتمامها وكمالها، من قولهم للناقة التامة: سورة. وجمع سورة سُوَر -بفتح الواو- ويجوز أن تجمع على سورات وسَورات. الثالث: الحكمة في قراءة السورة في الأوليين من الظهر والعصر وفي الصبح: أن الظهر في وقت قائلة، والعصر في وقت شغل الناس بالبيع والشراء وتعب الأعمال، والصبح في وقت غفلة بالنوم آخر الليل، فطولتا بالقراءة ليدركهما المتأخر لاشتغاله بما ذكرنا من القائلة والتعب والنوم، وإن كانت قراءتهما في العصر أقصر ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب د (بالأولين). (¬3) إحكام الأحكام (2/ 394). (¬4) في ن د (سور).

من الصبح والظهر (¬1). الرابع: الحكمة في تطويل الأولى عن الثانية قصدًا: ليدرك المأموم فضيلة أول الصلاة جماعة. الخاص: إسماعه - عليه الصلاة والسلام - الآية أحيانًا، يحتمل أنه كان مقصودًا ليكون دليلًا على أن الإِسرار ليس بشرط لصحة الصلاة السرية، بل يجوز الجهر والإِسرار فيها. والإِسرار أفضل، فيكون ذلك بيان للجواز، مع أن الإِسرار منه سنة، ويحتمل أنه ليس مقصودًا، بل كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر وهو الأظهر لكن الأسماع يقتضي القصد له. السادس: فيه أنّ "كان" تقتضي الدوام في الفعل وقد سلف. السابع: [فيه] (¬2) وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وقد سلف ذلك مع الاختلاف فيه قريبًا. الثامن: فيه مشروعية السورة في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، وفي حكمهما المغرب والعشاء وكذلك الصبح. التاسع: فيه أن السورة لا تشرع في الأخريين من الظهر والعصر وكذا العشاء وثالثة المغرب، وهو أشهر قولي الشافعي إلَّا أن يكون ¬

_ (¬1) وقد ورد ذلك من حديث أبي قتادة. أخرجه ابن حبان (1855)، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل في أول الركعتين من الفجر والظهر، وقال: كنا نرى أنه يفعل ذلك ليتدارك الناس. وأخرجه ابن خزيمة (1580)، وفيه "ليتأدى" بدل "ليتدارك"، وعبد الرزاق (2675)، وأبو داود (1800). (¬2) في ن د ساقطة.

المصلي [مسبوقًا] (¬1) كما نص عليه لئلا تخلو صلاته من سورة. [العاشر] (¬2): فيه أن قراءة سورة كاملة أفضل من قدرها من تطويله لارتباط القراءة بعضها ببعض في ابتدائها وانتهائها بخلاف من قراءة قدرها من طويله، فإنه قد يخفى الارتباط على أكثر الناس أو كثير منهم، فيبتدىء، ويقف على غير مرتبط وهو محذور لإِخلاله بنظم الإِعجاز. واختلف عند المالكية في الاقتصار على بعض سورة. فقيل: مكروه (¬3)، لأنه خلاف ما مضى به العمل. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) في الأصل (حادي عشر)، والتصحيح من ن ب. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (2/ 256) على حديث: "وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: المؤمنون في الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع"، وقال: وفي الحديث جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة، وكرهه مالك. انتهى، ثم قال: نعم الكراهة لا تثبت إلَّا بدليل. وأدلة الجواز كثيرة، وحديث زيد بن ثابت أنه - صلى الله عليه وسلم -: "قرأ الأعراف في الركعتين ولم يذكر ضرورة ففيه القراءة بالأول وبالأخير". قال ابن باز -غفر الله لنا وله- في التعليق (2/ 256): ويدل على ما ذكره الشارح من جواز قراءة بعض السور ما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قرأ في ركعتي الفجر بالآيتين من البقرة وآل عمران: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية. و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، وما جاز في النفل جاز في الفريضة ما لم يرد تخصيص، والله أعلم.

وقيل: جائز، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قرأ بعض سورة في صلاة الصبح. قال صاحب "البيان والتقريب": إنما فعل ذلك، في الصبح لأنه - عليه الصلاة والسلام - أخذته سعلة فركع. فلا حجة فيه للجواز، والأحسن عندهم الاقتصار على سورة، لأنه عمل السلف. وقيل: تجوز الزيادة عليها لقول ابن مسعود: لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة، سورتين في كل ركعة. وأجيب عن هذا: بأن ذلك محمول على النوافل. [و] (¬1) مشهور مذهب مالك: أنه لا يقسم سورة في ركعتين. فإن فعل أجزأه. وقال مالك في "المجموعة": لا بأس به، وما هو الشأن. الحادي عشر: فيه تطويل الأولى على الثانية في الصبح والظهر والعصر، وكذلك المغرب والعشاء، وقد اختلف العلماء في ذلك من الشافعية وغيرهم، والاختلاف وجهان لأصحاب الشافعي: أشهرهما: عندهم وهو المنصوص أيضًا، أنه لا يطول الأولى على الثانية، وهو مخالف لظاهر هذا الحديث [وتأولوه] (¬2) على أنه ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (وهو). (¬2) في الأصل وفي ن ب (وما رواه)، والتصحيح من ن د.

طول بدعاء الافتتاح والتعوذ لا في القراءة، أو على أنه أحس بداخل، وفي هذا [الحمل] (¬1) ضعف؛ لأن السياق للقراءة والانتظار لا يستحب إلَّا في التشهد والركوع لا في القيام (¬2). وحديث أبي قتادة فيه (¬3). والثاني: وهو الصحيح (¬4) [كما] (¬5) قال البيهقي، واختاره أبو الطيب والمحققون، ونقله القاضي أبو الطيب عن عامة أصحابنا الخراسانيين: يطول القراءة في الثانية قصدًا لظاهر السنة، فعلى هذا من قال من أصحاب الشافعي باستحباب السورة في الأخيرتين اتفقوا على أنها أخف منها في الأوليين. واختلفوا في تطويل الثالثة على الرابعة إذا قلنا بتطويل الأولى على الثانية على طريقين: أحدكما: لا، جَزْمًا لعَدم النص فيها، كذا علله النووي في ¬

_ (¬1) في ن ب (المجمل). (¬2) قال البخاري -رحمه الله- في جزء القراءة كلامًا معناه: أنه لم يرد عن أحد من السلف في انتظار الداخل في الركوع، والله أعلم. اهـ، من الفتح (2/ 245)، أما في عموم الصلاة فلا مانع لحديث ابن أبي أوفى، والذي أخرجه أحمد وأبو داود: كان يقوم في الركعة من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وانظر: المجموع شرح المهذب (4/ 229، 234)، وضعف حديث ابن أبي أوفى لأن فيه رجل لم يسم. (¬3) ابن حبان (1855). انظر ت (3) ص (195). (¬4) انظر: إتحاف السادة المتقين (15/ 83). (¬5) في ن د (وبه).

(شرح المهذب)، وليس كذلك، ففيه حديث في (التلخيص) (¬1) للخطيب من حديث نعيم بن طرفة، عن عبد الله بن أبي أوفى في الظهر والمغرب. والثانية: طرد الخلاف [وهي] (¬2) طريقة الرافعي، ثم اعلم أنه ليس في الحديث تعرض لتطويل الصلاة بالقراءة ولا قصرها، وقد ثبت في الصحيح بيان ذلك. تبيه: قال الشيخ تقي الدين في [باب] (¬3) صلاة الكسوف: كان السبب في تطويل الأولى، على الثانية أن النشاط في الركعة الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملل، انتهى. وشبيه بهذا التعليل كما نبه عليه الفاكهي التعليل عند النحاة: لاختصاص الفاعل بالرفع والمفعول بالنصب. قالوا: لأن الإِنسان يتناول الفاعل أولًا بقوة، ثم يتناول المفعول بعد بضعف، فأعطى لي الأول الأثقل، وهو الرفع، وأعطى في الثاني الأخف وهو النصب (¬4). ثم اعلم بعد ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - اعتبر خلاف معنى المناسبة السالفة في قيام الليل، فقال: "إذا قام أحدكم من ¬

_ (¬1) تلخيص المتشابه في الرسم (789) للخطيب البغدادي. (¬2) في ن ب (وهو). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قال الزجاجي -رحمنا الله وإياه- في مجالس العلماء (193)، وسئل الخليل عن الرفع لم جُعِل للفاعل؟ فقال: الرفع أوّل حركة: والفاعل أوّل متحرك، فجعلوا أول حركة لأول متحرك.

الليل فليصل ركعتين خفيفتين، ثم ليطول ما شاء" (¬1) وكان المناسبة في ذلك استدراج النفس من التخفيف إلى حلاوة التثقيل وهو التطويل، وكذلك ذكر العلماء مناسبة شرعية السنن الراتبة قبل الصلوات، وكذلك إذا اعتبرت مناسبة التنزيل للكتاب العزيز وشرعية الأحكام وتكثيرها، فإنك تجدها مستدرجة من التخفيف والتقليل إلى التثقيل والتكثير، ليكون أثبت وأبعد من الملل، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: "خذوا من العمل ما تطيقون" (¬2) (¬3). الثاني عشر: اعلم أن مجرد فعله - عليه الصلاة والسلام - لا يدل على الوجوب إلَّا أن يتبين أنه وقع بيانًا لمجمل [فقد] (¬4) أُدعي في كثير من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - التي قصد إثبات ¬

_ (¬1) مسلم (768) في صلاة المسافرين، وأبو داود (1323) في الصلاة، باب: افتتاح صلاة الليل بركعتين، والترمذي في الشمائل (265)، وأبو عوانة (2/ 304)، والبغوي (908)، وابن حبان (2606)، وأحمد (2/ 232)، وابن أبي شيبة (2/ 273). (¬2) في ن د زيادة (الدوام عليه الحديث). (¬3) البخاري (1970) في الصوم، باب: صوم شعبان، ومسلم (782) في الصيام، باب: صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان، وأخرجه أحمد (6/ 189، 244)، وابن حبان (353)، وابن خزيمة (1283)، والطبري في تفسيره (29/ 50). وبقية الحديث: "فإن الله لا يمل حتى تملوا"، قالت -أي عائشة رضي الله عنها-: "وكان أحب الأعمال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما دام عليه وإن قل، وكان إذا صلى صلاة دام عليها"، وإسناده صحيح. (¬4) في ن د (هذا).

وجوبها: أنها بيان له، لمن ذلك في هذا المحل خارج عما أُدعي، فإنه ليس في قراءته - عليه الصلاة والسلام - السورة مع الفاتحة هنا إلَّا مجرد فعل فافترقا، وقد قدمت في الباب قبل هذا اختلاف السلف في وجوب قراءة السورة مع الفاتحة ودليله وعدمه. الثالث عشر: في الحديث أيضًا جواز إضافة تسمية الصلاة إلى وقتها. الرابع عشر: فيه الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف الخير على اليقين إذ لا [يتبين] (¬1) قراءة سورة إلَّا بسماع جميعها، وقد قال: "يسمع الآية أحيانًا"، فأخذ من سماع ذلك قراءة جميعها، اعتمادًا على هذه القرينة، ويبعد أن يكون تيقن ذلك بإخباره - عليه الصلاة والسلام - عند فراغ الصلاة مع ما في لفظ "كان" من الإِشعار بالدوام كما سلف. ¬

_ (¬1) في ن د (يتيقن).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 101/ 3/ 17 - عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه هو أبو محمد. ويقال: أبو عدي قرشي مدني أسلم قيل عام خيبر، وقيل: يوم الفتح، وكان أحد الأشراف، قيل: إنه أول من لبس طيلسانًا بالمدينة. روي له ستون حديثًا، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، مات سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة أربع بالمدينة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (765، 3050، 4023، 4854)، ومسلم (463)، باب: القراءة في الصبح، وعبد الرزاق (692)، وأحمد (4/ 84، 80) وأبو عوانة (2/ 158)، والشافعي (1/ 79)، والحميدي في مسنده (556)، وابن ماجة (832)، وأبو داود (811) والطيالسي (946)، والنسائي (2/ 169)، والموطأ (1/ 78)، والبيهقي في السنن (2/ 392). وابن خزيمة (514)، وابن حبان (1833، 1834).

ثانيها: هذا الحديث مما سمعه جبير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حال قدومه وهو مشرك في فداء الأسارى لا بعد إسلامه قال: "فوافقته وهو يُصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته يقرأ وقد خرج صوته من المسجد {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} قال فكأنما صدع قلبي"، رواه ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه (¬1) وبعض أصحاب الزهري يقول عنه في هذا الخبر: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} فكاد قلبي يطير، فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر، فقال: لو كان الشيخ أبوك حيًّا فأتانا فيهم شفعناه". ورواه الطبراني (¬2) من حديث إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده إلى قوله: عن قلبي، قال الطبراني: ولا يحفظ لإِبراهيم هذا حديثًا مسندًا غير هذا. قلت: وإبراهيم (¬3) هذا لا أعرف حاله، وهذا النوع من الأحاديث قليل، يعني التحمل قيل الإِسلام والأداء بعده ولا خلاف فيه. ثالثها: "سمعت" لا يتعدى إلَّا إلى مفعول واحد، كما سبق في أول الكتاب أنه الصحيح، وأن الفعل الواقع بعد المفعول في موضع ¬

_ (¬1) البخاري (3050)، باب: فداء المشركين، وفي المغازي (4023)، وابن حبان (1834)، وأحمد في المسند (4/ 83)، والطبراني (1493). (¬2) أخرجه الطبراني (2/ 117) مع ما ذكر من الأحاديث قبله. (¬3) ذكره في تهذيب الكمال (24/ 573)، ممن ررى عن أبيه ومختصره (4) تهذيب التهذيب (9/ 91).

الحال، فيقرأ في هذا الحديث في موضع الحال، أي سمعته في حال قراءته. رابعها: الطور: الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو مدين. خامسها: فيه عدم التحرج بنقل اسم السور على لفظها ولا بدَّ، فإنه لو حكاها لقال: والطور. وقد جاء لذلك نظائر كثيرة. سادسها: فيه جواز قراءة سورة كذا خلافًا لمن منع، وقال: لا يقال إلاَّ السورة التي تذكر فيها البقرة مثلًا، لأن قوله بالطور تقديره بسورة الطور، وفي النهي حديث مرفوع لكنه ضعيف (¬1). سابعها: قراءته - عليه الصلاة والسلام - في المغرب بالطور، معناه في الركعتين الأوليين التي يجهر فيهما بالقراءة لا في الثالثة منها، والذي استقر عليه العمل عند الفقهاء تقصير القراءة فيها، وهذا الحديث يخالفه، فإن الطور من أوساط سور القراءة [في الصلاة] (¬2) ومثلها مشروع في العصر والعشاء لا في المغرب، وكذلك ما ثبت في قراءته - صلى الله عليه وسلم - في المغرب بالأعراف (¬3) فإما أن يحمل الحديثان على ¬

_ (¬1) ولفظه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء، ولكن السورة التي تذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران وكذلك القرآن كله". رواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 160)، وفيه عبيس بن ميمون متروك. اهـ. (¬2) زيادة من ن د. (¬3) البخاري (764)، ولفظه: عن مروان بن الحكم قال: "قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ =

رجحان قراءتهما في المغرب [ويقتضيان] (¬1) الاستحباب أو على بيان جوازهما. والأفضل ما استقر عليه العمل من تقصير القراءة لكونهما غير متكرر قراءتهما، فيدلان على الجواز لا على رجحانها وفرق بين كون الشيء مستحبًا وبين كون تركه مكروهًا، كيف وقراءته - عليه الصلاة والسلام - بالطور متقدمة، فإنه عقب غزوة بدر، وهي متقدمة، فإن ذلك كان في آخر السنة الثانية من الهجرة. قال الشيخ تقي الدين (¬2): والصحيح عندنا أن ما صح من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة لحديث جبير هذا وكحديث قراءة الأعراف فيها، وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرجحان في الاستحباب، لا أن غيره مما [لم] (¬3) يقرأه - عليه الصلاة والسلام - مكروه. ¬

_ = بطولي الطوليين"، وأخرجه النسائي (2/ 169) في الافتتاح، باب: القراءة في المعرب بالمص، وابن خزيمة (541)، وابن حبان (1838). (¬1) في ن ب د (فيقتضيان). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 401، 402). (¬3) زيادة لاستقامة المعنى، والعبارة هكذا: مما قرأه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 102/ 4/ 17 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فصلى العشاء الآخرة، فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد تقدم بيانه في باب الإِمامة وأنه صحابي ابن صحابي، وأنه مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين. وثانيها: هذا الحديث والذي قبله يتعلقان بكيفية القراءة في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (767، 769، 4952، 7546)، ومسلم (464)، وأبو داود (1221) في الصلاة، باب: قصر القراءة في السفر، والنسائي (2/ 173)، وأبو عوانة (2/ 155)، والبيهقي في السنن (2/ 293)، وصححه ابن خزيمة (524)، ومالك (1/ 79)، والشافعي في المسند (1/ 80)، والحميدي (726)، والترمذي (310)، وابن ماجه (835)، وأحمد (4/ 302، 304).

الصلاة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أفعال مختلفة في الطول والقصر، وصنف بعض الحفاظ فيها كتابًا مفردًا، والذي اختاره أصحابنا، التطويل في الصبح والظهر، والتقصير في المغرب والتوسط في العصر والعشاء، وغيرهم فوافق في الصبح والمغرب وخالف في الباقي. قال صاحب (الجلاب) (¬1) من المالكية: يُستحب تطويل القراءة في الصبح والظهر، والتخفيف في المغرب و [العشاء] (¬2)، [والتوسط [في العصر] (¬3). وقال الباجي (¬4) في "المنتقى": يطول في الصبح ثم الظهر دونها ثم العشاء] (¬5) دون ذلك، ويخفف في الباقي. وقال غيرهما: ثم العصر دون المغرب، ثم المغرب دونها. قلت: والذي استقر عليه العمل: التطويل في الصبح، والتقصير في المغرب، ولعل العلة في [مشروعية] (¬6) ذلك انبساط النفس وانبعاثها للتطويل لراحتها [بالنوم] (¬7) واستيقاظها بعده نشيطة ¬

_ (¬1) انظر: التفريع: لأبي القاسم عبد الله بن الحسين بن الحسن ابن الجلاب البصري المالكي. (¬2) في التفريع (العصر). (¬3) في التفريع (العشاء). (¬4) المنتقي (1/ 146). (¬5) زيادة من ن د. (¬6) في ن د (شرعية). (¬7) زيادة من ن د.

بخلاف المغرب، فإنها عند الفراغ من السعي في النهار وعند حاجة الناس إلى عشاء صائمهم وأكلهم عقب تعبهم وشغلهم، فخففت القراءة بالتقصير [لذلك] (¬1) فحينئذٍ تكون قراءته - عليه الصلاة والسلام - في العشاء (بالتين والزيتون)، وهي من قصار سور [...] (¬2) القراءة لكونه في السفر وهو [مناسب] (¬3) للتخفيف لتعب المسافر واشتغاله. وقد ذكر الغزالي في (الخلاصة) و (الإِحياء) (¬4) و (البداية) و (عقود المختصر). والمُصْعَبيّ (¬5) في (شرح المختصر) (¬6): أن المسافر يستحب أن يقرأ في الصبح في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، وفيه حديث في المعجم الكبير للطبراني: في إسناده ضعيفان (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل ون ب (كذلك)، وما أثبت من ن د. (¬2) في الأصل زيادة (المفصل)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في الأصل (مناسبة)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) انظر: إتحاف السادة المتقين بشرح علوم إحياء علوم الدين (3/ 82). (¬5) هو عثمان بن محمد بن أحمد. قال السبكي: لعله في حدود الخمسين والخمسمائة. ترجمته في: طبقات ابن شهبة (1/ 218)، والسبكي (7/ 209). (¬6) المقصود به مختصر الجويني. (¬7) الكامل لابن عدي (567). عن ابن عمر، قال الحافظ: رجاله ثقات إلَّا مبدل بن علي، وفيه ضعف وكأنه وهم في قوله: "بهم". فإن الثابت أنه =

ثالثها: قى الحديث تخفيف القراءة في صلاة السفر كما مر. رابعها: فيه أيضًا تحسين الصوت بالقراءة، لأنه إذا حسنها في السفر مع أنه مظنة التعب والمشقة، ففي غيره أولى. خامسها: فيه أيضًا جواز قول: عشاء الآخرة مضافًا، والرد على الأصمعي في إنكاره ذلك، وأن ذلك من غلط العامة، وعزاه بعضهم إلى الشعبي أيضًا. ونقل الزناتي المالكي في (شرح الرسالة) عن ابن عبادة: أن ذلك من لحن الفقهاء، وهو من [العجب] (¬1) العجاب، وسيكون لنا عودة في الرد على هذه المقالة في الحديث الخامس من قوله باب جامع. سادسها: فيه أيضًا نقل أفعالة وأقواله وأحواله إلى أمته للعلم والعمل بها. سابعها: قوله: (في إحدى الركعتين) لم يذكر صفة قراءته في الركعة الأخرى، فيحتمل أن يكون إنما أدرك معه تلك الركعة خاصة، ويحتمل أن يكون أدرك معه جملة الصلاة، إلَّا أنه إنما استمع لقراءته في إحدى الركعتين فقط، وفيه بُعد. ¬

_ = كان يقرأ بهما في ركعتي الفجر، والحديت الذي في المعجم من رواية محمد بن علي بن الحسين عن عبد الله بن جعفر. والضعيفان: أصرم بن حوشب وإسحاق بن واصل. إهـ. انظر: زيادة في التخريج إتحاف السادة المتقين (3/ 82). (¬1) في ن ب (عجب).

ثامنها: قوله: (أحسن صوتًا أو قراءةً منه) فيه احتمالان: الأول: أن تكون "أو" بمعنى الواو لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان أحسن الناس صوتًا وقراءةً. ثانيهما: أن تكون "أو" للشك [وأنه شك] (¬1) هل كان مستمعًا لحسن صوته خاصةً، أو لحُسن قراءته، فحُسن الصوت يرجع إلى طيب النغمة، وحُسن القراءة يرجع إلى حسن الأداء. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 103/ 5/ 17 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن -عز وجل-، فأنا أُحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروه أن الله -عز وجل- يحبه" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الرجل المبعوث على السرية، اسمه كلثوم بن الهدم (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (7375)، ومسلم (813)، والنسائي (2/ 170، 171)، وابن حبان (793). (¬2) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (2/ 258): في رواية أنس على قوله: "وكان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء" هو ابن الهدم، رواه ابن منده في كتاب التوحيد، من طريق أبي صالح عن ابن عباس، كذا أورده بعضهم، والهدم بفتح الهاء وسكون الدال. وهو من بني عمرو بن عوف سكن قباء وعليه نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم في الهجرة إلى قباء وفي =

وقال ابن بشكوال في "مبهماته": هو قتادة بن النعمان الظفري. ¬

_ = تعيين المبهم به هنا نظر، لأن في حديث عائشة -وهي التي ذكرها المؤلف هنا- في هذه القصة أنه كان أمير سرية، وكلثوم بن الهدم. مات في أوائل ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، المدينة فيما ذكره الطبري وغيره من أصحاب، وذلك قبل أن يبعث السرايا، ثم رأيت بخط بعض من تكلم على رجال العمدة كلثوم بن زهدم، وعزاه لابن منده، لكن رأيت أنا بخط الحافظ رشيد الدين العطار في حواشي مبهمات الخطيب، نقلًا عن صفة التصوف لابن طاهر، أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده عن أبيه فسماه كرز بن زهدم، وعلى هذا فالذي يؤم في مسجد قباء، غير أمير السرية، ويدل على تقاريرهما أن في رواية الباب أنه كان يبدأ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. انظر التعليق ت (2) ص (216) للاطلاع على الحديث، وأمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة، ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله وأمير السرية أمر أصحابه أن يسألوه، وفي هذا، أنه قال: إنه يحبها فيبشِّره بالجنة، وأمير السرية قال: أنها صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه، والجمع بين هذا التغاير كله ممكن لولا ما تقدم من كون كلثوم بن الهدم مات قبل البعوث والسرايا، وأما من فسّره بأنه قادة بن النعمان فأبعد جدًّا، فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، أخرجه البخاري (5014، 7374)، ومالك (1/ 208)، وأحمد (3/ 35)، وابن حبان (791)، ليس فيه أنه أم بها لا في سفر ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك ولا بشر، للاستفادة. انظر: فتح الباري في كلامه على حديث عائشة في فضائل القرآن.

وأما ابن العطار فقال في "شرحه": لا أعلم اسمه في المبهمات، فاستفد أنت مما ذكرته لك. الثاني: "السرية" أحد السرايا وهي الطائفة التي يبعثها الإِمام من الجيش قبل دخول دار الحرب، يبلغ أقصاها أربعمائة، سُمّوا بذلك لكونهم خلاصة العسكر وخياره، مأخوذ من [التسري] (¬1)، وهو النفيس. وقيل: لأنهم يبعثون سرًّا وخفية وليس بالوجه لأن [لام] (¬2) التسري راء وهذه [تاء] (¬3) (وجاء: "خير السرايا أربعمائة رجل") (¬4). والأصحاب: جمع صحب: كفرخ وأفراخ. ومفرد صحب: صاحب: كراكب وركب. فائدة: الصحابي كل مسلم رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأصح، ¬

_ (¬1) في ن د (الشيء السري). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب د (ياء). (¬4) أخرجه أبو داود (2611)، وأبو يعلى (2587)، وأحمد في المسند (1/ 294)، والترمذي (1555)، والحاكم (1/ 443، 2/ 101)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لخلاف بين الناقلين فيه عن الزهري، وكذا قال الذهبي في مختصره. قال المناوي في فيض القدير (3/ 474): ولم يصححه الترمذي، لأنه يروى مسندًا ومرسلًا ومعضلًا، قال ابن القطان: لكن هذا ليس بعلة فالأقرب صحته، وابن حبان (4717)، والسرايا: جمع سرية وهي القطعة من الجيش سميت به، لأنها تري بالليل فعيله بمعنى فاعلة.

كما أوضحته في "المقنع في علوم الحديث"، وأسلفته في شرح الخطبة أيضًا. [الثالث] (¬1): فيه استحباب البعوث والسرايا والتأمير عليهم. الرابع: فيه أن أميرهم [يؤمهم] (¬2) في صلاتهم. الخامس: فيه جواز قراءة سورتين مع الفاتحة في ركعة، وقد ثبت ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين (¬3) من حديث أبي وائل، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال ابن مسعود: هذًّا كهذِّ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل: سورتين في كل ركعة، وقد جاء بيان هذه السور في سنن أبي داود (¬4)، الرحمن، والنجم في ركعة، واقتربت، والحاقة في ركعة، والطور، والذاريات في ركعة، وإذا وقعت، ونون في ركعة، ¬

_ (¬1) في ن د (ثالثها) ... إلخ الأوجه. (¬2) في الأصل (يؤم)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) البخاري (775، 4996، 5043)، ومسلم (822)، وأحمد (1/ 380)، والترمذي (602)، وابن خزيمة (538)، والبيهقي في السنن (2/ 60). وقوله: "هَذَّ كهذِّ الشعر"، هو بفتح الهاء وتشديد الذال المعجمة، أي تسرع إسراعًا في قراءته بغير تأمل، كما تُسرعُ في إنشاد الشعر، وأصل الهذّ، سرعة الدفع ونصب على المصدر، وهو استفهام إنكار بحذف آداته، وهي ثابتة في مسلم. وقوله: "لقد عرفت النظائر"، قال الحافظ: أي السور المتماثلة في المعاني كالمواعظ والقصص لا المتماثلة في عدد الآي لما سيظهر عند تعيينها. (¬4) وقد جاء تعيين السور في رواية أبي داود (1396).

وسأل سائل، والنازعات في ركعة، وويل للمطففين، وعبس في ركعة، وهل أتى، ولا أقسم في ركعة، وعم يتساءلون، والمرسلات في ركعة، والدخان، وإذا الشمس كورت في ركعة"، وزاد في رواية [ابن] (¬1) الأعرابي: "والمدثر والمزمل في ركعة" (¬2). وفي (المعرفة) للبيهقي (¬3): أن الشافعي [احتج] (¬4) في جواز الجمع بين السور بما رواه لإسناده عن ابن عمر، وبما رواه في موضع آخر عن عمر أنه قرأ بالنجم فسجد فيها، ثم قام فقرأ سورة أخرى، قال الربيع: قلت للشافعي: أتستحب أنت هذا؟ قال: نعم، وأفعله يعني الجمع بين السور، قال البيهقي: أنا بجميع ذلك أبو سعيد نا [أبو] (¬5) العباس، نا الربيع عن الشافعي. قلت: وهذا نص غريب في استحباب ذلك. فائدة: تتعلق بحديث ابن مسعود [الذي] (¬6) أوردناه، وهي: أن إطلاق النظائر على هذه السور لعلَ المراد به اشتراك ما بينهما في الموعظة أو الحكم أو القصص أو [للتقارب] (¬7) في القدر أو للمقارنة، فإن القرين يقال له: نظير. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د، وساقطة من الأصل ون ب. (¬2) انظر: الفتح (2/ 259). (¬3) المعرفة للبيهقي (3/ 242). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن د ساقطة. (¬6) في ن د (التي). (¬7) في ن ب (التقارب).

قال المحب الطبري في (أحكامه): وكنت أتخيل أن التنظير بين هذه السور لتساويهما في عدد الآي [حتى] (¬1) اعتبرتها فلم أجد شيئًا منها يساوي شيئًا، وقد ذكرت نظائر في عدّ الآي أحد وعشرون نظيرًا عدد آياتها متساوية: (الفاتحة، الماعون)، ([الأنفال] (¬2)، الزمر)، (يوسف، الإِسراء)، (إبراهيم، نون)، (الجاثية (¬3)، الحج، الرحمن)، (القصص، صاد)، الروم، الذاريات)، (السجدة، الملك، الفجر)، (حم السجدة، سبأ)، (فاطر، ق)، (الفتح، الحديد)، (الحجرات، التغابن)، (المجادلة، البروج)، (الجمعة، المنافقون)، ([الضحى، العاديات، القارعة)، (الطلاق، التحريم]) (¬4)، (نوح، الجن)، (المزمل (¬5)، [المدثر (¬6)، القيامة، عم يتساءلون)، (الانفطار، سبح، العلق]) (¬7)] (ألم نشرح، التين، لم يكن، الزلزله، ألهاكم)، (القدر، الفيل، تبت، الفلق)] (العصر، النصر، [الكوثر]) (¬8)، قريش (¬9). انتهى. وهو أكثر مما عدَّه أولًا. ¬

_ (¬1) في ن ب (حين). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) عدد آياته (37). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) عدد آياته (20). (¬6) عدد آياته (56). (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) في الأصل ون ب (التكوير). (¬9) عدد آياته (4)، مع سورة الصمد وبدون ما لم يكون له نظير هنا عددها كما ذكره المحب الطبري (21).

سادسها: قوله: "فيختم بقُل هو الله أحد"، فيه دليل على أنه كان يقرأ بغيرها، لكنه هل كان يقرأ بها مع غيرها في ركعة واحدة، ويختم بها في تلك الركعة، أم كان يختم بها في آخر ركعة يقرأ بها السورة؟، الظاهر الأول، والثاني يحتمله اللفظ، وعلى الأول يكون فيه دلالة على جواز الجمع بين سورتين في ركعة واحدة، كما أسلفته، وعلى جواز [لزوم] (¬1) قراءةً سورة بعينها خلافًا لمن أنكره. وفي صحيح البخاري (¬2)، في باب الجمع بين سورتين في ركعة تعليقًا بصيغة جزم عن أنس: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأُ به افتتح بـ (قُل هو الله أحد)، حتى فرغ منها، ثم يقرأُ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه وقالوا: إنك تفتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها إن أحببتم أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال: يا فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة من كل ركعة؟ فقال: إني أحبها، قال: "حبك إياها أدخلك الجنة". ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) البخاري (774).

قلت: وهذا الإِمام يحتمل أن يكون هو المبعوث على هذه السرية، ويحتمل أن يكون غيره. سابعها: فيه أنه ينبغى للمسؤول العالم أن يسأل السائل عن قصده وسبب فعله. ثامنها: فيه أن هذا الذي صنعه لم يكن معهودًا عندهم ولهذا ذكره الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لما ذكر الوجه الذي كان من أجله يفعل ذلك أقره عليه. قيل: لأن ذلك كان في أول الإِسلام والترغيب في الدخول [فيه] (¬1)، فأقره لئلا يقع التنفير، ولا سيما عن هذه السورة التي تضمنت أصول التوحيد. تاسعها: قوله: "لأنها صفة الرحمن"، يحتمل أنها اختصت بصفات الرب -تعالى- دون غيرها، بمعنى عدم انحصارها فيها، لا أنها تضمنت جميعها. ويحتمل أن يضمر: ذكر، فيكون المراد فيها (ذكر صفة الرحمن) فعبر عن ذلك الذكر بالوصف، وإن لم يكن نفس الوصف، وغلت الحشوية (¬2)، فقالوا: إنها نفس الوصف. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) قال ابن تيمية في الفتارى (12/ 176): وأما قول القائل: "حشوية" فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع ولا في اللغة، ولا في العرف العام، ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد، وقال: كان عبد الله بن عمر حشويًّا وأصل ذلك أن كل طائفة، قالت قولًا تخالف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = به الجمهور والعامة، [ينسب] إلى أنه قول الحشوية، أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم، فالمعتزلة تسمى من أثبت القدر حشويًا، والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية، والقرامطة، كاتباع الحاكم، يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشويًّا، وكما أن الرافضة يسمون قول أهل السنة والجماعة قول الجمهور، وانظر (4/ 146)، وقال في (4/ 88) بعد كلام سبق: فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه، وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقق، وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال، المنكرون عليهم المكذبون لله ورسوله، إلى أن قال: وأيضًا فينبغي النظر في الموسومين بهذا الاسم وفي الاسمين لهم به، أيهما أحق؟ وقد علم أن هذا الاسم مما اشتهر ممن هم مظنة الزندقة، كما ذكر العلماء كأبي حاتم وغيره، أن علامة الزنادقة تسميتهم لأهل الحديث حشوية، ثم قال: من المعلوم أن هذا من تلقيب بعض الناس لأهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره، ثم قال: وهؤلاء يعيبون منازعهم إما لجمعه حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتباع الحديث في مسائل الأصول من مذهب الحشو لأنها مسائل علمية، والحديث لا يفيد ذلك ... إلخ كلامه. وقال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" إن أصحاب البدع سمّوا أهل الحديث بالحشوية، والمتجبرة، والجبرية، وفي "غنية الطالبين" للشيخ عبد القادر الجيلاني: إن الباطنية تسمى أهل الحديث حشوية، لقولهم بالأخبار، وتعلقهم بالآثار. وقال ابن القيم رحمه الله في النونية: ومن العجاب قولهم لمن اقتدى ... بالوحي من أثر ومن قرآن =

[عاشرها] (¬1): هذه السورة اشتملت على اسمين من أسمائه تعالى يَتضمنان جميع أوصاف كماله لم يوجدا في غيرها من جميع السور، وهما "الأحد" و"الصمد"، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع صفات الكمال المعظمة، نبه على ذلك القرطبي في "شرحه" (¬2)، قال: وبيانه أن الأحد والواحد وإن [اجتمعا] (¬3) إلى أصل واحد لغةً، فقد افترقا استعمالًا وعرفًا، وذلك أن الهمزة المنقلبة [عن] (¬4) أحَد منقلبة عن الواو من وحَد فهما من الوحدة وهي راجعة إلى نفي العَددَ والكثرة، غير أن استعمال العرب فيهما مختلف، فإن الواحد عندهم أصل العدد، من غير تعرض لنفي ما عداه والأحد [يثبت] (¬5) مدلوله، ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا أكثر ما استعملته العرب في النفي، فقالوا: ما فيها أحد، (ولم يكن له كفوًا أحد)، ولم يقولوا: هنا واحد، فإن أرادوا الإِثبات قالوا: ¬

_ = حشوية يعنون حشوًا في الوجو ... د وفضله في أمة الإِنسان ويظن جاهلهم بأنهم حشوا ... رب العباد بداخل الأكوان إلى أن قال: تدرون من أولى بهذا الاسم وهـ ... ـو مناسب أحوال بوزان من قد حشا الأوراق والأذهان من ... بدع تخالف موجب القرآن هذا هو الحشوي لا أهل الحديـ ... ـث أئمة الإِسلام والإِيمان (¬1) في ن د (العاشر). (¬2) المفهم (3/ 1379، 1380). (¬3) في ن د (رجعا). (¬4) في ن د (من). (¬5) في ن ب (ثبت).

رأيت واحدًا من الناس، ولم يقولوا: هنا أحدًا. وعلى هذا، فالأحد في أسمائه تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وهو المعبر عنه بوجود الوجود، ورَبما عبَّر عنه بعض المتكلمين بأنه أخص وصفه. وأما الصمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن الصمد الذي انتهى سؤدده بحيث يُصمد إليه في الحوائج كلها، أي يقصد، ولا يصح ذلك تحقيقًا إلَّا ممن حاز جميع خصال الكمال حقيقة، وذلك لا يكمل إلَّا لله -تعالى- فهو الأحد الصمد الذي (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد)، فقد ظهر لهذين الاسمين، من شمول الدلالة على الله -تعالى- وصفاته، ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا مرجودين في شيء من سور القرآن. قلت: فلهذا علل حبه إياها بأنها صفة الرحمن. فائدة: ذكر ابن الخطيب لهذه السورة عشرين اسمًا سورة التفريد [التوحيد] (¬1)، سورة التجريد، الإِخلاص، النجاة، الولاية، النسبة (¬2) لأنها نزلت حين قالوا: انسب لنا ربك، المعرفة، لما ¬

_ (¬1) زيادة من ن د، ومن الفتوحات الإِلهية. (¬2) عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - أن المشركين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انسب لنا ربدً فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} فالصمد: (الذي لم يلد ولم يولد)، لأنه ليس شيء يولد إلَّا سيموت ولا شيء يموت إلَّا سيورث، وأن الله عز وجل لا يموت ولا يورث {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء. اهـ. سنن الترمذي (3364)، وأخرجه أحمد.

رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - لما سمع قارئًا يقرؤها قال: "هذا عبد عرف ربه" (¬1) الجمال، المقشقشة، المبرية، المعوذة، الصمد، الأساس، المانعة، المحضر لأن الملائكة تحضر لسماعها، المنفرة لأن الشياطين تنفر عند قراءتها، البراءة، النور، في الحديث "نور القرآن قل هو الله أحد" (¬2)، الأمان (¬3). الحادي عشر: في هذا الحديث فضيلة هذه السورة، ولا يدل على أنها أفضل السور، بل أفضلها الفاتحة، قاله ابن العطار في "شرحه". قلت: ويؤيده ما أخرجه البخاري (¬4) من حديث أبي سعيد بن المعلي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة (¬5) في القرآن؟ قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي ¬

_ (¬1) ابن حبان (2460) من رواية جابر بن عبد الله. (¬2) ذكره في بصائر ذوي التمييز (1/ 554) ولم يذكر له إسنادًا. (¬3) لمراجعة الأسماء انظر: الفتوحات الإِلهية توضيح تفسير الجلالين للدقائق الحنفية (4/ 602). (¬4) أخرجه البخاري (4474) في تفسير باب: ما جاء في فاتحة الكتاب و (5006) (4647 - 4703)، وأخرجه أحمد (4/ 211) (3/ 450)، والطيالسي (2/ 9)، وأبو داود (1458)، والنسائي (2/ 139)، وابن حبان (777). (¬5) في ن د زيادة (هي أعظم سورة).

أُتيته"، وفي صحيح ابن حبان (¬1) من حديث أنس أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لرجل: "ألا أخبرك بأفضل القرآن؟ قال: فتلا عليه: "الحمد لله رب العالمين"، وفي مسند عبد بن حميد (¬2) عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن أبان، عن شهر، عن ابن عباس رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن"، وهذا إسناد ضعيف. الثاني عشر: "هو" ضمير الشأن و"الله أحد" هو الشأن أي الشأن هذا وهو أن الله واحد لا ثاني له، فهو مبتدأ، والجملة التي هي أحد خبره، ويجوز أن يكون هو مبتدأ بمعنى المسؤول عنه لأنهم قالوا: ربك من نحاس أو من ذهب؟، فعلى هذا يجوز أن يكون "الله" خبرًا لمبتدأ "وأَحَد" بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون "الله" بدلًا من هو، و"أحد" الخبر، وهمزة "أحد" بدل من واو لأنه بمعنى الواحد وإبدال الواو المفتوحة همزة قليل جاء منه امرأة أناه والأصل وناه لأنه من الونى وهو الفتور، وقيل: الهمزة أصلية. الثالث عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أخبروه أن الله ¬

_ (¬1) ابن حبان (774)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (723)، وصححه الحاكم (1/ 560)، ووافقه الذهبي، ويشهد لهذا الحديث حديث أُبي بن كعب. أخرجه أحمد في المسند (5/ 114)، وصححه ابن خزيمة (500)، والحاكم (1/ 557)، ووافقه الذهبي، والترمذي (3125)، وحديث أبي سعيد بن المعلي. انظر التعليق (12). (¬2) منتخب عبد بن حميد (1/ 573)، والدر المنثور (1/ 5)، والمطالب العالية (3532). قال ابن حجر فيه: متروك. كنز العمال (2495).

يحبه" يحتمل أن محبة الله [له] (¬1) بسبب قراءتها أو يحتمل أنها سبب ما شهد به كلامه من محبته لذكر صفة الرب -سبحانه- وصحة اعتقاده] (¬2)، ويحتمل أنها بسبب قراءتها وما شهد به، فإن قراءتها سبب عن [المحبة] (¬3) لما ذكره. الرابع عشر: فيه أن محبة الله تعالى ومحبة صفاته أفضل المطلوبات. الخامس عشر: محبة الله -تعالى- لعباده إرادة ثوابه وتنعيمهم. وقيل: هي نفس الإِثابة والتنعيم لا الإِرادة (¬4). ومحبة عباده له -سبحانه وتعالى- لا يبعد فيها الميل منهم إليه -سبحانه- وهو متقدس عن الميل. فحقيقة محبة عباده له: ميلهم إليه لاستحقاقه سبحانه وتعالى المحبة من جميع وجوهها. وقيل: محبتهم له استقامتهم على طاعته. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (المحب). (¬4) وهذا كله تحريف للنصوص عما جاءت به، بل إن الله -سبحانه وتعالى- يوصف بالمحبة، وأنه يحب عباده المتقين، صفة تليق بجلاله وعظمته لا تمثال صفة المخلوقين، كما دل على ذلك كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وقيل: الاستقامة ثمرة المحبة. فائدة: قال سهل بن عبد الله التستري: المحبة معانقة الطاعة ومباينة المخالفة. وقال أبو علي الروذياري (¬1): المحبة الموافقة. وقال يحبى بن معاذ: ليس الصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حقوقه. السادس عشر: فيه أن ما كان من التلاوة متعلقًا بصفة الرب -سبحانه وتعالى- كان أفضل [التلاوات] (¬2) لكن قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لما ذكر أن القرآن ينقسم إلى فاضل ومفضول: كآية الكرسي وتبت، فالأول كلام الله في الله والثاني كلامه في غيره، لا ينبغي أن يداوم على قراءةً الفاضل ويترك المفضول، فإنه - عليه الصلاة والسلام - لم يفعله ولأنه يؤدي إلى نسيانه. ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن القاسم الروذباري: طبقات الشافعية لابن الصلاح (129)، وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 48)، وللأسنوي (1/ 576)، وحلية الأولياء (10/ 356). (¬2) في ن د (المتلاوات).

الحديث السادس

الحديث السادس 104/ 6/ 17 - عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها والليل إذا يغشاها، فإنه يصلي وراءك الكبير (¬1) [والضعيف] (¬2) وذا الحاجة" (¬3). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه تقدم في آخر باب الجنابة. أحدها: لم يعين في هذه الرواية في أي صلاة كان القول لمعاذ، وهي صلاة العشاء، كما ثبت في الصحيحين (¬4)، وفي ¬

_ (¬1) في ن د زيادة (والصغير). (¬2) في ن د ساقطة. (¬3) البخاري (700، 701، 705، 711، 6106)، ومسلم (465)، والطيالسي (1694)، وأحمد (3/ 369) (308)، والشافعي (1/ 143)، والدارقطني (1/ 274، 275)، وأبو داود (600، 790)، والنسائي (2/ 102)، وابن حبان (1524) المغرب. وفي جميع الروايات المخرجة هنا العشاء. (¬4) البخاري (701). ولفظه: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم =

رواية (¬1) لهما: "واقرأ باسم ربك، ثم الليل إذا يغشى"، وقد سلف في باب الإِمامة (¬2) أنه شُكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطويله في صلاة الصبح أيضًا، ولا تنافي بينهما. وثانيها: فيه دلالة على استحباب هذه السورة أو قدرها في العشاء إذا كان إمامًا، وفي حكمه المنفرد، والذي لا يسْمَع قراءةً الإِمام، وهذه السورة أفضل من غيرها للتنصيص عليها، وكذلك ينبغي المحافظة على كل ما ورد صحيحًا أو حسنًا عنه - صلى الله عليه وسلم - من القراءة المختلفة في الصلاة فعلًا أو قولًا أو تقريرًا، ولقد أحسن من قال من العلماء: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله، كما أفاده الشيخ تقي الدين (¬3). واعترض الفاكهي فقال: في هذا نظر، فإنه يقتضي استحباب قراءة الأعراف في المغرب مرة أو الطور ونحو ذلك مثلًا، كما جاء في الحديث مع استمرار العمل على خلاف ذلك. ¬

_ = يرجع فيؤم، قومه فصلى العشاء فقرأ البقرة"، ومسلم (465)، ولفظه: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء". (¬1) لا توجد عند البخاري ذكر سورة "اقرأ باسم ربك"، بل في رواية مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير. انظر: الفتح (2/ 195)، ومسلم (465 - 179) حيث جمعهما بقوله: "وفي رواية لهما"، يقصد البخاري ومسلم -عليهما رحمة الله-. (¬2) الحديث السابع. (¬3) إحكام الأحكام (2/ 408).

قلت: وأي مانع من ذلك وقد بلغني عن الشيخ تقي الدين أنه فعل ذلك مرة وقد فعلته أنا أيضًا؟! ولله الحمد. ثالثها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: بـ"سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى" المراد بواحدة منها إذ هو المناسب للتخفيف، فالواو هنا بمعنى أو. رابعها: المراد بالكبير السن [وقد تقدم فقه هذا الحديث في باب الإِمامة واضحًا ولا بأس بتجديد العهد به فنقول] (¬1): لا شك أن الصلاة تختلف إطالتها وتخفيفها باختلاف أحوال المصلي إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل ولا شغل للإِمام ولا لهم طولوا، وإذا لم يكن كذلك خففوا، وقد تراد الإِطالة ثم يعرض ما يقتضي التخفيف: كبكاء الطفل أو نحوه، وعلى ذلك تتنزل الأحاديث في تطويله - عليه الصلاة والسلام - وتخفيفه، وإذا استقرىء فعله وجد التطويل إمامًا أقل، والتخفيف أكثر. فتكون الإِطالة لبيان الجواز. والتخفيف لكونه أفضل، وعليه دل الحديث السالف هناك: "إن منكم منفرين". وقيل: إن تطويله وتخفيفه لبيان أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها بل يجوز قليلها وكثيرها، بل الواجب الفاتحة فقط لاتفاق الروايات واختلافها فيما زاد وبالجملة السنة التخفيف للعلة التي بينها وتطويله في بعض الأوقات لتحقيقه انتفاء العلة مع قصد إرادة التطويل لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إني لأدخل ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب.

في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء [الصبي] (¬1)، فأتجوز في صلاتي، مخافة أن يفتن أمه" (¬2)، ولهذا قال لمعاذ: "أفتّان أنت"؟ مرتين أو ثلاثًا. وإن كان منفردًا ووجد نفسه مقبلة على التطويل طول وإلَّا خفف ليكون مقبلًا على صلاته في جميع حالاته، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام -: "إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد" (¬3) أي بعد فراغه منها وتخفيفها خوفًا من السآمة وعدم التدبر. خامسها: في هذا الحديث تعليل الأحكام للناس لكونه ادعى إلى القبول والعمل بالعلم، وأثبت في القلوب. سادسها: فيه أيضًا الرفق بالضعفاء والشفقة عليهم في الأمور الأخروية، فما ظنك بغيرها من أمور الدنيا (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (الطفل). (¬2) البخاري (707) عن أبي قتادة، ومن رواية أنس (708، 709)، ومسلم (470)، وأحمد (3/ 109)، وابن ماجه (989)، والترمذي (376)، والبغوي (845، 846)، والبيهقي (2/ 393)، وابن خزيمة (1610). (¬3) الموطأ (1/ 118)، والبخاري (212) في الوضوء، ومسلم (786)، وأبو داود (1310)، والبيهقي (3/ 16)، وأبو عوانة (2/ 297)، وأحمد (2/ 56، 202، 205، 259)، والدارمي (1/ 321)، والحميدي (185)، والترمذي (355)، وابن ماجه (1370)، وابن حبان (2583، 2584) بألفاظ مختلفة. (¬4) فائدة: على حديث عثمان بن أبي العاص، قال: قلت: يا رسول الله اجعَلْنِي إمامَ قومي، قال: "أنت إمامُهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على الآذان أجرًا". أخرجه أبو داود وغيره، وأخرج مسلم القصة =

سابعها: فيه أيضًا تحسين العبارة في التعليم بالتخصيص الدال على الأمر من غير تعاطي لفظه مراعاة لنفرة النفوس عنه. ثامنها: "لولا" هذه أحد حروف التحضيض وهي أربعة: (هلا، وإلاَّ، ولولا، ولو ما)، وهي من الحروف المختصة بالأفعال، فإذا وليها المستقبل كانت تحضيضًا، وإذا وليها الماضي كانت توبيخًا. ¬

_ = الأولى منه. قال الطيبي في حواشي المشكاة: "فيه من الغرابة أن جعل المقتدى به مقتديًا تابعًا، يعني: كما أن الضعيف يقتدي بصلاتك فاقتدِ أنت أيضًا بضعفه، واسلك سبيل التخفيف في القيام والقراءة". انتهى. وقال السيوطي -رحمه الله- في "مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود": قد ألغزت ذلك بقولي: يا رواة الفقه هل مر بكم ... خبر صحيح، غريب المقصد عن إمام في الصلاة يقتدى ... وهو بالمؤموم فيها مقتدي اهـ. من إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإِمام (257).

18 - باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

18 - باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم 105/ 1/ 18 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -[كانوا يفتتحونَ] (¬1) الصلاة بـ"الحمد لله رب العالمين" (¬2). وفي رواية: "صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: ببسم الله الرحمن الرحيم" (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (743)، وأحمد (2/ 111، 3/ 101، 114)، والنسائي (2/ 135)، وأبو عوانة (1/ 122)، وابن الجارود (181)، وابن خزيمة (496)، وعبد الرزاق (2598)، والترمذي (246)، وابن ماجه (813)، وابن حبان (1798)، والموطأ (1/ 81) مع اختلاف في الألفاظ، والبيهقي (2/ 51، 54). (¬3) مسلم (399)، والنسائي (2/ 135)، وابن خزيمة (492، 494)، وأبو عوانة (2/ 122)، وابن الجارود (183)، والدارقطني (1/ 316)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 202)، والطيالسي (1975)، وابن حبان (1799) بدلًا من "يقرأ" "يجهر"، وفي الحديث الأول بدلًا من "الصلاة": "القراءة". انظر: أطراف المسند (1/ 458، 459، 399).

ولمسلم: "صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون الصلاة بـ"الحمد لله رب العالمين" لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءةً ولا [في] (¬1) آخرها] " (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد تقدم في باب الاستطابة. ثانيها: تقدم الكلام على افتتاح الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وتأويله في باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثالثها: الرواية الثالثة لا تناسب ما ترجمه المصنف للباب فتأمله. رابعها: قوله: "بالحمد" هو يرفع الدال على الحكاية، وإن كان مجرورًا بالباء. خامسها: استدل بالرواية الثالثة من لا يرى البسملة من الفاتحة، وقد أسلفت الخلاف في ذلك في الباب المشار إليه قريبًا. سادسها: استدل بالثانية من يقول: إنها منها ولا يجهر بها وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، والمذاهب في ذلك ثلاثة (¬3): ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) مسلم (399)، وأبو داود (782)، والدارمي (1/ 283)، والنسائي (2/ 135)، والترمذي (246)، والمسند (3/ 183)، وأطراف المسند (1/ 458، 459، 399). (¬3) قال البغوي -رحمنا الله وإياه- في شرح السنة (3/ 54): ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة فإن بعدهم إلى ترك الجهر بالتسمية، بل يسر بها منهم =

مذهب مالك: تركها سرًا وجهرًا. ومذهب أبي حنيفة وأحمد: ما ذكرته. ومذهب الشافعي: الجهر بها وهو قول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفقهاء والقراء، كما نقله عنهم النووي في (شرح المهذب) (¬1)، على أنه جاء في رواية شعبة: "لم يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم"، وفي رواية "لم يكونوا يجهرون". قال البيهقي (¬2): "ورواية كانوا يفتتحون القراءة، بالحمد لله ¬

_ = أبو بكر وعمر، وعثمان وعلي وغيرهم، وهو قول إبراهيم النخعي وبه قال مالك، والثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أي بُنَيْ، إياك والحدث، قد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر، ومع عثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت، فقل: الحمد لله رب العالمين. أخرجه أحمد (4/ 85)، والنسائي (2/ 135)، والترمذي وحسنه (244)، وذهب قوم إلى أنه يجهر بالتسمية للفاتحة والسورة جميعًا، وبه قال من الصحابة أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو الزبير، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإليه ذهب الشافعي، واحتجوا بحديث ابن عباس، كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يفتتح صلاته بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، أخرجه الترمذي (245)، وقال: وليس إسناده بذاك وقال العقيلي: ولا يصح في الجهر بالبسملة حديث. (¬1) المجموع (3/ 332، 356). (¬2) في السنن (2/ 51).

رب العالمين" أولى أن تكون محفوظة. وقال الدارقطني (¬1): إنه المحفوظ. قال الشافعي: يعني يبدؤون بقراءة أم القرآن قيل ما يقرأ بعدها. وفي رواية ابن عبد الله بن مغفل عن أبيه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر لا يقرؤون" يعني لا يجهرون كذا في الحديث، وفي رواية سفيان: "لا يجهرون" ولم يقل: "لا يقرؤون" لكنه حديث ضعيف، كما قاله الحفاظ لأن ابن عبد الله مجهول (¬2). ورواية المصنف، [الثانية] (¬3): "لم أسمعْ". المتيقنُ منه ترك الجهر لا الجهر مطلقًا. وأما الثالثة: فظاهرة في عدم الذكر، لكنها معلولة، لأن مسلمًا قال في صحيحه (¬4): ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي عن عبدة: أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، ¬

_ (¬1) في المرجع السابق. (¬2) قد ورد التصريح باسم ابن عبد الله بن مغفل، واسمه يزيد، كما في الرواية التي أخرجها أحمد في مسنده (4/ 85)، وأيضًا في معجم الطبراني، قال أحمد شاكر، بعد سياق إسناد أحمد: وهذا إسناد صحيح فيه التصريح باسم يزيد بن عبد الله بن مغفل. اهـ، من سنن الترمذي (244)، وبدون التصريح باسمه في موضعين في المسند (5/ 54، 55). (¬3) في الأصل ون ب (الثالثة)، وما أثبت من ن د. (¬4) سبق تخريجه في حديث رقم (84) التعليق (1) ص (13).

تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، وعن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: "صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بـ"الحمد لله رب العالمين"، لا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها ثم قال مسلم: ثنا محمد بن مهران، ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك فذكر ذلك. انتهى. وبيان العلة من وجهين: الأول: أن في إسناده كتابة (¬1)، لا نعلم من كتبها، ولا من حملها، وقتادة ولد أكمه. الثاني: أنه اشتمل على عنعنة مدلس، وهو الوليد، ولا ينفعه تصريحه بالتحديث، فإنه اشتهر بتدليس التسوية، وهو أن لا يدلس ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمه الله- (2/ 228): بعد ذكر الحديث ومن خرجه من أصحاب الكتب ورواتهم فيه، وقدح بعضهم في صحته بكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة، وفيه نظر من الأوزاعي لم ينفرد به، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي والسراج عن يعقوب الدورقي، وعبد الله بن أحمد، عن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي دواد الطيالسي عن شعبة بلفظ: "فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم"، قال شعبة: قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه، لكن هذا النص محمول على ما قدمناه: أن المراد أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرؤونها سرًّا، ويؤيده رواية من رواه بلفظ: "فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم".

شيخ نفسه، ولكن شيخ شيخه لا سيما وقد عارضه أحاديث ثابتة، منها ما رواه البخاري عن قتادة نفسه، قال: سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كانت مدًّا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، مد بسم الله، ومد الرحمن، ومد الرحيم (¬1)، وقد سئل أنس أيضًا: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بـ"الحمد لله" أو بالبسملة؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه، ولا سألني عنه أحد قبلك. رواه الإِمام أحمد (¬2) وصححه ابن خزيمة (¬3)، وقال الدارقطني (¬4): إسناده صحيح. لا جرم. قال ابن عبد البر (¬5): حديث أنس السالف لا يحتج به لتلونه واضطرابه واختلاف ألفاظه مع تغاير معانيها، وقد سئل أنس عن ذلك، فقال: كبرت ونسيت (¬6). ¬

_ (¬1) قال أحمد شاكر -رحمه الله- في سنن الترمذي (2/ 17): بعد ذكر هذا الحديث: نعم ليس فيه تصريح بأن ذلك كان في الصلاة، ولكن الروايات الأخرى عن أنس تدل على أنه يريد القراءة في الصلاة. (¬2) المسند (3/ 177). وانظر: أطراف مسند الإِمام أحمد (1/ 458، 459) عن أبي قتادة، والمسند (3/ 166، 190). (¬3) ابن خزيمة (1/ 248). (¬4) الدارقطني (1/ 316)، وقال: إسناده صحيح. (¬5) في الاستذكار (4/ 163، 166)، والتمهيد (2/ 228، 230)، وقد أفرد لها رسالة باسم "الإِنصاف فيما بين العلماء في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من الاختلاف". (¬6) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (2/ 228): قال شعبة: قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه، لكن هذا النفي محمول على =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ما قدمناه: أن المراد أنه لم يسمع منه البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرؤونها سرًّا. ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ: "فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم"، كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النسائي وابن حبان وهمام عبد الدارقطني وشيبان عند الطحاوي وابن حبان وشعبة أيضًا من طريق وكيع عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة. ولا يقال: هذا اضطراب من قتادة لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك، فرواه البخاري في "جزء القراءة، والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة والسراج من طريق ثابت البناني والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في الأوسط من طريق إسحاق أيضًا وابن خزيمة من طريق ثابت أيضًا والنسائي من طريق منصور بن زاذان وابن حبان من طريق أبي قتادة والطبراني من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ النافي للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي حمل السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان: "فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم"، وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عبد ابن خزيمة بلفظ: "كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم"، فاندفع بهذا تعليل من أعلَّه بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه، وأما من قدح في صحته، بأن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن هذه المسألة فقال: "إنك لتسأني عن شيء ما أحفظه، ولا سألني عنه أحد قبلك" ودعوى أبي شامة أن أنسًا سئل عن ذلك سؤالين فسؤال أبي سلمة: "هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمد لله" وسؤال قتادة "هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها"، قال: ويدل عليه قول قتادة في صحيح مسلم "نحن سألناه". انتهى. فليس =

قلت: وأما أحاديث الجهر فالحجة (¬1) قائمة بما ¬

_ = بجيد، لأن أحمد روى في مسنده بإسناد صحيح أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم، إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، ولم يبين مسلم صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي زكرناها عن أبي داود أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر من طريق أبي جابر عن شعبة عن قتادة، قال: "سألت أنسًا: أيقرأ الرجل في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: صلَّيت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم"، فظهر اتحاد سؤال أبي سلمة وقتادة، وغايته أن أنسًا أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة: "ما سألني عنه أحد قبلك" أو قاله لهما معًا فحفظه قتادة دون أبي سلمة، فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع، وإذا انتهى البحث إلى أن محصل. حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه، فمتى وجدت رواية بها إثبات الجهر قدمت على نفيه لا لمجرد تقديم رواية المثبت على الثاني، لأن أنسًا يبعد جدًا أن يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة عشر سنين ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسًا وعشرين سنة فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهر أو لم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر. هذا ملخص لجميع ما ذكر ابن الملقن في المسألة نقلناه بكامله من الفتح. (¬1) قال ابن باز -حفظه الله- في الفتح (2/ 229) على قوله: "فتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر": هذا فيه نظر. والصواب، تقديم ما دل عليه حديث أنس من شرعية الإِسرار بالبسملة لصحته وصراحته في هذه =

[يشهد] (¬1) له بالصحة، منها وهو ما روي عن ستة من الصحابة، أبي هريرة، وأم سلمة، وابن عباس، وأنس، وعلي بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، قال ذلك الحافظ أبو شامة المقدسي بعد أن ذكر: أن الأحاديث الواردة في الجهر [كثيرة] (¬2) ومتعددة عن جماعة من الصحابة يرتقي عددهم إلى أحد وعشرين صحابيًا، رووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من صرح بذلك ومنهم من فهم من عبارته، قال: ولم يرد تصريح بالأسرار بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلَّا روايتان: إحداهما: عن ابن مغفل وهي ضعيفة (¬3). والثانية: عن أنس وهي معللة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها. ومنهم من استدل بحديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" (¬4) ولا دليل فيه للإِسرار قال: فأما أحاديث الجهر فالحجة ¬

_ = المسألة، وكونه نسي ذلك ثم ذكره لا يقدح في روايته كما علم بذلك في الأصول والمصطلح وتحمل رواية من روى الجهر بالبسملة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بها في بعض الأحيان ليعلم من وراءه أنه يقرأها، وبهذا تجتمع الأحاديث، وقد وردت أحاديث صحيحة تؤيد ما دل عليه حديث أنس من شرعية الإِسرار بالبسملة، والله أعلم. اهـ. (¬1) في ن د (شهد). (¬2) في ن د ساقطة. (¬3) سبب ضعفها جهالة ابن عبد الله بن مغفل، وقد ورد التصريح باسمه في سنن الترمذي ومسند الإِمام أحمد. انظر: التعليق ت (4) ص (233). (¬4) مسلم في الصلاة، وابن خزيمة (1/ 252)، قال ابن تيمية: روينا عن =

قائمة بما شهد له بالصحة منها وهو ما روي عن ستة فذكرهم [كما أسلفته] (¬1)، وقد بسطتها أنا في "تخريجي لأحادبث الرافعي"، فراجعه إن شئت، وبالله التوفيق. ¬

_ = الدارقطني أنه قال: (لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهر حديث، وعن الدارقطني أنه صنف بمصر كتابًا في الجهر بالبسملة فأقسم بعض المالكية أهل المعرفة الصحيحة: أنه لم يصح في الجهر بها حديث). اهـ، حاشية الصنعاني (2/ 413). (¬1) زيادة من ن د.

19 - باب سجود السهو

19 - باب سجود السهو السهو مصدر سَها يَسهو وفسَّره الجوهري (¬1) بالغفلة ذكر فيه حديث أبي هريرة، وحديث عبد الله ابن بحينة: الحديث الأول 106/ 1/ 19 - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي، قال ابن سيرين: وسماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا، قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة [معترضة] (¬2) في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين. فقال: يا رسول الله قصرت الصلاة أم نسيت؟، قال: "لم أنس ولم تقصر"، فقال: "أكما يقول ذو اليدين؟ " فقالوا: ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (137). (¬2) في ن د (معروضة).

نعم، فتقدم فصلى ماترك ثم سلم، ثم سجد وكبَّر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر فربما سألوه ثم سلم: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: محمد بن سيرين هذا هو الإِمام الرباني التابعي مولى أنس بن مالك، وأبوه من سبي عين التمر، وأمه صفية مولاة الصديق وهو أخو أنس، ومعبد وحفصة وكريمة أولاد سيرين، كان إمام وقته بالبصرة مع الحسن، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ومات بعد الحسن بمائة يوم في شوال سنة عشر ومائة، وهو أثبت من الحسن. رأى ابن سيرين كأن الجوزاء تقدمت الثريا فأخذ في وصيته وقال: يموت الحسن وأموت بعده هو أشرف مني، وكان علاَّمة في التعبير. قال مورق العجلي: ما رأيت أحدًا أفقه في ورع ولا أورع في فقه منه. وقال أبو قلابة: من يطيق ما يطيق [محمد] (¬2) يركب مثل حدّ السنان: ¬

_ (¬1) البخاري (482، 714، 715، 1227، 1228، 1229، 6051، 7250)، ومسلم (573)، ومالك في الموطأ (1/ 93)، والشافعي (1/ 121)، والترمذي (399)، وأبو داود (1009)، والنسائي (3/ 66)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 444)، والبيهقي (2/ 356). (¬2) زيادة من ن د.

قال [ابن عون] (¬1). رأيته في السّوق فما رآه أحد إلَّا ذكر الله. وقال زهير الأقطع: كان إذا ذكر: الموت مات كل عضو منه، روى عن طائفة من الصحابة، ومن عزيز ما وقع له، أنه روى عن أخيه يحيى بن سيرين، عن أخيه أنس بن سيرين، عن أنس: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لبيك حجًّا حقًّا تعبدًا ورقًّا" (¬2). الوجه الثاني: قوله (صلى بنا)، كذا جاء في هذه الرواية وفي رواية أخرى: (صلى لنا) بدل: (صلى بنا) (¬3). الثالث: العشيّ -بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء- قال الأزهري (¬4): هو عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها، قال: ومنه قول القاسم بن محمد (¬5) "ما أدركت الناس إلا وهم ¬

_ (¬1) في المخطوطة (أبو عوانة)، والتصحيح من كتب التراجم. (¬2) الخطيب (14/ 215، 216)، وإنما ذكر يحيى وليس أخيه أنس، وذكره في مجمع الزوائد (3/ 226)، ورواه البزار مرفوعًا وموقوفًا ولم يسم شيخه في المرفوع. (¬3) رواية "صلَّى لنا". أخرجها مسلم (573)، ومالك في الموطأ (1/ 94)، وعبد الرزاق (3448)، والشافعي في مسنده (1/ 121)، والنسائي (3/ 22)، وصححه ابن خزيمة (1037). ورواية "صلَّى بنا". أخرجها البخاري (715، 1227)، والنسائي (3/ 25)، وأبو داود (1013). (¬4) الزاهر (52). (¬5) الموطأ (1/ 9)، والاستذكار (1/ 246).

يصلون الظهر بعشي"، وأصله الظلمة: ومنه عشا البصر وعشوت إلى النار نظرت إليها عن ظلمة، وفي صحيح مسلم: (إحدى صلاتي العشي: الظهر أو العصر)، وفي بعض الأحاديث "أنها الظهر"، قال بعضهم: وهذا الاختلاف في قضية واحدة، قاله ابن بزيزة، ويحتمل أن تكون قضيتان مختلفتان إلَّا أن يثبت التاريخ، [ونقله غيره عن المحققين] (¬1). الرابع: الخشبة المعروضة: جذع من نخل كذا جاء مبينًا في صحيح مسلم، وكان في قبلة المسجد. قال الفاكهيُ: والظاهر أن هذه الخشبة هي الجذع الذي كان يخطب عليه أولًا. وقوله: "كأنه غضبان"، جاء في حديث عمران: "فخرج مغضبًا" وغضبه يحتمل أن يكون إنكارًا على المتكلم إذ نسبه إلى ما كان يعتقد خلافه، ولذلك أقيل على الناس متكشفًا عن ذلك، ويحتمل: أن يكون غضبه لأمر آخر لم يذكره الراوي. قال القرطبي (¬2): وكأن الأول أظهر. وقال بعضهم: وأظنه ابن بزيزة، لعل الصحابة عبروا بالغضب عما ظهر عليه، وإلَّا فلا موجب له في هذا الوقت أي ظاهرًا. الخامس: السَرَعانِ -بفتح السين المهملة والراء- المسرعون ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) المفهم (2/ 1013).

إلى الخروج، ويجوز فيه إسكان الراء كما نقله القاضي (¬1)، وقال: وضبطه الأصيلي في البخاري بضم السين وإسكان الراء، فيكون جمع سريع: كقفيز وقفزان، وكثيب وكثبان. قال الخطابي (¬2): وكسر السين خطأ. وإنما خرجوا ولم يتكلموا ولم يلبثوا، لأن الزمن زمن وحي، ونزول الشرائع، فخرجوا بانين على أن النسخ قد وقع، وأن الصلاة قد قصرت ويبعد اتفاقهم على النسيان. السادس: قوله: "أقصرت الصلاة؟ " -هو بضم القاف وكسر الصاد- وروى بفتح القاف وضم الصاد وكلاهما صحيح ولكن الأول أشهر وأصح، قاله النووي في شرحه (¬3). وإنما قالوا: "أقصرت الصلاة؟، على اعتقاد وقوع ما يجوز من النسخ. السابع: "ذو اليدين: اسمه الخرباق -بكسر الخاء المعجمة، ثم راء، ثم باء موحدة، ثم ألف، ثم قاف- ابن عمرو وهو سلمي من بني سليم كنيته أبو العريان. قال جماعة: عاش بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - زمانًا. قال الزهري: وهو ذو الشمالين أيضًا المقتول يوم بدر وغلطوه فيه. ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (2/ 213). (¬2) إصلاح غلط المحدثين للخطابي (28)، ومعالم السنن (1/ 461)، ومشارق الأنوار (2/ 213). (¬3) شرح مسلم (5/ 68).

واختلف في سبب تسميته بذلك. فقيل لطول في يديه، وهو ما في الكتاب، وهو قول البخاري وهو الظاهر ووقع في رواية: "بسيط اليدين" بدل ذلك وهو هو. وقيل لأنه كان يعمل بيديه، قاله ابن قتيبة، وقيل: إنه كان قصير اليدين، حكاه [الجيلي] (¬1) في (شرح التنبيه). وقال القرطبي (¬2): يحتمل أنه كان طويل اليدين بالعمل وبالبذل قال: وقد سماه في حديث عمران الخرباق [قال] (¬3): وكان في يده طول ويحتمل أن يكون رجلًا آخر. قلت بعيد جدًّا (¬4)، [وفي معجم ................ ¬

_ (¬1) في ن ب (الخليل). (¬2) المفهم (2/ 1007). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قد اختلفت الرواية في ضبط اسم الراوي وصفته، وذلك لكثرة الروايات في موضوع السهو، ومنها ما صرح فيه باسم ذي الشمالين بن عبد بن عمرو بن نضلة الخزاعي، وهو حليف بني زهرة، وهذا في صحيح ابن خزيمة برقم (1042) (2/ 125)، ومنها ما ذكر فيه اسم الخرباق رجل بسيط اليدين، وهي رواية عمران بن الحصين في الكتب الستة. وقد ذهب ابن خزيمة أن القصص في السهو ثلاث (1053) (2/ 128) صحيح ابن خزيمة، ولكن رأى المصنف بخلافه وقد عدها ستة. انظر ما بعد المسألة التاسعة، فقد ذكرها بأدلتها مع الإِحالة إلى مصادرها، وقال النووي في المهذب (2/ 328): قال الشافعي: قال قائل: أفذو اليدين الذي رويتم عنه المقتول ببدر؟ قلت: لا، عمران يسميه الخرباق، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ويقول: قصير اليدين أو مديد اليدين، والمقتول ذو الشمالين "يعني ابن عبد عمرو بن نضلة"، وكلام الشافعي يؤكد أن ذا اليدين غير ذي الشمالين، وهو يجعل الرواية الجامعة بينهما موضع النظر، وقال ابن قتيبة في المعارف (322) يقول: ليس ذو اليدين ذا الشمالين المستشهد في بدر. وقال السيوطي في تنوير الحوالك (1/ 88): قال الباجي: قول ابن شهاب في هذا الحديث: (ذو الشمالين) فيه نظر، وقال ابن أبي حثمة: (ذو الشمالين) عمير بن عبيد بن عمرو بن نضلة من خزاعة حليف لبني زهرة بن كلاب قتل يوم بدر، (وذو الدين) هو الخرباق، وهو غير ذي الشمالين، والجمع بينهما في حديث الزهري مما خالفه فيه الحفاظ من الرواة عن أبي هريرة: محمد بن سيرين وأبو سفيان وغيرهما: وكذلك رواه الحفاظ عن أبي سلمة، وبين هذا أن أبا هريرة يقول الحديث: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كذلك رواه مصعب ونميره، وهذا يقتضي مشاهدة أبي هريرة لهذه الصلاة وذو الشمالين قتل يوم بدر وإسلام أبي هريرة بعد ذلك بأعوام جمة، قال: ولم يذكر ابن شهاب في حديثه هذا سجود السهو، وقد ذكره جماعة من الحفاظ عن أبي هريرة، والأخذ بالزائد أولى إذا كان راويه ثقة. انظر: المنتقى للباجي (1/ 175). وقال ابن عبد البر في تمهيده: قول الزهري في هذا الحديث إن المتكلم ذو الشمالين لم يتابع عليه، فذو الشمالين هو عمير بن عمرو بن غيثان خزاعي حليف لبني زهرة، قتل لبدر، وذو اليدين اسمه الخرباق سلمي من بني سليم، قال: وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابًا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة .. وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه بشر. =

الإِسماعيلي (¬1) فأتاه ذو اليدين أو اليد] (¬2). الثامن: قوله: "فنبئت أن عمران بن حصين، قال: ثم سلم" القائل هو محمد بن سيرين الراوي عن أبي هريرة، وهو مصرح بأنه لم يسمع ذلك من عمران بل بواسطة. التاسع: اعلم أن أحاديث باب السهو في الصلاة ستة، وإن كان المازري (¬3) -رحمه الله- ذكرها خمسة، وتبعه النووي (¬4) وغيره، وأغفل حديث عمران بن حصين، وهو أنه سلم في ثلاث، ثم صلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، وإنما لم يذكره لأنه رأى أنه في معنى حديث ذي اليدين، ويلزمه على هذا ألا يعدد حديث أبي هريرة، لأنه عنده في معنى حديث أبي سعيد. الحديث الأول: حديث أبي هريرة (¬5) فيمن شك فلم يدرِ كم ¬

_ = وقال في الاستيعاب (1/ 149): وذو الشمالين عمير بن عمرو الذي قتل شهيدًا يوم بدر. (¬1) معجم الإِسماعيلي (1/ 331) وذكر هنا بالتثنية "أو اليدين"، وما أثبت من المعجم. (¬2) زيادة من ن د. (¬3) المعلم بفوائد مسلم (1/ 420). (¬4) شرح مسلم (5/ 56). (¬5) ولفظه: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يأتي الشيطان أحدكم وهو في صلاته ليلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك فليسجد سجدين وهو جالس". أخرجه مالك في الموطأ (1/ 100)، والبخاري (1232)، ومسلم (389)، وأبو داود (1030)، والنسائي (3/ 31).

صلَّى. وفيه أنه سجد سجدتين ولم يذكر موضعهما. الثاني: حديث أبي سعيد (¬1) فيمن شك أيضًا، وفيه: أنه سجد سجدتين قبل أن يسلم. الثالث: حديث ابن مسعود (¬2)، وفيه القيام إلى خامسة، وأنه ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (1023)، وأبو داود (1024)، وابن ماجه (1210)، وابن أبي شيبة (2/ 25)، والنسائي (3/ 27)، والطحاوي (1/ 433). وقد ورد بلفظتين: الأول: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم فلم يدر ثلاثًا صلَّى أم أربعًا. فليصل ركعة وليسجد سجدتين قبل السلام، فإن كانت ثالثةً شفعتها السجدتان وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان". أخرجه أبو داود (1026)، والطحاوي (1/ 433)، ومالك (1/ 95)، وأحمد (3/ 72، 84، 87)، والدارمي (1/ 351)، والنسائي (3/ 27). اللفظ الثاني: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك، وليبين علي اليقين، فإن استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة، والسجدتان نافلة، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمامًا لصلاته والسجدتان ترغمان أنف الشيطان". تخريجه ما ذكر في أعلاه. (¬2) قد ورد بألفاظ كثيرة ولكنها ترجع إلى تحري الصواب، ولفظه: عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه صلى الظهر خمسًا، فقيل زيد في الصلاة شيء؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وما ذاك؟ " قالوا: إنك صليت خمسًا فسجد سجدتين بعدما سلم. أخرجه مسلم (572)، والبخاري (1404)، وأبو داود (1029)، والترمذي (392)، والنسائي (3113)، وابن حبان (2658). وفي لفظة: "فليتحرَّ الصواب، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدين". أخرجه =

سجد بعد السلام. الرابع: حديث ذي اليدين (¬1) الذي ذكره المصنف من رواية أبي هريرة، وفيه السلام من اثنتين [والمشي] (¬2) والكلام، وأنه سجد بعد السلام. قال أبو عمر (¬3): وقد رَوَى قصة ذي اليدين عبد الله بن عمر (¬4)، ومعاوية بن حُدَيج (¬5) -بضم الحاء المهملة- وعمران بن حصين (¬6)، وصاحب الجيوش واسمه عبد الله (¬7) بن مَسْعَدة، وهو معروف في الصحابة بابن مسْعَدة له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الخامس: حديث ابن بحينة (¬8) وقد ذكره المصنف بعد هذا، ¬

_ = ابن ماجه (1212) وأبو يعلى (5002)، وهو صحيح الإِسناد وعلى شرط مسلم، وابن حبان (2659). (¬1) وهو حديث الباب. انظر التعليق ت (1) ص (241). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في التمهيد (1/ 360). (¬4) راوية ابن عمر أخرجها ابن أبي شيبة (2/ 38). (¬5) ابن أبي شيبة (2/ 37)، وابن حبان (2674)، والحاكم (1/ 261، 323)، والبيهقي (2/ 359)، وأحمد (6/ 401). (¬6) مسلم (574)، وأحمد (4/ 427)، وأبو داود (1018)، والنسائي (3/ 26)، وابن ماجه (1215)، وابن حبان (2654، 2671، 2672، 2673). (¬7) أخرجه عبد الرزاق. (¬8) أخرجه البخاري (829، 830، 1224، 1225، 1230، 6670)، ومسلم (570)، والترمذي (391)، والنسائي (3/ 34)، والبغوي =

وفيه القيام من اثنتين والسجود قبل السلام. السادس: حديث عمران الذي أسلفناه أولًا، وقال الشيخ تاج الدين الفاكهي: جملة الأحاديث الواردة في ذلك ثلاثة عشر حديثًا مشهورة في كتب الحديث. قلت: ولعلها ترجع إلى هذه الستة، وقد اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث، فمنهم من وقف عليها في مواضعها، ومنع القياس عليها: كداود الظاهري، ووافقه أحمد في الصلوات المذكورة خاصة، وخالفه في غيرها، وقال: يسجد فيما سواها قبل السلام لكل سهو. ومنهم من قاس عليها، واختلف هؤلاء. فقال بعضهم: هو مخير في كل سهو إن شاء سجد بعد السلام وإن شاء قبله في الزيادة والنقص. وقال أبو حنيفة: الأصل فيه السجود بعد السلام. وتأوَّل باقي الأحاديث عليه. وقال الشافعي: الأصل فيه السجود قبل السلام ورد بقية الأحاديث إليه. وقال مالك: إن كان السهو زيادة فبعده وإلَّا فقبله. فأما الشافعي، فقال في حديث أبي سعيد: فإن كانت خامسة ¬

_ = (758)، والموطأ (1/ 96)، وابن حبان (1938، 1939، 1941)، وأحمد (5/ 345، 346)، وابن خزيمة (1030).

شفعها. ونص على السجود قبل السلام مع تجويز الزيادة، والمجوز كالموجود [وتأويل] (¬1) حديث ابن مسعود في القيام إلى خامسة والسجود بعد السلام على أنه - عليه الصلاة والسلام - ما علم السهو إلَّا بعد السلام، ولو علمه قبله لسجد قبله، [ويتأول] (¬2) حديث ذي اليدين على أنها صلاة جرى فيها سهو فسها عن السجود قبل السلام فتداركه بعده. قال النووي في (شرح مسلم) (¬3): وأقوى المذاهب هنا مذهب مالك، ثم مذهب الشافعي، وللشافعي قول كمذهب مالك، وقول بالتخيير وعلى القول بمذهب مالك لو اجتمع في صلاته سهوان: سهو بزيادة وسهو ينقصان سجد قبل السلام. قال القاضي عياض وجماعة من أصحابنا: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد بعد السلام أو قبله للزيادة أو للنقص: أنه يجزيه، ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل ون د (وتناول). (¬2) في ن د وب (تناول). (¬3) (5/ 56). (¬4) قال في حاشية الروض لابن قاسم -رحمه الله- (2/ 174): وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سجد للسهو قبل السلام، وروينا أنه سجد بعد السلام وأنه أمر بذلك وكلاهما صحيح. اهـ من كلام البيهقي، وقال شيخ الإِسلام أظهر الأقوال وهو رواية عن أحمد الفرق بين الزيادة والنقص. وبين الشك مع التحري، والشك مع البناء على اليقين، فإذا كان السجود لنقص، كان =

ولو سها سهوين فأكثر، كفاه للجميع سجدتان، وبه قال الأربعة وجمهور التابعين وعن ابن أبي ليلى: "لكل سهو سجدتان" (¬1) وفيه حديث ضعيف (¬2). ¬

_ = قبل السلام، لأنه جابر لتتم الصلاة به. وإن كان لزيادة كان بعد السلام، لأنه إرغام للشيطان، لئلا يجمع بن زيادتين في الصلاة، وكذلك إذا شك وتحرى فإنه أتم صلاته. وإنما السجدتان إرغام للشيطان، فتكون بعده وكذلك إذا سلم، وقد بقي عليه بعض صلاته، ثم أكملها وقد أتمها، والسلام فيها زيادة. والسجود في ذلك ترغيم للشيطان، وأما إذا شك ولم يبن له الراجح فيعمل هنا على اليقين، فإما أن يكون صلَّى خمسًا أو أربعًا. فإن كان صلى خمسًا، فالسجدتان تشفعان له صلاته. ليكون كأنه صلى ستًا لا خمسًا. وهذا إنما يكون قبل السلام. فهذا القول الذي نصرناه يستعمل فيه جميع الأحاديث الواردة في ذلك. وقال: وما شرع من السجود قبل السلام يجب فعله قبله. وما شرع بعده لا يفعل إلَّا بعده وجوبًا، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وقال أحمد: أنا أقول كل سهو جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام، ووجهه والله أعلم أنه من شأن الصلاة، فيقضيه قبل السلام إلَّا ما خصه الدليل، ويخير المأموم بين السلام معه بنية السجود بعد السلام وبين الإِقامة، فإن سجد سجد معه، وإلَّا وحده، ومن سلم من المأمومين معه. ومن لم يسلم صلاة الكل صحيحة. اهـ. (¬1) ابن أبي شيبة (2/ 33). (¬2) ابن أبي شيبة من حديث ثوبان (2/ 33)، وأبو داود (1038) في الصلاة، وابن ماجه (1219)، والبيهقي (2/ 337)، وأحمد (5/ 280)، وعبد الرزاق (3533)، وفي إسناده مقال، وانظر كلام الألباني في الإِرواء =

ثم سجود السهو سنَّة عند الشافعي واجب عند أبي حنيفة، وحكي عن مالك أيضًا. وقال القاضي عبد الوهاب: منه ما هو واجب، ومنه ما هو سنة. قال المازري (¬1): فالأول هو ما كان قبل السلام على قولنا: إنه إذا نسي ما قبل السلام حتى طال تبطل صلاته، والثاني: ما كان بعد السلام. العاشر: في هذا الحديث [فوائد أصولية] (¬2)، فمنها ما يتعلق بأصول الدين. وهو في موضعين: الأول: جواز السهو في الأفعال على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه (¬3). ¬

_ = (2/ 47) حيث قال: وله شواهد يتقوى بها. اهـ. انظر التعليق ت (2) ص (272). أقول: منها: حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري (3/ 93)، فتح الباري، ومسلم (572)، والبيهقي (2/ 341)، والنسائي (3/ 28)، والترمذي (2/ 39)، وابن ماجه (1211). (¬1) المعلم (1/ 420، 421). (¬2) في الأصل ون ب ساقطة. (¬3) قال ابن عبد البر -رحمه الله- في التمهيد (1/ 341): وفي هذا الحديث وجوه من الفقه والعلم، منها أن النسيان لا يعصم منه أحد، نبيًا كان أو غير نبي، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نسي آدم فنسيت ذريته".

والثاني: في الأقوال (¬1) وقبل الخوض في ذلك، فاعلم أنهم ¬

_ (¬1) اعلم أن الاختلاف في هذه المسألة واقع في أربعة مواضع. الأول: ما يتعلق بالاعتقادية. وأجمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة. الثاني: ما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام من الله تعالى، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في هذا الباب لا بالعمد ولا بالسهو، وإلاَّ لم يبقَ الاعتماد على شيء من الشرائع. الثالث: ما يتعلق بالفتوى وأجمعوا على أنه لا يجوز تعمد الخطأ، فأما على سبيل السهو فقد اختلفوا فيه. الرابع: ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم: وقد ذكر المؤلف المذاهب فيه. اهـ من كتاب "عصمة الأنبياء" للرازي، وقد غلا جماعة فجهلوا معنى المعصية وردوا الأحاديث الصحيحة بجهلهم وغلوهم هذا إذ قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه السهو ولا النسيان ظنًّا منهم أن هذا السهو معصية. وهذا من أبطل الباطل. وقال أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل": فإن قال قائل: فهلا نفيتم عنهم السهو بدليل الندب إلى التأسي بهم؟ قلنا وبالله التوفيق: إنكار ما ثبت كإجازة ما لم يثبت سواء ولا فرق. والسهو منهم قد ثبت بيقين. وأيضًا فإن ندب الله -تعالى- لنا بالتأسي بهم لا يمنع من وقوع السهو منهم، لأن التأسى بالسهو لا يمكن إلَّا بسهو منا، ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو، لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذٍ سهوًا، ولا يجوز أيضًا أن ننهى عن السهو، لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا، وقد قال -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ونقول أيضًا: إننا مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سها، وأيضًا فإن الله -تعالى- لا يقر الأنبياء- عليهم =

معصومون من الكفر والبدعة إلَّا من خالف من الخوارج ممن لا يعتد به، وأجازت الروافض عليهم إظهار كلمة الكفر تَقِيَّة، والإِجماع قائم على أن الكذب عليهم في تبليغ الشرائع والأحكام الإِلهية لا يجوز، وكذلك النسيان قبل التبليغ، وكذا بعده على قول الجمهور، وكذا الإِجماع قائم أيضًا على أنه لا يجوز عليهم [تعمد] (¬1) الخطأ في الفتوى [و] (¬2) في السهو خلاف. وأما ما يتعلق بأفعالهم وأقوالهم (¬3)، .............. ¬

_ = السلام- على السهو، بل ينبههم في الوقت. ولو لم يفعل -تعالى- ذلك لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين. وهذا تكذيب لله -عزّ وجل- إذ يقول: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وإذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إلى أن قال: وما نعلم أهل فرية أشد سعيًا في إفساد الإِسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة -يعني ابن الباقلاني وشيعته- إلى آخر كلامه. (¬1) في ن ب (لعمد). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) قال الرازي في عصمة الأنبياء (19): والذي نقول إن الأنبياء - عليهم السلام - معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد، أما على سبيل السهو فهو جائز، ويدل على وجوب العصمة، وجوه خمسة عشر نذكرها باختصار، ومن أراد الزيادة فليرجع إلى الكتاب المذكور: الوجه الأول: لو صدر الذنب منهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلًا والعقاب آجلًا أشد من حال عصاة الأمة. وكلما كانت نعمة الله على عبده أكبر كان العقاب أشد للأدلة الآتية: 1 - قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} إلى قوله: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 2 - أن المحصن يرجم وغيره يجلد. 3 - التفريق بين حد الحر والعبد. 4 - عقوبة العالم في الدنيا والآخرة أشد من عقوبة الجاهل. هذا زيادة. الحجة الثانية: لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة، لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، قراءة أخرى: "فتثبتوا"، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، ومن كان شهيدًا لجميع الرسل يوم القيامة كيف يكون بحال لا تقبل بشاهدته في الجنة. الحجة الثالثة: لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم، لأن الدلائل دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكان زجر الأنبياء غير جائز لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، فكان صدور الذنب عنهم ممتنعًا. الحجة الرابعة: لو صدر الفسق من محمد - صلى الله عليه وسلم - لكنا إما أن نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا لا يجوز. أو لا نكون مأمورين بالاقتداء به وهذا أيضًا باطل، لقوله -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ولقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} ولما كان صدور الفسق يفضي إلى هذين القسمين الباطلين وإن صدور الفسق عنه محالًا. الحجة الخامسة: لو صدرت المعصية من الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم - لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله عذاب جهنم، لقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} وهذا باطل بإجماع الأمة. الحجة السادسة: أنهم كانوا يأمرون بالطاعات وترك المعاصي، ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحجة السابعة: قال -تعالى- في صفة إبراهيم وإسحاق: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} "الخيرات" فعل كل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي. الحجة الثامنة: قوله -تعالى-: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} وهو أن اللفظين أعني قوله -تعالى-: {مُصِيبَةٌ} وقوله: {ما} يتناولان جملة الأفعال والتروك ولا يقال الاصطفاء يمنع من فعل الذنب بدليل قوله -تعالى-: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}. الحجة التاسعة: قوله -تعالى-: حكايته عن إبليس {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} استثنى المخلصين من إغوائه وإضلاله. ثم إنه -تعالى- شهد على إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة إنهم من المخلصين. الحجة العاشرة: قال -تعالى-: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال: إنهم الأنبياء أو غيرهم. فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل. لقوله -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإِجماع. الحجة الحادية عشر: تقسيم المكلفين إلى قسمين: حزب الله، وحزب الشياطين. ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يريده الشيطان ويأمره به، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء لصدق عليهم أنهم من حزب الشيطان. وحينئذٍ يلزم أن يكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء، ولا شك في بطلانه. الحجة الثانية عشرة: إجماع الأمة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة. وثابت بالأدلة أن الملائكة ما أقدموا على شيء من الذنوب. الحجة الثالثة عشرة: قال تعالى في حق إبراهيم - عليه الصلاة =

فالمذاهب في ذلك خمسة: أحدها: وهو مذهب الحشوية، يجوز عليهم الإِقدام على الصغائر والكبائر مطلقًا، وقالوا بوقوعها منهم (¬1). ¬

_ = والسلام-: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} والإِمام هو الذي يقتدى به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبًا وإنه باطل. الحجة الرابعة عشرة: قوله -تعالى-: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} فكل من أقدم على الذنب كان ظالمًا لنفسه، لقوله -تعالى-: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} إذا عرفت هذا فنقول: ذلك العهد الذي حكم الله -تعالى- بأنه لا يصل إلى الظالمين، إما أن يكون هو عهد النبوة أو عهد الإِمامة. فإن كان الأول فهو المقصود. وإن كان الثاني فالمقصود أظهر. لأن عهد الإِمامة أقل درجة من عهد النبوة. فإذا لم يصل عهد الإِمامة إلى المذنب العاصي. فبأن لا يصل عهد النبوة إليه أولى. الحجة الخامسة عشرة: روي أن خزيمة بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - شهد على وفق دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم -. مع أنه ما كان عالمًا بتلك الواقعة، فقال خزيمة: "إني أصدقك فيما تخبر عنه من أحوال السماء. أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فلما ذكر ذلك صدقه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ولقبه بذي الشهادتين، ولو كان الذنب جائزًا على الأنبياء لكانت شهادة خزيمة غير جائزة". اهـ. (¬1) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في المنهاج (2/ 394، 482)، وفيه مبحث العصمة (429/ 2)، وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع في خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة. فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها، وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف.

ثانيها: مذهب الروافض، لا يجوز ذلك عليهم مطلقًا لا عمدًا ولا سهو ولا تأويلًا (¬1). ثالثها: لا يجوز الكبائر عمدًا وأما الصغائر والكبائر سهوًا فجائزة عليهم بشرط عدم الإِصرار لأنه كبيرة، وهو قول أكثر المعتزلة. ¬

_ = ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - لكونهما أسلما بعد الكفر. ويدَّعون أن عليًّا - رضي الله عنه - لم يزل مؤمنًا، وأنه لم يخطأ قط ولم يذنب قط، وكذلك تمام الأئمة الأثنى عشر ... إلخ كلامه. (¬1) مبحث معصية الأنبياء عمدًا قد تقدم الرد عليه في تعليق ت (3) ص (253)، وت (1) ص (254)، وقال شيخ الإِسلام في الفتاوى (4/ 319): فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر: هو قول أكثر علماء الإِسلام وجميع الطوائف. حتى إنه قول أكثر أهل الكلام. كما ذكر "أبو الحسن الآمدي" أن هذا قول أكثر الأشعرية. وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابيعهم إلَّا ما يوافق هذا القول، وقال شيخ الإِسلام في بغية المرتاد (501) بعد كلام سبق: وأما تنازع الناس في غير هذا كتنازعهم في وقوع الخطأ أو الصغائر، فإنهم أيضًا لا يقرون على ذلك. فإذا قيل: هم معصومون من الإِقرار على ذلك كان في ذلك احتراز من النزاع المشهور، بل إذا كان عامة السلف والأئمة وجمهور الأمة يجوّز ذلك على الأنبياء، ويقولون هم معصومون من الإِقرار على الذنوب، ويقولرن وقوع ما وقع إنما كان لكمال النهاية. لا لتفضيل البداية. فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين كما دل الكتاب والسنَّة والآثار على ذلك. وما في ذلك من التأسي والاقتداء بهم. فكيف بغيرهم؟ لكن غيرهم ليس معصومًا من الإِقرار على الخطأ. اهـ.

رابعها: لا يجوز عليهم تعمد ذلك، ولكن يجوز صدور ذلك على سبيل الخطأ في التأويل قاله الجبائي. خامسها: لا يجوز ذلك عمدًا ولا بالتأويل الخطأ، ويجوز سهوًا. قال ابن بزيزة: وجمهور الأشاعرة: على جواز وقوع الصغائر منهم، وأن الكبائر لا تجوز عليهم. قال: واتفق الجمهور على [أن] (¬1) تكرار الصغائر وكثرة وقوعها معصومون منها كالكبائر. قال: واختلفوا في [مواقعتهم] (¬2) المكروه قصدًا، والجمهور على أنهم معصومون منه. إذا تقرر ذلك فجوَّز السهو عليهم عامة [العلماء] (¬3) والنظار، وهذا الحديث دال عليه، وهو مصرح به في حديث ابن مسعود بأنه - عليه الصلاة والسلام - ينسى كما تنسون، وهو ظاهر القرآن، ومن ألفاظ العلماء: "النسيان ليس ببدع في الإِنسان" "وأول ناس أول الناس". وشذت طائفة من المتوغلين فقالت: لا يجوز [عليه السهو] (¬4) وإنما ينسى قصدًا أو يتعمد صورة النسيان، نحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإِسفراييني في كتابه "الأوسط"، وهذا ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) في ن ب (موافقتهم). (¬3) زيادة من ن د. (¬4) في ن د تقديم وتأخير.

منحى غير سديد (¬1) وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد لإِخباره - عليه الصلاة والسلام - أنه ينسى، ولأن الأفعال العمدية تبطل الصلاة، ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي، وإنما يتميزان للغير بالإِخبار. ومنعت أيضًا طائفة من العلماء: السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه. واستحالته عليه في الأقوال البلاغية وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الإِسفراييني. والصحيح الجواز: فإن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عَلَيه لم تَحصُل فيه مَفْسَدَة، بل تحصل [منه] (¬2) فائدة، وهي بيان أحكام التأسي وتقرير الأحكام. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوي (4/ 168) بعد كلام سبق: لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة. ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلَّا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ. وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس بمعصوم، فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين. وأمرين متناقضين، ولم يشعر بالتناقض. لكن إذا كان في المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة. وقد تختلف الروايات حتى يكون بعضها أرجح من بعض، والناقلون لشريعته بالاستدلال بينهم اختلاف كثير. لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره. بل هو أولى بذلك، وإن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره ... الخ. (¬2) في ن ب د (فيه).

والذين أجازوا السهو قالوا. لا يقر عليه فيما طريقه البلاغ الفعلي (¬1). واختلفوا هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة أم لا يشترط؟ بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ وهو العمر؟ وهذه الواقعة أعني الحديث الذي نحن فيه قد وقع البيان فيها على الاتصال؛ ومذهب الأكثرين: الأول، واختار إمام الحرمين: الثاني، وكذا قال القرطبي في شرحه (¬2): أن الصحيح أن السهو عليه جائز مطلقًا، إذ هو واحد من نوع البشر، فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في بغية المرتاد (501): وأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعصمته فيما استقر تبليغه من الرسالة باتفاق المؤمنين، كما قال- تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} حتى {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)}، ثم قال: وليس هذا موضع ذكر تنازع الناس. هل كان الإِلقاء في السمع أو في اللفظ؟ إذ لا نزاع بين الأئمة في أنه لا يقر على ما هو خطأ في تبليغ الرسالة. وقال في الفتاوى (10/ 289): والكلام في هذا المقام مبني على "أصل"، وهو أن الأنبياء - صلوات الله عليهم - معصومون فيما يخبرون به عن الله -سبحانه- وفي تبليغ رسالاته. ولهذا وجب الإِيمان بكل ما أوتوه، كما قال -تعالى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} إلى أن قال: وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبَّأ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا. والعصمة فيما يبلغون عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين. (¬2) المفهم (2/ 1000، 1004).

لم يقدح في حاله غير أن ما كان منه فيما طريقةُ بلاغ الأحكام قولًا وفعلًا لا يقر على نسيانه، بل ينبه عليه إذا دعت الحاجة إليه، فإن أُقر على نسيانه لذلك، فذلك من باب النسخ كما قال -تعالى-: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬1). وقسم القاضي عياض (¬2) السهو عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأفعال إلى: ما طريقه البلاغ وإلى ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من الأفعال البشرية مما يختص به من العبادات والأذكار القلبية، وأبى ذلك بعض من تأخر عن زمنه، وقال: إن أقوال الرسول وأفعاله وإقراره كله بلاغ واستنتج بذلك العصمة في العمل بناءًا على أن المعجزة تدل على العصمة فيما طريقه البلاغ، وهذه كلها بلاغ تتعلق بها العصمة، ولم يصرح في ذلك بالفرق بين عمد أو سهو، وأحد البلاغ في الأفعال من حيث التأسي به - صلى الله عليه وسلم - فإنه سوى بين العَمد والسَّهو، فهذا الحديث يرد عليه. قال القاضي: واختلقوا في جواز السهو عليه في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوّزه الجمهور. وأما الثاني: وهو الأقوال وهو ينقسم إلى ما طريقه البلاغ والسهو فيه ممتنع إجماعًا كالعمد وأما طروء السهو في الأقوال ¬

_ (¬1) سورة الأعلى، آيتان 6، 7. (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 267، 268). والنووي في شرح مسلم (5/ 62) للاطلاع على السياق.

الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي لا [تستند] (¬1) الأحكام إليها ولا أخبار المعاد وما لا يضاف إلى وحي فجوز قوم إذ لا مفسدة فيه، وليس هو من باب التبليغ التي يتطرق به إلى القدح في الشريعة. والحق كما قال القاضي عياض: المنع على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدًا ولا سهوًا لا في صحة ولا مرض ولا رضي ولا غضب. وأما جواز السهو عليه في الاعتقادات في أمور الدنيا: فغير ممتنع، كما وقع في تلقيح النخل، وقد استدركه. وأما جوازه في اعتقاد متعلق بالدين ومعرفة [الذات] (¬2) والصفات: فالسهو عليه فيه محال إجماعًا. والذي يتعلق بما ذكرنا من هذا الحديث قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لم أنس ولم تقصر" وفي رواية أخرى: "كل ذلك لم يكن" فإنه مشكل بما ثبت من حاله - عليه الصلاة والسلام - فإنه مستحيل عليه الخلف. وقد اعتذر عن ذلك بوجوه: الأول: أن المراد لم يكن القصر والنسيان معًا، وكان الأمر كذلك، فنفى الكلية وهو صادق فيها، إذ لم يجتمع وقوع الأمرين وإنما وقع أحدهما، ولا يلزم من نفي الكلية نفي كل [جرء من] (¬3) ¬

_ (¬1) في ن د (مستند). (¬2) في الأصل ون ب (الدين). (¬3) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د.

أجزائها، فإذا قال: [لم] (¬1) ألق كل العلماء. لا يفهم أنه لم يلقَ واحدًا منهم، ولا يلزم ذلك [منه] (¬2)، وفي هذا نظر لأن لفظ ذي اليدين لا يقتضي مجموع الأمرين، وإنما معناه السؤال عن أحدهما لا بعينه بدليل حرف المعادلة وهو أم. الثاني: أن المراد الإِخبار عن اعتقاد قلبه وظنه، وهذان الوجهان يختص الأول منهما بالرواية الثانية، وأما الأولى فلا يصح فيها هذا التأويل، وأما الوجه الثاني فهو مستمر على مذهب من يرى أن مدلول اللفظ الخبري هو الأمور الذهنية، فإنه وإن لم يذكر ذلك فهو الثابت في نفس الأمر فيصير كالملفوظ به، واقتصر النووي في (شرح مسلم) (¬3) على هذين الوجهين، وقال: إن الثاني هو الصواب. وقال: ويدل على صحته وأنه لا يجوز غيره رواية: "لم أنس ولم تقصر" فنفى الأمرين. قال القرطبي (¬4): وهو الصواب فإنه ضعف ما سواه. قال: ومن هذا ما قد صار إليه أكثر العلماء أن الحالف بالله على شيء يعتقده فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه أن تلك اليمين لاغية لا حنث فيها، وهي التي لم يضفها الله إلى كسب القلب، حيث قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} (¬5) الآية. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) زيادة من ن د. (¬3) (5/ 69). (¬4) المفهم (2/ 1010). (¬5) سورة المائدة: آية 89.

[قلت: ويؤيد هذا الوجه رواية السراج في مسنده: "ما قصرت ولا علمت أني نسيت"] (¬1). الثالث: أن قوله: "لم أنسَ"، يحمل على السلام (¬2)، أي أنه كان مقصودًا، لكنه بني على ظن التمام، ولم يقع سهوًا في نفسه، وإنما وقع السهو في عدد الركعات، وهذا بعيد لأنه حينئذٍ لا يكون جوابًا عما سئل عنه. [الرابع] (¬3): الفرق بين السهو والنسيان (¬4): فأنه كان يسهو ولا ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) أي سلامه من الصلاة بأنه كان مقصودًا للخروج من الصلاة وبنى - صلى الله عليه وسلم - هذا السلام على ظن التمام. (¬3) زيادة من ن د. (¬4) قال صاحب الفروق اللغوية -رحمنا إلله وإياه- (78) في الفرق بين "النسيان والسهو": إن النسيان إنما يكون عما كان، والسهو يكون عما لم يكن تقول: نسيت ما عرفته. ولا يقال: سهوت عما عرفته، وإنما تقول: سهوت عن السجود في الصلاة، فتجعل السهو بدلًا عن السجود الذي لم يكن. والسهو والمسهو عنه يتعاقبان، وفرق آخر: أن الإِنسان إنما ينسى ما كان ذاكرًا له، والسهو يكون عن ذكر وغير ذكر، لأنه خفاء المعنى بما يمتنع به إدراكه، وفرق آخر وهو أن الشيء الواحد محال أن يسهى عنه في وقت ولا يسهى عنه في وقت آخر، وإنما يسهى في وقت آخر عن مثله، ويجوز أن ينسى الشيء الواحد في وقت، ويذكره في وقت آخر. الفرق بين "السهو والإِغماء" أن الإِغماء سهو يكون من مرض فقط، والنوم سهو يحدث مع فتور الجسم الموصوف به. الفرق بين "السهو والغفلة" أن الغفلة تكون عما يكون، والسهو يكون عما =

ينسى، ولذلك نفى عن نفسه النسيان، لأنه غفلة ولم يَغْفُل عنها، وكان شغله بحركات الصلاة وما فيها شغلًا بها لا غفلة عنها ذكره القاضي عياض. قال الشيخ تقي الدين (¬1): وليس فيه تلخيص العبارة عن حقيقة السهو والنسيان، مع بعد الفرق بينهما في استعمال اللغة، وكأنه يتلوح من اللفظ على أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو عدم الذكر لأمر تعلق بها، ويكون النسيان: الإِعراض عن تفقد أمورها، حتى يحصل عدم الذكر، والسهو: عدم الذكر، لا لأجل الإِعراض. وليس في هذا بعد ما ذكرناه [تفريق] (¬2) كلي [بين] (¬3) السهو والنسيان. ¬

_ = لا يكون، تقول: غفلت عن هذا الشيء حتى كان ولا تقول: سوت عنه حتى كان، لأنك إذا سهوت عنه لم يكن، ويجوز أن تغفل عنه ويكون، وفرق آخر: أن الغفلة تكون عن فعل الغير، تقول: كنت غافلًا عما كان من فلان ولا يجوز أن يسهى عن فعل الغير. اهـ من الفروق. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في مدارج السالكين (2/ 434): الفرق بين "الغفلة والنسيان": أن "الغفلة" ترك باختيار الغافل. و"النسيان" ترك بغير اختياره، ولهذا قال -تعالى-: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} ولم يقل: ولا تكن من الناسين. فإن النسيان لا يدخل تحت التكليف، فلا ينهى عنه. (¬1) إحكام الأحكام (5/ 427). (¬2) في الأصل ون ب د (تحقيق)، وما أثبت من إحكام الأحكام لأنه هو الذي يناسب السياق. (¬3) في الأصل ون ب د (يخص)، وما أثبت من إحكام الأحكام لأنه هو الذي يناسب السياق.

وقال القرطبي (¬1) أيضًا: هذا الوجه ليس بشيء، إذ لا نسلم الفرق، ولو سلم فقد أضاف النسيان إلى نفسه في غيرما موضع، فقال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"، وغير ذلك. وقال [الكاشغري] (¬2) في غريبه: "السهو: في الشيء تركه من غير علم. والسهو: عن الشيء تركه مع العلم. ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} (¬3)، وقال: والسهو في الصلاة: النسيان. والنسيان: هو عدم الذكر لما قد كان مذكورًا، [إذ] (¬4) السهو: الغفلة عما كان في الذكر وعما لم يكن. وقال غيره: السهو: يتعدى بحرف الجر. والنسيان: يتعدى بنفسه، وأحسن منه أن النسيان: يطلق على ترك الشيء عمدًا (¬5) ومنه قوله -تعالى-: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (¬6). ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 1011). (¬2) في الأصل ون ب (الكاشغردي)، وما أثبت من ن د. هو: محمد بن محمد بن علي الكاشغري فقيه، أصله من كاشغر، جاور بمكة وتصوف، ودخل اليمن فأقام بتعزله كتاب "مجمع الغرائب ومنبع الفوائد". (¬3) سورة الماعون: آية 5. (¬4) في ن د (واو). (¬5) انظر التعليق 33. (¬6) سورة التوبة: آية 67.

قال صاحب القبس (¬1): وهذا هو الذي يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه. الخامس: ذكر القاضي عياض -رحمه الله- أنه ظهر له ما هو أقرب وجهًا وأحسن تأويلًا، وهو أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما أنكر "نسيت" المضافة إليه وهو الذي نهى عنه، بقوله: "بئسما لأحدكم أن يقول نيست ولكنه نُسِّي" (¬2)، وقد روي: "إني لا آنسى" على النفي "ولكن أُنَسَّي". وقد شك الراوي على رأي بعضهم في الراوية الأخرى، هل قال" أَنّسَ" أو "أُنسَ" وأن "أو" هنا للشك، وقيل: بل للتقسيم وأن هذا يكون مرة من قبل شغله وسهوه، ومرة يغلب على ذلك، ويجبر عليه ليسن، فلما سأله السائل بذلك اللفظ أنكره. وقال: كل ذلك لم يكن. وفي الرواية الأخرى: "لم أنس، ولم تقصر" أما القصر فبين لا، وقال كل ذلك لم يكن، وفي الرواية الأخرى، وكذلك لم أنس حقيقة من قبل نفسي وغفلتي عن الصلاة، ولكن الله نسَّاني لأسن. قال القرطبي (¬3): وهذا يبطله قوله أيضًا: "أنسى كما تنسون، ¬

_ (¬1) القبس (1/ 256). (¬2) البخاري (5032)، ومسلم (790)، والترمذي (2943)، والنسائي (2/ 154)، والدارمي (2/ 308، 439)، والبغوي (4/ 195)، والحميدي (1/ 50)، وعبد الرزاق (3/ 359)، وأحمد (1/ 423، 429، 429، 417، 429، 438، 439)، وصححه الحاكم (1/ 553)، ووافقه الذهبي-. (¬3) المفهم (2/ 1012).

فإذا نسيت فذكروني" (¬1) وأيضًا فلم يصدر ذلك عنه على جهة الزجر والإِنكار، بل على جهة النفي لما قاله السائل عنه، وأيضًا فلا يكون جوابًا لما سئل عنه، ونحى بنحوه الشيخ تقي الدين (¬2)، فقال: اعلم أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو وجدت في الصلاة [شيء] (¬3) [لأنبئتكم] (¬4) به، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" (¬5)، وهذا يعترض على ما ذكره القاضي (¬6) من أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر نسبة النسيان إليه، وقد نسبه إليه في حديث ابن مسعود هذا مرتين وما ذكره أيضًا من أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى أن يقال: "نسيت كذا"، [و] (¬7) الذي أعرف: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا" (¬8)، وهذا ذم لإِضافة نسبة النسيان ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) إحكام الأحكام (2/ 428). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن د ساقطة. (¬5) مسلم (572)، والبخاري (6671)، وأحمد (1/ 419، 438). (¬6) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 272). (¬7) في ن ب زيادة (إلى). (¬8) البخاري (5032، 5039)، ومسلم (790) سبق تخريجه. وقال الحافظ -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 80، 81): واختلف في متعلق الذم من قوله: "بئس" على أوجه: الأول: قيل: هو على نسبة الإِنسان إلى نفسه النسيان وهو لا صنع له فيه، فإذا نسبه إلى نفسه، أوهم أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول: أنسيت، أو نُسِّيت بالتثقيل على البناء للمجهول فيهما، أي: إن الله هو الذي أنساني كما قال: {وَمَا =

إلى الآية ولا يلزم من الذم للإِضافة إليها الذم للإِضافة إلى كل ¬

_ = رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، وقال: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)}، وبهذا الوجه جزم ابن بطال، فقال: أراد أن يجري على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى خالقها، لما في ذلك من الإِقرار له بالعبودية والاستسلام لقدرته، وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها مع أن نسبتها إلى مكتسبها جائز بدليل الكتاب والسنَّة. ثم ذكر الحديث الآتي في "باب نسيان القرآن"، قال: وقد أضاف موسى - عليه السلام- النسيان مرة إلى نفسه، ومرة إلى الشيطان فقال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} ولكل إضافة منها معنى صحيح، فالإِضافة إلى الله بمعنى أنه خالق الأفعال كلها، وإلى النفس لأن الإِنسان هو المكتسب لها، وإلى الشيطان بمعنى الوسوسة. اهـ. ووقع له ذهول فيما نسبه لموسى، وإنما هو كلام فتاه. وقال القاضي: ثبت أن النبي نسب النسيان إلى نفسه يعني كما سيأتي في "باب نسيان القرآن"، وكذا نسبه يوشع إلى نفسه حيث قال: {نَسِيتُ الْحُوتَ} وموسى إلى نفه حيث قال: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}، وقد سبق قول الصحابة: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} مساق المدح، قال -تعالى- لنبيه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} فالذي بظهر أن ذلك ليس متعلق الذم، وجنح إلى اختيار الوجه الثاني وهو كالأول، لكن سبب الذم ما فيه من الإِشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلَّا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإِنسان: نسيت الآية الفلانية فكأنه شهد على نفسه بالتفريط فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد، لأنه يورث النسيان. وقال عياض: أولى ما يتأول عليه: ذم الحال لا ذم القول، أي: بئس الحال حال من حفظه، ثم غفل عنه حتى نسيه. وقال النووي: الكراهة فيه للتنزيه. اهـ.

شيء، فإن الآية من كلام الله المعظم، ويقبح بالمسلم إضافة نسيان كلام الله -تعالى- إلى نفسه، وليس هذا المعنى موجودًا في كل نسيان ينسبه إلى نفسه، فلا يلزم مساواة غير الآية لها، وكيف ما كان لو لم تظهر مناسبة لم يلزم من الذم الخاص الذم العام، [وإذا] (¬1) لم يلزم ذلك لم يلزم أن يكون قول القائل نسيت، الذي أضافه إلى عدد الركعات داخلًا تحت الذم فينكر، ولما تكلم بعض المتأخرين على هذا الموضع ذكر أن التحقيق في الجواب عنه أن العصمة إنما تثبت في الأخبار عن الله في الأحكام وغيرها، لأنه الذي قامت عليه المعجزة، أما إخباره عن الأمور الوجودية فيجوز عليه فيه النسيان. تنبيه: حديث: "إني لأنسى او أُنَسَّى لأسن" (¬2)، منقطع الإِسناد ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) الموطأ (1/ 100). قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندًا ولا مقطوعًا. من غير هذا الوجه. وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة. ومعناه صحيح في الأصول. اهـ. من الموطأ (1/ 100). وقال الصنعاني -رحمه الله- في حاشية على إحكام الأحكام (2/ 427)، نقلًا عن الحافظ ابن حجر: إنه حديث لا أصل له. وإنما هو من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد. أقول: رواية "لا أنسى"، هو كما عرفت لا تقوم به حجة. اهـ. قال محمد فؤاد عبد الباقي -رحمه الله- في مقدمة الموطأ (هـ) نقلًا عن الشيخ محمد حبيب الشنقيطي من كتاب دليل السالك إلى موطأ مالك (ص 14): إلى أنه حيث ثبتت اتصال جميع أحاديث الموطأ حتى إنه وصل الأربعة التي اعترف ابن عبد البر بعدم الوقوف عليها ... إلخ كلامه.

وهو من بلاغات "الموطأ". قال ابن عبد البر: لا أعلمه بهذا اللفظ يروى مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه. قلت: وفي طريق آخر "إني لا أنسّى ولكن أنسى لأسن"، وقد تقدم الكلام على "أو" هذه. وقال بعضهم: المقصود به النوم واليقظة [فينسى] (¬1) في اليقظة، وينسى في النوم فأضاف نسيان اليقظة إلى نفسه، وأضاف نسيان النوم إليه، حكاه الباجي واستبعده غيره من المتأخرين. وقال بعضهم: "إني لا أنسى" على عادة البشر، وأنسى الشيء مع إقبالي عليه وتوجهي إليه. قال ابن بزيزة: والصحيح [عندي] (¬2) أنه خرج مخرج النسبتين الحقيقية والمجازية، فتكون "أو" للتقسيم، فأضاف النسيان إلى نفسه مجازًا، ثم أضافه إلى الله، فالرواية الثانية تبين النسبة الحقيقية. فائدة: نقل ابن بزيزة في "شرح أحكام عبد الحق": إن حديث "إني لأنسى [أو أُنَسّى] (¬3) لأسُنَّ" أحد الأحاديث الأربعة الواقعة في الموطأ المطعون فيها. وثانيها: الحديث الذي من سبب إعطاء ليلة القدر، وسيأتي في بابه (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل ون ب (ينسى)، وما أثبت من ن د. (¬2) في ن د (عندنا). (¬3) في بعض الألفاظ (ولكن أنسى). (¬4) الموطأ وكتاب الاعتكاف (1/ 321) برقم (15)، والاستذكار (10/ 343).

وثالثها: حديث: "إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقةٌ" (¬1). ورابعها: قوله: "أخبر معاذ"، قال آخر: "ما أوصاني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وضعت رجلي في الغرز" (¬2) الحديث وقد ألحق بها حديث المغفر، فإنه خالف في زيادة المغفر سائر أصحاب ابن شهاب، وفي هذا نظر فقد توبع عليه، لكنه لم يصح. (¬3) الحادي عشر: فيما يتعلق بهذا الحديث من أصول الفقه: فإن بعض من صنف في ذلك احتج به على جواز الترجيح بكثرة الرواة من حيث إنه - عليه الصلاة والسلام - طلب إخبار القوم بعد إخبار ذي اليدين. قال الشيخ تقي الدين (¬4): وفي هذا بحث. أي من حيث إنه ¬

_ (¬1) الموطأ، كتاب الاستسقاء، حديث (5). قال ابن عبد البر في الاستذكار (7/ 161): هذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه، في غير الموطأ، إلَّا ما ذكره الشافعي في الأم (1/ 255). قال ابن الصلاح في رسالته التي وصل فيها بلاغات مالك (11، 13) بعد كلام سبق، وقول ابن عبد البر: إن الشافعي رواه عن إبراهيم بن أبي يحيى -وهو متروك الحديث- فيه تساهل من حيث إنه غيره بما ظنه أنه معناه ثم أورده عن الحافظ أبي بكر البيهقي. اهـ. (¬2) الموطأ، كتاب حسن الخلق (1) (2/ 902)، والاستذكار (26/ 115)، والتمهيد (24/ 300). (¬3) في ن د زيادة (الوجه). (¬4) إحكام الأحكام (2/ 429).

ليس المطلوب هنا السؤال للتحمل والأخبار، بل لتقوية الأمر المسؤول عنه وتحقيقه لا للترجيح للتعارض. ويتعلق به أيضًا: من أصول الفقه القول [با] (¬1) لاستصحاب (¬2)، فإن سرعان الناس أعملوا الظاهر جريًا على الغالب من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - وأنه للتشريع، فإن الوقت قابل للنسخ، وذا اليدين عمل الاستصحاب، وهو استمرار حكم الصلاة فسأله [لذلك] (¬3)، والقوم الذين سكتوا تعارض عندهم الأصل والظاهر فلم يجزموا بالقصد، ولم يستفهموا مع علمهم بأنه لا يقر على خطأ. الثاني عشر: فيما يتعلق به من الفروع وفيه فوائد. الأولى: أن أبا هريرة صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة (¬4) التي ¬

_ (¬1) في ن د (واو). (¬2) الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة، وهي الملازمة، والمباشرة، واستصحبه لازمه. وفي الاصطلاح: بقاء الأمر، والحال، والاستقبال على ما كان عليه في الماضي، وهو قولهم بقاء ما كان على ما كان حتى يدل الدليل على خلاف ذلك. اهـ. من تقريب الوصول (391). (¬3) في ن ب (كذلك). (¬4) قال ابن عبد البر -رحمه الله- في تمهيده (1/ 356): وأما قولهم: أن أبا هريرة لم يشهد ذلك لأنه كان قبل بدر، وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر، فليس كما ذكروا، بلى إن أبا هريرة أسلم عام خيبر. وقدم المدينة في ذلك العام. وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو أربعة أعوام، ولكنه قد شهد هذه القصة، وحضرها لأنها لم تكن قبل بدر. وحضور أبي هريرة يوم ذي اليدين محفوظ من رواية الحفاظ الثقات، وليس تقصير من قصر عن ذلك بحجة على من علم ذلك وحفظه وذكره. فهذا مالك بن أنس، قد =

سلم فيها من اثنتين، ومعلوم أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وأنه لم يحصل له صحبة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى هذه المدة، فيكون حديث ذي اليدين متاخرًا فلا يكون منسوخًا. [الثانية] (¬1): أن نسيان الراوي لعين المروي لا يمنع الرواية، خصوصا إذا لم يلتبس بأبهامه حكم. الثالثة: إن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها. [رابعها] (¬2): أن السلام [سهوًا] (¬3) لا يبطلها. الخامسة: أن كلام الناسي لا يبطلها، وكذلك الذي يظن أنه ليس فيها، وبه قال الجمهور منهم الأئمة الثلاثة. وخالف أبو حنيفة وأصحابه. والثوري في أصح الروايتين عنه تبطل صلاته بالكلام ناسيًا أو جاهلًا لحديث ابن مسعود وغيره. ¬

_ = ذكر في موطأه عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى بن أحمد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: "صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر". ورواية أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر" ... إلخ الروايات الي تثبت شهوده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الصلاة. انظر: الاستذكار (2/ 223، 229)، والبغوي (3/ 295)، والقبس (1/ 246، 247). (¬1) زيادة من ن د. (¬2) في ن د (الرابع). (¬3) في الأصل ون ب عمدًا وما أثبت من ن د.

وزعموا: أن قصة ذي اليدين منسوخة به بناء على أن ذا اليدين قتل يوم بدر، وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر. قالوا: ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة، رواه وهو متأخر الإِسلام عن بدر لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صحابي آخر. والجواب عن ذلك: أنه لا يصح ادعاء النسخ لحديث أبي هريرة ولحديث ابن مسعود ولاتفاق العلماء من المحدثين وأهل السير على أن حديث ابن مسعود كان بمكة حين رجع من أرض الحبشة قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدينة متأخرًا عن عام خيبر بدليل ما ذكرناه من شهوده القصة وإسلامه عام خيبر كما سلف (¬1). السادسة: أن كلام العمد لإِصلاح الصلاة يبطلها عند الجمهور. وروى ابن القاسم عن مالك: أنه لو تكلم بما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاستفسار والسؤال عند الشك وإجابة المأمومين أن صلاتهم تامة على مقتضى الحديث. وقال الحارث بن مسكين: أصحاب مالك كلهم على خلاف ما قال ابن القاسم عن مالك وقالوا: كان هذا أول الإِسلام واستثنى سحنون (¬2) فقال: إن سلم من اثنتين من الرباعية ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (2/ 223، 229)، والقبس (1/ 247). (¬2) المنتقى (1/ 173).

[فوقع] (¬1) الكلام هناك لم تبطل، وإن وقع في غير ذلك بطلت، وأباح الإِمام أحمد ذلك للإِمام وحده. قال القرطبي (¬2): والصحيح ما ذهب إليه مالك تمسكًا بالحديث وحملًا له على الأصل الكلي من تعدي الأحكام وعموم الشريعة، ودفعًا لما يتوهم من الخصوصية إذ لا دليل عليها، ولو كان شيء مما ادعى لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، [فلا] (¬3) يجوزه إجماعًا، ولو كان لبينه كما فعل في حديث أبي بردة بن نيار حيث قال: "ضحِ بها، ولن تجزئ عن أحد بعدك" (¬4). قلت: واعتذر الأولون عن هذا الحديث بأوجه. أحدها: نسخه وقد أسلفنا بطلانه (¬5). ثانيها: تأويل كلام الصحابة بأنه [بالإِشارة] (¬6) والإِماء لا بالنطق، وفيه بعد لأنه خلاف الظاهر من حكايته الراوي لقولهم، وإن كان قد ورد في حديث حماد بن زيد في رواية لأبي داود بإسناد ¬

_ (¬1) في الأصل ون ب (لوقع)، وما أثبت من ن د. (¬2) المفهم (2/ 1008). (¬3) في الأصل ون د (ولا)، وما أثبت من ن ب. (¬4) سيأتي تخريجه إن شاء الله. (¬5) لأن نسخ الكلام في الصلاة قبل الهجرة كما في حديث ابن مسعود، وكذلك أخرى مسلم وغيره، حديث: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... " الحديث. (¬6) في الأصل ون ب (الإِشارة).

صحيح، كما قاله النووي في (شرحه) (¬1): إن الجماعة أومؤوا، أي: نعم، فيمكن الجمع أن يكون بعضهم فعل ذلك إيماءًا، وبعضهم كلامًا، واجتمع الأمران في حق بعضهم (¬2). الثالث: أن كلامهم كان إجابة للشارع وإجابته واجبة. واعترض عليه بعض المالكية: بأن قال أن الإِجابة لا تتعين بالقول، فيكفي في الإِيماء، وعلى تقدير أنه يجب القول لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة لجواز أن تجب الإِجابة، ويلزمهم الاستئناف (¬3). ¬

_ (¬1) شرح مسلم (5/ 73). (¬2) قال الحافظ ابن حجر: لكن ينفي ذلك قول ذي اليدين "بل قد نسيت"، واعلم أن هذا الجمع الذي ذكره الخطابي -أي- حمله على الإِشارة مجاز شائع بخلاف عكسه. فينبغي رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه، وهو أقوى من قول غيره يحمل على أن بعضهم قال: بالنطق وبعضهم بالإِشارة. قال عليه الحافظ العلائي: إنما يقوى إذا كان الاختلاف واقعًا من صحابيين، فنقول: سمع الإِجابة باللفظ، والآخر رأى الذي أومؤوا، ولم يسمع المجيب باللفظ. لكن هذا الحديث بهذه الألفاظ مداره على أبي هريرة، والظاهر أن القصة واحدة كما تقدم. قال الصنعاني: وحق القول فيه ترجيح رواية من ثبت من طريقه أن الجواب كان بالكلام، إذ هي أصح وأصرح، وترجع إليها أيضًا رواية من روى أنهم أشاروا إليه بالقول مجازًا عن المحاشاة عن التصريح بنسبة النسيان إليه - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في رواية "قد كان بعض ذلك". اهـ. من حاشية إحكام الأحكام (2/ 433). (¬3) قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يقال: ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع =

الرابع: أنه - عليه الصلاة والسلام - تكلم معتقدًا لتمام الصلاة والصحابة تكلموا مجوزين النسخ، فلم يكن كلام واحد منهم مبطلًا، وهذا يضعفه ما في كتاب مسلم: أن ذا اليدين قال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "كل ذلك لم يكن"، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله! فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال: "أصدق ذو اليدين". فقالوا: نعم يا رسول الله! بعد قوله: "كل ذلك لم يكن"، وقوله: "كل ذلك لم يكن" يدل على عدم النسخ، فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ. قال الشيخ تقي الدين [وننبه] (¬1) ها هنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين: "قد كان بعض ذلك" بعد قوله - عليه الصلاة والسلام -: "كل ذلك لم يكن" فإن قوله: "كل ذلك [لم يكن] " (¬2) يتضمن [أمرين] (¬3). أحدهما: الإِخبار عن حكم شرعي وهو عدم القصر. الثاني: الإِخبار عن أمر وجودي وهو النسيان، وأحد هذين ¬

_ = المصلي فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص بالجواب لقول ذي اليدين: "بلى قد نسيت"، ولم تبطل صلاته. قلت: ولا يخفى أن هذا القول من ذي اليدين جواب أيضًا. اهـ، من الحاشية للصنعاني (2/ 433). (¬1) في ن د ب (وليتنبه). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) زيادة من ن ب د.

الأمرين لا يجوز فيه السهو، وهو الإِخبار عن الأمر الشرعي، والآخر متحقق عند ذي اليدين، فلزم أن يكون بعض ذلك كما ذكر. السابعة: أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس أفعال الصلاة إذا وقعت سهوًا لا تبطل الصلاة بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - جرى منه أفعال كثيرة: مشيه - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله، وإتيانه جذعًا في قبلة المسجد واستناده إليها لما خرج سرعان الناس، وكلامه لذي اليدين وغيرهم، وتقدمه لإِتمام ما بقي من صلاته. وفي هذه المسألة وجهان لأصحابنا: أصحهما: عند المتولي عدم البطلان. قال النووي [في] (¬1) "تحقيقه": وهو المختار والمشهور في المذهب: البطلان، وهو مشكل، وتأويل الحديث صعب على القائل بهذا. أما الأفعال القليلة أو الكثيرة المتفرقة: فإنها لا تبطل قطعًا، خصوصًا إن كانت لعذر. الثامنة: جواز البناء على الصلاة بعد السلام سهوًا، وجمهور العلماء عليه. وذهب سحنون من المالكية: إلى أن ذلك إنما يكون إذا سلم من ركعتين، على ما ورد في الحديث، ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصلاة ونية الخروج منها على خلاف القياس، وإنما ورد النص في ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

هذه الصورة المعينة وهو السلام من اثنتين، فيقتصر على مورد النص، ويبقى فيما عداه على القياس. والجواب عنه كما قال الشيخ تقي الدين (¬1): إنه إذا كان الفرع مساويًا للأصل لحق به، وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول، وقد علمنا أن المانع لصحة الصلاة إن كان هو الخروج منها بالنية والسلام، وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص ولا فرق في النسبة إلى هذا المعنى بين كونه بعد ركعة أو ركعتين أو ثلاث، أي فإذًا الفرع في معنى الأصل بلا فرق، فإن الأصل في جواز البناء إذا سلم سهوًا فإذا الحديث، وهو ركعتان، وفرعه السلام من ركعة أو ثلاث، فهو في معنى الأصل، ومساوٍ له كما قرره الشيخ. التاسعة: تقدير القرب في جواز البناء بما ورد في هذا الحديث، وما عداه طويل فلا يجوز فيه البناء، وهو وجه عندنا، وهو قوي خصوصًا على رواية من روى أنه - عليه الصلاة والسلام - وصل إلى منزله ثم خرج منه. والأصح عندهم: اتباع العرف وقدّره بعضهم بمقدار الصلاة، وبعضهم: بمقدار ركعة، وأبى ذلك بعض المتقدمين، وقال: يجوز البناء وإن طال ما لم ينتقض فيه وضوء. روي ذلك عن ربيعة، وقيل نحوه عن مالك، وليس ذلك بمشهور عنه. العاشرة: شرعية سجود السهو. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 436).

الحادية عشرة: أن سجود السهو سجدتان كسجود الصلاة. الثانية عشرة: أنه في آخر الصلاة للاتباع. وقيل: في حكمة كونه في آخرها: احتمال طرآن سهوٍ آخر فيكون جابرًا للكل، ويتفرع على ذلك أنه لو سجد ثم تبين أنه لم يكن في آخر الصلاة لزمه إعادته في آخرها، ويتصور ذلك في صورتين. إحداهما: أن يسجد للسهو في الجمعة، ثم يخرج الوقت وهو في السجود الأخير فيلزمه إتمام الظهر ويعيد السجود. والثانية: أن يكون مسافرًا فيسجد للسهو، وتصل به السفينة إلى الوطن أو ينوي الإِقامة ويتم ويعيد [السجود] (¬1). الثالثة عشرة: أن سجود السهو يتداخل، ولا يتعدد بتعدد أسبابه، فإنه قد تعدد في هذا الحديث القول والفعل، ولم يتعدد السجود، وهذا مذهب جمهور العلماء. ومنهم من قال: بتعدده. ومنهم: من فوق بين اتحاد الجنس وتعدده، فإن اتحد لم يتعدد وإلَّا تعدد، وهذا الحديث دليل على خلاف هذا المذهب، فإنه قد تعدد الجنس بالقول والفعل، ولم يتعدد السجود (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب (السهو). (¬2) استدل من قال بتعدد السجود بحديث: "لكل سهو سجدتان"، أخرجه أبو داود، فإنه يدل على تعدد السجود بتعدد السهو. وقد ضعفه العلماء فمنهم ابن حجر في البلوغ، فقال: سنده ضعيف. والبيهقي في المعرفة. فقال: انفرد به إسماعيل بن عياش وليس بالقوي. وقال الذهبي: قال =

وقال ابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة: إن كان أحدهما محله قبل السلام والآخر بعده لم يتداخلا، ويسجد قبل السلام لما يختص بما قبله، وبعد السلام لما يختص بما بعده. الرابعة عشرة: أن محل سجود السهو بعد السلام، وقد تقدم؟ اختلاف العلماء في ذلك في الوجه التاسع، وتقرير مذهبنا وتأليف الأحاديث عليه والأحاديث ثابتة في السجود: بعد السلام في الزيادة وقبله في النقص، وعلى ذلك جمع مالك بينها والذين قالوا بأن الكل قيل السلام كالشافعي ومن وافقه، واعتذروا ¬

_ = الأثرم: إنه منسوخ. وقال العراقي: حديث مضطرب. وقال ابن عبد الهادي وابن الجوزي بعدما عزياه لأحمد بن حنبل: إسماعيل بن عياش مقدوح فيه. قال الصنعاني في سبل السلام: في إسناده إسماعيل بن عياش فيه مقال وخلاف. قال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده يعني الشاميين فصحيح، وهذا من روايته عن الشاميين فتضعيف الحديث به فيه نظر. قال الحافظ العلائي: هذا الحديث أقوى ما يحتجون به لتعميم محال السهو بصيغة كل، ولأن أبا داود سكت عليه، والقاعدة أن ما سكت عليه أبو داود فهو حجة لازمة. وأجيب بأنه حديث معل كما بينه، وثانيًا بأن معناه العموم لكل ساه، وأنه إخبار من سها في صلاته، بأي سهو كان شرع له سجدتان، والذي اعتمده أن هذا الحديث لا يلزم منه الدلالة على تعدد السجود لتعدد السهر. والحديث دليل لمسألتين: أولًا: مشروعية سجود السهو. ثانيًا: يحتج به من يرى سجود السهو بعد السلام. راجع التعليق (1، 2)، ص (252).

عن الأحاديث التي جاءت بعد السلام بوجوه. أحدها: دعوى النسخ لوجهين. إحداهما: أن الزهري قال: إن آخر الأمرين من فعله - عليه الصلاة والسلام - قبل السلام (¬1). الثاني: إن الذين رووه قبل السلام من متأخري الإِسلام وأصاغري الصحابة. وقد اعترض على الأول بأن رواية الزهري مرسلة (¬2) ولو كانت مسندة فشرط النسخ التعارض باتحاد المحل (¬3)، ولم يقع ذلك مصرحًا به في رواية الزهري، فيحتمل أن يكون الآخر هو السجود قبل السلام لكن في محل النقص، وإنما يقع التعارض المحوج إلى النسخ لو تبين أن المحل واحد ولم يتبين ذلك (¬4). واعترض على الثاني بأن تقدم الإِسلام والكبر لا يلزم منه تقدم ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه الشافعي عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري قال: "سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجدتي السهو قبل السلام وبعده. وآخر الأمرين قبل السلام". قال الصنعاني: ولا يخفى أنه لا تقوم به حجة على النسخ لاحتمال التخيير. قال البيهقي (2/ 341): إلَّا أن قول الزهري منقطع لم يسنده إلى أحد من الصحابة، ومطرف بن مازن غير قوي. انظر: الضعفاء للعقيلي حيث قال فيه يحيى بن معين: كذاب، ومرة ضعيف (4/ 216)، ولسان الميزان (6/ 47)، والميزان (4/ 125). (¬2) كما هو ظاهر من إسنادها. (¬3) بأن يكون سلامه قبل التسليم وسلامه بعده وردا في محل واحد ليتحقق التعارض الموجب للقول بالنسخ. اهـ. من الصنعاني. (¬4) وإلى هذا وقع اختيار ابن العربي في القبس (1/ 250، 251).

الرواية حال التحمل، بل قد يكون قبلهما، ثم رووه بعدهما (¬1). الوجه الثاني: تأويلها على أن المراد بالسلام السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي في التشهد، أو يكون تأخيرهما بعده على سبيل السهو، وهما بعيدان. [لسبق الفهم في] (¬2) السلام إلى الذي يقع به التحلل، لا الذي في التشهد (¬3)، والأصل عدم السهو [وتطرقه] (¬4) إلى الأفعال الشرعية من غير دليل غير سائغ. وأيضًا فهو مقابل بعكسه، وهو أن يقول الحنفي: محله بعد السلام وتقديمه قبله على سبيل السهو. الوجه الثالث: الترجيح بكثرة الرواة، وهو إن صح فالاعتراض عليه بأن طريقة الجمع أولى من طريقة الترجيح، لأنه إنما يصار إليه عند عدم إمكان الجمع، وأيضًا فلا بد من النظر في محل التعارض، واتحاد موضع الخلاف من الزيادة والنقصان. ¬

_ (¬1) لا ملازمة بين الكبر وتقدم الرواية ولا بين الصغر وتأخرها. ومرادهم بصغار الصحابة أبو سعيد الخدري. لأن في حديثه "ثم سجد قيل أن يسلم" وبكبار الصحابة ابن مسعود، فإنه هو الذي صرح في حديثه بأن سجوده بعد السلام. (¬2) في إحكام الأحكام (2/ 35)، قال: "أما الأول فلأن السابق إلى الفهم عند إطلاق السلام في سياق ذكر الصلاة هو الذي به التحلل"، قال الصنعاني (2/ 442). وقال القاضي عياض: وزاد وإن حمل على العموم فيجب أن يكون بعد كل سلام في الصلاة وآخره سلام التحلل في حديث ذي اليدين. (¬3) في إحكام الأحكام (2/ 35)، زيادة (وأما الثاني). (¬4) من إحكام الأحكام (2/ 35)، وفي الأصل (وتطريقه).

وأما القائلون: بأن محله بعد السلام مطلقًا اعتذروا عن الأحاديث المخالفة لذلك بالتأويل: إما بأن المراد بقوله قبل السلام: [السلام] (¬1) الثاني، أو بأن المراد بعد السلام: السلام الثاني، أو بأن المراد بقوله: وسجد سجدتين سجود الصلاة، وما ذكره الأولون من احتمال السهو عائد هنا والكل ضعيف، كما قاله الشيخ تقي الدين قال: والأول يبطله أن سجود السهو لا يكون إلَّا بعد التسليمتين اتفاقًا. وذهب أحمد بن حنبل إلى الجمع بين الأحاديث بطريق أخرى غير ما ذهب إليه مالك، وهو أن يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه حديث فمحل السجود فيه قيل السلام، وكان هذا نظر إلى أن الأصل في الجائِز: أن يقع في المجبور فلا يخرج عن هذا الأصل إلَّا في مورد النص، ويبقى فيما عداه على الأصل، وهذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع، وعدم سلوك طريق الترجيح لكنهما اختلفا في وجه الجمع، ويترجح قول مالك بذكر المناسبة في الفرق بين الزيادة والنقصان، وإذا ظهرت المناسبة وكان الحكم على وفقها كانت علة، وإذا كانت علة عم الحكم في جميع محالها، فلا يتخصص ذلك بمورد النص (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال ابن حجر في فتح الباري (3/ 94): وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيمًا للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضًا لما وقع من التحلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى. اهـ.

الخامسة عشرة: أن حكم سهو الإِمام يتعلق بالمأمومين يسجدون معه، وإن لم يسهوا بدليل أن القوم سجدوا معه - صلى الله عليه وسلم - لسهوه في هذا الحديث لما سجد، وهذا إنما يتم في حق من لم يتكلم من الصحابة، ولم يمش، ولم يسلم إن كان كذلك. السادسة عشرة: أن التكبير في سجود السهو كما في سجود الصلاة. السابعة عشرة: أنه لا يشرع التشهد بعد سجود السهو، فإنه لم يذكر في هذا الحديث فدل على عدمه في الحكم، وقد فعل العلماء في استدلالهم ذلك كثيرًا، فيقولون: لو كان لذكر. وقد اختلف أصحاب مالك فيه إذا كان سجود السهو قبل السلام. قال الشيخ تقي الدين (¬1): فقد يستدل بتركه على ذلك. قلت: لكنه قد صح من حديث عمران، كما سأذكره لك في الحديث الثاني فاستفده. الثامنة عشرة: جواز رجوع المصلي في قدر صلاة نفسه إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا، وهو وجه عندنا، والجمهور على خلافه. وقالوا: لا يعمل المصلي إلَّا على يقين نفسه، إلَّا أن يكون المخبرون ممن يحصل اليقين بقولهم، وهو أن يبلغوا حد التواتر. وأجابوا: عن هذا الحديث بأن سؤاله - عليه الصلاة ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 444).

والسلام - لهم ليتذكر لا رجوعًا إلى قوله، فلما ذكروه ذكر السهو، فبنى عليه، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره رجع إليه لما قال ذو اليدين حين قال له - عليه الصلاة والسلام -: "لم أنس ولم تقصر" فإن لم يفد خبرهم العلم فذكر ابن القصار في ذلك عن مالك قولين: الرجوع إلى قولهم وعدمه، وبالأول قال ابن حبيب، وبالثاني قال ابن مسلمة. قال صاحب القبس: ثبت في أبي داود في هذا الحديث بعينه: "فلم يرجع حتى يقنه الله تعالى" (¬1). قال القرطبي: في (شرحه) (¬2) وهل يشترط في المخبر عدد، لأنه من باب الشهادة أو لا لأنه من باب قبول الخبر؟ قولان: الأول: لأشهب وابن حبيب، ولا حجة في هذا الحديث على اشتراط العدد لما ستعلمه قريبًا. التاسعة عشرة: في هذا الحديث تشبيك الأصابع في المسجد، وبه احتج البخاري على الإِباحة (¬3)، وكرهه قوم كما في الصلاة لأنه محلها، وقد أفردت الكلام على هذه المسألة في جزء مع الجواب عما عارضه. ¬

_ (¬1) من رواية سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة عون المعبود (3/ 320)، والقبس (1/ 249). (¬2) المفهم (2/ 1007). (¬3) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه (1/ 565): الفتح، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. راجع الفتح للاطلاع على أقوال العلماء في ذلك (1/ 565، 567).

العشرون: ادعى بعضهم: أن فيه دلالة على أن المحدث إذا أنكر الحديث وخالفه راويه عنه: إن رواية الفرع مقبولة، وهو مذهب الجمهور خلافًا لأبي حنيفة. الحادية والعشرون: ادعى بعضهم أيضًا: أن فيه أن خبر الواحد ليس بحجة، لأن خبر ذي اليدين لم يعمل به وحده حتى انضم إليه خبر غيره. وجوابه: أن ثم قرينة منعت من العمل به، وهو كون الواقعة في جمع عظيم، وانفراد الواحد منهم يمنع من العمل به لوجود المعارض. الثانية والعشرون: قال القاضي عياض (¬1): فيه حجة لمالك على أبي حنيفة: في أن الحاكم إذا نسي حكمه فشهد عنده شاهدان بحكمه أنه يمضيه. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يمضيه حتى يتذكره، ولا تقبل الشهادة إلَّا على غيره لا على نفسه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد رجع عما قطع به أنه لم يكن إلى أن كان بما شهد عنده من خلفه. قال: وقيل: إنما كان رجوعه إلى ما يقَّنه [الله] (¬2) لا ليقين من خلفه، هذا كلامه، ولك أن تقول: باب الشهادة أضيق من باب الخير، فلا يقاس عليه، والذي في حديث ذي اليدين إنما هو خبر. وقال القرطبي (¬3): هذا إنما يتم لمالك إذا سلم له أن رجوعه ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 271). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) المفهم (2/ 1013).

للصلاة إنما كان لأجل الشهادة، لا لأجل تيقنه ما كان قد نسيه (¬1). الثالثة والعشرون: قال الباجي (¬2) من المالكية: اختلف عندنا فيمن سلم ثم قام من مجلسه. فذهب ابن القاسم إلى أنه يجلس ثم يقوم ويتم صلاته. وقال ابن نافع: لا يجلس. وقال ابن حبيب: لو سلم من ركعتين أو ثلاث دخل بإحرام ولم يجلس. قلت: وظاهر قوله في الحديث: "فتقدم فصلى ما ترك" يدل للثاني. الرابع والعشرون: إنما هاب الصديق والفاروق أن يكلماه لما غلب عليهما من احترامه وتعظيمه وإكبار مقامه الشريف مع علمهما، بأنه سيبين أمر ما وقع. قال القرطبي (¬3): ولعله بعد النهي عن السؤال وإقدام ذي اليدين على السؤال دليل على حرصه على تعلم العلم وعلى اعتنائه بأمر الصلاة. الخامسة والعشرون: أن اليقين لا يدفع إلَّا بيقين بدليل أن ذي اليدين لما كان متيقنًا أن فرض الصلاة أربع ركعات [لم] (¬4) ينته ¬

_ (¬1) القبس (1/ 248). (¬2) المنتقى (1/ 173). (¬3) المفهم (2/ 1006). (¬4) في الأصل (حتى)، والتصحيح من ن ب د.

حتى استفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل قصرت الصلاة أم لا؟ وذلك للشك المعارض عنده فدفعه باليقين، ورجع إلى ما قطع عنه الشك. السادسة والعشرون: أن من ادعى شيئًا من الجماعة انفرد به لم يقبل قوله إلَّا بعد سؤال الجماعة وموافقتهم له. وجعله العلماء أصلًا فيمن ادعى رؤية الهلال في يوم الصحو وانفرد بذلك دون الناس، وقد قال سحنون: هؤلاء شهود سوء. قلت: يجاب عن هذا خروجه بالنص الصحيح فيه. واعلم أن ابن العربي وصّل فوائد هذا الحديث إلى مائة وخمسين فائدة في كتاب "النيرين" (¬1). قال الفاكهي: والفوائد الظاهرة منه أربع. الأولى: أن النسيان لا يعصم منه أحد. الثانية: أن اليقين لا يدفع إلَّا بيقين. الثالثة: أن من ادعى شيئًا انفرد به لا يقبل عن الجماعة إلَّا بعد سؤالهم. الرابعة: الكلام في الصلاة (¬2). قلت: وأنت إذا تأملت ما ذكرته لك وجدت فوائده الظاهرة أكثر من هذا. والله الموفق. ... ¬

_ (¬1) القبس (1/ 246)، ونسبه إلى بعض العلماء. قال: ورأيت بالثغر من يجاوز فيه الحد. فأخرج منه مائة وخمسين مسألة من الفقه ... إلخ. (¬2) أي عن طريق السهو.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 107/ 2/ 19 - عن عبد الله ابن بحينة، وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى صلاته وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم" (¬1). الكلام عليه من وجوه: إحداها: في التعريف براويه، وقد سلف في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانيها: قوله: "ولم يجلس" كذا في الكتاب -بالواو وفي مسلم بالفاء-. قال القاضي: وليس في الحديث نص يدل على أنه متى ¬

_ (¬1) البخاري (829، 830، 1224، 1225، 1230، 6670)، ومسلم (570)، والترمذي (391)، والنسائي (3/ 34)، وأبو عوانة (2/ 193)، والموطأ (1/ 96، 97)، والمسند (1/ 99، 5/ 345، 346)، وأبو داود (1035)، وابن الجارود (242)، وابن ماجه (1206)، وابن خزيمة (1029)، والدارمي (1/ 352، 353)، والدارقطني (1/ 377).

تنبه - صلى الله عليه وسلم - أقبل الركوع أم لا؟ لكن قوله: "فلم يجلس" يدل لمجيء فاء التعقيب بعد ذكر القيام أنه لم يرجع إلى الجلوس بعد التنبيه له. ثالثها: فيه دليل على أن السجود قبل السلام: إما مطلقًا كما يقوله الشافعي، وإما في النقص كما قاله مالك. رابعها: فيه دليل أيضًا على أن التشهد الأول والجلوس له لَيْسَا بركنين في الصلاة ولا واجبين، إذ لو كانا واجبين لما جبرهما بالسجود، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وقال أحمد: في طائفة قليلة: هما واجبان، وإذا سها جبرهما بالسجود على مقتضى الحديث. خامسها: [فيه] (¬1) أنه يشرع التكبير لسجود السهو، وهذا مجمع عليه. واختلفوا فيما إذا فعلهما بعد السلام: هل يتحرم ويتشهد ويسلم أم لا؟. والصحيح: عندنا أنه يسلم ولا يتشهد. وذهب الحسن: إلى نفيهما، وروي ذلك عن أنس. وذهب النخعي: إلى إثبات التشهد دون السلام. وذهب عطاء: إلى التخيير في ذلك. وذهب مالك: إلى أنه يتشهد ويسلم في سجوده بعد السلام، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د.

واختلف قوله: هل يجهر لسلامهما كسائر الصلوات أم لا؟ وهل يحرم لهما أم لا؟ قال القرطبي (¬1): وأولى الروايتين عن مالك أن هذا التكبير للإِحرام لا للسجود قال: ولا بد من بينة، لأنه قد انفصل عن حكم الصلاة. قال النووي في (شرحه) (¬2): وثبت السلام لهما إذا فعلتا بعد السلام في حديث ابن مسعود وحديث ذي اليدين قال: ولم يثبت في التشهد حديث، كذا ادعاه. وقال في (شرح المهذب) (¬3) أيضًا: أنه لم يصح فيه حديث. وتبعه تلميذه ابن العطار في "شرحه"، وليس كما ذكرا، ففي سنن أبي داود (¬4) والترمذي (¬5) من حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم فجرًا فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم. قال الترمذي: حسن غريب، وأخرجه ابن حبان أيضًا في صحيحه (¬6)، ولفظه: أنه ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 1009). (¬2) شرح مسلم (5/ 60). (¬3) قال في المجموع (4/ 159)، والصحيح المشهور أنه يتشهد بعد السجدتين كسجود التلاوة. (¬4) أبو داود عون المعبود (3/ 1026)، باب: سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم. (¬5) الترمذي (395)، باب: ما جاء في التشهد في سجدتي السهو. (¬6) ابن حبان (2670)، وأخرجه النسائي (3/ 26)، والبغوي في شرح السنة (761)، وصححه الحاكم (1/ 323)، ووافقه الذهبي. قال ابن حجر في =

-عليه الصلاة والسلام- "صلى بهم فسجد سجدتي السهو، ثم تشهد وسلم". سادسها: استدل بهذا الحديث على أن ترك التشهد الأول بمفرده موجب للسجود، وفيه نظر لاحتمال أن يكون مرتبًا على ترك الجلوس له. وجاء هذا من الضرورية الوجودية، نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬1). ¬

_ = الفتح (3/ 98): قال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث. انتهى. وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر. ضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضًا في هذه القصة "قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ متى لم أسمع في التشهد شيئًا"، وقد تقدم في "باب تشبيك الأصابع" من طريق ابن عون عن ابن سيرين، قال: "نبئت ان عمران بن حصين قال: ثم سلم"، وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإِسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، كما أخرجه مسلم فصارت زيادة أشعث شاذة، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحب التشهد في سجود السهو ثابت، لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف فقد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة. اهـ. واختار شيخ الإِسلام عدم التشهد. وهو الذي عليه العمل. (¬1) إحكام الأحكام (2/ 448).

سابعها: فيه دليل على متابعة الإِمام عند القيام عن هذا الجلوس، وهو ظاهر على قول من يقول: إن الجلوس الأول سنة (¬1)، فإن ترك السنة للإِتيان بالواجب واجب، ومتابعة الإِمام واجبة. ثامنها: فيه دليل أيضًا على أنه إذا سها سهوين أو أكثر أنه يكفيه سجدتان (¬2). ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (2/ 447): فيه إشارة إلى أن من الناس من يقول بوجوبه. واحتج الطبري لوجوبه بأن الصلاة فرضت ركعتين أولًا، وكان التشهد فيهما واجب، فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب، وأجب بأن الزيادة لم تتعين في الأخريين، بل يحتمل أن يكونا هما الفرض الأول، والمزيد هما الركعتان الأولان بتشهدهما، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان. (¬2) ويستنبط من الحديث نفسه بأنه ترك الجلوس الأول والتشهد معًا وكل واحد منهما واجب مستقل. فوائد: قال ابن القيم في زاد المعاد: وكان سهوه في صلاته - صلى الله عليه وسلم -. من إتمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو. الثانية: الحكمة في سجود السهو، أنه غم للشيطان، وجبر للنقصان، ورضى للرحمن. ومن الحكمة فيه أيضًا في جعله جابرًا للمشكوك فيه دون الالتفات وغيره مما ينقص الخشوع، لأن السهو لا يؤاخذ به المكلف. فشرع له الجبر دون العمد، ليتيقظ له العبد فيجتنبه، واعلم أنه يشرع للسهو دون العمد عند الجمهور. الثالة: سجود السهو من خصائص هذه الأمة، ولا يعلم في أي وقت شرع. =

تاسعها: فيه التعبير بالأكثر عن الجملة فإن قوله: "قضى صلاته"، إنما يصدق حقيقة بالتسليم، إذ التسليم وإن كان مخرجًا من الصلاة فهو من جملتها: كالتكبير للافتتاح. واعلم أن الكلام على هذا الحديث والذي قبله منحصر في نفس السجود [وفي أسبابه] (¬1). والأول في محله وتكرره وصفته وحكمه، ولا يخفى عليك ذلك مما قررناه لك فيهما فتدبره. ¬

_ = الرابعة: التقرب إلى الله بالصلاة المرقعة المجبورة إذا عرض فيها الشك، أولى من الإِعراض عن ترقيعها والشروع في غيرها، والاقتصار عليها بعد الترقيع أولى من إعادتها. فإنه منهاجه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم. الخامسة: لا يشرع السجود في صلاة الجنازة لأنه لا سجود في صلبها ففي جبرها أولى. وأما سجود التلاوة والشكر فإنه لو شرع كان الجبر زائدًا على الأصل، وأما سجود السهو فإنه بؤدي إلى التسلسل ولا يشرع في صلاة الخوف. (¬1) في الأصل بياض.

20 - باب المرور بين يدي المصلي

20 - باب المرور بين يدي المصلي ذكر فيه أربعة أحاديث: الحديث الأول 108/ 1/ 20 - عن أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلم المار بين يدي المصلي. ماذا عليه من الإِثم، لكان أن يقف أربعين خيرًا له، من أن يمر بين يديه" (¬1). قال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (510)، ومسلم (507)، والموطأ (1/ 154، 155)، وأحمد (4/ 169)، والترمذي (336)، والنسائي (2/ 66)، وأبو داود (701)، وأبو عوانة (2/ 44، 45)، وعبد الرزاق (2322)، والبغوي (543)، والدارمي (1/ 329)، وابن ماجه (944)، والطحاوي (84)، وابن حبان (2366). (¬2) فائدة: قال أحمد شاكر في سنن الترمذي (2/ 159): اجترأ مصحح المتن المطبوع مع ابن العربي فزاد من عنده كلمة "أربعين" مرتين فجعل كلام =

الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه هو عبد الله بن جهيم كما ذكره ابن بن جهيم عبد البر (¬1)، قال: ويقال إنه ابن أخت أبي بن كعب قال: ولست أقف على نسبه في الأنصار، وفرّق [أبو] (¬2) عمر بينه وبين أبي جهيم بن الحارث بن الصمة وغيره. قال: هما واحد، وقد أوضحت ذلك فيما أفردته من الكلام على رجال هذا الكتاب. وأما أبو النضر المذكور: فهو راوي الحديث عن بسر بن سعيد عن أبي جُهيم، واسمه سالم بن أبي أمية، وهو تابعي ثقة، مات سنة تسع وعشرين ومائة. ¬

_ = أبي النضر هكذا: "لا أدري قال أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين سنة"، وما زاد ليس في شيء من النسخ أو الروايات. (¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/ 442): قيل اسمه عبد الله، وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه قال: يقال هو الحارث بن الصمة، فعلى هذا لفظة "ابن" زائدة بين أبي جهيم والحارث، لكن صحيح أبو حاتم أن الحارث اسم أبيه لا اسمه. وفرق ابن أبي حاتم بينه وبين عبد الله بن جهيم، يكنى أيضًا: أبا جهيم. وقال ابن مندة: "عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة" فجعل الحارث اسم جده، ولم يوافق عليه، وكأنه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة فيه، والصمة -بكسر المهملة وتشديد الميم- هو ابن عمر بن عتيك الخزرجي. ووقع في مسلم: "دخلنا على أبي الجهم" بإسكان الهاء والصواب أنه بالتصغير، وفي الصحابة شخص آخر يقال له أبو الجهم وهو صاحب الانبجانية، وهو غير هذا لأنه قرشي، وهذا أنصاري، ويقال بحذف الألف واللام في كل منهما وبإثباتهما. (¬2) التصحيح من ن د، وفي الأصل (ابن).

الوجه الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "المار" مفهومه أن القائم والقاعد والنائم وغيره بخلافه، وأنه لا إثم عليه. الثالث: قوله: "بين يدي المصلي" فيه التعبير بالبعض عن الكل عكس ما قدمناه في الحديث الذي قبل هذا الباب. قيل: وإنما عبر باليدين لما كان أكثر عمل الإِنسان بهما؛ حتى نسب الكسب إليهما في نحو: بما كسبت يداك وأشباهه. الرابع: قوله: "من الإِثم" "من" فيه لبيان الجنس. وقوله: "خيرًا" روي بالنصب والرفع على أنه اسم كان أو خبرها، وهو ظاهر (¬1). ومعناه: لاختار وقوف هذه المدة على ما عليه من الإِثم. وروى البزار (¬2): "أربعين خريفًا" وذكر ابن أبي شيبة (¬3) فيه: "لكان ¬

_ (¬1) وأعربها ابن العربي في العارضة (2/ 131) على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة، ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها، وعبارته: "إذا رفعت (خير) فخبر كان في جملة (أن يقف) وإذا نصبة فهو الخبر". وهاتان الجملتان نكرتان تعرفتا بالإِضافة والثانية التي هي (خير له) أعرف من الأولى. وقال السندي في شرح السنن: "وخير في بعض النسخ بلا ألف". كما في نسخ أبي داود والترمذي ومسلم، وفي بعضهما بألف كما في نسخ البخاري. (¬2) ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 169) بصيغة التضعيف وبدل "خريفًا" "عامًا". (¬3) ابن أبي شيبة (2/ 282)، وذكره في كنز العمال (35508) وعزاه له.

أن يقف مائة عام خير له [من الخطوة التي خطا] " (¬1)، وكل هذا تغليظ وتشديد. واعلم أن قوله: "من الإِثم" هو في بعض روايات أبي ذر عن أبي الهيثم في صحيح البخاري فقط، فتنبه له (¬2). الخامس: وقع الإِبهام في تمييز العدد ليكون أردع عن المرور بين يدي المصلي، لكن قد ورد مفسرًا في رواية أخرى كما ¬

_ (¬1) الزيادة من التمهيد لابن عبد البر (21/ 146)، والاستذكار (6/ 169). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/ 585): على قوله: "ماذا عليه" زاد الكشمهيني "من الإِثم" وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره. والحديث في الموطأ بدونها، وقال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه. وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقًا. لكن في مصنف ابن أبي شيبة "يعني من الإِثم". فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشمهيني أصلًا لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ بل كان راوية. وقد عزاها المحب الطبري في الأحكام للبخاري وأطلق، فعيب ذلك عليه وعلى صاحب العمدة في ابهامه أنها في الصحيحين. وأنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها في الخبر فقال: لفظ "الإِثم" ليس في الحديث صريحًا. انظر: تلخيص الحبير (1/ 286). اهـ. قال الصنعاني في حاشية (2/ 449): لكن البخاري بوّب الحديث، باب: إثم المار بين يدي المصلي (1/ 484)، وساق هذا الحديث وكأنه الذي غر الكشمهيني في ظنه المذكور. والبخاري اعتمد الترجمة ما يفهمه الحديث. اهـ.

سبق (¬1) [] (¬2) هذا إذا لم يكن المصلي متعديًا بوقوفه في الصلاة بأن يصلي في طريق الناس أو في غيرها إلى غير سترة ونحوها. ثم للمار أربعة أحوال: أولها: أن يكون له مندوحة عن المرور، ولم يتعرض المصلي لذلك، فالإِثم خاص بالمار إن مر. ثانيها: أن يتعرض المصلي لمرور الناس عليه، وليس للمار مندوحة عن المرور، فالإِثم خاص بالمصلي دون المار. ثالثها: أن يتعرض وللمار مندوحة، فيأثمان: أما المصلي فلتعرضه، وأما المار فلمروره مع إمكان أن لا يفعل. رابعها: أن لا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحة فلا يأثم واحد منهما وقد جمع ذلك ابن الحاجب في قوله: ويأثم المصلي إن تعرض والمار وله مندوحة، وذكر ابن عبد البر أن إثم ¬

_ (¬1) قد ورد مفسر من رواية أبي هريرة "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو يعلم أحدكم في أن يمشي بين يدي أخيه معترضًا، وهو يناجي ربه، لكان أن يقف في ذلك المقام مائة عام أحب إليه من الخطوة التي خطا". أخرجه أحمد (2/ 371)، وصححه ابن خزيمة (814)، والطحاوي في مشكل الآثار (87)، وابن حبان (2365)، وابن ماجه (946). قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 115): هذا إسناد فيه مقال. اهـ. وصححه المنذري في الترغيب. (¬2) في الأصل ون د زيادة (السادس) وليس لها محل هنا، والتصحيح من ن ب د.

المار أشد من إثم الذي يدعه يمر بين يديه. والمشهور عند المالكية أن السترة حيث يأمن المرور مطلوبه. قال أبو الطاهر: وسبب الخلاف أن السترة هل جعلت حريمًا للصلاة حتى يقف عندها ولا يتعداها، أو حذرًا من المرور المشغل له. قال: فإن قلنا بالعلة الأولى وجبت السترة وإن أمن المرور، وإن قلنا بالثاني لم تجب مع الأمن. قال القاضي عياض: واختلفوا هل سترة الإِمام نفسها، ستره لمن خلفه، أم هي سترة له خاصة وهو سترة لمن خلفه؟ مع الاتفاق على أنهم مصلون إلى سترة. السابع: فيه النهي الأكيد والزجر الشديد عن المرور بين يدي المصلي [إذا لم يكن المصلي] (¬1) متعديًا لما فيه من شغل قلبه عما هو بصدده والدخول بينه وبين ربه. الثامن: ظاهر الحديث عموم النهي في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإِمام والمنفرد، وأن المأموم لا يضره من يمر بين يديه على كراهة في ذلك وهو بعيد (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) وذلك لحديث ابن عباس الآتي.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 109/ 2/ 20 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، إنما هو شيطان" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في باب الآذان. الأول: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس" هو عام في كل ما يستره من جماد وحيوان في كل شيء إلَّا ما ثبت المنع من استقباله من آدمي، أو ما أشبه الصنم المصمود إليه وما في معنى ذلك، وقد كره ذلك بعض الفقهاء، وكرهه مالك في المرأة. ¬

_ (¬1) البخاري (509، 3274)، ومسلم (505)، وأبو داود (698)، والنسائي (2/ 66)] (8/ 61)، وابن الجارود (217)، ومعاني الآثار (1/ 460)، ومشكل الآثار (3/ 250)، وأبو عوانة (2/ 43)، وأحمد (3/ 34، 43، 44، 63)، وابن خزيمة (818، 819)، ومالك (1/ 154)، والبيهقي (2/ 267)، ومعرفة الآثار (3/ 4214).

وقال المتولي: لو تستر بآدمي أو حيوان لم يستحب له ذلك لأنه يشبه عبادة من يعبد الأصنام. وقال الشافعي في البويطي: لا يستتر بامرأة ولا دابة [فإن] (¬1) قوله في المرأة (¬2) فظاهر، لأنها ربما شغلت ذهنه، وأما الدابة ففي الصحيحين (¬3) عن ابن عمر أنه - عليه الصلاة والسلام -: "كان ¬

_ (¬1) في ن ب د (فأما). (¬2) قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه (1/ 586): باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، وكره عثمان أن يستقبل الرجل وهو يصلي وإنما هذا إذا اشتغل به، فأما إذا لم يشتغل به، فقد قال زيد بن ثابت: ما باليت أن الرجل لا يقطع صلاة الرجل. قال ابن حجر في الفتح: قال ابن المنير: الترجمة لا تطابق حديث عائشة. لكنه يدل على المقصود بالأولى، لكن ليس فيه تصريح بأنها كانت مستقبلته. فلعلها كانت منحرفة، أو مستدبرة. قال ابن رشيد: قصد البخاري أن شغل المصلي بالمرأة إذا كانت في قبلته على أي حالة كانت أشد من شغله بالرجل. ومع ذلك فلم تضر صلاته - صلى الله عليه وسلم - لأنه غير مشتغل بها، فكذلك لا تضر صلاة من لم يشتغل بها. والرجل من باب الأولى، واقتنع الكرماني بأن حكم الرجل والمرأة واحد في الأحكام الشرعية. ولا يخفى ما فيه. اهـ. وقد بوب البخاري على حديث عائشة - رضي الله عنها - وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفها، فقال: "باب الصلاة خلف النائم" "باب التطوع خلف المرأة" "باب من: قال لا يقطع الصلاة شيء" ... إلخ. (¬3) البخاري (507)، ومسلم (502)، وأبو داود عون (678)، والترمذي. قال ابن حجر في الفتح نقلًا عن القرطبي (1/ 580): قال القرطبي: في الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان، ولا يعارضه النهي =

يُعَرضُ راحلته فيصلي إليها"، زاد البخاري في رواية: "وكان ابن عمر يفعله" ولعلّ الشافعي لم يبلغه هذا الحديث، وهو صحيح لا معارض له، فتعين العمل به، لا سيما وقد أوصانا الشافعي بأنه إذا صح حديث فهو مذهبه. فائدة: إذا صلى إلى سترة فالسنة أن يجعلها مقابلة يمينه أو شماله، ولا يصمد لها أي يجعلها تلقاء وجهه (¬1). ¬

_ = عن الصلاة في معاطن الإِبل، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء. وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها. وإما لأنهم كانوا يتخلون بينها متسترين بها. اهـ. وقال غيره: علة النهي عن ذلك كون الإِبل خلقت من الشياطين. وقد تقدم ذلك فيحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة ... إلخ. (¬1) لفظ الحديث في أبي داود عون (679): "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلَّا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدًا". قال الخطابي: الصمد القصد يريد أنه لا يجعله تلقاء وجهه. والصمد: هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد فيها ويعتمد لها. قال المنذري: في إسناده أبو عبيد الوليد بن كامل البجلي الشامي وفيه مقال. قال ابن القيم في تهذيب السنن: حديث ضباعة قال ابن القطان: فيه ثلاثة مجاهيل، الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر، عن ضباعة بنت المقداد، عن ابيها. قال عبد الحق: إسناده ليس بقوي. ورواه النسائي من حديث بقية عن الوليد بن كامل: حدثنا المهلب بن حجر البهراني عن ضبعة بنت المقدام بن معد يكرب، عن أبيها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: =

الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليدفعه" هذا الأمر الظاهر فيه الوجوب، لكن اتفق العلماء على أنه أمر ندب متأكد. قال النووي (¬1): ولا أعلم أحدًا من العلماء أوجبه بل صرح أصحاب الشافعي وغيرهم بأنه مندوب غير واجب، وجاء في رواية لمسلم: "فليدفعه في نحره". الثالث: هذا لمن لم يفرط في ترك الصلاة إلى سترة، أما إذا فرّط بترك الصلاة إليها أو تباعد عنها على قدر المشروع فمن مر وراء موضع السجود لم يكره، وإن مرّ موضعه كره، ولكن ليس للمصلي أن يقاتله، وعلة ذلك تقصيره حيث لم يقرب من السترة. نقل القاضي عياض: اتفاق العلماء على ذلك. قال: وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز للمصلي المشي إليه ليدفعه، وإنما يدفعه ويرده من موقفه إما بإشارة أو بشيء، لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مرور المار من بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أُمر المصلي بالقرب من ¬

_ = "إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه، وليجعله على حاجبه الأيسر"، فهذا أمر، وحديث أبي داود فعل. فقد اختلف على الوليد بن كامل، كما ترى فعلي بن عياش رواه فعلًا، وبقية رواه قولًا، وابن أبي حاتم ذكر المهلب بن حجر أنه يروي عن ضبعة بنت المقدام بن معد يكرب وهذا غير ما في الإِسنادين فإن فيهما ضباعة بنت المقداد، أو ضبعة بنت المقدام، والله أعلم. (¬1) شرح مسلم (6/ 223).

سترته (¬1)، وإنما يرده إذا كان بعيدًا بالإِشارة أو التسبيح. قال: وكذلك اتفقوا على أنه إذا مر لا يرده لئلا يصير مرورًا ثانيًا إلَّا شيئًا روى عن بعض السلف أنه يرده وتأوله بعضهم. ¬

_ (¬1) قال البخاري في صحيحه: "باب قدر كم ينبغي بين المصلي والسترة"، ثم ساق بإسناده إلى سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاة". وحديث سلمة قال: "كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزها"، وقال أبو داود عون (2/ 388): "باب الدنو من السترة". قال ابن حجر في الفتح (1/ 575): قال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع. قلت: ولا يخفى ما فيه. أقول: ومأخذهم من حديث بلال: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع". أخرجه البخاري (506). وقال البغوي: أستحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبيها قدر إمكان السجود. وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها، وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو ما رواه أبو داود (2/ 388) من حديث سهل بن أبي حثمة مرفرعًا: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته". قال ابن القيم -رحمه الله-: رجال إسناده رجال مسلم ... إلخ. لطيفة: ذكرها الخطابي في المعالم (1/ 342)، قال: أخبرني الحسن بن يحيى بن صالح، أخبرنا ابن المنذر: أن مالك بن أنس كان يصلي يومًا متباينًا عن السترة، فمر به رجل وهو لا يعرفه، فقال: أيها المصلي ادن من سترتك، فجعل يتقدم وهو يقرأ (4/ 113): {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}.

وقال صاحب القبس (¬1): إنما يدفعه إذا مر في موضع سجوده خاصة سواء وضع بين يديه سترة أم لا، وما ذكره في الثاني ليس بجيد. الرابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليقاتله" ليس المراد بها المقاتلة بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى الهلاك بالإِجماع، لأن ذلك مخالف [لما علم] (¬2) من قاعدة: الإِقبال على الصلاة، والاشتغال بها، والسكون فيها، ولما علم من تحريم دم المسلم وعظم حرمته، وإنما المراد: قوة المنع له على المرور بحيث لا ينتهى إلى الأعمال المنافية للصلاة. قال القرطبي في شرحه (¬3): ولا يلتفت لقول آخر ومتأخر لم يفهم سرًّا من أسرار الشريعة، ولا قاعدة من قواعدها. قال أصحابنا: فيرده إذا أراد المرور بين يديه بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشد منه، وإن أدى إلى قتله فلا شيء عليه: كالصائل عليه لأخذ نفسه أو ماله، وقد أباح له الشرع مقاتلته، وهي مباحة، فلا ضمان فيها فلو قاتله بما يجوز قتاله به فهلك، فلا قود عليه باتقاق العلماء. وهل تجب دية أم يكون هذا هدرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك، وصحح الماوردي من أصحابنا وجوب ¬

_ (¬1) القبس (1/ 342). (¬2) في الأصل (فاعلم)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) المفهم (2/ 896).

الدية. وروي عن عثمان (¬1) - رضي الله عنه - أنه رفع إليه إنسان دفع مارًا بين يديه فكسر أنفه، فقال: لو تركه لكان أهون، ولم يذكر أنه ألزمه الدية. وقال الباجي (¬2): يحتمل أن يكون المراد هنا بالمقاتلة اللعنة، والقتال بمعنى اللعنة جاء في قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} (¬3)، ويحتمل أن يكون معناه: فليعنفه. قلت: وفي الأول نظر: "فلعن المؤمن: كقتله" (¬4). وقال صاحب القبس (¬5): حريم المصلي إذا لم يكن سترة مقدار ما يستقل فيه قائمًا وراكعًا وساجدًا، قال: وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا صلى إلى غير سترة لا يمر أحدٌ بين يديه بمقدار رمية سهم. وقيل: رمية حجر. وقيل: مقدار رمح. وقيل: مقدار المطاعنة. وقيل: المضاربة بالسيف. قال: وهذا كله أوقعهم فيه قوله: ¬

_ (¬1) ذكره الباجي في المنتقى (1/ 275). (¬2) المنتقى (1/ 275)، وانظر: الاستذكار (6/ 163). (¬3) سورة الذاريات: آية (10). (¬4) والحديث من رواية أبي زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين بملة غير الإِسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال" وفيه: "ولعن المؤمن كقتله" متفق عليه. (¬5) القبس (1/ 344)، وأشار إليه في عارضة الأحوذي (1/ 131).

"فليقاتله". فحملوه على جميع أنواع المقاتلة، ولم يفهموا أن القتل لغة المدافعة كانت بيدٍ أو بآلة، حتى قال بعضهم: وباللسان، وليس بصحيح، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصيام: "فإن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" (¬1) ففرق بين المشاتمة التي هي راجعة إلى القول وبين المقاتلة، فدل على عدم دخول أحدهما تحت الآخر. الخامس: في الحديث دليل على جواز العمل في الصلاة لمصلحتها من غير كراهة. السادس: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإنما هو شيطان" يعني أن امتناعه من الرجوع عن المرور فعل من أفعال الشيطان، فأشبه فعله فعله، لأن الشيطان بعيد من الخير وقبول السنة. وقيل: إنما حمله على المرور [و] (¬2) الامتناع من الرجوع الشيطان. وقيل: المراد بالشيطان القرين، كما في الحديث: "فإن معه القرين" (¬3). ¬

_ (¬1) لفظه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم" متفق عليه. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ولفظه عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين". أخرجه أحمد (2/ 8)، وأبو عوانة (2/ 43)، وابن حبان 2362، 2370)، وصححه ابن خزيمة (800).

السابع: فيه جواز إطلاق لفظ الشيطان في مثل هذا. الثامن: فيه التنبيه على: عظم رتبة الصلاة، ومناجاة الرب -تعالى- واحترام المصلي، وعدم تعاطي أسباب تهويش قلبه وشغله عما هو بصدده، فإنها حالة عظيمة، ومقام كريم خاص بالله -تعالى-. [التاسع] (¬1): الشيطان مأخوذ من شطن إذا بعد. وقيل: من شاط إذا احترق، والأول أصح، وعليهما يبنى الصرف وتركه، فتصرف على شطن لأصالة [النون] (¬2) ولا يصرف على شاط لزيادتها. ¬

_ (¬1) في ن ب (فائدة). (¬2) زيادة من ن ب د.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 110/ 3/ 20 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سبق في باب الاستطابة. الأول: "الأتان" الأنثى من جنس الحمير، ولا تقل: أتانة. وحكى عن يونس وغيره: أتانة وعجوزة وفرسة ودمشقة في دمشق. ¬

_ (¬1) البخاري (76، 493، 861، 1857، 4412)، ومسلم (504)، وأبو داود (715)، والترمذي (337)، والنسائي (2/ 64)، وابن ماجه (947)، وابن الجارود (168)، وأبو عوانة (2/ 54، 55)، والبيهقي (2/ 276، 277)، وابن خزيمة (833)، والمسند (1/ 342، 219، 264، 365)، والشافعي في المسند (1/ 68)، وابن أبي شيبة (1/ 278، 280)، والموطأ (1/ 155، 156)، والبيهقي في السنن (2/ 273، 277)، وابن حبان (2151، 2381).

فقوله في هذه الرواية: "على حمار أتان" هي رواية إطلاق البخاري، كما ذكره النووي في "شرح مسلم" (¬1)، وهو بدل من حمار وتبعد فيه الوصفية، ولمسلم روايتان إحداهما "أتان" والأخرى "حمار"، فرواية البخاري فيها استعمال [للفظ] (¬2) الحمار فيما يعم الذكر والأنثي، وبين أنه أنثى، ومثله لفظ الشاة والإِنسان. قال الجوهري: وربما قالوا للإِتان حمارة. وقال المحب الطبري في "أحكامه": حمار أتان بتنوين الحرفين. وقال بعضهم: إنما هو على الإِضافة. الثاني: قوله "ناهزت الاحتلام" أي قاربته ودانيته: والاحتلام معروف، وهو البلوغ. وحدّه عندنا بالسن: خمس عشرة [سنة] (¬3) وهو رواية عن مالك وأخرى عنه سبع عشرة، والمشهور عنه ثماني عشرة، وأما الإِنبات ففيه ثلاثة أقوال عندهم. ثالثها: يعتبر في الجهاد ولا يعتبر في غيره، ومذهبنا أنه علامة في حق الكافر دون المسلم. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (4/ 221). (¬2) في الأصل ون ب (اللفظ)، وما أثبت من ن د. (¬3) في ن ب ساقطة.

وقوله: هنا " [قاربت] (¬1) الاحتلام" يؤيد قول من قال: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وأنه ابن ثلاث عشرة عند موته - صلى الله عليه وسلم - خلافًا لمن قال: عمره عشر سنين عند موته - عليه الصلاة والسلام -. وروى سعيد بن جبير عنه أنه كان عمره إذ ذاك خمس عشرة، وقال الإِمام أحمد: أنه الصواب وقد قدمت هذا الخلاف في ترجمته في باب الاستطابة (¬2). وفائدة قول ابن عباس "ناهزت الاحتلام" والله أعلم التوكيد لهذا الحكم حتى لايظن أن عدم الإِنكار سببه الصغر وعدم التمييز. الثالث: معنى "ترتع" ترعى، يقال: رتعت الإِبل إذا رعت يقال: خرجت تلعب فترتع أي تنعم وتلهو، وأرتع الغيث أي أثبت ما رتع فيه الإِبل (وترتع بكسر التاء [يفتعل] (¬3) في الرعي) (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب د (ناهزت). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (9/ 84): ويمكن الجمع بن الروايات إلَّا ست عشرة وثنتي عشرة، فإن كلا منها لم يثبت سنده. والأشهر بأن يكون ناهز الاحتلام لما قارب ثلاث عشرة ثم بلغ لما استكملها، ودخل في التي بعدها. فإطلاق خمس عشرة بالنظر إلى جبر الكسرين وإطلاق العشر والثلاث عشرة بالنظر إلى الكسر. وإطلاق أربع عشرة بجبر أحدهما. اهـ. انظر إكمال إكمال المعلم (2/ 219). (¬3) في ن ب (بفعيل)، وفي الأصل مفعول والتصحيح من ن د. (¬4) في فتح الباري (1/ 171): ترتع بكسر العين يفتعل في الرعي.

الرابع: "مِنًا" الأجود صرفها [وتركه] (¬1) وكتابتها بالألف وتذكيرها. وسميت منًا: لما يمنى بها من الدماء أي يراق، ومنه قوله تعالى: {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)} (¬2) [وقيل: غير ذلك] (¬3). الخامس: في هذه الرواية: "أنه رآه يصلي بمنا" وفي رواية لمسلم "بعرفة" وهو محمول على أنهما قضيتان (¬4). السادس [: في الحديث دليل على ركوب الصبي المميز الحمار وما في معناه وأن الولي لا يمنعه من ذلك. السابع:] (¬5) فيه دليل أيضًا على صحة صلاة الصبي. الثامن: فيه أيضًا أن سترة الإِمام سترة لمن خلفه، كذا استنبطه النووي في شرحه منه، وتوبع عليه، وليس في الحديث تعرض لها كما ستعلمه في الوجه [الثاني] (¬6) عشر. ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) سورة القيامة: آية 37. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (1/ 572): كذا قال مالك، وأكثر أصحاب الزهري ووقع عند مسلم من رواية ابن عيينة "بعرفة" قال النووي: يحمل على أنهما قضيتان، وتُعقب بأن الأصل عدم التعدد ولا سيما مع اتحاد مخرج الحديث. فالحق أن قول ابن عيينة "بعرفة" شاذ. (¬5) في ن د ساقطة. (¬6) في الأصل (الحادي)، والتصحيح من ن ب د.

التاسع: فيه أيضًا جواز إرسال الدابة من غير حافظ أو مع حافظ غير مكلف. العاشر: فيه أيضًا احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة، فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار. الحادي عشر: قوله: "فلم ينكر ذلك علي أحد" (¬1) استدلاله ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/ 172) على قوله: "فلم ينكر ذلك عليَّ أحد" قيل: فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة. واستدل ابن عباس على الجواز بعدم الإِنكار لانتفاء المرافع إذ ذاك. ولا يقال: منع من الإِنكار اشتغالهم بالصلاة، لأنه نفي الإِنكار مطلقًا، فتناول ما بعد الصلاة. وأيضًا فكان الإِنكار يمكن الإِشارة. وقال (1/ 572): قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإِنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة لأن ترك الإِنكار أكثر فائدة. قلت: وتوجيهه أن ترك الإِعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإِنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معًا، ويستفاد منه أن ترك الإِنكار حجة على الجواز بشرطه وهو انتفاء الموانع من الإِنكار وثبوت العلم بالاطلاع على الفعل، ولا يقال: لا يلزم مما ذكر اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلًا دون رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - له لأنا نقول قد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يروي في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه، وتقدم أن رواية المصنف في الحج أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية ولو لم يرد شيء من ذلك =

على عدم بطلان الصلاة لمروره بعدم الإِنكار منهم لفعله. لفائدتين: الأولى: أنه غير مؤاخذ بفعله وبمرور الحمار بين يدي الصف، أما فعله فإنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز لاحتمل أن يكون عدم الإِنكار عليه لعدم مؤاخذته [لسبب] (¬1) صغر سنه، لكنه نبه عليه بقوله: "ناهزت الاحتلام"، تأكيدًا لعدم بطلان الصلاة بمرور من هو في هذا السن، ولم يستدل بعدم استئنافهم الصلاة بدلًا عن عدم إنكارهم لأنه أكثر فائدة، فأنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غير ممنوع من [يفعله] (¬2) دل على عدم إفساده الصلاة إذ لو أفسدها لامتنع إفساد صلاة الناس على المار، ولا ينعكس هذا وهو أن يقال لو لم تفسد لم يمتنع على المار لجواز أن لا يفسد الصلاة، ويمتنع المرور على المار، كما يقول في مرور الرجل بين يدي المصلي حيث يكون له مندوحة عنه إنه يمتنع عليه المرور، وإن لم تفسد الصلاة على المصلي، فثبت بهذا أن عدم الإِنكار دليل على الجواز، والجواز دليل على عدم الإِفساد [فإنه] (¬3) لا ينعكس، فكان الاستدلال بعدم الإِنكار أكثر فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة. الثاني عشر: مرور الحمار بين يدي المصلي لا يخلو إما أن ¬

_ = لكان توفر دواعيهم على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عما يحدث لهم كافيًا في الدلالة على اطلاعه على ذلك، والله أعلم. (¬1) في ن ب د (بسبب). (¬2) في ن ب د (فاعله). (¬3) في ن ب د (وأنه).

يكون المصلي إمامًا أو غيره، فإن كان إمامًا فلا يخلو أن يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة، فإن كان إلى سترة فهي سترة لمن وراءه، فالمرور وقع في هذا الحديث بين يدي بعض الصف لا كله، والإِمام سترة للكل فلا يضر، وإن كان إلى غير سترة فالأكثرون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يديه، وظاهر هذا الحديث يدل عليه لقوله: "بغير جدار" (¬1)، ولو كان ثم سترة غيرها من غيره لذكرها، وإن كان لا يلزم [من عدم الجدار عدم [السترة] (¬2) لأنه ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/ 171): على قوله: "إلى غير جدار" أي إلى غير سترة، قاله الشافعي. وسياق الكلام يدل على ذلك. لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته. ويؤيده رواية البزار بلفظ "والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة ليس لشىء يستره". وقال (1/ 751): بعد ذكر كلام الشافعي ثم قال، قال بعض المتأخرين: قوله: "إلى غير جدار" لا ينفي غير الجدار إلَّا أن إخبار ابن عباس عن مروره بهم وعدم إنكارهم لذلك مشعر بحدوث أمر لم يعهدوه. فلو فرض هناك سترة أخرى غير الجدار لم يكن لهذا الإِخبار فائدة، إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلًا، وكأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يصلي في الفضاء إلَّا والعَنَزَة أمامه. ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة. وفي حديث ابن عمر ما يدل على المداومة، وهو قوله بعد ذكر الحربة: "وكان يفعل ذلك في السفر"، وفي هذا الحديث فوائد، وهي أنه سترة الإِمام سترة لمن خلفه، كما ذكره النووي لشرحه لمسلم. (¬2) في الأصل كلمة غير واضحة، والتصحيح من ن د.

لا يلزم] (¬1) من عدم الأخص عدم الأعم، والمأموم بطريق الأولى والمنفرد كذلك. وقد وردت أحاديث معارضة لذلك، منها ما دل على قطع الصلاة، بمرور المرأة، والحمار، والكلب الأسود. وهو صحيح أخرجه مسلم (¬2) من حديث أبي ذر وفيه: "أن الكلب الأسود شيطان" ووجه ذلك في المرأة أنها تقبل وتدبر في صورة شيطان، وأنها من مصائد الشيطان وحبائله. وأما الحمار فقد تعلق الشيطان به في دخول السفينة وإنهاقه عند رؤيته. ومنها: ما دل على قطعها بمرور اليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير وهو ضعيف (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) أخرجه مسلم (510)، وأحمد (5/ 149، 160، 161)، والترمذي (338)، والنسائي (2/ 63، 64)، وأبو داود (702)، وابن ماجه (952)، وأبو عوانة (2/ 47)، والبيهقي (2/ 274). (¬3) أخرجه أبو داود عون المعبود (690)، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أحسبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، ويجزىء عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر". قال أبو داود: في نفي من هذا الحديث شيء كنت ذاكرته إبراهيم وغيره، فلم أر أحدًا أجابه عن هشام ولا يعرفه، ولم أر أحدًا يحدث به عن هشام، وأحسب الوهم من ابن أبي سمينة -هو محمد بن إسماعيل البصري- والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه "على قذفة بحجر وذكر الخنزير وفيه نكارة". قال فيه ابن القيم في تهذيب السنن: قال ابن القطان: علته شك الراوي في =

وأجاب الشافعي وغيره عن الأول بأن المراد بالقطع. القطع عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها، لا لأنها تفسد الصلاة. فالمرأة تفتن، والكلب والحمار لقبح أصواتهما. قال -تعالى-: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} (¬1)، وقال: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} (¬2) الآية، ولنفور النفس من الكلب لا سيما الأسود، وكراهة لونه، وخوف عاديته، والحمار لحاجته وقلة تأتيه عند دفعه ومخالفته (¬3). وادعى أصحابنا بنسخه بحديث ابن عباس هذا وحديث عائشة (¬4) الآتي، وبعضهم ادعى نسخه بحديث أبي سعيد الخدري المرفوع: "لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم" أخرجه ¬

_ = رفعه. فانه قال عن ابن عباس قال: أحسبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا رأي لا خبر. ولم يجزم ابن عباس برفعه في الأصل، وأثبته ابن أبي سمينة أحد الثقات، وقد جاء هذا الخبر موقوفًا على ابن عباس بإسناد جيد، بذكر اربعة فقط قال: قال البزار: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: "قلت لجابر بن زيد، ما يقطع الصلاة؟ قال: قال ابن عباس: الكلب الأسود والمرأة والحائض، قلت: قد كان يذكر الرابع؟ قال: ما هو؟ قلت: الحمار. قال: رويدك الحمار؟ قلت: كان يذكر رابعًا؟ قال: ما هو؟ قال: العلج الكافر. قال: إن استطعت أن لا يمر بين يديك كافر ولا مسلم فافعل" تم كلامه. (¬1) سورة لقمان: آية 19. (¬2) سورة الأعراف: آية 176. (¬3) انظر: إكمال إكمال المعلم (2/ 222). (¬4) سيأتي بعد هذا. أخرجه البخاري رقم (382)، ومسلم (512).

أبو داود (¬1) لكن ابن حزم (¬2) ضعّف هذا الحديث، ودعوى النسخ جيدة إن ثبت تاريخ تأخير الناسخ عن المنسوخ بعد تعذر الجمع والتأويل، وأنى لها ذلك. وقد اختلف العلماء في قطع الصلاة بمرور الحمار والمرأة والكلب الأسود. فقال قوم: يقطع هؤلاء الصلاة. وقال أحمد (¬3): يقطعها الكلب الأسود وفي قلبي من المرأة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود عون المعبود (705)، قال المنذري: في إسناده مجالد وهو ابن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له مسلم حديثًا مقرونًا بجماعة من أصحاب الشعبي. قال أبو داود: إذا تنازع الخبران عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر ما عمل به أصحابه من بعده. هذا آخر كلامه. (¬2) انظر: المحلى (4/ 13). (¬3) الترمذي (2/ 163)، قال ابن القاسم في حاشية الروض (2/ 119): وقال الشيخ: مذهب أحمد أنه يقطع الصلاة: المرأة والحمار والكلب الأسود البهيم واختاره هو والمجد والشارح والناظم وغيرهم. قال الشيخ: والصواب أن مرور المرأة والكللب الأسود والحمار بين يدي المصلي دون سترة يقطع الصلاة. اهـ. وقال ابن القيم: صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من طرق أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود، ثبت عنه من راوية أبي ذر. أخرجها مسلم (510)، وأبي هريرة (511)، وابن عباس وأبو داود (703)، وعبد الله بن مغفل وابن ماجه (951)، ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح وصريح غير صحيح. فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وعائشة رضي الله عنها نائمة =

والحمار شيء ووجه قوله: إن الكلب لم يجيء في الترخيص فيه شيء يعارض هذا الحديث. وأما المرأة: ففيها حديث عائشة الآتي، وفي الحمار: حديث ابن عباس، وقال الأئمة الثلاثة وجمهور السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا غيرهم، وتأولوه كما سلف. وحكى الأثرم عن أحمد: جزم القول بأنه لا يقطع المرأة والحمار. وجزم القول بذلك يتوقف على أمرين. أحدهما: أن يتبين تأخر المقتضي لعدم الفساد على المقتضي للفساد، وفيه عسر عند المبالغة في التحقيق. والثاني: أن يتبين أن مرور المرأة مساوٍ [بما] (¬1) حكته عائشة [من] (¬2) الصلاة إليها راقدة (¬3). قال الشيخ تقي الدين (¬4): وليست هذه بالبينة عندنا لوجهين. الأول: أنها ذكرت أن البيوت ليس فيها حينئذ مصابيح، فلعل سبب هذا الحكم عدم المشاهدة، لها. ¬

_ = في قبلته. وكان ذلك ليس كالمار فإن الرجل محرم عليه المرور بين يدي المصلي ولا يكره له أن يكون لابثين بين يديه، وهكذا المرأة يقطع مرورها الصلاة دون لبثها والله أعلم. اهـ. من زاد المعاد (1/ 306). (¬1) في ن د (لما). (¬2) في الأصل (أن)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) فيه فرق بين اللبث وبين المرور. انظر ت (3) ص (323). (¬4) إحكام الأحكام (2/ 462).

والثاني: أن قائلًا لو قال: إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه في التشويش على المصلي اعتراضه بين يديه فلا يساويه في الحكم، لم يكن ذلك بالممتنع، وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا. الثالث عشر: في قول ابن عباس: "فلم ينكر ذلك علي أحد" دلالة على أن عدم الإِنكار حجة على الجواز، لكنه مشروط بانتفاء الموانع من الإِنكار وبالعلم بالاطلاع على الفعل، وذلك ظاهر، ولعل السبب في قول ابن عباس ذلك دون قوله: ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف، وليس بلازم من اطلاع الشارع على ذلك لجواز أن يكون الصف ممتدًا، ولا يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفعل مته، فلا يجزم بترك إنكاره مع اطلاعه، فلا يوجد شرط الاستدلال بعدم الإِنكار على الجواز، وهو الاطلاع مع عدم المانع أما عدم الإِنكار فمن رأى هذا الفعل، فهو المتيقن، فترك المشكوك فيه، وهو الاستدلال بعدم إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ المتيقن، وهو الاستدلال بعدم إنكار الرأيين للواقعة، وإن كان يحتمل قوله: "فلم ينكر ذلك عليّ أحد" النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره لعموم لفظ: "أحد" إلَّا أن فيه ضعفًا، لأنه لا معنى للاستدلال بعدم إنكار غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع حضرته، وعدم إنكاره إلَّا على بعد.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 111/ 4/ 20 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في الطهارة. الأول: قولها: "غمزني"، قال صاحب المطالع: أي طعن بإصبعه فيّ لأقبض رجليّ من قبلته انتهى. والغمز: يكون باليد وبالعين، وإن اختلف [في] (¬2) معناهما: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما ¬

_ (¬1) البخاري (382، 383، 384، 508، 511، 512، 513، 514، 515، 519، 997، 1209، 6276)، ومسلم (512/ 272)، ومالك (1/ 117)، والنسائي (1/ 102)، والشافعي في المسند (126)، وعبد الرزاق (2376)، والبيهقي (2/ 264)، والبغوي (545)، وأبو داود (713). (¬2) في ن ب د ساقطة.

ومن الثاني: قوله -تعالى-: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} (¬1). الثاني: استدل به من يقول: إن لمس النساء لا ينقض الوضوء. والجمهور: على النقض، وحملوا الحديث على أنه فوق حائل [قال] (¬2) النووي في (شرحه) (¬3)، وهذا هو الظاهر من حال النائم، فلا دلالة فيه على عدم النقض، وهذه فروع على مذهب مالك في اللمس، لا بأس أن تعرفها [فمحل] (¬4) الاتفاق [على النقض] (¬5) عندهم إذا وجدت اللذة في كبيرة غير محرم قصدها أم لا فإن قصد ولم يجد فكذلك على الأصح، وإن لم يقصد ولم يجد فلا نقض، وبعضهم فرق بين اللذة وعدمها عند فقد الحائل. والقبلة في الفم تنقض على المشهور للزوم اللذة، والحائل الخفيف: كالعدم. وفي الكثيف قولان، واللذة بالنظر لا ينقض على الأصح وفي الانعاظ الكامل قولان بناءًا على لزوم المذي أم لا (¬6). ¬

_ (¬1) سورة المطففين: آية 30. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) شرح مسلم (4/ 229). (¬4) في الأصل (لمحل)، وما أثبت من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) للاستزادة. انظر: التمهيد لابن عبد البر (21، 166، 182)، وفيه كثير من الفوائد التي لا تجدها في غيره، وقد سبق أن ذكرت كلام شيخ الإِسلام في هذه المسألة في باب الوضوء. الاستذكار (5/ 193، 205). انظر: حاشية الروض (1/ 251) أيضًا.

الثالث: قولها: "والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح"، أرادت به الاعتذار عن عدم قبضها رجليها عند سجوده - عليه الصلاة والسلام - وعلمها به بالظلمة حيث لا ضوء في البيت، كي لا تحوجه إلى طعن رجلها بإصبعه لو كان فيها مصابيح عند سجوده، ويحتمل أنها ذكرت ذلك لتأكيد الاستدلال على حكم من الأحكام الشرعية إما لاغتفار صلاة المصلي إلى النائم أو إلى المرأة أو لفعل مثل الغمز في الصلاة للحاجة. الرابع: فيه جواز الصلاة إلى النائم وإن كان امرأة، وقد كرهه مالك لحديث ورد فيه رواه ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يصلي الإِنسان إلى نائم أو متحدث" (¬1)، لكنه حديث باطل كما قاله ¬

_ (¬1) الأباطيل والمناكير للجوزقاني (2/ 40)، وقال: هذا حديث باطل، تفرد به أبان بن سفيان، وهو كذاب، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلَّا على سبيل الاعتبار، ورواه ابن حبان في المجروحين في ترجمة أبان بن سفيان المقدسي (1/ 99)، وقال: موضوع، وكيف ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى النائم، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل وعائشة معترضة بينه وبين القبلة، ولا يجوز الاحتجاج بهذا الشيخ ولا الرواية عنه إلَّا على سبيل الاعتبار للخواص. اهـ. ابن الجوزي في العلل (1/ 434)، وقال: لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرد به أبان وهو كذاب، والذهبي في مختصر العلل (ص 639)، وفي الميزان (1/ 7)، وابن طاهر في تذكرة الموضوعات (ص 69، 1070). اهـ. فائدة: قال ابن حجر في الفتح (1/ 587): قال البخاري في صحيحه، "باب الصلاة خلف النائم" أورد فيه حدث عائشة أيضًا من وجه آخر بلفظ =

الجوزقاني في موضوعاته. قال القاضي عياض (¬1): وإنما كرهه من كرهه تنزيهًا للصلاة لما يخرج منه وهو في قبلته، وحمل بعض العلماء هذا الحديث على جواز ذلك وخصوصيته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره لتنزهه عما يعرض لغيره في الصلاة من الفتنة بالمرأة واشتغال القلب بها والنظر إليها وتذكرها مع أن هذه الحالة كانت بالليل والبيوت ليس فيها مصابيح. الخامس: فيه أن المرأة لا تقطع الصلاة، وقد مرَّ الكلام على هذه المسألة في الحديث قبله، وقد يفرق في المعنى بين مرورها ونومها، فإن المرور قد يهوش القلب عن الصلاة أكثر من النوم في الظلمة وعدم الرؤية. السادس: فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة. السابع: فيه عدم كراهية أن تكون المرأة سترة للمصلي، وكرهه مالك، ونشره بعض العلماء الصلاة إلى الحيوان آدميًّا كان أو غيره، مع تجويز الصلاة إلى المضطجع، وكأنه محمول أو مقيد ¬

_ = آخر للإِشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظة، وكأنه أشار إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم، فقد أخرجه أبو داود عون (680)، من حديث ابن عباس، وابن ماجه أيضًا وقال أبو داود، طرقه كلها واهية، يعني حديث ابن عباس. انتهى. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي، وعن أبي هريرة، أخرجه الطبراني في الأوسط، وهما واهيان. (¬1) ذكره مختصرًا في إكمال إكمال المعلم (2/ 223).

بما إذا كان مستقبلًا للمصلي بوجهه أو ببعض بدنه، أما إذا كان مستدبرًا له فلا كراهة. الثامن: فيه اللطف بالأهل وعدم التشويش عليهم في نومهم ومضجعهم، وإن كان على الزوج كلفة في ذلك وهو في عبادة. التاسع: استدل به بعضهم على تحريم الصلاة على الحائض، لأنها لو كانت طاهرًا لقامت تصلي معه، ولا دلالة فيه لما ذكره.

21 - باب جامع

21 - باب جامع جرت عادة المصنفين فيمن جمع أحكامًا مختلفة التعبير بذلك، ذكر فيه -رحمه الله- تسعة أحاديث: الحديث الأول 112/ 1/ 21 - عن أبي قتادة ابن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في باب الاستطابة. ¬

_ (¬1) البخاري (444، 1163)، ومسلم (714)، ومالك (1/ 162)، وأبو داود (467، 468)، والترمذي (316)، والنسائي (2/ 53)، وابن ماجه (1013)، وأحمد (5/ 295، 296، 303، 305، 311)، وعبد الرزاق (1673)، والحميدي (421)، وابن أبي شيبة (1/ 339)، والدارمي (1/ 323، 324)، وابن حبان (2495، 2498، 2499)، وابن خزيمة (1825، 1826، 1827، 1829)، والبيهقي (3/ 53)، والبغوي (480)، وأبو عوانة (1/ 415، 416).

وقبل أن نخوض في هذا: إعلم أن المراد هنا بالمسجد الخاص لا العام: وأعني بالعام ما جاء في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، وهو واضح جلي. والمسجد هنا مفعول به لتعديه بنفسه إلى كل مكان مختص لا ظرف، ومنه قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ...} (¬1) الآية. [الثاني] (¬2): فيه التصريح بكراهة الجلوس بلا صلاة وهي كراهة تنزيه. [الثالث]: فيه استحباب التحية في أي وقت كان وهو مذهب جماعة، وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث ومالك في وقت النهي. وهما وجهان عند الشافعية. والأصح عندهم وجه ثالث: أنه يكره إن دخل ليصلي التحية فقط، وإن دخل لأمر آخر من اعتكاف وغيره فلا. وأما ما حكاه القاضي عياض (¬3): عن الشافعي من جواز صلاتها بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد الصبح ما لم يسفر، إذ هي عنده من النوافل التي لها سبب فغير معروف عن أصحابه هكذا، كما نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الفتح: آية 27. (¬2) في الأصل (الثالث)، والتصحيح من ن ب ... إلخ المسائل. (¬3) إكمال إكمال المعلم (2/ 362). (¬4) إحكام الأحكام (2/ 469).

واستدل من قال بالكراهة: بالنهي عن الصلاة في هذين الوقتين. وأجاب من قال بعدمها: بأن النهي إنما هو عما لا سبب لها، لأنه - عليه الصلاة والسلام - صلَّى بعد العصر ركعتين سنة الظهر، ولم يترك التحية في حال من الأحوال، بل أمر الداخل يوم الجمعة والإِمام يخطب بها مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتركت الآن، لأنه قعد وهي مشروعة قبل القعود وقطع - عليه الصلاة والسلام - خطبته، وكلمه، وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدة الاهتمام، بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام، ولا شك أن الكلام في هذه المسألة يبنى على مسألة أصولية وهي: ما إذا تعارض نصّان كل منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه وخاص من وجه، وهي من أشكل مسائل الأصول، وقد أسلفتها في باب المواقيت في الحديث العاشر منه وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف حتى يأتي ترجيح خارج بقرينة أو غيرها (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/ 537): واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، ونقل ابن بطال عن أهل الظاهر: الوجوب، والذي صرح به ابن حزم: عدمه، ومن أدلة عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي رآه يتخطى: "اجلس فقد آذيت"، ولم يأمره بصلاة، كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر، وقال الطحاوي أيضًا: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها، قلت: هما عمومان، تعارضا، الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، فلا بدَّ =

الوجه الأول: في هذا الحديث استحباب تحية المسجد بركعتين وهي سنة بإجماع المسلمين والجمهور على عدم وجوبها. وقال داود وأصحابه: بالوجوب، وظاهر مذهب مالك إنهما من النوافل. وقيل: من السنن، وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين السنن والنوافل والفضائل. وتمسك من قال: بالوجوب بالنهي عن الجلوس قبل الركوع، وظاهره التحريم: وبالرواية الواردة بصيغة الأمر بهما، وظاهره الوجوب ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى الدليل. وغيرهم: استدل على عدم الوجوب بقوله: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده"، وبقوله للسائل لما قال: هل عليَّ غيرها؟: "لا إلَّا أن تطَّوَّع". وحمل صيغة الأمر على الندب، نعم يشكل على ذلك إيجابهم الصلاة على الميت تمسكًا بصيغة الأمر. الرابع: إذا دخل المسجد بعد فعل ركعتي الفجر: هل يركع تحية المسجد؟ اختلف فيه قول مالك رحمه الله، فروى عنه أشهب: أنه يركع. ¬

_ = من تخصيص أحد العمومين، فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر، وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمع إلى عكسه، وهو قول الحنفية والمالكية.

وروى عنه ابن القاسم: أنه لا يركع. قال صاحب (البيان والتقريب): وهو البخاري على الفقه. قلت: وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه يركعهما، وهو قول الجمهور من أهل العلم. واستدل من منع ركوعهما: بحديث ضعيف وهو: "لا صلاة بعد الفجر إلَّا ركعتي الفجر" (¬1). الخاص: إذا دخل المسجد مجتازًا هل يركعهما؟ خفف في ذلك مالك. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (419)، وقال: حديث ابن عمر حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث قدامة بن مرسى، وروى عنه غير واحد، وهو ما اجتمع عليه أهل العلم، كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلَّا ركعتي الفجر، والدارقطني (161)، والبيهقي في السنن (2/ 465)، ومحمد بن نصر في قيام الليل (175)، وأبو داود (1233)، وفيه محمد بن الحصين وهو مجهول، لكن يشهد له حديث حفصة. أخرجه البخاري (618، 1172، 1180)، ومسلم (723)، والموطأ (1/ 127). وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه المروزي (175)، والدارقطني (161)، والبيهقي (2/ 465، 466)، ولفظ حديث حفصة من رواية أخيها عبد الله قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلَّا ركعتين خفيفتين". وقد ذكر ابن حجر في التلخيص والزيلعي في نصب الراية (1/ 256) بعض طرق أخرى له من غير طريق قدامة بن موسى، وقال الزيلعي: "وكل ذلك يعكر على الترمذي في قوله: لا نعرفه إلَّا من حديث قدامة".

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وعندي أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة، فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي فهو يتناول جلوسًا قبل الركوع، فإذا لم يحصل الجلوس أصلًا لم يفعل المنهي. وإن نظرنا إلى صيغة الأمر، فالأمر يوجد بركوع قبل جلوس، فإذا انتفيا معًا لم يخالف الأمر. قلت: ورواية أبي داود: "ثم ليقعد بعد إن [شاء] (¬2) [أو ليذهب] (¬3) لحاجته" (¬4)، دالة على استحبابها للمجتاز، لكن في إسنادها رجل مجهول. السادس: ركعتا التحية مشروعة لكل مسجد يدخله لتناول لفظ الحديث كل مسجد، وقد أخرجوا عنه المسجد الحرام وجعلوا تحيته الطواف للاتباع، نعم هو تحية للبيت لا المسجد فاعلمه، والداخل مسجد [] (¬5)، المدينة، وسّع مالك له أن يبدأ بالسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل التحية. وقال في "العتبية": يبدأ بالصلاة قبلها، واستحسنه ابن القاسم: فإن السلام لا يفوت بها، ولأن من جملة إكرامه - عليه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 473). (¬2) في ن ب د ساقطة. (¬3) في ن ب د (ويذهب). (¬4) أخرجه أبو داود (439). قال الألباني في الإِرواء بعد ذكرها: وإسناده صحيح (467). (¬5) في الأصل زيادة كلمة (بدر)، وليس لها هنا مناسبة.

الصلاة والسلام - امتثال أوامره، والتحية مما أمر بها. واعلم: أنه لا فرق في ذلك بين مسجد الجمعة وغيره، وإن كان الإِمام على المنبر خلافًا لمالك، فإنه [قال] (¬1): لا يصليها والحالة هذه. السابع: مصلى العيد لا تحية له على الأصح (¬2) وظاهر هذا الحديث يدل لمقابله، ووقع هنا في كلام الشيخ تقي الدين أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يصل العيد في المسجد، ولا نقل ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) قال ابن قاسم في حاشية الروض (2/ 514): قال أحمد: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها، وقال الزهري: لم أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحدًا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها، ولئلا يقتدي بالمتنقل قبلها أو بعدها، أو قاضي الفائتة، وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها، فإن خرج فصلى في منزله، أو عاد للمصلى فصلى فيه فلا بأس. لما روى أحمد وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع إلى منزله صلى ركعتين (أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن: وقد صححه الحاكم. اهـ. من فتح الباري (1/ 476): ويستوي في ذلك الإِمام والمأموم في مسجد أو صحراء. اهـ. فائدة: قال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى. اهـ، والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافًا لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق القتل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلَّا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام، والله أعلم. اهـ. من الفتح (1/ 436).

ذلك، وتابعه عليه بعضهم، وهو عجيب، ففي سنن أبي داود (¬1) وابن ماجه (¬2) أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى بهم في مسجد في يوم عيد لأجل [المطر] (¬3)، وقال الحاكم: حديث صحيح (¬4) الإِسناد. الثامن: تتكرر التحية بتكرر الدخول على قرب في الأصح (¬5). ¬

_ (¬1) أبو داود (1119). (¬2) ابن ماجه (1313). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) الحاكم (1/ 295)، وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي (3/ 310) والحديث ضعفه الذهبي في مختصر السنن الكبرى للبيهقي (3/ 282)، قال: عبيد الله ضعيف، وقال في ميزان الاعتدال (3/ 11) في ترجمته: "لا يكاد يعرف لا هو ولا أبوه، وقال في ترجمة الراوي عنه "عيسى بن عبد الأعلى في الميزان (3/ 315) بعد سياق الحديث: "وهذا حديث فرد منكر". وجزم ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 83)، وبلوغ المرام: "أن إسناده ضعيف"، وقال النووي في المجموع (5/ 5): إسناده جيّد. أقول: وإذا كانت الصلاة في المسجد لعذر المطر. فقد ورد من فعل عمر - رضي الله عنه - في سنن البيهقي (3/ 310)، وذكره الذهبي في المختصر ولم يعله بشيء (3/ 283). وأيضًا من فعل علي رضي الله عنه فقد صلَّى العيد بالمصلى، وأقام الصلاة بالمسجد الجامع للضعفة وغيرهم. (¬5) قال في الروض وحاشيته (2/ 235): قال في الفروع: وكذا يتوجه في تحية المسجد إن تكرر دخوله. اهـ. ومراده غير قيم المسجد، قال في تصحيح الفروع (1/ 503): وتشبه أيضًا إجابة المؤذن ثانيًا وثالثًا، إذا سمعه مرة بعد أخرى وكان مشروعًا، فإن صاحب القواعد الأصولية قاله تبعًا للمصنف، وظاهر كلام الأصحاب يستحب ذلك، واختاره الشيخ تقي الدين. وأما قيام المسجد فلا يكررها.

ومن قال لا يتكرر قاسه على من تكرر دخوله إلى مكة من حطاب وصياد وفكاه بغير إحرام، ويشبه من دخل المسجد يوم الجمعة وقد اغتسل لها ثم خرج لحاجة، وقد قال مالك: إن كان قريبًا لم يعد غسله وإن تطاول أعاد، وهذا القياس السالف يبنى على جواز القياس على المختلف فيه، وقد منعه بعضهم، وجوّزه بعضهم، وحينئذٍ يرجع ذلك إلى تخصيص العموم بالقياس، وللأصوليين فيه أقوال متعددة (¬1). التاسع: في ظاهر الحديث دليل على أنه لا تحصل التحية إلَّا ¬

_ (¬1) وهو اختيار النووي كما في المجموع (4/ 52)، ولو صلى على جنازة أو سجد لتلاوة أو شكر أو صلَّى ركعة واحدة لم تحصل التحية لصريح الحديث الصحيح. قال ابن قدامة في المغني (2/ 538): ولا يصح التطوع بركعة ولا بثلاث، وهذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي: لو صلى ستًّا في ليل أو نهار كره وصح؛ وقال أبو الخطاب: في صحة التطوع بركعة روايتان: إحداهما يجوز لما روى سجد (أي ابن منصور)، قال: حدثنا جرير عن قابوس، عن أبيه، قال: دخل عمر المسجد فصلى ركعة، ثم خرج فتبعه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة، قال هو تطوع، فمن شاء زاد ومن شاء نقص. ولنا أن هذا خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى"، ولأنه لم يرد الشرع بمثله، والأحكام إنما تتلقى من الشارع، إما من نصه، أو معنى نصه: وليس ها هنا شيء من ذلك. قال ابن حجر في الفتح (1/ 537): على قوله: "ركعتين" هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين.

يفعل ركعتين، ولا يشترط أن ينوي بهما التحية، بل يحصل بفرض أو نفل آخر سواءُ كان راتبًا أو مطلقًا لا ركعة على الصحيح، وكذا لا تحصل بالجنازة وسجدة التلاوة والشكر للنص على صلاة ركعتين، وليس ذلك في معناهما إلَّا أن يكون المفهوم من الحديث شغل المسجد بعبادة مطلقة عند الدخول تعظيمًا له، لكن تعظيمه بركعتين أبلغ في إكرامه واحترامه من ركعة أو سجدة أو قيام، كيف والمعتبر في العبادات التوقيف، ولم يرد ما يدل على خلافه. فرع: لو نوى بصلاته التحية والمكتوبة حصلتا له، لأنه ليس في نيته وفعله ما ينافي المأمور. العاشر: الخطيب هل يستحب له التحية عند صعوده المنبر؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما لا، وعليه العمل. الحادي عشر: تكره التحية إذا دخل والإِمام في مكتوبة أو الصلاة تقام أو قربت إقامتها (¬1). الثاني عشر: لو صلى أكثر من ركعتين بتسليمة واحدة هل تحصل التحية، نقل النووي في (شرح (¬2) [مسلم] (¬3)) عن الأصحاب: نعم. الثالث عشر: الظاهر أنه لو أحرم بها قائمًا ثم قعد وأتمها، جاز وتكون المراد بالصلاة في الحديث: التحرم بها. ¬

_ (¬1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبة". (¬2) شرح مسلم (5/ 226). (¬3) في ن ب د (المهذب).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 113/ 2/ 21 - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه هو أنصاري خزرجي، في كنيته أقوال أشهرها: أبو عمرو، نزل الكوفة وابتنى بها دارًا، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعون حديثًا، اتفقا على أربعة، وانفرد [البخاري] (¬2) بحدثين [ومسلم] (¬3) بستة. روى عنه أنس وجماعة كثيرة من كبار التابعين، مات بالكوفة سنة ثمان وستين. ¬

_ (¬1) البخاري (1200، 4534)، ومسلم (539)، وأبو داود (949)، والترمذي (405، 2986)، والنسائي (3/ 18)، والبغوي (722)، والبيهقي (2/ 248)، وابن خزيمة (856)، وابن حبان (2245، 2246، 2250)، وأحمد (4/ 368)، والطبراني (5063، 5064)، والطبري في تفسيره (5524). (¬2) في ن ب د (خ. م). (¬3) في ن ب د (خ. م).

الثاني: قوله: "كنا نتكلم في الصلاة" هذا حكمه حكم المرفوع، ولا يجيء فيه التفصيل بين الإِضافة إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم - وبين عدمها، لأنه ذكر نزول الآية {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} ومعلوم أنها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أمروا ونهوا عن الكلام لبعضهم بعضًا، وكان ذلك ناسخًا. الثالث: هذا اللفظ أحد ما [يستدل] (¬1) به على الناسخ والمنسوخ، وهو ذكر الراوي. تَقَدُمِ أحدِ الحكمين على الآخر. قال الشيخ تقي الدين (¬2): وليس كقوله هذا منسوخ من غير بيان التاريخ، فإن ذلك قد ذكروا أنه لا يكون دليلًا لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهادي منه. الرابع: في هذا الحديث دلالة على أن تحريم الكلام كان بالمدينة بعد الهجرة (¬3)، فإن زيدًا مدني وأخبر أنهم كانوا يتكلمون ¬

_ (¬1) في الأصل (يدل)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) إحكام الأحكام (2/ 477). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (3/ 74): ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية "أي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة، لأن الآية مدنية باتفاق، فَيُشْكِلُ ذلك على قول ابن مسعود. إن ذلك وقع لما رجعوا من عبد النجاشي. وكان رجوعهم من عنده إلى مكة، وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضًا. فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى. وكان ابن مسعود مع الفريقين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = واختلف في مراده بقوله: "فلما رجعنا" مثل أراد الرجوع الأول أو الثاني. فجنح القاضي أبو الطيب الطبري وآخرون إلى الأول رقالوا: كان تحريم الكلام بمكة. وحملوا حديث زيد على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقالوا: لا مانع من أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه. قال ابن عبد البر في الاستذكار (2/ 223 - 229) بعد كلام سبق: فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج بحديث ابن مسعود في تحريم الكلام في الصلاة بمكة وزيد بن أرقم رجل من الأنصار يقول: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} قال أبو عمر: زيد بن أرقم أنصاري، وسورة البقرة مدنية. اهـ. وجنح آخرون إلى الترجيح فقالوا: يرجح حديث ابن مسعود بأنه حكى لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه. وقال آخرون: إنما اراد ابن مسعود رجوعه الثاني. وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى بدر. وفي "مستدرك الحاكم" من طريق أبي إسحاق: عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي ثمانين رجلًا. فذكر الحديث بطوله. وفي آخره فتعجَّل عبد الله بن مسعود فشهد بدرًا، وفي "السير" لابن إسحاق إن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلًا، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون. فشهدوا بدرًا، فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطابي، ويُقوي هذا الجمع رواية كلثوم (عند النسائي 3/ 18)، فإنها ظاهرة في أن كلًّا من بن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}، وأما قول ابن حبان (6/ 26): كان نسخ الكلام بمكة قيل الهجرة بثلاث سنين. قال: =

خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن نهوا، وصح من حديث ابن مسعود: كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كنا بمكة قيل أن نأتي [من] (¬1) أرض الحبشة، فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه، فسلمنا عليه فلم يرد فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة، فسألته فقال: "إن الله يحدث من أمره ما شاء، وأنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة" (¬2). ¬

_ = ومعنى قول زيد بن أرقم: "كنا نتكلم" أي: كان قومي يتكلمون، لأن قومه كانوا يُصَلون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير الذي كان يعلمهم القرآن. فلما نسخ تحريم الكلام بمكة. بلغ ذلك أهل المدينة فتركوه، فهو متعقب بأن الآية مدنية باتفاق. وبأن إسلام الأنصار وتوجه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة. وبأن حديث زيد بن أرقم: "كنا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، كذا أخرجه الترمذي. فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم. وأجاب ابن حبان في موضع آخر بأن زيد بن أرقم أراد بقوله: "كنا نتكلم" من كان يصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة من المسلمين، وهو متعقب أيضًا بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلَّا نادرًا. وبما روى الطبراني (7850) من حديث أبي أمامة قال: كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه فيخبره بما فاته فيقضي، ثم يدخل معهم، حتى جاء معاذ يومًا فدخل في الصلاة، فذكر الحديث. وهذا كان بالمدينة قطعًا لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بها. قلت: في سنده عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد وهما ضعيفان. انظر: ابن حبان (6/ 20)، ونيل الأوطار (2/ 361، 363)، والاعتبار (242، 149)، والجوهر النقي (2/ 360). (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬2) البخاري (1199، 1216، 3875)، للبخاري معلقًا، وفي الصحيح =

الخامس: قوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} (¬1). قيل: معناه مطيعين. وقيل: ساكتين، حكاهما النووي (¬2) في (شرحه) من غير زيادة على ذلك. ونقل غيره عن المفسرين أنهم رجحوا الأول، ومنه قوله -تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} (¬3) أي مطيعًا وفي صحيح ابن حبان (¬4) من حديث أبي سعيد [الخدري] (¬5) رفعه: "كل حرف ¬

_ = (13/ 496)، ومسلم (538)، وأبو داود (923)، والنسائي (3/ 19) وابن خزيمة (855، 858)، والبغوي (724)، والدارقطني (1/ 341)، والبيهقي (2/ 248، 356)، وأحمد (1/ 376، 377، 409، 415، 435، 463)، والطيالسي (245)، والطبراني (من: (10120) إلى (10131)، 10545))، وابن حبان (2243، 2244)، والشافعي (1/ 119)، وابن أبي شيبة (2/ 73)، والحميدي (94)، وعبد الرزاق (3594)، انظر: ح (96) ت (3). (¬1) سورة البقرة: آية 238. (¬2) شرح مسلم (5/ 27). (¬3) سورة النحل: آية 120. (¬4) ابن حبان (309)، وأحمد (3/ 75)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 325)، وقال ابن كثير في تفسيره للبقرة (116): في هذا الإِسناد ضعف لا يعتمد عليه، رفع هذا الحديث منكر. وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه، والله أعلم. الهيثمي في المجمع (6/ 320). (¬5) في ن ب د ساقطة.

[في القرآن] (¬1) يذكر فيه القنوت فهو الطاعة". [وقيل: إن المراد به فيها الدعاء حتى جعل ذلك دليلًا على أن الصلاة الوسطى الصبح من حيث قراءتها بالقنوت. وقيل: القنوت الصلاة أي مصلين. ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} (¬2) أي مصل] (¬3). وقال القرطبي (¬4): القنوت ينصرف في الشرع واللغة على أنحاء مختلفة بمعنى الطاعة، والسكوت، وطول القيام، [والخشوع] (¬5) والدعاء، والإِقرار بالعبودية، والإِخلاص. وقيل: أصله الدوام على الشيء (¬6)، ومنه الحديث "قنت ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) سورة الزمر: آية 9. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) المفهم (2/ 951). (¬5) في ن د زيادة بالهامش (الخضوع). (¬6) قال الطبري في تفسيره (5/ 236): على قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}، القنوت ها هنا قيل معناه: الطاعة، وقيل: السكوت. وفي: الركود والخشوع فيها. وقيل: الدعاء. ورجح الإِمام الطبري قول من قال: إنه الطاعة. فقال: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} قول من قال: تأويله "مطيعين"، وذلك أن أصل "القنوت"، الطاعة، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهاه الله عنه من الكلام فيها. ولذلك وجَّه من وجَّه تأويل "القنوت"، في هذا الموضع إلى السكوت في الصلاة. أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها، إلَّا =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو شهرًا على قبائل من العرب" (¬1) أي أدام الدعاء والقيام له قال: واللائق بالآية من هذه المعاني: السكوت والخشوع. قال الشيخ تقي الدين (¬2): وفي كلام بعضهم ما يفهم منه أنه موضوع للمشترك. ¬

_ = عن قراءةً القرآن أو ذكر بما هو أهله. ثم قال: وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع وخفض الجناح وإطالة القيام وبالدعاء لأن كل ذلك غير خارج من أحد معنيين، من أن يكون مما أمِرَ به المصلي. أو مما ندب إليه. والعبد بكل ذلك لله مطيع، وهو لربه فيه قانت، و"القنوت" أصله الطاعة لله، ثم يستعمل في ما أطاع اللهَ به العبدُ. فتأويل الآية إذًا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله فيها مطيعين بترك بعضكم فيها كلام بعض وكثير ذلك من معاني الكلام، سوى قراءة القرآن فيها أو ذكر الله بالذي هو أهله، أو دعائه فيها غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله. (¬1) لفظ في الحديث (أحياء)، بدل من (قبائل). البخاري (1001، 1002، 1300، 2801، 2814، 3064، 3170، 4088، 4089، 4090، 4091، 4092، 4094، 4095، 4096، 6394، 7341)، ومسلم (677)، والنسائي (2/ 200)، وأبو عوانة (2/ 185، 186)، والدارمي (1/ 374)، والبغوي (635)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 243، 244)، والبيهقي في السنن (2/ 199، 244)، وأحمد (3/ 167، 210، 215، 289). (¬2) إحكام الأحكام (2/ 478).

وقال القاضي (¬1): أصله الدوام على الشيء فمديم الطاعة قانت، وكذلك الداعي والقارئ والساكت فيها. قال الشيخ: ولفظ الراوي يشعر بأن المراد بالقنوت في الآية السكوت أي عن الكلام المذكور لا مطلقًا، فإن الصلاة ليس فيها حالة سكوت حقيقة قال: وهذا هو الأرجح لما دل عليه لفظة حتى التي للغاية والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها. السادس: كلام الصحابي في التفسير لا ينزل منزلة المرفوع بل يكون [موقوفًا] (¬2) عليه، فإن كان كلامه يتعلق بسبب نزول آية أو تعليل ونحوهما فهو منزل منزلة المسند المرفوع، وبهذا يقوي ما رجحه الشيخ تقي الدين، من أن المراد بالقنوت في الآية السكوت. السابع: قوله: "فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام"، هذا حكمه حكم المرفوع، ولا يجيء فيه الخلاف الشهير عند أهل هذا الفن في ذلك بدليل مشاهدة الراوي لنزول الآية وجعله غاية لترك الكلام. الثامن: فيه دلالة على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين في الصلاة وأجمع العلماء على أن الكلام فيها عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه مبطل لها، وأما الكلام لمصلحتها فقال الأربعة والجمهور تبطل الصلاة، وجوزه الأوزاعي وبعض ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (2/ 242). (¬2) في الأصل (مرفوعًا)، وما أثبت من ن ب د.

أصحاب مالك وطائفة قليلة، وكلام الناسي لا يبطلها عند الشافعي والجمهور ما لم يطل، وقال الكوفيون وأبو حنيفة: تبطل. التاسع: الأمر بالسكوت يقتضي أن كل ما يسمى كلامًا فهو منهي عنه، وما لا يسمى كلامًا فدلالة الحديث قاصرة عن النهي عنه. وقد اختلف [العلماء] (¬1) في أشياء: هل تبطل الصلاة أم لا؟ كالنفخ والتنحنح لغير علة وحاجة وكالبكاء والذي يقتضيه القياس أن ما يسمى كلامًا فهو داخل تحت اللفظ وما لا يسمى كلامًا فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل، واعتبر أصحابنا ظهور حرفين وإن لم يكونا مفهمين، فإن أقل الكلام حرفان. قال الشيخ تقي الدين: ولقائل أن يقول: ليس بلازم من كون الحرفين يتألف منهما كلام أن يكون كل حرفين كلامًا، وإن لم يكن كذلك فالإِبطال به لا يكون بالنص بل بالقياس، فليراع شرطه، اللهم إلَّا أن يريد بالكلام: كل مركب: مفهمًا كان أو غير مفهم، فحينئذٍ يندرج المنازع فيه تحت اللفظ إلَّا أن فيه بحثًا. قال: والأقرب أن ننظر إلى مواقع الإِجماع والخلاف حيث لا يسمى الملفوظ به كلامًا فما أجمع على إلحاقه بالكلام ألحقنا به وما لم يجمع عليه مع كونه لا يسمى كلامًا [فيقوي] (¬2) فيه عدم الإِبطال، ومن هذا استضعف القول بإلحاق النفخ بالكلام، قال: ومن ضعف التعليل فيه قول من ¬

_ (¬1) في ن دب (الفقهاء). (¬2) في ن د (فنقوي).

علل البطلان بأنه يشبه الكلام وهذا ركيك مع ثبوت السنة الصحيحة أنه - عليه الصلاة والسلام - نفخ في صلاة الكسوف في سجوده. قلت: نفخته في "الكسوف" أخرجه أبو داود والنسائي (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو، وهو [من] (¬2) رواية عطاء بن السائب، وهو من الثقات، لكنه اختلط بآخره، نعم راوي هذا الحديث رواه عنه قبل اختلاطه، وهو شعبة رحمة الله عليه. العاشر: ادعى بعضهم أن في [هذا] (¬3) الحديث حجة لمن يقول: إن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده إذ لو كان نهيًا عن ضده، لما احتاج إلى قوله: "ونهينا عن الكلام" بعد ذكر الأمر بالسكوت. وليس ذلك بظاهر لمن تأمله. ¬

_ (¬1) ابن خزيمة (1389، 1392، 1393)، وأبو داود (1151)، والنسائي (3/ 137، 139)، وأحمد (2/ 159)، وانظر: المسند لأحمد شاكر (9/ 198)، والحاكم (1/ 329)، وقال: غريب صحيح. ووافقه الذهبي، وابن حبان (2838)، والترمذي في الشمائل (2/ 146، 149) من شرح على القاري. (¬2) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬3) ساقطة من الأصل، وما أثبت من ن ب د.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 14/ 3/ 21 - عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] (¬1) قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا [عن] (¬2) الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم" (¬3). الكلام عليه من وجوه: والتعريف بحال ابن عمر تقدم في باب الاستطابة وبحال أبي هريرة تقدم في الطهارة. الأول: لو ذكر المصنف هذا الحديث والذي بعده في باب ¬

_ (¬1) في ن د ساقطة. (¬2) في الأصل (بالصلاة)، وما أثبت من ن ب د، وعليه شرح المصنف. (¬3) البخاري (533، 534، 536)، ومسلم (615)، وأبو داود (402)، والترمذي (157)، والنسائي (1/ 248، 249)، وابن ماجه (678)، والدارمي (1/ 274)، والشافعي (1/ 49)، والطيالسي (2302، 2352)، والحميدي (942)، ومالك (1/ 16)، والبغوي (362، 364)، وابن الجارود (156)، وابن خزيمة (329)، وأحمد (2/ 229، 256، 285، 266، 348، 393، 394،462، 501، 507)، وابن أبي شيبة (1/ 324، 325)، والمصنف (2049).

المواقيت لكانت مناسبته ظاهرة. الثاني: اشتداد الحر، قوته وسطوعه وانتشاره وغليانه. الثالث: معنى "أبردوا" أخروا الصلاة إلى البرد، واطلبوه لها، وسيأتي ضابطه. الرابع: قوله: "عن الصلاة" أي بالصلاة، كما جاء في الرواية الأخرى و"عن" تأتي بمعنى "الباء". قالوا: رميت عن القوس وبالقوس، كما تأتي "الباء" بمعنى "عن" في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} (¬1) أي عنه، ومنع بعض أئمة اللغة: رميت بالقوس. ونقل جوازه جماعة كما أوضحته في (التذهيب الذي ذيلته على التحرير) للنووي -رحمه الله-. وقد تكون "عن" زائدة أي أبردوا الصلاة، يقال: أبرد فلان كذا إذا فعله في برد النهار. ويروى: "أبردوا عن الحر في الصلاة" أي أبعدوا بها عن الحر. الخامس: "فيح" بفتح الفاء وإسكان الياء المثناة تحت وبالحاء المهملة وروى "فوح" بالواو بدل الياء. ذكره ابن الأثير في (نهايته) (¬2)، ومعناه: أن شدة الحر وغليانه يشبه نار جهنم فاحذروه واجتنبوا ضرره. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: آية 59. (¬2) (3/ 477).

قال الجوهري (¬1): يقال: فاح الطيب إذا يفوح، ولا يقال فاحت ريح خبيثة، كذا قال، وليتأمل هذا الحديث مع كلامه هذا. السادس: قال الأزهري: "الحر" و"الحرور" وهي الحر بالليل والنهار، وأما السموم: فلا يكون إلَّا بالنهار. قال القاضي عياض في "إكماله" (¬2): ويحتمل أن يكون "الحرور" أشد من "الحر"، كما أن "الزمهرير" أشد من "البرد". السابع: الذي يقتضيه مذهب أهل السنة وظاهر الحديث أن شدة الحر من فيح جهنم حقيقة لا استعارة وتشبيهًا وتقريبًا، فإنها مخلوقة موجودة، وقد ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف" (¬3) الحديث بطوله. فائدة: جهنم مأخوذة من قول العرب بئر [جهنام] (¬4) إذا كانت بعيدة القعر، وهذا الاسم أصله الطبقة العليا [و] (¬5) تستعمل في غيرها. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (217). (¬2) ذكره بمعناه في إكمال إكمال المعلم (2/ 305). (¬3) البخاري (527، 3260)، ومسلم (617)، والترمذي (2592)، وابن ماجه (4319)، والدارمي (2/ 340)، والبغوي (361)، ومالك (1/ 16)، والبيهقي (1/ 437)، وفي البعث (173، 502)، وأحمد (2/ 238، 462، 277، 503)، وهناد في الزهد (240)، وابن أبي شيبة (13/ 158)، وابن حبان (7466). (¬4) في ن ب د (جهنا). (¬5) في ن ب (أو).

الثامن: "الإِبراد" إنما يشرع في الظهر بشروط مذكورة في كتب الفقهاء بسطتها في (شرح المنهاج) وغيره، وظاهر الحديث منها اشتراط شدة الحر فقط. وقال أشهب المالكي: يشرع في العصر أيضًا، وخالف جميع العلماء ففي صحيح البخاري (¬1) من حديث أبي سعيد: "أبردوا بالظهر" وقال أحمد: يؤخر العشاء أيضًا في الصيف دون الشتاء، وعكس [[ابن] (¬2) حبيب لقصر الليل في الصيف وطوله في الشتاء] (¬3). وقلت: ومفهوم الحديث عدم الإِبراد في الشتاء والأيام غير الشديدة الحر مطلقًا، وخالف في ذلك مالك كما سيأتي. التاسع: اختلف في مقدار وقته فنقل الشيخ تقي الدين (¬4): عن بعض مصنفي الشافعية أن الإِبراد. أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت مقدار ما يظهر للحيطان ظل، ولا يحتاج إلى المشي في الشمس. ونقل عن المالكية: أنه يؤخر الظهر في الحر إلى أن يصير الفيء أكثر من ذراع (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري (538، 3259). (¬2) الكلمة في الأصل غير واضحة، ولعلها تكون كذلك. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) إحكام الأحكام (2/ 482). (¬5) قال ابن حجر في الفتح (2/ 20): وقد اختلف العلماء. في غاية الإِبراد، فقيل: حتى يصير الظل ذراعًا بعد ظل الزوال، ويل: ربع قامة، وقيل: =

قلت: ونقل [القاضي] (¬1) أن ظاهر قول مالك أو نصه أن الإِبراد تأخير الظهر إلى أن يكون الفيء ذراعًا، وسوّى في ذلك بين الصيف والشتاء فقال: أحب [إليَّ] (¬2) أن يصلي الظهر في الصيف والشتاء والفيء ذراع قال: وما عزاه الشيخ تقي الدين للمالكية مخالف لقول مالك في شيئين: الأكثرية، وتخصيص الحر دون الشتاء فلينظر ذلك. وقال ابن الرفعة: ظاهر النص أن المعتبر أن ينصرف منها قبل آخر الوقت. قلت: ويؤيده حديث أبي ذر أن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يؤذن وكان في سفر، فقال له: "أبرد قال: حتى ساوى الظل التلول" رواه البخاري (¬3)، وحكى الزناتي المالكي أنه: هل ينتهي إلى نصف القامة أو إلى ثلثيها أو إلى ثلاثة أرباعها أو إلى مقدار أربع ركعات فيه أربعة أقوال. ¬

_ = ثلثها، وقيل: نصفها، وقيل: غير ذلك، ونزلها المازري، على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتد إلى آخر الوقت. (¬1) في ن ب (الفاكهي). (¬2) زيادة من ن د ب. (¬3) البخاري (535، 539، 629، 3258)، ومسلم (616)، والترمذي (158)، وأبو داود (401)، وابن خزيمة (328)، والطيالسي (445)، وأحمد (5/ 155، 162، 176)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 186)، والبغوي (363).

قال [المازري] (¬1): والأقوال منزَّلة على أحوال: فقد يشتد الحر ولا يمتد وقد يمتد مع ذلك، وقد يشتمل المكان على برودة ينكسر فيه الحر. فإطلاق الأقوال مع اختلاف الأحوال خطأ. العاشر: اختلف الفقهاء في الإِبراد [في] (¬2) الصلاة، فمنهم من لم يره وتأول قوله عليه الصلاة والسلام: "أبردوا بالصلاة" (¬3) بمعنى: أوقعوها في برد الوقت، وهو أوله، وبرد النهار أوله، وبرداه طرفاه، وهما برداه: والجمهور على القول به ثم اختلفوا. فقيل: إنه عزيمة. وقيل: رخصة. ¬

_ (¬1) في الأصل (الماوردي)، والتصحيح من ن ب د، ومن فتح الباري (2/ 20). (¬2) في الأصل (هو)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) قال ابن القاسم في حاشية الروض (1/ 469): واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله أمر بالإِبراد، فمنهم من قال: هو حصول الخشوع فيها، فلا فرق بين من يصلي وحده وفي جماعة، ومنهم من قال خشية المشقة على من بعد عن المسجد بمشيه في الحر، فيختص بالصلاة في مساجد الجماعات، التي تقصد من الأمكنة المتباعدة، ومنهم من قال: هو نفس توهج النار فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة. قال ابن رجب: هو المقدم، وثبت من حديث أبي ذر البخاري (539): الإِبراد، وكانوا مجتمعين. قال الحافظ: والحكمة دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع، أو كونها الحالة التي ينشر فيها العذاب، فإنها تسجر فيها جهنم.

والقائلون بأنه عزيمة: اختلفوا فمنهم من قال: إنه سنة. ومنهم من قال: إنه واجب. حكاه القاضي. وينبني على ذلك أن من صلى في بيته أو مشى في كن إلى المسجد، هل يسن له الإِبراد؟ إن قلنا: رخصة لم يسن له، إذ لا مشقة عليه في التعجيل. وإن قلنا: سنة أبرد وهو الأقرب لورود الأمر به مع ما اقترن به من العلة من أن شدة الحر من فيح جهنم، وذلك مناسب للتأخير والأحاديث الدالة على التعجيل، وفضيلته عامة أو مطلقة وهذا خاص فلا مبالاة مع صيغة الأمر ومناسبة العلة بقول من قال: التعجيل أفضل لأنه أكثر مشقة، فإن مراتب الثواب إنما يرجع فيها إلى النصوص، وقد ترجح بعض العبادات الخفيفة على ما هو أشق منها بحسب المصالح المتعلقة بها. قلت: والأصح عندنا أن الإِبراد سنة. نعم نص في البويطي على أنه رخصة [وصحح] (¬1) الشيخ أبو علي كما نقله عنه ابن الصلاح في (مشكله)، وأما النووي فوصفه في (روضته) (¬2) بالشذوذ، لكنه لم يحكه قولًا، ويؤيده حديث خباب الآتي (¬3). الحادى عشر: اختلف أصحابنا في الإِبراد [بالجمعة] (¬4) على وجهين: ¬

_ (¬1) في ن ب د (وصححه). (¬2) روضة الطالبين (1/ 184). (¬3) فتح الباري (2/ 16). سيأتي تخريجه. (¬4) في ن ب (الجملة).

أصحهما: عند جمهورهم لا يشرع، وهو مشهور مذهب مالك أيضًا فإن التبكير سنة فيها. وقال بعضهم: يشرع لأن لفظة الصلاة في الحديث تطلق على الظهر والجمعة [والتعجيل] (¬1) مستمر فيها، وصححه العجلي. والجواب عن تعليل الجمهور: بأنه قد يحصل التأذي بحر المسجد عند انتظار الإِمام لكن قد ثبت في الصحيح (¬2) أنهم "كانوا يرجعون من صلاة الجمعة وليس للحيطان فيء يستظلون به" من شدة التبكير بها أول الوقت [فدل] (¬3) على عدم الإِبراد بهذا. الثاني عشر: عورض هذا الحديث بحديث خباب في صحيح مسلم "شكونا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء فلم يشكنا" (¬4) والجواب عنه من أوجه: ¬

_ (¬1) في التعجيل وفي ن ب د (التعليل). (¬2) فتح الباري (2/ 389)، والبخاري (4168)، باب: في غزوة الحديبية، ومسلم (860)، وأبو داود (1085) في الصلاة، والنسائي (3/ 100)، وابن ماجه (1100)، وابن خزيمة (1839)، والدارقطني (2/ 18)، وأحمد (4/ 46)، والدارمي (1/ 363)، والسنن للبيهقي (3/ 191). (¬3) في الأصل (قدم)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) مسلم (619)، والنسائي (1/ 247)، والحميدي (152، 153)، والطيالسي (1052)، وأحمد (5/ 108، 110)، والبيهقي في السنن (1/ 438، 439)، والبغوي (358)، وعبد الرزاق (2055)، وابن أبي شيبة (1/ 323، 324).

أحدها: نسخه لأنهم لما شكوا ذلك كانوا بمكة وحديث الإِبراد بالمدينة فإنه من رواية أبي هريرة. ثانيها: أن يجمع بينهما فيحمل حديث خباب على الأفضل وحديث الإِبراد على الرخصة والتخفيف في التأخير. ثالثها: أن يجمع بينهما أيضًا بأن الإِبراد سنة للأمر به والتعليل ويحمل حديث خباب أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإِبراد الذي ذكرناه أولًا، وفي هذا نظر، كما أسلفته في الكلام على الحديث الثالث من باب المواقيت فراجعه منه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 115/ 4/ 21 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلَّا ذلك. أقم الصلاة لذكري" (¬1). ولمسلم: "من نسي [صلاة] (¬2) أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (¬3). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف [في] (¬4) باب الاستطابة. ¬

_ (¬1) البخاري (597)، ومسلم (684)، والترمذي (178)، والنسائي (1/ 293، 294)، وابن ماجه (965، 696)، وأبو داود (442)، والبغوي في شرح السنة: (393، 394)، والدارمي (1/ 280)، وابن خزيمة (991، 992، 993)، وأبو عوانة (1/ 385، 2/ 252، 260)، والبيهقي في السنن (2/ 218، 456)، والطحاوي في المشكل (1/ 187)، وفي المعاني (1/ 466)، وابن حبان (1555، 1556)، وأحمد (3/ 100، 243، 267، 269)، وابن أبي شيبة (2/ 63، 64). (¬2) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬3) مسلم (684)، (316). (¬4) في ن ب (من).

الأول: معنى الحديث أنه يلزمه الصلاة إذا خرجت عن الوقت بنوم أو نسيان وتكون قضاء، وهذا لا خلاف فيه، كثرت الصلوات أو قلت: قال القرطبي (¬1) في "شرحه": وشذ بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء، وهو خلاف لا يعبأ به، لأنه مخالف لنص الحديث. قلت: ووجهت هذه المقالة على غلطها بأن القضاء يسقط [لمشقة] (¬2) التكرار: كالحائض، والخمس لا مشقة عليها في قضائها بخلاف ما زاد، ويلزم على هذا أن تقضي الحائض الخمس لانتفاء المشقة، ولا قائل به، ولا يحسن إلحاق الناسي بها، [لأنه] (¬3) لا تفريط من جهتها بخلافه، فإنه يمكنه التحفظ والاهتمام فمعه ضرب تقصير. الثاني: معنى: "لا كفارة لها إلَّا ذلك" يعني أنه لا كفارة لها غير فعلها وقت ذكرها، ولا يلزمه شيء آخر مع فعلها من عتق: أو صدقة، أو صيام: كغيرها مما يدخله الكفارة مع وجوب قضائه. ويحتمل أن مراده أنه لا بدل لقضائها، كما يقع الإِبدال في بعض الكفارات، وأنه لا يكفي مجرد التوبة، بل لا بد من الإِتيان بها، وذلك مردود بأنها كانت صبح اليوم. وأبو حنيفة يجيزها في هذا ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 1171). (¬2) في ن ب د (بمشقة). (¬3) في ن ب (بأنه).

الوقت، كذا ذكره الشيخ تقي الدين (¬1)، وفيه شيء سيأتي في الوجه السادس [وفي] (¬2) الحديث (¬3): "فما أيقظهم إلَّا حر الشمس" وذلك يكون بالارتفاع، وقد يعتقد أن المانع من فعلها على الفور كون الوادي به شيطان، كما دل عليه الحديث (¬4) فأخر ذلك بالخروج عنه ولا شك أن هذا علة للتأخير والخروج كما دل عليه الحديث، ولكن هل يكون ذلك مانعًا على تقدير أن يكون الواجب المبادرة؟ في هذا نظر كما قاله الشيخ تقي الدين فلا يمتنع أن يكون مانعًا على تقدير جواز التأخير. وأجاب صاحب القبس (¬5): عن حديث الوادي بأجوبة: منه: أن التأخير كان لانتظار الوحي كيف يكون العمل في القضاء. ومنها: أن ذلك كان [تحرزًا] (¬6) عن [العدو] (¬7) واستشرافه. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 488). (¬2) في ن ب د زيادة (وبأن في). (¬3) البخاري (344، 348، 3571)، ومسلم (682). (¬4) مسلم (680)، النسائي في المواقيت، باب: كيف يقضي الفائت من الصلاة (1/ 298)، ومسلم (684). (¬5) القبس (1/ 101)، وبقي وجهين لم يذكرهما، كراهية للبقعة التي وقعت فيها الآفة الخامس، قال أصحاب أبي حنيفة حتى يزول وقت النهي عن الصلاة ... إلخ مع اختلاف يسير فيما نقله عنه. (¬6) في الأصل بياض، وما أثبت من ن ب د. (¬7) في ن ب د (العذر).

ومنها: أنه [ليعم] (¬1) الاستيقاظ والنشاط جميع الناس (¬2). وأجاب القاضي عياض (¬3): بأنه منسوخ بهذا الحديث قال: واعترض أن الآية مكية يعني قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} وهذه القصة كانت بعد الهجرة بأعوام، فلا يصح النسخ قيل ورود الأمر به. وأما الحديث: فهو مستند للآية ومأخوذ منها، وأيضًا: فإن النسخ يحتاج إلى توقيف أو إلى عدم الجمع. الثالث: الأمر بقضائها يقتضي فعلها عند ذكرها، فتصير طرفًا لمأمور به، فيتعلق الأمر بالفعل فيه، ولا شك أنه كذلك: إما على الوجوب في حق من تركها عامدًا، فإنه يجب على الفور أو على الاستحباب في حق النائم والساهي، ولا يجب، وهذا التفصيل هو الصحيح عند الشافعية. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (ليعلم)، وما أثبت من القبس. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/ 450): اعتدل به على جواز تأخير الفائتة عن وقت ذكرها إذا لم يكن عن تغافل أو استهانة. وقد بين مسلم من رواية أبي حازم عن أبي هريرة السبب في الأمر بالارتحال من ذلك الموضع الذي ناموا فيه ولفظه: "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان"، ولأبي داود من حديث ابن مسعود: "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة"، وفيه رد على من زعم أن العلة فيه كون ذلك كان وقت الكراهة، بل في حديث الباب أنهم لم يستيقظوا حتى وجدوا حر الشمس، ولمسلم من حديث أبي هريرة: "حتى ضربتهم الشمس" وذلك لا يكون حتى يذهب وقت الكراهة. (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 339).

وفي وجه: [أنه] (¬1) يجب القضاء على الفور [مطلقا] (¬2). واستدل بعض العلماء على عدم وجوب القضاء على الفور بعذر النسيان والنوم، بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يقض صلاة الصبح حتى خرجوا من الوادي، لكنه يتوقف ذلك على أنه لا يكون ثم مانع من المبادرة إلى فعلها. وادعى بعضهم: أن المانع كون الشمس كانت حينئذ طالعة والصلاة حينئذ مكروهة. الرابع: إذا قلنا: يجب الترتيب في قضاء الصلاة، فلو ذكر الفائتة المنسية وهو في صلاة هل يقطعها؟ للمالكية: فيه تفصيل بين الفذ والإِمام، [والمأموم] (¬3) وبين أن يكون الذكر: بعد ركعة أم لا، فلا يستمر الاستدلال بهذا الحديث مطلقًا لهم، وحيث يقال: يقطعها فوجه الدليل من أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر (¬4) ومن ضرورة ذلك قطع ما هو فيه، ومن أراد ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬2) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) قال الصنعاني في حاشيته (2/ 494): أقول: وهو دليل على الفورية، فيلزم خروجه مما هو فيه وقطعه والإِتيان بما ذكره. وهو عام لكل أوقات الذكرى، فلا يخرج عنها شيء إلَّا بدليل، ولم يقم هنا دليل. وبوَّب الحافظ البيهقي في السنن بقوله: "باب من ذكر صلاة وهو في أخرى"، ثم قد احتج بعض أصحابنا في ذلك بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا ما أدركتم ثم اقضوا ما فاتكم".

إخراج شيء من ذلك فعليه أن يبين معنى مانعًا من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها؟ ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل، كما قاله الشيخ تقي الدين. الخامس: وجوب القضاء على العامد بالترك من طريق الأولى، كما قاله الشيخ تقي الدين، فإنه إذا لم تقع المسامحة مع قيام العذر بالنوم والنسيان فلأن لا تقع مع عدم العذر أولى. وحكى القاضي عياض عن بعض المشائخ: أن قضاء العامد مستفاد من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليصلها إذا ذكرها" لأنه بغفلته عنها وعمده: كالناسي، ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها وهذا ضعيف (¬1)، كما قال الشيخ تقي الدين لأن قوله: "فيصلها إذا ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في فتح الباري (2/ 71): وقد تمسك بديل الخطاب منه القائل إن العامد لا يقضي الصلاة لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي، وقال من قال: يقضي العامد، بأن ذلك مستفاد من مفهوم الخطاب، فيكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا وجب القضاء على الناسي، مع سقوط الإِثم ورفع الحرج عنه، فالعامد أولى، وادعى بعضهم أن وجوب القضاء على العامد يؤخذ من قوله: "نسي" لأن النسيان يطلق على الترك سواء كان عن ذهول أم لا، ومنه قوله -تعالى-: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} قال: ويقوي ذلك قوله: "لا كفارة لها" والنائم والناسي لا إثم عليه. قلت: وهو بحث ضعيف، لأن الخبر بذكر النائم ثابت، وقد قال فيه: "لا كفارة لها" والكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد. والقائل: بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالًا من الناسي، بل =

ذكرها" كلام مبني على ما قبله، وهو من نام عن صلاة أو نسيها. والضمير في قوله: "فليصلها إذا ذكرها" على الصلاة المنسية أو التي وقع النوم عنها فكيف يحمل على ضد النوم والنسيان وهو الذكر واليقظة، نعم لو كان [كلامًا] (¬1) مبتدأ مثل أن يقال من ذكر صلاة فليصلها إذا ذكرها لكان ما قيل محتملًا، وأما قوله: كالناسي، إن أراد بذلك أنه مثله في الحكم فهي دعوى، ولو صحت لم يكن ذلك مستفادًا من اللفظ، بل من القياس أو من مفهوم الخطاب الذي أشرنا إليه، وكذا ما ذكر في هذا من الاستناد إلى قوله: "لا كفارة لها إلَّا ذلك" والكفارة إنما تكون من الذنب. والنائم والناسي لا ذنب لهما، وإنما الذنب للعامد لا يصح أيضًا، لأن الكلام كله مسوق على قوله: "من نام عن صلاة أو نسيها" والضمائر عائدة إليها، فلا يجوز أن يخرج عن الإِرادة، ولا أن يحمل اللفظ ما لا يحتمله، وتأويل لفظ الكفارة هنا أقرب وأيسر من أن يقال إن الكلام الدال على الشيء ¬

_ = يقول: إنه لو شرع له القضاء لكان هو والناسي سواء، والناسي غير مأثوم بخلاف العامد، فالعامد أسوأ حالًا من الناسي فكيف يستويان؟ ويمكن أن يقال: إن أثم العامد بإخراج الصلاة عن وقتها باق عليه ولو قضاها. بخلاف الناسي فإنه لا إثم عليه مطلقًا. ووجوب القضاء على العامد بالخطاب الأول لأنه قد خوطب بالصلاة وترتبت في ذمته دينًا عليه. والدين لا يسقط إلَّا بأدائه، فيأثم بإخراجه لها، عن الوقت المحدود لها ويسقط عنه الطلب بأدائها، فمن أفطر في رمضان عامدًا فإنه يجب عليه أن يقضيه مع بقاء إثم الإِفطار عليه والله أعلم. (¬1) زيادة من ن ب د.

مدلول به على ضده فإن ذلك ممتنع، وليس ظهور الكفارة في الإِشعار بالذنب بالظهور القوي الذي يصادم به النص الجلي في أن المراد الصلاة المنسية أو التي وقع النوم عنها، وقد وردت كفارة القتل خطأ مع عدم الذنب، وكفارة اليمين بالله مع استحباب الحنث في بعض المواضع، وجواز اليمين ابتداء ولا ذنب. وقال القرطبي (¬1) في "شرحه": من ترك الصلاة عمدًا: فالجمهور على وجوب القضاء عليه، وفيه خلاف [ظاهر] (¬2) شاذ عن داود وأبي عبد الرحمن الشافعي (¬3)، وقد احتج الجمهور عليهم بأوجه: أحدها: أنه قد ثبت الأمر بقضاء الناسي والنائم مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى، وهذا ما قدمته عن الشيخ تقي الدين. ثانيها: التمسك بقوله: "إذا ذكرها" والعامد ذاكر لتركها فلزمة قضاؤما. ثالثها: التمسك [بعموم] (¬4) قوله: "من نسي صلاة، أي من حصل منه نسيان، والنسيان: هو الترك، سواء كان مع ذهول أو لم يكن، وقد دل على هذا قوله -تعالى-: {انَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (¬5) أي تركوا معرفة الله وأمره فتركهم في العذاب. ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 1171). (¬2) في ن ب د ساقطة. (¬3) في ن د زيادة (الأشعري). (¬4) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬5) سورة التوبة: آية 67.

رابعها: التمسك بقوله: "من نسي صلاة فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" والكفارة إنما تكون عن الذنب غالبًا، والناسي بمعنى الذاهل ليس بآثم، فتعين أن يكون العامد هو المراد بلفظ الناسي. خامسها: قوله: "أقم الصلاة لذكري" أي لتذكرني فيها على أحد التأويلات. سادسها: أن القضاء يجب بالخطاب الأول، لأن خروج وقت العبادة لا يسقط وجوبها، لأنها لازمة في ذمة المكلف كالديون، وإنما يُسقط العبادة [فقدها] (¬1) أو فقد شرطها، ولم يحصل شيء من ذلك، وهذا أحد القولين لأئمتنا الأصوليين والفقهاء (¬2). وقال النووي في (شرحه) (¬3): هذا القول خطأ من قائله [وجهالة] (¬4)، ولم يزد على ذلك. وقال ابن دحية في "المولد": شذ ابن حزم (¬5) في ذلك، وخالف الجمهور، وظن أنه يسير في ذلك برواية شاذة جاءت عن بعض التابعين، ثم رد عليه بقصة الخندق (¬6) حيث لم يصلِّ هو ولا أصحابه حتى غربت الشمس، وكذلك حديث: "لا يصلين ¬

_ (¬1) في المفهم (فعلها). (¬2) ساقه من المفهم (2/ 1172). (¬3) شرح مسلم (5/ 183). (¬4) في ن ب د (وجهلًا). (¬5) المحلى (2/ 226، 233، 234، 235، 244)، (3/ 7). (¬6) البخاري (596، 598، 641، 945، 4112).

أحدكم العصر إلَّا في بني قريظة" (¬1) فخرجوا مبادرين ولم يصلها بعضهم إلَّا في بني قريظة بعد الغروب، لقوله ذلك لهم. وأما الشيخ عز الدين فقال في "قواعده" (¬2): له وجه حسن فذكره. وعن "شرح الوسيط" لابن الأستاذ: أنه حكى في باب سجود السهو عن ابن كج أن ابن بنت الشافعي كان لا يرى بقضائها [أيضًا] (¬3)، وهذا غريب، وقد أسلفنا أن القرطبي (¬4) حكاه عن أبي عبد الرحمن الشافعي، وهذه الكنية كناها بعضهم لابن بنت الشافعي أيضًا وبعضهم لغيره، فالله أعلم. [قالوا] (¬5): ونظير هذه المقالة وجه مشهور عندنا: أنه إذا ترك بعضا من الأبعاض لا يسجد له، واليمين الغموس [قالوا] (¬6) لا كفارة فيها، وإثمها أعظم من أن يكفره. وقال صاحب "المعلم" (¬7): سبب الخلاف في هذه المسألة أن حكم العامد مستفاد من دليل الخطاب، فإن العامد بخلاف الناسي أو من تبينه الخطاب، فإن العامد أولى بالقضاء من الناسي والحق ¬

_ (¬1) البخاري (4119). (¬2) قواعد الأحكام (2/ 6). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) المفهم (2/ 1171). (¬5) في ن ب د ساقطة. (¬6) زيادة من ن ب د. (¬7) بمعناه في المعلم (1/ 441).

أنه إن جعل القضاء في الناسي تغليظًا، فالعامد أحق به، وإن جعل من باب الرفق، وأنه يستدرك بقضائه ما فاته [بقدره] (¬1)، فالعامد ضده فلا يلحق به، ولا يقوم به حجة على أهل الظاهر الباقين. السادس: في قوله: "إذا ذكرها" حجة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول: إن المتروكة لا تقضي بعد الصبح، ولا بعد العصر كما نبه عليه القرطبي (¬2). قال: ووجه تمسكهم أنها صلاة تجب لسبب ذكرها فتفعل عند حضور سببها متى [ما] (¬3) حضر، وقد صرح بالتعليل في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} (¬4)، فإن اللام للتعليل ظاهرًا ولا يعارض هذا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس" (¬5)، فإن هذا عام في جنس الصلوات، وذاك خاص في الواجبات المقضية. والوجه الصحيح عند الأصوليين: بناء العام على الخاص، إذ ذلك يرفع التعارض، وبه يمكن الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين. السابع: استدلاله - عليه الصلاة والسلام - بقوله -تعالى-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} دليل على أن شرع من ¬

_ (¬1) في ن ب (بعذره). (¬2) المفهم (2/ 1172). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) سورة طه: آية 14. (¬5) البخاري (586، 1188، 1197، 9864، 1992، 1995).

قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه؛ لأن الخطاب بهذه الآية إنما هو لموسى - عليه السلام -. قال القرطبي: وهو قول أكثر أصحابنا. وقال صاحب "القبس" (¬1): لا خلاف عن مالك أن: "شرع من قبلنا شرع لنا" وقد نص عليه في كتاب الديات من الموطأ (¬2). وقال القرافي. شرع من قبلنا على ثلاثة أقسام: قسم: لم يعلم إلَّا من قبلهم كما يزعمون: أن في التوراة تحريم الجدي بلبن أمه، يشيرون إلى المضيرة. وقسم: عُلم بشرعنا وأُمرنا نحن أيضًا به كقوله -تعالى-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬3). وقسم: علم بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، ولم نؤمر نحن به، فالأول: ليس شرعًا لنا قطعًا. والثاني: شرع لنا قطعًا، والئالث: [] (¬4) محل النزاع، والحديث إنما دل على القسم الثاني، وليس النزاع فيه كما نقله القرافي. الثامن: قوله: "أقم الصلاة لذكري" اختلف أهل التفسير في قوله: "لذكري". ¬

_ (¬1) القبس (3/ 103). (¬2) الموطأ (2/ 864). (¬3) سورة المائدة: آية 45. (¬4) في ن ب د زيادة (هو).

فقال مجاهد: لتذكرني فيها. وقال النخعي: اللام للظرف أي: إذا ذكرتني أي: إذا ذكرت أمري بعد ما نسيت، ومنه الحديث. وقيل: لا تذكر فيها غيري. وقيل: شكرًا لذكري. وقيل: اللام للتسبب. قال القرطبي (¬1): وهو أوضحها، ويقرب منه قول النخعي وقرىء شاذًا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِى (14)} (¬2). وقيل: أقم الصلاة لأذكرك بالمدح، حكاه الباجي (¬3). قال: وأبين الأقاويل عندي أن المعنى أقم الصلاة حين تذكرها لأنه - عليه الصلاة والسلام - احتج بالآية على قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها. وقال القاضي عياض: أي لتذكيري لك إياها، وهو أولى لسياق [الحديث] (¬4) والاحتجاج بها [ويعضده] (¬5) قراءة للذكري، وهو قول أكثر العلماء والمفسرين. ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 1172). (¬2) بلامين وتشديد الذال، وهي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب وابن المسيفع. انظر: زاد المسير (5/ 275). (¬3) ساقه وما قبلها الباجي في المنتقي (1/ 29). (¬4) زيادة من ن ب د. وما أثبت إكمال إكمال المعلم (2/ 339). (¬5) في الأصل ويعضدها، وما أثبت يوافق إكمال إكمال المعلم.

التاسع: يستدل بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا كفارة لها إلَّا ذلك" على أن من مات وعليه صلاة لا يقضى عنه، ولا تجبر بمال. وذهب أصحاب [الرأي] (¬1): إلى أنه يطعم عنه. والقائل بهذا: يحمل الحديث على حال الحياة، وأما بعد الموت [فيلحق] (¬2) بالصوم في الإِطعام والقضاء أيضًا لاشتراكهما في معنى التعبد البدني: [فرع] (¬3): أصح قولي الشافعي: استحباب قضاء السنن الراتبة. ويستدل له بعموم هذا الحديث [وبغيره من الأدلة أيضًا] (¬4). [العاشر] (¬5): روى الجوزقاني في موضوعاته (¬6) عقب حديث ¬

_ (¬1) في ن ب الكلمة (أتى). (¬2) في النسخ (فيلتحق)، وما أثبت أقرب للمعنى. (¬3) في ن ب د (العاشر). (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) في ن ب د (فائدة). (¬6) الأباطيل والمناكير (2/ 37). فائدة: في الجمع بين حديث نومه - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الفجر وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي": قال النووي له جوابان: أحدهما: أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان. والثاني: أنه كان له حالان، حال كان قلبه فيه لا ينام وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه وهو =

أنس هذا ردًّا على حديث باطل من حديث عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: قال رجل: يا رسول الله! إني تركت الصلاة فقال: "اقض ما تركت" فقال: يا رسول الله! كيف أقضي؟ قال: "صل مع كل صلاة صلاة مثلها" قال: يا رسول الله! قيل أم بعد؟ قال: "لا، بل قبل" ثم قال: هذا حديث غريب لم نكتبه إلَّا بهذا الإِسناد. ¬

_ = نادر، فصادف هذا أي قصة النوم عن الصلاة قال: والصحيح المعتمد هو الأول والثاني ضعيف. وهو كما قال. اهـ، ص فتح الباري (1/ 450).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 116/ 5/ 21 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - "أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف قبيل [التيمم] (¬2). ثانيها: وقع في الحديث ذكر معاذ وترجمته مبسوطة فيما أفردته من الكلام على رجال هذا الكتاب، فراجعها منه تجد ما يشفي الغليل. ثالثها: قوله: "عشاء الآخرة" فيه دليل على جواز مثل هذا، ¬

_ (¬1) البخاري (700، 701، 705، 711، 6160)، ومسلم (465) (181)، والترمذي (583)، وأبو داود (599، 600، 790)، والنسائي (2/ 102)، والبغوي (857، 858)، وأحمد (3/ 308، 369)، والدارقطني (1/ 274، 275)، والطيالسي (1694)، وابن حبان (1524)، والشافعي (1/ 143)، وفي بعض الروايات "المغرب" بدل "العشاء"، وفي بعضها مبهمة كما في رواية البخاري (711). (¬2) في ن ب (اليتيم).

وإضافة المنكر إلى المعرف إذا كان المعرف صفة للمنكر، ويعبر عنه بإضافة الموصوف إلى صفته، وهو مذهب الكوفيين. فيقال: عشاء الآخرة، ومسجد الجامع. ومنعه البصريون، قالوا: وحيث جاء إضافة المنكر إلى المعرف في الصفة والموصوف إنما هو على تقدير موصوف معرف محذوف، وهو العشاء الآخرة، وفي مسجد المكان الجامع. رابعها: وقد منع بعض العلماء قول: العشاء الآخرة. قال: لأنه يقتضي أن يكون ثم عشاء أولى، كما لا يقال: مررت برجل وامرأة أخرى وبالعكس. فإن نقل تسمية المغرب عشاء فهو وجه قول الجمهور، وإلاَّ فيكفيهم دليلًا على جواز ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة". رواه مسلم (¬1)، وثبت في مسلم عن جماعات من الصحابة وصفها بذلك (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (444)، وأبو داود في الترجل (4175)، باب: ما جاء في المرأة تتطيب للخروج، والنسائي (15418)، والبيهقي (3/ 133)، والبغوي في السنة (861)، وأبو عوانة (2/ 17). (¬2) قال البخاري -رحمنا الله وإياه-: (باب من كره أن يقال للمغرب العشاء)، قال الزين بن المنير: عدل المصنف عن الجزم كأن يقول، باب: كراهية كذا، لأن لفظ الخبر لا يقتضي نهيًا مطلقًا. لكن فيه النهي عن غلبة الأعراب على ذلك، فكأن المصنف رأى أن هذا القدر لا يقتضي المنع من إطلاق العشاء عليه أحيانًا، بل يجوز أن يطلق على وجه لا يترك له التسمية الأخرى، كما ترك ذلك الأعراب وقوفًا مع عادتهم قال: وإنما =

وأجاب بعضهم عن الشبهة السالفة بأن قال: إنما وصفت بالآخرة، ولم تكن لها أولى كما وصفت الجاهلية بالأولى في قوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (¬1)، فإنه لم يكن ثَمَّ جاهلية أخرى، وهذا وهم. فالجاهلية الأولى: هي [الزمن] (¬2) الذي ولد فيه إبراهيم، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي به وسط الطريق، تعرض نفسها على الرجال. وقيل: ما بين آدم، ونوح. ¬

_ = شرع لها التسمية بالمغرب، لأنه اسم يشعر بمسماها أو بابتداء وقتها. وكره إطلاق اسم العشاء عليها، لئلا يقع الالتباس بالصلاة الأخرى. وعلى هذا لا يكره أيضًا أن تسمى العشاء بقيد كأن يقول العشاء الأولى، ويؤيد قولهم العشاء الآخرة كما ثبت في الصحيح -أي مسلم برقم (444) - وسيأتي من حديث أنس ففي الباب الذي يليه -أي في باب ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعًا، ونقل ابن بطال عن غيره أنه لا يقال للمغرب: العشاء الأولى، ويحتاج إلى دليل خاص. أما من حديث الباب فلا حجة له. اهـ، من الفتح (2/ 43). فائدة: لا يتناول النهي تسمية المغرب عشاء على سبيل التغليب كمن قال مثلًا: صليت العشاءين. إذا قلنا: إن حكمة النهي عن تسميتها عشاء خوف اللبس في الصيغة المذكورة. اهـ، من الفتح (2/ 44). فائدة أخرى: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إطلاق العشاء على المغرب. اهـ، من الفتح (2/ 45). (¬1) سورة الأحزاب: آية 33. (¬2) في الأصل ثم (من)، والتصحيح من ن ب.

وقيل: غير ذلك. والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. خامسها: في الحديث دلالة ظاهرة على صحة صلاة المفترض خلف المتنقل، وهو مذهب الجمهور، لأن معاذًا كان يصلي الفريضة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسقط فرضه، ويصلي مرة ثانية بقومه له [تطوع] (¬1) ولهم مكتوبة، وكذا جاء مصرحًا به في رواية الشافعي (¬2)، ثم البيهقي (¬3). قال الشافعي في "الأم" (¬4): وهذه الراوية صحيحة، وصححها البيهقي أيضًا وغيره. ¬

_ (¬1) في ن ب (تطوعا). (¬2) مسند الشافعي (1/ 143)، والأم (1/ 173). (¬3) البيهقي في السنن (3/ 86) بلفظ: "هي له تطوع ولهم فريضة". قال الحافظ في الفتح (2/ 195): واستدل بهذا الحديث على صحه اقتداء المفترض بالمنتفل بناءًا على أن معاذًا كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق (2266)، والشافعي والطحاوي (237، 238)، والدارقطني (102)، وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن جابر في حديث الباب زاد: "هي له تطوع ولهم فريضة"، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه. البيهقي في المعرفة (4/ 153). (¬4) الأم (1/ 132، 143، 384).

وقال ابن شاهين في (ناسخه ومنسوخه) (¬1): لا خلاف بين أهل النقل للحديث في [صحة] (¬2) إسنادها. قال البيهقي: والظاهر أن هذه [الزيادة] (¬3) من قول جابر، فإنه لا يقول ذلك إلَّا بعلم. قلت: [وبما] (¬4) ذكرناه يرد به على من ادعى من المالكية ضعفها [أو] (¬5) إدراجها، وادعى بعض الحنفية (¬6) ممن له شرب في الحديث: أن ابن عيينة لم يذكرها في الحديث، وإنما ذكرها ابن جريج، وهذا غير قادح، فابن جريج ثقة يقبل ما تفرد به إن سلم له ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ (250). (¬2) في الأصل (صحيحه)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في الأصل (الرواية)، والتصحيح من ن ب د. معرفة السنن (4/ 153). (¬4) في الأصل (وما)، وما أثبت من ن ب د. (¬5) في ن ب د (و). (¬6) أي الطحاوي كما ذكره الحافظ في الفتح (2/ 196). (¬7) قال الحافظ في الفتح (2/ 196): (قد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق فيه فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي: إنه لا يصح مردود، وتعليل الطحاوي له بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج- ولم يذكر هذه الزيادة- ليس بقادح في صحته، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذًا عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عددًا، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة، فجوابه: أن الأصل عدم الإِدراج حتى يثبت =

وفي "المنتقى" (¬1): أن الإِمام أحمد ضعّف هذه الزيادة وقال: أخشى أن لا تكون محفوظة، لأن ابن عيينة يزيد فيها كلامًا لا يقوله أحد، زاد ابن قدامة في المغني: وقد روى الحديث منصور بن زاذان وشعبة فلم يقولا ما قال سفيان. قلت: قد قاله ابن جريج واعتذر ابن الجوزي (¬2) عن هذه الزيادة: بأنها من ظن الراوي (¬3) وقد سبق جواب هذا من كلام البيهقي. واعتذر ابن العربي (¬4) عنها بأن قال: يحمل على أن معاذًا كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة النهار ومع قومه صلاة الليل، فأخبر ¬

_ = التفصيل مهما كان مضمومًا إلى الحديث فهو منه، ولا سيما إذا روي من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعًا لعمرو بن دينار عنه. (¬1) المنتقى (1/ 632)، باب: هل يقتدي المفترض بالمتنفل أم لا؟ ولم يذكر هذا النقل عن الإِمام أحمد. (¬2) في تحقيق أحاديث الخلاف (1/ 481). (¬3) وقول الطحاوي: هو ظن من جابر مردود لأن جابر كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على انه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلَّا بأن ذلك الشخص أطلعه عليه. هذا الجواب شامل للرد على من يقول: إنه ظن من الراوي -أي جابر-. وانظر: فتح الباري (2/ 192)، وتصحيحه قوله: "هي لهم فريضة وله تطوع"، وحاشية الصنعاني (2/ 500). (¬4) عارضة الأحوذي (3/ 65، 66).

الراوي بقوله: "فهي له تطوع، ولهم مكتوبة". بحال معاذ في وقتين لا في وقت (¬1). قلت: وهذا بعيد. ثم اعلم بعد ذلك، أن لهم في أصل الحديث اعتذارات. إحداها: أن معاذًا لعله كان يصلي أولًا نافلة، ثم بقومه فريضة. قال القرطبي (¬2): وليس هذا الاحتمال بأولى [مما] (¬3) صاروا إليه، فيلحق بالمجملات فلا يكون فيه حجة. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 193): على قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -)، زاد مسلم من رواية منصور عن عمرو "عشاء الآخرة" فكأن العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين قوله: "ثم يرجع فيؤم قومه"، في رواية منصور المذكورة "فيصلي بهم تلك الصلاة"، وللمصنف في الأدب "فيصلي بهم الصلاة" أي المذكورة، وفي هذا رد لمن زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الصلاة التي كان يصليها بقومه، وفي رواية لابن عيينة: "فصلى ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم أتى قومه فأمهم"، وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة: "ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم"، ولا مخالفة فيه، لأن قومه هم بنو سلمة. وفي رواية الشافعي عنه: "ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة"، ولأحمد: "ثم يرجع فيؤمنا"، للاطلاع على مواضع الروايات. انظر: التعليق (1)، ص (375). (¬2) المفهم (2/ 855). (¬3) في ن ب (ما).

قلت: هذا عجيب! قال الشافعي - رضي الله عنه -: كيف يظن أن معاذًا يجعل صلاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لعل صلاة واحدة أحب إليه من كل صلاة صلاها في عمره ليست معه وفي الجمع الكثير نافلة. وادعى ابن العربي (¬1): أن فضيلة النافلة خلفه لتأدية فريضة لقومه تقوم مقام أداء الفريضة معه، وامتثال أمره - عليه الصلاة والسلام - في إمامة قومه زيادة طاعة. قلت: ومما يبعد هذا الاعتبار أيضًا أنه كيف يظن بمعاذ أن يشتغل بعد إقامته الصلاة بنافلة، مع قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبة" (¬2)، وقد يجاب عن هذا: بأن المفهوم أن لا يصلي نافلة غير الصلاة التي تقام، لأن المحذور وقوع الخلاف على الأئمة، وهذا المحذور منتف مع الاتفاق في الصلاة المقامة، ويؤيد هذا الاتفاق أن الجمهور على جواز النفل خلف الفرض، كما سلف، ولو تناوله النهي لما جاز جوازًا مطلقًا (¬3). ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي (3/ 65، 66). (¬2) مسلم (710)، (64)، والترمذي (421)، وأبو داود (1266)، والنسائي (2/ 116، 117)، وابن ماجه (1151)، وأبو عوانة (1/ 32)، والدارمي (1/ 337)، والبيهقي (2/ 482)، والبغوي (804)، وعبد الرزاق (3987)، وابن أبي شيبة (2/ 77)، وأحمد (2/ 331، 455، 517، 531)، وابن حبان (2193، 2470)، وابن خزيمة (1123). (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 196): وأما احتجاج أصحابنا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: =

الاعتذار الثاني: أن حديث معاذ كان في الأول حين كانت الفريضة تقام في اليوم مرتين حتى نهى عنه (¬1)، وهذا منقول عن الطحاوي، وقدره بعضهم بأن إسلام معاذ كان متقدمًا أي في أول الإِسلام، كما نقله القاضي عن الأصيلي [وقد] (¬2) صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده بسنتين من الهجرة صلاة الخوف غير مرة، على وجه وقع فيه المخالفة الظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف، ¬

_ = "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبة" فليس بجيد، لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت من غير تعرض لنية فرض أو نفل، ولو تعينت نية الفريضة لامتنع على معاذ أن يصلي الثانية بقومه لأنها ليست حينئذٍ فرضًا له. (¬1) أي منسوخًا -كذا قاله الطحاوي- فقد قال البيهقي في المعرفة (4/ 155): بأن النهي عن فعل الصلاة مرتين محمول على أنها فريضة في كل مرة جمعًا بين الأحاديث. وقال ابن حجر في الفتح (2/ 196): بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدًا، ولا يقال: القصة قديمة، لأن صاحبها استشهد بأُحُدْ. لأنا نقول: كانت أُحُدْ في آواخر الثالثة، فلا مانع أن يكون النهي في الأولى، والإِذن في الثالثة مثلًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة"، أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد بن الأسود العامري، وصححه ابن خزيمة وغيره، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل على الجواز أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده -ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها- أن: "صلوها في بيوتكم في الوقت ثم اجعلوها معهم نافلة". (¬2) في ن ب (فقد). انظر: هذا الاعتذار في إكمال إكمال المعلم (2/ 199).

وذلك يدل على عدم إيقاع الصلاة في اليوم مرتين، على وجه لا تقع المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة، وهذا لا يدل على النسخ بتقدير تقدم إسلام معاذ وفعله، كيف والمنازعة واقعة في أن ذلك هل كان عقب إسلامه أو بعده؟ وقد روى ابن جرير أن ذلك قبل أُحُد لكنه قال: إنه خبر منقطع. قال النووي (¬1) في شرحه: وهذه دعوى لا أصل لها، فلا يترك ظاهر الحديث بها. قال البيهقي: وحديث ابن عمرو يرفعه: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" (¬2) لا يثبت ثبوت حديث معاذ للاختلاف في الاحتجاج بروايات عمرو بن شعيب يعني المذكور في إسناده وانفراده، وللاتفاق على الاحتجاج برواية معاذ. الثالث: أن الضرورة داعية إلى صلاة معاذ [بقومه لقلة القراء ذلك الوقت، ولم يكن لهم غنى عن صلاة معاذ] (¬3)، ولم يكن لمعاذ ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووي (4/ 181). (¬2) أخرجه أبو دواد (579)، باب: إذا صلى في جماعه أيعيد؟ والنسائي في الإِمامة (2/ 114)، وأحمد (2/ 19، 41) وابن أبي شببة (2/ 278، 279)، والدارقطني (1/ 145، 416)، والبيهقي في السنن (2/ 303)، والمعرفة (4/ 154)، وصححه ابن خزيمة (1641). قال الخطابي: وقوله: "لا تعاد" ... إلخ، أي إذا لم تكن عن سبب كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي بهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقًا بين الأحاديث ورفعًا للاختلاف بينها. اهـ. (¬3) في ن ب ساقطة.

غنى عن صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بُعْد (¬1). ومن ادعى عدم [علمه - عليه الصلاة والسلام - بذلك: فقد أبعد أيضًا (¬2) بل قد شُكي تطويله إليه ولم] (¬3) ينكر عليه [] (¬4) إلَّا التطويل فقط. وبصحة صلاة المفترض خلف المتنفل: قال به الشافعي وأحمد والجمهور: ومنعه [ربيعة و] (¬5) مالك وأبو حنيفة والكوفيون: والخلاف في ذلك راجع إلى قاعدة وهي: أن ائتمام المأموم ¬

_ (¬1) قال ابن دقيق في إحكام الأحكام (2/ 505): فهو ضعيف لعدم قيام الدليل على تعين ما ذكره هذا القائل علة لهذا الفعل، ولأن القدر المجزىء من القراءة في الصلاة ليس حفظتة بقليل، وما زاد على الحاجة من زيادة القراءة فلا يصلح أن يكون سببًا لارتكاب ممنوعًا، شرعًا كما يقوله هذا المانع. انظر: الفتح (2/ 197). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 196): وأما قول الطحاوي لا حجة فيه لأنها لم تكن بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تقريره، فجوابه أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة وفيهم ثلاثون عقبيًّا وأربعون بدريًّا، قاله ابن حزم قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الأصل (غيره)، وليس لها مناسبة. (¬5) في ن ب (وتبعه).

بالِإمام واجب في: الصورة، والنية، والفعل، والقول، أم في الفعل وبعض القول؟ وقد تقدم ذلك في الحديث الثاني من باب الإِمامة. ونذكر هنا أن العلماء اختلفوا في جواز اختلاف نية الإِمام والمأموم على مذاهب: [أوسعها] (¬1): الجواز مطلقًا [فيجوز] (¬2) اقتداء المفترض بالمتنفل وعكسه [والقاضي] (¬3) بالمؤدي وعكسه، سواء [اتفقت] (¬4) الصلاتان أم لا، إلَّا أن تختلف الأفعال الظاهرة، وهو مذهب الشافعي ومن قال بقوله. وثانيها: مقابله وهو أضيقها وهو أنه لا يجوز اختلاف النيات حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض. [وثالثها: وهو أوسطها، أنه يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض] (¬5) [و] (¬6) لا عكسه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وقال الشيخ تقي الدين (¬7): ومن نقل عن مذهب مالك مثل المذهب الثاني فليس بجيد، فليعلم ذلك. ¬

_ (¬1) في ن ب (أو منعها). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الأصل الكلمة غير واضحة، وما أثبت من ن ب د. (¬4) في الأصل (انقضت)، وما أثبت من ن ب د. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب د ساقطة. (¬7) إحكام الأحكام (2/ 498).

قال الفاكهي: وهذا شيء لم أره في مذهبنا أصلًا، فهو وهم إن صح نقله. قال القرطبي (¬1): ويتمسك المانع بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬2)، ولا اختلاف أعظم من اختلاف النيات. قلت: [و] (¬3) قد يمنع هذا، وإنما يظهر الاختلاف في الأفعال الظاهرة لا الباطنة (¬4). ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 856). (¬2) البخاري (722، 734)، ومسلم (414، 415)، والحميدي (958)، وأبو عوانة (2/ 109)، وأبو داود (603، 604) في الصلاة، باب: الإِمام يصلي من قعود، والنسائي (2/ 141، 142)، وابن ماجه (846، 1239)، وعبد الرزاق (4082، 4083)، وابن حبان (2107، 2115)، وابن خزيمة (1613)، وابن أبي شيبة (2/ 326)، والبيهقي (3/ 79)، وأحمد (2/ 230، 314، 376، 341، 411، 475)، وشرح السنة للبغوي (852). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 178): قال النووي وغيره: متابعة الإِمام واجبة في الأفعال الظاهرة. وقد نبه عليها في الحديث، فذكر الركوع وغيره بخلاف النية، فإنها لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ الآتية، ويمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها، لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله، كما لو كان محدثًا أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء، ثم مع وجوب المتابعة ليس شيء منها شرطًا في صحة القدوة إلَّا تكبيرة الإِحرام. اهـ.

وقال ابن بطال: لو جاز بنا صلاة المفترض على صلاة المتنفل لما شرعت صلاة الخوف مع كل طائفة بعضها، وارتكاب الأعمال التي لا [تصح] (¬1) الصلاة معها في غير الخوف، لأنه كان يمكنه - عليه الصلاة والسلام - أن يصلي مع كل طائفة جميع صلاته وتكون الثانية له نافلة [وللطائفة] (¬2) الثانية فريضة. قلت: لا حاجة إلى إحالة هذا، فقد وقع هذا منه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف صلى بكل طائفة كل الصلاة كما ذكره الحاكم (¬3) من حديث أبي بكرة وقال: صحيح على شرط الشيخين. وفي أبي داود والنسائي وصحيح ابن حبان (¬4) عنه أيضًا: أنه ¬

_ (¬1) في الأصل (تصلح)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) في الأصل (وللصلاة)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) الحاكم (1/ 337)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال الذهبي على شرطهما: وهو غريب، وعين الصلاة بأنها المغرب. (¬4) ابن حبان (2881)، فلم يعين شيئًا، وإنما قال: ركعتين ركعتين، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللمسلمين ركعتين ركعتين. النسائي (3/ 178، 179)، وأبو داود (1204)، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، وأحمد (5/ 39)، والدارقطني (2/ 61)، والطحاوي (1/ 315)، وأيضًا لجابر بن عبد الله رواية في مسند أحمد (3/ 364)، ومسلم (843)، والبغوي (1095)، والبيهقي (3/ 359)، وابن خزيمة (1352)، والبخاري معلقًا (4136)، وابن حبان (2882، 2883، 2884). قال ابن القيم في تهذيب السنن (2/ 71)، وحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - هذا أي: أنه صلى بكل طائفة صلاة المغرب الصلاة كاملة. مرة مرة، وهذا يؤيد ما في ت (4)، ص (387): رواه الدارقطني =

- عليه الصلاة والسلام - صلى في خوفٍ الظهر [بكل] (¬1) طائفة [مرة] (¬2). فرعٌ غريبٌ في مذهب الشافعي: هل يجوز أن يصلي الفريضة خلف من يصلي صلاة التسبيح؟ فيه وجهان حكاهما القاضي نجم الدين القمولي (¬3) [رحمه الله] (¬4) ولم يذكر راجحًا منهما. ¬

_ = عنه. فقال فيه: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء الآخرون، فصلى بهم ثلاث ركعات. وكانت له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات"، قال ابن القطان: وعندي أن الحديثين غير متصلين، فإن أبا بكرة لم يصل معه صلاة الخوف، لأنه بلا ريب أسلم في حصار الطائف، فتدلى ببكرة من الحصن، فَسُمِّيَ أبو بكرة، هذا كان بعد فراغه - صلى الله عليه وسلم - من هوازن ثم لم يلق - صلى الله عليه وسلم - كيدًا إلى أن قبضه الله. وهذا الذي قاله لا ريب فيه، لكن مثل هذا ليس بعلة، ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه، فإن أبا بكرة -وإن لم يشهد القصة- فإنه إنما سمعها من صحابي غيره، وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من الصحابة، مع أن عامتها مرسلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينازع في ذلك اثنان من السلف وأهل الحديث والفقهاء، فالتعليل على هذا باطل، والله أعلم. اهـ. وقال الحافظ: وهذه ليست بعلة، فإنه يكون مرسل صحابي. اهـ. (¬1) في ن ب (كل). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) هو أحمد بن محمد بن مكي بن ياسين القمولي. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 254)، وطبقات الشافعية للأسنوي (389). (¬4) زيادة من ن ب.

الحديث السادس

الحديث السادس 117/ 6/ 21 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في [شدة] (¬1) الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه" (¬2). الكلام عليه من وجوه: -والتعريف براويه سلف-. الأول: قوله: "كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" هذا حكمه حكم المرفوع بلا خلاف، إذ الظاهر تقريرهم عليه وعلمه به. [الثاني] (¬3): "الاستطاعة" الإِطاقة كما قاله الجوهري. والثوب لغة: هو غير المخيط: كالرداء أو إزار، وقد يطلق ¬

_ (¬1) في ن ب (جدة). (¬2) البخاري (385، 542، 1208)، ومسلم (620)، وأبو داود (660)، والترمذي (584)، والنسائي (2/ 216)، وابن ماجه (1033)، وأحمد (3/ 100)، والدارمي (1/ 308)، وابن أبي شيبة (1/ 105)، والبيهقي (2/ 106). (¬3) في ن ب د (ثانيها) ... إلخ الوجوه.

على المخيط: كالقميص، وغيره. وقد فسر عمر: الثوبين بالمخيط في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أو كلكم يجد ثوبين" (¬1) حين سئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال: هو إزار ورداء [أو إزار] (¬2) وقميص. فقول أَنَسْ: بسط ثوبه، يعم ذلك ما يسمى ثوبًا. [الثالث] (¬3). في الحديث دلالة لمن أجاز السجود على طرف ثوبه المتصل به، وبه قال أبو حنيفة والجمهور، كما حكاه عنهم النووي في شرح (¬4) مسلم: ولم يجوزه الشافعي، وتأول هذا الحديث وشبهه على السجود على ثوب [منفصل] (¬5) عنه، وهو الظاهر. قال البيهقي (¬6): والحمل عليه أولى للاحتياط لسقوط فرض السجود، وحمله الأصحاب على المتصل إذا لم يتحرك بحركته. ¬

_ (¬1) البخاري (358، 365)، ومسلم (515)، (276)، وأحمد (2/ 230، 495، 498، 499) والدارقطني (1/ 282)، وابن حبان (2298)، من رواية أبي هريرة وايضًا من رواية قيس بن طلق عن أبيه، وأحمد (4/ 22، 23)، وأبو داود (629)، والطبراني (8245)، والطحاوي (1/ 379)، والبيهقي (2/ 240)، والطيالسي (1098)، وابن حبان (2297). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) شرح النووي لمسلم (5/ 121). (¬5) في الأصل (متصل)، وما أثبت من ن ب د وشرح مسلم. (¬6) السنن (2/ 106)، والمعرفة (3/ 25).

قال الشيخ تقي الدين (¬1): ومن استدل به [على] (¬2) الأول يحتاج إلى أمرين. أحدهما: أن تكون لفظة ثوبه دالة على المتصل به، إما من حيث اللفظ أو من أمر خارج. والثاني: أن يدل الدليل على تناوله لمحل النزاع إذ من منع السجود على الثوب المتصل به، اشترط في المنع أن يكون متحركًا بحركة المصلي، وهذا الأمر الثاني سهل الإِثبات لأن طول ثيابهم إلى حيث لا يتحرك بالحركة بعيد. قلت: وأما حديث أبي هريرة وجابر "أنه -عليه الصلاة والسلام - كان يسجد على كور عمامته" ففي إسناد كل منهما متروك، كما قاله عبد الحق (¬3). وقال البيهقي (¬4): لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من ذلك. قال: وأصح ما فيه قول الحسن البصري (¬5). حكايته عن الصحابة: أنهم ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (2/ 508). (¬2) في ن ب (عن). (¬3) تلخيص الحبير (1/ 253)، فقد قال في حديث أبي هريرة: إنه حديث باطل، وأما حديث جابر فأخرجه ابن عدي في كامله وفيه عمرو بن شمر وجابر الجعفي وهما متروكان، وأيضًا قد ورد من رواية ابن عباس وابن أبي أوفى وأنس ... إلخ. (¬4) السنن (6/ 106). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 266)، وعبد الرزاق (1/ 40)، رقم =

كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على عمامته، وحكى الماوردي (¬1) عن الأوزاعي [أنه] (¬2) قال: كانت عمائم القوم: [لية أو ليّتين] (¬3) لصغرها، وكان السجود على كورها لا يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض (¬4). ¬

_ = (1566)، والبخاري معلقًا في باب السجود على الثوب في شدة الحر. انظر: تغليق التعليق (2/ 219)، ووصله البيهقي وقال: هذا أصح ما في السجود على العمامة موقوفًا على الصحابة. (¬1) الحاوي الكبير (2/ 165). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في الحاوي (لغة، أو لغتين). (¬4) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 253): فائدة: قال البيهقي: أحاديث كان يسجد على كور عمامته لا يثبت منها شيء -يعني مرفوعًا- وحكى عن الأوزاعي أنه قال: كانت عمائم القوم صغارًا لينة، وكان السجود على كورها لا يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض، وقال الحسن: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته، علقه البخاري ووصله البيهقي. انظر ت (5)، ص (392)، وقال: هذا أصح ما في السجود على العمامة موقوفًا على الصحابة. وأخرج أبو داود في المراسيل، عن صالح بن حيوان السبائي، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسجد إلى جنبه وقد اعتم على جبهته، فحسر عن جبهته"، وعن عياض بن عبد الله قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يسجد على كور العمامة، فأومأ بيده "ارفع عمامتك" ... إلخ. وفيه عن يزيد بن الأصم أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على كور عمامته، قال ابن أبي حاتم: هذا حديث باطل، والله أعلم.

وعن ابن رشد حكايته أربعة أقوال عندهم في السجود على كور العمامة: ثالثها: يجوز في الطاقات اليسيرة دون الكثيرة. رابعها: يجوز إن باشر بشيء من جبهته الأرض، وإلاَّ فلا. الرابع: [يقتضي] (¬1) الحديث تقديم الظهر في أول الوقت مع الحر، ويعارضه ما قدمناه في أمر الإِبراد، فمن قال: إنه رخصة فلا إشكال لأن التقديم حينئذ يكون سنة والإِبراد جائز، ومن قال: إنه عزيمة مسنونة فقد ردد بعضهم القول في أن صلاتهم للظهر في أول الوقت في شدة الحر منسوخ أو يكون على الرخصة. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ويحتمل عندي عدم التعارض، لأننا إذا جعلنا الإِبراد إلى حيث يبقى ظل يمشي فيه إلى المسجد أو إلى ما زاد على الذراع فلا يبعد أن يبقى مع ذلك حر يحتاج معه إلى بسط الثوب، فلا يقع تعارض. قلت: وجزم بهذا الاحتمال القرطبي فإنه قال في شرحه (¬3): ليس في الحديث دليل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان لا يبرد، بل قد يوجد شدة الحر بعد الإِبراد، إلَّا أنها أخف مما قبله. خامسها: فيه ما يدل على البسط والثياب لا سيما عند الضرورة والمشقة: كالحر والبرد، وقد صح أنه - عليه الصلاة والسلام -: ¬

_ (¬1) في ن ب د (مقتضى). (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشية (2/ 507). (¬3) المفهم (2/ 1085).

"كان يصلي على الخمرة" (¬1) وهي سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل وتُرمّل بالخيوط. سادسها: فيه أيضًا أن مباشرة المصلي الأرض بجبهته ويديه هو الأصل [فإنه علق بسط الثوب بعدم الاستطاعة وذلك يفهم أن الأصل] (¬2) والمعتاد عدم بسطه. سابعها: فيه أيضًا أن العمل القليل في الصلاة لا يفسدها. ¬

_ (¬1) البخاري (333، 379، 381، 517، 518)، ومسلم (513)، وأبو داود (616)، والنسائي (2/ 57)، وابن ماجه (1028)، وابن حبان (2312)، هذا من رواية ميمونة .. وورد أيضًا من رواية ابن عباس، وأحمد (1/ 296، 309، 320، 358)، وأبو يعلى (2357، 2703)، والبيهقي (2/ 421)، والترمذي (331)، وابن حبان (2310، 2311). الخُمرة: -بضم الخاء المعجمة وسكون الميم- قال الطبري: هو مصلى صغير يعمل من سعف النخل. سميت بذلك لسترة الوجه والكفين من حر الأرض وبردها. فإن كانت كثيرة سميت حصيرًا، وكذا قال الأزهري في تهذيبه وصاحبه أبو عبيد الهروي وجماعة بعدهم وزاد في النهاية: ولا تكون خمرة إلَّا في هذا المقدار. فرد عليهم ابن الأثير بحديث ابن عباس في سنن أبي داود قال: "جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخمرة التي كان قاعدًا عليها". قال ابن الأثير: "وهذا صريح في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها". وقال الخطابي في المعالم (1/ 330): الخمرة: سجادة تعمل من سعف النحل وترمل بالخيوط، وسميت خمرة لأنها تخمر وجه الأرض، أي تستره"، وقول الخطابي تُرمّل -بالراء المهملة- مبني للمجهول. يقال: "رمل الحصير وأرمله ورمله"، إذا نسجه ورفقه. (¬2) في ن ب ساقطة.

الحديث السابع

الحديث السابع 118/ 7/ 21 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" (¬1) (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: المراد بالثوب هنا: الإِزار فقط، وقد ألحق به في المعنى السراويل، وكل ما يستر به العورة بحيث يكون أعالي البدن مكشوفًا، فورد النهي (¬3) على مخالفة ذلك بأن يجعل على عاتقه شيء ¬

_ (¬1) البخاري (359، 360)، ومسلم (516)، وأبو داود (626)، والنسائي (2/ 71)، وأبو عوانة (2/ 61)، والدارمي (1/ 318)، والطحاوي (1/ 223)، والبيهقي في السنن (2/ 238)، والشافعي في الأم (1/ 77). (¬2) قال الزركشي، لفظة "منه" من إفراد مسلم. اهـ. والمراد: لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب على حقويه، ولكن يتزر به ويرفع طرفيه، فيخالف بينهما على عاتقيه، فيكون بمنزلة الإِزار والرداء. قاله الخطابي. (¬3) قال في الفتح (1/ 471): على قوله: "لا يصلي". أي: من حيث المعنى، وإلَّا فإن لفظه خبر. فإن الباء في يصلي في الرواية ثابتة. نعم، وقع عند الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي عن مالك بلفظ. =

يحصل الزينة المسنونة في الصلاة. الثاني: "العاتق" (¬1) ما بين المنكب والعنق، وهو مذكر، ويؤنث أيضًا. وجمعه: عَوَاتق وعُتُق بضمتين وعُتْق بإسكان التاء. الثالث: السنة في جعل بعض ثوب المصلي على عاتقه إذا كان مكشوفًا، أما إذا كان مستورًا بقميص وغيره فلا. نعم يستحب للرجل أن يصلي في أحسن ما يجد من ثيابه، ويتعمم ويتقمص ويرتدي. قال القاضي حسين: ويتطيلس، فإن اقتصر على ثوبين: فالأفضل قميص ورداء أو قميص وسراويل، فإن اقتصر على واحد فالقميص أولى، ثم الإِزار، ثم السراويل. واختار البنديجي والمحاملي وغيرهما: أن السراويل أفضل من الإِزار. وقال ابن التلمساني (¬2) المالكي في (شرح الجلاب): تكره ¬

_ = "لا يصل" بغير ياء، ومن طريق أخرى عن مالك أيضًا: "لا يصلين" وكذا عند الشافعي والنسائي ورواه الإِسماعيلي من طريق الثوري عن ابن الزناد بلفظ: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وانظر: إحكام الأحكام (2/ 509) حاشية الصنعاني. (¬1) اختلفت الروايات فبعضها بالإِفراد، وبعضها بالتثنية "عاتقيه" وعند أبي داود "منكبه" بدل عاتقه. (¬2) هو إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى التلمساني أبو إسحاق =

الصلاة في السراويل والعمامة (¬1) إلَّا في المنزل، [فإنه] (¬2) ليس عليه أن يتجمل فيه، كما يتجمل إذا خرج منه، وهو عجيب منه، فالله أحق أن يتزين له. وقال ابن العطار في "شرحه" بعد أن نقل عن أصحابنا: أن الإِمام يوم الجمعة يستحب له أن يزيد على سائر الناس في الزينة: كالرداء ونحوه، ليس من زينته الطيلسان، فإنه ليس من [شعائر] (¬3) الإِسلام، بل هو من شعار اليهود، فأنه يثبت في صحيح مسلم (¬4) ¬

_ = (609، 697)، شرح ابن الجلاب شرحًا واسعًا. انظر: الديباج (1/ 274). (¬1) ذكره في التفريع (1/ 242). (¬2) في ن ب د (لأنه). (¬3) في الأصل ون د (شعار)، وما أثبت من ن ب. (¬4) ولفظ: "يتبع الدجال سبعون ألفًا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة"، ومسلم (2944) في الفتن، باب: في بقية من أحاديث الدجال، وابن حبان (6798). انظر التعريف اللغوي للطيلسان في: لسان العرب (6/ 183). قال ابن دريد في الاشتقاق (3/ 413): بفتح اللام، وفي (3/ 27): بفتح اللام وكرها والفتح أعلى، وفي تهذيب اللغة (12/ 333). قال ابن شميل: الطيلسان بفتح اللام منه ويكسر، ولم أسمع فَيْعِلان بكسر العين إنما يكون مضمومًا كالخيزُران والجيمسان ولكن لما صارت الكسرة والضمة أختين واشتركتا في مواضع كثيرة دخلت عيها الكسرة مدخل الضمة، وقال الجوهري: العامة تقول بكسر اللام وفي القاموس: مثلثة اللام. اهـ. والطيلسان: أعجمي معرب. انظر: المعرب للجواليقي (446). =

وغيره [أن شعار] (¬1) يهود أصبهان السبعين ألفًا الذين يخرجون مع الدجال، وقد نهى الشارع عن التشبه باليهود والنصارى وسائر الكفار، ولعن من تشبه بهم مع أنهم يمنعون من لبسه في بلاد الإِسلام لما فيه من الرفعة عليهم به، هذا كلامه. وفي المدخل لابن الحاج -رحمه الله- نحوه، فإنه قال: ورد في الطيلسان أنه زينة بالليل ومذلة بالنهار، وقد ذكر أن أحبار اليهود إنما كانوا يعرفون في زمن نبينا - صلى الله عليه وسلم - بصفة هذا الطيلسان اليوم، فيكون ذلك تشبيهًا بهم. قلت: وما أسلفناه عن القاضي حسين يأتي ما ذكراه، فالله أعلم. ¬

_ = وصفته: ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن ينسج للبس خال من التفصيل والخياطة. اهـ. قال ابن حجر في الفتح (10/ 275): وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة فصار داخلًا في عموم المباح، وقد ذكر ابن عبد السلام في قواعد الأحكام (2/ 173)، في أمثلة البدعة المباحة، وقد يصير من شعائر قوم فيصير تركه من الإِخلال بالمروءة كما نبه عليه الفقهاء. ولزيادة الفائدة، انظر: الفتح (10/ 307): قال: وإن قلنا: النهي عنها "أي عن المياثر والأرجوان" من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذٍ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة، والله أعلم. انظر: المعيار المغرب (11/ 28). (¬1) في ن ب (أنه شعائر).

الرابع: قال العلماء: حكمة النهي أنه إذا اتّزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يأمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه، ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه [] (¬1) بيده أو يديه، فيشتغل بذلك، ويفوته سنة وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت صدره ورفعهما حيث شرع الرفع، وغير ذلك. الخامس: اختلف العلماء في ستر العاتق في الصلاة: هل هو مستحب [أم] (¬2) واجب؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والجمهور إلى الأول، وأن تركه مكروه: كراهة تنزيه. وذهب أحمد في المشهور عنه وبعض السلف: إلى الوجوب، وعدم الصحة بتركه إذا قدر على ستره أو وضع شيء عليه لظاهر هذا الحديث. وعن أحمد رواية أخرى: أن صلاته صحيحة، لكنه يأثم بتركه. وحجة الجمهور: حديث جابر في الصحيحين أنه - عليه الصلاة والسلام - قال له في ثوب له: "فإن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به" (¬3). ولم .................... ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (تحت). (¬2) في ن ب د (أو). (¬3) البخاري (352، 353، 361، 370)، ومسلم (3010) في الزهد، وابن خزيمة (767)، وأبو داود (634)، وابن حبان (2305).

[يأمره] (¬1) بوضع شيء على عاتقه مع ضيقه واتزاره [به] (¬2)؟ فدل ¬

_ = وورد أيضًا من رواية أبي هريرة البخاري (359، 360)، والمصنف (1374)، وأحمد (2/ 255، 266، 427، 520)، وأبو داود (727)، والطحاوي (1/ 381)، وابن حبان (2304)، والبغوي (516). قال ابن حجر في الفتح (1/ 472): في الجمع بين حديث الباب وحديث جابر هذا وما يماثله، وقد حمل الجمهور هذا الأمر -أي في حديث جابر وأبي هريرة- على الاستحباب والنهي في الذي قبله على التنزيه -أي حديث الباب- وعن أحمد: "لا تصح صلاة من قدر على ذلك فتركه" جعله من الشرائط، وعنه "تصح ويأثم" جعله واجبًا مستقلًا. وقال الكرماني: ظاهر النهي يقتضي التحريم لكن الإِجماع منعقد على جواز تركه. كذا قال وغفل عما ذكره بعد قليل عن النووي من حكاية ما نقلناه عن أحمد. وقد نقل ابن المنذر عن محمد بن علي عدم الجواز، وكلام الترمذي يدل على ثبوت الخلاف أيضًا، وقد تقدم ذلك قبل بباب. فائدة: كان الخلاف في منع جواز الصلاة في الثوب الواحد قديمًا. روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: "لا تصلين في ثوب واحد وإن كان أوسع ما بين السماء والأرض" ونسب ابن بطال ذلك لابن عمر ثم قال: لم يتابع عليه، ثم استقر الأمر على الجواز. اهـ، من الفتح (1/ 98). تنييه: أكثر ما يحدث كشف العاتقين في الإِحرام، فإن غالب الناس يرمي إحرامه حينما يصلي أو يؤدي صلاته بعد فراغه من الطواف، ويكون مضطبعًا، فينبغي للمحرم أنه إذا فرغ من طوافه أن يضع رداءه على كتفيه، فإن سُنّية الاضطباع تنتهي بالفراغ من الطواف، وهذه الصلاة التي تؤدى بعد الطواف سواء كانتا ركعتي الطواف أو فريضة، فإنه يشرع فيها ستر العاتقين. فليتنبه لذلك. (¬1) في ن ب (يأمر). (¬2) في ن ب ساقطة.

على [عدم] (¬1) وجوبه، والاثم بتركه، كذا استدل بهذا الشيخ تقي الدين (¬2) والنووي (¬3) وغيرهما وقبلهم الشافعي في "الأم"، وقد يقال: عدم أمره - عليه الصلاة والسلام - له بوضع شيء على عاتقه مع ضيق ثوبه لعلمه بعجزه عن ستره؛ والعاجز معذور في ذلك بخلاف القادر. وقال الباجي (¬4): ووسَّع مالك في طرح الرداء عن المنكبين في النافلة، وكرهه في الفريضة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام (2/ 510). (¬3) شرح مسلم (4/ 232). (¬4) المنتقى (1/ 248).

الحديث الثامن

الحديث الثامن (¬1) 119/ 8/ 21 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته" (¬2) وأُتي بقدر فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحًا، فسئل فأُخبر بما فيها [من البقول] (¬3) فقال: "قربوها ¬

_ (¬1) هذا الحديث مجموع من حديثين، فالحديث الأول إلى قوله: "وليقعد في بيته"، وبداية الحديث الثاني من قوله: وأتي بقدر فيه خضروات، من رواية أم أيوب في مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا وبينهما مدة تزيد على ست سنوات، لأن الحديث الأول وقع في غزوة خيبر وهي سنة سبع كما أوضحتها رواية ابن عمر في البخاري (853). (¬2) البخارى (854، 855، 5452، 7359)، ومسلم (561)، والترمذي (1806) في الأطعمة، والنسائي (2/ 43)، وأبو داود (3822)، وأبو عوانة (1/ 410، 411، 412)، والبيهقي (3/ 76، 7/ 50)، وأحمد (3/ 380، 400)، وعبد الرزاق (1736)، وابن أبي شيبة (2/ 510) (8/ 303)، والطحاوي في المعاني (4/ 237، 240)، والبغوي (496)، وابن حبان (1644، 1646)، وابن خزيمة (1664، 1665). (¬3) في الأصل بياض.

إلى بعض أصحابه"، فلما رآه كره أكلها [قال] (¬1): "كُلْ فإني أناجي من لا تناجي" (¬2). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف قبل التيمم. الأول: يقال: ثوم وفوم، وفي قراءة ابن مسعود (¬3) وثومها، ويقال: الفوم الحنطة، ويقال: الحمص، ويقال: الحبوب (¬4). حكاه العزيزي (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل (فقال)، وما أثبت من ن ب. (¬2) أصل حديث أبي أيوب وأم أيوب: مسلم (2053) (171)، والترمذي (1807)، وأحمد (5/ 95، 96، 414، 415، 416، 420)، وابن أبي شيبة (5/ 308)، وابن خزيمة (1670)، وابن حبان (2092) (2094) من رواية جابر بن سمرة، والطبراني في الكبير (1889، 1940، 1986، 2047، 3984)، والطحاوي في معاني الآثار (4/ 239). ومن ورواية أم أيوب: الترمذي (1810)، وابن أبي شيبة (2/ 511، 8/ 301)، والحميدي (339)، وأحمد (6/ 433، 462)، وابن ماجه (3364)، وابن حبان (2093)، والطحاوي في المعاني (4/ 239)، والطبراني في الكبير (25/ 329)، وابن خزيمة (1671). (¬3) تفسير الطبري (2/ 130). (¬4) غريب القرآن نزة القلوب (154)، وبهجة الأريب للمارديني (34)، وبصائر ذوي التمييز (4/ 221)، والطبري (2/ 124، 130). (¬5) العُزَيْزي هو محمد بن عُزَيز أبو بكر السجستاني المتوفى سنة (330)، وهو أديب مفسر. ترجمته في: معجم المفسرين (2/ 574)، ومعجم المؤلفين (10/ 293).

وفي الصحيح (¬1): تسميته شجرة وهو على خلاف الأصل، فإنها من البقول والشجر في كلام العرب ما كان على ساق يحمل أغصانه، وما ليس كذلك [فهو] (¬2) نجم، وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير في قوله -تعالى-: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} (¬3)، وفي الصحيح (¬4) أيضًا تسميته: خبيثًا، والمراد المستكره. [فائدة] (¬5): البقول جمع بقل. قال أهل اللغة: البقل كل نبات اخضرت به الأرض. ¬

_ (¬1) من رواية ابن عمر البخاري (853، 4215، 4217، 4218، 5521، 5522)، ومسلم (561)، وأبو داود (3835)، وابن ماجه (1016)، والبيهقي في السنن (3/ 75)، وابن خزيمة (1661)، وأحمد (2/ 13، 20، 21)، وابن حبان (2088). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) سورة الرحمن: آية 5. وانظر: تفسير ابن كثير (4/ 289). (¬4) في رواية جابر: مسلم (564)، وابن ماجه (3365)، وابن خزيمة (1668)، وابن حبان (1646)، وأبو عوانة (1/ 411)، والحميدي (1278)، وأحمد (3/ 374، 387، 397). ومن رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: مسلم (567، 1716)، والنسائي (2/ 43)، وابن ماجه (1014، 3363)، وأحمد (1/ 15، 26، 48، 49)، والبيهقي (3/ 78، 6/ 224)، وابن حبان (2091)، وابن خزيمة (1666). ومن رواية حذيفة: أبو داود (3824)، وابن خزيمة (1663)، وابن حبان (1443)، وابن أبي شيبة (8/ 208)، والبيهقي في السنن (3/ 76). (¬5) بين النسخ تقديم وتأخير.

[الثاني] (1): استحب [بعض] (¬2) [العلماء] (¬3): أن لا يخلي المائدة من شيء أخضر. فقد قيل: إنه ينفي الجان أو الشيطان. أو كما قال نقله أبو [عبد الله] (¬4) بن الحاج في مدخله (¬5)، وهذا ورد في حديث مرفوع من طريق أبي أمامة: "احضروا موائدكم البقل، فإنه مطردة للشيطان مع التسمية" (¬6). الثالث: قوله: "بقدر" [كما] (¬7) هو في صحيح مسلم وهو ما يطبخ فيه رواه البخاري وأبو داود وغيرهما "ببدر" -ببائين موحدتين-. قال العلماء كما نقله عنهم النووي (¬8) في شرحه: وهو الصواب. ¬

_ (ا) بين النسخ تقديم وتأخير. (¬2) في ن ب د (بعضهم). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) في الأصل (عبيد)، وما أثبت من ن ب د، وكشف الظنون. (¬5) المدخل لابن الحاج (1/ 230). والعبارة واستحب بعضهم أن لا يخلي المائدة من شيء أخضر بقل أو غيره. قال بعض الناس: فيه أنه ينفي الجان أو الشياطين ... إلخ. (¬6) تنزيه الشريعة (2/ 246)، والميزان (1/ 494)، واللآلئ المصنوعة (2/ 120)، وأخبار أصفهان (2/ 216)، ولسان الميزان (2/ 213)، والموضوعات لابن الجوزي (2/ 298)، والفوائد المجموعة (165). (¬7) في ن ب د (كذا). (¬8) شرح مسلم (5/ 50).

وفسره الرواة وأهل اللغة والغريب: بالطبق. قالوا: وسمي بدرًا لاستدارته كاستدارة البدر، واستبعدوا لفظة "القدر"، فإنها تشعر بالطبخ، وقد ورد الإِذن بأكل البقول المذكورة مطبوخة. وأما البدر: فلا يشعر كونها فيه مطبوخة، بل [يجوز أن تكون نيئة، فلا يعارض ذلك الإِذن في أكلها مطبوخة، بل] (¬1) ربما يدعى أن ظاهر كونها في الطبق أن تكون نيئة، ولو سلم أنه "بقدر" بالقاف فيكون معناه: أنها لم يمت الطبخ تلك الرائحة منها، فيبقى المعنى المكروه، فكأنها نيئة. الرابع: الضمير في "فيه" عائد على "القدر" المذكور في هذه الرواية، إذا قلنا: إنه مذكر، وهو لغة. وأما إذا قلنا: إنها مؤنثة فيكون الضمير عائد إلى الطعام الذي في القدر. وقوله: "فأخبر بما فيها من البقول"، دليل على أن "القدر" مؤنثة والضمير في "قربوها" يعود إلى البقول أو إلى الخضروات لكن عوده إلى البقول أولى لأنه أقرب. وقوله: "إلى بعض أصحابه" الظاهر أنه من كلام الراوي فتأمله. ووقع في شرح الشيخ تقي (¬2) في متن الحديث " [إلى ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطه. (¬2) إحكام الأحكام (2/ 512).

بعض] (¬1) أصحابي" بدل "أصحابه" ولا إشكال على هذه الرواية. الخامس: قوله - عليه الصلاة والسلام -: " [كُلْ] (¬2) " فيه دلالة على إباحة أكل الثوم والبصل ونحوهما، وهو حلال بإجماع من يعتد به. وحُكِي عن أهل الظاهر تحريمها، لأنها تمنع من حضور الجماعة، وهي عندهم فرض عين. وحجة الجمهور هذا الحديث وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "أيها الناس! إنه ليس بي تحريم ما أحل الله" (¬3). قلت: والنهي إنما هو الحضور مع الجماعة أو عن حضور المسجد فقط، ويلزم من إباحة أكلها ومنع حضور الجماعة والمساجد بسبب أكلها أن لا تكون الجماعة واجبة على الأعيان، لأن من لازم جواز أكلها ترك الصلاة جماعة في حق آكلها [] (¬4) ولازم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ب د. (¬3) البخاري في فرض الخمس، وفي المغازي، باب: غزوة خيبر، وفي الذبائح والصيد، باب: ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم، ومسلم (1772) في الجهاد والسير، باب: جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب، وفي باب: النهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها (565). (¬4) في فتح الباري (2/ 343)، زيادة (جائز).

الجائز جائز، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، وذلك ينافي الوجوب (¬1) عليه. فإن قلت: لا يمتنع أن يسقط المباح الفرضي كالسفر، فإنه يسقط الصوم وتقصر الصلاة. فجوابه: أن السفر لم يسقط ذلك جملة، وإنما نقله إلى بدل بخلاف ما نحن فيه، فإنه أسقط الجماعة لغير بدل. السادس: في الحديث دلالة على احترام الملائكة بمنع أذاهم من الروائح الكريهة ونحوها مما يؤذي. وقد اختلف أصحابنا في الثوم: هل كان حرامًا عليه - صلى الله عليه وسلم - أم كان تركه تنزيهًا كغيره؟ على وجهين: أصحهما: الثاني (¬2)، وهو ظاهر الأحاديث ومن قال: بالتحريم قال: المراد بقوله: "ليس بي تحريم ما أحل الله" بالنسبة إلى أمته فيما أحل لها لا بالنسبة إليه. ¬

_ (¬1) قال سماحة الشيخ ابن باز -حفظه الله- في تعليقه على فتح الباري (2/ 343): ليس هذا التقرير بجيد، والصواب أن إباحة أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لا ينافي كون الجماعة فرض عين، كما أن حضور الطعام يسوغ ترك الجماعة لمن قدم بين يديه -أي الطعام- مع كون ذلك مباحًا، وخلاصة الكلام أن الله -سبحانه- يسر على عباده، وجعل مثل هذه المباحات عذرًا في ترك الجماعة لمصلحة شرعية، فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلة لترك الجماعة حرم عليه ذلك، والله أعلم. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (2/ 344): والراجح الحل لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس بمحرم، كما تقدم من حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة.

السابع: فيه احترام الناس أيضًا بمنع أذاهم بالروائح [الكريهة ونحوها مما يؤذي] (¬1) فيعتزل الجماعة والمساجد من أكلها، ويلزم الكريهة بيته. وكل المساجد في ذلك سواء، وهو مذهب العلماء كافة، وحُكِي عن بعض العلماء: أن النهي خاص بمسجده - صلى الله عليه وسلم - لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا" وأكد ذلك بأن مسجده كان مهبط الوحي والصحيح عمومه لرواية مسلم: "فلا يقربن المساجد" فيكون قوله - عليه الصلاة والسلام -: "مسجدنا" للجنس (¬2) أو لضرب المثال، لأنه معلل [بتساوي] (¬3) الناس أو الملائكة الحاضرين، وذلك قد يكون موجودًا في المساجد كلها. الثامن: نص في هذا الحديث على الثوم والبصل وفي الحديث الذي بعده على الكراث، وألحق العلماء [بها] (¬4) كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، ولعل تخصيص هذه الأشياء بالذكر كثرة أكلهم لها. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) الصحيح عموم المساجد لأن حديث أبي سعيد عند مسلم دال على أن القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر فعلى هذا فقوله: "مسجدنا" يريد به المكان الذي أعد ليصلي فيه مدة إقامته هناك أو المراد المسجد الجنس، والإِضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين. اهـ، من الفتح (2/ 340). (¬3) في ن ب (بتأذي). (¬4) في الأصل (به)، وما أثبت من ن ب د.

قال القاضي عياض: ويلحق [بها] (¬1) من أكل فجلًا، وكان يتجشى، كذا نقله عنه النووي، وأقره، واستفد أنت أن ذكر الفجل ورد منصوصًا عليه في الحديث أيضًا. أخرجه الطبراني (¬2) في أصغر معاجمه، وقد أوضحت الكلام عليه في "تخريج أحاديث المنهاج" و"شرحه". وقال ابن المرابط (¬3): يلتحق بها من في فيه بخرٌ أو به جرح له رائحة. قال المازري (¬4): وألحق الفقهاء بالروائح أصحاب الصنائع: كالقصاب والسماك. قلت: ومن باب [أولى] (¬5) المجذوم والأبرص في ذلك، لأن التأذي بهما أشد [قلت] (¬6): تفقهًا (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل (به)، وما أثبت من ن ب د. انظر: إكمال إكمال المعلم (2/ 256). (¬2) الطبراني في الصغير (1/ 22). قال ابن حجر في الفتح (2/ 344): في إسناده يحيى بن راشد، وهو ضعيف. وذكره في مجمع الزوائد (2/ 17)، وكنز العمال (40928). (¬3) انظر: شرح مسلم (5/ 48، 50). (¬4) المعلم بفوائد مسلم (1/ 416). (¬5) في ن ب ساقطة، والكلمة التي بعدها غير واضحة. (¬6) في ن ب (قتله)، وفي ن د (قلته). (¬7) قال ابن حجر في الفتح (2/ 344): بعد ذكر هذه الأشياء نقلًا عن ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي.

[التاسع] (¬1): قاس العلماء على المساجد: مجامع [الصلاة] (¬2) في غيرها: كمصلى العيد [والجنائز] (¬3) ونحوهما من مجامع العبادات، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها (¬4)، ولا يلتحق بذلك الأسواق ونحوها. وقسم صاحب القبس (¬5) المساجد إلى ضربين: محيطة غير مبنية: كمصلى العيد ومصلى المسافرين إذا نزلوا، ومحيطة مبنية كسائر المساجد. قال: والنهي إنما يتعلق بالمبنية. قال المازري (¬6): قالوا: ويمتنع الدخول بهذه الروائح المسجد، وإن كان خاليًا لأنه محل الملائكة. [العاشر] (¬7): قد يستدل بالحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة. قال الشيخ تقي الدين (¬8): وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها، فلا ¬

_ (¬1) في الأصل ون ب (السابع)، وما أثبت من ن د. (¬2) في الأصل (العلماء)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في الأصل (والمساجد بجنائز)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بإخراج من وجدت منه الرائحة إلى البقيع، كما في حديث عمر بن الخطاب الذي أخرجه مسلم وغيره. انظر: ت (4) ص (405). (¬5) القبس شرح موطأ مالك بن أنس (1/ 114). (¬6) المعلم بفوائد مسلم (1/ 417). (¬7) في ن ب د (العاشر) ... الخ. (¬8) إحكام الأحكام (2/ 515).

يقتضي ذلك أن يكون عذرًا في تركها، إلَّا أن يدعو إلى [أكلها] (¬1) ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه، فإن ذلك [ينافي] (¬2) الزجر (¬3). الحادي عشر (¬4): ينبغي إذا كان معذورًا لأكل ما له ريح كريه للعدم ونحوه أن يعذر في حضوره المسجد. وقد قال الإِمام أبو حاتم بن حبان من أصحابنا في صحيحه (¬5): ذكر إسقاط الحرج عن آكل ما وصفنا نيئًا مع شهوده الجماعة إذا كان معذورًا من علة [يداوى] (¬6) بها. ثم ذكر بإسناده إلى المغيرة بن شعبة قال: أكلت ثومًا ثم أتيت مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته قد سبقني بركعة، فلما قمت أقضي وجد ريح الثوم، فقال: "من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها". قال المغيرة: فلما قضيت ¬

_ (¬1) في الأصل (تركها)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) في ن ب (يبقى)، ون د (ينفى). (¬3) قال في فتح الباري (2/ 343): ويمكن حمله على حالتين، والفرق بينهما أن الزجر وقع في حق من أراد إتيان المسجد، والإِذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك، والمسجد النبوي -أي في حالة الأمر بالتقريب إلى بعض أصحابه- لم يكن إذ ذاك بني. اهـ. وهذا منه -رحمه الله- جمع بين النهي عن أكله، والأمر بتقريبه إلى أصحابه. (¬4) في الأصل (التاسع عشر). (¬5) ابن حبان (5/ 449) بعد ذكر الأعذار المسقطة عن حضور الجماعة. (¬6) في ن ب د (تداوى).

الصلاة أتيته فقلت: يا رسول الله إنّ لي عذرًا، فناولني يدك. قال: فناولني، فوجدته والله سهلًا، فأدخلتها في كمي إلى صدري، فوجده معصوبًا. فقال: "إن لك عذرًا". وأخرجه أبو داود (¬1) في الأطعمة من سننه، وأعله المنذري بأبي هلال محمد بن سليم الراسبي. وقال: [تكلم] (¬2) فيه غير واحد (¬3). قلت: لكنه صدوق. وروى أبو نعيم عن المغيرة أيضًا قال: قلت: يا رسول الله! نهينا عن طعام كان لنا نافعًا. قال: "وما هو؟ " قلت: الثوم. قال: "وما كنتم تجدون من منفعته" قلت: كان ينفع صدورنا وظهورنا. قال: "فمن أكله منكم فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها منه" (¬4). الثاني عشر: استدل بعضهم بهذا الحديث على أن من يتكلم في الناس ويؤذيهم بلسانه في المسجد أنه يخرج منه ويبعد، ذكره القرطبي في تفسيره. ¬

_ (¬1) أبو داود (3826) في الأطعمة، باب: في أكل الثوم، وابن حبان (2095)، وابن خزيمة (1672)، والبيهقي (3/ 77)، والطحاوي (4/ 238)، وأحمد (4/ 252)، ر الطبراني (20/ 1003، 1004)، وابن أبي شيبة (2/ 510، 8/ 303). (¬2) في ن ب (متكلم). (¬3) مختصر السنن للمنذري (5/ 330). (¬4) لم أقف عليه وقد بعثت في كتب أبي نعيم: حلية الأولياء، تاريخ أصبهان، والمخطوط من معرفة الصحابة، وكتاب الطب له. وعندي منهما صور.

الثالث عشر: في الحديث الأمر بالقعود في البيت عند وجود الأذى واعتزال الناس للكف عن أذاهم. الرابع عشر: فيه دليل كما [قاله] (¬1) القاضى: على أن إتيان الجماعة للآحاد على الدوام ليس بفرض، وإن كانت إقامتها بالجملة متعينة لأن إحياء السنن الظاهرة فرض أي فرض كفاية. الخامس عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإني أناجي من لا تناجي" أي أسارر من لا تسارر، وانتجى القوم وتناجوا: تسارروا [وانتجيته إذا خصصته بمناجاتك. والاسم النجوى والنجى، على فعيل الذي تساره] (¬2)، والجمع: الأنجية. قال الأخفش (¬3): [وقد يكون النجي جماعة مثل الصديق. قال تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا} (¬4) [و] (¬5) قال الفراء (¬6)] (¬7): وقد تكون النجِيّ والنَجْوَى اسمًا ومصدرًا. ¬

_ (¬1) في ن د (قال). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) معاني القرآن (367)، وطبعة أخرى (592). (¬4) سورة يوسف: آية 80. (¬5) زيادة من ن د. (¬6) معاني القرآن (2/ 169)، وانظر: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ لابن السمين (563، 564). (¬7) في ن ب ساقطة.

السادس عشر: قال صاحب "الإِكمال": قال أبو القاسم بن أبي صفرة في قوله: "أناجي من لا تناجي"، دليل على أن الملائكة أفضل من بني آدم (¬1). قال القاضي (¬2): ولا دليل فيه لا سيما على رواية "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" فقد ساوى بينهم. السابع عشر: حكم رحبة المسجد حكمه لأنها منه، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد [ريحها] (¬3) من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع إبعادًا له عن المسجد ورحبته (¬4). الثامن عشر: قال صاحب (الإِكمال) (¬5): لو أن جماعة مسجد كلهم وجدت الروائح الكريهة منهم، لا يخالطهم في مسجدهم غيرهم لم يمنعوا منه بخلاف ما لو كان معهم غيرهم ممن يتأذى منهم بذلك. قلت: فيه نظر لأجل احترام الملائكة. وقد روى الترمذي ¬

_ (¬1) سبق هذا المبحث وللاطلاع في التفضيل بين الملائكة وصالحي البشر. انظر: بدائع الفوائد (3/ 197)، طبع مكتبة القاهرة، وفتاوى ابن تيمية (4/ 350، 392)، والاختيارات الفقهة (113). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 256). (¬3) في ن ب (ريحًا). (¬4) انظر التعليق (1) ص (405)، وت (2) ص (409). (¬5) هو سليمان بن مظفر بن غنائم بن عبد الكريم، أبو داود الجيلى، مات في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وستمائة عن نيفٍ وستين سنة. ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي (8/ 148)، وطبقات ابن شهبة (2/ 72).

الحكيم [بعد] (¬1) ". فلا يقربن مسجدنا" قيل: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خاليًا، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى به ابن آدم" (¬2) ومن هذا يؤخذ الكراهة فيما إذا صلى فيه وحده (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) اللفظة الأخيرة من الحديث أخرجها مسلم (564)، والحيدي (1299)، وابن خزيمة (1668)، وأبو يعلى (2321)، وابن ماجه (3365)، وابن حبان (2086)، والبيهقي (3/ 76)، وأحمد (3/ 387). (¬3) انظر: شرح ثلاثيات أحمد للسفاريني (2/ 333).

الحديث التاسع

الحديث التاسع 120/ 9/ 21 - عن جابر - رضي الله عنه -[أن] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬2). هذا الحديث كذا هو في محفوظنا، وأورده الشيخ تقي الدين (¬3) بلفظ: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإِنسان"، وفي رواية: "بنو آدم"، وتبعه الشراح على ذلك: كابن العطار والفاكهي. ثم الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في ن ب (عن). (¬2) مسلم (564)، وابن ماجه (3365)، والحميدي (1299)، وابن خزيمة (1668)، وأبو يعلى (2226، 2321)، وأحمد (3/ 374، 387، 397)، والبيهقي (3/ 76)، ومعاني الآثار (4/ 240)، والطبراني في الصغير (37)، وابن حبان (1644، 2086)، والترمذي (1806)، والنسائي (2/ 43). (¬3) إحكام الأحكام (2/ 516).

الأول: في هذا الحديث زيادة الكراث [وهو] (¬1) في معنى ما سلف، لأن العلة تشمله، وقد قدمنا أن الحكم تعدى إلى كل ماله رائحة كريهة. الثاني: تقدم التوسع بالمسجد إلى سائر المجامع خلا الأسواق ونحوها (¬2). الثالث: ليس المراد بالملائكة: الحفظة، لأنه لو كان مرادًا لامتنع أكل ذلك مطلقًا، وهو خلاف مذهب الجمهور كما سلف، نعم في الحديث تنبيه على كراهة أكلها مطلقًا أو في مواضع حضور الملائكة. الرابع: علل في هذا الحديث بتأذي الملائكة، وفي حديث آخر: "بتأذي بني آدم". قال الشيخ تقي الدين (¬3): والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة. وقال صاحب "القبس" (¬4): علله الشارع بثلاث علل بهاتين والثالثة: "لا يقربن مسجدنا" وذكر الصفة في الحكم وهي المسجد به يدل على التعليل، وفيه تنبيه على مسألة ¬

_ (¬1) في ن ب (وهي). (¬2) علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين، فإن كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلَّا لعم النهي كل مجمع كالأسراق، ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم: "من أكل من هذه الشجرة شيئًا فلا يقربنا في المسجد". اهـ، من فتح الباري (2/ 343). (¬3) إحكام الأحكام (2/ 517). (¬4) القبس (1/ 112).

أصولية، وهي جواز تعليل الحكم الواحد بعلل مستقلة وفيه خلاف بين أهل الأصول. قال: بخلاف العلل الفعلية، فإن الحكم لا يعلل فيها إلَّا بعلة واحدة. الخامس: قوله: "تتأذى مما يتأذى" هو بتشديد الذال فيهما. قال النووي (¬1): وهو ظاهر، ووقع في أكثر أصول مسلم تأذى مما يتأذى بتخفيف الذال فيها، وهو لغة يقال: أذى تأذى: كعمى يعمى. ومعناه تأذى. السادس: قال العلماء: في هذا الحديث دليل على منع من أكل الثوم ونحوه من دخول المسجد، وإن كان خاليًا لأنه محل الملائكة. السابع: هذا كله ما دامت هذه البقول غير مطبوخة، كما أسلفته في الحديث قبله. قال عمر - رضي الله عنه -: فمن أكلهما فليمتهما طبخًا، [والله أعلم] (¬2). ¬

_ (¬1) شرح مسلم (5/ 49). (¬2) زيادة من ب د.

22 - باب التشهد

22 - باب التشهد هو تفعل من تشهد: كالتعلم من تعلم، سمي تشهدًا لاشتماله على [الشهادتين] (¬1) تغليبا له على بقية أذكاره، لكونهما أشرف أذكاره، كما سميت الصلاة: سبحةً، أو ركوعًا، أو سجودًا: بأشرف ما فيها، وهو التسبيح أو الركوع أو السجود، فإنهما لما كانا غاية في الخضوع سميت به، وإن كان أحدهما أبلغ من الآخر، وإن كان التسبيح من حيث ذاته أفضل منهما، والسجود أفضل من الركوع، والقيام أفضل منهما عندنا، والأصل في مشروعيته ما صحَّ من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كنا نقول قيل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله" الحديث رواه الدارقطني (¬2) والبيهقي (¬3) ¬

_ (¬1) في ن ب (الشهادة). (¬2) الدارقطني (133، 134). (¬3) البيهقي (2/ 138)، والنسائي (2/ 240)، وأصله في الصحيحين دون قوله: "قبل أن يفرض".

[وقالا] (¬1): إسناده صحيح [وذكر] (¬2) المصنف [رحمه الله] (¬3) في الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) في ن ب (وقال). (¬2) في ن ب (وذكره). (¬3) زيادة من ن ب د.

الحديث الأول

الحديث الأول 121/ 1/ 22 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وفي لفظ: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: "التحيات [لله] (¬1) "، وذكره وفيه: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض"، وفيه: "فليتخير من المسألة ما شاء" (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (831، 835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381)، ومسلم (402) (59)، والنسائي (2/ 241)، وابن ماجه (899)، وأبو داود (968) في الصلاة، باب: التشهد، وأبو عوانة (2/ 228، 229)، والبيهقي (2/ 138، 153)، وأحمد (1/ 382، 427، 413، 431)، والدارمي (1/ 308)، وابن الجارود (205)، وابن حبان =

الكلام عليه من سبعة وعشرين وجهًا: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب المواقيت. الثاني: التشهد تقدم الدلالة عليه قريبًا. الثالث: الكف [] (¬1) مؤنثة، وورد في الشعر تذكيرها، وهو ضرورة. الرابع: السورة بالهمز، وتركه أشهر وأصح. الخامس: "التحيات" جمع: تحية، وهي الملك الحقيقي التام. وقيل: البقاء الدائم. وقيل: العظمة الكاملة. وقيل: السلامة، أي من الآفات وجميع وجوه النقص. وقيل: الحياء، حكاه القاضي عياض في "تنبيهاته". وقيل: السلام، قال -تعالى-: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} (¬2)، أي سلم عليكم، أي التحيات التي تعظم بها الملوك مثلًا كلها مستحقة لله ¬

_ = (1948، 1949، 1950، 1951)، وابن أبي شيبة (1/ 292)، والبغوي (678). وانظر التعليق (2) ص (45) من حديث عائشة (2)، باب: صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) في ن ب زيادة (عن)، ولا وجه لها. (¬2) سورة النساء: آية 86.

-تعالى-، ويجوز أن يكون لفظ التحية (¬1) مشتركًا بين هذه المعاني، كما أبداه المحب الطبري في "أحكامه"، قال: وكونها بمعنى السلام أنسب هنا وأمس. قال ابن قتيبة (¬2): إنما جمعت التحيات لأن كل واحد من ملوكهم كان له تحية يُحيَّى بها فقيل لنا: قولوا: التحيات، أي الألفاظ الدالة على الملك مستحقة لله -تعالى-. وقال القاضي عياض في (تنبيهاته): سمعت شيخنا [أبا] (¬3) إسحاق الفقيه ابن جعفر يقول: إنما جمعت التحيات هنا لأنها تجمع معاني التحية من الملك، والبقاء، والسلام، [والعظمة] (¬4). وقوله: "لله"، أي الألفاظ الدالة على الملك مستحقة لله -تعالى- وحده. قال البغوي في (شرح السنَّة) (¬5): لأن شيئًا مما كانوا يحيون به الملوك لا يصلح للثناء على الله -تعالى-. وقال القرطبي (¬6): فيه تنبيه على الإِخلاص في العبادات: أي ¬

_ (¬1) انظر التعليق ت (2)، ص (43) من حديث عائشة (2) - رضي الله عنها -، باب: صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ذكره في شرح السنة (3/ 181). (¬3) في ن ب (أبي). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) شرح السنة (3/ 182). (¬6) المفهم (2/ 784).

ذلك لا يفعل إلَّا لله -تعالى- ويجوز أن يراد به الاعتراف، بأن ملك ذلك كله لله. قلت: وما أحسن قول الشاعر هنا: إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وإن سرت الألفاظ يومًا بمدحة ... لغيرك إنسانًا فأنت الذي تعني السادس: الواو في قوله: "والصلوات" تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون حينئذٍ كل جملة ثناء مستقلًا وهو أبلغ. السابع: "الصلوات" فيها أقوال: أحدها: أنها الخمس، قاله ابن المنذر وآخرون: ويكون التقدير: أنها واجبة لله -تعالى- لا يجوز أن يقصد بها غيره، أو تكون [كالإِخبار] (¬1) عن إخلاصنا الصلوات له، أي صلاتنا مخلصة [لله] (¬2) لا لغيره [[ومنهم من قال: هي كل الصلوات] (¬3). ثانيها: أنها الرحمة، أي هو المتفضل بها والمعطي لها، لأن الرحمة التامة لله لا لغيره] (¬4)، وقرر بعض المتكلمين هذا المعنى بأن قال: كل من رحم أحدًا فرحمته له بسبب ما حصل له من الرقة عليه، وهو برحمته دافع لألم الرقة عن نفسه بخلاف رحمة الله -تعالى- فإنها لمجرد إيصال النفع إلى العبد (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب د (ذلك أخبارًا). (¬2) في ن ب د (له). (¬3) في ن د ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) سبق وأن تكلمت على إثبات صفة الرحمة لله -عز وجل-، فيراجع.

ثالنها: أنها الأدعية والتضرع. رابعها: أنها العبادات، قاله الأزهري (¬1). [الثامن] (¬2): "الطيبات"، أي الكلمات الطيبات، وهي ذكر الله، قاله الأكثرون. وقيل: الأعمال الصالحات، وهو أعم من الأول لاشتماله على الأقوال والأفعال والأوصاف، وطيب الأوصاف، كونها بصفة الكمال وخلوصها عن شوائب النقص، وقال القرطبي (¬3): هي الأقوال الصالحة: كالأذكار والدعوات وما شاكل ذلك، كما قال -تعالى-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (¬4). فائدة: الطيب إن وُصف به الكلام: فالحسن، أو العمل: فالخالص من شوائب النقص، أو المال: فالحلال، أو الطعام: فاللذيذ، أو الصعيد: فالطاهر، أو العباد: فالمؤمن، قال -تعالى-: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (¬5). التاسع: "السلام"، قيل: معناه التعوذ باسم الله الذي هو السلام، والتحصين به -سبحانه وتعالى-، كما يقول: الله معك، أي الله متوليك وكفيل بك، أي باللطف والحفظ والمعونة. ¬

_ (¬1) في الزاهر (65). (¬2) في الأصل (الخامس)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) المفهم (2/ 784). (¬4) سورة فاطر: آية 10. (¬5) سورة النور: آية 26.

وقيل: معناه السلامة والنجاة لكم، كما في قوله -تعالى-: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} (¬1)، وقيل: معناه الانقياد لك كما في قوله- تعالى -: {فَلَا وَرَبِّكَ} إلى قوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2)، وليس يخلو بعض هذا من ضعف لأنه لا يتعدى السلام لبعض هذه المعاني بكلمة على، وكذلك [قيل] (¬3) في: معنى السلام آخر الصلاة الذي هو تحليل منها. وقال الشيخ [عز] (¬4) الدين في "مقاصده": قيل: هو مصدر سلَّم يسلِّم سلامًا. وقيل: هو جمع سلامه كلامه وملام، فهو دعاء بالسلامة (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الواقعة: آية 91. (¬2) سورة النساء: آية 65. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في ن ب (غرر). (¬5) قال ابن حجر في الفتح (2/ 312): قال البيضاوي ما حاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر التسليم على الله، وبين أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها، وقال التوربشتي: وجه النهي عن السلام على الله لأنه المرجوع إليه بالمسائل المتعالي عن المعاني المذكورة، فكيف يدعى له، وهو المدعو على الحالات. وقال الخطابي: المراد أن الله هو: ذو السلام، فلا تقولوا: السلام على الله، فإن السلام منه بدأ وإليه يعود، ومرجع الأمر في إضافته إليه أنه ذو السلام من كل آفة وعيب، ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حظ العبد فيما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك، وقال الثوري: معناه أن السلام من أسماء الله -تعالى-، يعني السالم من النقائص، ويقال: =

فائدة: قال العزيزي (¬1): السلام على أربعة أوجه: السلام: الله، كقوله -تعالى-: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} (¬2). والسلام السلام، كقوله -تعالى-: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬3)، أي دار السلامة، وهي الجنة. السلام: التسليم، يقال: سلمت عليه سلامًا: أي تسليمًا. والسلام: شجر عظام، واحدتها سلامة. فائدة ثانية: قال الخطابي في (غريبه) (¬4): في التسليم لغتان: سلام عليكم، والسلام عليكم. ووقوع الألف واللام فيه بمعنى التفخيم، ثم قال: وفيه لغة ثالثة. قال الفراء: العرب تقول: [يسلم] (¬5) [عليكم] (¬6) بمعنى: ¬

_ = المسلم أولياء وقيل: المسلم عليهم، قال ابن الأنباري: أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة، وغناه -سبحانه وتعالى- عنها. اهـ. وقال في تيسير العزيز الحميد (583): والله هو المطلوب لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض، استحال أن يسلم عليه -سبحانه وتعالى-، بل هو المسلم على عباده، كما قال -تعالى-: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}. (¬1) نزهة القلوب (106، 107). انظر: عمدة الحفاظ (247، 249). (¬2) سورة الحشر: آية 23. (¬3) سورة الأنعام: آية 127. (¬4) غريب الحديث (1/ 694). (¬5) في ن ب (يسلم). (¬6) زيادة من ن ب.

سلام، كما قالوا: حلّ وحلال، وحرّم وحرام، قال: وكانوا [يستحبون] (¬1) أن يقولوا في أول الكتاب: سلام عليكم بمعنى: التحية، وفي آخره: السلام [عليكم] (¬2) بمعنى: الوداع (¬3). فائدة ثالثة: في هذا الحديث من أصول الفقه: أن عطف العام على الخاص لا يقتضي أن المراد بالعام ذلك الخاص المتقدم، بل يحمل الأول على التشريف والاهتمام به، كما لو تقدم العام وعطف عليه الخاص، وفيه خلاف حكاه القاضي عبد الوهاب، ووجه الاستدلال قوله: (¬4) (السلام عليك)، (السلام علينا)، وهما خاص، ثم عطف، ويؤخذ من ذلك أيضًا تفضيله - عليه الصلاة والسلام - على جميع الخلق لتخصيصه بالسلام، ثم التعميم له ولغيره، ولا شك في ذلك، وهو [ما قرره] (¬5) القرطبي (¬6) في (تفسير) قوله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (¬7). ¬

_ (¬1) في ن ب (يستفتحون). (¬2) في ن ب د (عليك). (¬3) غريب الخطابي (1/ 694). قال ابن قتيبة في أدب الكاتب (202)، وتكتب في صدر الكتاب سلام عليك وفي آخره السلام عليك لأن الشيء إذا بدىء بذكره كان نكرة، فإذا عدته صار معرفة. (¬4) في ن ب زيادة (عليه). (¬5) في ن ب (ما قدره). (¬6) تفسير القرظبي (11/ 350). (¬7) سورة الأنبياء: آية 107.

العاشر: قوله: "أيها النبي" الأصل، "يا أيها النبي"!، فحذف حرف النداء وهو لا يحذف إلَّا في أربعة مواضع: العلم: نحو [قوله]-تعالى-: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (¬1). والمضاف: نحو [قوله] (¬2) -تعالى-: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} (¬3) ومن نحو قولهم: من لا يزال محسنًا أحسن. "وأي" نحو أيها النبي، وأيها الناس، وما أشبه ذلك. الحادي عشر: "النبيُ" بالهمز (¬4) وتركه، كما أوضحته في شرح الخطبة، فراجعه منه. فإن قلت: لِمَ لَم يقل أيها الرسول؟ فالجواب: أنه أثبت له الرسالة بعد، فقصد الجمع بين الصفتين وإن كانت الرسالة تلازم النبوة، لكن التصريح بها أبلغ في الكمال، وقدم ذكر النبوة على الرسالة لوجودها كذلك في الخارج، قال الله -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} (¬5)، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (¬6). قال الخطابي في (أعلامه) في حديث: "آمنت بكتابك الذي ¬

_ (¬1) سورة يوسف: آية 29. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة البقرة آية 286. (¬4) أي النبىء. (¬5) سورة العلق: آية 1. (¬6) سورة المدثر آيتان 1، 2.

أنزلت"، لو قال: " [و] (¬1) برسولك الذي أرسلت" لكان تكرارًا، إذ كان نبيًّا قبل أن يكون رسولًا، فجمع له النبأ بالاسمين جميعًا. الثاني عشر: قوله: "ورحمة الله وبركاته"، الأظهر أن المراد بالرحمة نفس الإِحسان، ويحتمل أن يريد إرادة الإحسان بمعنى الإِخبار عن سبق علمه في إرادته لكن المراد الدعاء [له] (¬2) بالرحمة والدعاء، إنما يتعلق بالممكن وهو نفس الإِحسان لا الإِرادة لأنها قديمة (¬3). و"البركات" جمع بركة، وهي النماء والزيادة من الخير، ويقال: البركة جماع كل خير. الثالث عشر: "عباد [الله] " (¬4) جمع: عبد، وله جموع جمعها ابن مالك في بيتين (¬5)، وقد ذكرتهما عنه في أول (شرح ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سبق وأن بينت وجوب وصف الله -سبحانه- بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله بدون تكييف أو تمثيل أو تعطيل أو تشبيه. (¬4) في الأصل ساقطة. (¬5) ذكره السيوطي عنه في عقود الجمان (2) عبد: في الأصل وصف غلبت عليه الاسمية وله عشرون جمعًا نظمه ابن مالك أحد عشر في بيتين واستدركت عليه الباقي في آخرين. قال ابن مالك: عباد عبيد جمع عبد واعبد ... أعابد معبوداء معبدة عبد كذاك عبدّان عبدان أثبتا ... كذلك العبدّي وامدد إن شئت أن تمد وقلت: وقد زيد اعباد عبود عبدّة ... وخفف بفتح والعبدّان إن تشد واعبدة عبدون ثمة بعدها ... عبيدون معبودًا بقصر فخذ تسد

خطبة المنهاج)، فراجعها منه. والعبودية: أشرف أوصاف العبد، وبها نعت الله -تعالى- نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى مقاماته في الدنيا، وهو الإِسراء في بدايته ونهايته، حيث قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (¬1)، فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. الرابع عشر: نعت عباده بالصالحين ليخرج غيرهم، وخص الأول بذلك لأنه [كلام] (¬2) ثناء وتعظيم، فيؤخذ منه أن مفهوم الصفة حجة. قال جماعة: والصالح هو القائم بحقوق الله -تعالى- وحقوق العباد الواجبة عليهم. فائدتان: الأولى: قال الترمذي الحكيم: من أراد أن يحظى من هذا السلام الذي يسلم الخلق في صلاتهم، فليكن عبدًا صالحًا. الثانية: ينبغي للمصلي أن يستحضر عند ذكر ذلك جميع عباد الله من الأنبياء والملائكة وجميع المؤمنين، وعند سلامه على النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون كأنه مشاهدًا له، حاضر بن يديه - صلى الله عليه وسلم -، نبَّه عليه الفاكهي -رحمه الله-. فائدة ثالثة: قال القفال الشاشي: "ترك الصلاة يضر بجميع ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: آية 1. (¬2) في ن ب ساقطة.

المسلمين، لأنه يقول: اللَّهم اغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، ولابدَّ من قوله: سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون مقصرًا في خدمة الخالق، وفي حق رسوله بترك الصلاة عليه، وفي حق نفسه بترك مسألة النعمة والمغفرة، وفي حق كافة المسلمين، فيعم الفساد، ولذلك عظمت المعصية" نقلته من فتاوى القفال المروي عنه. [الخامس عشر] (¬1): يتعلق بتفسير الصالح الذي قدمته، قال إمام الحرمين في كلامه على الكفاءة في النكاح: الصالحون هم المرموقون بالصلاح المشهورون [به] (¬2)، بحيث ينتصبون أعلامًا في التقوى، ولا ينسون على ناسخ الدهر فيها، ولا هم الذين تشرف الأنساب بالاعتزا (¬3) إليهم، فأما الذين [لا يبلغون] (¬4) هذا المبلغ، فلا تتأثر الأنساب بالانتماء إليهم. [السادس عشر] (¬5): قوله: "وعلى عباد الله الصالحين" لفظ عموم، ففيه دلالة على أن جمع التكسير للعموم، وقد دل عليه، قوله: " [أصابت] (¬6) كل عبدٍ صالح في السماء والأرض"، وقد ¬

_ (¬1) في ن ب د (تنبيه). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) الاعتزاء: الانتساب. قال في ترتيب القاموس (3/ 230) عزاه إلى أبيه نسبه إليه. اهـ. (¬4) في ن ب د (لا يتلقون). (¬5) في ن ب د (الخامس عشر) ... إلخ الأوجه. (¬6) في ن ب (أصبت).

كانوا يقولون: السلام على الله، السلام على فلان، كما قدمته حتى علموا هذا اللفظ. السابع عشر: في قوله: [أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض] (¬1) دليل على أن للعموم [صيغ] (¬2) وأن هذه الصيغة وهي "كل" للعموم، كما هو مذهب الفقهاء خلافًا لمن توقف في ذلك من الأصوليين، وهو مقطوع به في لسان العرب، وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة، ومن تبع ذلك وجده. فائدة: لما خص الله نبيه - عليه أفضل الصلاة والسلام - ليلة الإِسراء بكلمات أربع هي: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته. أعطى منها سهمًا لإِخوانه الأنبياء، وسهمًا لأمته، وسهمًا للملائكة، وسهمًا لصالحي الجن، بقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لأنه يعمهم. وقال الشيخ عز الدين في "مقاصد الصلاة": بدأ أولًا بالثناء على الله، لأنه الأهم المقدم، ثم بالسلام على النبي، لأنه الأهم بعد الثناء على الله، ثم ثلث بنفسه لقوله - عليه الصلاة والسلام-: ابدأ بنفسك، ثم ختم بعباده الصالحين، وهذا قول نوح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬3)، [فبدأ بالثناء على الله بالربوبية، ثم بالمغفرة ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب د (صيغة). (¬3) سورة نوح: آية 28.

لنفسه، ثم لوالديه، ثم للمؤمنين من معارفه، ثم لسائر المؤمنين والمؤمنات] (¬1)، ثم اعترف بأنه لا معبود إلَّا الله تحقيقًا للإِيمان، ثم بالرسالة تحقيقًا للإِسلام. الثامن عشر: قوله: "أشهد" إلى آخره، إنما أتى بلفظ الشهادة دون لفظ العلم واليقين، لأنه [أفضل] (¬2) وأبلغ في معنى العلم واليقين، وأظهر من حيث أنه شهود، وهو مستعمل في ظواهر الأشياء وبواطنها، بخلاف العلم واليقين، فإنهما يستعملان في البواطن غالبًا دون الظواهر، ولهذا قال الفقهاء: لا يصح أداء الشهادة عند الحاكم بلفظ دون الشهادة، فلو قال: أعلم أو أوقن بكذا لم يصح. فائدة: الشهادتان كلمتان جامعتان جعلهما الله -تعالى- شهادة واحدة، فقد شهد أنه لا إله إلَّا هو والملائكة وأولوا العلم، ثم كتب على جبهة العرش: لا إله إلَّا الله محمد رسول الله، وجعلهما مبتدأ اللوح فهذه منك شهادة يواطىء مبتدأ اللوح، وما على جبهة العرش، قاله الحكيم الترمذي. فائدة ثانية: روى مالك (¬3) في موطئه في تشهد عائشة: أشهد ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، والزيادة من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) الموطأ (1/ 91)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 315): على قوله: "وأشهد أن لا إله إلَّا الله"، زاد ابن أبي شيبة من رواية عبيدة عن أبيه: "وحده لا شريك له"، وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ، وفي =

أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وهو تأكيد للنفي. فائدة ثالثة: سمي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - به لكثرة خصاله المحمودة. التاسع عشر: [قوله: فليختر من المسألة ما شاء، فيه دليل على شرعية الدعاء آخر الصلاة قبل السلام، والدعاء بالسلام على الأنبياء والصالحين. [العشرون] (¬1): فيه أيضًا أنه يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا ما لم يكن إثمًا، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلَّا الدعوات الواردة في القرآن والسنة عملًا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين" (¬2)، واستثنى بعض الشافعية بعض صور من الدعاء بقبح، كما لو قال: اللهم اعطني امرأة صفتها كذا وكذا، وأخذ بذكر أوصاف أعضائها. ¬

_ = حديث ابن عمر عند الدارقطني إلَّا أن سنده ضعيف. وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التشهد "أشهد أنه لا إله إلَّا الله"، قال ابن عمر: زدت فيها: "وحده لا شريك له"، وهذا ظاهره الوقف. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) مسلم (537، 1748)، وأبو داود (930) في الصلاة، باب: تشميت العاطس (12/ 32) في الإِيمان والنذور، والنسائي (3/ 14)، والموطأ (3/ 5، 6) في العتق والولاء، والبيهقي (2/ 249، 250) (10/ 57)، وابن حبان (165، 2247، 2248)، وابن الجارود (212)، والطبراني في الكبير (19/ 938).

وقال ابن شعبان المالكي ما معناه: أنه إن ابتدأ كلامه بنداء ليس بدعاء مثل قوله: يا فلان فعل الله به كذا، فقد أبطل صلاته قبل الشروع [في الدعاء] (¬1) بخلاف ما إذا ابتدأ بالدعاء ثم أتبعه النداء، قال ابن أبي زيد: ولم أعلم أحدًا من أصحابنا قاله غيره. وقال القاضي عياض: قوله - عليه الصلاة والسلام - للشيطان في الصلاة: "ألعنك بلعنة الله التامة، وأعوذ بالله منك" (¬2)، وهو في الصلاة دليل على الدعاء على غيره بصيغة المخاطبة، كما كانت الاستعاذة ها هنا بصيغة المخاطبة، خلافًا لما شهبة إليه ابن شعبان من إفساده الصلاة بذلك. قلت: ويتأول هذا الحديث أو يحمل على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة أو غيره أو غير ذلك. فائدة. محل الدعاء من الصلاة مواطن منها بين التشهد والتسليم، وسيأتي [ومنها دعاء الاستفتاح بين تكبيرة الإِحرام وقبل قراءة الفاتحة، وقد سلف] (¬3) ومنها الدعاء في الركوع والسجود وسيأتي، ومنها الدعاء [في الجلوس] (¬4) بين السجدتين، وحديثه مشهور، ومنها الدعاء في تلاوته فيها، وهو إذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوَّذ. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) مسلم (542). وانظر: شرح النووي. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب د.

وذكر صاحب (البيان والتقريب): أنه يكره الدعاء عندهم في ستة مواضع: بعد [الإِحرام] (¬1) وقبل القراءة، وفي الركوع (¬2)، وفي الجلوس قبل التشهد، وفي أثناء الجلوس الأول على المشهور، وفي أثناء الفاتحة أو السورة (¬3). الحادي والعشرون: فيه الأمر بالتشهد، وقد اختلف العلماء في وجوبه، كما سلف إيضاحه في الحديث الثاني من باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فراجعه منه. الثاني والعشرون: قدت هناك أنه ورد في التشهد (¬4) أحاديث اختار الشافعي (¬5) منها تشهد ابن عباس في مسلم، ووقع في الشفاء (¬6) للقاضي عياض: أن الشافعي اختار منها تشهد ابن مسعود وهو وهم. واختار الإِمامان أبو حنيفة وأحمد: تشهد ابن مسعود في ¬

_ (¬1) في الأصل (السلام)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) أقول: قد جاء الدعاء في الركوع في قوله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي. قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه: باب الدعاء في الركوع. (¬3) انظر ح (124) التعليق ت (4)، ص (509) مع ذكر فائدة من كلام ابن القيم. أقول: قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ ومر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ، كما رواه حذيفة وابن مسعود وهذا يعم النقل والفرض. (¬4) انظر الحديث الثاني من باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص (45) التعليق (1، 2، 3)، فإنها مخرجة. (¬5) الرسالة برقم (738). (¬6) شرح الشفاء للقاري (3/ 737).

الصحيحين، وهو عشر كلمات كما سلف. واختار مالك تشهد عمر في "الموطأ" (¬1) وهو: "التحيات لله، الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك" إلى آخره، لأنه علمه الناس على المنبر بحضرة الصحابة ولم ينكره أحد، فكان كالإِجماع، إلَّا أنه [يترجح] (¬2) عليه تشهد ابن عباس، وابن مسعود من جهة أن رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصرَّح به، ورفع تشهد عمر بطريق استدلالي، كذا قاله الشيخ تقي الدين (¬3)، وظاهره أن تشهد عمر لم يرد مصرحًا برفعه، وقد ورد لكنه وهم، كما قاله الدارقطني في علله (¬4)، [والصواب] (¬5) وقفه عليه. وينبغي أن يعلم بعد أن يتقرر عندك أن الاختلاف إنما هو في الأفضل والمختار منها لا في الجواز، فإنه إجماع أن أشدها صحة باتفاق الحفاظ حديث ابن مسعود، فإن الأئمة الستة اتفقوا على إخراجه في كتبهم بخلاف تشهد ابن عباس فإنه معدود من أفراد مسلم، وأخرجه أصحاب السنن الأربعة أيضًا، قال الترمذي (¬6) في "جامعه": وحديث ابن مسعود رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد والعمل عليه عند أكثر أهل ¬

_ (¬1) موطأ مالك (90، 91). (¬2) في ن ب (ترجح). (¬3) إحكام الأحكام (3/ 8). (¬4) (2/ 82، 83). (¬5) في الأصل (والصلوات)، وما أثبت من ن ب د. (¬6) الترمذي (2/ 82)، طبعة شاكر.

العلم من الصحابة ومن بعدهم من التابعين، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وروى الترمذي بإسناده إلى معمر عن خصيف قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله! [إن الناس] (¬1) قد اختلفوا في التشهد، قال: "عليك بتشهد ابن مسعود". وذكر ابن عبد البر بإسناده إلى البزار (¬2) الحافظ أنه مثل عن أصح حديث في التشهد فقال: هو عندي، والله حديث ابن مسعود روي من عشرين طريقًا. ثم عددهم، قال: ولا أعلم يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد أثبت من حديث عبد الله، ولا أصح [أسانيد] (¬3) ولا أشهر رجالًا [ولا] (¬4) أشد تضافرًا بكثرة الأسانيد واختلاف طرقها، وإليه أذهب، وربما زدت، قال ابن عبد البر (¬5): وكان أحمد بن خالد (¬6) بالأندلس يختاره، ويمبل إليه، ويتشهد به. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) مسند البزار (1692، 2037، 1743، 1745، 1571، 1581، 1725، 1711، 1737، 1738، 1916، 1672، 1674، 1629، 1630، 1571، 2050، 1628، 1799، 1843). (¬3) في ن ب بياض. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) الاستذكار (4/ 279). (¬6) هو أبو عمر أحمد بن خالد بن يزيد القرطبي ويعرف بابن الحباب، مولده في سنة ست وأربعين ومئتين، ومات في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. تاريخ علماء الأندلس (1/ 31)، وبغية الملتمس (175، 176).

قلت: ومما رجح به تشهد ابن مسعود أيضًا أن فيه زيادة واو العطف وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناءًا مستقلًا، بخلاف إسقاطها فإن ما عدا اللفظ الأول يكون صفة للأول والأول أبلغ، وزاد بعض الحنفية في تقرير هذا بأنه قال: [لو قال] (¬1): والله والرحمن والرحيم كانت أيمانًا متعددة، تتعدد بها الكفارة بخلافه ما إذا أسقطها. ورجحوه أيضًا بأن فيه إثبات الألف واللام في السلام وتنكيره في رواية غيره، والتعريف أعم، وبقول ابن مسعود في اللفظ الذي يدل على العناية بتعلمه وتعليمه وهو: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن". وأجاب من رجح تشهد ابن عباس: بأن واو العطف قد تسقط وتكون مقدرة فيه، وحذفها جائز للاختصار معروف في اللغة، وأنشدوا في ذلك: " [كيف أمسيت؟ وكيف أصبحت؟ (¬2)] " (¬3) هما والمراد: وكيف أمسيت، وهذا إسقاط للواو العاطفة في عطف الجمل، ومسألتنا في إسقاطها في عطف المفردات، وهو أضعف من إسقاطها في عطف الجمل، ولو كان غير ضعيف لم يمتنع الترجيح بوقوع التصريح بما يقتضي تعدد الثناء بخلاف ما لم يصرح به فيه، والجواب عن الثاني: وإن كان الشيخ تقي الدين لم يجب عنه أن في ¬

_ (¬1) زيادة من ب د. (¬2) في ن ب د تقديم وتأخير. (¬3) وتمامه: "مما يزيد الود عند الرجال".

صحيح مسلم (¬1)، تعريف السلام في تشهد ابن عباس، وكذا في سنن الدارقطني (¬2) وصححه، أو المراد بالتنكير في الرواية الأخرى تنكير التعظيم، كما حكاه صاحب (الإِقليد) عن أبي حامد فاستويا في مقالة كل واحد منهما على تعظيم السلام] (¬3). وعن الثالث: أن في تشهد ابن عباس أيضًا في صحيح مسلم (¬4): "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وفي رواية: "كما يعلمنا القرآن"، وإذا تقرر [لك] (¬5) ذلك، فيترجح تشهد ابن عباس بأوجه. أولها: أن فيه زيادة "والمباركات" ولأنها موافقة لقول الله -تعالى-: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬6)، قاله أصحابنا: قال الشافعي: [و] (¬7) هو أكثر وأجمع لفظًا من غيره، وفي "صحيح أبي عوانة" (¬8) بسنده إلى الشافعي أنه قال: حديث ابن عباس أجود ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانيها: أنه - عليه الصلاة والسلام - علمه لابن عباس وأقرانه ¬

_ (¬1) انظر التعليق ت (2) ص (438). (¬2) الدارقطني (1/ 350). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) انظر التعليق ت (2) ص (438). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) سورة النور: آية 61. (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) صحيح أبي عوانة (2/ 228).

من أحداث الصحابة، فيكون متأخرًا عن تشهد ابن مسعود، وأخدانه. قاله البيهقي (¬1) في "سننه"، قال: وهذا بلا شك. ثالثها: قاله البيهقي: في "خلافياته" الذي عندي، إنما اختاره الشافعي لأن إسناده: إسناد حجازي، وإسناد حديث عبد الله: إسناد كوفي، ومهما وجد أئمتنا المتقدمون من أهل المدينة للحديث طريقًا بالحجاز فلا يحتجون بحديث يكون مخرجه من الكوفة. قال: ومما يشهد لهذا قول الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: إذا وجدت أهل المدينة على شيء فلا يدخلن قلبك إنه [حق] (¬2) ثم ذكر البيهقي شواهد لما ذكره، ولله الحمد على ذلك. الثالث والعشرون: مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن الواجب من التحيات خمس كلمات: "التحيات لله سلام عليك أيها النبي" ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدأ رسول الله". وعللوا الاقتصار على ذلك بأنه المتكرر في جميع الروايات، وفيه إشكال، كما قاله الشيخ تقي الدين، لأن الزائد في بعض الروايات زيادة من عدل فوجب قبولها إذ توجه الأمر بها في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليقل: التحيات" والأمر للوجوب. قلت: وكان الشافعي اعتبر في حد الأقل ما رواه مكررًا في جميع الروايات، ولم يكن تابعًا لغيره، وما انفردت به الروايات ¬

_ (¬1) البيهقي (2/ 140). (¬2) في ن ب (أحق).

أو كان تابعًا لغيره جوّز حذفه، لكنه يشكل على هذا لفظة: "الصلوات" فإنها ثابتة في كل الروايات، وليست متابعة في المعنى وقد ادعى الرافعي ثبوت: "الطيبات" في جميع الروايات واستشكلها (¬1). الرابع والعشرون: في الحديث تعلم شرعية السنة والأحكام وضبطها وحفظها، كما يشرع تعليم القرآن وحفظه وضبطه. الخامس والعشرون: فيه دليل على مس المعلم بعض أعضاء المتعلم عند التعليم تانيسًا له وتنبيهًا، ونقل ابن الحاج -رحمه الله- في "مدخله" عن بعض السلف: أنهم كانوا لا يبتعدون عن المدرس، بل يمس ثياب الطلبة ثوبه لقربهم منه. السادس والعشرون: وفيه دلالة على عدم وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يعلمه ابن مسعود، بل علمه التشهد، وأمره عقبه أن يتخير من المسألة ما شاء، ولم يعلمه الصلاة، وموضع التعليم لا يؤخر فيه البيان لا سيما الواجب، وهو مذهب أحمد ومشهور مذهب مالك. ونقله ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 316) بعد أن ذكر حد الواجب عند الشافعي: وقد استشكل جواز حذف "الصلوات" مع ثبوتها في جميع الروايات الصحيحة وكذلك "الطيبات" مع جزم جماعة من الشافعية، بأن المقتصر عليه هو الثابت في جمبع الروايات، ومنهم من وجه الحذف بكونهما صفتين كما هو الظاهر من سياق ابن عباس، لكن يعكر على هذا ما تقدم من البحت في ثبوت العطف فيهما في سايق غيره، وهو يقتضي المغايرة.

النووي في (شرح مسلم) (¬1) عن الجمهور. ومذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وبعض أصحاب مالك: الوجوب، فمن تركها بطلت صلاته. وقد جاء في رواية في هذا الحديث في غير مسلم زيادة: "فإذا فعلت ذلك، فقد تمت صلاتك" لكنها زيادة ليست صحيحة (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قاله ¬

_ (¬1) (4/ 117، 118). (¬2) أبو داود (970) في الصلاة، باب: التشهد، والدارمي (1/ 309)، والدارقطني (1/ 353)، وأحمد (1/ 422)، وابن حبان (1961)، والطيالسي (275). قال المنذري في مختصر السنن (1/ 450): أخرجه النسائي مختصرًا، وقال أبو بكر بن الخطيب: قوله: "فإذا قلت ذلك، فقد تمت صلاتك" وما بعده، إلى آخر الحديث: ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو قول ابن مسعود أدرج في الحديث، وقد بيَّنه شبابة بن سوَّار في روايته عن زهير بن معاوية، وفصل كلام ابن مسعود من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك رواه عبد الرحمن بن ثابت ثوبان، عن الحسن بن الحُرِّ مفصلًا مبينًا، وقال الخطابي: قد اختلفوا في هذا الكلام، هل هو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من قول ابن مسعود؟ فإن صح مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد غير واجبة. قال صاحب الجوهر النقي (2/ 175): ولمثل هذا لا تعلل رواية الجماعة الذين جعلوا هذا الكلام متصلًا بالحديث، وعلى تقرير صحة السند الذي روي فيه موقوفًا، فرواية من وقف لا تعلل بها رواية من رفع، لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذاهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرواه كذلك مرة، وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى مِنْ جعله من كلامه، إذ فيه تخطئة الجماعة الذين =

النووي في شرحه [وسيأتي الكلام على هذه المسألة في الحديث الآتي بعده إن شاء الله] (¬1). السابع والعشرون: أخذ من قوله: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله"، أن من قال لرجل: فلان يسلم عليك ويريد بالسلام، هذا أنه لا يكون كاذبًا، ويلزم عليه أن يحنث بذلك إذا حلف أن لا يسلم عليه إلَّا أن يكون له نية خاصة بالسلام، وأيضًا فإن العرف يخالف ذلك، ويشهد بأن هذا غير مسلم. الثامن والعشرون: يؤخذ من هذا الحديث أنه يستحب البداءة بنفسه في الدعاء حيث قال: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬2). ¬

_ = وصلوه، وانظر: نصب الراية (1/ 424، 425). وقوله: "قد قضيت صلاتك"، يريد معظم الصلاة، من القرآن والذكر والخفض والرفع، وإنما بقي عليه الخروج منها بالسلام، فكنى عن التسليم بالقيام إذ كان القيام إنما يقع عقيبه، ولا يجوز أن يقع بغير تسليم، لأنه تبطل صلاته، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". اهـ، من معالم السنن (1/ 250). (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) وقد ورد في الترمذي مصححًا من حديث أبي بن كعب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه"، وأصله في مسلم ومنه دعاء نوح وإبراهيم - عليهما السلام -. الفتح (2/ 314).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 122/ 2/ 22 - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬1). الكلام عليه من ستة وعشرين وجهًا: ¬

_ (¬1) البخاري (3370، 4797، 6357)، ومسلم (406، 66، 67)، وأبو داود (976، 977، 978) في الصلاة، والنسائي (3/ 47، 48) في السهو، باب: كيف الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي عمل اليوم والليلة (54، 359)، وابن ماجه (904)، والترمذي (483) في الصلاة، وأبو عوانة (2/ 231، 232، 233،)، وأحمد (4/ 241، 244)، والدارمي (1/ 309)، وابن الجارود (206)، والطيالسي (1061)، والبغوي (861)، والبيهقي (2/ 147، 148)، وابن حبان (912، 1957، 1964)، والحميدي (711، 712)، والطبراني في الكبير (19/ 123 إلى 132)، والصغير (193).

الأول: التعريف [بصحابيه] (¬1) وهو كعب بن عجره -بضم العين وإسكان الجيم -رضي الله عنه أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله. ويقال: أبو إسحاق، وهو من بني سالم بن عوف. وقيل: من غيرهم شهد بيعة الرضوان مات سنة اثنتين أو إحدى وخمسين. ثانيها: التعريف بالراوي عنه، وهو أبو عيسى، عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي، الإِمام التابعي الجليل الثقة أنصاري أوسي، والد القاضي محمد الضعيف، واسم أبيه يسار على الأصح. حضر حلقة عبد الرحمن جماعة من الصحابة، يستمعون لحديثه، وينصتون له منهم البراء بن عازب. وقال: أدركت عشرين ومائة من الصحابة كلهم من الأنصار إذا سئل أحدهم عن شيء أحب أن يكفيه صاحبه. [ولد] (¬2) في أثناء خلافة عمر بالمدينة. قيل: لِسِتٍّ بقين منها. وقيل: لِسِتٍّ [مضين] (¬3). وروى عنه وعن الخليفتين بعده وخلق من الصحابة والتابعين. وأبوه أبو ليلى صحابي، لم يرو عنه ¬

_ (¬1) في ن ب (صحابته). (¬2) في ن ب (وكذا). (¬3) في ن د (مضتن).

غير ابنه عبد الرحمن هذا استعمل الحجاج عبد الرحمن على القضاء، ثم عزله، ثم ضربه ليسب عليًّا، فكان يورِّي، فُقد بالجماجم، وقيل: غرق مع ابن الأشعث ليلة دُجَيْل (¬1) سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين. ثالثها: "الهدية" واحدة الهدايا: كعطية وعطايا، وهي اسم. والمصدر: [إهدا] (¬2) يقال: [أهديت] (¬3) له وإليه والمِهدَى -بكسر الميم- ما يهدى فيه: كالطبق ونحوه، ولا يسمى الطبق مِهدًا، إلَّا وفيه ما يهدى، والمُهدي: الذي عادته الهدية. والهدية: ما يتقرب به إلى المُهدَي إليه توددًا وإكرامًا، زاد فيه بعضهم من غير قصد عوض دنيوي، بل لقصد ثواب الآخرة، وأكثر ما يستعمل في المأكول والمشروب والملبوس، وقد يجوز بها في العلوم اللفظية والمعنوية الشرعية كما في هذا الحديث. رابعها: فيه إضمار كأن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال له: نعم، فقال كعب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا، فذكر الحديث. خامسها: يجوز في إن الكسر على الاستئناف، والفتح على البدل من الهدية [فذكر الحديث] (¬4)، وأن تكون في محل رفع على ¬

_ (¬1) العبر في خبر من غير للذهبي (1/ 70)، وتهذيب التهذيب (6/ 261)، ومعجم البلدان لياقوت (2/ 443). (¬2) في ن ب (هذا). (¬3) في ن ب (اهديه). (¬4) زيادة من ن ب.

إضمار مبتدأ، تقديره وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. سادسها: قوله "فقلنا: يا رسول الله" الظاهر فيه سؤال بعضهم لا كلهم، ففيه التعبير بالكل عن البعض، وهو أحد أنواع المجاز، ويبتعد جدًّا انفراد كعب به وأنه أتى بالنون التي للجمع تعظيمًا لنفسه، وإن كان عظيمًا، بل لا يجوز ذلك، لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "قولوا" ولو كان واحدًا لم يقل [له] (¬1) قولوا [إذ لا يعهد ذلك من كلامه - عليه الصلاة والسلام - في غير السلام. سابعها] (¬2): فيه الابتداء بالتعليم من غير طلب التعلم لذلك، كما هو ظاهر الحديث. ثامنها] (¬3): فيه ابتداء التعليم باستفتاح كلام يحملهم على أخذه بقبول. تاسعها: فيه أخذ العلم تؤدة أي شيئًا فشيئًا ليفهم ويعمل به فإذا علمه أخبر العالم بأنه فهمه وعلمه، وسأله عن غيره، فإن الصحابة قالوا: "قد علمنا كيف نسلم [عليك] (¬4)، فكيف نصلي؟ ". عاشرها: قوله: "فكيف نصلي عليك؟ "، قال القاضي عياض (¬5): حكم من خوطب بأمر محتمل لوجهين أو مجمل لا يفهم ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في الأصل (سابعها) ... إلخ المسائل، والتصحيح من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (2/ 163).

مراده أو عام يحتمل الخصوص أن يسأل أو يبحث إذا أمكنه ذلك، واتسع [له] (¬1) الوقت للسؤال إذ لفظ الصلاة الواردة في القرآن يحتمل لأقسام معاني لفظ الصلاة من الرحمة والدعاء والثناء. وقد قيل: صلاة الله عليه: ثناؤه عليه عند الملائكة. ومن الملائكة دعاء (¬2). وقيل: هي من الله: رحمة. ومن الملائكة: رقة ودعاء بالرحمة. وقيل: هي من الله لغير النبي: رحمة. وللنبي تشريف وزيادة تكرمة. وقيل: هي من الله وملائكته: تبريك. ومعنى يصلون: يبرِّكون (¬3) فيحتمل أن الصحابة سألوا عن ¬

_ (¬1) في الأصل (عليه)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) هذا التفسير علقه البخاري في صحيحه (8/ 532)، بصيغة الجزم عن أبي العالية، ووصله إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 80). (¬3) ذكره ابن حجر في الفتح (8/ 532): عن ابن عباس، ووصله ابن جرير في تفسيره عنه (22/ 34)، وهو معنى كلام أبي العالية: يبركون على النبي، أي: يدعون بالبركة، لكنه أخص منه. فائدة: قال ابن حجر في الفتح (8/ 533) وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام وأمر المؤمنين بها وبالسلام. فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان التحية والانقياد، فأمر بها المؤمنون لصحتهما منهم. والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد فلم يضف إليهما دفعًا للإِيهام. =

المراد بالصلاة لاشتراك هذه اللفظة. وإلى هذا ذهب بعض المشائخ في معنى سؤالهم في هذا الحديث. وقد اختلف [الأصوليون] (¬1) في الألفاظ المشتركة إذا وردت مطلقة. فقيل: يحمل على عموم مقتضاها من جميع معانيها ما لم يمنع مانع. وقيل: يحمل على الحقيقة دون ما تجوز به وإليه نحا القاضي أبو بكر. وذهب بعض المشائخ: إلى أن سؤالهم عن صفة الصلاة لا عن جنسها لأنهم لم يؤمروا بالرحمة ولا هي لهم، وأن ظاهر أمرهم بالدعاء وإليه نحا الباجي. قال القاضي (¬2): وهو أظهر في اللفظ، وإن كانت الصلاة كما قدمنا مشتركة اللفظ، والخلاف في معنى (¬3) ¬

_ = تنبيه: قولهم: إن معنى الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة رقة ودعاء بالرحمة. قال ابن حجر في الفتح (11/ 156): وتعقب بأن الله غاير بين الصلاة والرحمة في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} وكذلك فهم الصحابة المغايرة من قوله -تعالى-: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} حتى سألوا عن كيفية الصلاة مع تقدم ذكر الرحمة في تعليم السلام حيث جاء بلفظ: "السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته"، وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كانت الصلاة بمعنى الرحمة، لقال لهم: قد علمتم ذلك في السلام. (¬1) في ن ب (الأولون). انظر تقريب الوصول إلى علم الأصول (103). (¬2) إكمال إكمال المعلم (2/ 163). (¬3) في ن ب زيادة (في).

الصلاة من الله -تعالى- والملائكة موجود، ويعضده السؤال بكيف التي تقتضي الصفة لا الجنس الذي يسأل عنه بما، وسؤالهم هنا عن الصلاة يحتمل أن يراد به الصلاة في غير الصلاة أو في الصلاة وهو الأظهر. قلت: وسيأتي ما يؤيده (¬1). الحادي عشر: اختلف في الآل على أقوال ذكرتها في شرح الخطبة فراجعها منه. ومذهب الشافعي أنهم بنو هاشم وبنو المطلب. واختار المحققون: أنهم جميع الأمة (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (11/ 155): واختلف في المراد بقولهم: "كيف" قيل: المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأي لفظ تؤدى، وقيل عن صفتها. قال عياض: لما كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله -تعالى-: {صَلُّوا عَلَيْهِ} يحتمل الرحمة والدعاء والعظيم سألوا بأي لفظ تؤدى هكذا قال بعض المشائخ، ورجح الباجي أن السؤال إنما وقع عن صفتها لا عن جنسها، وهو أظهر لأن لفظ: "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس فيسأل عنه بلفظ "ما"، وبه جزم القرطبي، فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملها. انتهى. (¬2) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (22/ 460)، في تفسير الآل: اختلف في ذلك على قولين: أحدهما: أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة، وهذا هو المنصوص عن الشافعي وأحمد، وعلى هذا ففي تحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته روايتان عن أحمد: أحداهما: لسن من أهل بيته، وهو قول زيد بن أرقم الذي رواه مسلم في =

وأما آل إبراهيم فقال في (الكشاف): هم إسماعيل وإسحاق [ويعقوب] (¬1) وأولادهما. الثاني عشرة: اختلف في أصل الآل أيضًا كما أوضحته هناك ¬

_ = صحيحه عنه. الثانية: هن من أهل بيته، لهذا الحديث فإنه قال: "وعلى أزواجه وذريته"، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وقوله في قصة إبراهم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}، وقد دخلت سارة، ولأنه استثنى امرأة لوط من آله، فدل على دخولها في الآل، وحديث الكسا يدل على أن عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا أحق بالدخول في أهل البيت من غيرهم، إلى أن قال: وكما أن أزواجه داخلات في آله وأهل بيته، كما دل عليه نزول الآية وسياقها، وقد تبين أن دخول أزواجه في آل بيته أصح، إلى أن قال: وعلى هذا القول فآل المطلب هل هم من آله، ومن أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة؟ على روايتين عن أحمد: إحداهما: أنهم منهم، وهو قول الشافعي. الثانية: ليسوا منهم، وهو مذهب أبي حنيفة. والقول الثاني: أن آل محمد هم أمته أو الأتقياء منهم من أمته، وهذا روي عن مالك إن صح، وقاله: طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. فائدة: حديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن آل محمد فقال: "كل مؤمن تقي" هذا الحديث موضوع لا أصل له. اهـ، من الفتاوى لشيخ الإِسلام (22/ 462). وقال ابن حجر في الفتح (11/ 161): أخرجه الطبراني، ولكن سنده واه جدًّا، وأخرجه البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف -أي من قول جابر-. (¬1) ساقطة من ن ب د.

فراجعه منه أيضًا، والصحيح: أن أصله أهل [لا أول] (¬1) بدليل رجوع الهاء في تصغيره قالوا: أهيل (¬2)، وخص آل بالتعظيم دون أهل، لأن الألف ممدودة [والهاء مهموسة] (¬3) فناسب ذلك، نبه عليه الفاكهي، وأورد آل فرعون فإنه رذيل. وأجاب: بأنه جاء على ما عهدوا من تعظيمه، أو أنه على طريقة التهكم. الثالث عشر: صيغة الأمر في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "قولوا" ظاهرهُ [في] (¬4) الوجوب، وقد اتفق العلماء على وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - لكن اختلفوا، فالأكثر على وجوبها في العمر مرة: كالشهادتين. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د ب. (¬2) قال شيخ الإِسلام (22/ 461): سبب ذلك أن لفظ "الآل" أصله أول، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فقيل: آل ومثله باب وناب، وفي الأفعال قال: وعاد ونحو ذلك، ومن قال: أصله أهل فقلبت الهاء ألفًا فقد غلط، فإنه قال: ما لا دليل عليه، وادعى القلب الشاذ بغير حجة، مع مخالفته للأصل. وأيضًا فإن لفظ الأهل يضيفونه إلى الجماد وإلى غير المعظم كما يقولون: أهل البيت، وأهل المدينة، وأهل الفقير، وأهل المسكين. وأما الآل فإنما يضاف إلى معظم من شأنه أن يؤول غيره، أو يسوسه فيكون مآله إليه، ومنه الإِيالة: وهي السياسة، فآل الشخص هم من يؤوله ويؤول إليه، فلهذا كان لفظ آل فلان متناولًا له، ولا يقال هو مختص به، بل يتناوله ويتأول من يؤوله. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب د.

واختار الطحاوي، والحليمي: وجوب الصلاة عليه كلما ذكر. وقال الشافعي وأحمد: هي [واجبة] (¬1) في التشهد الأخير عقبه قبل السلام. وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله - رضي الله عنهما -. وهو [قول] (¬2) الشعبي، وقد نسب الشافعي جماعة في وجوبها في التشهد الأخير إلى مخالفة الإِجماع منهم الخطابي (¬3) والبغوي (¬4). وقال ابن الصلاح: هو كالمنفرد بذلك، وهو غير صحيح. فإن الشعبي تابعي صغير، وهو من الفقهاء المعتد بقولهم، وخلافه ليس معه إجماع، كيف وهو منقول عن عمر وابنه. قال البيهقي: [وروي] (¬5) معناه عن الحجاج بن أرطأة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. [وقال إسحاق: إن تركها عمدًا بطلت أو سهوًا فلا] (¬6)، وجعل من نسب الشافعي إلى مخالفة الإِجماع في ذلك أن قول أحمد وإسحاق في الوجوب على سبيل التبعية والتقليد للشافعي لا استقلالًا، لكن الظاهر أن الشعبي تقدمهما بذلك، وقد حكاه ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) معالم السنن (1/ 454). (¬4) شرح السنة (3/ 185). (¬5) في ن ب د (روينا). (¬6) زيادة من ن ب د.

القاضي عياض في "إكماله" عن بعض أصحاب مالك البغداديين. نعم مشهور مذهب مالك أنه يتأكد استحبابها في التشهد الأخير. وحكي عن الكرخي أنه قال بالوجوب في صلاة واحدة. وحكى صاحب (الحاوي) عنه أنه قال: بالوجوب في غير الصلاة، ووقع في كلام صاحب "الإِقليد" أنه لا قائل بالوجوب في صلاة واحدة. وقد علمت قائله. الرابع عشر: ليس في الحديث تنصيص على أن هذا الأمر مخصوص بالصلاة، وقد استدل الفقهاء كثيرًا على وجوبها في الصلاة بأنها واجبة بالإِجماع ولا تجب في غيرها بالإِجماع، فتعين وجوبها فيها وهو ضعيف جدًا، كما قال الشيخ تقي الدين (¬1): لأن قولهم لا تجب في غير الصلاة بالإِجماع إن أرادوا به عينًا فهو صحيح، لكنه لا يلزم منه أن يجب في الصلاة عينًا لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة، فلا يجب واحد من [المعنيين] (¬2)، أعني خارج الصلاة وداخلها، وإن أرادوا أعم من ذلك، وهو الوجوب المطلق فممنوع. قلت: وهي تجب أيضًا في خطبة الجمعة، فقولهم: لا تجب من غير الصلاة بالإِجماع ممنوع، والأمر أيضًا لا يفيد التكرار، نعم ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 15). (¬2) في ن ب (المعينين).

[استدل] (¬1) على وجوبها في الصلاة برواية صحيحة من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده، فقال: يا رسول الله! أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ قال: قولوا: "اللهم صل على محمد" الحديث، رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما واحتجا بها على الوجوب، وهو في صحيح مسلم (¬2) بدون: "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا" [قال: "قولوا: اللهم صل على محمد"، الحديث رواه ابن حبان (¬3) والحاكم (¬4)] (¬5). قال الحاكم: وهي زيادة صحيحة (¬6) واحتجا أيضًا في صحيحيهما بحديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي لم يحمد الله، ولم يمجده، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "عجل هذا" ثم دعاه فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه ¬

_ (¬1) في ن ب د (يستدل). (¬2) مسلم (405). (¬3) ابن حبان (1958). (¬4) الحاكم (1/ 268)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وابن خزيمة (711)، والدارقطني (1/ 354، 355)، والبيهقي في السنن (2/ 146، 147، 148)، وأحمد (4/ 199)، وأبو داود (981) في الصلاة، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد، والطبراني في الكبير (17/ 698)، وأصل الحديث في مسلم (405). (¬5) في ن ب د ساقطة. (¬6) في ن د حاشية وقع في ح أنها في هذا الحديث وهو وهم، فالطريقان مختلفان. اهـ.

والثناء عليه، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليدع بعد بما شاء". قال الحاكم: صحيح (¬1) الإِسناد على شرط [الشيخين] (¬2) وهذان الحديثان وإن اشتملا على ما لا يجب بالإِجماع: كالصلاة على الآل والذرية والدعاء فلا يمتنع الاحتجاج بهما، فإن الأمر للوجوب، فإذا خرج بعض ما تناوله الأمر عن الوجوب بدليل بقي الباقي على الوجوب. الخامس عشر: كل لفظ أمرنا بالإِتيان به على صيغة من الشارع يجب في العمل به مراعاة لفظه (¬3)، ولا يجوز الإِتيان بمعناه (¬4)، ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 230، 268)، ووافقه الذهبي، وأحمد (6/ 18)، وأبو داود (1481) في الصلاة، باب: الدعاء، والترمذي (3476، 3477)، والنسائي (3/ 44)، وابن حبان (1960)، وصححه ابن خزيمة (709، 710)، والبيهقي في السنن (2/ 147، 148)، والطبراني في الكبير (18/ 791، 793)، والطحاوي في المشكل (3/ 76، 77). (¬2) في ن ب د (مسلم). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (11/ 155): وعدلوا عن القياس لإِمكان الوقوف عن النص، ولا سيما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبًا، فوقع الأصل كما فهموا، فإنه لم يقل لهم: قولوا: الصلاة عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته. ولا قولوا: الصلاة والسلام عليك ... إلخ بل علمهم صيغة أخرى. (¬4) الأدب المفرد (223)، وابن حبان (987)، وتحفة الأبرار (75)، وتلخيص الحبير (1/ 273)، والبدر المنير (1/ 147) عارضه الأحوذي، وشرح رسالة ابن أبي زيدون (2/ 105)، والقول البديع (136)، وحادي الأنام في الصلاة على غير الأنام، والفتح (11/ 59). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أقول وبالله التوفيق: ومنه استمد العون والتسديد بعد ذكر المراجع التي ذكرت هذه المسألة بالتفصيل ونقل الأدلة: فإن المصنف -رحمه الله- وافق ابن أبي زيد في إطلاق الترحم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف ابن العربي في عارضة الأحوذي والقبس: ومعلوم أن العلماء متفقون على عدم جواز إطلاق الرحمة بدلًا عن الصلاة في التشهد إلَّا من شذ منهم، ولكن الخلاف في غير التشهد، فإليك أقوالهم: قال النووي -رحمه الله- في شرحه لمسلم (4/ 126): قال القاضي: ولم يجىء في هذه الأحاديث ذكر الرحمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد وقع في بعض الأحاديث الغريبة، قال: واختلف شيوخنا في جواز الدعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة، فذهب بعضهم وهو اختيار أبي عمر بن عبد البر إلى أنه لا يقال: وأجازه غيره، وهو مذهب أبي محمد بن أبي زيد حجة الأكثرين تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيها ذكر الرحمة، والمختار أنه لا تذكر الرحمة. وقال أيضًا في الأذكار (80): وما قاله بعض أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة على ذلك: وارحم محمدًا وآل محمد. فهذا بدعة لا أصل لها. ونقل السخاري في القول البديع (70، 72) عن ابن دقيق العيد: أن الصلاة من الله مفسرة بالرحمة ومقتضاه أن يقال: اللهم ارحم محمدًا. لأن المترادفين إذا استويا في الدلالة قام كل واحد منهما مقام الآخر، ثم ساق كلام ابن حجر من الفتح (11/ 159). ثم قال: وسبقه إلى الجواز: يعني ابن حجر، شيخُنا المجد اللغوي فإنه قال الذي أقوله: إن الدلائل قائمة على جواز ذلك، وممن صرح بجواز ذلك أبو القاسم الأنصاري مضافًا إلى الصلاة لا يجوز فردًا، ووافقه على ذلك ابن عبد البر والقاضي عياض في الإِكمال. ونقله عن الجمهور، وقال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = القرطبي في المفهم: إنه الصحيح لورود الأحاديث به، واعتذر السخاوي عن ابن أبي زيد فقال: لعل ابن أبي زيد كان يرى أن هذا من فضائل الأعمال التي يتساهل فيها بالحديث الضعيف لاندراجه في العمومات، فإن أصل الدعاء بالرحمة لا ينكر، واستحبابه في هذا المحل الخاص، ورد فيه ما هو مضعف فيتساهل في العمل به، أو يكون صح عنده بعضها، والأثر الذي يرى السخاوي أنه قد يكون صح عند ابن أبي زيد: رواه البخاري في الأدب المفرد (223)، عن أبي هريرة. وقال ابن حجر في التلخيص (1/ 273): وقد وردت هذه الزيادة في الخبر -أي ذكر الرحمة في التشهد- وإذا صحت في الخبر صحت في اللغة. ثم ساق رواية أبي هريرة، وروى الحاكم في المستدرك (1/ 269)، عن ابن مسعود بإسناد فيه رجل لم يسمّ نحو حديث أبي هريرة، والحديث ضعيف لجهالة أحد رواته، كما قاله ابن حجر في التلخيص (1/ 274). وقال الحافظ في الفتح (11/ 159) بعد نقله كلام ابن العربي وإنكاره على ابن أبي زيد، فإن كان إنكاره لكونه لم يصح فمسلم، وإلَّا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: "ارحم محمدًا" مردود لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، ثم وجدت لابن أبي زيد مستندًا، فقد أخرج الطبري في تهذيبه، من طريق حنظلة بن علي عن أبي هريرة رفعه: "من قال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم: شهدت له يوم القيامة، وشفعت له"، ورجال سنده رجال الصحيح إلَّا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول فالذي ترجحه الأدلة جواز ذلك في الدعاء له - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة على سبيل التبعية لذكر الصلاة والسلام، كما رجحه السيوطي في تحفة الأبرار. =

فالصلاة من الله -تعالى- معناها: الرحمة، كما سلف مع الخلاف فيه، فإذا قلنا: اللهم صل على محمد. فكأنا سألنا الله -تعالى- الرحمة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسقط الأمر بقولنا: اللهم ارحم محمدًا، أو اللهم ترحّم على محمد دون الصلاة ولا بقولنا: اللهم صلِّ على أحمد. كما صححه النووي في (التحقيق). وقد وردت الرحمة مع الصلاة والتبريك في بعض الأحاديث الغريبة (¬1)، كما قال القاضي: ¬

_ = وانظر: المبحث كاملًا فيه (75 - 83). وقال العراقي في شرح الترمذي: وفي إنكار جواز الدعاء له بالرحمة نظر، فقد ثبت في التشهد: "السلام عيك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، ففي هذا الدعاء له بالرحمة، وقد ثبت في صحيح البخاري (220) في قصة الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمدًا"، ومن أنكر الإِتيان بهذا اللفظ في التشهد فليس مدركه في ذلك أن الدعاء به له ممتنع، ثم قال: ويجوز أن يترحم عليه في كل وقت، وإنما مستدركه أن هذا باب اتباع وتعبد فيقتصر فيه على المنصوص، وتكون الزيادة بدعة، ثم ساق حديث ابن مسعود المخرج في المستدرك (1/ 269)، وقال: فهذا أصح ما ورد في ذكر الرحمة في التشهد. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمنا الله وإياه- في شروط الصلاة (38): السلام عليك أيها النبي ررحمة الله وبركاته، تدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالسلامة والرحمه والبركة والذي يدعى له ما يدعى. اهـ. وانظر إلى قول ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 274). (¬1) ذكره عنه النووي في شرح مسلم (4/ 126). وإكمال إكمال المعلم (2/ 165).

واختلف علماء المالكية في قول ذلك. فقال بعضهم: لا يقال وهو اختيار ابن عبد البر وأجازه بعضهم وهو مذهب محمد بن أبي زيد وصححه القرطبي (¬1)، قال: فقد [جاء] (¬2) ذلك في أحاديث كثيرة. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬3): المختار أنه لا يذكر الرحمة لأنه - عليه الصلاة والسلام - علمهم الصلاة عليه بدونها وإن كان معناها الدعاء له بالرحمة فلا يفرد بالذكر. قلت: وقول القاضي عياض: أن ذكر الرحمة وردت في بعض الأحاديث الغريبة عجيب. وقد أقره النووي وغيره عليه، وقد صح في حديث كما ذكرته في تخريجي لأحاديث الرافعي فراجعه منه. ووقع في (الأذكار) (¬4) للنووي أيضًا: أن هذا بدعة لا أصل لها أعني قوله: وارحم محمدًا وآل محمد، قال: وقد بالغ ابن العربي في (شرح الترمذي) في إنكار ذلك وتخطئة ابن أبي زيد وتجهيل فاعله. قلت: ومع صحة الحديث به زال هذا. السادس عشرة: الصلاة على الآل سنة، وعندنا وجه: أنها واجبة. وهو شاذ، لكن قد يتمسك له بلفظ الأمر في الحديث لكنه ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 794). (¬2) في ن ب زيادة (له). (¬3) شرح مسلم (4/ 126). (¬4) الأذكار (80).

محجوج بإجماع من قبله في عدم الوجوب. ولذلك حكيت الوجوب قريبًا ولم أعبأ بهذا. السابع عشر: في إبراهيم (¬1) خمس لغات: "إبراهيم"، فـ"إبراهام"، و"إبراهَم" (¬2) -بضم الهاء وفتحها وكسرها من غير ياء- وجمعه براهم وإبارة، ويجوز الواو والنون لاجتماع الشروط [فيه] (¬3)، قالوا: ومعناه أب رحيم. قال الجواليقي (¬4) وغيره: أسماء الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلها أعجمية إلَّا محمدًا وصالحًا وشعيبًا وآدم. قال ابن قتيبة (¬5): وتحذف الألف من الأسماء الأعجمية: كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وإسرائيل، استثقالا كما ترك صرفها، وكذا سليمان، وهارون، فأما ما لا يكثر استعماله منها كهارون، وماروت، وقارون، وطالوت، وجالوت، فلا تحذف الألف في شيء [منها] (¬6)، ولا يحذف من (داود) وإن كان مشهورًا لأنه حذف إحدى الواوين فلو حذفت الألف أجحف به. وأما ما كان على وزن فاعل: كصالح، ومالك، وخالد، ¬

_ (¬1) المعرب للجواليقي (13). (¬2) نص في القاموس على أن الهاء مثلثة الحركة، وزاد فيه لغة "إبراهوم". انظر: المرجع السابق. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) المعرب للجواليقي (13). (¬5) أدب الكاتب (191) بتصرف. (¬6) في ن د ب (منه).

فيجوز إثبات ألفه وحذفها بشرط كثرة استعماله، فإن قلَّ، كسالم، وحامد، وجابر، وحاتم، لم يجز حذف الألف، وما كثر استعماله ودخلت الألف واللام تحذف ألفه معها وإثباتها مع حذفهما تقول: قال الحارث لئلا تشتبه بحرث، ولا تحذف من عمران، ويجوز حذفها وإثباتها في عثمان وسفيان ونحوهما بشرط كثرة استعمالهما. الثامن عشر: شرعت الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - هنا توطئة للصلاة على آله، ولذلك لم [تفرد] (¬1) الصلاة عليهم في رواية من الروايات، وليقرب نجاحنا في المطلوب بعد التشهد في الصلاة عليه، لأن العرب كانت تستفتح في خطاب المطالب التي يجتمعون لها بذكر تقديم ذكر المعبودات والأكابر، فجاءت الشريعة بتقديم التوحيد ثم الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. قاله صاحب الإِقليد، وقد يقال: إنما شرعت ها هنا وإن كان غنيًّا بما [أعطاه] (¬2) الله، لأنه قد أحسن إلينا فوجب علينا مكافأته [بصلاتنا] (¬3) عليه جزاء لإِحسانه [إلينا] (¬4) والمحسن تجب الزيادة في الإِحسان إليه وإن كان غنيًّا. التاسع عشر: قوله: "إنك حميد مجيد" قال أهل اللغة والمعاني والمفسرون: الحميد: بمعنى المحمود، وهو الذي تحمد أفعاله، والمستحق لأنواع المحامد. ¬

_ (¬1) في ن ب د (يفرد). (¬2) في ن ب د (أتاه). (¬3) في الأصل (لصلاتنا)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) في ن د (الثناء).

والمجيد: الماجد وهو من كمل في الشرف والكرم والصفات المحمودة، فحميد: صيغة مبالغة بمعنى المحمود. ومجيد مبالغة من ماجد. يقال: مجد الرجل، ومجد -بالضم والفتح- يمجد -بالضم- فيهما مجدًا ومجادة، فيكون مجيد: كالتعليل لاستحقاق الحمد بجميع المحامد. قال الشيخ تقي الدين: ويحتمل أن يكون حميد مبالغة من حامد، ويكون ذلك كالتعليل للصلاة المطلوبة، فإن الحمد والشكر يتقاربان، فحميد قريب من معنى شكور، وذلك مناسب لزيادة الإِفضال والإِعطاء لما يراد من الأمور العظام، وكذلك المجد والشرف مناسبة لهذا المعنى ظاهرة (¬1). العشرون: البركة هنا: الزيادة والنماء من الخير والكرامة. وقيل: الثبات على ذلك، من قولهم: بركت الإِبل، أي: ثبتت على الأرض، ومنه بركة الماء. وقيل: هي بمعنى التطهير من العيوب كلها، والتزكية عن ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (11/ 163): ومناسبة ختم هذا الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه وثناؤه عليه والتنويه به وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد. ففي ذلك إشارة إلى أنهما كالتعليل للمطلوب، أي هو كالتذليل له، والمعنى أنك فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المترادفة. كريم بكثرة الإِحسان إلى جميع عبادك.

المعائب، وهو أحد التأويلات في قولهم: تبارك الله (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في بدائع الفوائد (2/ 185): البركة نوعان: أحدهما: بركة هي فعله -تبارك وتعالى- والفعل منها: بارك، ويتعدى بنفسه تارة، وبأداة على تارة، وبأداة في تارة، والمفعول منها: مبارك، وهو ما جعل كذلك، فكان باركًا يجعله تعالى. الثانية: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها، تبارك. ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا تصلح إلَّا له -عز وجل- فهو -سبحانه- المبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك. وأما صفته: تبارك فمختصة به -تعالى- كما أطلقها على نفسه، بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)}، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ}، {فِي السَّمَاءِ}. أفلا تراها كيف أطردت في القرآن جارية عليه مختصة به، لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة والعظمة: كتعالى وتعاظم ونحوهما، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته. فائدة: الرب -سبحانه- يقال في حقه تبارك ولا يقال مبارك. وبالمناسبة للفائدة ننقل عن ألفاظ ممنوعة شرعًا بلفظ البركة: سئل شيخ الإِسلام عمن يقول: قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ. فأجاب -رحمه الله-: بأن هذا منكر من القول، فإنه لا يقرن بالله في مثل هذا غيره كما نهى - صلى الله عليه وسلم - من قال: "ما شاء الله وشئت" إلى أن قال: (وقول القائل: ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه، وأسرع الدعاء: إجابة دعاء غائب لغائب، وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد =

الحادي والعشرون: اختلف أرباب المعاني في فائدة قوله: "كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" وإن كان المصنف لم يذكر في روايته إبراهيم على تأويلات كثيرة. أظهرها: كما قال القاضي (¬1) والقرطبي (¬2): أن نبينا ¬

_ = يعني بها بركة: معونته له على الحق وموالاته في الدين ونحو ذلك. وهذه كلها معان صحيحة، وقد يعني بها دعاءه للميت والغائب، إذ استقلال الشيخ بذلك التأثير أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه أو غير قاصد له، ومتابعته أو مطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة. انظر: الفتاوى (27/ 95، 96). سئل الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- عن قول بعض العامة: تباركت علينا يا فلان، أو يا فلان تباركت علينا؟ قال: هذا لا يجوز. فهو -تعالى- المبارِك، والعبد هو المبارَك -أي عليه- وقول ابن عباس: "تبارك الله" تعاظم، يريد أنه مثله في الدلالة على المبالغة، والبركة هي دوام الخير وكثرته، ولا خير أكثر وأدوم من خيره -سبحانه وتعالى-. والخلق يكون في بعضهم شيء، ولا يبلغ النهاية. فيقال: مبارك أو فيه بركة وشبه ذلك). انظر: الفتاوى (1/ 207). سئل الشيخ عبد الله أبو بطين -رحمه الله-: عن قول بعض الناس: نتبرك بالله ثم بك، نتبرك بدخولكم، نتبرك بحضرتكم. فأجاب: (ما علمت فيه شيئًا ولا أحبه، خاصة إذا قيل ذلك لمن لا يظن به خير). انظر: الدرر السنية كتاب النكاح (6/ 358). (¬1) إكمال أكمال المعلم (2/ 164). (¬2) المفهم (2/ 793). اهـ.

[محمدًا] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - سأل ذلك لنفسه وأهل بيته ليتم النعمة عليهم والبركة كما أتمها على إبراهيم وآله. ثانيها: أنه سأل ذلك لأمته ليثابوا على ذلك. ثالثها: أنه سأل ذلك ليبقى له ذلك إلى يوم [القيامة] (¬2) ويجعل لديه لسان صدق في الآخرين كما فعله لإِبراهيم. رابعها: أنه سأل ذلك له ولأمته. خامسها: أن ذلك كان قبل أن يعرف [] (¬3) - عليه الصلاة والسلام - بأنه أفضل الخلق، ويطلع على علو منزلته. سادسها: أنه سأل أن يصلي عليه صلاة يتخذه بها خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، وقد جاء في الصحيح آخر أمره: "ولكن صاحبكم خليل الرحمن" (¬4). وقد جاء أنه حبيب الرحمن. وقال ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) في ن د ب (الدين). (¬3) في الأصل زيادة (إبراهيم)، وهي ساقطة من ن ب د. (¬4) مسلم (2383)، والترمذي (3656) من رواية ابن مسعود بلفظ: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله"، وابن ماجه (93)، وأحمد (1/ 377، 389، 409، 433)، والبغوي (3867)، والطبراني في الكبير (10106، 10107، 10457)، والمصنف (11/ 473)، وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري (3656)، وعن أبي سعيد الخدري، والبخاري (3654)، ومسلم (2382).

أيضًا: "أنا حبيب الله ولا فخر" (¬1). ذكره الترمذي فهو الخليل والحبيب. وقد اختلف العلماء: أيهما أشرف أو هما سواء بمعنى وفضل أكثرهم: رتبة المحبة وإبراهيم وغيره من الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة. فإن قلت: فلم خص التشبيه بإبراهيم دون غيره من الرسل والجواب من أوجه: أحدها: لأنه سأل الله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين. ثانيها: لأنه سمانا مسلمين من قبل، فله علينا منّة عظيمة فجازيناه بأن خصينا التشبيه به. ثالثها: لأن نبينا دعوة إبراهيم في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} (¬2) الآية فخصص به. الثاني والعشرون: لم يزل الناس يوردون في هذا الحديث السؤال المشهور، وهو أن المشبه به أعلا من المشبه (¬3)، ونبينا ¬

_ (¬1) الترمذي (3620)، والدارمي (1/ 26)، من حديث ابن عباس وفي سنده زمعة بن صالح وسلمة بن وهرام وهما ضعيفان، ولذا قال الترمذي: "هذا حديث غريب". وقد مر بنا مبحث أيهما أعلا المحبة أو الخلة؟ وبيان أن الله اتخذ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خيلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فيرجع إليه. (¬2) سورة البقرة: آية 129. (¬3) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (22/ 465): بعد كلام سبق، وهذا يتم بجواب السؤال المشهور، وهو أن قوله: "كما صليت على إبراهيم" يشعر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بفضيلة إبراهيم، لأن المشبه دون المشبه به، وقد أجاب الناس عن ذلك بأجوبة ضعيفة. فقيل: التشبيه عائد إلى الصلاة على الأول فقط، فقوله: "صل على محمد" كلام منقطع وقوله: "وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم" كلام مبتدأ، وهذا نقله العمراني عن الشافعي، وهذا باطل عن الشافعي قطعًا، لا يليق بعلمه وفصاحته، فإن هذا كلام ركيك في غاية البعد، وفيه من جهة العربية بحوث لا تليق بهذا الموضع. الثاني: قول من منع كون المشبه به أعلى من المشبه، وقال: يجوز أن يكونا متماثلين. قال صاحب هذا القول: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يفضل على إبراهيم من وجوه غير الصلاة، وهما متماثلان في الصلاة، وهذا أيضًا ضعيف، فإن الصلاة من الله من أعلى المراتب أو أعلاها. ومحمد أفضل الخلق فيها، فكيف وقد أمر الله بها بعد أن أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأيضًا فالله وملائكته يصلون على معلم الخير، وهو أفضل معلمي الخير، والأدلة كثيرة لا يتسع لها هذا الجواب. الثالث: قول من قال: آل إبراهيم: فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم في آل محمد، فإذا طلب من الصلاة مثلما صلى على هؤلاء حصل لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم، فإنهم دون الأنبياء، وبقيت الزيادة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فحصل له بذلك من الصلاة عليه مزية ليست لإِبراهيم، ولا لغيره، وهذا الجواب أحسن مما تقدم. وأحسن منه أن يقال: محمد هو من آل إبراهيم، كما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}. قال ابن عباس: محمد من آل إبراهيم، وهذا بين، فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء في آل إبراهيم، فهو أحق بالدخول فيهم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم متناولًا =

محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء والمرسلين إجماعًا، فكيف تكون الصلاة عليه مشبهة بالصلاة على إبراهيم، وقد اختلف الناس، فيه على أجوبة. أحدها: أن التشبيه إنما وقع في [أصل] (¬1) الصلاة، لا في قدرها، كقوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2)، فالتشبيه إنما وقع في أصل الصيام لا في ¬

_ = للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية آل إبراهيم، وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، ثم أمرنا أن نصلي على محمد، وعلى آل محمد خصوصًا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عمومًا، ثم لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم. والباقي له فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم. ومعلوم أن هذا أمر عظيم يحصل له به أعظم مما لِإبراهيم وغيره، فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله نصيب وافر من المشبه، وله أكثر المطلوب، صار له من المشبه وحده أكثر مما لإبراهيم وغيره، وإن كان جملة المطلوب مثل المشبه، وانضاف إلى ذلك ما له من المشبه به، فظهر بهذا من فضله على كل النبيين ما هو اللائق به صلَّى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولًا عن أمته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آله محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح عبيدة أجوبة (11/ 161، 162). (¬1) في ن ب (أفضل). (¬2) سورة البقرة: آية 183.

عينه ووقته [ولقوله] (¬1) -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} (¬2) الآية، ومن المعلوم أن التشبيه إنما [وقع] (¬3) في أصل الإِيحاء لا في الشيء الموحى، لأنه غيره قطعًا، وكقوله -تعالى-: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ} (¬4) الآية. إنما أراد النبوة ولم يرد تعيين النعمة التي أنعم بها عليهم، وهذا الوجه لعله أقوى من كل ما سيأتي. وإن كان الشيخ تقي الدين قال: إنه ليس بالقوي. ثانيها: أن التشبيه إنما وقع في الصلاة على الآل فيكون الكلام تم عند قولهم: اللهم صل على محمد، ويكون منقطعًا عن التشبيه ويكون قوله: "وعلى آل محمد" متصل بما بعده فيكون المسؤول لهم مثل ما لإِبراهيم وآله، حكاه بعض أصحاب الشافعي عنه، وفيه من الإِشكال أن غير الأنبياء لا يمكن أن يساويهم، فكيف يطلب ما لا يمكن وقوعه. ثالثها: أن التشبيه إنما وقع في الصلاة مقابلة للمجموع من النبي وآله بالمجموع من إبراهيم وآله، ومعظم الأنبياء هم آل إبراهيم، فكأنه سأل مقابلة الجملة بالجملة، لا المقدار بالمقدار، لأنه إذا تعذر أن يكون لآل الرسول مثل ما لآل إبراهيم الذي هم ¬

_ (¬1) في ن ب د (وكقوله). (¬2) سورة النساء: آية 163. (¬3) في ن ب د (هو). (¬4) سورة يوسف: آية 6.

[الأتباع] (¬1) من الأنبياء وغيرهم كان ما يوفر من ذلك [حاصلًا] (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون زائدًا على الحاصل لإِبراهيم، والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان، ومن كانت في حقه أكثر فهو أفضل، ذكره الشيخ عز الدين. وقال المحب الطبري في "أحكامه" قوله: إنه يتعذر أن يكون لآل الرسول مثل ما لآل إبراهيم ممنوع، وما المانع بأن يحصل لهم من الرحمة مثل ما حصل لهم ببركة الدعاء. رابعها: أن الأمر بالصلاة علّة للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصلٍّ، فإذا اقتضت في حق كل مصل حصول صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم كان الحاصل لنبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام - بالنسبة إلى مجموع الصلوات أضعافًا مضاعفة لا ينتهي إليها العد والإِحصاء. وإن قيل: التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة والفرد منها، فالإِشكال حاصل. والجواب ما قاله الشيخ تقي الدين: إن الأمر هنا للتكرار بالاتفاق، وحينئذ فالمطلوب من المجموع حصول مقدار لا يحصى من الصلوات بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإِبراهيم عليه الصلاة والسلام. خامسها: ذكره ابن الصلاح، وقرره الشيخ تقي الدين: أنه ¬

_ (¬1) في ن ب (أتباع). (¬2) في ن ب (خالصًا).

لا يلزم من مجرد السؤال لصلاة مساوية لإِبراهيم المساواة أو عدم الرجحان عند السؤال، وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن ثابتًا لنبينا [محمد] (¬1) صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم أو زائدة عليها، فأما إذا كان ذلك له، فالمسؤول إنما هو صلاة زائدة على ما أعطيه مضافًا إليه، ويكون ذلك الزائد مشتبه بالصلاة على إبراهيم، وليس [بمستنكر] (¬2) أن يسأل الفاضل أن يمنح فضيلة أعطيها المفضول ليساويه في تلك الفضيلة، منضمًا إلى ما له من الفضائل التي ليست لذاك. مثال هذا: [ما إذا] (¬3) أعطى الملك رجلًا أربعة آلاف، وأعطى آخر [ألفين] (¬4)، فسئل أن يعطي صاحب الأربعة أيضًا ألفين كما أعطى الآخر فإذا حصلت له انضمت إلى الأربعة المتقدمة، فيصير المجموع: ستة آلاف، فيحصل الرجحان (¬5). الثالث والعشرون: احتج بهذا الحديث من أجاز الصلاة على غير الأنبياء، فإن أراد بالجواز على سبيل التبعية لهم فمسلم، وإن أراد على سبيل الاستقلال فممنوع، مع أن الصلاة والتسليم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب د (بمستدل). (¬3) في ن ب تقديم وتأخير. (¬4) في ن ب (ألفي). (¬5) للاستزادة والاطلاع على ما قيل في هذا المبحث وتوجيه بعض الأقوال. انظر: الفتح (11/ 161، 162)، والقول البديع (127، 135)، وتنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة (2/ 112).

[لم يؤمر] (¬1) بهما على سبيل الجمع في القرآن، إلَّا عليه - صلى الله عليه وسلم - ولم يخبر الله -تعالى-[عن] (¬2) نفسه الكريمة وعن ملائكته بالصلاة فقط [إلَّا على نبيه - عليه أفضل الصلاة والتسليم - وأما السلام فقط] (¬3)، فقد سلم الله -تعالى- في سورة والصافات: على المرسلين، دون الصلاة. وقد أمر الله -تعالى- نبيه محمدًا بالسلام على المؤمنين بالآيات إذا جاءه فقال: {وَإِذَا جَاءَكَ} (¬4) الآية. وقد أجمع العلماء على الصلاة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أجمع من يعتد به على جوازها واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالًا. وما حكي [عن] (¬5) مالك من أنه لا يصلي على أحد من الأنبياء سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - فشاذ، كما قاله القرطبي (¬6)، وهي مأولة عليه بأنّا لم نتعبد بالصلاة على غيره. وأما غير الأنبياء من مؤمني الآدميين من هذه الأمة [] (¬7). فذهب مالك والشافعي والأكثرون: إلى أنه لا يصلى عليهم استقلالًا، فلا يقال: اللهم صل على أبي بكر مثلًا، ولكن يصلى ¬

_ (¬1) في ن ب (لو مر). (¬2) في ن ب (على). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) سورة الأنعام: آية 54. (¬5) في ن ب (من). (¬6) في المفهم (2/ 794). (¬7) في ن ب زيادة (فقد).

عليه تبعًا، والحديث يدل على ذلك خصوصًا على مذهب المحققين في أن الآل كل المؤمنين. واختلف أصحابنا في هذا المنع على أوجه: أصحها: أنه للتنزيه لا للتحريم، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، ولأن الصلاة في لسان السلف صارت مخصوصة بالأنبياء استقلالًا، كما أن قولنا: -عز وجل- مخصوص بالله -تعالى- فكما لا يقال: محمد عز وجل وإن كان عزيزًا جليلًا لا يقال أبو بكر أو علي صلَّى الله عليه وإن كان معناه صحيحًا. وذهب الإِمام أحمد وجماعة: إلى جواز الصلاة على كل واحد من المؤمنين استقلالًا. واحتجوا: بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬1)، وبقوله - عليه السلام -: "اللهم صل على آل أبي أوفى" فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أتاه قوم بصدقتهم صلى عليهم" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 43. (¬2) البخاري في الزكاة (1497)، وفي المغازي (4166)، وفي الدعوات (6332) (6359)، باب: هل يصلي على غير النبي، ومسلم (1078) في الزكاة، وأبو داود (1590) في الزكاة، والنسائي (5/ 31)، والبيهقي في السنن (2/ 152، 4/ 157)، وابن حبان (917)، والطيالسي (819)، وأحمد (4/ 353، 355، 381، 388). قال ابن حجر في الفتح (8/ 534): واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل قوله: "وعلى آل محمدًا" وأجاب من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = منع: بأن الجواز مقيد بما إذا وقع تبعًا، والمنع إذا وقع مستقلًا، والحجة فيه أنه صار شعار للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يشاركه فيه غيره، فلا يقال أبو بكر - صلى الله عليه وسلم - وإن كان معناه صحيحًا ويقال: صلَّى الله على النبي وعلى صدِّيقه أو خليفته ونحو ذلك، وقريب من هذا أنه لا يقال محمد عز وجل وإن كان معناه صحيحًا، لأن هذا الثناء صار شعارًا لله -سبحانه- فلا يشاركه غيره فيه، ولا حجة لمن أجاز ذلك منفردًا، فيما وقع من قوله -تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ولا في قوله: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، ولا في قول امرأة جابر: "صل عليَّ وعلى زوجي". فقال: "اللهم صل عليهما"، فإن ذلك كله وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء، وليس لغيره أن يتصرف إلَّا بإذنه، ولم يثبت عنه إذن في ذلك، ويقوي المنع بأن الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - صار شعارًا لأهل الأهواء، يصلون على من يعظمونه من أهل البيت وغيرهم. وهل المنع في ذلك حرام أو مكروه أو خلاف الأولى؟ حكى الأوجه الثلاثة النووي في الأذكار، وصحح الثاني، وقد روى إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أحكام القرآن" له بإسناد حسن عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: "أما بعد فإن ناسًا من الناس التمسوا عمل الدنيا بعمل الآخرة، وإن ناسًا من القصاص أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين، ويدَعوا ما سوى ذلك"، ثم أخرج عن ابن عباس بإسناد صحيح قال: "لا تصلح الصلاة على أحد إلَّا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن للمسلمين والمسلمات الاستغفار" وهو إختار ابن القيم -رحمنا الله وإياه-: ولكن قال: وإن كان شخصًا معينًا أو طائفة معينة كره، ولو قيل: بتحريمه لكان له وجه، ولا سيما إذا جعله =

وأجاب الأكثرون: بأن هذا النوع من الصلاة مأخوذ من التوقيف وعمل السلف، ولم ينقل استعمالهم ذلك، بل خصوا به الأنبياء كما ذكرنا. وأجابوا عن الآية الكريمة والحديث المذكورين وغيره من الأحاديث أنه من الله ورسوله دعاء وترحم، وليس فيه معنى التعظيم والتوقير الذي يكون من غيرهما. واتفق العلماء على جواز جعل غير الأنبياء من الأتباع والذرية والأزواج تبعًا لهم في الصلاة للأحاديث الصحيحة في ذلك وفي الأمر به في أحاديث التشهد والصلاة عليه. وفي السلام عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يزل السلف على العمل به خارج الصلاة أيضًا. وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجويني: إنه في معنى الصلاة، فإن الله -تعالى- قرن بينهما فلا يفرد به غائب غير الأنبياء، ولا بأس به، أي بل هو سنة للأحياء والأموات من المؤمنين: فيقال: سلام عليكم (¬1). ¬

_ = شعارًا له، ومنع منه نظيره أو من هو خير منه، كما تفعل الرافضة. لعلي - رضي الله عنه -. وانظر أيضًا: الفتح (11/ 170)، والقول البديع (86). وانظر: فتاوى شيخ الإِسلام (22/ 473، 474)، حيث قال: إظهار الصلاة على علي دون غيره مكروه. (¬1) قال السخاوي -رحمنا الله وإياه- في القول البديع (87): وقد اختلفوا في السَّلام: هل هو في معنى الصلاة؟ فيكره أن يقال علي - عليه السلام - وما أشبه ذلك، فكرهه طائفة منهم أبو محمد الجويني، ومنع أن =

[الرابع والعشرون] (¬1): إذا قلنا بجواز الصلاة على غير الأنبياء تبعًا لهم، فهل تكون التبعية للصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تكون متابعة للصلاة على كل نبي، الأمر في ذلك محتمل. [الخامس والعشرون] (¬2): في الحديث تنزيل مراتب الأنبياء وغيرهم ويقيس الإِنسان مراتبهم، فلا يقدم أخيرًا على أول. السادس والعشرون: إن تقديم [ذكر] (¬3) الشيء في كتاب الله لا يوجب العمل تقديمه، فإن الله -تعالى؛؛ قدم الأمر بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - على السلام، والسلام مقدم في الحديث (¬4)، وهذا يدلك أن الواو تقتضي مطلق الجمع لا الترتيب. ¬

_ = يقال علي - عليه السلام -، وفرق آخرون بينه وبين الصلاة بأن السلام يشرع في حق كل مؤمن حي أو ميت وغائب وحاضر، وهو تحية أهل الإِسلام بخلاف الصلاة، فإنها من حقوق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآله. ولهذا يقول المصلي السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول الصلاة علينا، فعلم الفرق ولله الحمد. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (11/ 170): تنبيه: اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيته في تحية الحي فقيل: يشرع مطلقًا، وقيل: بل تبعًا، ولا يفرد لواحد لكونه صار شعارًا للرافضة، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. (¬1) في الأصل (الرابع)، وفي ن ب د (تنبيه). (¬2) في ن ب د (الرابع) ... إلخ الأوجه. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) آية الأحزاب، ويقصد بالحديث السلام عليك أيها النبي.

السابع والعشرون: فيه فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضل الصلاة عليه والتسليم، وقد روينا في فضلهما والترغيب فيهما وما يترتب عليهما من: رفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتكثير الحسنات، وقضاء الحاجات، ورفع الحجب، واستجابة الدعوات: أحاديث كثيرات. واعلم أن ابن العطار -رحمه الله- قال: يؤخذ من هذا الحديث أيضًا أنه يستحب للإِنسان أن يبدأ بنفسه في الدعاء حيث قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. هذا لفظه، وهذا عجيب، فإن هذا لم يذكر في هذا الحديث، نعم يؤخذ هذا من الحديث الذي قبله فاعلمه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر التعليق ت (1)، ص (445) في الحديث الذي قبل هذا فاستفده، وفقنا الله وإياك لكل خير. "فوائد": الأولى: سئل (أي: الحافظ ابن حجر) أمتع الله بحياته عن صفة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها أو ندبيتها، هل يشترط فيها أن يصفه - صلى الله عليه وسلم - بالسيادة، كأن مثلًا: اللهم صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق، أو على سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإِتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له - صلى الله عليه وسلم - أو عدم الإِتيان به لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب رضي الله عنه: نعم، اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعًا منه - صلى الله عليه وسلم - كما لم يكن يقول عند ذكره - صلى الله عليه وسلم -: وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر، لأنا نقول: لو كان ذلك راجحًا، لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك. مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، إلى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أن قال: وقد عقد القاضي عياض بابًا في صفة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب "الشفاء" ونقل فيه آثارًا مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين، ليس في شيء منها عن أحد من الصحابة وغيرهم لفظ "سيدنا" ... إلخ كلامه. ولذلك قال النووي في "الروضة" (1/ 265): وأكمل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صل على محمد ... " إلخ وفق النوع الثالث المتقدم فلم يذكر فيه السيادة. اهـ. من صفة الصلاة للألباني (175). فائدة: قال في حاشية الروض لابن قاسم (3/ 140): في مسألة إهداء الثواب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره شيخ الإِسلام وغيره من أهل التحقيق، فإن له صلوات الله وسلامه عليه كأجر العامل، فلم يحتج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صوم، أو صدقة، أو قراءة من أحد، ورآه هو وبعض الفقهاء بدعة، ولم يكن الصحابة يفعلونه، وفي الاختيارات: لا يستحب إهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو بدعة، هذا هو الصواب المقطوع به. اهـ. وذلك بخلاف الوالد، فإن له أجرًا كأجر الولد. فائدة: قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (22/ 463): فإن قيل: فلم قيل: "صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد" فذكر هنا محمدًا وآل محمد. وذكر هناك لفظ "آل إبراهيم، أو إبراهيم". (قيل): لأن الصلاة على محمد وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، وأما الصلاة على إبراهيم ففي مقام الخبر والقصة، إذ قوله: (على محمد وعلى آل محمد) جملة طلبية، وقوله: "صليت على آل إبراهيم، جملة خبرية، والجملة الطلبية إذا بسطت كان مناسبًا، لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب، وينقص بنقصانه. وأما الخبر، فهو الخبر عن أمر قد وقع وانقضى، لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلم يمكن في زيادة اللفظ زيادة المعنى، فكان الإِيجاز فيه والاختصار أكمل وأتم وأحسن، ولهذا جاء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بلفظ آل إبراهيم تارة، وبلفظ إبراهيم أخرى، لأن كلا اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر، وهو الصلاة التي وقعت ومضت. إذ قد علم أن الصلاة على إبراهيم التي وقعت هي الصلاة على آل إبراهيم، والصلاة على آل إبراهيم صلاة على إبراهيم، فكان المراد باللفظين واحدًا مع الإيجاز والاختصار ... إلخ. فائدة: في إفراد الصلاة عن السلام، قرر جماعة من العلماء كراهية إفراد الصلاة عن السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فائدة: في لفظة "كرم الله وجهه" قد ساق السفاريني في غذاء الألباب ثم قال: (قلت: قد ذاع ذلك وشاع وملأ الطروس والأسماع. قال الأشياخ: وإنما خص علي "رضي الله عنه" بقول: كرم الله وجهه، لأنه ما سجد إلى صنم قط، وهذا إن شاء الله لا بأس به، والله الموفق). اهـ. أقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد: يقوى المنع تخصيص على "يكرم الله وجه" دون "رضي الله عنه"، لأنه صار شعارًا للشيعة وأهل الأهواء. فالأولى الاقتصار على "رضي الله عنه" دخولًا تحت الدعاء العام للصحابة -رضي الله عنهم-. تنبيه: في مسند أحمد عن أبي سعيد الخدري "رضي الله عنه" يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الراية فهزها، ثم قال: "من يأخذها بحقها"، فجاء فلان، فقال: أنا، قال: "أمط"، ثم جاء رجل فقال: أمط، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلًا لا يفر، هاك يا علي ... " الحديث. وفي مسند سلمة بن الأكوع أنه قالها للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل. اهـ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 123/ 3/ 22 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال" (¬1). وفي لفظ لمسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (832) في الجنائز، باب: التعود من عذاب القبر، ومسلم (1/ 580) (131) في المساجد، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، والترمذي (3604) في الدعوات، باب: في الاستعاذة، والنسائي (8/ 275، 278) في الاستعاذة من عذاب جهنم وشر المسيح الدجال، وفي الاستعاذة من عذاب النار، وأبو عوانة (2/ 235، 236)، وابن حبان (1002، 1018، 1019)، وابن خزيمة (721)، وابن أبي شيبة (10/ 190). (¬2) مسلم (588، 128، 131)، وأبو داود (983) في الصلاة، باب: ما يقول بعد التشهد، والنسائي (3/ 58) في السهو، باب: نوع آخر، والدارمي (1/ 310)، وابن الجارود (207)، وأبو عوانة (2/ 235)، والبيهقي (2/ 154)، وابن حبان (1967)، وابن خريمة (721)، والبغوي في شرح السنة (693)، وأحمد (2/ 237)، وابن ماجه (909).

ثم ذكر نحوه. الكلام عليه من أربعة عشر وجهًا: الأول: لفظ مسلم هذا هو من أفراده، كما شهد له بذلك أيضًا عبد الحق وغيره. وأما النووي في "شرح المهذب" و"الأذكار" (¬1) فعزاه إلى البخاري أيضًا، وكأنه أراد أصل الحديث، فإن البخاري أخرجه باللفظ الأول في باب الجنائز من صحيحه في باب التعوذ من عذاب القبر. الثاني: قد تكرر أن: "كان" هذه تدل على المداومة والتكرار. الثالث: ظاهر الرواية الأولى عموم الدعاء بذلك، أعني في الصلاة وغيرها بخلاف رواية مسلم الثانية، فإنها دالة على استحباب هذا الدعاء آخر الصلاة قبل السلام، وفي "صحيح (¬2) مسلم" أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، وأن طاوسًا -رحمه الله- أمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدع به فيها، وهذا كله دليل على تأكيد هذا الدعاء والتعوذ والحث الشديد عليه، وظاهر كلام طاوس أنه حمل الأمر به على الوجوب فأوجب الإِعادة بفواته (¬3). وإليه ذهب أهل الظاهر والجمهور على خلافه، ولعله أراد تأديب ابنه وتأكيد هذا الدعاء عنده، لا أنه يعتقد وجوبه. ¬

_ (¬1) الأذكار (55)، والمجموع شرح المهذب (3/ 468 - 470). (¬2) مسلم (950). (¬3) انظر: المجموع (3/ 470).

الرابع: دعاؤه - عليه الصلاة والسلام - واستعاذته من هذه الأمور التي عوفي منها وعصم، إنما فعله ليلزم خوف الله وإعظامه والافتقار إليه؛ لتقتدي أمته به، وليبين لهم صفة (¬1) الدعاء والمهم منه. فأجاب بعضهم عن استعاذته من الدجال: بأنه يحتمل أن ذلك قبل أن يعلم أنه لا يدركه، ويحمل التعوذ من فتنة تشبه فتنته. والجواب القوي ما قدمناه أولًا (¬2). الخامس: القبر واحد القبور والمقبرة مثلثة الباء [واحدة المقابر] (¬3) وقد جاء في الشعر المقبر: قال لكل قوم مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد وقبرت الميت أقبره بضم الباء وكسرها قبرًا، أي دفنته وأقبرته. أمرت بأن يقبر. ¬

_ (¬1) ومن الأجوبة التي ذكرها ابن حجر في الفتح غير ما سبق (2/ 319)، ثانيها: المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتى. ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإِجابة، لأن ذلك يحصل الحسنات ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأنه على ملازمة ذلك لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. (¬2) ويدل على ذلك أنه قبل العلم بعدم إدراكه ما روى مسلم في صحيحه: "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه". (¬3) في ن ب ساقطة.

وقال ابن السكيت: أقبرته: صيرت له قبرًا يدفن فيه. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)} (¬1): أي جعله ممن يقبر ولم يجعله ملقى للكلاب وكأن القبر مما أكرم به بنو آدم. السادس: الحديث مصرح بإثبات عذاب القبر وفتنته، وهو مذهب أهل السنة والحق، والإِيمان به واجب، وهو متكرر مستفيض في الأحاديث، وقد سلف الكلام في ذلك في الحديث السادس من باب الاستطابة واضحًا ومن خالف فيه. السابع: فيه الإِيمان بالنار، وأنها مخلوقة موجودة، وقد ثبتت الاستعاذة منها في غير حديث. الثامن: الفتنة قال أهل اللغة: هي الامتحان والاختبار. قال القاضي عياض: لكن عرفها في اختبار كشف ما يكره. يقال: فتنت الذهب إذا أدخلته النار ليختبر، وينظر ما جودته، ودينار مفتون. قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). ويسمى الصائغ: الفتان. وكذلك الشيطان. وقال الخليل: الفتن: الإِحراق. قال -تعالى-: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} (¬3) ويقال: افتتن الرجل وفتن فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله، وكذلك إذا اختبر قال -تعالى-: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (¬4) والفتون: أيضًا الافتتان فيتعدى ولا يتعدى. وأنكر ¬

_ (¬1) سورة عبس: آية 21. (¬2) سورة البروج: آية 10. (¬3) سورة الذاريات: آية 13. (¬4) سورة طه: آية 40.

الأصمعي (¬1)، أفتنت بالألف. وقال الفراء (¬2): أهل الحجاز يقولون: ما أنتم عليه بفاتنين. وأهل نجد يقولون: بمفتنين من أفتنت. التاسع: فتنة المحيا والممات، أي الحياة والموت. فتنة المحيا ما يتعرض له الإِنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات والجهالات وأشدها وأعظمها والعياذ بالله منه أمر الخاتمة عند الموت. وفتنة الممات قيل المراد فتنة القبر. وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة من عذاب القبر وفتنة القبر: كمثل أو أعظم من فتنة الدجال، ولا يكون من هذا الوجه متكررًا مع قوله: "من عذاب القبر" لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسبب غير المسبب. ولا يقال: إن المقصود زوال عذاب القبر، وإن الفتنة نفسها أمر عظيم وهو شديد يستعاذ بالله من شره. ويجوز أن يراد بفتنة الممات: الفتنة عند الموت، وأضيفت إلى الموت لقربها منه عند الاحتضار، وقبله بقليل، وتكون فتنة المحيا على هذا ما يقع قبل ذلك في مدة الحياة للإِنسان، ويصرفه في الدنيا، فإن ما قارب الشيء يُعطى حكمه، فحالة الموت تشبه بالموت، فلا تعد من الدنيا فعلى هذا يكون الجمع بين فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال من باب ذكر الخاص بعد العام ونظائره [كثيرة] (¬3)، وخصت فتنة المسيح بالذكر لأجل الاهتمام. ¬

_ (¬1) لسان العرب (10/ 178، 181). (¬2) معاني القرآن (2/ 394). (¬3) زيادة من ن ب د.

ويحتمل أن يراد بفتنة المحيا والممات: حالة الاحتضار وحالة المسائلة في القبر، فكأنه استعاذ من [فتنة] (¬1) هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما كما قال الله -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (¬2) الآية. تنبيه: ذكر في الحديث التعوذ من أربع، وعند المحيا والممات واحدًا، وهي في الحقيقة خمسة. وأجاب بعضهم: بأنه لو عدها خمسًا لكانت وترًا، والغالب في الوتر في الشريعة أنه لا يذكر إلَّا في شيء محبوب، وهذه الأربعة مكاره، لكن [روى] (¬3) عبد بن حميد (¬4) في مسنده من حديث أبي هريرة: "استعيذوا بالله من خمس" فذكرهن. العاشر: ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور حيث أمرنا بها في كل صلاة، وهي حقيقة بذلك لعظم الأمر فيها، وشدة البلاء في وقوعها، ولأن أكثرها أمور إيمانية غيبية، فيكررها على الأنفس بجعلها ملَكَةً لها. الحادي عشر: الرواية الثانية في الكتاب فيها زيادة كون الدعاء ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) سورة إبراهيم: آية 27. (¬3) في الأصل (أدعى)، والتصحيح من ن ب د. (¬4) النسائي (8/ 276)، وأحمد (2/ 416). قال أحمد شاكر في المسند (19/ 110): إسناده صحيح. قلت: فيه اختلاف بين النسخ فطبعة أحمد بلفظ "كان" والطبعات الأخرى فيه لفظ الأمر وهو: "استعيذوا". وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1119).

مأمورًا به بعد التشهد، والمراد [به] (¬1) الأخير، كما جاء في الحديث الآخر في مسلم (¬2) أيضًا، "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع"، وهو ظاهر لبناء الأول على التخفيف. وأما الشيخ تقي الدين فقال: هذا الحديث عام في التشهد الأول والأخير، وقد اشتهر بين الفقهاء استحباب التخفيف في التشهد الأول، وعدم استحباب الدعاء بعده، حتى سامح بعضهم في الصلاة على الآل فيه، وقد يكون إذا ورد تخصيمة بالأخير متمسكًا لهم من باب حمل المطلق على المقيد أو من باب حمل [الخاص على العام] (¬3) وفيه بحث. قال: والعموم الذي ذكرناه يقتضي الطلب لهذا الدعاء فمن خصه، فلا بد له من دليل راجح وإن كان نصًا فلا بد له من صحته، هذا كلامه وقد علمت أيها الناظر ورود النص المخصص لذلك وصحته والحمد لله. [الثاني عشر: [الأول] (¬4) امتثال الأمر بقول ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يمكن التعبير بغير هذا اللفظ وهو جائز لحصول المقصود به، فإن معنى أعوذ: أعتصم. الثالث عشر: في الحديث الرد على أبي حنيفة حيث منع في الصلاة إلا بألفاظ القرآن العظيم] (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت زيادة من ن ب د. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في ن ب تقديم وتأخير. انظر: إحكام الأحكام (3/ 38). (¬4) في ن د (الأولى). (¬5) ما بين القوسين زيادة من ن ب.

[الرابع عشر] (¬1): المسيح الدجال هو عدو الله الكذاب. سمي دجالًا لتمويهه وتغطيته الحق. وحكي [عن] (¬2) ثعلب: أن الدجال: الكذاب (¬3). وذكر القرطبي في تفسير (¬4) قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} (¬5) أن اسم الدجال: صاف، ويكنى أبا يوسف. قال: وهو يهودي. وجمعه: دجالون (¬6). والمسيح -بفتح الميم وتخفيف السين- على المشهور. وقيل: -بكسر الميم وتخفيف السين وتشديدها-. وقيل: كذلك لكن بالحاء المعجمة. وسمي بذلك: [لكونه] (¬7) ممسوح العين. وقيل: لأنه أعور. وقيل: لمسحه الأرض عند خروجه. فعيل بمعنى فاعل، فمسحه الأرض بمحنه، وعيسى - عليه السلام - يمسحها منحة. ¬

_ (¬1) في الأصل (الثاني عشر)، والتصحيح من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) لسان العرب (4/ 293، 294). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (4/ 89، 100) (15/ 324). (¬5) سورة غافر: آية 56. (¬6) انظر: لسان العرب (4/ 293، 294). (¬7) في ن ب د (لأنه).

قال أبو عبيد: وأصل المسيح بالعبرانية بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى (¬1) وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث أنس: " [ليس] (¬3) من بلد إلَّا سيطأه الدجال الاَّ مكة والمدينة" وفي حديث ابن عمرو إلَّا: "الكعبة وبيت المقدس" (¬4) ذكره [الطبري] (¬5)، وزاد الطحاوي من حديث جنادة بن أبي أمية عن بعض الصحابة "ومسجد الطور" (¬6) وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة: وأنه سيظهر على الأرض كلها إلَّا الحرم وبيت المقدس (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: المعرب (302)، والجامع لأحكام القرآن القرطبي (4/ 89). (¬2) البخاري (1881) في فضائل المدينة، باب: لا يدخل الدجال المدينة (7124) في الفتن، باب: ذكر الدجال من طريقين، ومسلم (2943) في الفتن، باب: قصة الجساسة، والبغوي (2022)، وأحمد (3/ 191، 238)، وابن أبي شيبة (12/ 181، 15/ 143). (¬3) في الأصل ساقطة، ومثبتة في ن ب د. (¬4) انظر: الفتح (13/ 105). (¬5) في ن ب (القرطبي). (¬6) قد ورد فيه حديث عند الإِمام أحمد في المسند (5/ 435). (¬7) الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد (24/ 76)، ومجمع الزوائد (7/ 343). قال ابن حجر في الفتح (13/ 105): رجاله ثقات. أسباب العصمة من فتنة الدجال: أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال: 1 - تعلم الدين الإِسلامي والتمسك به والاهتمام بمعرفة الله بأسمائه وصفاته مع التسلح بسلاح الإِيمان في معرفة الله بصفاته أن يعرف أن الدجال أعور، وأن الله ليس بأعور. وأنه لا يراه أحد حتى يموت. والدجال يراه الناس في الدنيا. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 2 - الحرص كل الحرص على الإِهتمام بالاستعاذة من فتنة الدجال في الصلاة وخارجها، كما يدل عليه حديث: "كان يدعو يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ... " الخ الحديث، وهذا يشمل داخل الصلاة وخارجها. 3 - قال السفاريني -رحمه الله- في لوامع الأنوار (2/ 106، 107)، مما ينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال وقد قال ابن ماجه: سمعت الطنافسي يقول سمعت المحاربي يقول: ينبغي أن يرفع هذا الحديث يعني حديث الدجال إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب، وقد ورد من علامات خروجه نسيان ذكره على المنابر. انظر: مجمع الزوائد (7/ 335). 4 - قراءة سورة الكهف مع حفظ فواتحها، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة فواتح سورة الكهف على الدجال وفي بعضها خواتيمها، والقراه: تكون من أولها إلى نهاية عشر آيات بحديث رواه مسلم: "من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف"، وروى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال" أي من فتنته" قال مسلم، قال شعبة: من آخر الكهف قال همام: من أول الكهف قال النووي: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتن بالدجال وكذا آخرها {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. 5 - العمل بالحديث النبوي في فضائل سورة الكهف فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". أخرجه الحاكم (2/ 368)، وقال الألباني: صحيح. صحيح الجامع (5/ 340). 6 - إمتثال قول الله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)}، وذلك بالفرار منه والابتعاد عن أماكنه وذلك =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبث به من الشبهات أو لما يبعث من الشبهات". مستدرك الحاكم (4/ 531)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5/ 303). والحرص كل الحرص على سكن مكة والمدينة، كما ورد في الحديث أنه لا يدخلهما. هل ذكر الدجال في القرآن؟ قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (13/ 91): تنبيه: اشتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن مع ما ذكر عنه من الشر وعظم الفتنة به وتحذير الأنبياء منه، والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة وأجيب بأجوبة: أحدها: أنه ذكر في قوله -تعالى-: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}، فقد أخرى الترمذي وصححه عن أبي هريرة رفعه: "ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من في: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها". الثاني: قد وقعت الإِشارة في القرآن إلى نزول عيسى ابن مريم في قوله -تعالى-: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}، وفي قوله -تعالى-: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}، وصح أنه هو الذي يقتل الدجال فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى. الثالث: أنه ترك ذكره احتقارًا، وتعقب بذكره يأجوج ومأجوج، وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال والذي قبله، وتعقب بأن السؤال باق، وهو ما الحكمة في ترك التنصيص عليه؟ وأجاب شيخنا الإِمام البلقينى بأنه اعتبر كل من ذكر في القرآن من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المفسدين فوجد كل من ذكر إنما كلهم ممن مضى، وانقضى أمره وأما من لم يجىء بعد فلم يذكر منهم أحدًا، انتهى. وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج. وقد وقع في تفسير البغوي أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، وأن المراد بالناس الدجال من إطلاق الكل على البعض، وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيانه، والعلم عند الله -تعالى-. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (13/ 91): ومما يحتاج إليه في أمر الدجال أصله، وهل هو ابن صياد أو غيره. انظر الفتح (13/ 325)، ولوامع الأنوار (2/ 107). الثاني: هل كان موجودًا في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟ فمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداري الذي أخرجه مسلم: أنه كان موجودًا في العهد النبوي، وأنه محبوس في بعض الجزائر. الفتح (13/ 325). الثالث: متى يخرج؟ فقي حديث النواس بن سمعان عند مسلم: أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية. الرابع: ما سبب خروجه؟ ففي مسلم في حديث ابن عمر عن حفصة: أنه يخرج من غضبة يغضبها. الفتح (13/ 325). الخامس: من أين يخرج؟ فمن قبل المشرق، ثم جاء في رواية أنه يخرج من خرسان. أخرى ذلك الحاكم من حديث أبي بكر، وفي أخرى أنه يخرج من أصبهان. أخرجها مسلم. السادس: وما صفته؟ صفته مشهورة. الفتح (13/ 90). السابع: ما الذي يدعيه؟ أمَّا الذي يدعيه فإنه يخرج أولًا فيدعي الإِيمان والصلاح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الإِلهية. كما أخرج الطبراني من =

وأنه يحصر المؤمنين [في] (¬1) بيت المقدس وأخباره شهيرة أعاذنا الله منه. ¬

_ = طريق سليمان بن شهاب قال: "نزل عليَّ عبد الله بن المعتمر وكان صحابيًّا فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق فيدعو إلى الدين فيتبع ويظهر، فلا يزال حتى يقدم الكوفة، فيظهر الدين ويعمل به فيتبع ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك يقول: أنا الله فتغشى عينه، وتقطع أذنه، ويكتب بين عينيه كافر، فلا يخفى على كل مسلم فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان"، وسنده ضعيف. فائدة: ذكر ابن أبي شيبة في المصنف (15/ 143). أثر: حدثا أبو المورع قال: حدننا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة يقول: لو خرج الدجال لآمن به قوم في قبورهم. أيضًا ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/ 355) من طريق ابن أبي شيبة. (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 124/ 4/ 22 - عن عبد الله [بن] (¬1) عمرو بن العاص، عن [أبي بكر] (¬2) الصديق - رضي الله عنهما - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلَّا أنت، فأغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) البخاري (834) في الآذان، باب: الدعاء قبل السلام (6326) وفي الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة (7387، 7388) وفي التوحيد، باب: وكان الله سميعًا بصيرًا، ومسلم (2705) في الذكر، باب: استحباب خفض الصوت في الذكر، والترمذي (3521) الدعوات، باب: دعاء يقال في الصلاة، والنسائي (3/ 53) في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، وابن ماجه (3835) في الدعاء، باب: دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد (1/ 4، 7)، وابن حبان (1976)، وابن خزيمة (845)، والسنة للبغوي (694)، وابن أبي شيبة (10/ 269)، وأبو يعلى (31، 32)، والبيهقي في السنن (2/ 154).

الكلام عليه من وجوه: وهو من أحسن الأدعية، فإن فيه الاعتراف بالذنب الذي هو: كالمانع من الإِنعام، فإن ظلم النفس ذنب، والاعتراف به أقرب إلى المحو، كما سيأتي. الوجه الأول: في التعريف بعبد الله بن عمرو وقد سلف في الطهارة. الثاني: في التعريف بالصديق واسمه عبد الله بن عثمان القرشي التيمي، وقيل: عتيق. وأمه: أم الخير سلمى (¬1). أسلم أبواه. روى عنه ولده عبد الرحمن وعائشة، وعمر، وعلي، وخلق، وروي له مائة حديث واثنان وأربعون حديثًا. اتففا منها على ستة وانفرد البخاري بأحد عشر [ومسلم] (¬2) بواحد. وكان أول الناس إسلامًا من الرجال. هاجر وشهد المشاهد، ومناقبه أفردت بالتصنيف، وترجمته في "تاريخ دمشق" في مجلد ونصف. ولي الخلافة ستة وعشرين شهرًا، ومات سنة ثلاث عشرة عن ثلاث وستين سنة. ودفن بالحجرة النبوية، وترجمته أبسط من هذا فيما [أفردناه] (¬3) في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعه منه. وفي سنن أبي داود (¬4) من حديث أبي خالد ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (بنت صخر). (¬2) في ن ب د (رمز له م). (¬3) في ن ب د (أفردته). (¬4) أبو داود (12/ 407) في الخلفاء. قال المنذري: في إسناده أبو خالد =

الدالاني عن أبي خالد مولى الجعدة عن أبي هريرة مرفوعًا: "أن أبا بكر أول من يدخل الجنَّة من هذه الأمة". فائدة: مات والد الصديق في المحرم سنة أربع عشرة وهو ابن سبع وتسعين سنة. [ومات] (¬1) الصديق قبله، فورث منه السدس، ورده على ولد أبي بكر. وذكر أبو قتادة: أن أبا قحافة أول مخضوب في الإِسلام، ولم ينل الخلافة رجل أبوه حي إلَّا اثنان: أبو بكر، والطائع من ولد العباسي، ذكر ذلك كله الحافظ محب الدين الطبري في أحكامه في الكلام على الاستخلاف. ¬

_ = الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، وثقه أبو حاتم الرازي، وقال ابن معين: ليس به بأس. وعن الإِمام أحمد نحوه، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد عنهم بالمعضلات. قال ابن القيم -رحمه الله- في التهذيب (7/ 20): "أما إنك يا أبا أبكر لأول من يدخل الجنة من أمتي"، وكلام المنذري عن ابن حبان في أبي خالد الدالاني -إلى قوله- فكيف إذا انفرد بالمعضلات، ثم زاد ابن القيم. وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث داود بن عطاء المديني عن أبو صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي بن كعب. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة". وداود بن عطاء هذا ضعيف عندهم. وإن صح فلا تعارض بينهما، لأن الأولوية في حق الصديق، مطلقة، والأولوية في حق عمر مقيدة بهذه الأمور في الحديث. (¬1) في ن ب د (وكان موت).

الثالث: تقدم الكلام على لفظ: "اللهم" في الباب الذي بعد كتاب الطهارة. وقوله: "ظلمت نفسي" أي بملابسة ما يوجب عقوبتها أو بما ينقص حظها. والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه ومنه قولهم: "من أشبه أباه فما ظلم" أي لم يضع الشبه في غير موضعه. ومنه المظلومة: الجلد، وهي الأرض التي لم يأتها المطر في وقته. والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاه الشرك، ثم ظلم المعاصي [وهي] (¬1) على مراتب. الرابع: النفس تذكر وتؤنث، قال -تعالى-: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} (¬2)، وقال -تعالى-: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} (¬3). والنفس قيل هي الروح، والخلاف في ذلك أعني في أن النفس هي الروح أم [لا] (¬4) حتى قيل: إن فيها ألف قول للعلماء (¬5). والظاهر أن المراد هنا بالنفس الذات أي ظلمتها [فوضعت] (¬6) المعاصي موضع الطاعات. ¬

_ (¬1) في ن ب (وهو). (¬2) سورة الزمر: آية 56. (¬3) سورة الزمر: آية 58. (¬4) في ن ب د زيادة: (شهير). (¬5) انظر: كتاب الروح لابن القيم (217)، ولوامع الأنوار (2/ 28، 45). (¬6) في ن ب (وضعت).

الخامس: [الغفر] (¬1): الستر كما أسلفته في شرح خطبة الكتاب. السادس: "الذنوب" جمع ذنب، وهو الجرم، مثل فليس وفلوس، فهو [اسم] (¬2)، والمصدر: أذناب، ولا يكاد يستعمل. السابع: في الحديث دليل على شرعية طلب تعلم العلم من العلماء خصوصًا في الدعوات المتعلقة بالصلوات وإجابة العالم للمتعلم سؤاله خصوصًا إذا كان المسؤول علمًا عمليًا وافتقارًا وتوحيدًا أو تنزيهًا. الثامن: [فيه دليل] (¬3) على أن الإِنسان لا يعرى من ذنب وتقصير كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "استقيموا، ولن تحصوا" (¬4). وقال: "كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين ¬

_ (¬1) في الأصل (الغفير)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في الأصل زيادة (فيه دليل). (¬4) مالك في الموطأ (1/ 34) في الطهارة، باب: جامع الوضوء بلاغًا، والتمهيد (24/ 318)، وابن ماجه (277) في الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء، والدارمي من طرق (1/ 168)، والحاكم في المستدرك (1/ 130)، وأحمد في المسند (5/ 280، 282، 276، 277)، والبغوي (1/ 327)، والبيهقي (1/ 457). قال أبو عمرو بن الصلاح: وله طوق صحاح "مساجلة علمية" (ص 17)، والطيالسي (996)، وابن حبان (1037)، والطبراني في الكبير (1444)، والصغير (2/ 88)، وابن أبي شيبة (1/ 5، 6).

التوابون" (¬1). ولو كان ثم حالة يعرى عن الظلم والتقصير لما طابق هذا الإِخبار الواقع، ولم يؤمر به، فيؤخذ منه الاعتراف بظلم النفس وتقصيرها في كل حالة، ثم إن التقصير في طلب معالي الأمور والتوسل بطاعة الله وتقواه إلى رفيع الدرجات عند الله -تعالى- لا يبعد أن يصدق عليه اسم الظلم بالنسبة لما يقابله من المبالغة والتشمير في ذلك. التاسع: قوله: "كثيرًا" هو بالثاء المثلثة في أكثر الروايات وفي بعض روايات مسلم بالباء الموحدة فينبغي أن يجمع بينهما كما قاله النووي في كتبه (¬2) للاحتياط على التعبد بلفظه والمحافظة عليه. العاشرة: قوله: "لا يغفر الذنوب إلَّا أنت" هو إقراره بالوحدانية واستجلاب للمغفرة، كما قال تعالى: "علم أنّ له ربَّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب" (¬3). وهو كقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬4) الآية. فأثنى على المستغفرين ¬

_ (¬1) الترمذي (2501) في صفة القيامة، باب: المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وابن ماجه (4251) في الزهد، باب: ذكر التوبة، والدارمي (2/ 303) في الرقاق، باب: في التوبة، وأحمد (3/ 198)، والحاكم (4/ 244)، وتعقبه الذهبي بقوله: "علي فيه لين"، وأبو يعلى (2922). (¬2) في الأذكار (55)، والمجموع (3/ 470). (¬3) البخاري (7507) في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، ومسلم (2758) في كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة. (¬4) سورة آل عمران: آية 135.

من ذنوبهم، وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار أمر به، فالأمر في الآية بالتلويح، وفي الحديث بالتصريح، لأنه قد قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به من جهة المعنى، وكل شيء ذم الله تعالى فاعله فهو ناه عنه من جهة المعنى. تنبيه: ما أحسن هذا الترتيب، فإنه قدم أولًا اعترافه بالذنب، ثم بالوحدانية، ثم سأل المغفرة بعد ذلك، لأن الاعتراف أقرب إلى العفو، والثناء على السيد بما هو أهله [أوحي] (¬1) لقبول مسألته، وقد جعل تقديم الثناء بين يدي الدعاء: كتقديم هدية الشفيع بين يدي مسألته، فإنه أقرب إلى القبول. فائدة (¬2): رجح بعضهم قول القائل: اللهم اغفر لي على قوله: ¬

_ (¬1) في ن ب (أرجي). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (13/ 472) نقلًا عن النووي في كتاب الأذكار (349)، عن الربيع بن خيثم أنه قال: لا تقل: أستغفر الله وأتوب إليه، فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم تفعل، بل قل: اللهم اغفر لي وتب عليّ. قال النووي: هذا حسن. وأما كراهية: استغفر الله وتسميته كذبًا، فلا يوافق عليه، لأن معنى أستغفر الله: أطلب مغفرته، وليس هذا كذبًا، قال: ويكفي في رده حديث ابن مسعود بلفظ، من قال: "أستغفر الله الذي لا إله إلَّا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوب وإن كان قد فر من الزحف". أخرجه أبو داود في الصلاة (1517)، باب: الاستغفار"، والترمذي (3572) في الدعوات، باب: في دعاء الضيف، والحاكم في المستدرك (1/ 511) ووافقه الذهبي. قلت: هذا في لفظ: أستغفر الله الذي لا إله إلَّا هو الحي القيوم، وأما وأتوب إليه، فهو الذي عنى الربيع -رحمه الله- أنه كذب، وهو كذلك =

أستغفرك وأتوب إليك. لأنه إذا قال ذلك ولم يكن متصفًا به كان كاذبًا وهو ضعيف في هذا الموضع وأمثاله، بل الأولى امتثال الأمر الوارد في ذلك. ومثله ما نقل عن بعضهم أنه توقف عن قوله في الدعاء في صلاة الجنازة: وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له استصغارًا لنفسه أن تتأهل للشفاعة ثم رجع عنه امتثالًا للأمر. ¬

_ = إذا قاله ولم يفعل التوبة كما قال، وفي الاستدلال للرد عليه بحديث ابن مسعود نظر لجواز أن يكون المراد منه ما إذا قالها وفعل شروط التوبة، ويحتمل الربيع أن يكون قصد مجموع اللفظين، لا خصوص أستغفر الله، فيصح كلامه كله، والله أعلم. قال السفاريني في شرح الثلاثيات (2/ 903): فالاستغفار التام الموجب للمغفرة، هو ما قارن عدم الإِصرار، كما مدح الله أهله، ووعدهم المغفرة. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره، فأفضل الاستغفار، ما اقترن به ترك الإِصرار وهو حيئنذ توبة نصوح، وأما إن قال بلسانه: أستغفر الله. وهو غير مقلع بلقبه فهو دعاء مجرد، إن شاء الله أجابه، وإن شاء رده، وربما يكون الإِصرار مانعًا من الإِجابة. وأما من قال: هو توبة الكذابين، فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعض الناس، وهذا حق، فإن التوبة لا تكون مع الإِصرار. وأما إن قال: أستغفر الله وأتوب إليه، فهذا له حالتان: إحداهما: أن يكون مصرًّا بقلبه على المعصية، فهذا كاذب في قوله: "أتوب إليه" لأنه غير تائب، فلا يجوز له أن يخبر عن نفسه بأنه تائب، وهو غير تائب. الثانية: أن يكون مقلعًا عن المعصية بقلبه، وفيه خلاف، والصحيح جوازه.

ومثله أن بعضهم توقف عن أن يجعل ذكره لا إله إلَّا الله خشية من اخترام المنية بين النفي والإِثبات، وجعل ذكره: الله، الله. وكل هذا بعيد والخير كله في اتباع السنة، بل في شرع ذلك للعبد لبشرى بتأهيله له، فللَّه الحمد. الحادي عشر: قوله: "مغفرة من عندك" المغفرة لا تكون إلَّا من عنده، ففي هذا وجهان: الأول: أن تكون إشارة إلى التوحيد المذكور: كأنه قال: لا يفعل هذا إلَّا أنت، فافعله أنت. الثاني: وهو الأحسن كما قال الشيخ تقي الدين (¬1): أن يكون إشارة إلى طلب مغفرة يتفضل بها من عند الله -تعالى- لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس [للعبد فيها سبب] (¬2) وهذا تبرأ من الأسباب (¬3) والإِدلال ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 42). (¬2) في ن د (فيها للعبد سبب). (¬3) قال الصنعاني في حاشيته (3/ 42): مراد الشارح المحقق أنه ليس الطلب للمغفرة للإِدلال بالأعمال لأن الأعمال، غير معلوم قبولها ولا سلامتها عما يعقبها مما يخل بها ويهضم جانب الاعتداد بها. فالمغفرة من عنده فضلًا، فالكل من فضل الله -تعالى-، جعل السبب وربط المسبب به وهداية العبد إليه، كما قال -تعالى-: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، ولذا قيل: علقوا الفضل بأسباب التقى ... ما ترى الأسباب ما الأسباب فيها ليس إلَّا الفضل فيها سببًا ... قف هنا إن شئت أو تزداد تيها

بالأعمال والاعتقاد [في كونها موجبة للثواب وجوبًا عقليًّا (¬1). وقال ابن الجوزي: المعنى هب ليس المغفرة تفضلًا] (¬2) وإن لم أكن أهلًا لها بعملي وهو قريب مما قبله أو هو هو. الثاني عشر: [قوله: "وارحمني" الرحمة من الله -تعالى- عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه] (¬3) (¬4)، إما نفس الأفعال التي يوصلها الله -تعالى- من الإِنعام والإِفضال إلى العبد، وأما إرادة إيصال تلك الأفعال إلى العبد، فعلى الأول هي من صفات الفعل، وعلى الثاني هي من صفات الذات. تنبيهان: الأول: المراد بالرحمة هنا زيادة الإِحسان على الغفران دفعًا ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في حاشيته (3/ 43) على قوله: "وجوبًا عقليًا". أقول: يشير إلى إبطال ما عليه المعتزلة، من وجوب الثواب عقلًا، وليس هذا محلًّا للاستدلال على ذلك، ولا لتعيين الحق بمجرد دعوى ليس عليها دليل بذلك، والأليق بهذا المقام ما حررناه من التبرؤ من الأسباب. انظر: التعليق السابق ... إلخ. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قوله: "والرحمة من الله عند المنزهين من الأصوليين". قال الصنعاني في حاشيته (3/ 43): أقول: الحق في مثل هذا المقام إبقاء الصفات على حقائقها وظواهرها ... إلخ. وقد مر بنا مبحث صفة الرحمة وما عليه أهل السنة والجماعة، فارجع إليه، رزقنا الله وإياك علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.

للتكرار، فإن نفس المغفرة: رحمة، ولذلك جاءت الرحمة مكان [المغفرة] (¬1) في قوله -تعالى -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2). الثاني: أخذ من قوله -تعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬3) الآية. أن الله تعالى أرحم بالعبد من أمه وأبيه. وبيانه أن العادة: أن الإِنسان يوصي على ولده غيره، والله -تعالى- قد أوصى أبانا علينا، وأما أخذ ذلك من قوله -تعالى-: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} فظاهر فإن الوالدين من الراحمين. الثالث عشر: قوله: "إنك أنت الغفور الرحيم". "إن" هنا للتعليل، و"أنت" يجوز أن تكون توكيدًا للكاف، ويجوز أن تكون فصلًا. والصفتان للمبالغة وقعتا حتمًا للكلام على جهة المقابلة لما قبلها، فالغفور: مقابل لقوله: اغفر لي، والرحيم: مقابل لقوله: وارحمني، وقد وقعت المقابلة هنا للأول بالأول، والثاني بالثاني، وقد تقع على خلاف ذلك مراعاة للقرب فيجعل الأول للأخير وذلك على حسب اختلاف المقاصد وطلب التفنن في الكلام، وهو أن يذكر شيئًا ثم يقصد تخصيصه، فيعيده مع ذلك المخصص [مثل] (¬4) قوله -تعالى-: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)} ثم قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} (¬5)، فبدأ بالأول لتصدره، وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ¬

_ (¬1) في الأصل (الرحمة)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) سورة الأعراف: آية 156. (¬3) سورة النساء: آية 11. (¬4) في ن ب د (نحو). (¬5) سورة هود: آيتان 105، 106.

وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (¬1) الآية. فبدأ بالثاني قبل الأول ومما يحتاج إليه في علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لما قبلها. الرابع عشر: هذا الحديث يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله، ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء [في أي مكان] (¬2) جاز. قال الشيخ تقي الدين (¬3): ولعل الأولى أن يكون في أحد موضعين: إما السجود، وإما بعد التشهد أي الأخير فإنهما الموضعان اللذان أمر فيهما بالدعاء (¬4). قال - عليه الصلاة والسلام -: "وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء" (¬5). وقال في ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 106. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) إحكام الأحكام (3/ 39). (¬4) قوله: "فإنهما الموضعان اللذان أمرنا فيهما بالدعاء"، أما محلات الدعاء في الصلوات التي ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو فهي سبعة مواضع ذكرها ابن القيم في زاد المعاد (1/ 256) ويجمعها قولًا: مواضع كانت في الصلاة لأحمد ... إذا ما دعا قد خصصوها بسبعة عقيب افتتاح ثم بعد قراءة ... وحال ركوع واعتدال وسجدة وبينهما بعد التشهد هذه ... مواضع تروى عن ثقات بصحة انظر كلام المصنف في ص (439). (¬5) مسلم (479) في الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأبو داود (876) في الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 188، 190) في التطبيق، باب: تعظيم الرب في الركوع، والدارمي (1/ 304)، وابن الجارود (203)، والحميدي (489)، والشافعي (1/ 82)، وعبد الرزاق (2839)، وأحمد =

التشهد: "فليتخير من المسألة ما شاء" (¬1). قال: ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل. وقال الفاكهي في هذا الترجيح نظر، والأولى الجمع بينهما في [المحلين] (¬2) المذكورين. قلت: ويؤيد [هذا] (¬3) ما قاله الشيخ تقي الدين أن البخاري في صحيحه (¬4) والنسائي (¬5) والبيهقي (¬6) وغيرهم من الأئمة احتجوا بهذا الحديث للدعاء في آخر الصلاة. وقال النووي: هو استدلال صحيح، فإن قوله: في صلاتي تعم جميعها، ومن مظان الدعاء في الصلاة هذا الموطن، وكذا قال ابن الجوزي في (كشف المشكل): إن أولى المواضع به بعد التشهد. قلت: ورجح بعضهم السجود عليه لشرفه عليه وبالإِجماع على ركنتيه بخلافه، فإنه مختلف فيه. ¬

_ = (1/ 219)، وابن أبي شيبة (1/ 248، 249)، والبغوي (626)، والبيهقي (2/ 110)، وابن حبان (1896)، وأبو عوانة (2/ 171)، وابن خزيمة (548). (¬1) انظر: الحديث الثاني من باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، التعليق (23، 24، 25). (¬2) في ن د (المجلسين). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) البخاري، (149)، باب: الدعاء قبل السلام (834). (¬5) النسائي (3/ 53)، باب: نوع آخر من الدعاء. (¬6) البيهقي (2/ 154)، باب: ما يستحب له أن لا يقصر عنه من الدعاء قبل السلام.

الخامس عشر: فيه دليل على الثناء على الله بما وصف به نفسه. تنبيهان: نختم بهما الكلام على الحديث الأول. قال صاحب القبس (¬1): أذن الله -تعالى- في الدعاء لعباده، وعلمه في كتابه وعلى لسان نبيه لأمته، فاجتمع فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه. وقد احتال (¬2) الشيطان للناس في هذا المقام، فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالشارع (¬3)، وأشر (¬4) ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء، فيقولون: دعاء آدم، ودعاء نوح، ودعاء يونس، [فاقتدوا] (¬5) بنبيكم، واشتغلوا بالصحيح مما جاء عنه، ويجوز للعالم بالله أن يدعو بغير المأثور بشرط أن لا يخرج عن التوحيد، والأفضل له التيمن بما صح عنه، والتبرك بألفاظه الفصيحة المباركة. قال القرافي: والأصل في هذا من الكتاب العزيز، قوله -تعالى- حكايته عن نوح: {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} (¬6)، وهو دال على أن الأصل في الدعاء التحريم إلَّا ما دل الدليل على جوازه. ¬

_ (¬1) القبس (2/ 421). (¬2) في ن ب زيادة (والنصيحة للأمة). (¬3) في القبس (بالنبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) في القبس (وأشد). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) سورة هود: آية 47.

ثانيهما: اختلف شيوخ الصوفية، كما قال صاحب القبس (¬1): هل الدعاء أفضل أم الذكر المجرد؟ فمنهم من رجح الثاني، لقوله - عليه الصلاة والسلام - حاكيًا عن الله: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" (¬2)، وقيل في كرم المخلوقين: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحيا وعلمك بالحقوق [فانت] (¬3) قَرْمُ ... لك الحسب الهذب والسنا ¬

_ (¬1) القبس (2/ 412). (¬2) البخاري في كتاب خلق أفعال العباد -رحمنا الله وإياه- (105)، وأخرجه الطبراني من حدث ابن عمر. وقال ابن حجر في الفتح (11/ 134): ومناسبة الترجمة -أي باب الدعاء بعد الصلاة- لهما: أن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب، كما في حديث ابن عمر رفعه، ثم ساقه. أخرجه الطبراني بسند لين. وقد ذكر ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في الوابل الصيب (190)، فقال: الفصل الثاني: الذكر أفضل من الدعاء لأن الذكر ثناء على الله -عز وجل- بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء: سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟ ثم ذكر: "من شغله ... إلخ" ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله -تعالى- والثناء عليه، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، كما ورد في الحديث: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه عز وجل والثناء عيه، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعد بما شاء". رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم. وهكذا دعاء ذي النون - عليه السلام -، الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلَّا فرج الله كربته، لا إله إلَّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". (¬3) في ن ب د (وأنت).

كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الكريم ولا مسا تنادي الريح مكرمة وجودا ... إذا ما الضب أحجره الشتا وأرضك أرض مكرمة تبنها ... بنو تيم وأنت لها سما إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضه الثنا وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي. فإذا كان الثناء كاف في المخلوقين فما ظنك برب العالمين، ولأن في الدعاء تحكمًا لقوله: اللهم افعل. ومنهم من رجح الأول لقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1)، وفي الصحيح: "هل من داع فأستجيب له" (¬2). وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة"، وأن الدعاء المأثور، أفضل من الذكر المأثور وأجاب عن الحديث السالف أن معناه أن العبد ليس في كل حاله يدعو، بل هو تارة يدعو، وتارة يذكر. فإذا دعا استجيب له وإذا ذكر أعطاه أكثر ما سأله، فهو الكريم في الحالين، وما أحسن قول الشاعر: [الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب] (¬3) وأجاب عن قولهم: إن في الدعاء تحكمًا، بأنه إنما يكون ذلك لو كان أمرًا، وإنما هو طلب وتضرع وإظهار لذل العبودية وعز الربوبية. ¬

_ (¬1) سورة غافر: آية 60. (¬2) البخاري فتح (9/ 115)، ومسلم (1/ 75)، ومالك في الموطأ (1/ 214)، وأحمد (2/ 504). (¬3) زيادة من ن ب د.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 125/ 5/ 22 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً بعد أن أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} إلا يقول فيها: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي". وفي لفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري (794) في الآذان، باب: الدعاء (817) في الركوع، باب: التسبيح في الركوع (4293)، في المغازي (4967، 4968)، في التفسير سورة النصر، ومسلم (484) (217)، باب: ما يقال في الركوع والسجود، أبو داود (877) في الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 219، 220) في التطبيق، باب: نوع آخر، وابن ماجه (889) في الإِقامة، باب: التسبيح في الركوع والسجود، والبغوي في السنة (618)، والبيهقي في السنن (2/ 86، 109)، وابن حبان (1929، 1930)، وأبو عوانة (2/ 186، 187)، وابن خزيمة (605)، وأحمد (6/ 43، 49)، وعبد الرزاق (2878)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 234).

الكلام عليه من وجوه: الأول: "إذا" منصوب بسبح، وهو لما يستقبل، ولا يدخل إلَّا على ما تحقق وقوعه بخلاف "إن"، فإنها تدخل على المشكوك في وقوعه، ولهذا لو قال: "إذا دخلت الدار فأنت طالق" لم يكن حلفًا بخلاف "إن دخلت الدار فأنت طالق"، لكنه إذا وجد المعلق عليه فيهما وقع الطلاق لوجود الصفة، وفي "إذا" وجه أنه لا يقع لأنه لا يسمى حلفًا عرفا. الثاني: الإِعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة، روي أن هذه السورة نزلت أيام التشريق في حجة الوداع (¬1). الثالث: الفرق بين النصر والفتح أن: الأول: إعانة وإظهار على العدو، ومنه نصر الله الأرض: أغاثها. الثاني: فتح البلاد: والمعنى نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العرب أو على قريش، وفتح مكة. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (8/ 736): وقد سئلت عن قول الكشاف: إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت بإذا الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله، وعلى تقدير صحته فالشرط لم يكتمل بالفتح، لأن مجىء الناس أفواجًا لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل، وقد أورد الطيبي السؤال وأجاب بجوابين: أحدهما: أن "إذا" قد ترد بمعنى إذ كما في قوله -تعالى-: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الآية. ثانيهما: أن كلام الله قديم وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى.

الرابع: قد تقدم في باب الجنابة الكلام على لفظ: "سبحان الله" وأنه من المصادر اللازمة للنصب، وأنه منصوب بإضمار فعل لا يظهر. الخامس: في الحديث مبادرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -[إلى] (¬1) امتثال ما أمره الله به، وملازمته [لذلك] (¬2) فكان يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفي ما أمر به في الآية، وكان يأتي به في ركوعه وسجوده، لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها، فكان يختارها لأداء هذا الواجب الذي أمر به ليكون أكمل. السادس: الباء في "بحمدك" متعلق بمحذوف، أي وبحمدك سبحت، وهذا يحتمل أن يكون أيضًا فيه حذف، أي وبسبب حمد الله سبحت، ويكون المراد بالسبب هنا التوفيق والإِعانة على التسبيح. السابع: قوله: "اللهم اغفر لي" فيه امتثال لقوله: "واستغفره" بعد امتثال قوله: "فسبح بحمد ربك" وسؤالُه المغفرة هنا مع أنه مغفور له هو من باب العبودية والإِذعان والافتقار. الثامن: ظاهر اللفظ الثاني يقتضي جواز الدعاء في الركوع، ولا تعارض بينه وبين الحديث الآخر: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه [في] (¬3) الدعاء" فإنه دال على ¬

_ (¬1) في ن ب (في). (¬2) في ن ب (كذلك). (¬3) في الأصل (من)، وما أثبت من ن ب د.

الأولوية وهي لا تخالف الجواز كيف، ولم ينه عنه فيه، بل فعله - عليه الصلاة والسلام - فيه وأمر بالاجتهاد في السجود من الدعاء من غير منع من التسبيح، بل أمر به [في حديث] (¬1) آخر فيقتضي ذلك جميعه أن يكون السجود، قد أمر فيه بتكثير الدعاء لإشارة قوله: "فاجتهدوا" والذي وقع في الركوع من قوله: "اغفر لي" ليس بكثير فلا تعارض إذًا، كذا قرره الشيخ تقي الدين (¬2). واعترض الفاكهي فقال: هذا تعسف منه. قال: وهذا عندي كلام من لم يعتد بقول الفقهاء: بالكراهة في الركوع، حيث اعتقد جوازه من هذا الحديث من غير كراهة (¬3) إذ لا يجوز أن يريد الجواز مع الكراهة، لكونه - عليه الصلاة والسلام - بريء من فعل ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 46). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (2/ 281): على قول البخاري (باب الدعاء في الركوع) ثم ساق الحديث بسنده: ترجم بعد هذا بأبواب التسبيح والدعاء في السجود، وساق فيه حديث الباب، فقيل: الحكمة في تخصيص الركوع بالدعاء دون التسبيح -مع أن الحديث واحد- أنه قصد الإِشارة إلى الرد على من كره الدعاء في الركوع كمالك، وأما التسبيح فلا خلاف فيه، فاهتم هنا بذكر الدعاء لذلك، وحجة المخالف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية ابن عباس مرفوعًا وفيه: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم"، لكنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع، كما لا يمتنع التعظيم في السجود. وظاهر حديث عائشة: أنه كان يقول هذا الذكر كله في الركوع وكذا في السجود.

المكروه، فهذا ليس بجيد، ثم لا نسلم كونه بكثير مع التعبير عنه بكان الذي تدل على المداومة، بل قد صرحت عائشة بالكثير بقولها: كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده الحديث، فهذا وهم ظاهر، هذا كلامه فليتأمل (¬1) ويبعد أن يقال يُرجِع قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك" إلى الركوع، وقوله: "اللهم اغفر لي" إلى السجود. التاسع: في لفظ عائشة الأول سؤال، وهو أن لفظة "إذا" تقتضي الاستقبال وعدم حصول الشرط حينئذ. وقولها: "ما صلى صلاة بعد أن أُنزلت عليه" تقتضي تعجيل هذا القول لقرب الصلاة الأولى التي [هي] (¬2) عقب نزول الآية من النزول للفتح، أي: [] (¬3) فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وذلك يحتاج إلى مدة أوسع من الوقت الذي بين نزول الآية، والصلاة الأولى بعده، فقول عائشة في بعض الروايات يتأول القرآن قد يشعر بأنه يفعل ما أُمر به فيه، فإن كان الفتح ودخول الناس في دين الله حاصل عند نزول الآية، فلم يقل فيه إذا جاء وإن لم يكن ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 300): على قوله: فليتأمل، وهو عجيب، فإن ابن دقيق العيد أراد بنفي الكثرة عدم الزيادة على قوله: "اللهم اغفر لي" في الركوع الواحد، فهو قليل بالنسبة إلى السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثير الدعاء، ولم يرد أنه كان يقول ذلك في بعض الصلوات دون بعض حتى يعترض عليه بقول عائشة: "كان يكثر". انظر: حاشية الصنعاني (3/ 46). (¬2) في ن د (هو). (¬3) في الأصل زيادة (الذي)، والتصحيح من ن ب.

حاصلًا، فكيف يكون القول امتثالًا للأمر الوارد بذلك، ولم يوجد شرط الأمر. وجوابه: كما قال الشيخ تقي الدين: أن يختار أنه لم يكن حاصلًا (¬1) على مقتضى اللفظ، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بادر إلى فعل المأمور به قبل وقوع الزمن الذي يتعلق به الأمر فيه، إذ ذاك عبادة ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 48): ولا يخفى تكلفه، وكان الأحسن أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - نرل ما سيقع مما أخبر الله أنه سيقع منزلة الواقع للقطع بوقوع ما علق به الأمر من باب (ونفخ في الصور) وأمثاله، وهذا على تقدير أن الآية نزلت قبل الفتح، وقال البرماوي: إن الذي عليه أئمة التفسير أن المراد بالفتح: فتح مكة، ونصر الله: الانتصار على قريش، وبدخول الناس في دين الله أفواجًا أي: زمرًا. الإشارة إلى طوائف العرب، وهم الذين دخلوا في دين الإسلام، وأن الآية نزلت في أيام التشريق في حجة الوداع. اهـ. قلت: إذا تم هذا عاد الإشكال الآتي وهو الإتيان بإذا في أمر قد انقضى وهي موضوعة للاستقبال، وقد أخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار. نزلت سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] كلها بالمدينة. وأخرج ابن أبي شيبة: وعبد بن حميد والبزَّار وأبو يعلى وابن مروديه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوسط أيام التشريق بمنى وهي في حجة الوداع، والأحاديث عن الصحابة تفيد أنها نزلت عليه هذه السورة بعد الفتح، فيرد إشكال استعمال إذا للماضي الذي أشار إليه الشارح. وجوابه ما صرح به ابن هشام في مغني اللبيب أن "إذا" تخرج عن الاستقبال فتجيء للماضي كما جاءت إذا للاستقبال وذلك كقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} [التوبة: 92] وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] فيحمل الحديث على ذلك.

وطاعة لا تختص بوقت معين، فإذا وقع الشرط كان الواقع من هذا القول بعد وقوعه واقعًا على حسب الامتثال. وقبل وقوع الشرط واقعًا على حسب التبرع، وليس في قول عائشة: "يتأول القرآن" ما يقتضي ولا بد أن يكون جميع قوله - عليه الصلاة والسلام - واقعًا على جهة الامتثال للمأمور حتى يكون دالًّا على وقوع الشرط، بل مقتضاه أنه يفعل تأويل القرآن، وما دل لفظه فقط وجاز أن يكون بعض هذا القول فعلًا لطاعة مبتدأة، وبعضه امتثالًا للأمر (¬1). ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 49): ظاهر السياق أنه كله وقع امتثالًا.

23 - باب الوتر

23 - باب الوتر هو بفتح الواو وكسرها، ذكر فيه رحمه الله ثلاثة أحاديث: الحديث الأول 126/ 1/ 23 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل قال: "مثنى مثنى، فإذا خشى الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما [قد] (¬1) صلى"، وأنه كان يقول: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترًا" (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (472، 473)، باب: الحلق والجلوس في المسجد (990، 993، 995، 1137)، ومسلم (749، 148)، وأبو داود (1421)، في الصلاة، باب: كم الوتر، والنسائي (3/ 232، 233) في قيام الليل، باب: كم الوتر، والبغوي (956، 957)، ومالك (1/ 123)، وابن ماجه (1320) في إقامة الصلاة، باب: في صلاة الليل ركعتين، وابن حبان (2426، 2620، 2622، 2623، 2624)، والبيهقي (3/ 21، 22)، وابن خزيمة (1072)، وأحمد (2/ 40، 49، 66، 79، 102، 119، =

الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا السائل بحثت عن اسمه فلم أر أحد ذكره. الثاني: "المنبر" مأخوذ من المنبر وهو الارتفاع، وفي صانعه أقوال، ذكرتها في (تخريجي لأحاديث الرافعي)، فراجعه منه (¬1). الثالث: "مثنى مثنى" غير مصروف للعدل والوصف. فإن قلت: القاعدة فيما عدل عن أسماء الأعداد، أنه لا يكرر أعني أنك تقول جاء في القوم مثنى ليس إلَّا من غير تكرير يريد اثنين اثنين، وكذا ثلاث ورباع ونحوها. قال -تعالى-: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬2). فكيف جاء هذا الحديث [وما الحكمة] (¬3) في ذلك؟ والجواب: ما ذكره ابن الحاجب في (شرح المفصل) حيث قال: مثنى في الخبر [المبالغة] (¬4) في التوكيد، وكأنه قال: صلاة الليل: اثنتان اثنتان، فكرر أربع مرات، لأن مثنى بمنزلة اثنين مرتين، فإذا كررت اثنين اثنين، فالتكرار معنوي فلو كان لفظيًّا لكان سقوطه وثبوته واحدًا، وجاز تكرير مثنى، وإن تبح تكرير اثنين أربع مرات، ¬

_ = 71، 81)، والطبراني (13096)، وابن الجارود (143)، وابن نصر (127)، ووالترمذي (437) باب: ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. (¬1) سيأتي في كتاب صلاة الجمعة. (¬2) سورة النساء: آية 3. (¬3) في ن ب (وما حكمه). (¬4) في ن ب (للمبالغة).

لأن مثنى أخصر؛ لأنه مفرد، وإن [كان] (¬1) للمبالغة فلا يبقى ما ذكرنا من أنه معدول عن المكرر. الرابع: قوله: "وهو على المنبر" مقتضاه جواز كلام الإِمام وهو على المنبر شرع في الخطبة وإن لم يشرع، وأن السائل عن العلم والحالة هذه غير لاغ. الخامس: فيه الاعتناء بقيام الليل والمحافظة عليه وعظم ثوابه، وقد صح في ذلك عدة أحاديث. السادس: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (مثنى مثنى) تمسك به مالك -رحمه الله- في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين سواء كان بالليل أو بالنهار، وبه قال الشافعي وأحمد، ومسلم أبو حنيفة في صلاة الليل. وقال في نفل النهار: رباع من حيث أن صلاة النهار، وهي الظهر والعصر رباعيتان، فنفله كفرضه، وأما الليل فصلاته فرضًا ثلاثية ورباعية. وقد نص الشارع على أن نفله مثنى فلا يتعدى. وأجاب الأولون والجمهور: بأنه صح في رواية أخرى من حديث ابن عمر أيضًا: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" رواه [أصحاب السنن الأربعة (¬2) وصححه ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) أبو داود (1295) في الصلاة، باب: في صلاة النهار، والترمذي (597) في الصلاة، باب: ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، والنسائي (3/ 227) في قيام الليل، باب: كيف صلاة الليل، وابن ماجه (1322) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.

البخاري (¬1)، وابن حبان (¬2) والحاكم (¬3) ................ ¬

_ (¬1) ذكره ابن حجر الدراية (1/ 200)، عن أبي أحمد بن فارس قال: سئل البخاري عن حديث ابن عمر هذا فقال: صحيح، والبيهقي في السنن (2/ 487). (¬2) ابن حبان (2482). (¬3) البيهقي (2/ 487)، والدارقطني (1/ 417). هذه الرواية سكت عنها الترمذي إلَّا أنه قال: اختلف أصحاب شعبة فيه فرفعه بعضهم ووقفه بعضهم. ورواه الثقات عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكروا فيه صلاة النهار، وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وقال في سننه الكبرى: إسناده جيد إلَّا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه. فلم يذكروا فيه النهار. منهم سالم، ونافع، وطاوس، ثم ساق رواية الثلاثه. وقد بسط تضعيف هذه الزيادة شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (21/ 289)، فقال بعد سياق الحديث: فهذا برواية الأزدي عن علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر. وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون، عن ابن عمر، فإنهم رووا ما في الصحيحين أنه سأل عن صلاة الليل فقال: "صلاة مثنى مثنى"، ولهذا ضعف الإِمام أحمد وغيره رواية البارقي، ولا يقال: هذه الزيادة من الثقة مقبولة لوجوه: أحدها: أن هذا متكلم فيه. ثانيها: أن ذلك لم يخالف الجمهور، وإلَّا فإذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان. الثالث: أن هذا إذا لم يخالف المزيد عليه، وهذا الحديث قد ذكر ابن عمر: "أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل. ومعلوم أنه لو قال صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة لم يجز ذلك، وإنما يجوز إذ ذكر صلاة الليل منفردة كما ثبت في الصحيحين والسائل =

والبيهقي] (¬1)، وهذه الرواية رافعة لحصر [رواية] (¬2) الصحيحين [وتحمل على أنها جواب لمن خص الليل بالذكر] (¬3)، وحديث عائشة الآتي يدل على عدم انحصار صلاة الليل في ذلك. السابع: هذا الحديث عند الشافعي محمول على الأفضل، فلو جمع ركعات بتسليمة واحدة جاز، وكذا إذا تطوع بركعة واحدة، وخالف مالك فيهما وأبو حنيفة في الثاني عملًا بظاهر هذا الحديث، وهذا أولى من الاستدلال بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب، فإنه ضعيف. وذكر بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الشيخ تقي الدين أنه لو تطوع بأزيد من ركعتين شفعًا أو وترًا فلا يزيد على تشهدين، ¬

_ = إنما سأله عن صلاة الليل. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يجيب عن أعم مما سئل عنه، كما في حديث البحر، لكن يكون الجواب منتظمًا كما في هذا الحديث. وهنا إذا ذكر النهار لم يكن منتظمًا، لأنه ذكر: "فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ... " إلخ. قال الزيلعي في نصب الراية: والحديث في الصحيحين من حديث جماعة عن ابن عمر ليس فيه ذكر النهار (2/ 144). وقال ابن عبد البر في تمهيده (13/ 185): وكان يحيى بن معين يخالف أحمد في حديث علي الأزدي ويضعفه، ولا يحتج به، ويذهب مذهب الكوفيين في هذه المسألة ... إلخ. انظر: تلخيص الحبير (2/ 22)، والدراية (1/ 2)، وفتح الباري (2/ 479). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (رواه)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) زيادة من ن ب د.

ثم إن كان المتنفل به شفعًا فلا يزيد بين التشهدين على ركعتين وإن كان وترًا فلا يزيد بينهما على ركعة، فعلى هذا إذا تنفل بعشر ركعات مثلًا جلس بعد الثامنة ولا يجلس بعد السابعة ولا ما قبلها لأنه قد يكون زاد على ركعتين بين التشهدين وإن تنفل بتسع أو بسبع مثلًا فلا يزيد بين التشهدين على ركعة فيجلس بعد الثامنة في التسع وبعد السادسة في السبع، ثم يصلي الركعة، ثم يجلس. ولو اقتصر على جلوس واحد في ذلك كله جاز، وإنما حمله على ما ذكر أن النوافل تبع للفرائض، وهي شبهها والفريضة الوتر للنهار (¬1) هي المغرب، وليس بين التشهدين فيها إلَّا ركعة واحدة والفرائض الشفع ليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعتين. الثامن: الحديث يقتضي تقديم الشفع على الوتر، فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع لم يكن آتيًا بالسنة، وهل يشترط في الإِيتار سبق نفل بعد العشاء فيه وجهان عندنا أصحهما لا وهو يوتر ما قبله فرضًا كان أو سنة. وظاهر مذهب مالك أنه لا يوتر بركعة، فردة هكذا من غير حاجة، كذا حكاه الشيخ تقي الدين. ونقل [المازري] (¬2) ذلك في الكراهة فقط قال: وإنما اختلف في المسافر ففي المدونة لا يوتر بها. وروى سحنون: نعم. ورأى سحنون أن المرض كالسفر. ¬

_ (¬1) في الأصل ون ب زيادة (لكنها). (¬2) في الأصل (الماوردي)، وما أثبت من ن ب د. انظر: المعلم بفوائد مسلم للمازري (1/ 453).

وقال أبو حنيفة: لا يجوز الوتر بأقل من ثلاث ركعات (¬1). لنا أحاديث صحيحة ذكرتها في "شرح المنهاج" منها: ما أخرجه ابن حبان في صحيحه (¬2) من حديث ابن عباس: "أنه - عليه الصلاة والسلام - أوتر بواحدة"، وحديث النهي عن البتر لا يصح كما بين ضعفه عبد الحق (¬3)، وحديث وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب (¬4) ضعيف أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر: الاصطلام في الخلاف للسمعاني (296، 305). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 481، 482): حديث أبي أيوب مرفوعًا: "الوتر حق، فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة"، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عند جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب ابن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وأيضًا عند البخاري في المناقب، باب: ذكر معاوية - رضي الله عنه - (3764، 3765)، وأيضًا عن سعد بن أبي وقاص في المغازي. (¬3) مختصر قام الليل للمروزي (277). قال في نصب الراية -رحمنا الله وإياه- (2/ 120). رواه ابن عبد البر في التمهيد، وذكره عبد الحق في أحكامه. وقال الغالب: على حديث عثمان بن محمد -هذا- الوهم، وقال ابن القطان في كتابه: هذا حديث شاذ ولا يعرج على راويه، وذكره ابن الجوزي في التحقيق، ثم قال: والمروي عن ابن عمر أنه فسر البتيراء أن يصلي بركوع ناقص وسجود ناقص". اهـ. وقال النووي في المجموع -رحمنا الله وإياه- (3/ 478)، حديث البتيراء ضعيف ومرسل. اهـ. (¬4) مختصر قيام الليل للمروزي (270). رواه الدارقطني في سننه (2/ 28) =

التاسع: يفهم من الحديث انتهاء وقت الوتر بطلوع الفجر من قوله: "فإذا خشي الصبح"، وهو قول الجمهور والصحيح عند الشافعية، وفي قول له: يمتد وقته حتى يصلي الصبح. وقيل: يمتد إلى طلوع الشمس، حكاه النووي في (شرح مسلم) (¬1). قال أبو الطاهر المالكي: والأول هو المشهور عندنا. قال: فلو لم يصله حتى أحرم بصلاة الصبح ففي القطع والتمادي قولان: وفي قول عندهم أنه يمتد وقته إلى الإِسفار. العاشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترًا" مقتضاه أن يكون آخر صلاة الليل، ولم يقل أحد بوجوب ذلك فيما أعلم. بل ذهب أبو حنيفة وحده دون صاحبيه إلى وجوب أصل الوتر، وقد يستدل بصيغة الأمر له، وهو ما فهمه المحب الطبري في (أحكامه)، ولا دلالة فيه، فإن أراد الاستدلال بأن تحمل الصيغة على الندب فلا تستقيم أيضًا لما يلزم منه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهذا الذاهب يمنعه ثم جعل الوتر آخر ¬

_ = وقال: يحيى بن زكريا، هذا يقال له ابن أبي الحواجب، ضعيف ولم يروه عن الأعمش مرفوعًا غيره. قال الحافظ في التلخيص (2/ 15)، قال البيهقي: "الصحيح وقفه على ابن مسعود، كذا رواه الثوري وغيره عن الأعمش، ورفعه ابن أبي الحواجب وهو ضعيف". اهـ. سنن البيهقي (3/ 31)، وشرح معاني الآثار (1/ 294) موقوفًا على ابن مسعود. (¬1) (6/ 24، 25).

[صلاة] (¬1) الليل هو الأفضل، لأنه الغالب من فعل الشارع. وقوله: فإن كان له تهجد آخره إلى أن يتهجد وإلَّا قدمه. كذا أطلقه النووي في (الروضة) (¬2) تبعًا للرافعي عن العراقيين. وقال في (شرح المهذب) (¬3): إن لم يكن له تهجد، ولكن وثق باستيقاظ آخر الليل يستحب تأخيره. قلت: دليله قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" رواه مسلم (¬4)، ومعناه: تشهدها ملائكة الرحمة، ودليل ما إذا لم يشق بذلك حديث أبي هريرة وغيره في الصحيح (¬5) "أوصاني خليلي - عليه الصلاة ¬

_ (¬1) في ن د ساقطة. (¬2) روضة الطالبين (1/ 329). (¬3) المجموع شرح المهذب (4/ 14). (¬4) مسلم (755، 163) في صلاة المسافرين، باب: من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، والترمذي (2/ 318) في الصلاة، باب: ما جاء في كراهية النوم قبل الوتر، وابن ماجه (1187) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الوتر آخر الليل، وابن خزيمة (1806)، وعبد الرزاق (4623)، وأحمد (3/ 300، 315، 337، 348، 389)، وابن حبان (2565)، وأبو عوانة (2/ 290، 291)، وأبو يعلى (1905، 2106، 2279)، والبيهقي (3/ 35). (¬5) البخاري (1178) في التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر (1981)، وفي الصوم، باب: صيام البيض، ومسلم (721) في صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، والنسائي (229) في قيام الليل، باب: =

والسلام- أن لا أنام إلَّا على وتر". الحادي عشر: من أوتر ثم تهجد لم يعده على الصحيح عندنا والمشهور عند المالكية. وهذا الحديث ظاهره يقتضي الإِعادة، لكنه يتوقف على أن لا يكون قبله وتر لما جاء في الأحاديث "لا وتران في ليلة"، حسنه الترمذي (¬1) مع الغرابة وصححه ابن حبان (¬2) وابن خزيمة (¬3)، وابن السكن فلزم من الأمر يجعله آخر الصلاة ومن قوله: "لا وتران في ليلة"، شفع الوتر الأول، فإنه إن لم يشفعه وأعاده لزم إعادتهما في ليلة، وإن لم يعد الوتر لم يكن آخر صلاة الليل وترًا ومن قال: [لا يشفع] (¬4) ولا يعيد الوتر منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام، والحديث وطول الفصل إن وقع ذلك فإذا لم يجتمعا والحقيقة أنهما وتران، ولا وتران في ليلة، فامتنع الشفع، ¬

_ = الحث على الوتر قبل النوم، وأحمد (2/ 459)، وابن حبان (2536)، والطيالسي (2392)، والدارمي (2/ 18، 19)، والبيهقي (3/ 36، 47، 4/ 493)، وابن خزيمة (1222، 1223). (¬1) الترمذي (470) في الصلاة، باب: ما جاء لا وتران في ليلة. (¬2) ابن حبان (2449)، ذكر الزجر عن أن يوتر المرء في الليلة الواحدة مرتين في أول الليل وآخره. (¬3) ابن خزيمة (1101)، وأخرجه أبو داود (1439) في الصلاة، باب: في نقض الوتر، والنسائي (3/ 229، 230) في قيام الليل، باب: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوتر في ليلة، والبيهقي (3/ 36)، وأحمد (4/ 23)، والطيالسي (1095)، والطبراني (8247). قال ابن حجر: وهو حديث حسن الفتح (2/ 481). (¬4) في ن ب (لا شفع).

وامتنع إعادة الوتر أخيرًا، ولم يبق إلَّا مخالفة ظاهر "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترًا" (¬1)، وهو محمول على الاستحباب كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه، ومن قال: بإعادة الوتر فهو أيضًا مانع من شفع الوتر الأول محافظة على الحديث المذكور، ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله: "لا وتران في ليلة" (¬2)، وقد ينبني الكلام في ذلك على مسألة، وهي: أن التنفل بركعة فردة هل يشرع في غير المنصوص عليه وقد سلف الخلاف فيه؟ وقد رتب الشافعي على هذا المعنى ما إذا نذر صلاة هل يلزمه ركعتان، نظر إلى واجب الشرع أو ركعة نظر إلى جائزه، فيه قولان: والأصح الأول (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) انظر: ت (1، 2، 3) ص (530). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (2/ 481): وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر، وقال الشوكاني في نيل الأوطار (3/ 52، 53)، أما حديث طلق وهو "لا وتران في ليلة"، فقد حسنه الترمذي قال عبد الحق: وغير الترمذي صححه. وقد احتج به على أنه لا يجوز نقض الوتر. ومن جملة المحتجين به على ذلك طلق بن علي الذي رواه كما قال العراقي. قال: وإلى ذلك ذهب أكثر العلماء. وقالوا: إن من أوتر وأراد الصلاة بعد ذلك لا ينقض وتره، ويصلي شفعًا حتى يصبح، ثم ذكر من اختار هذا القول من الصحابة وغيرهم، ومن أدلتهم أيضًا على عدم استحباب نقض الوتر قالوا: إن الرجل إذا أوتر أول الليل فقد قضى وتره، فإذا هو نام بعد ذلك، ثم قام وتوضأ وصلى ركعة أخرى، فهذه صلاة غير تلك الصلاة، وغير جائز في النظر أن تتصل هذه =

الثاني عشر. يؤخذ من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإذا خشي الصبح" أن ما بين طلوع الفجر والشمس من النهار، وهو قول الجمهور وأبعد من قال: إنه من الليل، ومن قال: إنه منفرد بنفسه. وعزي إلي الشعبي (¬1). ¬

_ = الركعة بالركعة الأولى التي صلاها في أول الليل فلا يصيران صلاة واحدة، وبينهما نوم وحدث ووضوء وكلام في الغالب. وإنما هما صلاتان متباينتان كل واحدة غير الأولى، ومن فعل ذلك فقد أوتر مرتين، ثم إذا هو أوتر أيضًا في آخر صلاته. صار موترًا ثلاثًا مرات، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترًا"، وهذا قد جعل الوتر في مراضع من صلاة الليل، وأيضًا قال - صلى الله عليه وسلم -: "وتران في ليلة! "، وهذا قد أوتر ثلاث مرات، وأما من استدل على جواز نقض الوتر بحديث ابن عمر أنه كان إذا سأل عن الوتر قال: "أما أنا فلو أوترت قبل ان أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري، ثم صليت مثنى مثنى، فإذا قضيت صلاتي أوترت بواحدة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر". رواه أحمد (2/ 135)، قال في مجمع الزوائد: فيه ابن إسحاق مدلس وهو ثقة، وبقية رجاله رجال الصحيحين، وقال الألباني في الإِرواء (2/ 194): إسناده حسن. (¬1) سبق هذا البحث في أوقات الصلاة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 127/ 2/ 23 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الليل وأوسطه، وآخره فانتهى وتره إلى السحر" (¬1). [الكلام عليه من وجوه، واللفظ المذكور لمسلم دون البخاري، ولفظ البخاري: "من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهى ¬

_ (¬1) البخاري (996) في الوتر، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745، 137) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وأبو داود (1435) في الصلاة، باب: في وقت الوتر، والترمذي (456) في الصلاة، باب: ما جاء في الوتر من أول الليل وآخره، والنسائي (3/ 230) في قيام الليل، باب: وقت الوتر، والبيهقي (3/ 35)، والدارمي (1/ 372)، والشافعي (1/ 195)، وابن حبان (2443)، وأحمد (6/ 46، 100، 107، 129، 204، 205)، وابن أبي شيبة (2/ 286)، وعبد الرزاق (4624). هذا اللفظ لمسلم، وليس في البخاري لفظ "من" بل لفظه "كل الليل"، وكذلك قولها: "من أول الليل وأوسطه وآخره"، هي من أفراد مسلم، والمصنف تبع في عزوه الحديث للشيخين الحميدي، وهو وهم، فليس هذا من ألفاظ البخاري. اهـ، من حاشية الصنعاني (3/ 59).

وتره إلى السحر"] (¬1) (¬2)، ولفظ أبي داود "لكن انتهى وتره حين مات إلى السحر". الأول: "السّحَرُ" وهو قبيل الصبح، وضبطه ابن أبي الصيف اليمنى بالسدس الأخير، وحكاه الماوردي في تفسيره (¬3) عن ابن [أبي] (¬4) زيد. الثاني: "الليل" اسم لما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وقد قدمت الخلاف قريبًا، فيما بين طلوع الفجر الثاني وطلوع الشمس، فظاهر هذا الحديث يدل على أنه ليس من الليل، لأنه جعل كل الليل وقتًا للوتر، وجعل نهاية الوتر الذي كل الليل وقته السحر أو الفجر، فدل على أن ما بعده ليس من الليل ولا شك أن أول وقت الوتر لا يدخل ما بين غروب الشمس ووقت العشاء اتفاقًا مع أنه داخل في قولها: "من كل الليل أوتر من أوله". والصحيح عندنا: أنه (¬5) لا يدخل وقته إلَّا بفعل الفرض. وقيل: يدخل وقته قبل فعل العشاء [وخصه بعضهم بمن ظن أنه فعل العشاء] (¬6) فصله، ثم بان أنه لم يفعلها، وتقدم في الكلام ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في الأصل هنا موضع الكلام عليه من وجوه. (¬3) تفسير الماوردي (5/ 366). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) في ن ب زيادة (داخل في قولها).

على الحديث الذي قبله انتهاء وقته مع الخلاف فيه، وأن الصحيح امتداده إلى طلوع الفجر الثاني. والأحاديث تدل له، [ويدل] (¬1) أيضًا لقول [من] (¬2) يقول: إنه يمتد إلى صلاة الصبح، فأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي الصبح عقب طلوع الفجر الثاني بيسير، فعبر في بعض الأحاديث [بفعل الصبح عن طلوع الفجر لقربه منه، واتفق العلماء على جواز فعله في جميع] (¬3) ما بين أول وقته وآخره. لكنهم اختلفوا في أن الأفضل تقديمه في أول الليل أو تأخيره إلى آخره على وجهين: حكاهما مطلقًا الشيخ تقي الدين (¬4)، ثم حكى مقالة فارقة بين من يرجو أن يقوم في آخر الليل، وبين من يخاف أن لا يقوم، وهذا أسلفته في الحديث الذي قبله، وإذا نظرنا إلى آخر الليل من حيث هو [فإنه أفضل من أوله وأوسطه، وكان فعل الوتر فيه أفضل، فإذا عارضه] (¬5) احتمال تفويته، قدمناه على ذوات هذه الفضيلة. وهذه قاعدة عامة يدخل تحتها أفراد منها: إذا رجا الماء آخر الوقت الأظهر عندنا أن تقديم الصلاة أول الوقت بالتيمم أفضل، إحرازًا للفضيلة المحققة على الموهومة. والمشهور من مذهب مالك أن التأخير أفضل (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (ويقول). (¬3) في ن ب (أن). (¬4) إحكام الأحكام (3/ 59). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) قال شيخ الإِسلام في الفتاوي (22/ 285): في حديث أبي هريرة أنه =

الثالث: "أوتر - صلى الله عليه وسلم - أول الليل وأوسطه وآخره" توسعة على أمته، وأقر الصديق على فعله أوله، والفاروق على فعله آخره، وقال: حَذِّرَ هذا، وقَوِّيَ هذا، بعد سؤاله لكل منهما متى يوتر (¬1). وليس للوتر وقت لا يجوز فيه ولا يكره. تنبيه: قال ابن العطار -رحمه الله- في "شرحه": هنا وقت ¬

_ = أوصاه أن يوتر قبل أن ينام، وهذا إنما يوصي به من لم يكن عادته قيام الليل، وإلاَّ فمن كانت عادته قيام الليل، وهو يستيقظ غالبًا من الليل، فالوتر آخر الليل أفضل له، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من خشي أن لا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يستيقظ آخره فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل"، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ فقال: قيام الليل". انظر: حاشية الصنعاني (3/ 60). (¬1) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: "متى توتر"؟ قال: أوتر ثم أنام. قال: "بالحزم أخذت"، وسأل عمر: "متى توتر"؟ قال: أنام، ثم أقوم من الليل فأوتر، قال: "فعل القوي أخذت". أخرجه ابن ماجه (1/ 389، 380) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الوتر أول الليل، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 398): إسناده صحيح رجاله ثقات. الحاكم (1/ 301)، وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي، والبيهقي (3/ 36)، وابن حبان (2446)، وابن خزيمة (1084). وفي الباب عن أبي قتادة عند أبي داود (1434)، والحاكم (1/ 301)، وابن خزيمة (1085). وجابر عند أحمد (3/ 330)، وابن ماجه (1202).

التراويح: كالوتر لا أعلم في ذلك خلافًا قال: وأما ما يفعله كثير من أئمة المساجد بالديار المصرية في حضرها وريفها من صلاتهم لها بين المغرب والعشاء والوتر [بعدها] (¬1) قبل فعل العشاء فلا يجوز، ذلك ولا يحصل لهم فضيلة قيام رمضان ووتره، وهل تحصل لهم [فضيلة] (¬2) نفل مطلق، فيه نظر إذا أتوا بذلك على الوجه المأمور به فيه. فإذا ما ذكره. فأما ما قاله في الوتر فلا شك فيه وأما ما قاله في التراويح فليس كذلك، فلنا وجه أنه يدخل وقتها بالغروب. حكاه الروياني وجزم به القاضي مجلي، وتبعه العراقي شارح "المهذب"، وقد أوضحت ذلك في "شرح المنهاج" بزيادة مقالة غريبة للحليمي في وقت التراويح فراجع ذلك منه (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) سئل شيخ الإِسلام في الفتاوى (23/ 119): عمن يصلي التراويح بعد المغرب، هل هو سنة أم بدعة؟ وذكروا أن الإِمام الشافعي صلاها بعد المغرب، وتممها بعد العشاء الآخرة؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، السنة في التراويح أن تصلي بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمة، والنقل المذكور عن الشافعي - رضي الله عنه - باطل، فما كان الأئمة يصلونها إلَّا بعد العشاء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعهد خلفائه الراشدين، وعلى ذلك أئمة المسلمين، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء، فإن هذه تسمى قيام رمضان، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقيام الليل في رمضان وغيره إنما يكون بعد العشاء، وقد جاء مصرحًا به في السنن "إنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = لما صلى بهم قيام رمضان صلي بعد العشاء". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قيامه بالليل هو وتره، يصلي بالليل في رمضان وغير رمضان إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يصليها [طوالًا]. فلما كان ذلك يشق على الناس قام بهم أبي بن كعب في زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة، يوتر بعدها، ويخفف فيها القيام، فكان تضعيف العدد عوضًا عن طول القيام. وكان بعض السلف يقوم بأربعين ركعة فيكون قيامها أخف ويوتر بعدها بثلاث، وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها، وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخرة. ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح، فإذا صلوها قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح، كما أنهم إذا توضّؤوا يغسلون أرجلهم أول الوضوء، ويمسحون في آخره فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة، والله أعلم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 128/ 23/ 3 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك - بخمس، لا يجلس في شيء إلَّا في آخرها" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: المختار أن: "كان" من حيث وضعها لا يلزم منها دوام ولا تكرار، فإن دل دليل على ذلك عمل به، ومما استعمل فيه "كان" ¬

_ (¬1) مسلم (737) (123) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل، وأبو داود (1338) في الصلاة، باب: في صلاة الليل، والترمذي (459) في الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بخمس، والبيهقي (3/ 27، 28)، وأبو عوانة (2/ 325)، وابن خزيمة (1076، 1077)، والبغوي (960، 961)، وابن حبان (2437). تنبيه: قال الزركشي بعد ذكر هذا الحديث. قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين: إن البخاري لم يخرج هذا اللفظ، وأما الحميدي فجعله من المتفق عليه. والأول أولى ولفظ عائشة عند البخاري في الفتح (3/ 20): "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر". انتهى من كتاب تصحيح العمدة مجلة الجامعة الإِسلامية، العدد (75، 76).

للمرة الواحدة حديث عائشة: "كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لحرمه قبل أن يحرم، ولعله قبل أن يطوف بالبيت" (¬1). ومعلوم أن عائشة لم تحج معه إلَّا حجة الوداع، ولا يقال: لعلها طيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت في العمرة أيضًا، فاقتضت التكرار، لأن المعتمر لا يحل له الطيب قبل الطواف بالإِجماع. إذا تقرر هذا فقولها: "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة" مع ما ثبت في الصحيح عنها: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم بتسع ركعات" (¬2). "وكان يقوم بإحدى عشرة منهن الوتر [يسلم] (¬3) من كل ركعتين، وكان يركع ركعتي الفجر إذا جاء المؤذن" (¬4)، وعنها: "كان ¬

_ (¬1) البخاري (1539، 1754، 5922، 5928، 5930)، ومسلم (1189)، (133) في الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإِحرام، وأبو داود (1745) في المناسك، باب: الطيب عند الإِحرام، النسائي (5/ 137) في المناسك، باب: إباحة الطيب عند الإِحرام، وابن ماجه (2926) في المناسك، باب: الطيب عند الإِحرام، وابن حبان (3766، 3772)، وابن خزيمة (2580، 2581)، وأحمد (6/ 39، 98، 107، 181، 186، 192، 200، 207، 214، 237، 238، 254، 258، 416). (¬2) مسلم (746) (139)، والنسائي (3/ 241) في قيام الليل، باب: كيف يوتر بتسع، وابن ماجه (1191) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع، وأبو داود (1342) في قيام الليل، باب: في صلاة الليل، وأبو عوانة (2/ 321، 322)، وابن حبان (2442). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) مسلم (736) (122) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، وأبو داود (1337) في الصلاة، باب: في =

يقوم بثلاث عشرة بركعتي الفجر" وعنها "كان [لا] (¬1) يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة: أربعًا، أربعًا، وثلاثًا" (¬2) وعنها: "كان يصلي ثلاث عشرة: ثمانيًا، ثم يوتر، [ثم يصلي ركعتين وهو جالس] (¬3) ثم يصلي ركعتي الفجر" (¬4) وقد فسرتهما في الحديث ¬

_ = صلاة الليل، النسائي (2/ 30) في الآذان، باب: إيذان المؤذنين الأئمة بالصلاة (3/ 65) في السهو، باب: السجود بعد الفراغ من الصلاة، وابن ماجه (1358) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في كم يصلي بالليل، وأحمد (6/ 83، 143، 215)، والبيهقي (3/ 7). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (1147) في التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره (2017) في صلاة التراويح، باب: فضل قيام رمضان (3569) في المناقب، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومسلم (738) (125) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، وأبو داود (1341) في الصلاة، باب: في صلاة الليل، والترمذي (439) في الصلاة، باب: ما جاء في وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، والنسائي (3/ 234) في قيام الليل، باب: كيف الوتر بثلاث، وابن حبان (2430)، وابن خزيمة (1166)، وأحمد (6/ 36، 73، 104)، والبغوي (899)، والموطأ (1/ 120). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) البخاري (619) باب: الآذان بعد الفجر (1159) في التهجد، باب: المداومة على ركعتي الفجر، ومسلم (738) (126) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، وأبو داود (1340) في الصلاة، باب: في صلاة الليل، وابن حبان =

الآخر: "منها ركعتي الفجر" وعنها في البخاري: "أن صلاته بالليل سبع أو تسع" يقتضي كل ذلك عدم التكرار والدوام. وفي الصحيحين (¬1) من حديث ابن عباس: "أن صلاته بالليل ثلاث عشرة [ركعة] (¬2) وركعتين بعد الفجر"، سنة الفجر. وفي حديث زيد بن خالد: أنه - عليه الصلاة والسلام - "صلى ركعتين خفيفتين، ثم طويلتين" وذكر الحديث. وقال في آخره: [فتلك ثلاث] (¬3) عشرة" (¬4). ¬

_ = (3/ 351) في قيام الليل، باب: إباحة الصلاة بين الوتر وبين ركعتي الفجر، وابن حبان (2616، 2634)، والبغوي (964). (¬1) البخاري. انظر (117)، فقد استوفى ذكر أطرافه، ومسلم (763)، والنسائي (2/ 218) في التطبيق، باب: الدعاء في السجود، والترمذي (232) في الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي ومعه رجل، وابن ماجه (423) في الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء، وأبو داود (1364)، والبيهقي (3/ 7، 8)، وأبو عوانة (2/ 316، 317، 318)، وابن حبان (2592، 2626، 2579، 2636)، وابن خزيمة (1533، 1534)، وأحمد (1/ 284، 364). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) مسلم (765) في صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (1366) في الصلاة، باب: في صلاة الليل، وابن ماجه (1362) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في كم يصلي بالليل، والموطأ (1/ 122) وعنده زيادة: "ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما"، وعبد الرزاق (4712)، والمسند (5/ 193)، وابن حبان (2608)، والبيهقي (3/ 8).

قال العلماء: كما نقله القاضي عياض (¬1) عنهم في هذه الأحاديث أخبر كل واحد من عائشة وابن عباس وزيد بما شاهد. واختلف في أحاديث عائشة واختلافها. فقيل: هو منها. وقيل: من الرواة عنها (¬2)، فيحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (2/ 374، 375). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (3/ 21) نقلًا عن القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا أو أخبرت عن وقت واحد. والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز، والله أعلم. وقال ابن حجر في الجمع بين مختلف روايات عائشة (3/ 20): فمن رواية مسروق قال: "سألت عائشة عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر"، أما من رواية القاسم بن محمد: "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة منها الوتر وركعتا الفجر"، وفي رواية لمسلم من هذا الوجه: "كانت صلاته عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة"، فأما ما أجابت به مسروقًا فمرادها أن ذلك وتسع منه بأوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعًا وتارة تسعًا وتارة إحدى عشرة، وأما حديث القاسم فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله ... إلخ. كما ذكر الجمع بين مختلف الروايات لرواية ابن عباس (2/ 483). فائدة: ذكر ابن حجر في الفتح (3/ 21): من الحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل، وفرائض النهار، =

هو الأغلب وباقي رواياتها بما كان يقع نادرًا في بعض الأوقات، فأكثره خمس عشرة، بركعتي الفجر، وأقله [تسع] (¬1)، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه [بطول] (¬2) قراءة كما جاء في حديث حذيفة (¬3)، وابن مسعود (¬4) أو لنوم أو لعذر من مرض ¬

_ = الظهر وهي أربع، والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وهي وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلًا، وأما مناسبة ثلاث عشرة فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. (¬1) في ن ب د (سبع). (¬2) في الأصل (نظرك)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) مسلم (772) في صلاة المسافرين، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، وأبو داود (871) في الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده. الترمذي (262) في الصلاة، باب: ما جاء في تسبيح الركوع والسجود، والنسائي (2/ 176، 177) في الإِفتتاح، باب: تعوذ القارئ إذا مر بآية عذاب (2/ 177)، باب: مسألة القارئ إذا مر بآية رحمة (2/ 224) في التطبيق، باب: نوع آخر (3/ 225، 226) في قيام الليل، باب: تسوية القيام والركوع والسجود، وابن ماجه (1351) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في صلاة الليل، والبيهقي (2/ 309، 310)، والطيالسي (415)، وابن حبان (2604، 2605، 2609)، والدارمي (1/ 299)، وأحمد (5/ 382، 394). (¬4) البخاري (1135) في التهجد، باب: طول القيام في صلاة الليل، ومسلم (773) باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، وابن ماجه (1418) في الإِقامة، باب: ما جاء في طول القيام في الصلوات، والترمذي في الشمائل (272)، وابن حبان (2141)، وأبو يعلى =

أوغيره أو عند كبر السن، كما قالت عائشة: فلما أسن صلَّى [سبع] (¬1) ركعات (¬2). أو تارة بعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل كما رواها زيد بن خالد (¬3). وروتها عائشة في صحيح مسلم بعد ركعتي الفجر تارة وبحذفهما أخرى، وقد يكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة وحذفتها أخرى. قال: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زيدت زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعله - عليه الصلاة والسلام - وما اختاره لنفسه (¬4). الثاني: قد تقدم في الحديث الأول: أن هذا الحديث معارض له، أعني حديث: صلاة الليل مثنى مثنى، وهو من باب تعارض القول والفعل، ودلالة الفعل على الجواز قوية (¬5)، ويبعد معها ¬

_ = (5165)، وأحمد (1/ 385، 396، 415، 440)، وابن خزيمة (1154). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) أبو داود (1352) في الصلاة، باب: في صلاة الليل، والنسائي (3/ 220، 221) في قيام الليل، باب: كيف يعمل إذا افتتح الصلاة قائمًا (3/ 242)، باب: كيف الوتر بتسع، وابن حبان (2635)، وابن خزيمة (1104). (¬3) سبق تخريجه في التعليق ت (4) ص (542). (¬4) انظر: زاد المعاد وما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - في فعله في صلاة الليل (1/ 327، 331)، وحاشية الصنعاني (3/ 62)، وانظر: تمام المنة في جمعه بين أحاديث عائشة وغيرها (251). (¬5) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 62): أي إذا لم يقم على الخصوص دليل =

احتمال التخصيص، لأنه [لا يصار] (¬1) إليه إلَّا بدليل، وتقدم أيضًا أن فيه متمسكًا للشافعي في الزيادة على [ركعتين في النوافل، وتأوله بعض المالكية بتأويل لا يتبادر إلى الذهن، وهو أن حمل ذلك] (¬2) على أن الجلوس في محل القيام لم يكن إلَّا في آخر ركعة: كأن الأربع كانت الصلاة فيها قيامًا، والأخيرة كانت جلوسًا في محل القيام، وربما دل لفظة على تأويل أحاديث قدمها هذا منها بأن السلام وقع بين كل ركعتين. قال الشيخ تقي الدين: وهذا [يخالف اللفظ] (¬3) فإنه لا يقع السلام بين كل ركعتين إلَّا بعد الجلوس، وذلك ينافيه. قولها: "لا يجلس في شيء إلَّا في آخرها". قال الفاكهي: وأيضًا لو كان الأمر على ما قال لم يكن لتخصيص الخمس. فائدة، وكان وجه الكلام أن يقال يوتر بثلاث عشرة ركعة لا يجلس في شيء إلَّا في آخرها ركعة الوتر. الثالث: اختلف أصحابنا في أكثر الوتر. والأصح أنه إحدى عشرة. وقيل: ثلاث عشرة، وأقله ركعة (¬4). ¬

_ = فيبقى دلالة فعله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة موصولة معارضة بالحصر المستفاد من قوله: "صلاة الليل مثنى" ولكن دلالة الحصر مفهوم، فدلالة الفعل أقوى منها فيستفاد من منطوق: "صلاة الليل مثنى" ومن فعله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة موصولة جواز الأمرين. (¬1) في الأصل (لا تضاد)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 61) مخالفة اللفظ. (¬4) لحديث أبي أيوب - رضي الله عنه - مرفوعًا: "الوتر حق فمن شاء أوتر =

الرابع: لما ذكر عبد الحق هذا الحديث في جمعه باللفظ المذكور. قال عقبه: إن البخاري لم يخرج هذا اللفظ، وأما الحميدي فعزاه إليه فاعلم ذلك (¬1). ... انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله باب الذكر عقب الصلاة ¬

_ = بخمس ومن شاء ثلاث ومن شاء بواحدة". أخرجه أبو داود (1422) في الصلاة، باب: كم الوتر، والنسائي (3/ 238، 239)، والدارمي (1/ 371)، والحاكم (1/ 302، 303) وابن حبان (2407)، والدارقطني (2/ 22، 23)، والبيهقي (3/ 27). (¬1) انظر التعليق ت (1)، ص (533).

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1417 هـ -1997 م دار العاصمة المملكة العربية السعودية الرياض - ص ب 42507 - الرمز البريدي 11551 هاتف 4915154 - 4933318 - فاكس 4915154

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء حققه وضبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه وَوثّق نقوله وعَلّق عليه عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح غفر الله ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء الرابع تابع كتاب الصلاة إلي نهاية كتاب الجنائز (129 - 170) حديث دار العاصمة للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

24 - باب الذكر [عقب] الصلاة

24 - باب الذكر [عقب] (¬1) الصلاة عقب: بحذف الياء المثناه تحت هو الفصيح، وشذ إثباتها. ومعناها: بعد الشيء غير متراخٍ عنه. قال ثعلب في فصيحه (¬2): جئت في [عُقْبِ] (¬3) الشهر. إذا جئت بعد ما [مضى] (¬4) وجئت في عَقِبِه. إذا جئتَ وقد بقيت منه بقية. وقال ابن سيده: في عقب الشهر بالفتح وعقبه وعقبه أي [لأيام] (¬5) بقيت منه عشرة، أو أقل، وجئتك في عقب الشهر بالضم وعلى عُقبه وعُقبه. وحكى اللحياني [جئت] (¬6) عقب رمضان أي آخره، وجئت ¬

_ (¬1) في ن د (عقيب). (¬2) انظر شرح الفصيح لابن الجبان (246)، وشرح الفصيح للهروي (64). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في الفصيح (يمضي). (¬5) في ن ب (لا يأتم). (¬6) في ن ب د (جئتك).

فلانًا على عقبه الشهر ممره وعُقْبِ وعُقيْبه وعَقِبه وعُقْبانه أي بعد مروره. ذكر فيه -رحمه الله- أربعة أحاديث:

[الحديث] الأول

[الحديث] (¬1) الأول 129/ 1/ 24 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته" (¬2). وفي لفظ: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا بالتكبير". الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث بلفظيه مرفوع في الحكم لتقريره - عليه ¬

_ (¬1) زيادة من المصحح. (¬2) البخاري (841، 842)، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (583) (120، 121) في المساجد، باب: الذكر بعد الصلاة، والنسائي (3/ 67) في السهو، باب: التكبير بعد تسليم الإِمام، وأبو داود (1002، 1003) في الصلاة، باب: التكبير بعد الصلاة، وأبو عوانة (2/ 242، 243)، والبيهقي (2/ 184)، والبغوي (712)، وأحمد (1/ 222، 367)، وابن حبان (2232)، وعبد الرزاق (3225)، والحميدي (480)، والشافعي (1/ 94).

الصلاة والسلام - للذكر يرفع الصوت من غير نكير منه، لأن هذه الحالة تدل على [علمه] (¬1) بها، فيدل ذلك على شرعيته واستحبابه، وتأكيد التكبير من الذكر. وقد قال ابن حبيب (¬2) في "الواضحة": كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء تكبيرًا عاليًا، ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وعن مالك (¬3) أنه مُحْدَثُ، وقد استحبه جماعة من السلف، واستحبه من المتأخرين ابنُ حزم (¬4) الظاهري وغيره. وعن المدونة: وجائز التكبيرُ في الرباط والحرس ورفع الصوت به بالليل والنهار وأكره التطريب. وفي الموطأ (¬5): أن عمر كان إذا رَمَى الجِمَارَ كَبَّر، وكبَّر الناس معه، حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت. قال: والتكبير أيضًا مشروع في الأعياد. قال الطبري (¬6): في هذا الحديث الإِبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه. ¬

_ (¬1) في ن ب (ظلمه)، وهو تصحيف. (¬2) ذكره في المفهم (2/ 1029). (¬3) ذكره في المفهم (2/ 1029). (¬4) المحلى (4/ 260) (وقال في المحلى (5/ 91) التكبير إثر كل صلاة وفي الأضحى، وفي أيام التشريق، ويوم عرفة حسن كله. اهـ). (¬5) الموطأ (1/ 404)، إكمال إكمال المعلم (2/ 279). (¬6) ذكره في المفهم (2/ 1029)، إكمال إكمال المعلم (2/ 279).

ونقل ابن بطال (¬1) وآخرون: أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير قال: وحمل الشافعي (¬2) هذا الحديث على أنه جهر وقتًا يسيرًا، حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائمًا. انتهى. ويرد هذا التأويل قول ابن عباس: كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تقرر [من] (¬3) أن "كان" هذه تعطى [المداومة] (¬4) أو الأكثرية على ما مر. وقوله أيضًا: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك". وقوله: "ما كنا نعرف انقضاء صلاته إلَّا بالتكبير" كله ظاهره التكرار والمداومة على ذلك. وحمله بعض متأخري المالكية على تكبير أيام التشريق: وما أبعده. وذكر بعض المصنفين في كتاب "ما العوام عليه موافقون للسنَّة والصواب دون الفقهاء" وذكر مسائل: منها رفع الصوت بالذكر عقب الصلوات. والحديث الذي نحن فيه يدل على صحة قوله. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم للنووي، فقد ساقه بتمامه (5/ 84)، وانظر: تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام للشيخ سليمان بن سحمان (52). (¬2) انظر: تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام للشيخ سيمان بن سحمان (53). (¬3) ساقط من الأصل، ومثبتة في ن ب د. (¬4) في ن ب د (الدوام).

الثاني: قوله (¬1): "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته" ظاهره: أنه لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات لصغره. قاله النووي في "شرحه" (¬2). قال القرطبي (¬3): أو لعذر آخر. الثالث: قوله: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا بالتكبير" قد يؤخذ منه تأخير الصبيان في الموقف، لأنه لو كان متقدمًا في الصف الأول لعلم انقضاءها بسماع التسليم. الرابع: قد يؤخذ منه أيضًا أنه لم يكن ثَمَّ مسمع [جهير] (¬4) الصوت يبلّغ السلام بجهارة صوته. قاله الشيخ تقي (¬5) الدين. واعترض الفاكهي فقال: يحتمل أن لا يؤخذ منه لجواز أن يكون المسمع قريبًا من الإِمام، ولا يلزم أن يكون في آخر الصفوف بخلاف التكبير. والحالة هذه، فإنه لا يختص بصف من الصفوف، فلذلك علم الانصراف بالتكبير والذكر دون التسليم. الخامس: ادعى بعضهم أنه يؤخذ من قول ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك"، أنه أمر قد ترك في زمنه، وإلَّا لم يكن لقوله "كنت" فائدة. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (لو). (¬2) انظر: شرح مسلم للنووي (5/ 84). (¬3) المفهم (2/ 1029). (¬4) في ن د (جهر). (¬5) انظر: إحكام الأحكام (3/ 66).

خاتمة: قال القرافي: كره مالك وجماعة الدعاء لأئمة المساجد. وقال صاحب "الإِقليد": لم يجيء في الأحاديث المشهورة ذكر الدعاء أثر الصلاة وإنما ورد الذكر والتهليل. فيجوز أن يكون ذلك دعاء كما جاء: "أفضل الدعاء: دعاء يوم عرفة: لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له" (¬1)، ولذلك اقتصر في المذهب على الذكر بعد الفراغ من الصلاة، ولم يذكر الدعاء. والدعاء أثر المكتوبة مرجو الإِجابة. ذكر عبد الحق من حديث أبي إمامة؛ أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أي الدعاء أسمع؟ قال: شطر الليل الآخر، وإدبار الصلوات المكتوبات" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 422). قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرساله، ولا أحفظ بهذا الإِسناد مسندًا من وجه يحتج به، والبيهقي في السنن (5/ 117)، وفي فضائل الأوقات (368)، والطبراني في كتاب الدعاء (875)، والمحاملي في الدعاء (171) من حديث ابن عمر، ومن حديث علي (874). (¬2) أخرجه الترمذي وحسنة بغرابة (3499). قال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 232): وفيما قاله نظر لأن له عللًا منها الانقطاع بين ابن سابط وأبي أمامة، قال ابن معين: لم يسمع ابن سابط من أبي أمامة، ومنها: عنعنة ابن جريج، عن ابن سابط. ثالثها: الشذوذ، فقد جاء من رواية خمسة من أصحاب أبي أمامة أصل هذا الحديث من رواية عن عمرو بن عبسة. وذكر ابن أبي حاتم في مراسيله (84) أن ابن معين كان يرى ذلك "أي إرساله عن أبي أمامة" ولم يذكر غيره. =

قلت: أخرجه الترمذي وحسنه. ونقل النووي في "شرح المهذب" (¬1): الاتفاق على استحباب الدعاء بعد السلام أيضًا. قال وما اعتاده الناس أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإِمام بصلاتي الصبح والعصر فلا أصل له. وإن كان الماوردي (¬2) أشار إليه (¬3). ¬

_ = وفي نصب الراية للزيلعي (2/ 235) قال الترمذي: حديث حسن، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (186). (¬1) المجموع شرح المهذب (3/ 488). (¬2) الحاوي (2/ 192، 193). (¬3) قال شيخ الإِسلام في مواضع من الفتاوى (22/ 481): ولم يقل أحد عنه أنه كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام، وفي موضع آخر منه (492، 499)، ولم ينقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعًا لا في الفجر ولا في العصر ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه، ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقب الخروج من الصلاة- إلى أن قال: والناس لهم فيما بعد السلام ثلاثة أحوال. وقال في موضع آخر منه (512، 513): ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، وكذلك أحمد وغيره من الأئمة لم يستحبوا ذلك، ولكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر. قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوض بالدعاء بعدهما، إلى أن قال: وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه. وانظر: (516). وقال (519): أما دعاء الإِمام والمأمومين جميعًا عقيب الصلاة فهو بدعة، لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر كلامه.

قلت: وقول صاحب "الإِقليد": إنهُ لم يجيء في الأحاديث المشهورة ذكر [الدعاء عقب] (¬1) الصلاة فيه نظر. ففي "صحيح مسلم" من حديث علي - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم وأنت والمؤخر لا إله إلَّا أنت" (¬2). وفي رواية له: أنه كان يقول هذا بين التشهد والتسليم (¬3). وروى أبو داود والنسائي بإسناد صحيح (¬4) عن معاذ - رضي ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) مسلم (771) كتاب صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (725) باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، والترمدي (3423)، كتاب الدعوات، وأحمد في المسند (1/ 94، 102، 103)، والمحلى لابن حزم (4/ 95، 96)، وأبو عوانة (2/ 100، 101، 102، 103)، والنسائي (2/ 129، 130)، وابن ماجة (864)، وابن الجارود (179)، والطيالسي (152)، والدارقطني (1/ 287، 296)، والبيهقي (2/ 74). (¬3) قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 370): واختلف في وقت هذا الدعاء الذي في آخر الصلاة ففي سنن أبي داود كما ذكره هنا. قال: "وإذا سلم" قال: وفي صحيح مسلم روايتان، أحداهما: "ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي" إلى آخره، والرواية الثانية: "قال: وإذا سلم قال: اللهم اغفر لي" كما ذكره أبو داود. (¬4) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: في الاستغفار (1522)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (3/ 53)، وفي عمل اليوم والليلة =

الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: "يا معاذ! والله إني لأحبك. أوصيك يا معاذ! لا تدعن دبر [كل] (¬1) صلاة تقول اللهم أَعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". ¬

_ = (109)، وابن خزيمة (751)، وابن حبان (2345)، وصححه الحاكم (1/ 273)، ووافقه الذهبي، وأحمد (5/ 244)، والبخاري في الأدب المفرد (690)، والطبراني في الدعاء (2/ 1093). (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 130/ 2/ 24 - عن وَرَّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى عليَّ المغيرة ابن شعبة - رضي الله عنه - في كتاب إلى معاوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، ثم وفدت بعد على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك. وفي لفظ: "كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. وكان ينهى عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات" (¬1). الكلام عليه من ثلاثين وجهًا: ¬

_ (¬1) البخاري (844، 1477، 2408، 5975، 6330، 6473، 6615، 7292)، ومسلم (593)، وأبو داود (1505) في الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا سلم، والنسائي (3/ 70، 71) في السهو، باب: نوع آخر من القول عند انقضاء الصلاة، وأحمد (4/ 245، 247، 250، 254، 255)، والطبراني في الدعاء (2/ 1109)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (29)، والبيهقي (2/ 185)، وعبد الرزاق (3224).

الأول: "المغيرة" تقدم التعريف به في (باب المسح على الخفين) وأنه بضم الميم. وحُكِيَ كسرها اتباعًا للغين، كما جاء ذلك أيضًا في رِغيف اتباعًا للغين. ومثله أيضًا مِنن بكسر الميم للاتباع أيضًا، لأن [مفعل] (¬1) ليس من الأبنية ولم يعتد بالنون لسكونها والساكن عندهم حاجز غير حصين. الثاني: "ورَّاد" بفتح أوله وتشديد ثانيه وبالدال المهملة مولى المغيرة [كما ذكره المصنف وكاتبه أيضًا] (¬2) وهو ثقفي كوفي كنيته أبو سعيد. ويقال: أبو الورد تابعي ثقة (¬3). روى عنه جماعة من صغار التابعين. الثالث: "معاوية" - رضي الله عنه - ترجمته مستوفاة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعه منه. وكانت وفاته بدمشق سنة ستين عن ثمان وسبعين سنة. وقيل: ابن ست وثمانين. وأُخْفِيَ قبره. وصلَّى عليه ابنه يزيد. وقيل: الضحاك بن قيس لغيبة يزيد. وكان أميرًا بالشام نحو عشرين سنة. وخليفة مثل ذلك. وكان في خلافة عمر نحو أربعة أعوام. وخلافة عثمان كلها اثنتي عشرة سنة. وبايع له أهل الشام خاصة بالخلافة سنة ثمان أو تسع وثلاثين. واجتمع الناس عليه حين بايع له الحسن بن علي وجماعة سنة إحدى وأربعين فَسُمَّي عام ¬

_ (¬1) في ن ب (مفعلا). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: تقريب التهذيب (2/ 330).

الجماعة. ورزقه عمر بن الخطاب على عمله بالشام عشرة آلاف دينار كل سنة. الرابع: "يقال" أملى يملي وأمل يمل قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (¬1). ففيه دليل على استحباب إملاء العالم العلم على أصحابه ليقيدوه ويكتبوه، وعلى المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها. الخامس: فيه دليل على جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث وإجرائها مجرى المسموع [والكتابة نوعان: مقرونة بالإِجازة، ومجردة عنها، والصحيح عند المحدثين إجازة الثاني أيضًا] (¬2). السادس: فيه العمل بالخط في مثل ذلك إذا وثق بأنه [خط] (¬3) [الكاتب] (¬4) وهو دليل لمالك -رحمه الله- في قبول الشهادة على الخط وجعل خط الشاهد كشخصه. السابع: فيه قبول خبر الواحد، وهذا فرد من أفراد ما لا يحصى. الثامن: "دبر" بضم الدال والباء على المعروف المشهور في الروايات واللغة، ويجوز التخفيف كعتق. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 284. (¬2) ما بين القوسين في الأصل بعد كلمة الحق في آخر الجملة، وفي ن ب د (أثبت). (¬3) في الأصل (خطه)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د.

وقال ابن الأعرابي: "دبر" الشيء و"دبره" بالضم والفتح آخر أوقاته. والصحيح الضم. ولم يذكر الجوهري (¬1) وآخرون غيره. وقال أبو عمر المطرز في كتابه "اليواقيت" (¬2): دبر كل شيء بفتح الدال آخر أوقاته من الصلاة وغيرها. قال: هذا هو المعروف في اللغة، وأما الجارحة فبالضم. والمراد به في الحديث عقب السلام منها، سواء كان آخر أوقاتها أو أوسطه أو أوله، إلَّا أن يكون مراد أهل اللغة بآخر أوقات الشيء الفراغ [منه] (¬3) فيتطابق تفسيرهم ومراد الحديث. التاسع: فيه دليل على استحباب هذا الذكر المخصوص عقب الصلاة المكتوبة وذلك لما اشتمل عليه من معاني التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله -تعالى- والمنع والإِعطاء وتمام القدرة. والثواب المرتب على الأذكار يرد كثيرًا مع خفة اللسان بالأذكار وقلتها، وإنما كان ذلك اعتبارًا بمدلولاتها لأنها كلها راجعة إلى الإِيمان الذي هو أشرف الأشياء. واعلم أن الذكر مطلوب محثوث عليه من الشرع وهو مطلق ومقيد. فالمطلق: لا يكره في وقت من الأوقات ولا حالة من [الأحوال] (¬4) إلَّا في حالة قضاء حاجة الإِنسان من البول والغائط والجماع. ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (89). (¬2) انظر: شرح مسلم للنووي (5/ 96) وما قبله. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في ن د (الحالات).

واختلف العلماء في كراهته في الحمام [والمواضع] (¬1) النجسة: وقراءة القرآن أفضل من المطلق منه. والمقيد: منه هو الذي ورد فيه نص بزمان أو مكان أو حال وهو أفضل من تلاوة القرآن، هكذا نص عليه العلماء. فائدة: من الناس من يزيد في هذا الدعاء "ولا راد لما قضيت"، ورأيت من ينكر هذه اللفظة وهو عجيب، فقد أخرجها عبد بن حميد في "مسنده" (¬2)، عن عبد الررزاق، عن معمر، عن ورَّاد قال: كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب لي بشيء من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فكتب إليه إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من ثلاثة: من عقوق الأمهات و (¬3) وأد البنات و (¬4) منع وهات، وسمعته ينهى عن ثلاث: عن قيل وقال. وإضاعة المال. وكثرة السؤال. وسمعته يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا راد لما قضيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فاستفد ذلك. ¬

_ (¬1) في ن ب (ومواضع). (¬2) رواه عبد بن حميد (391)، والطبراني في الكبير (2/ 3860)، وفي الدعاء له (1110). قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- في نتائج الأفكار (2/ 244): بعد أن ساق هذه الرواية من طريق شيخه أبي الفضل بن الحسين بسنده إلى الطبراني، قال: قال شيخنا: هذا حديث صحيح ورجاله ثقات. وانظر: إشكال هذه الزيادة على ابن حجر -رحمه الله- حتى تم له الاطلاع على نسخة معتمدة من كتاب الدعاء، حتى أنه تأكد من ذلك من عدة نسخ. اهـ. (2/ 245). (¬3) في ن ب د زيادة (ومن). (¬4) في ن ب د زيادة (ومن).

فائدة ثانية: روى النسائي (¬1) هذا الحديث إلى قوله: "على كل شيء قدير" وزاد ثلاث مرات. العاشر: قوله: "وحده لا شريك له" هو على طريق التوكيد مع التكثير لحسنات الذاكر، وإلَّا فالحصر الذي قبله يقيده. قال ابن العربي (¬2): وهو إشارة إلى نفي الإِعانة لما كانت العرب تقول: "لبيك لا شريك لك إلَّا شريكًا هو لك تملكه وما ملك". الحادي عشر: قوله: "له الملك" قال أبو الحسن (¬3) الأخفش: يقال: ملك بين الملك، -بضم الميم-. ومالك بين المَلك والمِلك -بفتح الميم وكسرها-. وزعموا أن [ضم الميم] (¬4) لغة في هذا المعنى. رُوي [عن] (¬5) بعض البغداديين [ما] (¬6) في هذا الوادي ملك وملك [وملك] (¬7) بمعنى واحد. الثاني عشر: "الحمد" تقدم الكلام عليه في "شرح الخطبة" فراجعه من ثم. ¬

_ (¬1) أخرج هذه الزيادة أحمد في المسند (4/ 250)، والنسائي (3/ 71)، وابن خزيمة (1/ 365)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (197). (¬2) انظر: القبس (2/ 407). (¬3) انظر: معاني القرآن (2/ 550)، سورة الناس. (¬4) في جميع النسخ (الضم)، وما أثبت من المعاني. (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) في ن د (لي). (¬7) زيادة من ن ب د.

الثالث عشر: قوله: "وهو على كل شيء قدير". قال الفاكهي: الظاهر أن هذا العموم غير مخصوص، [قال: وذهب بعضهم إلى أنه مخصوص] (¬1) من [حيث] (¬2) إن القدرة لا تتعلق [إلا] (¬3) بالممكنات دون المستحيلات. والتقدير: وهو على كل شيء (¬4) ممكن قدير (¬5)، وهذا غلط لأنه وقع الخلاف في الممكن المعدوم. هل يطلق عليه حقيقة أم لا فما ظنك بالمستحيل؟ فالمستحيلات غير داخلة في هذا العموم. فائدة: قيل: إن عمومات القرآن كلها مخصوصة إلَّا أربع آيات: الأولى: قوله- تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬6). الثانية: قوله -تعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (حديث). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في الأصل زيادة (قدير)، والتصحيح من ن ب. (¬5) قال الشيخ علي الهندي في تعليقه على حاشية العمدة (3/ 67): قلت: هذا من مبادئ مذهب المعتزلة ومن وافقهم، ولذا يقولون إنه على ما شاء قدير فالقدرة لديهم متعلقة بالمشيئة، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه على كل شيء قدير حتى المستحيل إذا أراد إيجاده فإنما يقول له كن فيكون. اهـ. (¬6) سورة آل عمران: آية 185. (¬7) سورة هود: آية 6.

الثالثة: قوله -تعالى-: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} (¬1). الرابعة: قوله -تعالى -: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} (¬2). الرابع عشر: في هذا دلالة على التفويض إلى الله -تعالى- واعتقاد أنه -سبحانه وتعالى-[مالك الملك وأن له الحمد ملكًا واستحقاقًا وأن قدرته سبحانه وتعالى] (¬3) تعلقت بكل شيء من الموجودات: خيرها وشرها نفعها وضرها. الخامس عشر: قوله: "اللهم لا مانع لما أعطيت" إلى آخره فيه أن العطاء والمنع بيده. السادس عشر: "الجد" بفتح الجيم على المشهور الذي عليه الجمهور، ومعناه لا ينفع ذا الغنى والحظ منك غناه. وضبطه جماعة بكسر الجيم فيهما (¬4). والجد: هنا وإن كان مطلقًا فهو محمول على حظوظ الدنيا، يعني إنما ينفعه العمل [الصالح] (¬5) والنافع في الحقيقة هو الله ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 176. (¬2) سورة البقرة: آية 284. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قال أبو الحسن الأخفش في معاني القرآن (2/ 553): الجد: بفتح الجيم وتكسر، إذا فتحت، عني بالجد البخت، أي من كان له جَد لم ينجه جَدهُ من الله، إذا أراد الله به غير ذلك. ومن كسر الجيم جعله من الاجتهاد، يقول: من جَد في أمره وجهد، لم ينجه ذلك من ربه إذا أراد به غير ذلك. اهـ. ثم ساق شواهد. وانظر أيضًا: حاشية الصنعاني (3/ 68)، انظر: أعلام الحديث للخطابي (1/ 551). (¬5) في ن ب (الخالص).

-تعالى- بالتوفيق للعمل الصالح والإِخلاص فيه وقبوله. السابع عشر: في هذا دليل على أن الأسباب إنما تنفع بإذنه، وأنه متصرف فيها كسائر المخلوقات، لا تأثير لها في شيء من الأشياء إلَّا بتقديره [وإذنه] (¬1). الثامن عشر: فيه أيضًا دلالة على أن العمل لا أثر له إلَّا مع سبق العناية (¬2). قال القاضي عياض: وقد ترجم البخاري على هذا الحديث وأدخله في كتاب "القدر" (¬3)، وكذا مالك أدخل هذه الكلمة في جامع ما جاء في القدر (¬4) [فذكر] (¬5) أن معاوية كان يقول على المنبر: أيها الناس! إنه لا مانع لما أعطى الله [ولا معطي لما منع الله] (¬6) ولا ينفع ذا الجد [منه] (¬7) الجد، من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين. ثم قال: سمعت هذه الكلمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأعواد. وبهذا يستدل على أن هذا الحديث ليس جميعه مما تحمله معاوية بالمكاتبة، بل سمع بعضه منه - صلى الله عليه وسلم - (¬8). ¬

_ (¬1) في ن ب (وإذن له جلاجل له). (¬2) أي عناية الله بعبده وتوفيقه للخير. (¬3) البخاري كتاب القدر، باب: لا مانع لما أعطى الله. (¬4) الموطأ (2/ 900). (¬5) في ن ب (فقد ذكر). (¬6) زيادة من ن ب د. (¬7) في ن ب (منك). (¬8) انظر: فتح البارى (2/ 332).

التاسع عشر: قوله: ["منك" هو] (¬1) متعلق "بينفع"، "وينفع" متضمن معنى "يمنع". أو ما يقاربه، ولا يعود "منك" إلى "الجد" فإن ذلك نافع نبه عليه الشيخ تقي الدين، وهو حسن (¬2). العشرون: قوله: "وكان ينهى عن قيل وقال". قال الجوهري هما اسمان، يقال: كثر القيل والقال. والأشهر فيه كما قال الشيخ تقي الدين (¬3). قيل -بفتح اللام- على سبيل الحكاية. وهو الذي يقتضيه المعنى لأن القيل، والقال إذا كانا اسمين بمعنى واحد كالقول ألم يكن من عطف أحدهما على الآخر] (¬4). فائدة: وهذا النهي لا بد فيه من [تقييده] (¬5) بالكثرة التي ¬

_ (¬1) في ن ب (هو منك). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 69). قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في أعلام الحديث (1/ 552): معنى "منك" ها هنا البدل. وساق الشاهد: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على الطهيان. اهـ. والمعنى: أن المجدود لا ينفعه شك الجد الذي يستحقه، إنما ينفعه أن تمنحه منك التوفيق واللطف. وقال الجوهري: "من" بمعنى عند، أي عندك جده. اهـ، من الحاشية (3/ 68). (¬3) إحكام الأحكام (3/ 70). (¬4) العبارة هكذا: "فلا يكون في عطف أحدهما على الآخر كبير فائدة، بخلاف ما إذا كانا فعلين". اهـ، من فتح الباري (11/ 306). (¬5) زيادة من إحكام الأحكام (2/ 91)، وفتح الباري (11/ 306).

[لا يؤمن] (¬1) معها وقوع الخطل (¬2) والخطأ (¬3) والتسبب إلى وقوع المفاسد (¬4) من غير يقين والإِخبار [بالأمور] (¬5) الباطلة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمع" (¬6). وقال بعض السلف: لا يكون إمامًا من حدَّث بكل ما سمع. وقد أسلفنا في أوائل الصلاة في الوجه العاشر في الكلام على الحديث الرابع منه شيئًا يتعلق بما نحن فيه فراجعه منه. تنبيه: في الحديث دليل على الامتناع من اللغط وفضول الكلام وما لا فائدة فيه. الحادي والعشرون: إنما جمع بين "قيل، وقال" للتنبيه على منع [ذلك] (¬7) سواء عيَّن القائل الذي يخبر عنه بقوله: قال، أو لم يعينه بقوله: قيل كذا. والنهي عن الأول أشد من الثاني. ¬

_ (¬1) في ن ب د (يؤثر). (¬2) الخطل: هو المنطق الفاسد. (¬3) الخطأ: هو خلاف الصواب. (¬4) وذلك كنقل الأراجيف والأخبار الموقعة في إخافة العباد وعموم المفاسد، ومنه النميمة فإنها محرمة لما فيها من جلب الوحشة وإن كانت كلامًا صادقًا. (¬5) زيادة من إحكام الأحكام (2/ 91). (¬6) مسلم، المقدمة (10). (¬7) زيادة من ن ب.

وقال المحب الطبري في "أحكامه": في قيل [وقال] (¬1) أوجه: [أحدها] (¬2): أنهما مصدران للقول، تقول [قلت] (¬3): قال: قولًا وقيلًا وقالًا [وقولًا] (¬4). وفي قراءةً ابن مسعود "ذلك عيسى ابن مريم قال الحق الذي فيه تمترون" (¬5). والمراد -والله أعلم- كثرة الكلام لأنها تؤول إلى الخطأ والتكرار للمبالغة. ثانيها: إرادة حكايته [أقاويل] (¬6) الناس والبحث عنها [ليخبر عنها] (¬7). فيقول: قال فلان كذا. وقيل له: كذا مما يكره حكايته عنه. ثالثها: أن ذلك في أمر الدين، وذكر مواضع الاختلاف. يقول: قال فلان كذا. وقال فلان كذا من غير تثبت ولا بد. ولكن [يقلد] (¬8) فيما سمعه ولا يحتاط لموضع الاختيار من الأقاويل. فائدة حديثية: قال ابن منده في "مستخرجه": حديث النهي عن ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في الأصل (إحداها). (¬3) زيادة في إحكام الأحكام. (¬4) زيادة في إحكام الأحكام. (¬5) سورة مريم: آية 33. (¬6) في الأصل (أقاول)، وما أثبت من ب د. وفي العدة حاشية شرح العمدة "أقوال". (¬7) زيادة من ن ب د. وفي العدة ليخبر بها مع الاطلاع عليه لمراجعة الفروق. (¬8) في الأصل (يقيد)، وما أثبت من ن ب د.

قيل وقال، رواه مع المغيرة: أبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسبرة، والحجاج بن عامر الثمالي. الثاني والعشرون: "إضاعة المال" ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواء كانت دينية أو دنيوية وهو ممنوع منه لأن الله -تعالى- جعل الأموال قيامًا لمصالح العباد. وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح المأذون فيها، إما في حق مضيعها أو في حق غيره. أما بذله وإنفاقه كثيرًا في تحصيل مصالح الآخرة فهو مطلوب محثوث عليه، شرط أن لا يبطل حقًا أخرويًّا أهم منه. وقد قال السلف: لا سرف في الخير، كما لا خير في السرف. وبذل المترفين من أهل الدنيا وإنفاقهم غالبًا إنما هو فيما لم يأذن فيه الشرع فيقدمون حظوظ نفوسهم في الأموال على حقوق الله تعالى. فيقع الهلاك بعد الإِمهال من غير إهمال، لأن فعلهم عين الإِضاعة. وأما إنفاق المال في مصالح الدنيا وملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدر ماله فإن [كان] (¬1) لضرورة مداواة أو دفع مفسدة يترتب عليه فليس بإسراف، وإلَّا ففي كونه إسرافًا خلاف. قال الشيخ تقي الدين (¬2): والمشهور أنه إسراف. وقال بعض الشافعية: ليس بإسراف لأنه تقوم به مصالح البدن وملاذه، وهو غرض صحيح. وظاهر القرآن يمنع من ذلك. قال: والمشهور في مثل هذا أنه مباح، أعني إذا كان الإِنفاق في غير معصية، ونوزع فيه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 72).

قلت: قال القاضي حسين في كتاب "قسم الصدقات" [أنه حرام] (¬1) وتابعه عليه الغزالي. وجزم به الرافعي في الكلام على الغارم. وظاهر القرآن يقويه ففي غير آية أنه إسراف. وأما الإِمام [فقال] (¬2) إنه ليس بحرام وإن لم يكن محمودًا، أي لأنه وإن كان يقوم به مصالح البدن وملاذه وهو غرض صحيح، لكنه يؤدي به الحال غالبًا إلى ارتكاب المحذور والذل. وما أدى إلى المحذور فهو محذور. وصحح الرافعي في "الشرح" في (باب الحجر) والمحرر أنه ليس بتبذير. وتبعه النووي (¬3). أحدها: يدخل في إضاعة المال الإِنفاق على البناء. ومجاوزة حد الاقتصاد فيه. وتمويه الأواني والسقوف بالذهب والفضة. وسوء القيام على ما يملكه من الرقيق والبهائم حتى يهلك. وقسمة ما [لا] (¬4) ينتفع به الشريك كالجوهرة ونحوها واحتمال الغبن الفاحش في البياعات. ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه. الثاني: التقلل من شهوات الدنيا خير من الإِكثار منها. وهو حال الأنبياء وتابعيهم. وقد صح عنه أنه - عليه الصلاة والسلام -. كان يشد على بطنه الحجر (¬5) من الجوع، ولم يشبع من خبز البر ثلاثًا ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) انظر: شرح مسلم (12/ 11). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) انظر: البخاري (3070)، من رواية جابر وعند أحمد (3/ 301، 330)، وهناد في الزهد (703)، والدارمي (1/ 20)، ومعجم ابن الأعرابي =

متواليات، حتى قبض (¬1) - صلى الله عليه وسلم -. وقد أوتي مفاتيح كنوز الأرض. وقال: "حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" (¬2) الحديث. فحق للمتدين أن يكون له أسوة بنبيه - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: الأصح عند الشافعية أنه لا يكره [أن] (¬3) يتصدق بجميع ماله الفاضل عن الحاجة، إن كان يصبر على الضيق والإِضاقة وإلَّا فيكره. وبذلك يجمع بين أخبار الباب. وقال الباجي من المالكية: استيعاب جميع المال بالصدقة ممنوع منه. وقال مرة يكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس بذلك في النادر لضيف أو وليمة أو عيد ونحو ذلك وإنما يكره من ذلك الخروج إلى حد السرف. وأقبح ما يكون ذلك عند الحاجة [للناس] (¬4). الثالث والعشرون: قوله: "وكثرة السؤال" [يستثنى من كثرة السؤال ما أذن الشرع] (¬5) فيه وجهان: ¬

_ = (21)، ووكيع في الزهد (124)، وابن سعد في الطبقات (1/ 400)، وفي الترمذي (3/ 276)، في الزهد وفي الشمائل له (78) من رواية أبي طلحة. (¬1) البخاري مع الفتح (11/ 282، 570)، ومسلم (4/ 2281)، وابن ماجه (2/ 1110)، وأحمد (6/ 277) من رواية عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) الترمذي (2380)، وأحمد (4/ 132)، والبغوي (4048)، وابن ماجه (3349)، وصححه الحاكم (4/ 121)، وحسنه ابن حجر في الفتح (10/ 128). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب ساقطة، ون د (حاجة الناس). (¬5) زيادة من ن ب د.

أحدهما: أنه راجع إلى الأمور العلمية. وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أعظم الناس جرمًا عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته" (¬1). وفي حديث اللعان، لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلًا فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها (¬2). وفي حديث معاوية (¬3) نهى عن الأغلوطات: وهي شداد المسائل وصعابها. وإنما كان ذلك ¬

_ (¬1) البخاري في الاعتصام (7289)، ومسلم في الفضائل (2358)، وأبو داود (4610)، باب: لزوم السنَّة، وأحمد (1/ 176، 179)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 104، 105). (¬2) البخاري مختصرًا (5311، 5312، 5349)، ومسلم (1493)، والمسند (2/ 4، 19، 42)، والترمذي (1202). (¬3) مسند الإمام أحمد (5/ 435)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الغلوطات واللفظ الآخر. وعن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغلوطات". قال الأوزاعي: "الغلوطات [شداد]، وفي أبي داود [شرار] المسائل وصعابها". جامع بيان العلم وفضله (2/ 139) في النهي عن المسائل، وأبو داود (3509) في العلم، باب: التوفي في الفتيا. قال الشيخ: وقد روي "أنه نهى عن الأغلوطات". البغوي (1/ 308)، والمعجم الكبير (19/ 865، 896، 913)، ومعجم الشاميين له. وقد ضعف الحديث بسبب عبد الله بن سعد البجلي. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 224)، والجرح والتعديل (5/ 264)، والنوافح العطرة (2421).

مكروهًا لما يتضمن كثير منه من التكلف في الدين والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه مع عدم الأمن من العثار، وخطأ الظن. والأصل المنع من الحكم بالظن إلَّا حيث تدعو الضرورة إليه، ومما دعت الضرورة إليه من ذلك جواز الاجتهاد في المياه والأخذ بما غلب على الظن طهارته مع وجود الماء المتيقن طهارته. وكذلك الأخذ بالأصل في طهارتها. وإن شك في نجاستها. وكذلك إلحاق الولد بالفراش لتعذر اليقين فيه. وكذلك عدم الحكم بالعلم والعمل بالبينة استبراءً للعرض المحثوث عليه شرعًا. وأما قول الشافعي - رضي الله عنه -. لولا قضاة السوء لقلت بجواز الحكم بالعلم فإنما كان ذلك لما يقع الاشتباه بالقاضي المحق والمبطل، ولا يقع النقاد من العلماء في كل عصر، ولو وقع قد تضعف نفوسهم عن إظهار الزيف، ولو أظهروا الحق قد لا يجدوا من يعينهم على إظهاره والعمل به، فمنع القول بجوازه سدًّا للتهمة في الدين والعرض عملًا بتخصيص الشرع على ذلك حيث قال: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" (¬1) وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالحكم بالظاهر وقطعه - عليه الصلاة والسلام - قطعة من النار (¬2) لمن حكم له بالظاهر الذي يخالف الباطن. ¬

_ (¬1) البخاري (52) في الإِيمان، (2051) في البيوع، ومسلم (1599)، وأبو داود (3329، 3330)، والترمذي (1205)، والنسائي (7/ 241، 243)، وابن ماجه (3984). (¬2) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (2680) في الشهادات، (6967) في الحيل، ومسلم (1713)، والمسند (6/ 203، 290، 291، 308).

الثاني: أن يكون [ذلك] (¬1) راجعًا إلى سؤال المال وهو مناسب لقوله قبله وإضاعة المال. وقد وردت أحاديث في تعظيم تقبيح مسألة الناس، ومدح الله -عز وجل- تارك السؤال الكثير بقوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (¬2) أي إلحاحًا. فمفهومه ذم السائلين إلحافًا. وفي الحديث: "لا تزال المسألة بالعبد حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم" (¬3) لا سيما من سأل من غير ضرورة تدعو إلى السؤال. ولا شك أن لفظ الحديث يدل على النهي عن كثرة السؤال لا على السؤال مطلقًا. وهو عام في سؤال الله -تعالى- والناس. خرج سؤال الله -تعالى- بالأمر به والحث عليه في قوله- تعالى-: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (¬4)، وقوله - عليه الصلاة والسلام - لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله" (¬5)، وهو مطلق كثيره وقليله. بقي القليل من سؤال الناس لبعضهم. وفي حديث رواه أبو داود أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لبعض من ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سورة البقرة: آية 273. (¬3) البخاري (14874) في الزكاة، ومسلم (1040) في الزكاة، والنسائي (5/ 94)، باب: المسألة، والشهاب القضاعي في مسنده (826)، والبيهقي في السنن (4/ 196) الزكاة، باب: كراهية السؤال والترغيب في تركه، والبغوي في السنة (6/ 119)، وأبو يعلي في مسنده (9/ 430). (¬4) سورة النساء: آية 32. (¬5) أحمد في المسند (1/ 307، 2/ 293)، والترمذي (2156)، والحاكم في المستدرك (3/ 541، 542).

سأله عن المسألة مرارًا [في] (¬1) الثالثة: "فإن كنت لابد سائلًا فاسئل الصالحين" (¬2) وإذا ثبت بعض سؤال بعض الناس فلا شك أن بعضه ممنوع من حيث أن يكون السائل [غنيًّا] (¬3) لا حاجة به إلى ما سأل [و] (¬4) يُظهر الحاجة وهو في الباطن بخلافها أو يخبر السائل عن أمر هو فيه كاذب. وفي السنة ما يشهد باعتبار ظاهر الحال في هذا وهو ما ثبت "أن رجلًا من أهل الصفة مات وترك دينارين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيتان" (¬5)، وإنما كان ذلك -والله أعلم- لأنهم كانوا فقراء مجردين يتصدق عليهم ويأخذون بناء على الفقر والعدم وظهر معه هذان الديناران على خلاف ظاهر حاله. قال الشيخ تقي الدين (¬6): والمنقول عن مذهب الشافعي جواز السؤال. قلت: وكذا قال الشيخ عز الدين في "أماليه": إنه الصحيح من مذهب الشافعي. وبه قال كثيرون لأنه طلب مباح فوجب أن يجوز ¬

_ (¬1) في ن ب دساقطة. (¬2) أبو داود (2/ 241)، والنسائي (5/ 96). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) أحمد (1/ 412، 415، 421، 457)، وابن حبان (3263)، وأبو يعلى (4997، 5037، 5115)، وذكره الهيثمي في المجمع (10/ 240)، وقال: وفيه عاصم بن بهدلة، وقد وثقه غيرُ واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ. (¬6) انظر: إحكام الأحكام (3/ 76).

قياسًا على طلب العارية وغيرها. والذم الوارد في الأخبار يحمل على من سأل من الزكاة الواجبة وليس هو من الأصناف الثمانية. وقال النووي في "شرح مسلم": اتفق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم يكن ضرورة. واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين: أصحهما: أنه حرام لظاهر الأحاديث. والثاني: أنه حلال مع الكراهة [بثلاثة] (¬1) شروط، وهي: أن لا يلح في السؤال، ولا يذل نفسه ذلًّا زائدًا على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسؤول. فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام. ثم ينظر في السؤال إن كان في سورة لا يحرم من العلم أو المال. فإن [كان] (¬2) في صورة تقتضي المنع منه تنزيهًا. فينبغي الامتناع من قليله وكثيره. وإن لم يقتض المنع منه حمل النهي على الكثير من السؤال المباح دون قليله، لأن كراهتها في الكثير أشد وليس في الحديث ما يدل إلَّا على الكثرة فقط، أو يحمل الحديث على الوجه [الأول] (¬3) عن كثرة السؤال عن المسائل المتعلقة بالدين الحاملة على التنطع والتدقيق والتضييق فيه. قال الشيخ تاج الدين الفاكهي: والعجب من القائل بكراهة ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (بثلاث). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) زيادة من ن ب د.

السؤال مطلقًا حيث لا يحرم مع كون السؤال كانوا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. وفي زمن الصحابة والتابعين إلى هلم جرا. وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ....} (¬1) الآية. وقال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} (¬2). وفي الحديث "ردوا السائل ولو بشق تمرة" (¬3). والشارع لا يقر على مكروه، بل لا يبعد عندي [أنه] (¬4) يجب السؤال في وقت الضرورة. ولا أظن أحدًا ينازع في ذلك. وقال بعضهم: المراد بكثرة السؤال في الحديث سؤال الناس عن أموالهم وما في أيديهم. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك. وقال بعضهم: المراد به كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث ¬

_ (¬1) سورة الإِنسان: آية 8. (¬2) سورة الذاريات: آية 19. (¬3) "ردوا السائل ولو بظلف محترق". أخرجه أحمد (4/ 70، 6/ 435)، وتخريج الأحياء (4/ 205)، وسنن النسائي (5/ 18)، والسنن الكبرى (4/ 177)، وموارد الظمآن (825)، وابن حبان (3374)، والموطأ (2/ 923)، والبغوي (1673)، والتاريخ الكبير (5/ 262)، والطبراني في الكبير (24/ 555، 556). وقد ورد بلفظ آخر: "اتقوا النار ولو بشق تمرة". البخاري (1413) فيه ذكر الأطراف، ومسلم (1016)، والترمذي (2415)، وابن ماجه (1843)، والنسائي (5/ 75)، وأحمد (4/ 258، 379)، وكشف الأستار (1/ 422)، والبحر الزخار عن أبي بكر (82)، وابن حبان (473)، والطيالسي (1135)، وشرح السنة (1640). (¬4) في ن ب د (أن).

الزمان وما لا يعني الإِنسان، فإن هذا قد [عرف] (¬1) من النهي عن قيل وقال. وقال بعضهم: المراد به كثرة سؤال الإِنسان عن حاله وتفاصيل أمره فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه ويتضمن ذلك حصول [الحرج] (¬2) في حق المسؤل فإنه قد لا يؤثر بإخباره بأحواله فإن أخبره سبق عليه. وإن كذبه في الأخبار أو تكلف التعرض لحقته مشقة. وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب. فائدة: [مراد الحديث] (¬3) كثرة السؤال لنفسه. فهل يكون السؤال لغيره [حكمه] (¬4) حكم نفسه في الكثرة والقلة، أو يمنع منه مطلقًا أو يؤذن فيه مطلقًا. الظاهر أنه يختلف ذلك باختلاف المقاصد والنيات وحال السائل والمسؤول. الرابع والعشرون: قوله: "وكان ينهي عن عقوق الأمهات" (¬5). العقوق عدم البر والإِحسان إلى الوالدين. يقال: عق والده يُعِق [عقًّا] (¬6) وعقوقًا ومعقة. فهو عاقق وعُقق [بضم العين والقاف] (¬7) مثل عامر وعمير. والجمع: عققة مثل كفرة. ¬

_ (¬1) في ن ب (عرفت). (¬2) في ن ب (الخروج). (¬3) في ن ب د (مراد الحديث). (¬4) في ن ب (بحكم). (¬5) انظر: البخاري مع الفتح (2/ 125). وقال ابن حجر: إسناده صحيح. (¬6) زيادة من ن ب د. (¬7) زيادة من ن ب د.

وتوقف الشيخ عز الدين: في ضابط العقوق: وأقرب ما فيه أنه كل فعل يتأذى به الوالد ونحوه تأذيًا ليس بالهين. وقد صنف العلماء في "بر الوالدين" (¬1) كالطرطوشي وغيره ما يتعين من ذلك وما يندب. وما أحسن قول ابن عطية في "تفسيره" (¬2): جملة هذا الباب: أن طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة. ولا في ترك فريضة على الأعيان. وتلزم طاعتهما في المباحات ويستحسن في ترك الطاعات الندبية. ومنه [أمر] (¬3) جهاد الكفاية. والإِجابة للأم في الصلاة مع إمكان [إعادتها] (¬4) على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلاكها عليه ونحوه. مما يحيى قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب. وخالف الحسن (¬5) في هذا الفضل. فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة عليه فلا يطعها. وأغرب داود الظاهري فقال في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬6). قال: لا تقل لهما هذا اللفظ. وقل ما سواه واضربهما. وهو قياس فاسد. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عد العقوق من الكبائر وهو إجماع. ¬

_ (¬1) الكتاب قد طبع في مجلد لطيف. (¬2) المحرر الوجيز (13/ 15) في تفسير سورة لقمان آية الوصية بالوالدين. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في ن ب د (الإِعادة). (¬5) الأثر في البخاري، الفتح (2/ 125)، تغليق التعليق (2/ 275). (¬6) سورة الإِسراء: آية 23.

الخامس والعشرون: "أمهات" جمع أمهة. والفرق بين "أُمَّهة" و "أمُ" أن [أمهة] (¬1) إنما تقع غالبًا على من يعقل بخلاف أم. السادس والعشرون: إنما خص الأمهات بذلك دون الآباء وإن كان العقوق محرمًا في حق الجميع لأجل كثرة [عقوقهن] (¬2) وشدتها ورجحان الأمر ببرهن وتكريره مرات دون الآباء، ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات، ويطمع الأولاد فيهن، ونظير تكراره في حقهن دونه. قوله -تعالى-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (¬3). شرّك الله -تعالى- الأم والوالد في رتبة الوصية. وخص الأم بذكر درجة الحمل وبالرضاع فحصل لها ثلاث مراتب وللأب واحدة. وفي الحديث الآخر: "أمك أمك ثم أباك" (¬4). واستدل به بعضهم على أن لها [ثلثي] (¬5) البر. تنببه: ذكر الأمهات في هذا الحديث من باب تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا لعظيم موقعه في الأمر إن كان مأمورًا [به] (¬6). وفي ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب د (حقوقهن). (¬3) سورة لقمان: آية 14. (¬4) البخاري في الأدب (5971)، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم في البر (2448)، والحميدي (2/ 476)، وابن ماجه في الأدب (3658)، وأحمد (2/ 391، 327)، وابن حبان (424)، وأبو يعلي (6082). (¬5) في ن ب (ثلث). (¬6) في ن ب د ساقطة.

النهي إن كان منهيًّا عنه. وقد يراعى في موضع آخر. التنبيه بذكر الأدنى على الأعلى فيخص الأدنى بالذكر [وذلك] (¬1) [بحسب] (¬2) اختلاف المقصود. وقد يقع التنبيه بالأعلى [على] (¬3) الأدنى. السابع والعشرون: قوله: "ووأد البنات" هو بالهمز. وهو عبارة عن دفنهن بالحياة كما كانت الجاهلية تفعله. وإليه الإِشارة. بقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} (¬4). يقال: وأد بنته يئدها وأدًا فهي "مَوْءودة". وكانت كندة تئد البنات. وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد. وبه افتخر الفرزدق في قوله: [ومنا] (¬5) الذي منع الوائدات ... [وأحيا] (¬6) الوليد فلم يُؤدِ وكان صفة وأدِهِمْ أن الرجل إذا وُلدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة صوف أو شعر ترعى له الإِبل والغنم في البادية. وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها. وقد حفر لها بئرًا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها فيدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ... ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (حسب)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في الأصل (عن)، والتصحيح من ن ب د. (¬4) سورة التكوير: آيتان 8، 9. (¬5) في المحبر لمحمد بن حبيب (141): وجدي. (¬6) في الجامع لأحكام القرآن (19/ 233) "فأحيا".

وقيل: كانت الحامل إذا اقتربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة. وإذا ولدت ابنًا حبسته. وكان الحامل لهم على ذلك الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن أو الخوف من الإِملاق وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهن -تعالى- الله عن ذلك. ومن كلام بعضهم في الجاهلية: كنا نقتل أولادنا يعني الإِناث ونربي كلابنا. واعلم إنما خصت البنات بالذكر دون الأبناء لأنه كان هو الواقع، فتوجه النهي إليه لا لأن الحكم مخصوص بالبنات. والوأد: من الكبائر الموبقات لأنه قتل نفس بغير حق. ويتضمن أيضًا قطيعة الرحم. الثامن والعشرون: فيه دليل على تحريم قتل النفس بغير حق شرعي. التاسع والعشرون: قوله: "ومنع وهات" منع مصدر منع، وهات فعل أبو من تهاتى مثل يراني. يقال: هاتِ يا رجل -بكسر التاء- أي اعطني. قال الخليل: هاتِ من [ائت] (¬1) يؤتى فقلبت الألف هاء فهات على هذا في الحكاية كما تقدم في قيل بالفتح. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (أتى)، وما أثبت من حاشية إحكام الأحكام.

الثلاثون: هذا النهي راجع إلى السؤال الصحيح وغير الصحيح بالمنع والإِعطاء وحينئذ يحتمل وجهين: أحدهما: النهي عن المنع حيث يؤمر بالإِعطاء. وعن السؤال حيث منع منه فيكون كل واحد منهما مخصوصًا بصورة غير سورة الآخر. الثاني: أن يجتمعا في سورة واحدة فلا تعارض بينهما فتكون وظيفة الطالب ووظيفة المعطي أن لا يمنع إن وقع السؤال وهذا لا بد أن يستثني منه ما إذا كان المطلوب محرمًا على الطالب فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه لكونه معينًا على الإِثم. ويحتمل أن يكون ذلك محمولًا على الكثرة من السؤال. والعبارة الواضحة في ذلك النهي عن منع ما أُمر بإعطائه. وطلب ما لا يستحق أخذه. وترجم عليه النووي في "شرح مسلم" (¬1): النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة. والنهي عن منع وهات. وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه. ¬

_ (¬1) مسلم (3/ 1340)، والنووي (12/ 10).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 131/ 3/ 24 - عن سُمَي -مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام-، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله، قد ذهب أهل الدُّثُور بالدرجات العُلَى، والنعيم المقيم، فقال: "وما ذاك"؟ فقالوا: يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق. ويُعْتِقُون ولا نُعْتِق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به مَنْ سبقكم، وتسبقون به مَنْ بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلَّا من صَنَعَ مثلَ ما صنعتم"؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: "تسبِّحون وتكبِّرون وتحمدون دبر كل صلاة، ثلاثًا وثلاثين مرة". قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين (¬1)، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية الأحكام (3/ 80): قال الحافظ رشيد الدين العطار: وقول مسلم في آخره "قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" مرسل لم يسنده أبو صالح، وقد أخرجه البخاري في مواضع من كتابه ولم يذكر فيه هذه الزيادة من قول أبي صالح، إلَّا أن يكون مسلمًا قد أخرجه من وجه آخر عن أبي صالح =

ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". قال سُمَي: فحدثت [بعض] (¬1) أهلي بهذا الحديث، فقال: وهمت، إنما قال [لك] (¬2) تسبح ثلاثًا وثلاثين، وتحمد ثلاثًا وثلاثين، وتكبر ثلاثًا وثلاثين، فرجعت إلى أبي صالح، فقلت له ذلك. فقال: قل: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى يبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين" (¬3). ¬

_ = وفيه هذه الزيادة متصلة مع سائر الحديث، قال: إلَّا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: "ثم رجع فقراء المهاجرين إلخ" قال: قال قوله "فحدثت بعض أهلي" خبر متصل. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) البخاري (843، 6329)، ومسلم (595) كتاب المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائي في عمل اليوم والليلة (204)، وأبو عوانة (2/ 248)، وابن خزيمة (749)، والبيهقي (2/ 186)، والطبراني في الدعاء (2/ 1130)، وفي الصغير (2/ 15)، وقد ورد عن ابن عباس في النسائي (3/ 78)، والترمذي (410)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، والطبراني في الكبير (11/ 365)، والدعاء له (2/ 1131)، وأيضًا عن أبي الدرداء: في المسند (6/ 446)، وفي عمل اليوم والليلة (205، 206، 207)، وانظر: اختلاف الروايات في عمل اليوم والليلة، وفي الفتح (11/ 134، 135). قال ابن حجر في الفتح (13/ 384): والمعتمد هو رواية سميَّ عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقال أيضًا (2/ 7328): وعلى رواية مسلم اقتصر صاحب العمدة ... الخ كلامه.

الكلام عليه من سبعة وعشرين وجهًا. الأول: "سُمَي" بضم أوله، قرشي مخزومي، مولاهم مدني تابعي ثقة، وكان جميلًا، قتله الخوارج يوم قديد (¬1) سنة ثلاثين ومائة (¬2). قال ابن الأثير: ويقال سنة إحدى وثلاثين وجزم بهذا ابن العطار في "شرحه". الثاني: "أبو بكر" هذا هو أحد الفقهاء السبعة، في اسمه أقوال. والصحيح أن اسمه كنيته، مات سنة أربع وتسعين (¬3). الثالث: أبو صالح هذا اسمه ذكوان مدني مولى جويرية الغطفانية. يقال له السمان والزيات. لجلبه [لهما] (¬4) إلى الكوفة، شهد الدار زمن عثمان، ورَوَى عن عائشة وخَلْقٍ، وعنه بنوه: سهيل، وعبد الله، وصالح. وخَلْقٌ. وكان من علماء التابعين وثقاتهم. قال: ما كنت أتمنى من الدنيا إلَّا ثوبين أبيضين أجالس فيهما أبا هريرة، مات بالمدينة سنة إحدى ومائة. وترجمته والذي قبله أوضحتهما فيما أفردته من الكلام على أسماء رجال هذا الكتاب ¬

_ (¬1) قديد: موضع بين مكلة والمدينة، فيه كانت الوقعة سنة 130 هـ بين أهل المدينة وبين أبي حمزة الخارجي فقتل منهم مقتلة عظيمة. انظر: ابن سعد (5/ 124)، والطبري (7/ 393). (¬2) انظر: تقريب التهذيب (1/ 333). (¬3) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. انظر: تقريب التهذيب (2/ 398). (¬4) زيادة من ن ب د.

فراجع ذلك منه (¬1). الرابع: قوله: "فقراء المهاجرين" هو من باب مسجد الجامع، وصلاة الأولى. مما أضيف فيه الموصوف إلى صفته. وكان الأصل الفقراء المهاجرين، كما أن الأصل المسجد الجامع، والصلاة الأولى، ووقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬2) "المسلمين" بدل "المهاجرين"، وتبعه ابن العطار في "شرحه"، والموجود في النسخ ما قدمته وهو محفوظٌ. الخامس: "الدثور" بضم الدال: الأموال الكثيرة واحدها "دَثْرٌ" وهو المال الكثير -بفتح الدال- مثل فلس وفلوس. قال القرطبي (¬3)، وكذا الدِبر -بكسر الدال وبالباء الموحدة-، ووقع في السيرة (¬4) في خبر النجاشي دَبر من ذهب -بفتح الدال-. ¬

_ (¬1) انظر: تقريب التهذيب (2/ 436). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 81). (¬3) المفهم (2/ 1042). ذكره وما بعده في إكمال إكمال المعلم (2/ 285). (¬4) انظر: السيرة لابن هشام (1/ 360)، والحديث أخرجه أحمد (1/ 203، 503)، وانظر: غريب الحدث لابن الجوزي (1/ 322)، والنهاية (2/ 99)، حيث قال: وفي حديث النجاشي "ما أحب أن يكون دَبْرَى لي ذهبًا وأنى آذيت رجلًا من المسلمين، هو بالقصر: اسم جبل. وفي رواية "ما أحب أن لي دَبْرًا من ذهب". الدبْرُ بلسانهم: الجبل، هكذا فُسر، وهو في الأولى، معرفة، وفي الثانية نكرة. اهـ. وانظر غريب الحديث لأبي عبيد (4/ 460).

قال ابن هشام: ويقال: دِبْرًا قال: وهو الجبل بلغة الحبشة. قال الهروي: يقال: مال دثر، [ومالان دَثْرٌ] (¬1)، وأموال دَثْرٌ. وحكى أبو عمرو المطرز: أن الدثر -بالثاء- يثنى ويجمع، قال ابن [قرقول] (¬2)، ووقع في رواية المروزي "أهل الدور" وهو تصحيف، وعند الخطابي (¬3) "الدور" والصواب: "الدثور". السادس: "الدرجات" يجوز أن تكون حِسِّيَّة على ظاهرها من درج الجنات، ويجوز أن تكون معنوية أي علا قدرهم عند الله وارتفعت درجاتهم عنده من قولهم: ارتفعت درجة فلان عند الملك ونحو ذلك. السابع: "النعيم" ما يتنعم به من [ملبس ومطعم] (¬4) أو منكح أو منظر أو من علوم ومعارف أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) غير موجودة في المفهم. (¬2) في ن ب (فرقون). انظر: الأنساب للسمعاني (3/ 27)، وفتح الباري (2/ 374). هو صاحب مطالع الأنوار. (¬3) قال الخطابي في إعلامه (1/ 550): قلت: هكذا وقع في روايته: أهل الدور، وهو غلط والصواب أهل الدثور، هكذا رواه الناس كلهم، يريد أهل الأموال. قال ابن حجر في الفتح (2/ 327): بعد سياق كلام الخطابي، وذكر صاحب المطالع من رواية أبي زيد المروزي أيضًا الدور. اهـ. ولم يتعقبها بشيء. (¬4) في ن د (تقديم وتأخير).

والمقيم: [الدائم] (¬1) الذي لا ينقطع أبدًا، جعلنا الله من أهله بمنه. الثامن: في الحديث السؤال عن الأعمال المحصلة للدرجات العالية والنعيم الدائم والتوسعة في الغبطة وهو تمني أن يكون له مثل ما لزيد مع بقاء نعمته عليه فإن تمنى زوالها إليه [فهو] (¬2) الحسد. التاسع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "تدركون به من سبقكم" السبقية هنا يحتمل أن تكون في الغنى وهو السبق في الفضيلة. وقوله: "من بعدكم" أي من بعدكم في الفضيلة على من لا يعمل هذا العمل، ويحتمل أن يراد القبلية الزمانية، والبعدية الزمانية. قال الشيخ تقي الدين (¬3): والأول أقرب إلى السياق، فإن سؤالهم [كان] (¬4) عن أمر الفضيلة، وتقدُّمِ الأغنياء. قلت: لعل مراده بالقبلية والبعدية من كان في زمنهم، وإلَّا ففضيلة هذه الأمة ثابتة على من سبقهم، وإن لم يقولوا هذا الذكر. العاشر: قوله: "ولا يكون أحد أفضل منكم" يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال، وعلى أن تلك الفضيلة للأغنياء ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) في ن ب د (فذلك). (¬3) إحكام الأحكام (3/ 89). (¬4) زيادة من ن ب د.

مشروطة بأن لا يفعل هذا الفعل الذي أُمر به الفقراء، وأن من نقص شيئًا مما ذكر كان مفضولًا بالنسبة إلى من أتى به. الحادي عشر: قوله: "تسبحون إلى آخره" فيه دلالة على تعليم كيفية هذا الذكر ولا شك أن جمعه والإِتيان بكل كلمة منه على حده فرادى جائز لكن جمعه راجح، لأن العدد في الجملة يحصل في كل فرد من العدد كيف وهو ظاهر الحديث. وحكى أبو عمران الزناتي المالكي: أن العلماء اختلفوا في جمعها وتفريقها أيهما أفضل، ورجح بعض من صنف، الجمع بالإِتيان بواو العطف كنظيره من التشهد. الثاني عشر: قوله: "دبر كل صلاة" أي إثر فراغها وهو -بضم الدال- على المشهور كما سلف في الحديث قبله. وقال بعضهم: يقال جعل كلامه دبر أذنه -بالفتح- أي خلفها إذا لم يلتفت إليه، قال: والدُبر: -بالضم والإِسكان- نقيض القبل (¬1) من كل شيء. يقال: أعتق عبده عن دبر إذا أعتقه بعد موته (¬2). الثالث عشر: قوله: "كل صلاة" ظاهره استواء الفرض والنقل ¬

_ (¬1) في ن د زيادة (وبضمهما نقيض القبل). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (2/ 325): على قوله: "خلف كل صلاة" هذه الرواية مفسرة للرواية التي عند المصنف في الدعوات وهي قوله: "دبر كل صلاة"، ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذر: "إثر كل صلاة" ومعنى دبر في اللغة: آخره.

في ذلك، وعليه حمله بعض العلماء لكن في حديث كعب بن عجرة مرفوعًا: "معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحه وثلاث وثلاثون تحميده وأربع وثلاثون تكبيره (¬1) " وقد يحمل الحديث الذي نحن فيه عليه، لأن المثلية إنما تتحقق إذا كان عقب صلوات معلومة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة (596)، والترمذي في الدعوات، باب: منه في فضل التسبيح والتحمد (3412)، والنسائي في الصلاة (3/ 75)، باب: نوع آخر من عدد التسبيح، وأبو عوانه (2/ 269)، والبخاري في الأدب المفرد (622)، والطبراني في الكبير (19/ 259)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (209، 210)، وابن حبان في صحيحه (2019)، والطيالسي (477)، وعبد الرزاق (10/ 228)، والبيهقي في السنن (2/ 187)، وفي الصغرى (1/ 185). استدرك الدارقطني هذا الحديث على مسلم وقال: الصواب أنه موقوف على كعب، لأن من رفعه لا يقاومون من وقفه في الحفظ. وعقب النووي عليه بقوله: وهذا الذي قاله الدارقطني مردود لأن مسلمًا رواه من طرق كلها مرفوعة ... إلخ كلامه (5/ 95). اهـ، من شرح مسلم. وانظر: نتائج الأفكار لابن حجر (2/ 252)، حيث يقول (وقد رويناه مرفوعًا كذلك عن شعبة) وساقه في طريق ابن منده. اهـ. قال ابن حجر في الفتح (2/ 328): وظاهر قوله: "كل صلاة" يشمل الفرض والنقل لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها يكون فاصلًا بين المكتوبة والذكر أولًا؟ محل للنظر، والله أعلم.

الرابع عشر: نقل القاضي عياض: عن بعضهم أن الفضائل التي جاءت من الأذكار أنها إنما هي لأهل الشرف في الدين والطهارة من الكبائر دون المصرين وغيرهم، قال: وفيما قاله نظر، والأحاديث عامة. الخامس عشر: قوله: "فرجع فقراء المهاجرين" (¬1) إلى آخره فيه المسابقة إلى الأعمال المحصِّلة للدرجات العالية والنعيم الدائم. السادس عشر: قوله: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" فيه فضل من جمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة: من الصلاة، والصوم، والصدقة، والعتق، والذكر، وذكر بعضهم: أن ثواب الذكر الذي حصل للأغنياء إنما هو بسبب مسألة الفقراء فحصل للفقراء ثواب الذكر وزيادة كونهم سنوا هذه السنَّة الحسنة، فقال لهم ذلك فضل الله أي الأجران الحاصلان يؤتيهما من شاء ففي هذا تفضيل الفقير على الغني وسيأتي ما فيه (¬2). السابع عشر: قوله: "فحدثت بعض أهلي هذا الحديث" لم أر تعيين هذا البعض في رواية بعد الكشف عنه. الثامن عشر: قوله: "وهِمت" هو بكسر الهاء، وحكى ابن الأعرابي في "نوادره" أوهم في الحساب ووهِم ووهَم إذا أسقط وكذا في الكلام والكتاب. ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (3/ 80): لم يذكر البخاري رجوعهم إليه - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. (¬2) انظر: حاشية إحكام الأحكام للصنعاني (3/ 83).

التاسع عشر: قوله: "فرجعت إلى أبي صالح فقال: الله أكبر" إلى آخره، ظاهره: أنه يقول: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ثلاثًا وثلاثين مرة. وظاهر الحديث أنه يسبح ثلاثًا وثلاثين مستقلة ثم يحمد كذلك ثم يكبر كذلك وهو ظاهر جميع روايات الحديث. قال القاضي عياض (¬1): وهو أولى من تأويل أبي صالح. العشرون: قوله: "ثلاثًا وثلاثين مرة" لا يعارضه رواية [سهيل] (¬2) إحدى عشرة، إحدى عشرة، لأنها رواية الأكثرين ومعهم زيادة فيجب قبولها. وروى البخاري في الدعوات من صحيحه رواية ثالثة وهي "تسبحون دبر كل صلاة عشرًا وتحمدون عشرًا وتكبرون عشرًا" ويحتمل أن يكون صدر هذا القول في مجالس أولها عشرًا عشرًا ثم إحدى عشرة ثم ثلاثًا وثلاثين (¬3). الحادي والعشرون: جاء في رواية لمسلم (¬4) "تمام المائة لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (2/ 286). (¬2) في ن ب (سهل). (¬3) جمع البغوي -رحمه الله- في شرح السنَّة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة أولها عشرًا ثم إحدى عشرة إحدى عشرة ثم ثلاثًا وثلاثين وثلاثًا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال وهكذا نقله ابن حجر في الفتح (2/ 329)، والبخاري (6329). (¬4) مسلم في المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة (597).

قدير" وفي رواية (¬1): "إن التكبير أربع وثلاثون"، فيجمع بين الكل ففي تمام الحديث من قال ذلك "غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"، وفي سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلَّا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل: تسبح الله في دبر كل صلاة عشرًا [وتحمد عشرًا] (¬3) وتكبر عشرًا، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان ويكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ¬

_ (¬1) وردت من رواية ابن عباس عند الترمذي (410) في الصلاة، باب: ما جاء في التسبيح في أدبار الصلوات، والنسائي (3/ 78) في السهو، باب: نوع آخر من التسبيح وأبي الدرداء، وحديث كعب بن عجرة الذي سبق تخريجه، وزيد بن ثابت في النسائي (3/ 76)، وأحمد (5/ 184)، وابن خزيمة وابن حبان في موارد الظمآن (2340)، وصححه الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي (1/ 53). (¬2) أبو داود في الأدب، باب: في التسبيح عند النوم (5065)، والترمذي في الدعوات (3410)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في السهو: عدد التسبيح بعد التسليم (3/ 74)، وفي عمل اليوم والليلة (473، 476)، والبخاري في الأدب المفرد (1216)، وابن أبي شيبة (10/ 232)، ومصنف عبد الرزاق (2/ 233)، وابن ماجه (926)، وأحمد في المسند (2/ 160، 161، 204، 205)، والطبراني في الدعاء (1132). قال ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 266): هذا حديث صحيح ... إلخ كلامه. (¬3) في الأصل ساقطة.

ويسبح ثلاثًا وثلاثين فذلك مائة باللسان وألفٌ من الميزان" الحديث. الثاني والعشرون: قال [القرافي] (¬1): في "قواعده": من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعًا، كما ورد في التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين عقب الفرائض، فيفعل أكثر من ذلك لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئًا أن يوقف ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب (¬2). [قلت: روى النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: من سبح في دبر كل صلاة مكتوبة مائة، وكبّر مائة، وهلل مائة، وحمد مائة، غُفر له ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر" (¬3)، فهذا زائد على ذلك المقدار فاتسع الباب] (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (الفراء). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (2/ 330) بعد سياقه كلام القرافي: ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد خصوص مع طلب الإِتيان بجميها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها، والله أعلم. (¬3) النسائي الكبرى (2/ 403)، والنسائي (3/ 79)، وعمل اليوم والليلة ح (140، 141). ولفظه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سبح دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة، وهلل مائة تهليلة، غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر"، والحديث: فيه أبو الزبير مدلس وقد عنعن فيكون ضعيف من هذا الطريق. (¬4) زيادة من ن د.

الثالث والعشرون: من فوائد الحديث أن الإنسان قد يدرك بالعمل اليسير في الصورة، العظيم في المعنى من سبقه، ولا يدركه من بعده في الفضل ممن لا يعلم به، فإن سياق الحديث يدل على ذلك كما [سلف] (¬1). الرابع والعشرون: فيه أيضًا فضل الذكر أدبار الصلوات. الخامس والعشرون: فيه [أن] (¬2) أدبار الصلوات أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعوات وقبول الطاعات ويصل بها متعاطيها إلى الدرجات العالية والمنازل الغالية. السادس والعشرون: فيه تعلق المسألة المشهورة وهي التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر وفيها خلاف شهير يجمعه خمسة أقوال حكاها القرطبي (¬3) في "شرحه". أحدها: تفضيل الغني لهذا الحديث وغيره وهو قول الأكثرين وأطنب الغزالي في الاستدلال له في "الأحياء". قال الشافعي - رضي الله عنه - فيما نقله ابن شاكر القطان (¬4) في "فضائله": المال رحمة من الله تعالى يُعينُ العبدَ على طاعته ويتقرب إلى الله به. ¬

_ (¬1) في ن ب (سبق). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) المفهم (2/ 1042). (¬4) هو محمد بن أحمد بن شاكر القطان أبو عبد الله المصري الشافعي المتوفى سنة (407). صنف فضائل الشافعي وكتاب المطارحات في الأصول. السبكي (4/ 95)، وابن قاضى شهبة (1/ 225).

والثاني: تفضيل الفقير لاستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الغِنَى خصوصًا إذا كان مطغيًا، وهو قول جمهور الصوفية كما سيأتي. والثالث: تفضيل الكفاف لسؤاله - صلى الله عليه وسلم - إياه. والرابع: أن التفضيل باعتبار حال الناس في الغنى والفقر بالنسبة إلى صلاحهم في أنفسهم وأديانهم. الخامس: التوقف عن تفضيل واحد منهما على الآخر والمسألة لها [عوز] (¬1) وفيها أحاديث متعارضة، وقد صنف العلماء فيها كتبًا عديدة. قال القرطبي (¬2): والذي يظهر لي في الحال أن الأفضل من ذلك ما اختاره الله لنبيه ولجمهور صحابته وهو الفقر غير المدقع، ويكفيك دليلًا "أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار يسألون عن فضول أموالهم"، [كما ثبت في الصحيح و (¬3)] (¬4) على هذا فيتعين ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، وفي ن د، وفي ن ب (عرز). (¬2) في المفهم (2/ 1042). (¬3) المدارج (2/ 442)، وعدة الصابرين (125، 142، 146، 230)، وبدائع الفوئد (3/ 162)، وطريق الهجرتين (626)، وروائع المسائل (238). انظر: حاشية إحكام الأحكام (3/ 83)، وذلك للاطلاع على التفضيل بين الغني والفقير من رواية أسامة بن زيد عند البخاري (5196)، ومسلم (2736)، وأحمد (5/ 205)، والبغوي (4064)، ولفظه: "قمت على باب الجنة"، فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون ... " الحديث. (¬4) غير موجودة في المفهم.

تأويل قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬1) وقد تأوله بعضهم بأن قال: إن الإِشارة في قوله: "ذلك" راجعة إلى الثواب المترتب على الأعمال، الذي به يحصل التفضيل عند الله فكأنه قال ذلك الثواب الذي أخبرتكم به، لا يستحقه الإِنسان بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء. وقال الشيخ تقي الدين (¬2): ظاهر الحديث تفضيل الأغنياء بزيادة القربات المالية، قال: قال وبعض الناس تأول قوله: "ذلك فضل الله يوتيه من يشاء" بتأويل مستكره يخرجه عن الظاهر والذي يقتضيه الأصل تساويهما -وحصول الرجحان بالعبادات المالية- فيكون الغنى أفضل، وذلك غير مشكوك فيه. والذي يقع النظر فيه إذا تساويا في أداء الواجب فقط وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه، من الصبر أو الشكر فإن كلاًّ منهما متعبد به وإذا تقابلت المصالح ففي ذلك نظر، ترجع إلى تفسير الأفضل. فإن فسر بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة، وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق، والرياضة لسوء الطباع [بسبب] (¬3) الفقر أشرف. فيترجح الفقر. قال: ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها. وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى، فكان أفضل بمعنى ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: آية 4. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 83). (¬3) في ن د (تسبب)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.

[أشرف] (¬1). قلت: وذهب قوم إلى أن الفقر المستعاذ منه فقر النفس (¬2). قال ابن الجوزي: والصواب أن يقال الفقر مصيبة من مصائب الدنيا والغنى نعمة من نعمها، ووزانهما المرض والعافية ففي المرض ثواب وفضل لا يمنع ذلك من الاستعاذة منه وسؤال العافية فكذلك الفقر والغنى. تنبيه: لا شك أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام كان غنيًا بالله -تعالى- شاكرًا له، فقيرًا إليه، صابرًا على جميع أحواله، وآخر أحواله جيئت إليه خزائن الأرض، وهادتة الملوك، وفتحت الفتوح، وكذا صحابته الذين أدركوا الفتوحات، فكان المال الكثير في اليد لا في القلب، فهم بهذا الاعتبار أغنياء لا فقراء، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعطي عطاء من لا يخاف الفقر (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، وفي إحكام الأحكام (الأشرف). (¬2) النسائي في الصغرى (5460)، ولفظه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفقر، وأعوذ بك من القلة والذلة، وأعوذ بك أن أَظلِم أو أُظلَم" وانظر لفظه برقم 1347، 5461). (¬3) قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (11/ 119، 121): الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخري المسلمين في "الغني الشاكر"و "الفقير الصابر" أيهما أفضل؟ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد حكى في ذلك روايتان عن الإِمام أحمد. وأما الصحابة والتابعون، فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر. وقالت طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلَّا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى، كان أفضل. وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة. وهذا أصح الأقوال، لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإِيمان والتقوى، وقد قال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء. وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء. والكاملون يقومون بالمقامين: فيقومون بالشكر والصبر على التمام، كحال نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وحال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع الآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره ... إن من عبادي من لا يصلحه إلَّا الفقر ولو أغنيته: لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلَّا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي، إني بهم خبير بصير". وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم"، وفي الحديث الآخر، لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات، سمع بذلك الأغنياء، فقالوا مثلما قالوا، فذكر ذلك الفقراء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لحق الحساب عليهم والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب. ثم إذا حوسب أحدهم، فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير، كانت درجته في الجنة فوقه وإن تأخر في الدخول. كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن. وقد يدخل الجنة بحساب =

تتمة: لما مضى قد أسلفنا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام وهذا لفظ الترمذي (¬1)، ولفظ ابن ماجه "فقراء المؤمنين" وفي رواية لهما "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام"، قال الترمذي: حسن صحيح. وفي مسلم (¬2) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة ¬

_ = من يكون أفضل من أحدهم. وصلَّى الله وسلَّم على محمد. انظر: عدة الصابرين لابن القيم ص 193، 195، 201، 202، 203، 204، 208، 209، 313، 314، 317، 319، 322. (¬1) أحمد (3/ 63، 96)، وأبو داود (3666) في العلم، باب: القصص، والترمذي (2352)، وابن ماجه (4123)، والبغوي (3992)، وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي (2354)، وابن ماجه (4122)، وأحمد (2/ 296)، وصححه ابن حبان (676)، ومن رواية عبد الله بن سلام عند مسلم (315). انظر: تحفة الأشرف (2/ 138). (¬2) مسلم (2979)، وابن حبان (677، 678). فائدة مهمة ينبغي مراعاتها: قال ابن حجر في الفتح (2/ 328): ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن ذلك الفراغ فإن كان يسيرًا بحيث لا يعد معرضًا أو كان ناسيًا أو متشاغلًا بما ورد أيضًا بعد الصلاة كآية الكرسي فلا يضر، وظاهر قوله "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة عن مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا هل يكون الشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلًا بين المكتوبة والذكر أو لا؟ محل نظر.

بأربعين خريفًا" وجمع المنذري بينهما بأن فقراء المهاجرين يسبقون فقراء المسلمين إلى الجنة بهذه المدة لما لهم من فضل الهجرة وترك أموالهم بمكة رغبة إلى ما عند الله. واعترض عليه المحب في "أحكامه" فقال: فيما ذكره نظر والوجه حمل الأغنياء فيه على أغنياء المهاجرين ومن غيرهم قيل الأغنياء من غير المهاجرين بخمسمائة عام، قال: وأما حديث ابن ماجه والترمذي: "إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام" (¬1)، وحديث الترمذي: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا" (¬2) فغير ثابتين كما قال المنذري ولو ثبتا أمكن الجمع بينهما بأن يحمل ذلك على اختلاف مراتب الغنى والشكر والفقر والصبر عليه فيدخل بعض فقراء المهاجرين قبل أغنيائهم بأربعين، وقبل [بعضهم] (¬3) بخمسمائة وكذلك فقراء المسلمين مع أغنيائهم ولا يخفى تنزيل ذلك على الأحوال. ¬

_ (¬1) ابن ماجه (4122)، والترمذي (2353)، وأحمد (2/ 296، 451)، وابن أبي شيبة (13/ 246). (¬2) الترمذي (2352) في الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة، وابن ماجه (4123)، وأحمد (3/ 63، 96)، وأبي داود (3666)، والبغوي (14/ 191)، وكلهم من رواية أبي سعيد الخدري. وجاء من رواية عبد الله بن عمرو عند الدارمي (2/ 339)، وعن أنس عند الترمذي (2352)، وعن ابن عمر عند ابن ماجه (4124)، وابن أبي شيبة (13/ 244). (¬3) في ن ب (بعض).

السابع والعشرون: قال الشيخ عز الدين: في هذا الحديث رد على من يقول إن العمل المتعدي أفضل من القاصر. وأطلق القول بذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - قدم هذا الذكر على الصدقة بالأموال وجعل لهم المزية بقوله: "ولا يكون أحد أفضل منكم" إلى آخره وقد قدمنا كلام الشيخ تقي الدين في ذلك قريبًا.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 132/ 4/ 24 - " عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة. فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي [جهم] (¬1) وائتوني بأنبجانية أبي [جهم] (¬2) فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي" (¬3). "الخميصة" كساء مربع له أعلام. و"الأنبجانية" كساء غليظ. الكلام عليه من تسعة عشر وجهًا: ¬

_ (¬1) في الأصل (جهيم). (¬2) في الأصل (جهيم). (¬3) البخاري (373، 752، 5817)، ومسلم (556) في المساجد، باب: النظر في الصلاة، وأبو داود (914)، باب: النظر في الصلاة، (4052) في اللباس، باب: لبس الحرير، والنسائي (2/ 72) في القبلة، وابن ماجه (3550)، وأحمد في المسند (6/ 36، 199)، والحميدي (1/ 91)، وعبد الرزاق (1389)، وأبو عوانة (2/ 64)، وابن حبان (2328)، ومالك في الموطأ (67)، وأبو يعلى (4414)، والبغري في السنة (523).

الأول: هذا الحديث لا يظهر له مناسبة في هذا الباب الذي ترجمه المصنف بالذكر عقب الصلاة (¬1). الثاني: "أبو جهيم" هذا اسمه عامر. وقيل: عبيد بن حذيفة القرشي العدوي. أسلم يوم الفتح وكان مقدمًا في قريش معظمًا. وكان عالمًا بالنسب. ومن المعمرين من قريش، بني الكعبة مرتين، مرةً في الجاهلية حين بنتها قريش، ومرةً حين بناها ابن الزبير. وهو أحد الجماعة الذين دفنوا عثمان، مات في آخر خلافة معاوية وادَّعى بعض الحفاظ أنه لا رواية له (¬2). قلت: وهو غير أبي [جُهيم] (¬3) بضم أوله وزيادة ياء المذكور في باب المرور كما سبق. الثالث: "الخميصة" بفتح الخاء المعجمة كساء مربع له أعلام كما قاله المصنف. قال المازري: مصبوغ علمه حرير. ¬

_ (¬1) أجاب البرماوي -رحمنا الله وإياه- عن هذا بأن الذكر نوعان: لساني وقلبي، فلما بين المؤلف ما ورد باللسان عقب الصلاة ذكر أنه ينبغي أن المصلي يكون له ذكر بالقلب إلى أن تقضي الصلاة بحيت لا يشغله شيء. اهـ، من حاشية الأحكام (3/ 91). (¬2) انظر: الإِصابة (7/ 34). (¬3) زيادة من ن ب د. انظر: شرح مسلم للنووي (5/ 44).

وقال الباجي (¬1): هي كساء من صوف رقيق يكون له في الأغلب علم، وكانت (¬2) من أشرف لباس العرب. ونقل المحب الطبري في "أحكامه": عن الأصمعي أنها ثوب خزٍ أو صوف بعلم أسود. وعن أُبي أنها كساء مربع له علمان. قال: وقيل: لا تسمى خميصة إلَّا أن تكون سوداء معلمة. وجمعها خمائص. وقيل: هي كساء رقيق أصفر أو أحمر أو أسود. وسميت [خميصة] (¬3): للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طويت. الرابع: "الأَنبجانية" بفتح الهمزة وكسرها وبفتح الباء الموحدة وكسرها وبتشديد الياء المثناة تحت وتخفيفها. قال ابن قتيبة: إنما هي منبجاني (¬4) ولا يقال: أنبجاني منسوب ¬

_ (¬1) المنتقى (1/ 180). وانظر: شرح مسلم للنووي (5/ 43)، فإنه ساق هذا. (¬2) في ن ب زيادة (غلب). (¬3) في الأصل (حميصها)، وهو تصحيف. (¬4) في أدب الكاتب أي منبجانية -بالميم- نسبة إلى منبج بلد معروف بالشام، ومن قال بهمزة فقد غير. أقول: في المفهم (2/ 971) العبارة نقلًا عنه هكذا: "قال ابن قتيبة: إنما هو أنبجاني -ولا يقال أيجاني- نسوب إلى منبج، وفتحت الياء في النسب. اهـ، محل المقصود. قال البطليوسي في شرحه لأدب الكاتب: قد قيل أنبجاني، وجاه ذلك في بعض الحديث ... وليس في مجيئه مخالفًا للفظ منبج يبطل أن يكون منسوبًا أليها، لأن المنسوب يرد خارجًا عن القياس كثيرًا. اهـ.

إلى منبج، وفُتحَت الباء في النسب لأنه خرج مخرج مخبراني. وهو قول الأصمعي: وما قاله ليس بظاهر، فإن النسبة إلى منبج منبجي إلا أن يحمل على تغيير النسب. وقال بعضهم: [إنها تُعمل بحلب وتجلب إلى جسر منبج] (¬1). وقيل: إنه نسبة إلى موضع يقال له أنبجان وهو أشبه، لأن الأول فيه تعسف ذكره الحافظ أبو موسى (¬2). وقوله: "وائتوني بأنبجانية أبي جهم"، رُوي بتشديد الياء المثناة تحت والتأنيث على الإِضافة وعلى التذكير كما في الرواية الأخرى "كساء له أنبجانية". قال الباجى (¬3): ويقال أنبجانية وأنبجاني إن أردت الثوب والكساء ذكَّرت. وان أردت الرقعة أنَّثت. ¬

_ (¬1) قال في المشارق (1/ 40): قالوا: وهي أكسية تصنع بحلب فتحمل إلى جسر منبج. (¬2) المجموع المغيث (1/ 94) في غريب الحديث، والذي في المجموع "منبج"، وتعقبه غيره أيضًا: بأن قياس النسبة إليه منبجي بغير همزة والإِتيان بالميم والأصل عدم الإِبدال. وقال الجوهري: إذا نسبت إلى منبج فتحت البناء فقلت كساء منبجاني أخرجره فخرخ منظراني. اهـ. وقال غيره. مُنبج موضع أعجمي تكلمت به العرب ونسبوا إليه الثياب المنبجانية. وانظر: النهاية (1/ 73)، والمعرب (325)، وقصد السبيل (1/ 214). (¬3) المنتقى (1/ 180).

قال المصنف: وهو كساء غليظ. زاد غيره: لا علم له فإن كان له علم فهو الخميصة. وقال ثعلب: هو كل ما كتف. وقال الداودي: هو كساء غليظ بين الكساء والعباءة. وقال المازري: هو كساء سُدَاهُ قطن أو كتان ولُحْمَتُهُ صوف (¬1). الخامس: معنى قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ألهتني آنفًا عن صلاتي"، أنها شغلت قلبي عن كمال الحضور في الصلاة وتدبر أذكارها وتلاوتها ومقاصدها من الانقياد والخضوع. نعم في الموطأ (¬2) "إني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتتني". ¬

_ (¬1) قال القاضي في مشارق الأنوار (1/ 40): "ضبطناه بالوجهين في الهمزة بالفتح والكسر، وكذلك رويناها عن شيوخنا في الموطأ، وبكسر الباء وتخفيف الياء آخرًا، وشدها معًا، وبالتاء باثنتين فوقها آخرًا على التأنيث "أنبجاية له" والذي كان في كتاب التميمي عن الجباني الفتح والتخفيف، وبفتح الباء وكسرها معًا ذكرها ثعلب، وضبطناه في مسلم بفتح الهمزة والباء، وفي البخاري رويت بالوجهين في الهمزة، وفي الموطأ عن ابن جعفر، عن ابن سهل، بكسر الهمزة والباء معًا، وكذا عند الطرابلسي، وعند ابن عتاب وابن حميد بفتح الهمزة وتشديد الباء، قال ثعلب: يقال ذلك في كل ما كتف والتف، وقال غيره: إذا كان الكساء ذا علمين فهو الخميصة فإن لم يكن له علم فهو الأنبجانية، وقال الداودي: هو كساء غليظ بين الكساء والعباء، وقال ابن قتيبة ... إلخ. انظر: النهاية (1/ 56)، والاستذكار (2/ 257)، وحاشية إحكام الأحكام (3/ 93). (¬2) الموطأ (1/ 97).

قال الباجي (¬1): ولم تقع الفتنة منه وكانت [صلاته] (¬2) كاملة. ومعنى قوله: "آنفًا" الساعة. السادس: بَعْثُهُ - عليه الصلاة والسلام - بالخميصة إلى أبي جهم وطَلَبُ أنبجانيته من باب الإِدلال عليه لعلمه بأنه [يْؤْثِرُ] (¬3) ذلك ويفرح به، ولا يلزم من بعثها إليه أن أبا جهم يصلِّي فيها. فإن حُلَّةَ عطارد بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر وقال: "لم أبعث بها إليك لتلبسها" (¬4). وفي لفظ "لم أَكْسُكَهَا لتلبسها"، على أن بعضهم نقل أن أبا جهم كان أعمى فالإِلهاء مفقود عنده، وبهذا يجاب أيضًا عما ¬

_ (¬1) المنتقى (1/ 180)، وأيضًا في شرح الزرقاني (1/ 202). أقول: ويؤيد ذلك رواية البخاري المعلقة (1/ 483) حيث لم يقع شيء من الإِلهاء أو يجمع بينهما: بحمل قوله "ألهتني" على قوله "كادت" فيكون إطلاق الأولى للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإِلهاء. (¬2) في ن ب (الصلاة). (¬3) في ن ب (ثور). (¬4) انظر: البخاري (886)، ومسلم (2068)، وأبو داود (4040)، والبغوي (3099)، وأحمد (2/ 20، 146)، وابن ماجه (3591)، والبيهقي (2/ 422) (3/ 375)، والنسائي (8/ 198)، والطيالسي (1937). وعطارد: هذا هو ابن حاجب بن زرارة بن عديس كان من جملة وفد تميم أصحاب الحجرات، وقد أسلم وحسن إسلامه، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه، وكان أبوه من رؤساء نبي تميم في الجاهلية، وقصته مع كسرى مشهورة في رهنه قوسه عوضًا عن جمع من العرب عند كسرى حتى ضرب المثل بقوس حاجب، وهذه الحلة ثوب ديباج كساه إياه كسرى.

أورده بعضهم من أنها إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته فكيف لا تلهي أبا جهم. السابع: في الحديث دليل على جواز لبس الثوب ذي العلم. الثامن: فيه أيضًا أن اشتغال المنكر يسيرًا في الصلاة غير قادح فيها وأنها صحيحة. وهذا إجماع الفقهاء. وحكى بعض السلف والزهاد ما لا يصح عن من يعتد به في الإِجماع. التاسع: فيه طلب الخشوع في الصلاة، والإِقبال عليها، ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذلك. ولهذا قال أصحابنا: يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده ولا يتجاوزه. العاشر: فيه المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعات وإلى الإِعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها. الحادي عشر: فيه منع النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهم موضع قدمه إذا مشى. الثاني عشر: فيه ما استنبطه الفقهاء منه وهو كراهة تزويق حيطان المساجد ومحاريبها بالأصباغ والنقوش وزخرفتها بالصنائع المستظرفة. فإن الحكم يعم بعموم علته. والعلة الاشتغال عن الصلاة. وزاد بعض المالكية: في هذا كراهة غرس الأشجار في المسجد. وقاله من الشافعية الصيمري وصاحب البيان: ونشره أصحاب مالك التزاويق والكتب في القبلة أيضًا ودخول الصبي

الذي لا يعقل الصلاة. وفي الموطأ (¬1) "أن أبا طلحة صلى في حديقته فنظر إلى نخلها فأعجبه ذلك فلم يدر كم صلى فتصدق بحديقته". [الثالث عشر] (¬2): فيه قبول الهدية من الأصحاب والإِرسال بها إليهم والطلب لها بمن يظن به السرور به والمسامحة. الرابع عشر: فيه سد الذرائع قاله القرطبي (¬3). الخامس عشر: جاء في الموطأ (¬4) في هذا الحديث أن الخميصة كانت شامية، فاستدل بذلك على صحة الصلاة فيما نسجه المشركون. قال الباجي (¬5): وذلك يحتمل وجهين: الأول: أن الصوف والشعر لا ينجس بالموت. والثاني: أن ذبائح أهل الكتاب حلال لنا وهم كانوا بالشام ¬

_ (¬1) قال الإِمام مالك في الموطأ (1/ 98): وحدثني عن عبد الله بن أبي بكر، أن أبا طلحة الأنصاري، كان يصلي في حائطه، فطار دبسيٌ، فطفق يتردد يلتمس مخرجًا، فأعجبه ذلك. فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى؟ فقال: لقد أصابتي في مالي هذا فتنة. فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة. وقال: يا رسول الله: هو صدقة لله فضعه حيث شئت. (¬2) في ن ب د زيادة (الرابع عشر). (¬3) كلام القرطبي في المفهم (2/ 973): "وفيه التحفظ من كل ما يشغل عن الصلاة النظر إليها". اهـ. (¬4) في الموطأ (1/ 97): خميصةً شاميةً. (¬5) المنتقى (1/ 180).

حينئذ. فيحمل ما ورد من جهنم، على الذكاة لما علم أن ذلك كان عملهم. السادس عشر: في الموطأ (¬1) أيضًا أن أبا جهم أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الخميصة. ففيه دليل كما قال الباجي (¬2) على أن للإِنسان أن يشتري ما أهدى لغيره من المهدي إليه وغيره (¬3) بخلاف ما تصدق به فإنه يكره أن يشتريه للنهي عنه. السابع عشر: احتج بعضهم بهذا الحديث على انعقاد البيع بالمعاطاة لانتفاء الصيغة منهما. الثامن عشر: استدل بعضهم به على هجر كل ما يصد عن الله كهجران أبي لبابة دار قومه التي أصحاب فيها الذنب (¬4) وارتحاله عليه الصلاة والسلام من الوادي الذي نام فيه عن الصلاة. واستنبط المحب الطبري في "أحكامه": منه أن النظر بالعين غير مكروه ما لم يكن معه التفات. وترجم عليه ذكر اللمح بالعين. ¬

_ (¬1) في الموطأ (1/ 97): أهدى أبو جهم بن حذيفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) المنتقى (1/ 180). (¬3) في ن ب زيادة (إليه). (¬4) تفسير الطبري (13/ 482)،وفيه: قال أبو لبابة إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن أنخلع من مالي ... إلخ. قال الطيبي -رحمه الله تعالى-: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرأ في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية -يعني فضلًا عمن دونها. اهـ، من فتح البارى (1/ 483)، والموطأ (1/ 14).

25 - باب الجمع بين الصلاتين بالسفر

25 - باب الجمع بين الصلاتين بالسفر 133/ 1/ 25 - ذكر فيه -رحمه الله- حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجمعُ بين صلاةِ الظهرِ والعصرِ، إذا كانَ على ظهرِ سيرٍ، ويجمعُ بين المغربِ والعشاءِ" (¬1). وهذا اللفظ المذكور هو لفظ البخاري دون مسلم كما نبه عليه الشيخ تقي الدين أيضًا، وأطلق المصنف إخراجه عنهما، نظرًا إلى أصل الحديث على عادة المحدثين (¬2)، فإن مسلمًا أخرجه بألفاظ نحو رواية البخاري فإذا أرادوا التحقيق فيه قالوا أخرجاه [بلفظه] (¬3) إن كان أو بمعناه إن كان. ثم اعلم. أن الفقهاء لم يختلفوا في جواز الجمع في الجملة، ¬

_ (¬1) البخاري تعليقًا (1107). انظر: تغليق التعليق (2/ 426)، ومسلم (705)، والبيهقي (3/ 164)، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر. (¬2) انظر: تصحيح العمدة للزركشي (98)، من مجلة الجامعة الإِسلامية عدد (75، 76)، تحقيق د. الزهراني. (¬3) في ن ب ساقطة.

لكنَّ أبا حنيفة -رحمه الله- يخصه بالجمع بعرفة ومزدلفة، ويقول: العلة في جوازه النسك لا السفر، والأكثرون لم يخصوه. ونقل القاضي عياض: كراهته عن الحسن وابن سيرين، ورُوي مثلُه عن مالك. قال (¬1): ورُوي عنه كراهته للرجال دون النساء. والحنفية يؤولون أحاديث الجحع بعذر السفر على أن المراد بها تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها (¬2). وجعل بعض الفقهاء الجمع المطلق نوعين: جمع مقارنة، وجمع مواصلة. ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (2/ 355). (¬2) وهذا يسمى الجمع الصوري هو أن يصلي الأولى منهما، وهي: الظهر والمغرب، في آخر وقتها، ثم يدخل وقت الأخرى منهما، فيصليهما، وهي: العصر والعشاء. انظر: رؤوس المسائل (177)، ومختصر الطحاوي (33، 34)، والقدوري (27)، والمبسوط (4/ 14/ 15)، والهداية (1/ 134). وقال الخطابي في معالم السنن (2/ 52) متعقبًا هذا: إن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكره لكان أعظم ضيقًا من الإِتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلًا عن العامة. قال ابن حجر في الفتح (2/ 580): ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: "أراد أن لا يحرج أمته"، أخرجه مسلم، وأيضًا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، ومما يرد على احتمال الجمع الصوري جمع التقديم في حديث أنس.

فجمع المقارنة: كون الشيئين في وقت واحد كالأكل والقيام مثلًا فإنهما يقعان في وقت واحد. وجمع المواصلة: أن يقع أحدهما عقب [الآخر] (¬1) وقصد [بذلك] (¬2) إبطال [تأويل] (¬3) [أصحاب أبي حنيفة (¬4) لما ذكرناه. لأن جمع المقارنة لا يمكن في الصلاتبن إذ لا يقعان في حالة واخدة وأبطل جمع المواصلة (¬5) أيضًا] (¬6) وقصد بذلك إبطال التأويل المذكور [إذ] (¬7) لم يتنزل على شيء من النوعين لكن الروايات ¬

_ (¬1) في ن ب (آخره). (¬2) زيادة من ن د. (¬3) في ن د (التأويل). (¬4) في ن ب زيادة (أحدهما عقب الآخر). (¬5) استدل أبو حنيفة -رحمه الله- على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، وقال: "إن فرضًا مؤقتًا"، فالمحافظة على الوقت في الصلاة بيقين، فلا يجوز تركه إلَّا بيقين، وهو: الموضوع الذي ورد به النص. انظر: رؤوس المسائل (177). أقول: وبحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فيما يرويه عنه البخاري (1775)، ومسلم (3059): "والذي لا إله غيره ما صلى رسول - صلى الله عليه وسلم - صلاة قط إلَّا في وقتها إلَّا صلاتين: جمع بين الظهر والعصر يوم عرفة وبين المغرب والعشاء يوم مزدلفة"، وليس في هذا حجة لأن عند ابن مسعود فقط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة والمزدلفة، رمن حفظ وشهد حجة على من لم يحفظ ويشهد. (¬6) في ن د ساقطة. (¬7) في ن ب (أي).

الصحيحة كحديث أنس (¬1) وابن عمر (¬2) وابن عباس (¬3) هذا يدل على جواز الجمع بعذر السفر ويُبْطل تأويلَهم ولولا ذلك لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع، لأن الأصل عدم جوازه، ووقوع إيقاع الصلاة في وقتها المحدود، لكنَّ هذا الحديثَ دَلَّ على جواز الجمع على ظهر سير في الظهر والعصر، وكذلك المغرب والعشاء، وهو رخصة، وجملة ما ذكروه من التأويل يقتضي الحصر، والزيادة في المشقة على المسافر، وقد صح الجمع أيضًا في حال [النزول] (¬4) ¬

_ (¬1) البخاري (1111، 1112) باب: يؤخر الظهر للعصر، وباب: إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس، ومسلم في الصلاة، باب: جواز الجمع بين الصلاتين، وأبو داود باب: الجمع بين الصلاتين (1172)، والنسائي (594) باب: الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين المغرب والعشاء، والبيهقي في الكبرى (3/ 161)، والصغرى (1/ 227). (¬2) البخاري (1106) باب: الجمع في السفر بن المغرب والعشاء، ومسلم، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، والنسائي (1/ 290)، والدارمي (1/ 295)، وأحمد (2/ 8)، والحميدي (616)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 161)، وابن الجارود (1/ 203)، والبيهقي في الكبرى (3/ 159)، والصغرى (1/ 226)، والموطأ (1/ 144). (¬3) انظر التعليق (1)، والحديث الآخر أنه قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا سفر". انظر: الموطأ (1/ 144)، ومسلم (705)، والشافعي في مسنده (1/ 118)، وأبو داود (1210)، والنسائي (1/ 290)، وأبو عوانة (2/ 353)، والبيهقي في السنن (3/ 166)، وصححه ابن خزيمة (972). (¬4) في ن ب (نزول).

فالعمل به دليل آخر على الجواز في غير سورة السير وقيام دليلهم يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، ولا يمكن معارضةُ دليلِ الوصفِ بالمفهوم من هذا الحديث لأن المنطوق أرجح. وقوله: "ويجمع بين المغرب والعشاء" ظاهره اعتبار الوصف فيهما، وهو كونه على ظهر سير، والإِجماعُ قائمٌ على امتناع الجمع بين الصبح وغيرها، وبين العصر والمغرب، كما هو قائم على الجواز في الظهر مع العصر بعرفة، وفي المغرب والعشاء بمزدلفة، ومن هنا ينشأ نظير القياسين في مسألة الجمع، فأصحاب أبي حنيفة يَقِيسُون الجمعَ المختلف على الجمع الممتنع إيقافًا يحتاجون إلى إلغاء الوصف الفارق بين محل النزاع ومحل الإِجماع، وهو الاشتراك الواقع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما مطلقًا أو حالة العذر، وغيرُهم يقيس الجوازَ في محل النزاع على الجواز في [موضع] (¬1) الإِجماع، ويحتاج إلى إلغاء الوصف الجامع وهو النسك. ثم اعلم أن جمع التقديم بعرفة، والتأخير بمزدلفة عندنا، بسبب السفر على الأصح، لا النسك (¬2) فلا يجوز للمكي والعرفي ¬

_ (¬1) زيادة عنه ن ب. (¬2) قال ابن القاسم في حاشية الروض (3/ 405) نقلًا عن شيخ الإِسلام: الجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه، وهو منقول بالتواتر، فلم يتنازعوا فيه، والصواب: أنه لم يجمع بعرفة ومزدلفة لمجرد السفر، بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة. اهـ. وكذا يستحب عند الحاجة، كما كان يصنع - صلى الله عليه وسلم - في سفره إذا جد به السير =

والمزدلفي، ويجمع الأفاقي (¬1). ¬

_ = كما فعل بمزدلفة، وفي غزوة تبوك، وقال أيضًا شيخ الإِسلام: وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن، عند الأئمة كلهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع في حجته إلَّا بعرفة ومزدلفة ولم يجمع بمنى، ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع في غزوة تبوك، إذ جد به السير، والذي جمع هناك يشرع أن يفعل نظيره. (¬1) قال شيخ الإِسلام: يصلي الإِمام ويصلي خلفه جميع الحجاج، أهل مكة وغيرهم قصرًا وجمعًا، كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب أهل المدينة وأحد الأقوال في مذهب الشافعي وغيره، ومن قال لا يجوز القصر إلَّا لمن كان منهم على مسافة القصر، فهو مخالف للسنَّة، وقال: ويصلى بعرفة ومزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة، وغير أهل مكة، وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة، ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتموا الصلاة فإنا قوم سفر، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ، وغلط غلطًا بينًا، ووهم وهمًا قبيحًا، وقال قولًا باطلًا، باتفاق أهل الحديث، ولكن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال ذلك في غزوة الفتح، لما صلى بهم بمكة، وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة، ولكن كان نازلًا خارج وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى مني وعرفة، خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلَّى بمنى أيام مني صلوا معه، ولم يقل لهم: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" ولم يحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - السفر بمسافة، ولا بزمان وفيه أوضح دليل على أن سفر القصر، لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيّام معلومة. اهـ، نقلًا من حاشية التونسي لابن قاسم (4/ 132).

تنبيه: قوله "إذا كان على ظهر سير" فيه دليل على جواز الجمع بمجرد السفر، وإن لم يَجِد به، ولا خاف فوات أمر. [قال القاضي: واختلف عن مالك على القول بالجمع، هل يجوز بمجرد السفر] (¬1)، أو حتى يَجِدَّ به السيرُ، أو حتى يخاف فوات أمر، قال: وباشتراط جد السير قاله الليث، والثوري، وباشتراط الضرر، قاله الأوزاعي، وبمجرد السفر، قاله الجمهور من [الخلف] (¬2). تنبيه: هذا الجمع يختص بالسفر الطويل وهو مرحلتان سير الأثقال على الأصح (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (خلف). (¬3) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (38/ 24): هذا مما اضطرب الناس فيه ثم ذكر الأقوال ومخرج كل قول، فقيل ثلاثة أيام وحجتهم قوله - عليه الصلاة والسلام -: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن"، وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلَّا ومعها ذو محرم"، وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "مسيرة يومين"، وثبت في الصحيح: "مسيرة يوم"، وفي السنن: "بريدًا"، فدل على أن ذلك كله سفر، وأذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك، وهو لا يقضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإِقامة، وأما الذين قالوا يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس، وما رُوي: "يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان" إنما هو من قول ابن عباس، ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل بلا شك عند أئمة أهل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحديث، وكيف يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة بالتحديد وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا، وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدًّا كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين، وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض وهذا أمر لا يعلمه إلَّا خاصة الناس. وقال (11/ 20): تحديد مسافة القصر بثلاثة أيام أو سنة عشر فرسخًا لما كان قولًا ضعيفًا كان طائفة من العلماء ترى القصر فيما دون ذلك. وقد أوضح شيخ الإِسلام تحديد السفر بقوله: مما بعد سفرًا في العرف أن يتزود له ويبرز في الصحراء ... إلخ كلامه. الفتاوى (15/ 24). انظر: مجموع كلامه في الفهرس للفتاوى (83، 84/ 37). عند جمهور العلماء ما عدا الأحناف: السفر الطويل مبيح للقصر والجمع المقدر بالزمن: يومان معتدلان أو رحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، وقدرت ما بين جدة ومكة، أو الطائف ومكة، أو من عسفان إلى مكة وتقدر بالمسافة ذهابًا بأربعة برد، أو ستة عشر فرسخًا، وهذه تساوي بتقدير اليوم حوالي تسعة وثمانين كيلو متر على وجه التقريب، ويقصِّر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة كالسفر بالطائرة والسيارة أو نحوها لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد. وعند الأحناف أن أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام السنة في البلاد المعتدلة، وتقدر بثلاث مراحل (96 كم). وقال ابن القيم: حيث قرر أن الجمع والقصر يكونان في مطلق السفر لا فرق بين طويله وقصيرة، وأنه لا يصح في التحديد شيء. اهـ. زاد المعاد (1/ 133)، وأعلام الموقعين (2/ 303). فائدة: البريد العربي: 4 فراسخ يساوي (22176) متر، فمسافة القصر حوالي (88 كم)، وعند الأحناف حوالي (96 كم).

وقيل: لا. وبه قال داود [وأهل الظاهر] (¬1). تنبيهات: أحدها: الجمع بالتقديم له شروط محل الخوض فيها كتب الفقه، وقد بسطتها في "شرح المنهاج"، و"التنبيه"، و"الحاوي"، وغيرها، وكذلك الجمع بالتأخير له شروط مختلف فيها مبسوطة في هذه الكتب فراجعها (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) شروط جمع التقديم: 1 - النية، أي عند الإِحرام بالأولى دون الثانية. 2 - الموالاة بينهما فلا يفرق. 3 - أن يكون العذر المبيح موجود عند افتتاحهما وسلام الثانية. وشروط جمع التأخير شرطان: 1 - النية، أي نية الجمع في وقت الأولى. 2 - استمرار العذر المبيح إلى دخول وقت الثانية. قال شيخ الإِسلام: لا يفتقر الجمع إلى نية عند جمهور أهل العلم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وعليه تدل نصوصه وأصوله، قال: وهو الذي تدل عليه سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه أيضًا كلام الشيخ -رحمه الله- في الموالاة، فإن قال إن كلام أحمد يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت، وإن لم يصل إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية إلى أن قال: والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية فإنه ليس في ذلك حد في الشرع. اهـ، من الفتاوي بتصرف (15، 16، 50، 51، 55، 104، 105/ 24)، (456، 457/ 21)، (231/ 25).

الثاني: اختلف العلماء في جواز الجمع بعذر المطر، فجوّزه الشافعي والجمهور في الصلوات التي يجوز الجمع فيها بشروط ذكرتها كتب الفروع، وخصه مالك بالمغرب والعشاء فقط (¬1). الثالث: اختلفوا أيضًا في الجمع بعذر المرض، فمنعه الشافعي والأكثرون، وجوّزه عطاء، والحسن، وأحمد، والقاضي حسين، والخطابي، والمتولي، والروياني، وهو قوي لأن المشقة في المرض [أشد] (¬2) من المطر (¬3). ¬

_ (¬1) سئل شيخ الإِسلام في الفتاوى (29/ 24) عن صلاة الجمع في المطر بين العشائين، هل يجوز من البرد الشديد؟ أو الريح الشديدة؟ أم لا يجوز إلَّا من المطر خاصة؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين يجوز الجمع بين العشائين للمطر، والريح الشديدة الباردة والوحل الشديد، وهذا أصح قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك، وغيرهما، والله أعلم. وقال (30/ 24): وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم بل ترك لجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنَّة، إذ السنَّة: أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد حماعة ... إلخ كلامه. وقال (452/ 21): وأيضًا فإنه جمع بالمدينة للمطر، وهو نفسه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتضرر بالمطر، بل جمع لتحصيل الصلاة في الجماعة، والجمع لتحصيل خير من التفريق والانفراد. انظر: حاشية الروض (2/ 402). (¬2) في ن ب (أشق). (¬3) قال الشيخ في الفتاوى (21/ 433): أنه يجوز الجمع بين الصلاتين إذا كان عليه حرج في التفريق، فيجمع بينهما المريض، وهو مذهب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي ... إلخ، وانظر: المبحث في =

وقال الترمذي (¬1) في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلَّا حديث ابن عباس في الجمع في المدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرَّة الرابعة. قلت: أمَّا الحديث الأول فقد عمل به ابن عباس، وقال لمن استعجله في صلاة المغرب، وقد بدرت النجوم: أتعلمني بالسنَّة لا أم لك، رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالته، فهذا يدل على أنه معمول به غير منسوخ (¬2). ¬

_ = (292/ 22 - 14/ 24). وقال ابن قاسم في الحاشية (400/ 2): وقال النووي وغيره: يجوز الجمع من أجل المرض وفاقًا لمالك وقال: يستدل له بحديث ابن عباس: من غير خوف ولا مطر، وقال أيضًا: قال شيخ الإِسلام، يجمع للمرض كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالجمع في حديثين، وانظر: التمهيد لابن عبد البر (12/ 211، 212، 214). (¬1) السنن (5/ 736). (¬2) فبدأ بذكر الروايات للحديث قال الترمذي قد روي من غير وجه عن ابن عباس فرواية جابر بن زيد، وهو أبو الشعثاء، رواها البخاري ومسلم وغيرهما، وأما رواية سعيد بن جبير فإنها هنا في الترمذي وفي صحيح مسلم وغيرهما، وأما رواية عبد الله بن شقيق -المشار إليها هنا- فإنها عند مسلم (705)، قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني، الصلاة الصلاة! فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنَّة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتت أبا هريرة فسألته؟ فصدق مقالته. اختلاف الألفاظ: قد جاء في رواية الموطأ (1/ 143): "في غير خوف ولا سفر". قال مالك: أرى ذلك كان في مطر، وورد أيضًا: "من غير خوف ولا مطر" و "غير خوف ولا سفر"، وانظر: تخريج الروايات والكلام عليها مستوفي في الفتاوى (72، 82/ 24) وفي مواضع من الفتاوى. تخريج الحديث مختصرًا ومطولًا: البخاري (543، 562، 1173)، ومسلم (705)، والطاليسي (1/ 127)، وأحمد (1/ 285، 366)، والنسائي (1/ 290)، والترمذي (187)، وأبو داود (1210)، والبيهقي (3/ 166، 167)، وأبو عوانة (3/ 354)، والحميدي (470)، والطحاوي في المعاني (1/ 160)، وعبد الرزاق (4436)، وأبو يعلى (2401، 2396، 2531، 2678، 2751). الاختلاف في معنى الحديث وتأويل العلماء له: قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم (5/ 218): وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو حديث منسوخ، دل الإِجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال: منهم من تأوله على أنه جمع بعذر المطر، وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين؛ وهو ضعيف بالرواية الأخرى: من غير خوف ولا مطر، ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف وبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وهذا أيضًا باطل، =

وأما الحديث الثاني: فحكى ابن حزم (¬1) [عن] (¬2) عبد الله بن عمرو بن العاص أنه عمل به. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أنه لا يقتل إلَّا شاذًا من الناس لا نعلمه خلافًا (¬3). ¬

_ = لأنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر، لا احتمال فيه في المغرب والعشاء، ومنهم من تأوله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه، فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها، فصارت صلاته صورة جمع وهذا أيضًا ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب، واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له، وعدم إنكاره صريح في رد هذا التأويل ... إلخ كلامه. للاستزادة والاطلاع على ما قيل في هذا، انظر: فتح الباري (2/ 23، 24)، ومعالم السنن (2/ 54)، ونيل الأوطار (3/ 360، 268)، وسنن الترمذي تعليق أحمد شاكر (1/ 357، 358)، والفتاوى الفهارس (36/ 423) (37/ 367، 368). قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في تعليقه على فتح الباري (2/ 24): هذا الجمع ضعيف، والصواب حمل الحديث المذكور على أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك، ويدل على ذلك قول ابن عباس لما سئل عن علة هذا الجمع قال: "لئلا يحرج أمته" وهو جواب عظيم سديد شاف، والله أعلم. (¬1) المحلى (3/ 148)، (11/ 130، 148، 168). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى: القتل عند أكثر العلماء منسوخ، وقيل =

الرابع: اختلف في الجمع للحاجة في الحضر من غير اتخاذه عادة فجوّزه ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك (¬1). والقفال الشاشي (¬2) الكبير من الشافعية، وحكاه الخطابي (¬3) عنه عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، وهو ظاهر قول ابن عباس -وقد قيل له: لم جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من غير خوف ولا سفر؟ -: أراد أن لا يحرج أمته. ولم يعلله بمرض ولا غيره. وقولي: "من غير اتخاذه عادة" كذا قيده النووي في "شرح [مسلم] " (¬4) وأشار به إلى ما يفعله طائفة من المبتدعة ببعض البلدان من غير حاجة، فهو خرق إجماع منهم (¬5). ¬

_ = محكم، وقيل هو تعزير. اهـ. انظر: الفتاوى الفهارس (1/ 450 - 367/ 2، 368)، وسيأتي زيادة بيان له إن شاء الله في باب حد شارب الخمر. (¬1) انظر: الاستذكار (6/ 33). (¬2) سبقت ترجمته. (¬3) انظر: معالم السنن (2/ 55). (¬4) زيادة من ن ب. انظر: شرح مسلم للنووي (5/ 219). (¬5) جاء عن عمر - رضي الله عنه -: أن من الكبائر الجمع لغير عذر بين الصلاتين، وذهب الجمهور إلى أن الجمع لغير عذر لا يجوز، وحُكي أنه إجماع. اهـ، من حاشيته الروض (2/ 401)، وانظر الفتاوى: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، والفهارس (37/ 85).

26 - باب قصر الصلاة في السفر

26 - باب قصر الصلاة في السفر القصر: رد الرباعية إلى ركعتين. ويقال: قَصَرَ الصلاةَ مخففًا وقصّرها مثقلًا. وحكى الواحدي في وسيطه: أقصرِها. فهذه ثلاث لغات، وبالتخفيف جاء القرآن، قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬1). والمصدر منها: الْقَصْرُ، والتقْصِيرُ، والقياس من الثالثة: الإِقصار. واعلم: أن الصلاة كانت فرضيتها ركعتين ركعتين [مدة] (¬2) شهر من قدومه - عليه الصلاة والسلام - المدينة، وكانوا يتنفَّلُون فرآهم - عليه الصلاة والسلام - فقال: "يا أيها الناس اقبلوا فريضة الله فأقرت صلاة المسافر وزيد في صلاة المقيم" لاثنتي عشرة ليلة [في] (¬3) ربيع الآخر بعد قدومه، قاله ابن جرير، قال: وزعم الواحدي: أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 101. (¬2) في الأصل (من)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في ن ب (من شهر).

وقال الماوردي: كان ذلك في السنة الثانية. وفي صحيح ابن حبان (¬1) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين، فلما أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار"، وفي مسلم (¬2) عن عائشة - رضي الله عنها -: " فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين" وفيه مخالفة لفعلها، فإنها كانت تتم في السفر [ومخالف] (¬3) لما قاله غيرها من الصحابة كعمر (¬4) وابن عباس وجبير ابن مطعم فانهم قالوا: "إن الصلاة فرضت في الحضر أربعًا: وفي السفر ركعتين" كما رواه مسلم (¬5) عن ابن عباس ويخالفه أيضًا ظاهر ¬

_ (¬1) هو جزء من الحديث الذي سيأتي، وقد أخرجه البخاري (350)، ومسلم (685). انظر: فتح الباري (1/ 464). (¬2) البخاري (350، 1090، 3935)، ومسلم (685)، والنسائي (1/ 225، 226)، وأبو داود، باب: صلاة المسافرين (1155)، وأحمد (6/ 272)، والدارمي (1/ 355)، والموطأ (1/ 146). (¬3) في ن ب: مخالفه. (¬4) ولفظه "قال: صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة السجدتين ركعتان، وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -". ورواه النسائي (3/ 111، 116، 183)، وابن ماجه (1063، 1064)، والتمهيد (16/ 296) والاستذكار (6/ 63). (¬5) مسلم (687)، وأبو داود (1247)، والنسائي (3/ 168، 169)، وأحمد (1/ 36، 243، 254)، وابن خزيمة (943)، وابن ماجه (1068)، والبيهقي (3/ 135)، وأبو يعلى (2346)، وأبو عوانة (2/ 335).

الكتاب في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬1)، مع قوله - عليه الصلاة والسلام -: وقد سئل عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (¬2)، وقد رام بعض المتأخرين الجمع بين حديث عائشة وابن عباس، فحمل الأول على أول الأمر، والثاني على الذي استقر عليه الفرضان وهو تحكم كما قاله القرطبي (¬3)، مع أنه بقي عليه العذر عن مخالفتها هي وعن معارضة ظاهر الكتاب، قال: ثم يقول إنه لو كان الأمر على ما ذكرته عائشة لاستحال عادة أن تنفرد بنقله دون غيرها، فإنه حكم عام ولم يسمع ذلك قط من غيرها من الصحابة، فلا معول عليه (¬4). قلت: وحكى البيهقي (¬5) عن الحسن البصري: إن أول ما فرضت فرضت أربعًا، ومنهم من أوّل قولها "فزيد في صلاة الحضر" أي في عددها وعدد ركعاتها. وقولها: "أولًا فرضت ركعتين" أي قبل الإِسراء، لأنها كانت ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 101. (¬2) مسلم (686)، وأبو داود (1199، 1200)، والترمذي (3037)، والنسائي (1/ 226) (3/ 116، 3/ 168)، وابن ماجه (1068)، والدارمي (1/ 354)، والطبري (5/ 243)، وأبو يعلى (181)، وأحمد (1/ 237، 243، 254)، والسنن الكبرى (3/ 141)، والصغرى له (1/ 221)، وابن خزيمة (1346). (¬3) المفهم (3/ 1198). (¬4) انظر: فتح الباري (1/ 464)، وانظر: الاستذكار (6/ 67). (¬5) السنن الكبرى (1/ 362).

كذلك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وهذا قول ابن عباس وطائفة، ومنهم من قال: لا يصح فرض الصلاة قبل الإِسراء وإنما [كان] (¬1) ليلة الإِسراء (¬2)، ثم زيد بعد الهجرة ¬

_ (¬1) في ن ب (كانت). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/ 465): ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإِسراء صلاة مفروضة إلَّا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وذكر الشافعي عن بعض أهل العلم أن صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، فصار الفرض قيام بعض الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس، واستنكر محمد بن نصر المروزي ذلك وقال: الآية تدل على أن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، إنما نزل بالمدينة لقوله تعالى فيها {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا}، والقتال إنما وقع بالمدينة لا بمكة، والإِسراء كان بمكة قبل ذلك. اهـ. قال: وما استدل به غير واضح، لأن قوله تعالى: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ} ظاهر في الاستقبال، فكأنه سبحانه وتعالى امتن عليهم بتعجيل التخفيف قبل وجود المشقة التي علم أنها سيقع لهم، والله أعلم. وقال ابن سيد الناس في عيون الأثر (1/ 178): عن مقاتل بن سليمان: "فرض الله أول الإِسلام ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ثم فرض الخمس ليلة المعراج"، ثم نقل أيضًا (1/ 252) عن أبي إسحاق الحربي: "أول ما فُرضت الصلاة بمكة فُرضت ركعتين أول النهار وركعتين آخره، ثم ساق بإسناده إلى عائشة فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين ... إلخ. حكى ذلك أبو عمر: قال: أبو عمر بن عبد البر: وليس في حديث عائشة دليل على صحة ما ذهب إليه الحربي، ولا يوجد هذا في أثر صحيح، بل فيه دليل على أن الصلاة التي فرضت ركعتين ركعتين =

بسنة (¬1)، ويؤيده رواية ابن حبان السالفة. فائدة صوفية: قال ابن الجوزي: للإنسان ستة أسفار لا بدَّ له من قطعها: سفره من سلالة الطين إلى الصلب، [ثم منه إلى الرحم] (¬2)، ثم منه إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الموقف، ثم إلى منزل الثواب أو العذاب، فإذا علم الإِنسان حكم سفر الدنيا فينبغي أن ينظر في المهم وهو ما بقي من أسفاره. ذكر المصنف رحمه الله: في الباب حديثًا واحدًا وهو حديث: ¬

_ = هي الصلوات الخمس، لأن الإِشارة بالألف واللام في الصلاة إشارة إلى معهود. اهـ. قلت: وهذا منه تضعيف إلى ما نقله عن مقاتل وأبي إسحاق الحربي. (¬1) قاله ابن حجر في الفتح (7/ 269): وذكر ابن جرير عن الواقدي أن الزيادة في صلاة الحضر كانت بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر واحد، قال: وزعم أنه لا خلاف بين أهل الحجاز في ذلك. (¬2) زيادة من ن ب د.

134/ 1/ 26 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صحبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كذلك" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا اللفظ هو رواية البخاري، ولفظ رواية مسلم أطول وأبسط وأزيد، نبَّه عليه الشيخ تقي الدين (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (1101، 1102)، ومسلم (689)، وأبو داود في الصلاة (1223)، والنسائي (3/ 123)، وابن ماجه (1071)، والبيهقي (3/ 158)، والبغوي (4/ 184)، وأبو يعلى (5557). (¬2) قال الزركشي في تصحيح العمدة (99) مجلة الجامعة الإِسلامية: قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين: روى مسلم في صحيحه عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى الظهر ركعتين ثم أقبل، وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناسًا قيامًا فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا لأتممت صلاتي، يا ابن أخي صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعين حتى قبضه الله، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، قال عبد الحق: أخرجه البخاري من قوله "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " إلى آخره، والصحيح أن عثمان أتم في آخر أمره، =

الثاني: مذهب ابن عمر - رضي الله عنهما - عدم التنفل [الراتب] (¬1) في السفر حتى قال: "لو كنت متنفلًا لأتممت"، فقوله: "فكان لا يزيد في السفر على ركعتين" يَحْتَمِلُ أن يكون ذكره دليلًا على عدم التنفل وقصر الصلاة فلا يزيد على ركعتين في الرباعية، ولا يتنفل قبلها ولا بعدها، ويَحْتَمِلُ أنه أراد عدم التنفل فقط، ويكون ذِكْرُ قصرِ الصلاة لازمًا لذلك، وقد وردت أحاديث يدل سياقها على أنه أراد ذلك، والظاهرُ الذي يُفْهَمُ منه أنه أراد عدمَ زيادة في الفرض على ركعتين، وترك الإِتمام حيث أتم جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - الصلاة في السفر، فذكر ذلك دليلًا عليهم، وذكر [أبا] (¬2) بكر، وعمر، وعثمان في ذلك مع أن الحجة قائمة بفعل الشارع ليبين أن ذلك كان معمولًا به عند الأئمة لم [يتطرق إليه] (¬3) نسخ ولا معارضة راجحة، وقد فعل ذلك جماعةٌ من الأئمة في استدلالهم كمالك وغيره، يبدأون بالحديث، ثم بعمل الصحابة، فمن بعدهم. الثالث: القصر في السفر الطويل والإِتمام جائزان إجماعًا. واختلف في الأفضل منهما: ¬

_ = على ما يأتي بعد -إن شاء الله تعالى-. وانظر أيضًا حاشية الأحكام (3/ 102). (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في الأصل (أبي)، وكذا ن د، والتصحيح من ن ب. (¬3) في ن د (لم ينظر من إليه).

فذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والأكثرون كما نقله القاضي والقرطبي (¬1) والنووي في "شرح مسلم" (¬2) والبغوي (¬3) أيضًا: إلى أن القصر أفضل (¬4). وللشافعي قول: إن الإِتمام أفضل قياسًا على قوله: "إن الصوم في السفر أفضل" ولأصحابه وجه إنهما سواء. وقال أبو حنيفة وكثيرون: القصر واجب، ولا يجوز له الإِتمام، وهو رواية أشهب عن مالك (¬5). ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1199). (¬2) شرح مسلم (5/ 194). (¬3) في شرح السنة (4/ 163). (¬4) قال شيخ الإِسلام وغيره: فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ في السفر إلَّا ركعتين، ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعًا قط، واختار أنه سنة، وأن الإِتمام مكروه، وذكر أن القصر أفضل عند عامة أهل العلم، ليس فيه إلَّا خلاف شاذ، وأن أكثرهم يكرهون التربيع للمسافر، وقال: يكره إتمام الصلاة في السفر، ونقل عن أحمد أنه توقف في الإِجزاء، ولم يثبت أن أحد من الصحابة كان يتم الصلاة في السفر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن حديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به حجة. وقال أيضًا: أقوال الناس في التربيع في السفر، أعدلها أنه مكروه وأن القصر هو السنة وهو أفضل. ومأخذ من لم يكره للمسافر أن يصلي أربعًا أنهم ظنوا أن صلاة المسافر ركعتين أو أربعًا بمنزلة الفطر والصوم في رمضان. اهـ. انظر: الفهارس (37/ 83)، وحاشية الروض (2/ 376، 382)، وفهارس التمهيد (25/ 33). (¬5) قد ترددت أقوال الفقهاء المعتمدة بين آراء ثلاثة من ناحية الرخصة في =

وقال القاضي في "إكماله": إنه مشهور مذهب مالك وأكثر أصحابه. وخالف القرطبي فقال: مشهور مذهبه وَجُلُّ [أصحابه] (¬1) [هو الأول] (¬2). احتج من قال بالفرضية بهذا الحديث فإن أكثر فعله - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه كان القصر، والحجة عليهم ما ثبت في الصحيح (¬3): أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم ¬

_ = القصر والعزيمة، فقال الحنفية: القصر واجب -عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان لا تجوز له الزيادة عليهما عمدًا، ويجب سجود السهو إن كان سهوًا، فإن أتم الرباعية وصلى اربعًا، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئًا، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد بطلت صلاته لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها. ودليلهم: حديث عائشة: "فرضت الصلاة ركعتين ... " إلخ، وحديث ابن عباس "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ... " إلخ. وقال المالكية: القصر سنة مؤكدة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة كما في حديث ابن عمر. وقالت الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإِتمام مطلقًا عند الحنابلة، ودليلهم ما تقدم. (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) غير موجودة في المفهم (3/ 1199). (¬3) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (24/ 154): على هذا الحديث هو كذب، =

القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يَعِيبُ بعضهم على بعض، وبأن عثمان كان أمير المؤمنين كان يتم، وكذلك عائشة، فلو كان القصر واجبًا لما أقر الشارع مَنْ أتم من الصحابة معه في السفر عليه، وهو ظاهر قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}، فهذا يقتضي رفع الجناح والإِباحة. وأما حديث: "فرضت الصلاة ركعتين"، أي لمن أراد الاقتصار، عليها فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار، وثبتت دلائل جواز الإِتمام فتعين المصير إليه جمعًا بين الأدلة، وفِعْلُ عثمان (¬1) وعائشة أَخْذٌ بأحد الجائزين، وترك للأفضل، لمعانٍ اقتضت ذلك في اجتهادهم، لا أنهم تركوا الواجب، وما أقر الشارع الصحابة في حياته عليه، والحجة على أن القصر أفضل مواظبته عليه، - عليه الصلاة والسلام - في السفر. ¬

_ = وزيد العمى ممن اتفق العلماء على أنه متروك، والثابت عن أنس إنما هو في الصوم، ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يصلون فرادى، بل كانوا يصلون بصلاته، بخلاف الصوم، فإن الإِنسان قد يصوم وقد يفطر، فهذا الحديث من الكذب، وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه. ورآه أهل العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له، وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها. انظر: البيهقي (3/ 145). (¬1) انظر: الأجوبة التي قيلت في سبب إتمام عثمان الصلاة بمنى. انظر: زاد المعاد (1/ 468، 499)، والفتح (2/ 570)، والاستذكار (6/ 71).

وقال بعضهم: بوجوبه فيه كما سلف، بخلاف الصوم فإنه - عليه الصلاة والسلام - لم يواظب عليه في السفر، ولم يقل أحد بوجوبه فيه، ولأنه إذا أفطر فيه خرج به عن وقته، ووجب قضاؤه. والقصر لا يخرج الصلاة عن وقتها، بل يأتي بالصلاة في وقتها المشروع إما منفردة أو جمعًا. تنبيه: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية المراد بالقصر فيها قصر العدد كما جزمنا به. وقيل: قصر الصفة أي عند اشتداد الخوف. الرابع: قال الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلَّا في مسيرة مرحلتين قاصدتين وهي ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية. والميل: ستة آلاف ذراع. والذراع: أربعة وعشرون أصبعًا [معترضة معتدلة] (¬1). والأصبع: ست شعيرات معترضات معتدلات (¬2). وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل. ورُوي عن عثمان، وابن مسعود، وحذيفة. وقال الحسن وابن شهاب: يقصر في مسيرة يومين. ¬

_ (¬1) في ن د (معترضات معتدلات). (¬2) انظر التعليق ت (1) ص (76).

وقال (¬1) داود وأهل الظاهر: يجوز في القصر أيضًا حتى في ثلاثة أميال. الخامس: مذهب الأئمة الأربعة والجمهور (¬2): أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشَرَطَ بعض السلف كونه سفر خوف. وبعضهم كونه سفر حج، أو عمرة، أو غزو، وهو قول داود الظاهري. ورُوي ذلك عن ابن مسعود. ورُوي عن أحمد: أنه لا يقصر إلَّا في حج أو عمرة. وقال عطاء: لا يقصر إلَّا في سبيل من سبل الله. وشرط بعضهم كون السفر طاعة، وجوزه أبو حنيفة والثوري في سفر المعصية، ومنعه الأئمة الثلاثة والأكثرون. ورُوي عن مالك رواية شاذة، كما قال القرطبي (¬3) كمذهب أبي حنيفة. قال أصحابنا: والعاصي بسفره لا يترخص بخلاف العاصي فيه. السادس: لا تجوز صلاة الفرض في حال من الأحوال ركعة ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (6/ 90)، وحجة قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} فأخذ بظاهر الآية ولم يحد مسافة معينة، واحتج أيضًا بحديث ضعيف مروي عن أبي سعيد الخدري ولفظه: "كان إذا سافر فرسخًا ثم نزل قصر الصلاة". (¬2) انظر: الاستذكار للاطلاع على ما ذكر من هذا الاختلاف (6/ 53). (¬3) المفهم (3/ 1202).

واحدة، وجوّزه في الخوف جابر، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك، وإسحاق بن راهويه، وقتادة، والحكم، وحماد، وحكاه العبادي (¬1) في "طبقاته": عن محمد بن نصر المروزي من أصحابنا فقال: يجوز قصر الصبح في الخوف إلى ركعة كمذهب ابن عباس، وفي صحيح مسلم عنه (¬2): "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة". وخالف ذلك الشافعي، ومالك، والجمهور، وقالوا: صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات. وتأولوا حديث ابن عباس هذا: على أن المراد ركعة أخرى يأتي بها منفردًا كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاته - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه في الخوف جمعًا بين الأدلة، واعلم أن المغرب أيضًا لا تقصر بالإِجماع لعدم تنصفها إذ ليس في الشريعة نصف ركعة. فإن قلت: إذا تعذر التنصيف فليكن ركعتين كما قيل في طلاق العبد، وحيض الأَمَةَ، وفيما إذا طلق نصف طلقة. ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الهروي أبو عاصم العبادي (375، 458) إمامًا جليلًا، حافظًا للمذهب. السبكي (4/ 104)، الإِسنوي (2/ 190)، ابن هداية (161 - 162). (¬2) مسلم (687)، وأبو داود (1247)، والنسائي في مواضع من كتاب الصلاة (1/ 226) (3/ 168)، ابن ماجه (1068).

وأجيب: بأنه لو فعل ذلك لذهب مقصود الشرع من كون عدد ركعات الفرض في اليوم والليلة وترًا، وللشرع قصد في الوتر، ولذلك شرع الوتر في آخر نافلة الليل، ولذلك لا تعاد المغرب على رأي، والتحليل الذي قدمناه عن الشارع في أول الباب كاف في ذلك. تنبيه: ينعطف على ما مضى من الغرائب ما ذهب إليه بعض العلماء أنه إذا [عزم] (¬1) ولم يضرب في الأرض ولم يخرج من منزله يقصر، رُوي ذلك عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلي [بهم] (¬2) ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد وغير ذلك من أصحاب عبد الله، نقله صاحب "البيان والتقريب" من المالكية. قال: وحُكي عن عطاء (¬3) أنه قال: إذا خرج الرجل حاجًّا فلم يخرج من بيوت القرية حتى قضيت الصلاة، فإن شاء قصر، وإن شاء أوفى قياسًا على المسافر إذا نوى الإِقامة يتم، فكذا يقصر هذا، وهو ضعيف. والفرق: أن الأصل الإِقامة، بخلاف السفر فإنه طارئ. وحكي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر في يوم خروجه حتى يدخل الليل (¬4)، وعن ............................ ¬

_ (¬1) في ن ب (زعم). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) انظر: مصنف عبد الرزاق (2/ 531)، الاستذكار (6/ 79). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 570): على قوله: "صليت الظهر مع =

مالك (¬1) رواية ضعيفة أنه لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال. وهذه الروايات كلها منابذة للسنَّة وإجماع السلف والخلف. تنبيه ثان: ينعطف على ما مضى من كثرة النوافل الراتبة في السفر احتج بأنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى. وجوابه أن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها بخلاف النافلة. السابع: يؤخذ من ذكر ابن عمر عُثْمَانَ بعد الخليفتين - رضي الله عنهم - تأخيره عنهما في الفضيلة، وهو إجماع، نعم وقع الخلاف بينه وبين علي والجمهور على تقديم عثمان عليه. الثامن: ظاهر هذا الحديث: أن عثمان لم يزل يقصر في مدة خلافته، ويؤيده رواية مسلم: "فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله"، لكن يعارضه رواية ابن عمر الأخرى (¬2): "ومع عثمان صدرًا من خلافته ثم أتمها"، وفي رواية: "ثمان سنين أو ست سنين". قال القاضي عياض: بعد سبع سنين من خلافته. ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعًا وبذي الحليفة ركعتين"، قال بعد كلام سبق: استدل به على أن من أراد السفر لا يقصر حتى يبرز من البلد، خلافًا لمن قال من السلف: يقصر ولو في بيته، وفيه حجة على مجاهد في قوله: لا يقصر حتى يدخل الليل. (¬1) انظر: الاستذكار (6/ 79). (¬2) مسلم (694)، والبخاري (1082)، والنسائي (3/ 121).

وقال النووي (¬1): المشهور بعد ست، فلعل ابن عمر أراد أنه قصر في سائر أسفاره في غير مني وأتم في مني، وقد ورد مصرحًا أن إتمامه كان في مني، وقد تقدم وجه إتمامه، وأنه أخذ بأحد الجائزين. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (5/ 199).

27 - باب الجمعة

27 - باب الجمعة هي -بضم الميم وفتحها وإسكانها (¬1) - حكاهن الواحدي. وقرىء بها في الشواذ كما قاله الزمخشري (¬2). وعن معاني الزجاج أنه قرئ بكسرها أيضًا، والمشهور الضم، وبه قرئ في السبعة، والإِسكان تخفيف [منه] (¬3)، ووجهوا الفتح [وهي] (¬4) لغة بني عقيل بأن الجمعة تجمع الناس، كما يقال: هُزَأَة وضُحَكَة وضحكة [للكثير] (¬5) من ذلك. وجمع الجمعة (¬6): جُمُعات، وجُمَع. ¬

_ (¬1) قال ابن الأنباري -رحمنا الله وإياه- في البيان (2/ 438) فالقراءة بالضم على الأصل، وبالسكون على التخفيف، والفتح على نسبة الفعل إليها كأنها تجمع الناس إليها. اهـ. (¬2) انظر: الكشاف (4/ 97)، ومعاني القرآن للفراء (3/ 156)، والقراءات الشاذة وتوجيهها، لعبد الفتاح القاضي. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (وهو). (¬5) في ن ب د (للمكثر). (¬6) مسلم (854) في الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة.

سميت بذلك: لاجتماع الناس لها. وقيل: لما جمع فيها من الخير (¬1). وكان يوم الجمعة: يسمى في الجاهلية العروبة وقد جمع بعضهم أسماء الأسبوع في بيتين فقال (¬2): أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو [بأهون] (¬3) أو جبار أو الثاني دبار فإن افته ... فمؤنس أو عروبة أو شبار (¬4) قال السهيلي (¬5): وأول من سمى العروبة الجمعة كعب بن ¬

_ (¬1) أخرج أحمد في المسند (5/ 439)، والفتح الرباني (6/ 45) من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سلمان هل تدري ما يوم الجمعة؟ " قلت: هو الذي جمع فيه أبوك أو أبوكم، قال: لا، ولكن ... إلخ مثل ما سيأتي. ومثله عند الطبراني (6/ 237)، وذكره في المجمع (2/ 174)، ذكر ابن خزيمة في صحيحه (3/ 117)، باب: ذكر العلة التي أحسب لها سميت الجمعة جمعة بعد سياق الإِسناد عن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا سلمان، ما يوم الجمعة؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "يا سلمان ما يوم الجمعة؟ " قال: قلت: "الله ورسوله أعلم"، قال: "يا سلمان يوم الجمعة؟ به جمع أبوك -أو أبوكم- أن أحدثك عن يوم الجمعة، ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمرتم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة فيقعد حتى يفضي صلاته إلَّا كان كفارة لما قبله من الجمعة". قال الألباني: إسناده حسن. (¬2) في حاشية الأصل ون د عزاه الفاكهي لبعض الشعراء وبعضهم لصاحب الذخيرة. (¬3) في ن ب (أهون). (¬4) في الأزمنة وتلبية الجاهلية "لقطرب" (36) شيار. (¬5) الروض الأنف (1/ 8)، (2/ 196).

لؤي (¬1) فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم، ويذكرهم بمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، والإيمان به. أحدها: في "صحيح مسلم" (¬2) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمُعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرى منها، ولا تقوم الساعة إلَّا في يوم الجمعة". وزاد مالك في "الموطأ" وأبو داود، والنسائي (¬3) بأسانيد على شرط الشيخين: " [وفيه] (¬4) تيب عليه، وفيه مات، وما من دابة إلَّا وهي مُصِيخةٌ (¬5) يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلَّا الجن والإنس". ¬

_ (¬1) انظر: الكشاف للزمخشري (4/ 97)، والوسائل في مسامرة الأوائل للسيوطي (19). (¬2) أصله في مسلم، وأخرجه مالك في الموطأ، باب: ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة (1/ 108)، وأبو داود (1005)، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، والترمذي (488)، والنسائي (3/ 89، 90)، وأحمد (2/ 401). (¬3) النسائي (3/ 113، 114)، باب: ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الدعاء، والترمذي (491)، باب: ما جاء في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة، وأحمد (2/ 401، 418، 404، 540)، وأبو يعلى (5925)، والبغوي (1050)، وصححه الحاكم (1/ 278، 279). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) أي مستمعة، يقال: أصاخ، وأوساخ.

قال القاضي عياض (¬1): الظاهر أن هذه المذكورات المعدودة ليست لذكر فضيلته، لأن إخراج آدم من الجنة وقيام الساعة لا يعد فضيلةً، وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام، وما سيقع، ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحة لنيل رحمة الله [ودفع] (¬2) نقمته. وقال ابن العربي في "الأحوذي" (¬3): الجميع من الفضائل وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية وهذا النسل العظيم ووجود الرسل والأنبياء والصالحين، ولم يخرج منها طردًا بل لقضاء أوطار، ثم يعود إليها، وأما قيام الساعة فسبب تعجيل خير الأنبياء والصديقين والأولياء وغيرهم، وإظهار كرامتهم وشرفهم. وفي "صحيح الحاكم" (¬4) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "سيد الأيام يوم الجمعة" وصححه. ورُوي في حديث آخر: "الجمعة حج الفقراء وعيد ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 12). (¬2) في الأصل (وكدفع)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) عارضة الأحوذي (2/ 275). (¬4) الحاكم (1/ 277)، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة (3/ 115)، وذكره الهيثمي في المجمع من رواية سعد ابن عبادة (2/ 168)، وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي لبابة بن عبد المنذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن يوم الجمعة سيد الأيام"، وأحمد (3/ 4340)، وابن ماجه (1/ 195) قال في الزوائد: إسناده حسن، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3/ 265)، وانظر: زاد المعاد (1/ 388).

المساكين" (¬1). ورُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "أتيت بمرءاة فيها نكتة سوداء" وفي رواية أخرى: "فيها نكتة بيضاء فقلت يا جبريل ما هذه المرءاة؟ قال: هذه يوم الجمعة، قلت: ما هذه النكتة؟ قال: هذه الساعة التي [في] (¬2) يوم الجمعة" (¬3). قال بعض [الفقهاء (¬4)] (¬5): السِّرُّ في البياض: شرفها من حيث إن البياض أحسن الألوان. وفي السواد انبهامها والتباس عنها. ثانيها: في الصحيحين (¬6) من حديث أبي هريرة أيضًا مرفوعًا ¬

_ (¬1) مسند الشهاب القضاعي (1/ 82) الحديث موضوع. وورد بلفظ "الدجاج غنم فقراء أمتي، والجمعة حج فقرائها". رواه ابن حبان في كتاب المجروحين (3/ 90)، وقال: موضوع لا أصل له. ومن طريقه أورده ابن الجوزي في العلل (3/ 8)، وأقره السيوطي في اللآلئ (28/ 2)، وقال الشوكاني في الفوائد (1/ 422): لا أصل له. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أبو يعلى (4089)، كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 163، 164)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات، وروى أبو يعلى طرفًا منه. (¬4) في ن ب زيادة (جماعة). (¬5) في ن ب د (العلماء). (¬6) البخاري (876، 896)، ومسلم (855)، والنسائي رقم (1367)، وابن ماجه (1083).

"نحن الآخرون السابقون بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فهم لنا فيه تبع، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد". مَعْنَى "بَيْدَ": غَيْرَ. و"مِنْ": أَجَل، أو على (¬1) (¬2) وفيها لغة بالميم. [وعظمت اليهود: السبت لما كان تمام الخلق فيه، فظنت أن ذلك موجب لفضيلته] (¬3)، وعظمت النصارى: الأحد لما كان ابتداء الخلق فيه وكل ذلك بحكم عقولهم. وهدى الله هذه الأمة المحمدية بشرف الإِتباع فعظمت ما عظم الله، فكان يومهم هو عروس الأسبوع، كما أن البيت الحرام الذين يحجون إليه عروس الفلك الأرضي في الأمكنة المقابل للبيت المعمور. وقد قيل: إن موسى - عليه الصلاة والسلام - أمر قومه بالجمعة وفضلها فناظروه في ذلك وأن السبت أفضل- فقيل له: دعهم (¬4). قال القاضي: والظاهر أنه فرض عليهم يوم في الجمعة ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (2/ 354)، ومشارق الأنوار (1/ 106). ومعنى بالميم (ميد). (¬2) في إكمال إكمال المعلم زيادة: (أن). (¬3) في ن ب ساقطة، وفي ن د (يوجب تفضيله). (¬4) أشار إليه ابن حجر في الفتح (2/ 355)، وسكت عنه وأيضًا ما بعده فإنه ذكره في الفتح.

فاختاروا السبت، وبَيَّنَهُ إلى هذه الأمة ولم يكله إلى اجتهادهم، ففازوا بتفضيله. ثالثها: كان يوم الجمعة من الأيام العظيمة في الجاهلية أيضًا، وهو أفضل أيام الأسبوع. ويوم عرفة أفضل منه على الأصح عندنا، فهو أفضل أيام السنة. رابعها: ادعى الشيخ أبو حامد في "تعليقه": أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة. وفيه نظر (¬1). خامسها: أول جمعة جمّعت بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في بني سالم بن عوف بأربعة أيام، فإنه - عليه الصلاة والسلام - لما قدم المدينة يوم الاثنين نزل في دار بني عمرو بن عوف وهي قباء، ثم ارتحل من قباء وهو راكب ناقته القصواء، وذلك يوم الجمعة، أدركه وقت الزوال وهو في دار بني معالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك في واد يقال له: وادي رانوناء (¬2). ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 13). (¬2) ذكره ابن حجر (2/ 354) عن أبي حامد وقال هو غريب. وقال ابن حجر في موضع آخر: ولا يمنع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها. وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 56): وروى عبد بن حميد في تفسيره عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يومئذ ركعتين، وذكرهم، فسموا الجمعة حين اتجمعوا إليه، فذبح لهم شاة. تغدوا وتعشوا منها، فأنزل الله في ذلك بعد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية. وروى الدارقطني من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن مالك عن الزهري، عن عبيد الله عن ابن عباس قال: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكه: فكتب إلى مصعب ابن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله بركعتين، قال: فهو أول من جمع، حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر، وأظهر ذلك. اهـ. ونبسط أقوال العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: أنها فرضت بمكة وهو قول أبي حامد الغزالي وابن حجر الهيثمي في تحفة المنهاج بشرح المنهاج (2/ 405)، والخطيب الشربيني والشوكاني في نيل الأوطار (3، 262)، والسيوطي في الإِتقان (1/ 49)، وبذل المجهود (6/ 47)، وغيرهم. قال الشوكاني: "الجمعة فرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة قبل الهجرة"، وعدّ السيوطي مما تأخر نزوله عن حكمه من القرآن آية الجمعة فقال: "فإنها مدنية، والجمعة فرضت بمكة". أدلتهم: 1 - حديث كعب بن مالك، قال: "يرحم الله أسعد بن زرارة كان أول من جمّع بنا في هزم البيت من حرة بني بياضة". 2 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أُذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين، قال فهو أول من جمع حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك". انظر: تلخيص الحبير (2/ 60)، والفتح (2/ 256) لابن حجر حيث عزاه إلى الدارقطني. قال الألباني: (لم أره في سنن الدارقطني فالظاهر أنه في غيره من كتبه)، وقال: (وإسناده حسن إن سلم ممن دون المغيرة). الإِرواء (3/ 68). 3 - عن الزهري -رحمه الله- قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بهم فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس يومئذ بأمير ولكنه انطلق يعلم أهل المدينة". انظر: عبد الرزاق في المصف (3/ 160)، وتلخيص الحبير (2/ 60)، فإنه قال في إسناده صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف. انظر: الإِرواء (3/ 68). 4 - عن ابن سيرين قال: "جمع أهل المدينة في أن يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى أيضًا مثل ذلك، فهلم فنجعل يومًا نجتمع ونذكر الله ونصلي ونشكره فيه، أو كما قالوا، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ وذكّرهم فسموه الجمعة، حتى اجتمعوا إليه ... إلخ. القول الثاني: أنها فرضت بالمدينة، وهو قول جمهور العلماء، قال ابن حجر: "والأكثر على أنها فرضت بالمدينة" ويستدلون على ذلك بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ}. قال الحافظ في الفتح (2/ 354) عن هذا القول: "وهو مقتضى ما تقدم من أن فرضيتها بالآية المذكورة وهي مدنية". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد ردَّ أصحاب القول الأول على الاستدلال بهذه الآية، ففي "لامع الدراري" قال: "وأنت خبير بأن الاستدلال بالآية على مبدًا الفرضية مشكل جدًّا، فإنه لا خلاف بين العلماء أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة يوم جمعة وصلاها أول يوم الدخول في مسجد بني سالم، والآية نزلت بعد ذلك بزمان لأن الأذان لم يكن بعد مشروعًا، وهذا لا مراء في ذلك [كذا] ". الترجيح: والذي يترجح أنها فُعِلَت في العهد المكي على سبيل الجواز، ثم نزلت الآية بعد ذلك في العهد المدني مقررة الوجوب. قال الإِمام الحجاوي في الإِقناع مع شرحه (2/ 21): "قال الشيخ: فعلت بمكة على سبيل الجواز، وفرضت بالمدينة"، ويدل على هذا ما ثبت عن عروة بن الزبير -رحمه الله- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث بعد مقدمه إلى المدينة في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة. وحددها بشكل أدق أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقال: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو ابن عوف، قال: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة". رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ومسلم (1/ 373)، وأبو داود (453، 454)، والنسائي (3/ 39). وقد وقعت الجمعة في هذه الأثناء، ولم يأمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يجمعوا، حتى سار من بني عمرو بن عوف إلى المدينة فجمع في الطريق لما أدركته الصلاة في مسجد بني سالم بن عوف في بطن وادي رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، فمكث - عليه الصلاة والسلام - هذه الفترة دليل على أن صلاتها قبل وإنما كانت على سبيل الجواز لا الوجوب. ويدل على هذا أن صلاة الصحابة الجمعة بالمدينة إنما كانت بطلب منهم لما رأوا اجتماع اليهود في يوم السبت، واجتماع النصارى يوم الأحد، يوضح هذا مرسل ابن سيرين الذي سبق إيراده. =

فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، أو مطلقًا. سادسها: اعلم أن الزمن من حيث (¬1) [كونه] (¬2) زمنًا لا يفضل بعضه بعضًا، وكذلك لا يفضل شيء بذاته بل بالتفضيل، ولله -سبحانه وتعالى- أن يفضل من شاء بما شاء، وأن يخص من شاء بما شاء. وقد نص الرسول - عليه الصلاة والسلام - على تفضيل بعض الأزمنة، ونبه على رجحان العمل فيها، وكأَنَّ المقصود من ذلك حثُّ الخلق على الاجتهاد والطاعات فيها، منها يوم عرفة (¬3). وعشر ذي الحجة ورمضان عمومًا، وليلة القدر منه خصوصًا، وشعبان عمومًا، وليلة نصفه خصوصًا، ويوم الجمعة عمومًا، والساعة التي فيها خصوصًا ويوم عاشوراء، والساعة التي في الليل ¬

_ = وحديث ابن عباس الذي رواه الدارقطني يشعر أيضًا بأن حكمها كان على الجواز فإنه قال: "أُذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة قبل أن يهاجر" فالتعبير بالإِذن يدل على أن المراد الجواز لا الوجوب، ودل عليه أيضًا ما رواه الزهري أن مصعب بن عمير استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بهم فأذن له. انظر: كتاب الغلو في الدين، لعبد الرحمن بن معلا اللويحق (470، 474). (¬1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (2/ 112)، ومعجم البلدان لياقوت (2/ 19). قال بعد ذكره لكلام ابن إسحاق: ولم أجده في غير كتاب ابن إسحاق الذي لخصه ابن هشام. وكل يقول صلى بهم في بطن الوادي في بني سالم، ورانوناء؛ بوزن عاشوراء، وخابوراء. (¬2) في ن د زيادة (هو). (¬3) في ن ب ساقطة.

وخصوصًا نصفه الأخير. وخصوصًا السحر، وهما وقتا المناجاة والرحمة. وقيل: في قول يعقوب: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} (¬1) إنه أخر الاستغفار إلى السحر. وقيل: وعدهم أن يستغفر لهم ليلة الجمعة. وقيل: بل أخر الاستغفار حتى يجتمع بيوسف بمصر، ليكون أجمع للدعاء، وأطيب للنفس. وكل هذا التخصيص لأسرار عَلِمَهَا الله، وأطلع من شاء عليها، واستأثر بما شاء منها، نبه عليه ابن بزيزة. ثم بعد هذه التنبيهات المهمة نرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: ذكر المصنف -رحمه الله- في [هذا] (¬2) الباب ثمانية أحاديث: ¬

_ (¬1) سيأتي الكلام عليها إن شاء الله في أبوابها. (¬2) سورة يوسف: آية 98.

الحديث الأول

الحديث الأول 135/ 1/ 27 - عن سهل بن [سعد] (¬1) الساعدي - رضي الله عنه -، أن نفرًا تَمَارَوْا في المنبر من أي عود هو؟ فقال سهل بن سعد: من طرفاء الغابة، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه، فكبَّر، وكبَّر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم رفع، فنزل القهقرى، حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من [آخر] (¬2) صلاته (¬3)، ثم أقبل على الناس، فقال: "يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي". وفي لفظ: "صلّى عليها، ثم كبّر عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى" (¬4). هذا الحديث كذا هو في محفوظنا. وكذا أورده الفاكهي في ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) في ن ب (سعيد). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (3/ 108): هذا من أفراد مسلم وليس عند البخاري كما قاله الزركشي، أي لفظة "ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته".

"شرحه"، وأورده الشيخ تقي الدين، وتبعه ابن العطار، بلفظ عن سهل بن سعد قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على المنبر ... " الحديث ولم يذكراه كما أسلفناه وتوبعا على ذلك: ثم الكلام عليه بعد ذلك من وجوه زائدة على العشرين: الأول: كان المناسب للمصنف -رحمه الله- ذِكْرَ هذا الحديث في باب الإِمامة، ووجه دخوله في هذا الباب من وجهين: الأول: ذكر شأن المنبر فيه. الثاني: أن فعله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة على الوجه المذكور وتعليله إنما كان ليأتموا به، وليتعلموا صلاته، وهذا المقصود في الجمعة أبلغ منه في غيرها من الصلوات، إذ لا فرق في الحكم. الثاني: في التعريف برَاوِيهِ وهو صحابي ابن صحابي وساعدي: نسبة إلى [ساعدة] (¬1) بن كعب من الخزرج، ولم يذكر هذه النسبة السمعاني (¬2): كان اسمه حزنًا (¬3)، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -[سهلًا وَأَحصن سبعين امرأة. قال - رضي الله عنه -: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬4) وأنا ابن خمس عشرة سنة. رُوي له مائة حديث وثمانية ¬

_ (¬1) البخاري (377، 448، 917، 2094، 2569)، ومسلم (544) في المساجد، باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، والنسائي (2/ 57، 59)، وأحمد في المسند (5/ 399)، وفي متن العمدة الحديث الخامس، وترتيبه هنا يوافق إحكام الأحكام. (¬2) في ن ب (مساعدة). (¬3) استدرك عليه ابن الأثير في اللباب فذكرها (2/ 92). (¬4) انظر: الإِصابة (3/ 104)، ونقعة الصديان للصغاني (49).

وثمانون حديثًا. اتفق البخاري ومسلم على ثمانية وعشرين. وانفرد البخاري بأحد عشر. وهو آخر صحابي [مات] (¬1) بالمدينة سنة ثمان وثمانين. وقيل: سنة إحدى وتسعين، وهو ابن بضع وتسعين سنة، وجزم بهذا الشيخ تقي الدين (¬2). وقال: ابن مائة سنة. وفيه نظر لأن [عمره] (¬3) كان قبل الهجرة خمس سنين فيقتضى أن يكون يَوْمَ موته ابن ستّ وتسعين، إلَّا على ما روي أن عمره يوم المتلاعنين كان خمس عشرة، فيصح ذلك. فائدة: في الرواة سهل بن سعد ثلاثة، وقد ذكرتهم فيما أفردته في رجال هذا الكتاب فراجعه منه. الثالث: "النفر" بفتح النون والفاء عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة وكذلك النفير والنفْرُ والنفْرةُ بإسكان الفاء. قال الفراء: نفرةُ الرجل ونفرُهُ: رهطه (¬4). الرابع: "تماروا" أي اختلفوا وتنازعوا، وهو مأخوذ من المماراة، وهي في اللغة الاستخراج، مأخوذ من، مريت الناقة: إذا مسحت ضرعها ليدر. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (3/ 108). (¬4) في ن ب (عمر).

ومريت الفرس: استخرجت ما عنده من الجري بصوتٍ وغيره (¬1). وقال ابن الأنباري: يقال: أَمْرَى [فلان] (¬2) فلانًا إذا استخرج ما عنده من الكلام. انتهى. فكأن كل واحد من المتماريين وهما المتجادلان يَمْرِي ما عند صاحبه أي يستخرجه، ويقال: مريته حقه إذا جحدته. ويقال: المرا: جحود الحق بعد ظهوره (¬3). الخامس: "المنبر" بكسر الميم مأخوذ من المنبر وهو الارتفاع كما تقدم في باب الوتر. وتقدم هناك الإِشارة إلى الاختلاف في من عمله (¬4)، وكان منبره - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ درجات كما أخرجه مسلم (¬5) في صحيحه، إحداها المقام وهو الذي [قام عليه] (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب (14/ 231، 232). (¬2) انظر: لسان العرب (13/ 89). (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) وهي من الأضداد فيقال: مرى وقالوا: مَرَاهُ حقه إذا جحده ومطله وربما قالوا: في {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)} أفتجحدونه، ومَرَاهُ حقه أي: نقده. اهـ، من كتاب الأضداد لأبي حاتم (136). (¬5) انظر: فتح الباري (1/ 486، 2/ 398)، وفي كتاب الوتر الوجه الثاني من الحديث الأول من هذا الكتاب المبارك. (¬6) صحيح مسلم (544)، وفتح الباري (2/ 399). تنبيه: قد ورد في عدد درجات المنبر عدة أحاديث من رواية عشرة من الصحابة فليرجع في ذلك إلى الفتح حيث ساقها، أيضًا ينبغي أن لا يحول =

السادس: يؤخذ [منه] (¬1) استحباب اتخاذ المنبر، وهو إجماع إذا كان الخطيب هو الخليفة. وأما غيره من الخطباء فهو بالخيار إن شاء خطب على المنبر، وإن شاء خطب على الأرض. [قال ابن بزيزة: واختلفوا إذا خطب على الأرض] (¬2) أين يقف، فمنهم من استحب أن يقف [على] (¬3) يسار المنبر، واستحب بعضهم أن يقف عن يمينه. قال مالك: وكل ذلك واسع. فائدة: أسلفت في أوائل الكتاب من حديث: "الفطرة خمس". أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -[أول من خطب على المنابر. وروى معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬4): "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم. وإن أَتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" ذكره القرطبي في تفسيره (¬5). ¬

_ = درجات المنبر عن اتجاه المصلين، ولا يزاد على ثلاث لورود النصوص بذلك. والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقى عليه وكبر، ثم نزل القهقرى فهذا يدل على أن صعوده باتجاه القبلة. وحديث جبريل عليه السلام لما رقى الدرج ثم أمن على كل دعوة قالها له جبريل وهي ثلاث والأحاديث في ذلك كثيرة يسر الله جمعها. اهـ. (¬1) في ن ب (أقام عليها). (¬2) في ن ب (من الحديث). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (عن). (¬5) في ن ب ساقطة.

السابع: فيه أيضًا استحباب كون الخطيب ومن في معناه على مرتفع من الأرض: كمنبر وكرسي ونحوهما. وفائدته الإِبلاغ والإِسماع. الثامن: "طرفاء الغابة" ممدود وفي رواية البخاري وغيره من أثل الغابة والأثل بفتح الهمزة الطرف. التاسع: "الغابة" وضع معروف من عوالي المدينة. العاشر: [قوله] (¬1): "ثم رفع" هو بالفاء أي رفع رأسه من الركوع. وقوله: "فنزل" أصل [موضع] (¬2) الفاء للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه، والمراد النزول بعد رفعه من الركوع كما جاء في الرواية الأخرى، ووقع في شرح الشيخ تقي الدين، وتبعه الفاكهي، أن الرواية الأخيرة قد توهم أنه [نزل] (¬3) في الركوع لكن الرواية الأولى تبين أن النزول كان بعده، قال: والمصير إليها أوجب لأنها نص ودلالة "الفاء" على التعقيب ظاهرة، وصوابه: أن الرواية الأولى قد توهم ذلك بخلاف الأخيرة عكس ما ذكره فإن الأولى هي بالفاء. والثانية بثم. وهذا من سبق [القلم] (¬4) فتنبه له. ¬

_ (¬1) القرطبي (2/ 98، 15/ 164)، وانظر حديث رقم (31) من الباب الخامس. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في الأصل ون د (موضوع)، وما أثبت من ن ب. (¬4) في ن د (ترك).

الحادي عشر: "الْقَهْقَرَى" المشي إلى خلف، وأصلها أن تكون مصدر قهقر، وهي من المصادر الملاقية للفعل في المعنى دون الاشتقاق، فإنهم قالوا رجع القهقرى. وفي هذا الحديث نزل القهقرى كما قالوا: قتلته صبرًا وحبسته منعًا. واختلف النحاة في نصبها على ثلاثة مذاهب: فقيل: إنها منصوبة يفعل مقدر من لفظها والتقدير: رجع قهقر القهقرى. وقيل: إنها صفة لموصوف محذوف أي رجع الرجعة القهقري. والثالث: ما تقدم من أنها من المصادر الملاقية في المعنى دون الاشتقاق. ومثله قعد القرفصاء واشتمل الصماء. الخلاف في الكل واحد. الثاني عشر: إنما نزل - عليه الصلاة والسلام - القهقرى لئلا يستدبر القبلة. الثالث عشر: قوله: "حتى سجد في أصل المنبر" أي على الأرض التي جنب الدرجة السفلى. الرابع عشر: قوله: "لتعلَّموا صلاتي" هو بفتح العين واللام المشددة أي لتتعلموا. بين - صلى الله عليه وسلم - أن صعوده المنبر وصلاته عليه إنما كان للتعليم [ليرى] (¬1) جميعهم أفعاله بخلاف ما إذا كان على الأرض فإنه لا يراه إلَّا بعضهم ممن قرب منه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. انظر إلى تعليق الصنعاني على هذا في الحاشية (3/ 112).

الخامس عشر: قوله: " [صلى] (¬1) عليها ثم كبر عليها ثم ركع وهو عليها". الضمير في هذه المواضع عائدٌ إلى الدرجة الثالثة وهي أعلى المنبر وإن لم يكن لها ذكر لدلالة المعنى عليها. السادس [عشر] (¬2): فيه جواز الفعل القليل في الصلاة. قال الشيخ تقي الدين (¬3): وفيه إشكال على من حدد الكثير بثلاث خطوات فإن الصلاة كانت على الدرجة العالية، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر، وأقله ثلاث، والذي يعتذر به عن هذا أن يُدعى عدم التوالي بين الخطوات، فإن التوالي شرط في الإِبطال، أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة على الدرجة العليا، وفي هذا الاعتذار الذي ذكره الشيخ نظر (¬4). وقال المازري (¬5): اغتفر هذا الكثير لأجل الصلاة. قال: وقد أجازوا أكثر من ذلك للراعف في صلاته. السابع عشر: فيه أن الخطوتين لا تبطل الصلاة، ولكن الأولى تركها، وكذا غيرهما من الأفعال إلَّا لحاجة، فإن كان فلا كراهة، كما فعل - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في ن ب (ليرجى). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) إحكام الأحكام (3/ 110). (¬5) انظر: تعليق الصنعاني في الحاشية (3/ 111) على هذا.

الثامن عشر: فيه أيضًا أن الأفعال الكثيرة إذا تفرقت لا تبطل الصلاة كما سلف، لأن النزول [عن] (¬1) المنبر [والصعود] (¬2) تكرر فجملته كثيرة وأفراده متفرقة كل واحد منها [قليل] (¬3). التاسع عشر: فيه أيضًا جواز صلاة الإِمام على موضع أعلى من وضع المأمومين لقصد التعليم بِلاَ كراهة، بل هو مستحب. وكذلك حكم ارتفاع المأموم على الإِمام لا لقصد إعلام المأمومين بصلاة الإِمام، وإن لم يقصد شيئًا من ذلك فهو مكروه، وزاد [أصحاب مالك إِنْ قصد بذلك [التكبر] (¬4) تبطل صلاته، وأجازوا الارتفاع اليسير كعظم] (¬5) الذراع ونحوه. [و] (¬6) قال الشيخ تقي الدين (¬7): من أراد أن يجيز الارتفاع من غير قصد التعليم فاللفظ لا يتناوله، والقياس لا يستقيم لانفراد الأصل بوصف معتبر [تقتضى] (¬8) المناسبة اعتباره. وقال القرطبي (¬9): استدل أحمد بهذا الحديث على الجواز، ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (1/ 414) مع اختلاف يسير في النقل. (¬2) في ن ب (على). (¬3) في ن ب (والصعد تركه). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في الأصل وفي ن د (التكبير)، ولعل ما أثبت الصواب. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب ساقطة. (¬8) إحكام الأحكام (3/ 109). (¬9) في ن ب ساقطة.

ومالك يمنع ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل المنع بخوف الْكِبْرِ على الِإمام، واعتذر بعض أصحابه عن الحديث بعصمته عن الكِبْرِ ومنهم من علله بأن ارتفاعه كان يسيرًا. قلت: والأشبه ما علل [به] (¬1) في الحديث أنه إنما فعله لتعليم الصلاة. العشرون: فيه أيضًا أنه ينبغي للكبير أو الإِمام أو العالم إذا فعل شيئًا يخالف المعتاد أن يبين حكمه لأصحابه ليزيل الريبة منهم ولأنه أبلغ في فهمه. الحادي والعشرون: فيه أيضًا استحباب قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة، فإن ذلك لا يقتضي القدح والتشريك في العبادة، بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم، وكذلك حكم إقامة الصلاة أو الجماعة لقصد التعليم. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (11/ 85). والعبارة في الأصل (اليسير دون الكثير)، وما أثبت من القرطبي.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 136/ 2/ 27 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" (¬1). الكلام عليه من وجوه: وهو حديث عظيم رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ابن عمر أربعة وعشرون صحابيًّا (¬2) كما أفاده ابن منده في مستخرجه، وأوضح طرقه في أوراق. ¬

_ (¬1) البخاري (877، 894، 919)، ومسلم (844)، والترمذي (492)، وابن ماجه (1088)، والنسائي في الجمعة (3/ 93)، ومالك في الموطأ (1/ 101)، والطيالسي (683)، والحميدي (608، 609، 610)، وعبد الرزاق (5290)، والبيهقي (3/ 188)، وأبو يعلى (5480، 5529، 5793)، وابن حبان (1211، 1212، 1213، 1214)، وأحمد في المسند (2/ 3، 9، 41، 42، 48، 55، 75، 77، 78، 101، 105)، وابن خزيمة (1750، 1751)، والدارمي (1/ 361)، وابن الجارود (283). في متن عمدة الأحكام الأول. وترتيبه هنا يوافق أحكام الأحكام. (¬2) انظر: مسند أبي يعلى من رواية أبي سعيد الخدري (978، 1100، 1127)، وحديث أنس (4086)، وحديث أبي هريرة في مسلم (857)، وفي صحيح ابن حبان (1221).

الأول: المراد بالمجيء: إرادته، بدليل رواية مسلم (¬1) "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة". وفي معنى: إرادة المجيء: قصد الشروع فيه. الثاني: "الفاء" في قوله - عليه السلام -: "فليغتسل" للتعقيب واشترط مالك (¬2) اتصال الغسل بالرواح لتعلقه بالأمر بالمجيء إلى الجمعة، لكنه قد بين أن المراد إرادته أو قصده. وأَبْعَدَ داود الظاهري إبْعَادًا مجزومًا ببطلانه حيث جعل الغسل متعلقًا باليوم فقط، حتى لو اغتسل قبل غروب الشمس يوم الجمعة حصلت مشروعية الغسل، مستدلًا بقوله - عليه الصلاة والسلام - في الصحيح (¬3) "لو اغتسلتم ليومكم"، وقوله "غسل يوم الجمعة (¬4) " [وقوله "لو اغتسلتم يوم الجمعة (¬5)] (¬6) "، فعلقه وأضافه ¬

_ (¬1) مسلم (844)، ويقوى ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح" فهو صريح في تأخير الرواح عن الغسل، وعرف بهذا إفساد قول من حمله على ظاهره واحتج به على أن الغسل لليوم لا للصلاة. لأن الحديث واحد ومخرجه واحد. اهـ. انظر: فتح البارى (2/ 357). (¬2) انظر: الاستذكار (5/ 36). (¬3) مسلم (847)، سيأتي تخريجه. (¬4) البخاري (879)، ومسلم (846)، وأبو داود (341)، والنسائي (3/ 93)، والدارمي (1/ 361)، والموطأ، (1/ 102). (¬5) البخاري (903)، ومسلم (847)، وأبو داود (352)، وأحمد (6/ 62)، والبيهقي (3/ 189)، وابن خزيمة (1753)، وعبد الرزاق (5/ 53). (¬6) من ن ب ساقطة.

إلى اليوم، وهو من طلوع الفجر [الثاني] (¬1) إلى الغروب، فدل على أنه مشروع لليوم، لا لتعيين المجيء، لكنه قد بين المقصود من الغُسِل، وبيان سبب شرعيته في الأحاديث الصحيحة (¬2): وهو إزالة الروائح الكريهة والوسخ، لعدم إيذاء الناس والملائكة، ولذلك أبعد من قدم جوازه على يوم الجمعة بحيث لا يحصل المقصود من إزالة ما ذكر. والمعنى: إذا كان معلومًا [في] (¬3) الشرع بالقطع كالنص أو بالظن الراجح المقارب للنص فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ، وإذا كان أصل المعنى معقولًا وتفاصيله تحتمل التعبد فلا شك أنه محل [النظر] (¬4) ومما يُبطل مذهب الظاهري [أن] (¬5) الأحاديث التي علق فيها الأمر بالإِتيان أو المجيء قد دلت على توجه الأمر إلى هذه الأحاديث، وهي طلب النظافة، والأحاديث التي تدل على تعليقه باليوم لا تتناول تعليقه بها، فهو إذا تمسك بتلك أبطل دلالة هذه الأحاديث التي تدل على تعليق الأمر بهذه الحالة، وليس له ذلك ونحن إذا قلنا بتعليقه بهذه الحالة لم يبطل ما استدل [به]، وعَمِلْنا بمجموع الأحاديث. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) كما في مسلم من حديث عائشة: "كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العباءة، ويصيبهم الغبار، فتخرج منهم الريح ... إلخ. (¬3) في ن د (من). (¬4) في ن ب (النظر). (¬5) زيادة من ن ب د.

الثالث: اللام في قوله "فليغتسل" للأمر، لكن الجمهور من السلف والخلف على أنها للندب. قال ابن عبد البر في "تمهيده" (¬1): ولا أعلم خلافًا بين العلماء. قال القاضي عياض: وهو المشهور من مذهب مالك وأصحابه، وإن كان ظاهر الأمر للوجوب، وقد ثبت التصريح به في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" (¬2) وهو الذي حمل طائفة من السلف [و] (¬3) بعض الصحابة وبعض التابعين ومالك في رواية عنه وأهل الظاهر (¬4) إلى القول بوجوبه عملًا بظواهر الأمر، والأحاديث المروية فيه. واحتج الجمهور الذين قالوا بالندب بأحاديث صحيحة: منها ¬

_ (¬1) التمهيد (14/ 144). (¬2) البخاري في أطراف (858)، ومسلم في الجمعة (846)، وأبو داود (344)، والنسائي (3/ 92)، والبيهقي في الكبرى (1/ 294)، وأحمد (3/ 65، 66، 69)، وأبو يعلى (978)، وابن حبان (1220)، وابن خزيمة (1743، 1744). وجاء أيضًا من رواية أبي هريرة ولفظه: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم، كغسل الجنابة". الموطأ (1/ 101). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) انظر: الاستذكار (5/ 18).

ما رواه مسلم في صحيحه (¬1) أن رجلًا دخل وعمر يخطب وهو عثمان بن عفان وقد ترك الغسل وأقره عمر والصحابة على ذلك وهم أهل الحل والعقد مع أن ترك عثمان حجة في عدم الوجوب بمجرده، فلو كان واجبًا لألزموه به، ولما تركه. ومنها حديث (¬2) "من توضأ [فبها] (¬3) ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل". قال الشيخ تقي الدين (¬4): ولا يقاوم سنده سند هذه الأحاديث وإن [كان] (¬5) المشهور من سنده صحيحًا على مذهب ¬

_ (¬1) من رواية عبد الله بن عمر عند البخاري (878)، ومسلم (845)، والترمذي (494)، ومالك (1/ 101)، والبيهقي في السنن (1/ 294)، ومعاني الآثار (1/ 118)، ومن رواية ابن عباس ابن أبي شيبة (2/ 94)، ومعاني الآثار (1/ 117). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (5/ 19): قال أبو عيسى الترمذي: قلت للبخاري: قولهم إن الحسن لم يسمع من سمرة إلَّا حديث العقيقة، قال: قد سمع منه أحاديث كثيرة، وجعل روايته عن سمرة سماعًا وصححها، وأيضًا جزم بسماع الحسن من سمرة ابن القيم في أعلام الموقعين (2/ 144). قوله: "فيها" قال الأصمعي: معناه فبالسنة أخذ، وقوله "ونعمت" الفعلة، أو نحو ذلك، وإنما ظهرت التاء هي علامة التأنيث لإِظهار السنة: أو الفعلة، وفيه البيان الواضح أن الوضوء كان للجمعة وأن الغسل لها فضيلة لا فريضة. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) إحكام الأحكام (3/ 115). (¬5) في ن ب ساقطة.

بعض أصحاب الحديث، أي وهو من احتج برواية الحسن عن سمرة (¬1) فإنه من طريقه. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬2): إنه حديث صحيح مشهور. وفيه دليلان: الندب، وعدم الوجوب. ¬

_ (¬1) من رواية سمرة عند أحمد (5/ 11)، والطيالسي (1/ 142)، والترمذي (497)، وأبو داود (354)، باب: في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والنسائي (3/ 94)، والدارمي (1/ 362)، وصححه ابن خزيمة (3/ 128)، وحسنه النووي في شرح مسلم (6/ 133)، وقد ورد عن أنس عند الطحاوي في معاني الآثار (1/ 119)، وابن ماجه (1/ 347). قال في مصباح الزجاجة (1/ 131): إسناده ضعيف. اهـ، والطيالسي (1/ 143)، وأبو يعلي (4086)، وعن أبي سعيد في الاستذكار (5/ 18)، والتمهيد (16/ 213)، وفي كنز العمال (7/ 21267)، ونسبه لابن جرير وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 175)، ونسبه للبزار، وقال: وفيه أسيد بن زيد وهو كذاب وذكر الهيثمي رواية عن جابر بن عبد الله ونسبها للبزار وقال: وفيه قيس بن الربيع وثقة شعبة والثوري وضعفه جماعة. ورواية عبد الرحمن بن سمرة (2/ 175). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 362): ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه مختلف عليه ثم ساق من أخرجه من رواية الصحابة إلى أن قال: وكلها ضعيفة. اهـ. (¬2) شرح مسلم (5/ 33)، ولم يقل صحيح، بل الموجود في المطبوع "حسن".

ومنها: قوله - عليه الصلاة والسلام -[في صحيح مسلم (¬1)] (¬2) "لو اغتسلتم يوم الجمعة" وهذا اللفظ يقتضى أنه ليس بواجب، لأن التقدير لو اغتسلتم لكان [أفضل] (¬3) وأكمل، وتأولوا: صيغة الأمر على الندب. وصيغة الوجوب على التأكيد، وضعف هذا التأويل، لكن المراد بالمحتلم البالغ كما أَنَّ المراد بالحائض في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا يقبل الله صلاة حائض إلَّا بخمار" (¬4) من بلغت من الحيض [لا] (¬5) وجوده. والوجوب شرعًا: المنع من الترك، وحمله على الندب أو التأكيد خلاف الظاهر إذا لم يعارضه دليل آخر فحينئذ يكون الجمع بين الأدلة التي ظاهرها الاختلاف وإعمالها أولى من إلغائها، خصوصًا إذا أمكن الجمع [بوجه سائغ] (¬6). قال الخطابي (¬7): ولم تختلف الأمة أن صلاة من لم يغتسل للجمعة جائزة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في التعليق ت (5) ص (124). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) أبو داود (641)، في الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار، والترمذي (377) في الصلاة، باب: ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلَّا بخمار، وابن ماجه (655)، والحاكم (1/ 251)، وصححه على شرط مسلم، وأحمد (6/ 150، 218، 259)، وابن خزيمة (1/ 380)، والمنتقى لابن الجارود (1/ 167). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في معالم السنن (1/ 212).

وأَوَّلَ القدوري الحنفي: الوجوب هنا على السقوط، كما نقله عنه ابن دحية في مصنفه في غسل الجمعة قال عنه: فيحتمل أن يسقط سقوط الفرائض، ويحتمل أن يسقط سقوط السنن، وأخذ ذلك من طريق اللغة، فإن "الوجوب" فيها بمعنى السقوط، و"على"، في الحديث بمعنى "عن". وفي هذا التأويل بعد. [ثم رأيت بعد ذلك [نصًا] (¬1) للشافعي -رحمه الله- بالوجوب وأنه شرط للصحة فقال في كتاب "الرسالة" (¬2) و [هي] (¬3) من رواية الربيع، لما ذكر حديث ابن عمر هذا، وحديث غسل يوم الجمعة واجب [على كل محتلم، فكان قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل يوم الجمعة واجب] (¬4)، وأمره بالغسل. يحتمل معنيين: الظاهر منهما أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلَّا بالغُسْل، كما لا يجزىء في طهارة الجنب غير الغسل، ويحتمل أنه واجب في الاختيار [وكرم] (¬5) الأخلاق والنظافة. ثم استدل لهذا الاحتمال بقصة عثمان السالفة، هذا لفظه، ذكره قبيل: باب النهي عن معنى دل عليه ¬

_ (¬1) في ن ب (أيضًا). (¬2) الرسالة للشافعي (302). انظر زيادة في البحث: تعليق أحمد شاكر على الترمذي (2/ 371)، والمحلى (2/ 19)، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (251)، والاستذكار لابن عبد البر (5/ 18) والتمهيد (16/ 214). (¬3) في ن ب د (هو). (¬4) زيادة من ن ب د، وما أثبت موافق لما في الرسالة (302). (¬5) في ن ب (غير موجودة في الرسالة).

معنى [في] (¬1) حديث غيره، وهو نصف الكتاب. وهو نص غريب عزيز الوجود، وفي "شرح غنية ابن سريج" لأحد تلامذة القفال لم يتحرر ليس مصنفه: حكايته قولين فيه وأن القديم هو الوجوب (¬2). ذكره قيل التيمم] (¬3). ¬

_ (¬1) في الرسالة (في). (¬2) قال ابن قاسم في الحاشية (2/ 470): على قوله "ويسن أن يغتسل" لها في يومها ... وهو كالإِجماع عن الصحابة، وحكى الترمذي وغيره إلى أنه ليس بواجب عند الصحابة ومن بعدهم، وعن أحمد وغيره أنه واجب، وأوجبه الشيخ على من له عرق أو ريح. وقال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اغتسل فالغسل أفضل" وليس بشرط إجماعًا. ومن قال بوجوبه فتصح بدونه، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "واجب" محمول على تأكيد الاستحباب كما يقال حقك على واجب، جمعًا بين الأدلة، ويرشحه قرنه بالطيب والسواك. وهما غير واجبين إجماعًا. وقال ابن القيم في زاد المعاد: حيث حكى الخلاف في وجوبه على أقوال ثلاثة. وقرر أن وجوبه أقوى وآكد من وجوب الوتر ونحوه. انظر: فتح الباري (2/ 357) حيث توسع في ذكر المسألة وعرض الأدله، والاستذكار (5/ 16، 40)، والتمهيد (14/ 144، 147). (¬3) ساقطة من الأصل، ومثبتة من ن ب د.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 137/ 3/ 27 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ الناسَ يومَ الجمعة، فقال: "صلبتَ يا فلان"، قال: لا، قال: "قم فاركع ركعتين". وفي رواية "فصلِّ ركعتين" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الرجل هو سُليك الغطفاني بضم السين المهملة كما جاء في صحيح مسلم. وقيل: النعمان بن [قوقل (¬2)] بقافين. والأول: هو المشهور. والثاني: "فلان" وكذا "فُلاَنةٌ" من الأسماء التي لا تُثَنَّى ولا ¬

_ (¬1) البخاري (930، 931، 1166)، ومسلم في الجمعة (875)، والترمذي (510)، وأبو داود في الصلاة (1115، 1116، 1117)، وأحمد (3/ 363، 369)، والحميدي (1223)، والبيهقي الكبرى (3/ 194). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 407): وشذ منصور بن أبي الأسود عن الأعمش في هذا الإِسناد فقال: "جاء النعمان بن نوفل"، وقد صحح أنه "سليك" أيضًا، ضبط اسمه النعمان بن نوفل.

تجمع لأنها لم تستعمل نكرةً، إذ هي كناية عن الأعلام والاسم لا يثنى ولا يجمع حتى يُنكر. الثالث: "الكناية" عن الرجل المذكور "بفلان" يحتمل أن يكون من قوله - عليه الصلاة والسلام -، ويحتمل أن يكون من قول جابر وليبحث عن [الحكمة] (¬1) في ذلك. الرابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "صليت" أي تحية المسجد، ويحتمل سُنَّةَ الجمعة أيضًا، ويؤيده رواية ابن ماجه (¬2): "أصليت قبل أن تجيء". الخامس: في قوله: "صليت" جواز" إسقاط [همزة] (¬3) الاستفهام من الفعل المستفهم عنه، إذ الأصل "أصليت"، وقد حمل عليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬4) " قال بعضهم: التقدير فمن نفسك وهو كثير، وسببه كثرة الاستعمال حتى قيل: إن الاستفهام أكثر من الخبر، وقالوا: إن الاستفهام دهليز العلم. السادس: قوله - عليه السلام - "قم فاركع ركعتين" ظاهر في جواز تحية المسجد للداخل والإِمام يخطب وهو مذهب الشافعي ¬

_ (¬1) في ن ب (الحكم). (¬2) ابن ماجة في الإِقامة (1114)، وذكره ابن حجر في الفتح (2/ 410) وسكت عنه. (¬3) في ن ب (الهمزة)، قال ابن حجر في الفتح (2/ 408): ثبت سقوط الهمزة في رواية الأصيلي. (¬4) سورة النساء: آية 79.

وأحمد وإسحاق وفقهاء الحديث، وقال به [الحسن] (¬1) البصري وغيره من المتقدمين، وغير هذا الحديث أصرح في الدلالة منه [وهو] (¬2) قوله - عليه الصلاة والسلام -: بعد أمره لسليك بركعتين والتجوز فيهما "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" رواه مسلم (¬3). [و] (¬4) قال مالك والليث، وأبو حنيفة، والثوري. وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وهو مروي عن عمر. وعثمان، وعليّ لا يصليهما لوجوب الاشتغال بالإِنصات للخطبة بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا قلت لصاحبك والإِمام يخطب أَنْصِتْ فقد لغوت (¬5) ". قالوا: فإذا منع من الكلمة وهي أنصت مع كونها أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر في زمن يسير فَلأَنْ يمْنَعَ من الركعتين مع كونهما مسنونتين في زمن طويل من باب أولى. وقد يفرق بينهما: بأن هذه الكلمة قد تؤدي إلى الخصام، ورفع الصوت. بخلاف الركعتين (¬6). ¬

_ (¬1) في ن ب (حسن). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) مسلم (875)، وانظر التعليق (2)، ومسند أبي يعلى (2276، 1946). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) البخاري (934)، ومسلم (851)، والنسائي (3/ 104)، وأبو داود (1112)، والدارمي (1/ 364)، وابن ماجه (1110)، وابن خزيمة (1805)، والترمذي (512)، وأحمد (2/ 272، 280، 474، 532). (¬6) قال ابن حجر في الفتح (2/ 409): فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه =

ثم اعتذروا عن حديث سُليك بأنه مخصوص (¬1) به، لأنه كان فقيرًا فأريد قيامه لتستشرف فيه العيون، وتتصدق عليه، وأيدوا ذلك بأمره - عليه الصلاة والسلام - بالقيام لهما بعد جلوسه لأن ركعتي التحية تفوت بالجلوس وقد تم، وبأن الحديث المذكور خبر واحد، والمالكية تقدم عمل أهل المدينة عليه، ويرون العمل به أولى من خبر الواحد (¬2)، والحنفية ترده فيما تعم [به] (¬3) البلوى. والجواب عن ذلك: أن التخصيص خلاف الأصل، ثم يبعد الحمل عليه مع صيغة العموم [في] (¬4) قوله "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب" (¬5) فإنه تعميم يزيل توهم التخصيص بهذا الرجل، والأمر بهما للداخل مستثنى من عموم الأمر بالإِنصات للخطبة، ومذهب المالكية والحنفية في رد خبر الواحد بما سلف محل الخوض فيه كتب الأصول، وقد تَأَوَّلوا هذا العموم أيضًا بتأويل ¬

_ = أنه منصت فقد تقدم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سرًّا السكوت. اهـ. محل المقصود منه. (¬1) انظر: فتح الباري (2/ 408). (¬2) انظر: فتح الباري (2/ 411). (¬3) في ن د ر (تقديم وتأخير البلوى به). (¬4) في ن ب و. (¬5) ورد في حديث الباب، وقال النووي في شرح مسلم (6/ 164): وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ صحيحًا فيخالفه، وقال ابن أبي جمرة: هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل.

مستنكر (¬1)، وأقوى من هذا العذر: [ما ورد أنه] (¬2) - عليه الصلاة والسلام - "مكث حتى فرغ من الركعتين" (¬3)، فحينئذٍ يكون المانع من عدم الركوع يعني الركعتين منتفيًا فثبت الركوع، وعلى هذا أيضًا ترد الصيغة التي فيها العموم، على أن الدارقطني وهمَّ هذه الراوية. وقال: الصواب إرسالها (¬4). وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الحديث كما نقله القرطبي في "المفهم" (¬5): إلى الجمع بين الأمرين، فخيَّر بين الركوع وتركه، وهو قول من تعارض عنده الخبر والعمل. ونقل [عن] (¬6) الأوزاعي أنه إنما يركعهما من لم يركعهما في بيته، وكأن [الأوزاعي] (¬7) حمل الركعتين على سنة الجمعة [لا على التحية] (¬8) وإلاَّ فلا يستقيم قوله (¬9). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 411): وكأنه يشير إلى بعض ما تقدم من ادعاء النسخ أو التخصيص. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (2/ 15)، وضعفه. وانظر: فتح الباري (2/ 409)، وتخريج الأحاديث الضعيفة من سنن الدارقطني (165، 166). (¬4) المرجع السابق. (¬5) (3/ 1471) وأيضًا ما قبله من الأقوال. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في الأصل (المازري)، والتصحيح من ن ب. (¬8) زيادة من ن ب. (¬9) انظر: فتح الباري (2/ 410)، والمفهم (3/ 1470).

السابع: في الحديث أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل حكمها، وقد أطلق أصحابنا فواتها به، وهو محمول على من طال جلوسه ذاكرًا عالمًا بأنها سنة، كما قاله النووي في "شرح مسلم" (¬1). وقال المحب الطبري في "أحكامه": يحتمل أن يقال إنه - عليه الصلاة والسلام - أمر بقضائهما والسنن تقضى على الأصح. ويحتمل أن يقال: وقتها قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز. قلت: هذا بعيد، والأول أبعد منه، فإن أصحابنا نصوا على أن تحية المسجد لا مدخل للقضاء فيها، وما ذكره من الخلاف في قضاء السنن هو في غيرها. الثامن: فيه أيضًا جواز تأخير المجيء إلى الجمعة والإِمام يخطب على المنبر. التاسع: فيه أيضًا جواز الكلام للخطيب في الخطبة لحاجة التعليم ونحوه. العاشر: فيه أيضًا جواز جوابه للمستمع وغيره. الحادي عشر: فيه أيضًا الأمر بالمعروف، والإِرشاد إلى المصالح في كل حال وموطن. الثاني عشر: فيه أيضًا أن تحية المسجد ونوافل النهار ركعتان. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (6/ 164).

الثالث عشر. قد يستنبط منه أن تحية المسجد وغيرها من الصلوات ذوات الأسباب المباحة لا تُكره في وقت من الأوقات وكذلك كل [ذات] (¬1) سبب واجب، كقضاء فائتة ونحوه، لأنها لو سقطت في حال من الأحوال لكان حال استماع الخطبة أولى بالسقوط، فلما لم تترك في حال هو واجب وتركه محرم على ما فيه من الخلاف، وقطعت الخطبة من أجله وأَمره بالفعل بعد أن قعد لجهله بالحكم، دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال، ولا في وقت من الأوقات، وباقي الصلوات ذوات الأسباب تقاس عليها. خاتمة: روى ابنُ حبان (¬2) في صحيحه: أَنَّ هذا الداخل قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - صلِّ ركعتين في الجمعة الثانية والثالثة أيضًا فليتأمل ذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) صحيح ابن حبان (6/ 249)، وأحمد في المسند (3/ 25)، ولفظ أحمد بعد أمره في الجمعة الثانية والثالثة، ثم قال تصدقوا ففعلوا فأعطاه ثوبين مما تصدقوا، ثم قال تصدقوا فألقى أحد ثوبيه فانتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكره ما صنع ... إلخ الحديث، وأبو داود (1675) في الزكاة، باب: الرجل يخرج من ماله، وليس فيه أنه دخل في الجمعة الثانية والثالثة، وإنما دخل المسجد وحث فيه على الصدقة، والنسائي (3/ 106، 107، 5/ 63)، والحميدي (741)، والبيهقي (4/ 181)، والطحاوي (1/ 366)، وصححه ابن خزيمة (3/ 150)، وسكت عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 408).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 138/ 4/ 27 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين، وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث في محفوظنا قيل الحديث الذي قبله وكذا ذكره الفاكهي، وذكره بعده الشيخ تقي الدين، وتبعه ابن العطار وغيره، لكنه ذكره [من] (¬2) وجه [آخر] (¬3) كما سننبه عليه، والأمر في ذلك قريب. الثاني: [ذكر] (¬4) هذا الحديث بعض من علَّق على هذا الكتاب تعليقًا من رواية جابر، وقال: إنَّه جابر بن عبد الله، وذكره أيضًا ¬

_ (¬1) البخاري (920، 928) في الجمعة، ومسلم (861)، والدارمي (1/ 366) في الصلاة، باب: القعود بين الخطبتين، والموطأ (1/ 112)، والترمذي (506). في متن العمدة ترتيبه الثاني وترتيبه هنا يوافق أحكام الأحكام. اهـ. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب ساقطة، وفي ن د (وجه آخر). (¬4) في ن ب ساقطة.

كذلك ابن العطار في "شرحه" من رواية جابر ثم قال إنه جابر ابن سمرة كما هو مبين في "صحيح مسلم"، ثم ساق ترجمته، وهو عجيب وعلى تقدير وجوده في نسخ الكتاب فحديث جابر بن سمرة منه أفراد مسلم فقط، وليس هو بهذا اللفظ بل بمعناه، فيبقى على المصنف اعتراض من وجه آخر وما أدري كيف وقع هذا منه فاجتنبه. الثالث: لما ذكر الشيخ تقي الدين (¬1) هذا الحديث من طريق ابن عمر قال: لم أقف عليه بهذا اللفظ في الصحيحين فمن أراد تصحيحه فعليه إبرازه، وكأن هذا -والله أعلم- هو وقوع ابن العطار فيما ذكر فغير الراوي وذكره من طريق جابر بن سمرة (¬2). قلت: ولفظ رواية الصحيحين (¬3) من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائمًا ثم يجلس ثم يقوم كما يفعلون اليوم" (¬4)، وفي لفظ: "كان ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 130). (¬2) مسلم في الجمعة (862)، والنسائي (3/ 110)، وأبو داود في الصلاة (1093، 1095)، وابن ماجه (1105، 1106)، والدارمى (1/ 366)، وأحمد (5/ 87، 88، 89، 99، 100، 101، 107)، والتمهيد (2/ 166). (¬3) البخاري (920، 928)، ومسلم (861)، والنسائي (3/ 109)، والترمذي (506)، والمنتقى (1/ 257)، وابن ماجه (1103)، والدارمي (1/ 304)، وأحمد (2/ 35)، وابن خزيمة (3/ 142)، والبيهقي (3/ 197)، والبغوي في السنة (4/ 246). (¬4) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 130): ونسبه الزركشي إليهما إلَّا أنه قال: =

النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما"، ولم يذكر الحميدي في "جَمْعِه بين الصحيحين" غير ذلك، نعم لفظ النسائي: "كان يخطب الخطبتين قائمًا، وكان يفصل بينهما بجلوس"، وهو قريب من لفظ المصنف، ورواه الدارقطني (¬1) بلفظ المصنف [سواء] (¬2). الرابع: الخطبة بضم الخاء: الكلام المؤلَّف المتضمِّن وعظًا وإبلاغًا. يقال: خطب -بضم الطاء- خِطابةً -بكسر- الخاء (¬3). الخامس: في الحديث دليل على ثلاث مسائل في الخطبة. الأولى: اشتراط الخطبتين لصحة صلاة الجمعة، وهو مذهب الشافعي والأكثرين. قال القاضي عياض: وإليه ذهب عامة العلماء. وقال الحسن البصري وأهل الظاهر وابن الماجشون. عن مالك: أنها تصح بلا خطبة. وقال أبو حنيفة: تجزئ واحدة (¬4) فإن ¬

_ = "اليوم" عوض "الآن"، فهذا اللفظ الذي ذكره المصنف ليس لفظ الشيخين ولا أحدهما. اهـ. (¬1) الدارقطني (2/ 20)، وانظر: تنبيه الزركشي على العمدة في مجلة الجامعة عدد (75، 76). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ويقال: خطبة بضم الخاء وخَطابة بفتحها، وأما خطبة المرأة، فبالكسر. (¬4) قال ابن قاسم في حاشية الروض (2/ 443): حكاه النووي إجماعًا، إلَّا =

[استدل] (¬1) الأكثرون بفعل الرسول له مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2)، ففي ذلك نظر، كما قال الشيخ تقي الدين (¬3) [يتوقف على أن تكون إقامة الخطبتين داخلًا تحت كيفية الصلاة، فإنه إذا لم يكن كذلك كان استدلالًا بمجرد الفعل] (¬4). قلت: ويكفي في الاستدلال [بانه] (¬5) بيان لمجمل القرآن مع أنه لم ينقل أنه صلاها بلا خطبة. الثانية: اشتراط القيام فيهما، ولا يصح من القاعد. قال ابن عبد البر (¬6): أجمع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلَّا ¬

_ = أن أبا حنيفة يقول: إذا قال: الحمد لله، كفاه، ومشروعيتها مما استفاضت به السنَّة، وقال في الشرح: والخطبة شرط، لا تصح بدونها، ولا نعلم مخالفًا إلَّا الحسن، وقال في الفروع: ومن شرطهما يعني الخطبتين تقديمهما وفاقًا. (¬1) في ن ب (استدلال). (¬2) البخاري (2/ 118) في الجماعة، باب: اثنان فما فوقهما جماعة، ومسلم (674) في المساجد، باب: من أحق بالإِمامة، وليس عنده "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو من أفراد البخارى، والشافعي (1/ 129)، والبغوي (2/ 296). (¬3) إحكام الأحكام (3/ 128). (¬4) العبارة فتح الباري (2/ 406): يتوقف ذلك على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخل تحت كيفية الصلاة، وإلاَّ فهو استدلال بمجرد الفعل، وفي إحكام الأحكام كما أثبت (3/ 128). (¬5) في ن ب د (لأنه). (¬6) انظر: الاستذكار (5/ 129).

قائمًا لمن أطاقه. وقال أبو حنيفة: تصح قاعدًا والقيام ليس بواجب. وقال مالك: هو واجب [لو] (¬1) تركه أساء وصحت الجمعة. والذي ذهب إليه الشافعي اشتراطه وفي دليله من النظر ما ذكرنا في المسألة الأولى (¬2). الثالثة: اشتراط الجلوس بينهما وأنه فرض من فروضها. قال الطحاوي: لم يقل هذا غير الشافعي. وقال مالك: وأبو حنيفة، والجمهور: الجلوس بينهما سنة ليس بواجب ولا شرط. قال القاضي عياض: وعن مالك رواية أن الجلوس بينهما شرط، وفي دليل الاشتراط والفرضية من النظر ما سلف (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل (له)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) يستدل لذلك مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين فلو كان القعود مشروعًا في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، وفيه حدث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب" أخرجه مسلم وهو أصرح في المواظبة من حديث ابن عمر إلَّا أن إسناده ليس على شرط البخاري وأيضًا حديث كعب بن عجرة أن دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدًا، فأنكر عليه وتلا: "وتركوك قائمًا". اهـ، بتصرف من الفتح (2/ 401). (¬3) انظر: الفتح (2/ 401، 406). ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 17). =

خاتمة: قال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬1) ومالك: في رواية عنه يكفي في الخطبة تسبيحة أو تحميدة أو تهليلة، وهو ضعيف لأنه لا يسمى خطبة ولا يحصل به [مقصودها] (¬2) مع مخالفة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = فائدة: أول من خطب جالسًا معاويةُ، كما ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (5/ 129)، وانظر: فتح الباري (2/ 401). (¬1) انظر: الاستذكار (5/ 128). (¬2) في الأصل مكررة.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 139/ 5/ 27 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإِمام يخطب فقد لغوت" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: معنى "أنصت": اسكت، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة أيضًا: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا" (¬2)، فجعلهما شيئين، ولا شك أن الاستماع ¬

_ (¬1) البخاري (934)، ومسلم (851)، وأبو داود (1112)، والنسائي (3/ 103، 188)، والترمذي (512)، والموطأ في الجمعة (1/ 103)، والشافعي في المسند (68)، والبيهقي (3/ 219)، وابن ماجه (1110)، وأحمد (2/ 396، 393، 272، 532، 518، 244)، وأبو يعلى (5846)، وابن خزيمة (1805)، والدارمي (1/ 364). (¬2) مسلم (857) في الجمعة، باب: فضل من استمع وأنصت في الخطبة، والترمذي (498) في الصلاة، باب: ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، وقال: هذا حديث حسن، والبغوي (2/ 165).

الإِصغاء، والإِنصات السكوت، ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬1). ويقال: أَنْصَتَ، ونَصَتَ، وانْتَصتَ، ثلاث لغات حكاهن الأزهري في "شرح ألفاظ المختصر" (¬2). ثانيها: قوله "فقد لغوت" يقال: لغا، يلغو، كغدا، يغدو، ولغي يلغي كعمي يعمي، وبالواو والياء في المضارع. وظاهر القرآن يقتضي لغة الياء. في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (¬3)، وهذا من لغا يلغى، ولو كان من الأول لقال: والغوا بضم الغين. قاله ابن السكيت (¬4) وغيره: ومصدر الأول اللغى. والثاني اللغا. ويقال لغوت: ولغيت. وهما روايتان في "صحيح مسلم". والثانية لغة أبي هريرة (¬5). واللغو واللغا. رديء الكلام وما لا خير فيه. وقد يطلق على الخيبة أيضًا. وقيل: معناه ملت عن الصواب. وقيل: تكلمت بما لا ينبغي، وقد قالوا ألغى الرجل يلغوا إذا تكلم بلغته فلا يكون من هذا الباب. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 204. (¬2) الزاهر (79). (¬3) سورة فصلت: آية 24. (¬4) انظر: المشوف (2/ 701). (¬5) انظر: شرح مسلم للنووي (6/ 138).

ثالثها: معنى الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة ونبه بهذا على ما سواه [لأنه] (¬1) إذا قال: "أنصت" وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغوًا فغيره من الكلام أولى، وطريقه إذا أراد نهي غيره عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه، فإن تعذر فهمه فلينهه بكلام مختصر ولا يزيد على أقل ممكن، ولا شك أن الحديث دليل على طلب الإِنصات في الخطبة والناس في ذلك على قسمين: أحدهما: من يسمعها وهؤلاء ضربان ضرب لا تصح الجمعة إلَّا بهم وهو أربعون، أو أقل أو أكثر، على قدر الخلاف فيهم، فهؤلاء يجب عليهم الاستماع بلا شك. وضرب تصح الجمعة بدونهم وهم يسمعون [فيها] (¬2) فهؤلاء تجب عليهم أيضًا عند مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه في الجديد، وأحمد في المشهور عنه، وعامة العلماء مع اتفاقهم (¬3) على كراهة الكلام لهم كراهة تنزيه، والذي يقتضيه الدليل التحريم (¬4). وحكي عن النخعي والشعبي (¬5)، وبعض السلف أنه لا تجب إلَّا إذا تلى الخطيب فيها القرآن (¬6). وما ذكرته في هذين الضربين من ¬

_ (¬1) في ن ب د (لأنها). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في حاشية ن د: يعني الشافعية وأما أكثر العلماء فعلى التحربم. (¬4) انظر: الاستذكار (5/ 44). (¬5) انظر: معجم فقه السلف 2/ 27، 28). (¬6) انظر: الاستذكار (5/ 44).

الجزم بالوجوب في الأولى وحكاية (¬1) الخلاف في الثانية هو ما اختاره الشيخ تقي الدين (¬2) فإنه قال: الشافعي يرى وجوبه في حق الأربعين وفيمن عداهم قولان هذه الطريقة المختارة عندنا. وتبع الشيخ فيها الغزالي فإنه قال: هل يحرم الكلام على من عدا الأربعين فيه قولان؟ وأنكر ذلك عليهم الرافعي، وقال إنه بعيد في نفسه مخالف لما نقله الأصحاب وقد أوضحته في "شرح المنهاج" [مع] (¬3) الاعتذار عن الغزالي فليراجع منه. القسم الثاني: من لا يسمع الخطبة أصلًا. قال القاضي عياض وغيره: اختلف العلماء فيه هل يجب عليه السكوت كما لو كان يسمع؟ قال الجمهور: نعم لأنه إذا تكلم يهوش على السامعين ويشغلهم عن الاستماع. وقال النخعي وأحمد والشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه. ولكن يستحب له (¬4). ¬

_ (¬1) في ن د زيادة في الحاشية (99/ أ). (¬2) أحكام الأحكام (3/ 132). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) أقول: القول الراجح في المذهب عند أصحاب الإِمام أحمدة السكوت حال الخطبة ويحرم الكلام سواء سمع أم لم يسمع وسواء كان بعيدًا أو لعلة كطرش، لئلا يشوش على المصلين، ويجوز الكلام بين الخطبتين وحال الأذان والإِقامة.

قلت: وهذا الحديث يدل للأول فإنه علقه يكون الإِمام يخطب وهو عام بالنسبة إلى سماعه، وعدم سماعه وأما الإِنصات بين خروج الإِمام والخطبة فقال به أبو حنيفة. وأن الإِنصاف يجب بخروجه. وقال مالك والشافعي والجمهور: لا يجب تمسكًا بقوله: "والإِمام يخطب". فرع: لو لغى الإِمام هل يلزم الإِنصات أم لا؟ قولان لأهل العلم ولمالك، حكاهما القرطبي (¬1). رابعها: استدل بهذا الحديث المالكية على عدم تحية المسجد من حيث إن الأمر بالإِنصات أمر بمعروف، وأصله الوجوب فإذا منع منه مع قلة زمانه وقلة اشتغاله فلأن يمنع الركعتان مع كونهما سنَّه وطول الاشتغال والزمان بهما أولى، وقد تقدم ذلك في الحديث الثالث. خامسها: هذا الحديث دال على بطلان حديث ابن عباس (¬2) ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1438). (¬2) قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (3/ 326): إسناده حسن، وهو في مجمع الزوائد (2/ 184)، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير (12/ 90). وفيه مجالد بن سعيد، وقد ضعفه الناس، ووثقه النسائي في رواية وورد من حديث علي - رضي الله عنه - في المسند (2/ 96). وفيه: "ومن نأى عنه فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كِفل من الوزر، ومن قال: صه فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له". قال أحمد شاكر: إسناده ضعيف، لجهالة مولى امرأة عطاء الخراساني. والحديث في مجمع الزوائد (2/ 177). =

المرفوع "من تكلم يوم الجمعة والإِمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارًا والذي يقول له أنصت ليس [له] (¬1) جمعة"، قال الجوزقاني (¬2) في موضوعاته: حديث منكر، وجه الدلالة أنه لم يقل فيه: "فلا جمعة له" وإنما قال: "فقد لغوت". ¬

_ = قال ابن حجر في الفتح (2/ 414): بعد ذكر حديث ابن عباس، وله شاهد قوي في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفًا. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) الأباطيل والمناكير للجوزقاني (2/ 42).

الحديث السادس

الحديث السادس 140/ 6/ 27 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً، ومن راح الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" (¬1). الكلام عليه من وجوه كثيرة يحضرنا منها ثمانية عشر وجهًا ويحتمل إفراده بالتصنيف: ¬

_ (¬1) البخاري (881، 929، 3211)، ومسلم (850) في الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، وأبو داود (351) في الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، والترمذي (499) في الصلاة، باب: ما جاء في التبكير يوم الجمعة، والنسائي (3/ 99) في الجمعة، باب: وقت الجمعة، والبغوي (4/ 234)، والموطأ (1/ 101) في الجمعة، باب: العمل في غسل يوم الجمعة. فائدة: قال الزمخشري في الكشاف (4/ 98): وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مفترضة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أول بدعة حدثت في الإِسلام ترك البكور إلى الجمعة.

أولها: فيه الحث على الغسل يوم الجمعة وقد تقدم الخلاف في وجوبه واستحبابه في الحديث الثاني، لكن في هذا الحديث عموم أكثر من ذلك، فإن عمومه بالمجيء والأمر بالغسل مقيد به، وهنا عمومه من حيث الحث عليه، وعلى التبكير إلى الجمعة سواء كان رجلًا [أم] (¬1) امرأة، وسواء كان صبيًا أم جارية، لأن القربات تصح من هؤلاء كلهم فيشرع لكل مريد للجمعة مطلقًا، وتتأكد في حق الذكور البالغين أكثر من غيرهم من النساء والصبيان المميزين، فإنه في حق النساء قريب من التطيب ولا يكره في حقهن فإنه تنظف محض، وهو مطلوب للجمعة وغيرها وهذه المسألة عندنا فيها أوجه، وأصحها ما ذكرناه. وثانيها: لا يسن إلَّا لمن هو من أهل فرضها. وثالثها: يسن لكل [أحد] (¬2) كغسل العيد ثم المراد بالغسل المذكور في الحديث المتقدم على الرواح لأجل الجمعة من غير مواقعة لزوجة أو جارية، واستحبه بعض أصحابنا ليكون أغض لبصره وأسكن لنفسه، مستدلًّا برواية مسلم (¬3) ["من اغتسل [يوم الجمعة] (¬4) غُسل (¬5) الجنابة". قال النووي: وهو استدلال ضعيف لأن معنى ¬

_ (¬1) في ن ب د (أو). (¬2) في ن ب (واحد). (¬3) من رواية البخاري ومسلم في التعليق رقم (1) ص (151). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب زيادة (كغسل).

الحديث] (¬1) من اغتسل غسلًا كغسل الجنابة في الصفات، لا في الموجبات له، من جماع أو احتلام (¬2). قلت: ويؤيد هذه المقالة قوله - عليه الصلاة والسلام - "من غسَّل واغتسل" (¬3) الحديث فإنه من جملة ما قيل فيه أن المعنى جامع. ثانيها: "الرواح " ظاهر كلام الصحاح أنه لا يكون إلَّا بعد الزوال. وقال القرطبي (¬4): إنه الأصل في اللغة. وأنكر ذلك الأزهري (¬5)، وغلَّط قائله فقال في "شرح ألفاظ المختصر": ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: الفتح (2/ 366)، وشرح مسلم للنووي (6/ 135). (¬3) سنن أبي داود (345) في الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، والترمذي (496) في الصلاة، باب: ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، والنسائي (3/ 97) في الجمعة، باب: فضل المشي إلى الجمعة، وابن ماجه (1087) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة، والبغوي (4/ 236)، وصححه الحاكم (1/ 281)، وابن خزيمة (6758، 1767)، وصححه الألباني، وانظر: كلام صاحب الفتح الرباني (6/ 52)، وقد جاء من رواية عبد الله بن عمرو عند أحمد في الفتح الرباني (6/ 51). (¬4) في المفهم (3/ 1435). (¬5) الزاهر (47 - 79).

معنى "راح" مضى إلى المسجد ويتوهم كثير من الناس أن الرواح لا يكون إلَّا في آخر النهار، وليس ذلك بشيء، لأن الرواح والغُدُوَّ مستعملان في السير أي وقت كان من ليل أو نهار، يقال: راح في أول النهار وآخره يروح وغدا بمعناه. هذا لفظ الأزهري (¬1) وذكر غيره نحوه أيضًا. والمراد به في الحديث: الذهاب أول النهار، وادعى مالك والقاضي حسين، وإمام الحرمين، أن الرواح لا يكون إلَّا بعد الزوال، وقالوا: هذا معناه في اللغة بناء على أن الساعات المذكورة في (¬2) الحديث عندهم لحظات لطيفة إلَّا الساعات التي هي من طلوع الفجر أو طلوع الشمس ورجحه من المتأخرين ابن [الفركاح] (¬3) في "الإِقليد". وقال ابنه الشيخ برهان الدين: إنه الصحيح من [حيث] (¬4) الدليل. ¬

_ (¬1) يطلق الرواح سواء كان في أول النهار أو آخره أو في الليل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى ومن جاء في الساعة الثانية ... إلخ، وفي رواية كما ذكرها المؤلف عند النسائي ومن جاء في الساعة السادسة ثم قال: في آخره "فإذا خرج الإِمام طووا الصحف ولم يكتبوا ... " الحديث، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج إلى الجمعة متصلًا بالزوال فدل على أنه كان للحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل الصف الأول وانتظارها والاشغال بالتنفل والذكر ونحو ذلك ولهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال. (¬2) في ن ب زيادة (هذا). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) في ن ب (حديث).

وحكى الثعلبي عن المفسرين في قوله تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (¬1)، إنها كانت تسير به إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، وكان [مسيرها] (¬2) من انتصاف النهار إلى الليل مقدار شهر. وقال الخطابي (¬3): معنى "راح" قصد الجمعة، وتوجه إليها مبكرًا قبل الزوال، قال: وإنما تأولناه بهذا لأنه لا يبقى بعد الزوال خمس ساعات في وقت الجمعة، وهذا شائع في الكلام تقول: راح فلان بمعنى "قصد" وإن كان حقيقة الرواح بعد الزوال، وهذا [الاستشكال] (¬4) إنما يأتي إذا حملنا الساعات على الأجزاء الزمانية، دون ما إذا حملناها على ترتيب منازل السابقين، وفيه بعد. وقد اختلف [العلماء] (¬5) في ذلك: والصحيح عند العلماء: إن أولها من طلوع الفجر، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: "يوم الجمعة اثنا عشر ساعة"، رواه أبو داود والنسائي من حديث جابر (¬6) بإسناد على شرط مسلم، فجعل الساعات عبارة عن جميع اليوم، لا عن اللحظات اللطيفة، مع أن لفظة راح محتملة لمجرد ¬

_ (¬1) سورة سبأ: آية 12، في تفسير الثعالبي (3/ 240) طبعة الأعلمي بيروت. (¬2) في ن ب (رواحها). (¬3) معالم السنن (1/ 215). (¬4) في ن ب (استشكال). (¬5) زيادة من ن ب. (¬6) النسائي (3/ 99)، وأبو داود عون المعبود (3/ 372)، والحاكم في المستدرك (1/ 279)، وذكره في الفتح (2/ 368)، واقرأ تصحيح الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والبيهقي (3/ 250).

السير أي وقت كان، كما قدمناه عن الأزهري كما أوّل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا} (¬1)، على مجرد السير لا على مجرد السرعة (¬2). وقيل: إن أولها من طلوع الشمس (¬3) وصححه الماوردي (¬4)، وجزم به صاحب "التنبيه" مع أنه صحيح في "المهذب" (¬5) الأول، وقال في هذا: إنه ليس بشيء. وقيل إنها لحظات لطيفة (¬6) بعد الزوال لتوجه الأمر حينئذٍ ثم ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: آية 9. (¬2) قال الزمخشري في الكشاف (4/ 98) على قوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} فذكر قراءةً لبعض الصحابة وهم عمر وابن مسعود وابن عباس "فامضوا"، وعن عمر - رضي الله عنه - أنه سمع رجلًا يقرأ "فاسعوا"، فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبيّ بن كعب، فقال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ لو كانت "فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي. وقيل: المراد بالسعي القصد دون العدو. والسعي: التصرف في كل عمل ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} وعن الحسن ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب، وذكر محمد بن الحسن في موطئه أن ابن عمر سمع الإِقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي، قال محمد بن الحسن: وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه. اهـ. (¬3) انظر: الاستذكار (5/ 9). (¬4) الحاوي (3/ 68، 69). (¬5) المجموع شرح المهذب (4/ 540). (¬6) استدل مالك في بعض ألفاظ حديث الباب "إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس: الأول فالأول فالمهجر =

إن أول من جاء في أول [ساعة] (¬1) من هذه الساعات ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل ثواب أصل البدنة أو البقرة أو الكبش، ولكن ثواب بدنة الأول كمل من ثواب بدنة الآخر والمتوسط، وثواب بدنة المتوسط بينهما، كما إن صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، ومعلوم أن الجماعة تطلق على اثنين وعلى ألوف، فمن صلَّى في جماعة هم عشرة [آلاف مثلًا درجاته أكمل] (¬2) من درجات من صلَّى مع اثنين وأشباه هذا كثير، وقال [الغزالي في "الإِحياء": الساعة] (¬3) الأولى من [طلوع] (¬4) الفجر [إلى] (¬5) طلوع الشمس، والثانية: إلى ارتفاعها، [والثالثة: إلى انبساطها حين] (¬6) ترمض الأقدام، والرابعة، والخامسة: بعد ¬

_ = إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه .... " الحديث، فجعل الأول مهجرًا وهي مأخوذة من الهاجرة والهجر، وذلك وقت النهوض إلى الجمعة وليس ذلك عند طلوع الشمس وإن ذلك الوقت به هاجرة ولا هجير. وتعقبه ابن حبيب المالكي قائلًا: أنه لا تكون ساعات في ساعة واحدة، أن الشمس إنما تزول في الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإِمام إلى الخطبة ثم انقطع التهجير وحان وقت الأذان. (¬1) في ن ب (الساعة). (¬2) في الأصل بياض، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في الأصل بياض، وما أثبت من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) في الأصل (آخر)، وما أثبت من ن ب د. (¬6) في الأصل بياض، وما أثبت من ن ب د.

الضحى، الأعلى إلى الزوال، ولا فضيلة في وقت الزوال (¬1). ثالثها: فيه استحباب التبكير إلى الجمعة أو التهجير كما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة (¬2)، ومذهب الشافعي (¬3) وجماهير أصحابه وابن حبيب (¬4) المالكي وجمهور العلماء استحباب التبكير إليها أول النهار، والساعات عندهم أول النهار، والرواح أوله وآخره كما تقدم، واختار مالك التهجير واستدل عليه بأوجه. ¬

_ (¬1) اختلف العلماء في ذلك، فالجمهور حملوا الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية كما في سائر الأيام، وقد روى النسائي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة". وأما أهل الحساب فيجعلون ساعات النهار ابتداءها من طلوع الشمس ويجعلون الحصة التي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من حساب الليل واستواء الليل عندهم إذا تساوى ما بين المغرب وطلوع الشمس وما بين طلوع الشمس وغروبها. فإن أريد الساعات على اصطلاحهم فيكون ابتداء الوقت المرغب فيه لذهاب الجمعة من طلوع الشمس وهو أحد الوجهين عند الشافعية وقال الماوردي إنه الأصح كما مر. ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمن تأهب وغسل. وقيل: إنه من طلوع الفجر، وعندهم قول ثالث إنه من الزوال كالمالكية. وقال الرافعي: ليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات وفضل السابق على الذي يليه. اهـ. (¬2) انظر التعليق رقم (1) ص (151)، وجاء أيضًا من رواية أوس بن أوس، عند أبي داود (345)، والترمذي (496)، والنسائي (3/ 95) وغيرهم. (¬3) انظر: الأم (1/ 196). (¬4) انظر: الاستذكار (5/ 11).

أحدها: أن التهجير: والمهجر إنما يكون في الهاجرة. قال الجوهري (¬1): وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، ومن خرج من بيته عند طلوع الشمس مثلًا أو بعد طلوع الفجر لا يقال له مهجر. وأجيب عن ذلك: بأن التهجير مشتق من الهجر: وهو ترك المنزل أي وقت كيف كان. وقال الشيخ تقي الدين: إنه بعيد (¬2). قلت: فيه نظر، فقد قال الخليل بن أحمد: وغيره من أهل ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (288). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 142). قال ابن حجر في الفتح (2/ 369): التهجير: مشتق من التهجر، وهو السير في وقت الهاجرة، وأجيب: بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت، وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقًا من الهجير بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك، وقال التوربشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبًا، بخلاف ما بعد زوال الشمس فإن الحر يأخذ في لانحطاط، ومما يدل على استعمالهم التهجر في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب: "تهجرون تهجير الفجر" واحتجوا أيضًا بأن الساعة لو لم تطل للزم تساوي الآتين فيها والأدلة تقتضي رجحان السابق.

اللغة كما نقله النووي (¬1). التهجير: التبكير ومنه الحديث: "لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه" (¬2) أي التبكير إلى كل صلاة. وقال الفراء وغيره: التهجير السير في الهاجرة. [و] (¬3) قال النووي (¬4): في "شرحه"، والصحيح [عندنا] (¬5) أن التهجير التبكير. ثانيها: أن المراد بالساعات اللحظات، وقد سلف بطلانه واستدلوا على ما قالوه بأن العرف واستعمال الشرع لا يدلان على استعمال الساعات بحساب والآت، وإن دل فالمراد بها الظرفية التي يقع فيها المراتب في الذهاب، وقد بينا تسمية الشارع لها حيث قال: "يوم الجمعة ائنا عشر ساعة". فإن قلت: لم لا تُحمل الساعة هنا على اللغوية وهي القطعة من الزمان غير محدودة بمقدار -قال تعالى-: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (6/ 145). (¬2) البخاري (615، 654، 721، 2689)، ومسلم (437) في الصلاة، باب: تسوية الصفوف وفضل الصف الأول، من حديث أبي هريرة. اهـ. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) انظر: شرح مسلم (6/ 145). (¬5) في ن ب (هنا). (¬6) سورة الروم: آية 55.

قلت: حمله على الساعات التي هي اثني عشر أولى [لظهورها] (¬1) ويؤيده الحديث السالف. ثالثها: أن الساعة السادسة لم تذكر في هذا الحديث. والجواب: أن في النسائي (¬2) "بعد الكبش، بطة، ثم دجاجة، ثم بيضة". وفي رواية (¬3) له بعد الكبش: "دجاجة، ثم عصفور، ثم بيضة". وإسنادهما صحيح، فزال الإِشكال، ودل [على أنه لا شيء] ¬

_ (¬1) في ن ب (لظهوره هنا). (¬2) النسائي (3/ 98). (¬3) النسائي (3/ 99). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- (2/ 368): وقد وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق البيت عنه زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور وتابعه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ "فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى علية الطير إلى العصفور" الحديث، ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور، ووقع عند النسائي أيضًا من حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة البطة بن الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد الرزاق وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها. اهـ. وقال أيضًا في التلخيص الحبير (2/ 69): قال النووي: وهاتان الروايتان شاذتان وإن كان إسنادهما صحيحًا. اهـ. قال في الفتح الرباني (6/ 59): رواية العصفور ليست شاذة بل لها شاهد من رواية أبي سعيد الخدري، رجاله ثقات وأورده الهيثمي في المجمع، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات وحسنه المنذري ... إلخ.

من الهدى والفضيلة لمن جاء بعد الزوال وأن ذكر الساعات إنما كان الحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظار الصلاة وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال، لأن النداء [يكون] (¬1) حينئذٍ، ويحرم التخلف بعده. رابعها: أن الرواح إنما يكون بعد الزوال فحافظوا على حقيقة "راح" وتجوزوا في لفظ "الساعة" وقد سلف ما قيل في الرواح والساعة. خامسها: الحديث يقتضي أن يتساوى مراتب الناس: في كل ساعة، فكل من أتى في الأولى كان كالمقرب بدنة، وكل من أتى في الثانية كان كالمقرب بقرة، مع أن الدليل يقتضي أن السابق لا يساويه اللاحق، وقد جاء في الحديث ثم الذي يليه. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ويمكن أن يقال في هذا: إن التفاوت يرجع إلى الصفات. قلت: وهو كما قال كما سلف، لكن روى أبو قرة في حديث أبي هريرة (¬3) هذا النبي كل ساعة من هذه الساعات الخمس وأول الساعة وآخرها سواء" والظاهر أنه يُؤوَّلُ على ذلك. فائدة: يستثنى الإِمام من التبكير اتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نبه ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 143). (¬3) ذكرها ابن حجر في الفتح وسكت عنها (2/ 370).

على ذلك الماوردي من أصحابنا (¬1). الوجه الرابع: من الكلام على الحديث فيه بيان لمراتب الناس في الفضائل في الجمعة وغيرها بحسب أعمالهم وذلك يعرف أيضًا من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2). الخامس: معنى "قرّب" تصدق و"البدنة" عند جمهور أهل اللغة وجماعة من الفقهاء كما نقله النووي عنهم في "شرح مسلم" يقع على الواحد من الإِبل والبقر والغنم. سميت بذلك: لعظم بدنها لكن الفيل يشترك معها في ذلك ولا يسمى بدنة. وخصها جماعة: بالإِبل وهو المراد بالحديث اتفاقًا، لأنها (¬3) قوبلت فيه بالبقر والكبش، وحيث أطلقت البدنة [في الحديث] (¬4) المراد بها ما يجزئ في الأضحية. وقال الماوردي: في تفسير قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ} (¬5). ¬

_ (¬1) استنبطها الماوردي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خرج الإِمام" وتعقبه. قال ابن حجر في الفتح (2/ 366): وما قاله غير ظاهر لإِمكان أن يجمع بين الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجماع إلَّا إذا حضر الوقت، أو عمل على من ليس له مكان. (¬2) سورة الحجرات: آية 13. (¬3) في ن ب زيادة (لو قبلت). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) سورة الحج: آية 36. انظر: تفسير الماوردي (4/ 26).

قال الجمهور: [هي] (¬1) الإِبل. وقيل: الإِبل والبقر. وقيل: هما والغنم وهو شاذ، [ووقع] (¬2) في "التحرير" للنووي -رحمه الله- عن الأزهري أنه قال: البدنة: "تكون من الإِبل [والبقر] (¬3) والغنم"، وعزاه في "تهذيبه" (¬4) إلى شرح "المختصر" له، والذي فيه ما نصه "والبدنة لا تكون إلَّا من الإبل، وأما الهدي: فيكون من الإِبل والبقر والغنم"، انتهى. فسقط من قوله "لا تكون" إلى قوله "يكون" إما لغلط في النسخة أو لانتقال نظره من أحد الموضعين إلى الآخر فتنبه لذلك، وقد وقع في هذا الوهم الحافظ محب الدين الطبري في "أحكامه" في كتاب الحج والظاهر أنه تبع فيه النووي. وادعى بعض الشافعية: أن استعمال [البدنة] (¬5) في الإِبل أغلب وبنى على ذلك أنه [لو] (¬6) قال: لله عليّ أن أضحي ببدنة [و] (¬7) لم يقيد بالإِبل لفظًا ولا نية. والإِبل موجودة هل يتعين فيه وجهان ¬

_ (¬1) في الأصل (وهي). (¬2) في الأصل بياض. (¬3) في الأصل بياض. (¬4) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 21). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) زيادة من ن ب. (¬7) في ن ب (أو).

أحدهما نعم لما قلناه (¬1). والثاني: أنه يقوم مقامها بقرة أو سبع من لغنم حملًا على ما علم من الشرع من إقامتها مقامها، والأول أقرب، كما قال الشيخ تقي الدين (¬2)، قال: فإن لم توجد الإِبل فوجهان: أحدهما: يصبر إلى أن توجد. والثاني: تقوم مقامها البقرة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ما بعده. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 146). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (2/ 367): قال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلَّا من الإِبل وصح ذلك عن عطاء، وأما الهدي فمن الإِبل والبقر والغنم، هذا لفظه، وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإِبل والبقر والغنم. وكأنه خطأ نشأ عن سقط، انظر تعديل السقط قبل هذا بأسطر من الشرح، وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها، انتهى. والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف، واستدل به على أن البدنة تختص بالإِبل لأنها قوبلت بالبقرة عند الإِطلاق، وقسم الشيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد، وقال إمام الحرمين: البدنة من الإِبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعًا من الغنم. وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا قال: الله عليَّ بدنة، وفيه خلاف، الأصح تعين الإِبل إن وجدت، وإلَّا فالبقرة أو سبع من الغنم، وقيل: تتعين الإِبل مطلقًا، وقيل يتخير مطلقًا. اهـ. وقال المطرزي في المغرب (1/ 62): البدنة: في اللغة من الإِبل خاصةً، ويقع على الذكر والأنثى. قال أبو هلال العسكري -رحمنا الله وإياه- في كتابه الفروق (ص 250) الفرق: بين البدنة والهدي أن البدن ما تبدن من الإِبل أي تسمن يقال: =

واعلم: أن "البدنة" تطلق على الذكر والأنثى بالاتفاق والهاء فيها للواحدة كقمحة وشعيرة من نحوهما من أفراد الجنس وفي "شرح البخاري لابن التين"، تعجب مالك ممن قال لا تكون البدنة من الإِناث. وجمع البدنة: بُدْنٌ بإسكان الدال وضمها لغتان حكاهما الجوهري (¬1)، بالإِسكان. جاء القرآن، وقرأ بالضم ابن [أبي] (¬2) إسحاق. السادس: "البقرة" تطلق على الذكر والأنثى والهاء فيها للواحدة أيضًا. سميت بذلك: لأنها تبقر الأرض، أي تشقها بالحراثة. ¬

_ = بدنت الناقة إذا سمنتها وبدن الرجل سمن ثم كثر ذلك حتى سميت الإِبل بدنًا مهزولة كانت أو سمينة فالبدنة اسم يختص به البعير إلَّا أن البقرة لما صارت في الشريعة في حكم البدنة قامت مقامها وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" فصارت البقر في حكم البدن ولذلك كان يقلد البقرة كتقليد البدنة في حال وقوع الإِحرام بها لسايقها ولا يقلد غيرها. والهدي يكون من الإِبل والبقر والغنم ولا تكون البدنة من الغنم والبدنة لا يقضي أهداؤها إلى موضع والهدي يقتضي إهداؤه إلى موضع لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}، فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي فإن قال عليَّ بدنة جاز له نحرها بغير مكة وهو كقوله عليّ جزور ومن قال عليّ هدي لم يجز أن يذبحه إلَّا بمكة ... الخ. (¬1) مختار الصحاح (26). (¬2) في ن ب ساقطة.

والْبَقْرُ: الشق. ومنه قولهم: بقر بطنه أي شقه. ومنه سمي محمد الباقر: لأنه بقر العلم ودخل فيه مدخلًا بليغًا، ووصل منه غاية مرضية، وأهل اليمن يسمون البقرة باقورة، وفي الحديث (¬1) "في ثلاثين باقورة بقرة"، وفي ذكر البقرة بعد البدنة دلالة لمن يقول إن البدنة لا تكون إلَّا من الإِبل، لكنا أسلفنا أن المراد هنا بالبدنة الإِبل. السابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "كبشًا أقرن" وصفه بالأقرن لكماله به. وحُسْن صورته، ولأنه ينتفع به، فهو أفضل من الأجم، وفي "صحيح ابن خزيمة" (¬2) "شاة" بدل "الكبش الأقرن"، و "طائر" بدل "الدجاجة". الثامن: "الدجاجة" بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان. قال أبو المعاني في "المنتهى": والفتح أفصح. وحكى الليث عن ابن طلحة: الضم أيضًا (¬3)، وهذا لفظه ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير -رحمه الله- في النهاية (1/ 145): وفي كتاب الصدقة لأهل اليمن "وفي ثلاثين باقورة بقرة"؛ الباقورة بلغة اليمن: البقر، هكذا قال الجوهري -رحمه الله-، فيكون قد جعل المميز جمعًا. (¬2) ابن خزيمة (3/ 133، 134). انظر: مسند أحمد (2/ 457) إسناده صحيح. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (2/ 367): وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح الحيوان؛ وبالكسر من الناس. اهـ.

يقال: دَجاجة ودِجاجة ودُجاجة باللغات الثلاث، وكذلك في الجمع الدَجاج الدِجاج الدُجاج، ولم يذكر النووي في كتبه الضم فاستفده. سميت بذلك: لإقبالها وإدبارها يقع [على] (¬1) الذكر والأنثي. وجمعها: دجاج، ودجاجات ذكره ابن سيده (¬2). ودخلت الهاء في الدجاجة لأنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة وحية ونحوها. التاسع: "البيضة" جمعها بيض ويجمع البيض على بيوض قاله ابن سيده. العاشرة فيه أن القربان والْهَدْيَ والصدقةَ تقع على القليل والكثير من غير الإِبل والبقر والغنم، وقد قال به بعض أصحابنا، وهي أقرب إلى الرواية التي فيها لفظ كالمهدي بدنة. الحادي عشر: فيه أن الأضحية بالإِبل أفضل من البقر، لأنه - عليه الصلاة والسلام - جعل الإِبل في الدرجة الأولى، والبقر في الثانية. وقد أجمع العلماء: على أن الإِبل أفضل من البقر في الهدايا. واختلفوا في الأضحية. فمذهب الشافعي وأبي حنيفة والجمهور: أن الإِبل أفضل من البقر، ثم الغنم، كما في الهدايا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في المخمص (8/ 167).

ومذهب مالك: أن أفضل الأضحية الغنم ثم البقر، ثم الإِبل. ومنهم من قدم الإِبل على البقر، قالوا: لأنه - عليه الصلاة والسلام - ضحى بكبشين، ولأن لحم الغنم أطيب، فكان أفضل، لكن حديث الباب يخالف هذا، وهو حجة الجمهور مع القياس على الهدايا، وتضحيته - عليه الصلاة والسلام - بكبشين لا يدل على الأفضلية، بل يفيد الجواز، وطيب اللحم من الغنم معارض بكثرته من الإِبل والبقر، ولعله - عليه الصلاة والسلام - لما ضحى [بهما لم يجد غيرهما في ذلك الوقت، كما ثبت في الصحيح (¬1) أنه - عليه الصلاة والسلام - ضحى] (¬2) عن نسائه بالبقر وفرقوا بين الهدايا والضحايا بأن الغرض في الضحايا استطابة اللحم، وفي الهدي كثرته، وقد يمنع هذا الفرق واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (3/ 551)، ومسلم (2/ 876)، وابن ماجه (2981)، وأحمد (6/ 194)، وابن خزيمة (4/ 289)، والمنتقى لابن الجارود (2/ 103). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة الصافات: آية 107. اختلف الفقهاء في ذلك: فمذهب مالك: أفضل الضحايا فحول الضأن، أفضل من فحول المعز، وفحول المعز أفضل من إناثها، وإناث المعز أفضل من الإِبل والبقر في الضحايا. أدلتهم: أولًا: احتجوا بالآية {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}، وهو كبش لا جمل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا بقر. ثانيًا: أن فداء إسماعيل - عليه السلام - بهذا الكبش دليل على أفضليته إذ لو علم الله غيره أفضل منه لفداه به. ثالثًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين. رابعًا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزل جبريل في يوم عيد فقلت: يا جبريل، كيف ترى عيدنا؟ فقال: يا محمد، لقد تباهى به أهل السماء، وقال: اعلم يا محمد أن الجذع من الضأن خير من المسن من المعز والبقر والإِبل، ولو علم الله ذبحًا خيرًا منه لفدى به إبراهيم ابنه"، قال ابن عبد البر: لا أعلم له إسنادًا غير هذا، انفرد به الحنيني وليس ممن يحتج به. خامسًا: أن الكبش أول قربان تقبله الله، ثم فدى بمثله الذبيح وقد ردَّ المخالفون على استدلالهم بالآية: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}، فجائز أن يطلق عليه عظيم لما ذكر عن ابن عباس: أنه رعي في الجنة أربعين خريفًا، وأنه الذي قرَّبه ابن آدم فتقبل منه ورفع إلى الجنة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الجزور في الأضحية أفضل ما ضُحي به، ثم يتلوه البقر، ثم يتلوه الشاة. وحجتهم: حديث "فكأنما قرب بدنة" ... إلخ، إجماعهم على أن أفضل الهدايا الإِبل، فكان هذا الإِجماع يقضي على ما اختلفوا فيه من الضحايا لأنها نسكان شريعة، وقربان، وقد قالوا ما استسير من الهدي "شاة" فدل ذلك نقصانه عن مرتبة ما هو أعلى منه. حديث أفضل الرقاب لما سئل فقال: "أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها"، ومعلوم أن الإِبل أغلى وأنفس عند الناس. مذهب الشافعية: الإِبل، والبقر، الضأن، المعز. اهـ، من الاستذكار (5/ 14). أما في الهدي فالتقرب بالإِبل أفضل من غيرها بالاتفاق، لأن المقصود في الهدي التوسعة على الفقراء وأما في الضحايا فهو التذكير بقصة الذبيح.

الثاني عشر: ظاهر هذا الحديث أو نصه يقتضي أن هذا التقريب المذكور لا يحصل إلَّا لمن اغتسل ثم راح، لتصدير الشرط به وهو كلمة "من" وعطف الرواح عليه بـ "ثم" المرتبة نعم من راح في الساعة الأولى مثلًا من غير اغتسال كان له فضل على من راح بعده، ولكن لا يحصل له أجر التقريب المذكور المشروط بالاغتسال. الثالث عشر: في رواية لمسلم "أهدى دجاجة وأهدى بيضة" وليس هذان مما يطلق عليهما اسم هدي، واعتذر عن ذلك بأنه لما عطفه على ما قبله من الهدايا لزمه حكمه في اللفظ كقوله: "متقلدًا سيفًا ورمحًا" أي وحاملًا رمحًا، وكذلك هنا لأنه كالمتقرب بالصدقة بدجاجة وبيضة، وأطلق على ذلك اسم الهدي لتقدمه وتحسين الكلام به. وأما رواية: "قرب" فاعتذر عنها أيضًا بأنه ضرب من التمثيل للأجور ومقاديرها لا أنه يكون أجر هذا كأجر هذا وتكون الدجاجة في التمثيل والبيضة بقدر إحداهما من أجر البدنة لو كان هذا مما يهدى. قال ابن بطال: وبعض العلماء يقول ليست الغنم بهدي، والأكثرون على خلافه. قال القاضي عياض: وفائدة الخلاف فيمن قال: علىّ هدي هل تجزئه شاة أم لا؟ وأجاز ذلك مرة مالك، ومرة لم يجزها إلَّا لمن

قصر النفقة (¬1). الرابع عشر: ادعى بعض المعلقين أنه قد يتمسك بهذا الحديث لمذهب الإِمام [أحمد] (¬2) في فعلها قبل الزوال لقوله بعد الخامسة "فإذا خرج الإِمام" "والفاء" للتعقيب وهو عجيب، فهو ذهول عن رواية النسائي السالفة التي فيها ست ساعات، ثم هذا إنما يمشي إذا اعْتُبِر الساعات الزمانية، وقد تقدم الخلاف فيه. الخامس عشر: "حضر" -بفتح- الضاد أفصح من كسرها وبه جاء القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 367)، واستشكل التعبير في الدجاجة والبيضة بقوله في رواية الزهري "كالذي يهدي" لأن الهدي لا يكون منهما، وأجاب القاضي عياض تبعًا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فيكون من الإِتباع كقوله: "متقلدًا سيفًا ورمحًا" وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن شرط الأتباع أن لا يصرح باللفظ في الثاني يقوله: هو من تسمية الشيء باسم قرينة. وقال ابن دقيق العيد: قوله: "قرب بيضة"، وفي الرواية الأخرى: "كالذي يهدي" يدل على أن المراد بالتقريب الهدي. وينشأ منه أن الهدى يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديًا هل يكفيه ذلك أو لا، انتهى، والصحيح عند الشافعية الثاني، وكذا عند الحنفية والحنابلة، وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به جائز الشرع أو واجبه؟ فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به، وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس، ويقوي الصحيح أيضًا أن المراد بالهدي هنا التصدق كما دل عليه لفظ التقرب، والله أعلم. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة النساء: آية 8.

وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر"، ومقتضاه خروج الإِمام بعد الساعة الخامسة، وتطوي الملائكة الصحف لاستماع الذكر، وخروج الإِمام إنما يكون بعد الساعة السادسة [ويبين] (¬1) ذلك رواية النسائي السالفة، وهذا إنما يأتي إذا قلنا إن المراد بالساعات الزمانية التي يومها اثني عشر ساعة، وهو الصحيح كما سلف، فأما إذا جعلنا المراد بها اللحظات بعد الزوال، أو جعلنا ذلك عبارة عن ترتيب منازل [السابقين] (¬2) فلا إشكال (¬3). السادس عشر: المراد بهؤلاء الملائكة غير الحفظة ووظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، واستماعهم [للذكر] (¬4) الذي هو الوعظ والتذكير تشريفًا له ولسامعه وتعظيمًا لقدر الجمعة، وشهادة لهم بذلك جميعه. السابع عشر: جاء في رواية لمسلم: "فإذا جلس الإِمام طووا الصحف"، ولا تعارض بينها وبين رواية الكتاب، بل ظاهرها أنه [بخروج] (¬5) الإِمام يحضرون فلا يطوون الصحف، فإذا جلس ¬

_ (¬1) في ن ب (وبين). (¬2) في ن ب (السالفين). (¬3) انظر: الفتح (2/ 368). (¬4) في ن ب (الذكر). (¬5) في ن ب (يخرج).

طووها. قاله النووي في "شرحه" (¬1) لكن روى ابن أبي شيبة (¬2) من حديث علي بن زيد عن أوس بن [خلف] (¬3) عن عبد الله بن عمر مرفوعًا "إن الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الناس على منازلهم جاء فلان من ساعة كذا وكذا، جاء فلان من ساعة كذا، جاء فلان والإِمام يخطب، جاء فلان ولم يدرك الخطبة" وهذا يدل على أن كتبهم لا ينقطع بجلوس الإِمام على المنبر، وقال ابن بزيزة: [طي] (¬4) الصحف عبارة على أنهم لا يكتبون، فهل هو تنبيه على فضيلة البكور بحيث إنه إن لم يبكر لا يكتب له مثل ما يكتب للمبكر [أو نفي للكتب] (¬5) مطلقًا في حق غير المبكر، وهو ظاهر اللفظ. فائدة: روى ابن خزيمة (¬6) من حديث عبد الله بن عمرو: "فإذا خرج الإِمام رفعت الأقلام، فتقول الملائكة بعضهم لبعض، ما حبس فلانًا، فتقول الملائكة: اللهم إن كان ضالًّا فاهده، وإن كان مريضًا فاشفه، وإن كان عائلًا فَأَغْنِهِ". الثامن عشر: في الحديث أن حضور هؤلاء الملائكة لازم ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (6/ 146). (¬2) ابن أبي شيبة (2/ 152). (¬3) في ن ب د (خالد). (¬4) في ن ب (على). (¬5) في ن ب (الكتب). (¬6) ابن خزيمة (3/ 134)، وسكت عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 361)، وقال الألباني: إسناده ضعيف.

بخروج الإِمام للخطبة المشتملة على ذكر الله -تعالى- والوعظ والتذكير، واستماع ذلك، كما سلف [لا] (¬1) لاستماع ما أحدث فيها من البدع وغيرها، فإن ذلك تكتبه الحفظة على فاعله والراضي به بلسانه وأما الراضي به بقلبه فإن الله -تعالى- مطلع عليه دون الحفظة من الملائكة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث السابع

الحديث السابع 141/ 7/ 27 - عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - وكان من أصحاب الشجرة، قال: "كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌ يستظل به". وفي لفظ: "كنا [نجمّع] (¬1) مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وهو نسبة إلى جده، وهو سلمة ابن عمرو بن الأكوع. واسم الأكوع: سنان. ¬

_ (¬1) في ن ب (نجنمع). (¬2) البخاري (4168)، ومسلم (860) في الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، ورواه أيضًا أبو داود برقم (1085) في الصلاة، باب: في وقت الجمعة النسائي (3/ 100) في الجمعة، باب: وقت الجمعة، وابن ماجه (1100) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في وقت الجمعة، والدارمي (1/ 363) في الصلاة، باب: في وقت الجمعة.

وكنية سلمة: إياس بابنه إياس وهو الأكثر. وقيل: أبو مسلم، ورجحه جماعة. وقيل: غير ذلك. وسلمة: مدني حجازي أحد من بايع تحت الشجرة بايعه [ثلاثًا] (¬1) وبايعه يومئذ على الموت، وغزا عدة غزوات [قال: غزوت معه سبعًا ولي البعث سبعًا. ويقال: إنه شهد غزوة مؤتة] (¬2). واستوطن الربذة بعد قتل عثمان. مات بالمدينة سنة أربع وسبعين، وعمَّر طويلًا عاش ثمانين سنة. وكان شجاعًا، راميًا، حبرًا، فاضلًا، يسبق الفرس سدًا، وكلمه الذئب في القصة المشهورة، وقد كلَّم الذئب رافع بن عميرة الصحابي (¬3) أيضًا. وقال ابنه إياس: ما كذب أبي قط. وقال - عليه الصلاة والسلام -: "خير رجالتنا سلمة ابن الأكوع"، وكان يُصَفِّرُ لحيته ورأسه. وكان يرتجز بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره، روى عنه ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب مكررة. قال السفاريني -رحمنا الله وإياه- في شرح ثلاثيات مسند الإِمام أحمد (2/ 735): قال المهلب: أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد بيعة سلمة لعلمه بشجاعته وغنائه في الإِسلام، وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة ليكون له في ذلك فضيلة. اهـ. (¬3) انظر: الإِصابة (2/ 188).

ابنه إياس ومولاه يزيد بن أبي عبيد وهو آخر من حدث عنه وغيرهما، له أحاديث جملتها سبعة وسبعون اتفقا منها على ستة عشر، وانفرد [البخاري] (¬1) بخمسة، [ومسلم] (¬2) بتسعة. الثاني: في ألفاظه. الأول: "الظل" أصله الستر، ومنه أنا في ظل فلان، وظل الجنة وظل شجرها، وظل الليل سواده لأنه يستر كل شيء. "والفيء" لا يكون إلَّا بعد الزوال، ولا يقال لما قبل الزوال: "فيء" وإنما يسمى بعد الزوال فيئًا، لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب، أي رجع. والفيء: الرجوع، قاله كلَّه ابنُ قتيبة (¬3) في أول "أدب الكاتب". وقال: يذهبون يعني العوام أن الظل والفيء بمعنى، وليس كذلك بل الظل يكون غدوة وعشية، ومِنْ [أول] (¬4) النهار وآخره، وما ذكره هو الصواب. وفيه أقوال أخر ذكرتها [الإِشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات] (¬5) فراجعها منه إن شئت. ¬

_ (¬1) في ن ب د (رموز خ م). (¬2) في ن ب د (رموز خ م). (¬3) أدب الكاتب (24). (¬4) في ن ب (أهل). (¬5) في المخطوطة (في الإِشارات لغات المنهاج)، وما أثبت العنوان الصحيح.

الثاني: قوله "وليس للحيطان ظل نستظل به" لبس نفيًا لأصل الظل، بل نَفَى ظلًا يستظلون به مع أن جدرانهم كانت قصيرة، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، مع أن أهل الحساب قالوا إن عرض المدينة خمسة وعشرون درجة فإذًا غاية الارتفاع [بسبعة] (¬1) وثمانون، فلا تسامت الشمس الرؤوس، وإذا لم تسامت الرؤوس لم يكن ظل القائم تحته حقيقة، بل لا بد من ظل فامتنع أن يكون المراد نفي أصل الظل، فيكون المراد ظلًا يكفي أبدانهم للاستظلال، ولا يلزم من ذلك وقوع الصلاة ولا شيء من خطبتها ولو طالت القراءة فيما قبل الزوال. الثالث: قوله "نجمّع" -بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة- أي نُقيم الجمعة. الرابع: قوله "نتتبع الفيء" إنما كان ذلك لشدة التبكير، وقصر حيطانهم، لكنه كان فيء يسير. الوجه الثالث: في أحكامه: فيه دلالة على أن وقت الجمعة وقت الظهر لا يجوز إلَّا بعد الزوال، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي، وجماعة العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ولم يخالف في ذلك إلَّا أحمد وإسحاق فقالا: بجوازها قيل الزوال. قال الخرقي: في السادسة (¬2) تمسكًا بهذا الحديث من حيث ¬

_ (¬1) في ن ب (سبعة)، ون د (تسعة). (¬2) أي وقت صلاة الجمعة في الساعة السادسة.

إنه يقع بعد الزوال الخطبتان والصلاة مع ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها بالجمعة والمنافقون وذلك يتقضي زمانًا يمتد فيه الظل بحيث كانوا ينصرفون منها وليس للحيطان "فيء" يستظلون به ربما اقتضى ذلك أن تكون واقعة قبل الزوال وخطبتاها أو بعضها، لكن الرواية الثانية تبين منه وقوع جميعه بعد الزوال، ولا يلزم من قراءته الجمعة و [المنافقون] (¬1) الدوام، وما [تمسكنا] (¬2) به من الرواية الأولى فهو وهم لما بيناه. قال القاضي عياض: وروي في هذا [شيء] (¬3) عن الصحابة لا يصح شيء منها إلَّا ما عليه الجمهور، وحملوا الحديث على المبالغة في تعجيلها، وكذا حديث سهل في الصحيحين (¬4) "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلَّا بعد الجمعة"، وإنهم كانوا يؤخرون الغداء والقيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها خافوا فوتها أو فوت التبكير إليها. ¬

_ (¬1) في ن ب (المنافقين). (¬2) في ن ب د (تمسكًا). (¬3) في ن ب (أشياء). (¬4) البخاري (938، 939، 941، 2349، 5403، 6248، 6279، 6279)، ومسلم (859)، وأبو داود (1086)، والترمذي (525)، وأحمد (3/ 433، 5/ 336)، وابن ماجه (1099)، والبيهقي (3/ 241)، وابن خزيمة (1875، 1876).

و [قد] (¬1) رُوي عن مجاهد: "أنها صلاة عيد" (¬2). قال القرطبي (¬3): ويلزم عليه أن لا تنوب عن ظهر يوم الجمعة، كظهر يوم العيد. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) المحلى (5/ 63)، وذكره في المفهم (3/ 1452)، والمغني (2/ 243)، والمجموع (4/ 511). (¬3) المفهم (3/ 1452).

الحديث الثامن

الحديث الثامن 142/ 8/ 27 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: "صلاة الفجر" يعني صلاة الصبح، وقد تقدم أسماؤها في باب المواقيت في الحديث الرابع منه. الثاني: "تنزيل" بضم اللام على الحكاية. الثالث: اختلف في الحروف المقطعة في أوائل السور على قولين: أحدهما: أنها من المتشابه الذي انفرد الله [بعلمها] (¬2) ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها، وتمر كما جاءت. وأصحها وهو قول الجمهور: يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي يتخرج عليها، وفي ذلك أقوال ¬

_ (¬1) البخاري (891، 1068)، ومسلم (879)، والنسائي (2/ 159). (¬2) في ن ب (بعلمه).

عديدة، ومحل [الخوض] (¬1) منها ما لخصته من تفسير القرطبي، فإن شئت فراجعها منه. وموضع "ألم" من الإعراب وقع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه ابتداء أو نصب بإضمار فعل، أو خفض بالقسم، قال ابن خطيب زملكًا (¬2) في "برهانه": وفواتح السور منحصرة في نصف حروف المعجم، لأنها أربعة عشر حرفًا، وهي الألف واللام والميم والصاد والواو والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف، والنون. وهذا واضح على من عَدَّ حروف [الهجاء] (¬3) ثمانية وعشرين حرفًا. وقال: "لَا" مركبة من اللام والألف وإن كان بعيدًا أي مع أنه هو المشهور في التهجي. والصحيح أنها تسعة وعشرين والنطق بلا في التهجي كالنطق بلا في لا رجل في الدار. وذلك أن الواضع جعل كل حرف من حروف التهجي صدر اسمه إلَّا الألف فإنه لما لم يمكن أن يُبْدَأَ به لكونه مطبوعًا على السكون ولا يقبل الحركة أصلًا فوصل إليه باللام لأنه تناسبه في الامتداد والانتصاب (¬4)، ولذلك يكتب على سورة الألف. ¬

_ (¬1) في الأصل (القول)، وما أثبت من ن ب. (¬2) هو عبد الواحد بن عبد الكريم أبو المكارم. انظر: طبقات الشافعية للسبكي (8/ 316). (¬3) في ن ب (المعجم). (¬4) انظر: البرهان (ص 58).

قال: [وفي] (¬1) إعجازها: مجيئها في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف. قال: وكما روعي تنصيفها باعتبار هجائها روعي بتنصيفها باعتبار أجناسها. يريد أن كل جنس من أجناس الحروف كالمهموسة والرخوة والشديدة وغير ذلك من أجناسها قد نصفت فاستعمل نصفها في القرآن. وأهمل النصف الآخر، ثم إن النصف المستعمل هو الأخف، وأكثر استعمالًا من المهمل. الرابع: في الحديث دليل على أنه يجوز أن يقول قرأت الفاتحة، وقرأت البقرة، من غير ذكر السورة، إذ لم يقل كان يقرأ سورة ألم، ولا سورة هل أتى، وفيه أيضًا دليل على إبطال قول من قال لا يقال سورة كذا، وإنما يقال السورة التي [يذكر] (¬2) فيها كذا. الخاص: فيه دليل أيضًا على استحباب قراءةً هاتين السورتين في صلاة الصبح يوم الجمعة، والسجود عند قراءةً آية السجدة وغيرها من الفرائض، وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - ومن وافقه. وقال ابن بطال: ذهب أكثر العلماء إلى [أن] (¬3) القول بهذا ¬

_ (¬1) في ن ب (ومن). (¬2) في ن ب (ذكر). (¬3) في ن ب ساقطة.

الحديث روي عن علي وابن عباس، وأجازوا أن تقرأ السورة فيها سجدة في الفجر يوم الجمعة، واستحبه النخعي وابن سيرين. قال: وهو قول الكوفيين والشافعي وأحمد، وقالوا: هو سنة، قال: واختلف قول مالك في ذلك، فروى ابن وهب عنه لا بأس أن يقرأ الإِمام بالسجدة في الفريضة. وروى أشهب عنه: أنه كره للإِمام ذلك إلَّا أن يكون من خلفه قليل لا يخاف أن تختلط [عليهم] (¬1). قلت: والكراهة هو ما في المدونة، وسببها خشية التخليط على المأمومين، وعلل أيضًا بخوف زيادة سجدة في الفرض، وهو تعليل فاسد كما قال القرطبي (¬2) بشهادة هذا الحديث. وبحديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع، فرأينا أنه قرأ بتنزيل السجدة" رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه على الصحيحين (¬3) ثم قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ¬

_ (¬1) في ن ب (عليه). (¬2) المفهم (3/ 1476). (¬3) أبو داود (770) في الصلاة، باب: قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر، الحاكم. قال ابن باز في تعليقه على الفتح (2/ 378): على قوله: "لكن صح من حديث ابن عمر"، في تصحيحه نظر، والصواب أنه ضعيف، لأن في إسناده عند أبي داود رجلًا مجهولًا يدعى أمية كما نص على ذلك أبو داود في رواية الرملي عنه، ونبه عليه الشوكاني في نيل الأوطار، والله أعلم.

قال وهو سنَّة صحيحة غريبة أن الإِمام يسجد فيما يُسِر بالقراءة مثل سجوده فيما يعلن، ومن العجب تخصيص بعض أصحاب مالك الكراهة بصلاة السر، وهذا الحديث الصحيح يرده. قالوا: وفي المحافظة على قراءتها دائمًا أمر آخر، وهو أنه ربما أدى ذلك بالجهال إلى اعتقاد أن ذلك فرض في هذه الصلاة، ومن مذهب مالك حسم مادة الذرائع. قال الشيخ تقي الدين (¬1): فالذي ينبغي أن يقال أما القول بالكراهة مطلقًا فيأباه الحديث، وإذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن يترك في بعض الأوقات دفعًا لهذه المفسدة، وليس في الحديث ما يقتضي مثل ذلك دائمًا اقتضاء قويًا على كل حال فهو مستحب، والمستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهذا المقصود يحصل بالترك، في بعض الأوقات لا سيما إذا كان يحضره الجهال، ومن يخاف منه وقوع هذا الاعتقاد الفاسد. قلت: قد أخرج الطبراني (¬2) في أصغر معاجمه الحديث ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 153). (¬2) الطبراني في الصغير (2/ 81)، وقال في الزوائد (2/ 968): ورجاله موثقون. قال الألباني في الإِرواء (3/ 96): قال الحافظ في الفتح (2/ 314): ورجاله ثقات لكن صوّب أبو حاتم إرساله. وهو من رواية ابن مسعود رضي الله عنه. قلت: قد جاء من رواية عبد الله بن عباس عند الطبراني في الكبير (12/ 43)، وذكره في مجمع الزوائد (2/ 171)، وقال: وفيه حماد بن شعيب وهو ضعيف جدًا. اهـ، وأصله في مسلم (879)، وأبي داود (1061)، والترمذي (519)، والنسائي (3/ 111)، بدون زيادة في كل جمعة.

المذكور من رواية ابن مسعود بزيادة "ويديم ذلك"، رواه عن محمد ابن بشر، دحيم، الوليد بن مسلم، ثور بن يزيد، عن عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله به ثم قال: لم يروه عن عمرو إلَّا ثور، ولا ثور إلَّا الوليد، تفرد به دحيم، ولا كتبناه إلا عن أبي بشر. قلت: ورجال إسناده كلهم ثقات كما ترى، فهذا فيه صراحة بديمومة ذلك، ولم يطلع على هذه الرواية الشيخ تقي الدين رحمه الله، ولو اطلع عليها لم يذكر ما قدمناه عنه [وهي] (¬1) تسَاوِي رِحْلَةً فاستفده. قال الشيخ تاج الدين الفاكهي: وقد بلغني أَنَّ هذا الاعتقاد يعني السالف وقع أن بعض العلماء. صلى الصبح يوم الجمعة إمامًا فلم يقرأ فيها بالسجدة، فأنكر عليه العوام إنكارًا شديدًا وأظن أن ذلك كان بالقاهرة، وأن الإِمام التارك للسجدة كان قاضي قضاة الشافعية حينئذٍ، فرحم الله مالكًا ما كان أشدَّ تيقظَه لمثل هذا. قال: وهذا كما كره صوم الستة أيام من شوال خوف اعتقاد الجهال فرضيتها. قال: ومثله أيضًا كراهته البسملة في الفاتحة اعتقاد كونها من الفاتحة. قلت: وبعد دوام النبي - صلى الله عليه وسلم - على قراءة هاتين السورتين في اليوم المذكور طاح الاعتقاد المذكور، ولا عبرة باعتقاد الجاهل ما ¬

_ (¬1) في النسخ (وهو)، وما أثبت من المصحح.

يخالف الشرع، وأما [صوم] (¬1) الستة المذكورة فصحت به الأحاديث من طرق كما أوضحته في تخريج "أحاديث المهذب"، فلا معدل عنه وقد صح أيضًا أن البسملة إحدى آيات الفاتحة، وقد صنف في ذلك من المالكية ابن عبد البر (¬2)، والحق أحق بالاتباع. وأما ابن العربي فأغرب وتحامل فقال في "الأحوذي" (¬3): خرَّج البخاري قراءة الصبح يوم الجمعة عن سعد بن إبرهيم، عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فذكر الحديث بلفظ "كان" المقتضية للمداومة، وهو مضعف عند مالك وغيره، وقد جاءت الرواية أيضًا من غير طريقه ولكنه أمر لم يعمل بالمدينة- فالله أعلم من قطعه كما قطع [غيره] (¬4) فينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدرة ويقطع أحيانًا لئلا يظنه العامة من السنة. هذا كلامه وفيه نظر في مواضع. الأول: أَنَّ "كان" لا تقتضي المداومة على رأي الأكثرين. الثاني: قد أسلفنا لفظ المداومة التي لا تحتمل التأويل بسند صحيح. ¬

_ (¬1) في ن ب (صو). (¬2) "الإِنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم من الإِختلاف" والكتاب مطبوع. (¬3) (2/ 310). (¬4) في ن ب (عمله).

الثالث: سعد هذا أخرى له الستة في كتبهم، وهو ثبت ثقة جليل، ومالك [(¬1)] ترك الرواية عنه فقط لقصة استعملها ولم يتكلم فيه هو ولا غيره. قال علي بن المديني: كان سعد لا يحدث بالمدينة فلذلك لم يكتب عنه أهلها، ومالك لم يكتب عنه. وقال الأثرم: سمعت أحمد يقول سعد بن إبراهيم ثقة، فقيل له: إن مالكًا لا يحدث عنه فقال: ومن يلتفت إلى قول مالك في سعد، وسعد رجل صالح ثقة. وقال الساجي: ثقة أجمع على صدقه والروايةِ عنه إلَّا مالكَ بنَ أنس فإنه كان يتكلم فيه، وقد روى مالك عن عبد الله ابن إدريس عن شعبة، عن سعد، فصح باتفاقهم عليه أَنَّه حجة في الأحكام والفروج. فيقال: إنَّ سعدًا رأى مالكًا يومًا فوعظه، فغضب مالك من ذلك، وإنما ترك الرواية عنه فإمَّا أن يكون تكلم فيه فلا أحفظه، وسعد القائل: لا يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا الثقات. ثم روى بإسناده، قال: سمعت المعيطي يقول ليحيى بن معين: كان مالك يتكلم في سعد، وسعد سيد من سادات قريش. [وروى] (¬2) عن ثور [وداود] (¬3) بن الحصين خارجيين خبيثين. ¬

_ (¬1) في الأصل (فيه)، والتصحيح في ن ب. (¬2) في تهذيب التهذيب (3/ 465) (ويروى). (¬3) في الأصل (أبو داود).

قال الساجي: وقد روى عنه الثقات والأئمة وكان دينًا عفيفًا. وفي كتاب "المنجيلي" سئل أحمد لمَ لَم يرو عنه مالك فقال: كان له مع سعد قصة ثم قال: ولا يبالي سعدًا إذا لم يرو عنه مالك. وقال البرقي: سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعدٍ أنه كان يرى القدر وترك مالك الرواية عنه [فقال: لم يكن يرى القدر وإنما ترك مالك الرواية عنه] (¬1) لأنه تكلم في نسب مالك فكان لا يروي عنه. وهو ثبت لا شك [فيه] (¬2). وقال الباجي: في الجرح والتعديل الظاهر أن أهل المدينة إنما اتفقوا على ترك الأخذ عنه لأنه طعن في نسب مالك طعنًا يستحق به الترك عندهم، وعندي أنه ليس بالحافظ، وقد أغرب بما لا تحتمله عندي حاله مع قلة حديثه، ولعل ذلك كان من قبل حفظه، وإن كان البخاري قد أخرج عنه فذكر الحديث المذكور قال: وهو حديث انفرد به [ولم يتابع عليه من طريق صحيح فترك الناس العمل به] (¬3) ولا سيما أهل المدينة ولو كان مما يحتج لتلقى بالعمل به من جميع أهل المدينة أو بعضهم إذ هو من حديثهم ولا أقول إن سعدًا يبلغ عندي مبلغ الترك ولكني أهاب من حديثه مثل ما ذكرته ولا يحتمل عندي الانفراد. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) زيادة من ن ب د.

قلت: انفراد الثقة بالحديث لا يضر ولا سيما إذا صح من غير طريقه أيضًا، كما تقدم من حديث ابن مسعود، وصح أيضًا من طريق ابن عباس في مسلم (¬1). فرع: محل السجود في هذه السورة عند قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} (¬2)، وعند المالكية حكايته خلاف في أنه هل يكمل الآية التي السجدة فيها أو يسجد قبل أن يكملها وهو غريب. ¬

_ (¬1) مسلم (879). (¬2) سورة السجدة آية 15. فائدة: قال ابن حجر في الفتح (2/ 379)، لم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - سجد لما قرأ سورة تنزيل السجدة في هذا المحل إلَّا في كتاب الشريعة لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، إلى أن قال: وفي إسناده من ينظر في حاله، وللطبراني في الصغير من حديث علي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الصبح في تنزيل السجدة" ولكن في إسناده ضعف. اهـ. فائدة ثانية: قال أحمد: الدعاء للسلطان الواجب الطاعة مشروع بكل حال، وقد نقل عن بعضهم أنه دعا لسلطان ظالم فقيل له: أتدعوا له وهو ظالم؟ فقال: أي والله أدعو له إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يندفع بزواله لا سيما إذا ضُمن الدعاء بصلاحه وسداده وتوفيقه، والله أعلم.

28 - باب [صلاة] العيدين

28 - باب [صلاة] (¬1) العيدين هو مشتق من العود و [هو] (¬2) الرجوع لتكرره [بتكرر] (¬3) السنين. وقيل: لعود السرور بعوده. وقيل: لكثرة عوائد الله تعالى على عباده في ذلك اليوم. وقيل: سمي بذلك تفاؤلًا بعوده على من أدركه، كما سميت القافلة حين خروجها تفاؤلًا بقفولها سالمة وهو رجوعها وحقيقتها الراجعة. وقال ابن العربي (¬4): سمي عيدًا من وقته لكونه يعود على قوم بالسرور، وعلى قوم بالحزن. وقال ابن سيده: العيد كل يوم فيه جمع، واشتقاقه من عاد يعود كأنهم عادوا إليه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في الأصل (لتتكرر)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) انظر: عارضة الأحوذي (3/ 2).

وقيل: من العادة لأنهم اعتادوه. قلت: وهو من ذوات الواو. وكان أصله عود بكسر العين، فقلبت الواو ياء كالميقات والميزان من الوقت والوزن، وجمعه أعياد. قال الجوهري: وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد قال: ويقال للفرق بينه وبين أعواد الخشب. ونفتتح الباب بمقدمات. الأولى: أول عيد صَلَّاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيد الفطر من السنة الثانية من الهجرة. الثانية: صلاة العيد من الشعائر الإِسلامية المطلوبة شرعًا والنقل بها متواتر يغني [عن] (¬1) خبر الآحاد، وأحاديث الباب من آحاد ما يدل (¬2) عليها، وقد كان للجاهلية يومان معدان للعب. فأبدل الله تعالى للمسلمين منهما بهذين اليومين اللذين يظهر فيهما تكبير الله تعالى وتحميده [وتمجيده] (¬3) ظهورًا شائعًا يغيظ المشركين وجعلهما شكرًا على ما أنعم [الله] (¬4) به من آداء العبادات التي في يومهما وقبلهما، كإتمام الصوم في عيد الفطر، وما يقع فيه من العبادات القاصرة والمتعدية، وكالعبادات الواقعة في عشر ذي الحجة، وأعظمها إقامة وظيفة الحج. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) عبارة مضطربة في المخطوطة. (¬3) زيادة من ن د. (¬4) في الأصل ساقطة.

الثالثة: اختلف العلماء في صلاة العيد، فذهب الشافعي إلى أنها سنة مؤكدة، وبه قال جماهير أصحابه ومالك وجمهور العلماء. وقال الأصطخري (¬1): هي فرض كفاية، وهو مذهب أحمد، وعنه رواية [أخرى كالأولى. وقال أبو حنيفة: هي واجبة على الأعيان كالجمع وعنه رواية أنها سنة] (¬2). وقال بعض أصحابه: إنها فرض كفاية. وقال الأصمعي: إنها فرض، كذا نقله القرطبي (¬3) عنه، وأراد أنها فرض كفاية ولعله التبس عليه بالأصطخري. دليل الجمهور: [حديث] (¬4) "خمس صلوات كتبهن الله على عباده" (¬5) الحديث. ويستثنى مما ذكرناه الحاج بمنى فلا يخاطب بالعيد، كما ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن محارب الأنصاري الأصطخري، ولد سنة إحدى وتسعين ومائتين، وتوفي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. طبقات ابن شيبة (1/ 158)، وطبقات الشيرازي (99)، وتاريخ بغداد (10/ 133). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في المفهم (3/ 1483). (¬4) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب د. (¬5) البخاري (63) في العلم، باب: ما جاء في العلم، ومسلم (12) في الإِيمان، باب: السؤال عن أركان الإِسلام، والترمذي (619) في الزكاة، وأبو داود (486) في الصلاة، باب: ما جاء في المشرك يدخل المسجد.

ذكرته في "شرح المنهاج" فراجعه منه [إن شئت] (¬1). وإذا قلنا برأي الأصطخري: فامتنع أهل موضع منها قوتلوا عليها كسائر فروض الكفاية، وإذا قلنا بالأصح، إنها سنَّة فالأصح: أنهم لا يقاتلون كسنَّة الظهر وغيرها من السنن. وقيل: نعم لأنها شعار ظاهر. ثم ذكر المصنف رحمه الله في الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الأول

الحديث الأول 143/ 1/ 28 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، يصلون العيدين قبل الخطبة" (¬1). معنى قوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر" إلى آخره، أن فعل صلاة العيد قبل الخطبة سنَّة ثابتة إلى الآن لم تنسخ لأن فعله - عليه الصلاة والسلام - حجة بمجرده، وفعل الشيخين حجة، وإجماع أيضًا على قول بعضهم، عملًا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬2) خصوصًا ¬

_ (¬1) البخاري (963)، ومسلم (888) في صلاة العيدين، والنسائي (3/ 183)، والترمذي (531)، وابن ماجه (1/ 407)، وأحمد (2/ 12، 38، 71)، وابن خزيمة (1443). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 382، 399، 385، 402) في الفضائل له (198)، والحميدي (449)، والترمذي (5/ 610)، وابن ماجه (1/ 37)، ومشكل الآثار للطحاوي (2/ 85). وقال: معناه عندنا، والله أعلم: أن يمتثلوا ما هم عليه، وأن يحذوا حذوهما فيما يكون منهما في أمر الدين، وأن لا يخرجوا عنه إلى غيره. اهـ محل المقصود منه.

إذا وقع الإِجماع على فعلهما من غير مخالفة لهما، فصار فعل الصلاة قبل الخطبة ثابتًا بالسنَّه والإِجماع عليه، فهذا معنى إضافة فعلهما إلى فعله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قدمت الخطبة على الصلاة في صلاة العيدين في زمن بني أمية. قيل: سببه أَنَّهم أحدثوا في الخطبة لعن من لا يجوز لعنه، فكان الناس إذا كملت الصلاة انصرفوا وتركوهم، فقدموا الخطبتين لذلك، حكاه القاضي عياض. وقيل: فعلوا ذلك في كل صلاة لها خطبة، والصلاة مقدمة عليها إلَّا الجمعة وخطبة عرفة فإنهم أقروهما على ما هما عليه، وإنما قدموا الخطبة على الصلاة نظرًا إلى عدم تفويت الناس الصلاة، فأثروا تقديم الخطبة للمحافظة على الصلاة لمن يتأخر. واختلفوا في أول من فعل ذلك: فقيل: عثمان - رضي الله عنه - في شطر خلافته الآخر، وروي مثله عن عمر وليس بصحيح عنه (¬1). وقيل: معاوية (¬2). ¬

_ (¬1) قال العراقي: الصواب أن أول من قدم الخطبة على الصلاة مروان بن الحكم بالمدينة في خلافة معاوية كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، وقد رجح ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 19) أن عثمان أول من خطب قبل الصلاة في آخر خلافته. وانظر: مصنف عبد الرزاق (3/ 283، 284)، وابن أبي شيبة (2/ 171). (¬2) انظر: الاستذكار (10/ 20)، ومصنف عبد الرزاق (3/ 283).

وقيل: مروان بالمدينة في خلافة معاوية (¬1). وقيل: زياد بالبصرة في خلافة معاوية (¬2). وقيل: فعله ابن الزبير في آخر أيامه (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 21): وأما قول من قال: أول من قدم الخطبة مروان، فإنما أراد: بالمدينة وهو عامل عليها لمعاوية. اهـ. (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 34). (¬3) قال القاضي عياض: هذا هو المتفق عليه بين علماء الأمصار وأئمة الفتوى ولا خلاف بين أئمتهم فيه، وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين إلَّا ما روي أن عمر في شطر خلافته الآخر قدم الخطبة لأنه رأى من الناس من تقوته الصلاة وليس بصحيح. اهـ. وقال ابن قدامة في المغني (3/ 376): لا نعلم فيه خلافًا بين المسلمين إلَّا عن بني أمية، قال: وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما فعلاه ولم يصح عنهما. قال ولا يعتد بخلاف بني أمية لأنه مسبوق بالإِجماع الذي كان قبلهم ومخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وقد أنكر عليهم فعلهم وعد بدعة ومخالفًا للسنَّة. قال ابن حجر في الفتح (2/ 451، 452): واختلف في أول من غير ذلك، فرواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد عند مسلم صريحة في أنه مروان كما تقدم في الباب قبله، وقيل بل سبقه إلى ذلك عثمان، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: "أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم -يعني على العادة- فرأى ناسًا لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك" أي صار يخطب قبل الصلاة، وهذه العلة غير التي اعتل بها مروان لأن عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يعتمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب ما =

ثم وقع الإِجماع على خلاف ذلك والرجوع إلى فعله - عليه الصلاة والسلام - وصاحبيه. وقد فرق العلماء بين صلاة العيد والجمعة بفروق. أحدها: أن خطبة الجمعة شرط لصحة الصلاة، وشأن الشرط أن يقدم. ثانيها: أن الجمعة فريضة، فأخرت ليدركها المتأخر، لا سيما ولا تقضى على وجهها بخلاف العيد. ثالثها: للتمييز بين الفرض والنفل. ¬

_ = لا يستحق السب والإِفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانًا، بخلاف مروان فواظب عليه، فلذلك نسبه إليه، وقد روي عن عمر مثل فعل عثمان، قال عاض ومن تبعه: لا يصح عنه، وفيما قالوه نظر، لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعًا عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يوسف بن عبد الله بن سلام، وهذا إسناد صحيح. لكن يعارضه حديث ابن عباس المذكور في الباب الذي بعده، وكذا حديث ابن عمر، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادرًا وإلَّا فما في الصحيحين أصح، وقد أخرج عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عباس وزاد "حتى قدم معاوية فقدم الخطبة" فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعًا لمعاوية لأنه كان أمير المدينة من جهته، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: "أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية" وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة. قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان، لأن كلاًّ من مروان وزياد كان عاملًا لمعاوية فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله، والله أعلم. اهـ.

فإن قلت: لِمَ قدمت خطبة عرفة دون غيرها من الخطب المسنونة؟ فالجواب: أن الجمع في عرفة آكد منه في غيرها فبدأ بها ليدركه الناس بخلاف غيرها. فائدة: الخُطبة هنا بالضم وأما خِطبة المرأة فبالكسر.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 144/ 2/ 28 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: "من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له"، فقال أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي، وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: "شاتك شاة لحم"، قال: يا رسول الله فإن عندنا عناقًا (¬1) هي أحب إليّ من شاتين، أفتجزىء عني؟ قال: "نعم ولن تجزي عن أحد بعدك" (¬2). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في فتح الباري زيادة (لنا جذعة). (¬2) البخاري (955، 965، 983)، ومسلم (1961)، وأبو داود (2800)، والترمذي (1508)، والنسائي (3/ 182) (7/ 222، 223)، والدارمي (2/ 80)، وابن ماجه (3154)، والطيالسي (743)، والبيهقي (3/ 311) (9/ 269، 276)، ومالك (1/ 483).

أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في باب الإِمامة، ورواه عنه جماعة من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس، وأبو جحيفة، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو بضرة الغفاري، ومن التابعين الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهما. ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر وجابر بن عبد الله وغيرهما، كما أفاد كل ذلك ابن منده في مستخرجه. ثانيها: خاله أبو بردة اسمه هانئ، وبه جزم المصنف في حد الخمر، وقيل: الحارث، وقيل: مالك. وروى ابن طاهر في "إيضاح الإِشكال" (¬1) عن الشعبي عن البراء قال: "كان اسم خالي قليلًا فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -[كثيرًا] (¬2)، وقال [يا كثير] (¬3) إنما نسكنا بعد صلاتنا" (¬4). ثم ذكر هذا الحديث بطوله، ثم قال في باب الخال قد تقدم في باب العم خال البراء بن عازب واسمه سويد بن (حجير) عن خاله، كذا رأيته فيه فتأمله (¬5). ¬

_ (¬1) ايضاح الإِشكال (72). (¬2) في ن ب (كبيرًا). (¬3) في ن ب (كبيرًا). (¬4) أخرجه ابن منده من طريق جابر الجعفي كما في الإِصابة (5/ 574)، وقال الحافظ في الإِصابة: والمحفوظ أن خال البراء هو أبو بردة بن دينار، قال: لقيت خالي ومعه الراية، الإِصابة أيضًا في ترجمة هانئ (6/ 523). اهـ، من إيضاح الإِشكال (72). (¬5) العبارة في إيضاح الإِشكال (83)، باب الخال: 97 - قد تقدم في باب العم خال البراء بن عازب: اسمه كثير. اهـ. =

وأما والد أبي بردة: فالمشهور أنه نيار -[بكسر النون-. والنير: يطلق على ما وضح من الطريق وعلى لحمة الثوب المقابلة للسدا] (¬1). وقيل: عمرو، وقيل هبيرة وهو عقبي بدري شهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير. وأمه: أم سعد بنت ساعدة بن جشم [بن] (¬2) حارثة. روى أحاديث واتفقا منها على واحد، ومات ولا عقب له بعد الأربعين. ثالثها: "الأضحى" يذكّر ويؤنّث سمي بذلك لوقوع الأضحية فيه. رابعها: فيه دلالة على الخطبة لعيد الأضحى ولا خلاف فيه. خامسها: فيه دلالة أيضًا على تقديم الصلاة عليها، وقد قدمنا الكلام على ذلك في الحديث قبله. سادسها. أصل "النسك" في اللغة من النسيكة وهي البقرة المذابة المصفاة من كل خلط (¬3). ¬

_ = ولعل ما ذكر خطأ من الناسخ أو المؤلف -رحمهما الله تعالى-. ثم ذكر سويد وأعطاه رقم خاص: 98 - سويد بن حجير عن خاله، خالفُه صخر بن القعقاع ... إلخ. (¬1) زيادة من ن ب د، انظر: لسان العرب (14/ 347، 348). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سئل ثعلب عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النسيكة وهو سبيكة الفضة المصفاة كأنه خلَّص نفسه وصفاها لله عز وجل. اهـ، من لسان العرب (14/ 128)، هكذا هو في المخطوط البقرة.

والمراد بها هنا: الذبيحة أضحية وقد استعمل فيها كثيرًا واستعمله بعض الفقهاء في نوع خاص من الدماء المراقة في الحج، وقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك من نوع العبادات، ومنه يقال: فلان ناسك أي متعبد، ومعناه: مخلص عبادته لله تعالى. وقال ابن يونس: في أول الحج من "شرح التنبيه": النسك: بضَمِ السين [اسم] (¬1) للذبيح والمَنْسِك [به] (¬2) موضع الذبح أي -بفتح السين وكسرها- كما قرئ بهما (¬3)، وقد يراد به موضع العبادة، وهو بإسكان السين اسم لكل عبادة. سابعها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "من صلى صلاتنا" أي مثل صلاتنا. وقوله: "ونسك" ... (¬4) نُسكَنا" أي مثل نسكنا. وقوله: "فقد أصاب النسك" أي فقد أصاب مشروعية النسك أو ما قارب ذلك. ثامنها: قوله: "ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له" معناها لا يقع مجزيًا في الأضحية وظاهر اللفظ [أن] (¬5) المراد منه قبل فعل الصلاة. ¬

_ (¬1) في ن ب (أي). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} ومُنْسِكًا. انظر: لسان العرب (14/ 127). (¬4) العبارة: أو صحة المنسك، وفي ن د (المنسك)، وليس لها معنى هنا. (¬5) في ن ب ساقطة.

ولم يتعرض لذكر الخطبتين وهما معتبران عند الشافعي لكونهما مقصودتين مع الصلاة، فإن وقت الأضحية لا يدخل إلَّا بمقدار الصلاة [والخطبتين عنده، ومذهب غيره اعتبار فعل ذلك، وهو ظاهر اللفظ، فإن إطلاق لفظ الصلاة] (¬1) وإرادة وقتها خلاف الظاهر. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الأضحية لا تجوز قبل طلوع الفجر، واختلفوا فيما بعد ذلك (¬2): فقال الشافعي وداود: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، أي خفيفات، فإذا ذبح بعد هذا الوقت أجزأه، سواء صلى الإِمام أم لا، وسواء صلى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى أو البوادي أو المسافرين، وسواء ذبح الإِمام أضحيته أم لا ووافقهما ابن المنذر. وقال عطاء وأبوحنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا تدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإِمام، ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم تجزئه. وقال مالك: لا يجوز إلَّا بعد صلاة الإِمام وخطبته وذبحه. وقال أحمد: لا تجوز قبل صلاة الإِمام وتجوز بعدها قبل ذبح ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: الاستذكار (15/ 147، 155)، ومعجم فقه السلف (4/ 145، 146)، والمجموع (8/ 389)، والمغني (8/ 636، 640).

الإِمام وسواء عنده أهل القرى والأمصار، ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق بن راهويه. وقال الثوري: تجوز بعد صلاة الإِمام وقبل خطبته وفي أثنائها. وقال ربيعة: فيمن [لا إمام له] (¬1) إن ذبح قبل طلوع الشمس لا تجزئه، وبعد طلوعها يجزئه. وقال أهل الرأي: يجزيهم بعد الفجر، وهو قول ابن المبارك لإِضافة الفجر إلى اليوم. فهذه سبعة مذاهب، وظاهر هذا حجة على من خالفه بالنسبة إلى الصلاة ولما كانت الخطبتان مقصودتين في هذه العبادة اعتبرهما الشافعي ومن وافقه. فرع: قد عرفت المذاهب في ابتداء وقت النحر وأما انتهاؤه ففيه أوجه (¬2): أحدها: إلى غروب آخر التشريق، وهو قول الحسن وعطاء والشافعي والأوزاعي. ثانيها: إلى غروب ثاني التشريق، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري وأحمد، وروي عن أبي هريرة وأنس وغيرهما. ثالثها: لا يجوز إلَّا في يوم النحر خاصة، قاله ابن سيرين. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر لهذه الأقوال معجم فقه السلف (4/ 137، 138).

رابعها: يجوز لأهل الأمصار يوم النحر خاصة، ولأهل القرى يوم النحر وأيام التشريق. [خامسها] (¬1): يجوز في جميع ذي الحجة حكاه القاضي عياض (¬2). سادسها: يوم النحر وستة أيام بعده. قاله قتادة. واختلفوا: في جواز التضحية في ليالي أيام الذبح. فقال الشافعي: يجوز مع الكراهة وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور والجمهور. وقال مالك في المشهور عنه وعامة أصحابه ورواية عن أحمد: لا يجزئه في الليل بل تكون شاة لحم، وحُكِيَ عن أصحاب الرأي أيضًا. وقال أشهب: يجوز الهدي دون الأضحية. تاسعها: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "شاتك شاة لحم" أي ليست أُضْحية، ولا ثواب فيها، بل هو لحم ينتفع به، كما جاء في رواية أخرى "إنما هو لحم قدمته لأهلك" فيستنبط من هذا أن من ذبح قبل الصلاة لم [يكن] (¬3) ناسكًا، وأن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يكن الجهل عذرًا فيها، وهو: ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) بناء على حديث مرسل أخرجه ابن حزم في المحلى (8/ 43، 49) بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الأضحى إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني بذلك. قال: وهذا من أحسن المراسيل وأصحها، وهو ملزم لمن يحتج بالمراسيل. (¬3) في ن ب ساقطة.

الوجه العاشر: وقد فُرق بين المأمورات والمنهيات في ذلك فيعذر في المنهيات بالنسيان والجهل كما في حديث معاوية ابن الحكم حين تكلم في الصلاة، ولا يعذر في المأمورات لأن المقصود فيها إقامة مصالحها، ولا يحصل ذلك إلَّا بفعلها، بخلاف المنهيات فإنها مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانًا للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب النهي، فعذر بالجهل فيه (¬1). تنبيه: الإِضافة قسمان: معنوية، ولفظية: الأولى: ثلاثة أقسام: مقدرة بمن: كخاتم حديد، أو باللام كغلام زيد. أو بفي كضرب اليوم أي ضرب في اليوم، ولا يصح شيء من ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "شاة لحم". وأما اللفظية: فحقيقتها أن تكون صفة مضافة إلى معمولها كضارب زيد، وحسن الوجه، و"شاة لحم" ليست كذلك أيضًا. قال الفاكهي: والذي يظهر ليس في ذلك أنه لما اعتقد أبو بردة أن شاته نسك أوقع - عليه الصلاة والسلام - قوله: "شاة لحم" موقع قوله: شاة غير نسك أو شاة غير أضحية. فهو كلام محمول على المعنى. الحادي عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ولن تَجزي ¬

_ (¬1) انظر: حاشية العمدة (3/ 161).

عن أحد بعدك" هو بفتح التاء المثناة فوق غير مهموز ومعناه لن تقضي يقال: جزى عني كذا أي قضى. أي أن الذي فعله من الذبح قبل الصلاة لم يقع نسكًا فالذي يقع بعده لا يكون قضاء [عنه] (¬1) وهذا الذي ضبطناه [في] (¬2) تجزي -بفتح التاء- هو في جميع الطرق والروايات. وذكر الجوهري (¬3): أن فيه لغة أخرى أجزأت [عنك] (¬4) وعلى هذا يجوز الضم، وقال الشيخ تقي الدين (¬5) في -الفتح-: إنه الذي اختير فيه، وكذا قال البغوي (¬6): إنه بغير همز مع -فتح أوله- قال تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (¬7)، أي لا يقضي عنها، فإن كان بمعنى الكفاية؟ قلت: جزاء عني، وإجزاء بالهمز. وقال ابن بري: الفقهاء [(¬8)] يقولون لا تجزىء عنك أي لا تُقضي، بضم التاء مع ترك الهمزة. والصواب: -فتح التاء- مع ترك الهمزة أيضًا ويجوز ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) مختار الصحاح (51). (¬4) زيادة من ن ب د، وفي مختار الصحاح (عنه). (¬5) انظر: إحكام الأحكام (3/ 126). (¬6) (4/ 328). (¬7) سورة البقرة: آية 123. (¬8) في ن ب زيادة (لا).

-الضم- مع الهمزة لأنه يقال أجزأت عنك شاة تجزئ لغة في قولهم جزت عنك تجزي. الثاني عشر: "العناق" بفتح العين: الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة [فإذا] (¬1) قوي ورعى وأتى عليه حول قيل للذكر منه: عتود. وقال بعضهم: هي الصغير من أولاد المعز ما دامت ترضع ولهذا قال في بعض روايات الحديث في مسلم عندي "عَنَاق لبن" أي صَغيرة قريبة مما ترضع. وجمع العناق: أعنق وعنوق. وعبارة القاضي عياض (¬2) العناق: جذع المعز. وقوله: "هي أحب إلي من شاتين"، وفي مسلم: "عندي عَنَاق لبن هي خير من شاتيّ لحم". ومعناه أطيب لحمًا وأنفع لسمنها ونفاستها، وفي رواية لمسلم: "ليس عندي إلَّا جذعة وهي خير من مسنة"، وفي رواية (¬3): "أن عندي داجنًا جذعة من المعز"، وفي ذلك إشارة إلى أن المقصود في الضحايا طيب اللحم لا كثرته، وهذا بخلاف العتق فإن كثرة العدد فيه أفضل. الثالث عشرة صرح في الحديث بتخصيص أبي بردة بإجزائها في هذا الحكم عما سبق ذبحه فامتنع قياس غيره عليه لكن قد وقع ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في المشارق (2/ 92) العناق: قال الخليل: هي الأنثى من المعز، قال الداودي: هي الجذعة التي قاربت أن تحمل ولم تحمل. (¬3) مسلم (1961) والتي قبلها.

ذلك أيضًا لعقبة بن عامر. وزيد بن خالد رضي الله عنهما ففي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أعطى عقبة بن عامر عتودًا وقال: "ضح به أنت"، وفي البيهقي بإسناده الصحيح عن عقبة: "أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنمًا أقسمها ضحايا بين أصحابي فبقي عتود منها فقال ضح بها أنت ولا رخصة لأحد فيها بعدك" (¬1). قال البيهقي: وإذا كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة له كما رخص لأبي بردة. وعلى هذا يحمل ما روي عن زيد بن خالد أنه عليه الصلاة والسلام: "أعطاه عتودًا جذعًا فقال ضح به فقلت إنه جذع من المعز أضحي به قال: نعم ضح به فضحيت به"، ورواه أحمد وابن حبان (¬2) كذلك. ورواه أبو داود أيضًا وليس في روايته "من المعز" لكنه معلوم من قوله "عتود" فإن العتود من أولاد المعز خاصة وهو ما رعى وقوي. قال الجوهري وغيره: هو ما بلغ سنه وجمعه اعتده [وعِدَّان] (¬3) بإدغام التاء في الدال. ¬

_ (¬1) البخاري (2300)، ومسلم (1965)، والترمذي (1500)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3138)، والبغوي (1116)، والطيالسي (1002)، وأحمد (4/ 144، 145، 156)، والدارمي (2/ 77، 78)، وابن خزيمة (2916). (¬2) أحمد (5/ 194)، وأبو داود (2798)، والطبراني (5217، 5218)، والبيهقي (9/ 270). (¬3) في معالم السنن (4/ 104) عِتْدان وعُتُد ... إلخ.

ومعلوم أنه لا يجزئ في الأضحية وإنما يجزئ الجذع من الضأن (¬1). وأجاب بعضهم: بنسخ حديث عقبة بحديث أبي بردة لقوله: "ولن تجزئ عن أحد بعدك" وفيه نظر، كما قال الشيخ زكي الدين (¬2) فإن في حديثه أيضًا: "ولا رخصة لأحد فيها بعدك" وأيضًا فإنه لا يعرف المتقدم منهما من المتأخر وقد أشار البيهقي (¬3) إلى أن الرخصة أيضًا لعقبة وزيد بن خالد كما كانت لأبي بردة. فائدة: قال الفاكهي: انظر الحكمة في اختصاص أبي بردة بهذا الحكم واطلب السر فيه. قلت: قد أفاده الماوردي (¬4) حيث قال في اختصاص الأجزاء بأبي بردة وجهان: أحدهما: لأنه كان قبل استقرار الشرع فاستثناه. والثاني: أنه علم من طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه. قال: واختلفوا هل كان ذلك بوحي أو اجتهاد على قولين. تنبيه: أبعد الأوزاعي حيث جوز الأضحية بجذع المعز وحُكي عن عطاء (¬5)، وبه قال بعض الشافعية أيضًا: وهو مصادم للنص. ¬

_ (¬1) انظر: معالم السنن (4/ 104). (¬2) مختصر سنن أبي داود (4/ 104). (¬3) سبق تخريج ما أشار إليه. (¬4) الحاوي (19/ 91، 92). (¬5) معجم فقه السلف (4/ 141).

الرابع عشر: يؤخذ من الحديث إن لله تعالى أن يخص ببعض الأحكام التي منع الناس منها من شاء على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعذر وغيره ويؤخذ منه أيضًا وهو الوجه. الخامس عشر: أن المرجع في الأحكام إليه - صلى الله عليه وسلم - دون غيره. ومن رجعت إليه من أمته فإنما هو بإذنه - صلى الله عليه وسلم -. السادس عشر: يؤخذ منه أيضًا أن يوم الأضحى يوم أكل وشرب يحرم الصَّوم فيه حيث وصفه بالأكل والشرب.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 145/ 3/ 28 - عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، وقال: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح [باسم الله] " (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: "جُنْدُب" بضم أوله وثالثه بينهما نون ساكنة. ويقال: بفتح ثالثه. وعن المنذري الحافظ، كسر أوله، وفتح ثالثه. وكأنه قاله لغة من واحد الجنادب الذي هو طائر، لا وضعًا في هذا الاسم المعين. ¬

_ (¬1) البخاري (985، 5500، 5562، 6674، 7400)، ومسلم في الأضاحي (1960)، والنسائي (7/ 224)، وأبو يعلى (3/ 109)، والطيالسي (1/ 230)، وأحمد (4/ 313)، وابن ماجه (3152)، والحميدي (775)، وابن حبان (5913)، والطبراني (1713 حتى 1718)، والبيهقي (9/ 262، 277). وفي بعض الألفاظ: "على اسم الله".

قال الجوهري (¬1): الجُنْدُبُ، والجُنْدَبُ ضرب من الجراد، واسم رجل. قال سيبويه: نونها زائِدة. وقال أبو زيد: يقال: وقع القوم في [أم] (¬2) جندب، إذا أظلموا، فإنها اسم من أسماء الإِساءة- والظلم والداهية. وهو جندب بن عبد الله بن سفيان. ويقال: فيه ابن سفيان وكأنه نسبة إلى (¬3) جده أبي عبد الله البجلي -بفتح الجيم- كما سيأتي العَلِقي -بفتح أوله وثانيه وكسر ثالثه-. وعلقة (¬4): حي مِنْ بجيلة. له صحبة. ويقال له جندب الخير (¬5) نزل الكوفة ثم تحول إلى البصرة فحديثه عند البصريين جميعًا، روى عنه الحسن وجماعة. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة، مات سنة أربع وستين. فائدة: في الرواة جندب بن عبد الله أربعة ذكرتهم فيما أفردته ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (47). (¬2) في الأصل (أمر)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في ن ب زيادة (أبي). (¬4) العين المهملة، واللام وفي آخرها قاف. من علقة بن عبقر بن أنمار. (¬5) قال الصنعاني -رحمه الله- في الحاشية (3/ 164): وقال ابن منده وأبو نعيم: يقال له جندب الخير، ولكن الذي ذكره الكلبي أن جندب الخير هو جندب بن عبد الله بن الأخرم الأزدي العامري التابعي. قلت: ولا مانع أن يقال ذلك لهما. انظر أيضًا: تهذيب التهذيب (2/ 118).

في الكلام (¬1) على رجال هذا الكتاب فاستفدها منه. الثاني: "البجلي" بفتح الباء الموحدة والجيم، ثم ياء النسب نسبة إلى قبيلة بجيلة، وهو ابن أَنْمَار بن إراش (¬2)، ويشتبه "بالبجْلي" بإسكان الجيم وهم جماعة، منهم عمرو بن عبسة السّلمي الصحابي و"بالنحلي"، و"بالبجكي"، و"بالبخْلي" (¬3)، وقد ذكرتهم في "إيضاح مشتبه الأسماء والأنساب" فليراجع منه. الثالث: معنى هذا الحديث معنى الذي قبله من حيث إن الأضحية لا يدخل وقتها إلَّا بعد الصلاة والخطبة، وهو الأظهر في اعتبار فعل الصلاة من الذي قبله، فإن الأول اقتضى تعليق الحكم بلفظ الصلاة وهذا لم يعلق فيه الحكم بلفظ فيه الألف واللام، إلَّا أنه إن أجريناه على ظاهره اقتضى أنه لا تجزئ الأضحية في حق من لم يصل صلاة العيد أصلًا. قال الشيخ تقي الدين (¬4): فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب التهذيب (2/ 117)، فقد ذكر ثلاثة منهم، وأما من اسمه (جندب) فقد ذكر أربعة. (¬2) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (10، 378، 388، 474، 484). (¬3) ضبط مشتبه النسبة هنا: "النَّحْلِي" "النِّحْلِي" نسبة إلى نِحْلِين، وهي من قرى حلب. وبالفتح نسبة إلى نحل العسل. و"البَجَلي" رهط جرير بن عبد الله وبالسكون بنو بَجْلَة رهط من سليم. وبخاء معجمة "النَّخْلِي" عمران بن سعيد النَّخْلِي من تابعي الكوفة. اهـ، من مشتبه النسبة للذهبي (51، 52). (¬4) إحكام الأحكام (3/ 165).

بظاهر هذا الحديث، وإلَّا فالواجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة، ويبقى ما عداها بعد الخروج عن الظاهر في محل البحث. قلت: هذا إذا قرئ قوله: "قبل أن يصلي" بالياء وهو محفوظنا، فإن قرئ "بالنون" زال هذا الإِشكال، وفي رواية أخرى لمسلم: "قبل أن يصلي، أو نصلي". قال النووي (¬1) في شرحه الأول بالياء والثاني بالنون، والظاهر أنه شك من الراوي، وفي وجه ضعيف عندنا أنه يعتبر مضي زمن الصلاة فقط بغير خطبة، وضعفه إمام الحرمين. الرابع: قد يستدل بصيغة الأمر في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فليذبح أخرى" إحدى طائفتين إما أن يرى أن الأضحية واجبة، وأما من يرى أنها تتعين بالشراء بنية الأضحية، أو بغير ذلك، من غير اعتبار لفظ في التعيين، نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬2): قال: وإنما قلت ذلك لأن اللفظ المعين للأضحية من صيغة النذر أو غيرها قليل نادر، وصيغة "من" في قوله: "من ذبح" صيغة عموم واستغراق في حق كل من ذبح قبل أن يصلي، وقد ذكرت لتأسيس قاعدة وتمهيد أصل، وتنزيل صيغ العُمُوم التي ترد لتأسيس القواعد على الصورة النادرة أمر مستكره، على ما قرر في قواعد التأويل في فن الأصول. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (13/ 110). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 166).

[فإذا] (¬1) تقرر هذا -وهو استبعاد حمله على الأضحية المعينة بالنذر، أو غيره من الألفاظ- فيبقى التردد في أن الأولى حمله على من سبق له أضحية معينة بغير اللفظ، أو حمله على إبتداء الأضحية من غير سبق تعيين. قلت: والقائل بوجوب الأضحية هو أبو حنيفة والأوزاعي والليث وآخرون. والمشهور من مذهب مالك: أنها سنة على كل مسلم قادر عليها من أهل الأمصار والقرى والمسافرين، إلَّا الحاج بمنى فإنه لا أضحية عليهم. وقال الشافعي وأحمد: هى مستحبة إلَّا أن أحمد قال: لا يستحب تركها مع القدرة عليها (¬2). والقائل بأن الأضحية تتعين بنفس الشراء بنية الأضحية هو المعروف من مذهب مالك كالتقليد والإِشعار في الهدي، فهي تتعين عندهم بثلاثة أمور: بالتزام اللسان. أو بنية الشراء. أو بالذبح. الخامس: قد يَسْتَدِلُّ بهذا الحديث من اعتبر ذبح الإِمام بعد صلاته وخطبته، لأن فعله - عليه الصلاة والسلام - مورد لبيان ¬

_ (¬1) في ن د (وإذا). (¬2) انظر: الاستذكار (15/ 155، 164)، والمحلى (8/ 3، 9)، والمغني (8/ 617، 618)، والمجموع (8/ 385).

الأحكام وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى" مكانها إنما كان بعد ذبحه، فكأنه قال: من ذبح قَبْلَ فعلي هذا من الصلاة والخطبة والذبح. فليذبح أخرى مكانها، أي فلا يعتد بما ذبحه أولًا أضحية، وهذا الاستدلال غير مستقيم لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة، والتعقيب بالفاء من غير مهلة، والخطبةُ إنما اعتبرناها في وقت عدم جواز الأضحية تبعًا للصلاة، وأما الذبح فلا يصلح اعتباره لمنع دخول وقتها، بل هو دليل لنا على جواز الذبح لما قررناه من أن فعله - عليه الصلاة والسلام - حجة للأمة ما لم يرد دليل لتخصيصه به. السادس: قوله - عليه الصلاة والسلام - "فليذبح باسم الله" قال الكتّاب من أهل العربية: إذا قيل: باسم الله، تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف، إذا كتبت: بسم الله الرحمن الرحيم بكمالها (¬1). ومعناه: فليذبح قائلًا باسم الله، أو مسميًا، أو متبركًا، فالمجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير في "يذبح"، هذا هو الصحيح في معناه. ¬

_ (¬1) قال ابن قتيبة في أدب الكاتب (184)، تكتب "بسم الله"- إذا افتتحت بها كتابًا أو ابتدأت بها كلامًا- بغير ألف، لأنها كثرت في هذه الحال على الألسنة، في كل كتاب يكتب، وعند الفزع والجزع، وعند الخبر يرد. والطعام يؤكل فحذفت الألف استخفافًا فإذا توسطت كلامًا أثبت فيها ألفًا نحو "أبدًا باسم الله" و"أختم باسم الله"، وقال الله عز وجل: "اقرأ باسم ربك" و"سبح باسم ربك العظيم" وكذلك كتبنا في الحالين في المصاحف مبتدأه ومتوسطه. اهـ.

وقال القاضي يحتمل أربعة أوجه: أحدها: [أن يكون معناه فليذبح لله، والباء بمعنى اللام، والاسم هو المسمى (¬1). وثانيها: معناه] (¬2) فليذبح بسنة الله، وحذف اختصارًا. وثالثها: بتسمية الله تعالى على ذبيحته إظهارًا للإِسلام ومخالفة لمن ذبح لغيره، وقمعًا للشيطان. ورابعها: تبركًا باسمه وتيمنًا بذكره، كما تقول: سر على بركة الله، وكره بعض العلماء أن يقال افعل كذا على اسم الله، قال: لأن اسمه تعالى على كل شيء. وهذا ليس بشيء، وهذا الحديث يرد عليه (¬3). السابع: التسمية على الذبيحة سنة عند الشافعي، وهو رواية عند مالك وأحمد [وجمهور العلماء] (¬4). وواجبة عند بعضهم. ¬

_ (¬1) انظر هذا المبحث في الجزء الأول من هذا الكتاب المبارك ص (93). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) قال النووي -رحمه الله -تعالى في كتابه "الأذكار" (330): ومن ذلك قول بعضهم: يكره أن يقول: افعل كذا على اسم الله، لأن اسمه سبحانه على كل شيء. قال القاضي عياض وغيره: هذا القول غلط، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه في الأضحية: "اذبحوا على اسم الله"، أي قائلين: باسم الله. وانظر: شرح مسلم (13/ 112). انظر أيضًا: فتح الباري (10/ 21)، فإنه قال: وإما كراهة بعضهم افعل كذا على اسم الله لأن اسمه على كل شيء فضعيف. اهـ. (¬4) زيادة من ن ب د.

قال ابن سيرين والشعبي: إذا ذبح المسلم من غير تسمية حرمت، سواء تركها عمدًا أو سهوًا، وهو الصحيح عن أحمد في صيد الجوارح. وقال الثوري وأبو حنيفة وجماعة: إن تركها عامدًا لم تحل، وإن تركها ناسيًا تحل، وهو الصحيح في مذهب مالك (¬1). وحجة الجمهور حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري (¬2) قالت: إنَّ قومًا قالوا: يا رسول الله إن [(¬3)] قومًا حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، أنأكل منها أم لا؟ فقال: "اذكروا اسم الله وكلوا"، فلو كانت التسمية شرطًا للإِباحة لكان الشك في وجودها مانعًا من أكلها كالشك في الذبح. ¬

_ (¬1) لمراجعة المسألة. انظر: فتح الباري (9/ 521)، والمغني (8/ 539، 565)، والمحلى (8/ 108، 112)، وتفسير القرطبي (7/ 74، 77). (¬2) البخاري (2057)، والنسائي (4406)، وابن ماجه (3174)، وأبو داود (2829)، ومعرفة السنن (48/ 448)، والبيهقي في السنن مرسلًا (8/ 239). (¬3) في الأصل زيادة (قومنا)، والتصحيح من ن ب.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 146/ 4/ 28 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا آذان ولا إقامة، ثم قام متوكئًا على بلال، فأمر بتقوى الله تعالى، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكّرهن، وقال: "تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم"، فقامت امرأة من سِطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لِمَ يا رسول الله؟، قال: "لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير"، [قال] (¬2) فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن (¬3). الكلام عليه من ثلاثة وأربعين وجهًا، والتعريف براويه سلف في آخر باب الجنابة. ¬

_ (¬1) في صحيح مسلم زيادة (الصلاة). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) البخاري (958، 961، 978) في العيدين، باب: موعظة الإِمام النساء يوم العيد، ومسلم (885) في صلاة العيدين، وأبو داود (1141)، والنسائي (3/ 186)، والدارمي (1/ 375)، وأحمد في المسند (3/ 318).

الأول: قوله: "شهدت" معناه: حصرت. والمفعول محذوف، أي شهدت الصلاة يوم العيد، فيوم العيد ظرف لا مفعول به، ويستنبط من ذلك شهود صلاة العيد مع الإِمام. الثاني: قوله "بدأ" هو بالهمز لأنه بمعنى ابتدأ، وأما بَدَا بمعنى ظهر فغير مهموز ويستنبط من هذا البدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقد سلف ذلك واضحًا في الحديث الأول، فلو خطب قبل الصلاة أساء، وفي احتسابها احتمال لإِمام الحرمين. الثالث: فيه أيضًا عدم [الأذان] (¬1)، والإِقامة لصلاة العيد وهو إجماع اليوم، وهو المعروف من فعل الشارع وخلفائه الراشدين، ونقل عن بعض السلف فيه شيء خلاف إجماع من قبله ومن بعده [فروي] (¬2) عن معاوية إنه أحدث الأذان لها. وقيل: زياد وهو الأشبه، كما قال القرطبي (¬3)، وهذا ¬

_ (¬1) في ن ب د (النداء). (¬2) في ن د (وروي). (¬3) المفهم (3/ 1488). قال ابن حجر في الفتح (2/ 453): واختلف في أول من أحدث الأذان فيها أيضًا، فروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه معاوية، وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري مثله زاد: فأخذ به الحجاج حسن أُمِّر على المدينة، وروى ابن المنذر عن حصين بن عبد الرحمن، قال: أول من أحدثه زياد بالبصرة. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (2/ 169)، والاستذكار (7/ 14). وقال الداودي: أول من أحدثه مروان، وكل هذا لا ينافي أن معاوية أحدثه كما تقدم في البداءة بالخطبة، وقال ابن حبيب أول من أحدثه هشام، =

الحديث وغيره يرد على من أخذ بذلك. [و] (¬1) من غرائب الجيلي (¬2) حكايته، [وجه] (¬3) أنه يؤذن لها، ووجهٌ آخر أنه يكره فقط. وكأن سبب تخصيص الفرائض بالأذان، تمييزها به عن النوافل إظهارًا لشرفها. وأشار بعضهم إلى معنى آخر: وهو أنه لو دعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها لَوَجَبَتْ الإِجابة، وذلك منافِ لعدم وجوبها، وهذا حسن كما قال الشيخ (¬4) تقي الدين بالنسبة إلى من يرى أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان. قال العلماء (¬5): ويستحب أن يقال فيها: الصلاةَ جامعةً ¬

_ = وروى ابن المنذر عن أبي قلابة، قال: أول من أحدثه عبد الله بن الزبير وقد وقع في حديث الباب أن ابن عباس أخبره أنه لم يكن يؤذن لها، لكن في رواية يحيى القطان أنه لما ساء ما بينهما أذن -يعني ابن الزبير- وأقام. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (14/ 73)، والاستذكار (7/ 14). (¬1) زيادة في ن ب د. (¬2) هما اثنان: جعفر بن باي، أو ابنه باي بن جعفر، وهما من علماء الشافعية. تاريخ بغداد (7/ 135، 136)، وطبقات الشافعية للإِسنوي (1/ 356، 357)، وطبقات الشافعية لابن الصلاح (432، 435). (¬3) في الأصل (وجهه)، وما أثبت من ن ب د. (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 170). (¬5) أي النووي كما ذكره في شرح مسلم (6/ 175، 177)، أقول وبالله التوفيق: وهذا لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - ولا في عصر خلفائه الراشدين.

بنصبهما الأول على الإِغراء، والثاني على الحال، لما روى الشافعي (¬1) عن الزهري أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يأمر أن ينادى للعيد والاستسقاء: "الصلاة جامعة" (¬2). وقال القاضي حسين من أصحابنا: يقول: الصلاةَ، الصلاةَ، فقط. فلو قال: حي على الصلاة، قال في العدة: هو مندوب. وقال الدارمي (¬3) وسليم: مكروه. وقال أبو الطيب وغيره: لا بأس به. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 235). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (2/ 452): لكن روى الشافعي عن الثقة عن الزهري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن في العيدين أن يقول: "الصلاة جامعة" وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك -قال الشيخ ابن باز في تعليقه على الفتح- مراسيل الزهري ضعيفة عند أهل العلم، والقياس لا يصح اعتباره مع وجود النص الثابت الدال على أنه لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العيد أذان ولا إقامة ولا شيء، ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان، والله أعلم. اهـ. أقول: إذا علم هذا يتبين لنا أن ما يجري في المسجد الحرام والمسجد النبوي وغيرهما مما لا نعلمه عند القيام لصلاة العيدين ينبه المؤذن قائلًا: "صلاة العيد أثابكم الله"، فإن هذه بدعة لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه الكرام، فإن قولهم هذا بمثابة الإِقامة، وحديث الباب شاهد على ما قلنا، وأيضًا ورد بلفظ عام "لم يكن -أي في صلاة العيدين- أذان ولا إقامة ولا نداء" وفق الله الجميع للفقه في دينه. (¬3) في الروضة (2/ 77)، والمجموع (5/ 15).

وقال النووي في "شرح المهذب" (¬1): الصواب: أنه خلاف الأولى، ولا بأس: بهلمّوا إلى الصلاة، كما قال في "الروضة" (¬2). ونقل ابن الرفعة كراهتها أيضًا عن النص، ولو أذن وأقام كره على النص. الرابع: قوله: "ثم قام متوكئًا على بلال"، التوكُّؤ: التحامل، والمراد هنا: الميل في قيامه متحاملًا على بلال، فيؤخذ منه القيام في الخطبة، والتوكؤ على شيء، ولو على آدمي، ولا يتعين القوس والْعَصَا، كما قاله الفقهاء، وجواز استعانة العالم بمن هو في خدمته. الخامس: قوله: "فأمر بتقوى الله" إلى آخره، أما التقوى فأصلها وَقْوَي، لأنها من وقى يقي، فأبدلت الواو تاء كما أُبدلت في تراب ولخمة، والأصل وراب، ووخمة فكأن المتقي يجعل بينه وبين النار وقاية، قالوا: وهي عبارة عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه. قال الغزالي: وكأن الخير كله جمع وجعل تحت هذه الخصلة التي هي التقوى. وقد قال بعض المريدين لشيخه: أوصني، فقال: أوصيك بما أوصى الله به الأولين والآخرين، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬3)، ولبعضهم: ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 13، 15)، والحاوي (3/ 113). (¬2) روضة الطالبين (2/ 76، 77). (¬3) سورة النساء: آية 131.

ليس زاد سوى [التقى] (¬1) ... فخذي منه أو دعي [فأما] (¬2) الحث فمعناه: حرض، وحرص. وأما الطاعة: فهي الانقياد للأمر، وأصلها طوعة، لأنها من طاع يطوع إذا انقاد، فقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهي اسم للمصدر، والمصدر: الطاعة والحث على الطاعة يكون بأمرين: الأول: بالترغيب في الجزاء عليها. والثاني: بالترهيب من تركها بفوات ثوابها، وترتب العقاب عليه. وأما الوعظ: فهو الأمر ومنه قوله تعالى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} (¬3)، أي تأمرون، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} (¬4)، أي آمركم، وهو النصح أيضًا، والتذكير بالعواقب وعظته وعظًا وعظة واتعظ، أي قبل الموعظة، يقال: السعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره. وأما التذكير: فيكون بالنعم، ودفع النقم، واستحقاق الله سبحانه الطاعة والتنزيه والتحميد والتوحيد والشكر على ذلك كله، وعلى التوفيق له وهذه المذكورات الأربع هي مقاصد الخطبة، ولا ¬

_ (¬1) في الأصل (التقوى)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) في ن ب د (وأما). (¬3) سورة الأعراف: آية 164. (¬4) سورة سبأ: آية 46.

شك أن الوصية بالتقوى واجبة في الخطبة الواجبة، لكن لا يتعين لفظها على الصحيح عندنا مع الاتفاق على أن الأولى الإِتيان بلفظها، وما كان واجبًا في مَا هو واجب، هل يكون واجبًا في مَا هو مسنون، فيه أوجه لأصحابنا، أصحها. نعم [فيما] (¬1) يتأدى به الواجب في الخطبة الواجبة يَتأدى به السنَّة في الخطبة المسنونة، ولم يذكر [الراوي] (¬2) في هذا الحديث ذكر الحمد، لأن ذلك معلوم من خطبته - صلى الله عليه وسلم -. السادس: قوله: "ثم مضى حتى أتى النساء [فوعظهن وذكّرهن، وقال تصدقن" هذا المعنى إلى النساء] (¬3) صريح في أنه كان بعد الفراغ من الخطبة، ووقع في رواية لمسلم (¬4) ما يوهم أنه - عليه الصلاة والسلام - "نزل من المنبر في أثناء الخطبة، فأتى النساء فوعظهن"، لا بعد الفراغ منها، وقطع القاضي عياض (¬5) به، وقال: كان ذلك [في أول الإِسلام، وهو خاص به دون غيره وليس كما قال، وقد وقع في مسلم] (¬6) أيضًا من حديث جابر (¬7) هذا أنه - عليه الصلاة والسلام - "صلى ثم خطب الناس، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكّرهن". ¬

_ (¬1) في الأصل (كما)، والتصحيح من ن ب، وفي ن د (فما). (¬2) في الأصل (الأكثرون)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) انظر تخريج حديث الباب. (¬5) إكمال إكمال المعلم (3/ 34). (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) مسلم (885).

السابع: فيه تخصيص النساء بالوعظ والتذكير في مجلس غير مجلس الرجال، إذا لم يترتب عليه مفسدة، وهو حق على الإِمام أن يفعله، كما قاله عطاء، وهو السنَّة، وإن أنكره عليه القاضي. الثامن: فيه أيضًا حضور النساء في صلاة العيد، وكان هذا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، حضورهن أيضًا مطلقًا سواء المخبآت وغيرهن، وأما اليوم فلا تخرج الشابة ذات الهيئة، ويخرج غيرها ممن لا هيئة لها، ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها-: لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منعت نساء نبي إسرائيل" (¬1). واختلف العلماء من السلف في خروجهن للعيد، فرأى ذلك جماعة حقًّا عليهن، منهم أبو بكر وعلي وابن عمر وغيرهم. ومنهم من منعهن ذلك، منهم عروة والقاسم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك وأبو يوسف، وأجازه أبو حنيفة مرة، ومنعه أخرى. ومنع بعضهم في الشابة دون غيرها، وهو مذهب مالك وأبي يوسف. قال الطحاوي: [و] (¬2) كان الأمر بخروجهن أول الإِسلام لتكثير ¬

_ (¬1) البخاري (869)، ومسلم (445)، وأبو داود (569)، ومالك (15) في القبلة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد، وأحمد (6/ 91، 193، 235)، والبيهقي في الصلاة (3/ 133)، وابن خزيمة (1698). (¬2) في ن ب دساقطة.

المسلمين في أعين العدو، ونازعه غيره [وقال] (¬1) هذا يحتاج إلى تاريخ أيضًا فليس النساء مما يرهب بهن العدو (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب د (فقال). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (2/ 350): ويلحق بالطيب ما في معناه، لأن سب المنع منه ما فيه من تحريك داعية الشهوة كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال، وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر، إلَّا إن أخذ الخوف عليها من جهتها لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل، وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث وغيره ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر بلفظ: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن"، أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية "أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة"، وإسناد أحمد حسن، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود، ووجه كون صلاتها في الإِخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء منه التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة ما قالت، وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقًا وفيه نظر، إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقتة على شرط لم يوجد بناءً على ظن ظنته، فقالت: "لو رأى لمنع"، فيقال عليه: لم ير ولم يمنع، فاستمر الحكم، =

التاسع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "تصدقن" فيه الأمر بالصدقة لأهل المعاصي والمخالفات. العاشرة: فيه التبيه على أن الصدقة من دوافع عذاب جهنم. الحادي عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإنكن أكثر حطب جهنم"، جهنم اسم من أسماء النار أعاذنا الله منها، وقد تقدم الكلام عليها في الحديث الثالث من باب جامع: وحطبها: وقودها. والحصب: في لغة أهل اليمن والحبشة، الحطب، وإنما كُن كذلك لعدم طاعة الله تعالى في أنفسهن وأزواجهن وشكرهن لله تعالى على نعمه. الثاني عشر: فيه إشارة إلى الإِغلاظ في النصح بالعلة التي تبعث على إزالة العيب أو الذنب الذي يتصف بهما الإِنسان. الثالث عشر: فيه أيضًا لعناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه للمخاطبين. ¬

_ = حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها كانت ترى المنع، وأيضًا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن، فما أوحى إلى نبيه بمنعهن، ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضًا فالإِحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت، والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإِشارته - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بمنع التطيب والزينة، وكذلك التقيد بالليل كما سبق.

[الرابع عشر، فيه أيضًا بذل النصيحة لمن يحتاج إليها والسعي فيها إليه] (¬1). [الخامس عشر (¬2)]: قوله: "فقامت امرأة من سطة النساء" (¬3) هذه المرأة لا أعلم من سماها بعد البحث عنها. والسِطَة: بكسر السين المهملة، وفتح الطاء المخففة وأصل هذه اللفظة من الوسط الذي هو الخيار (¬4). ووقع في بعض نسخ مسلم (¬5) "من وَاسِطَة النساء"، يقال: فلان (¬6) من أوسَاط قومه، وَوَاسِطَة قومه ووسط قومه، وقد ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د مع اختلاف، في ن ب د (والسعي إليه فيها). (¬2) في الأصل (الرابع عشر)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) في ن د حاشية قد يقال قوله "من سطة النساء" أي في الصورة لا الدين لأنهن دينات. (¬4) في ن د حاشية ومنه قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} أي خيارًا عدولًا. (¬5) انظر التعليق على مسلم (ص 603)، طبعة عبد الباقي، حيث قال: "من سطة النساء"، هكذا هو في جميع النسخ: سِطة، وفي بعض النسخ. واسطة النساء. قال القاضي: معناه من خِيارهن. والوسط العدل والخيار. (¬6) قال في المعلم (1/ 478): قيل في تفسيره قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم وخيرهم، ومنه قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} أي عدلأ خيار. ويقال: فلان من أوسط قومه وإنه لواسطة قومه ووسط قومه، أي من خيارهم رمن أهل الحسب فيهم، وقد وسط وساطة وسطة. وقول الله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} أي فتوسط المكان، يقال: وسط البيوت يسطها، إذا نزل في وسطها. فائدة: قال السهيلي -رحمنا الله وإياه- في الروض الأنف (1/ 212)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = معنى السطة. والوسط: وقول خديجة - رضي الله عنها -: إنها لطتك في عشيرتك، وقوله في وصفها: هي أوسط قريش نسبًا. فالسطة: من الوسط، مصدر كالعدة والزنة، والوسط من أوصاف المدح والتفضيل، ولكن في مقامين: في ذكر النسب، وفي ذكر الشهادة. أما النسب، فلأن أوسط القبيلة أعرفها، وأولاها بالصميم وأبعدها عن الأطراف والوسيط، وأجدر أن لا تضاف إليه الدعوة؛ لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب، فكان الوسط من أجل هذا مدحًا في النسب بهذا السبب. وأما الشهادة نحو قوله سبحانه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فكان هذا مدحًا في الشهادة؛ لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطًا كالميزان، لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميمًا، لا يجذبه هوى، ولا يميل به دعية، ولا رهبة، من ها هنا، ولا من ها هنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل، وظن غير من الناس أن معنى الأوسط: الأفضل على الإِطلاق، وقالوا: معنى الصلاة الوسطى: الفضلى، وليس كذلك، بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم، كما يقتضي لفظ التوسط، فإذا كان وسطًا في السمن، فهي بين المحجة والعجفاء، والوسط في الجمال بين الحسناء والشوهاء، إلى غير ذلك من الأوصاف لا يعطي مدحًا، ولا ذمًا، غير الفهم قد قالوا في المثل: أثقل من مغني وسط على الذم؛ لأن المغني إن كان مجيدًا جدًا أمتع وأطرب، وإن كان باردًا جدًا أضحك وألهى، وذلك أيضًا مما يمتع. قال الجاحظ: وإنما الكرب الذي يجثم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، الغناء الفاتر الوسط الذي لا يمتع بحسن، ولا يضحك بلهو، وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يقال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو: أوسط الناس. أي: أفضلهم، ولا يوصف بأنه وسط في العلم، ولا في الجود، ولا في غير ذلك إلَّا في النسب والشهادة، كما تقدم، والحمد لله، والله =

وُسط [(¬1)] وسَاطة وسطِة، ويقال وسطت القوم أسَطهم وسطًا [وسطة] (¬2)، أي توسطتهم. قال القاضي عياض (¬3): معنى هذه اللفظة: الخيار، أي من خيار النساء. والوَسَط: العدل، والخيار، قال: وزعم بعض الفضلاء الحذاق: أن الرواية فيها تصحيف وتغيير من بعض رواة صحيح مسلم، وأن الأصل في الرواية: "من سفلة النساء"، فاختلطت الفاء باللام فصارت طاء، ويؤيد ذلك رواية ابن أبي شيبة والنسائي (¬4) "من سفلة النساء". وفي رواية لابن أبي شيبة (¬5): "فقامت امرأة ليست من علية النساء"، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله: "بعده [سفعاء] (¬6) ¬

_ = المحمود. اهـ. (¬1) في ن ب زيادة (واسط). (¬2) في ن ب (وسيطة). (¬3) انظر: مشارق الأنوار (2/ 214). إكمال إكمال المعلم (3/ 35). (¬4) النسائي (3/ 186). قال السيوطي في شرحه على النسائي على قوله: "فقالت امرأة من سفلة النساء" بالفاء. قال القاضي عياض: زعم شيوخنا أن هذه الرواية هي الصواب. وكذا في مصنف ابن أبي شيبة والذي في الصحيح من "ثبطة النساء" بالطاء تصحيف ويؤيده أن في رواية أخرى "فقامت امراة ليست من علية النساء". (¬5) ابن أبي شيبة (3/ 110). (¬6) في الأصل (سعفاء)، وما أثبت من ن ب د.

الخدين" وأقره على ذلك القرطبي (¬1). وقال الفاكهي: الأظهر عندي ما قاله القاضي. وأما النووي (¬2): فقال هذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها خيار النساء كما فسَّره القاضي، بل المراد: امرأة في [وسط] (¬3) النساء جالسة في وسطهن. قال الجوهري (¬4) وغيره من أهل اللغة: يقال: [وسط] (¬5) القوم أسَطهم وسطًا [وسِطة] (¬6)، أي توسطتهم. وقد أسلفت ذلك. فالحاصل من تفسير هذه اللفظة ثلاثة أشياء: خيار النساء. ¬

_ (¬1) في المفهم (3/ 1487). (¬2) انظر: شرح مسلم (6/ 175). (¬3) في الأصل (سطة)، وما أثبت من ن ب د وشرح مسلم. (¬4) انظر: مختار الصحاح (299). (¬5) في الأصل (وسطت)، وما أثبت من ن ب ومختار الصحاح، فإذا قلت: جلستُ وسْط القومِ بالتسكين لأنه ظرف. وإذا قلت جلست في وسَطَ الدار بالتحريك لأنه اسم وكل موضع يصلح فيه بين فهو وسَطَ الدار بالتحريك وربما سكن وليس بالوجه. انظر: الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري (253). (¬6) في ن ب (وسيطة).

وسفِلة النساء. وجالسةً في وسطهن. السادس عشر: قوله: "سُفَعاء الخدين" هو -بضم السين وفتحها- حكاهما صاحب المطالع، قال: وهو شحوب وسواد في الوجه. وفي البارع والصحاح: هو سواد الخدين من المرأة الشاحبة. وقال الأصمعي: هو حمرة يعلوها سواد. وقال الشيخ تقي الدين (¬1) الأسفع، والسفعاء: من أصاب خده لون يخالف لونه الأصلي، من سواد أو حمرة أو غيره (¬2). السابع عشر: "الشكاة" -بفتح الشين- الشكوى، وألفها منقلبة عن واو، كالصلاة والزكاة، والشكاة والشكاية كله بمعنى واحد، أي يكتمن الإِحسان، ويظهرن الشكوى، ولا شك أن الشكاية جائزة إذا اضطرت إليها، فإذا أكثرت منها دل ذلك على عدم الرضا بقضاء الله تعالى، فاقتضى دخول النار. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 173). (¬2) قال في المعلم (1/ 479): وأما "سفعاء الخدين" فإن الهروي فسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر أنا وسفعاء الخدين كهاتين "يوم القيامة". أراد أنها بذلت تناصف وجهها، أي محاسن وجهها حتى اسودت إقامة على ولدها بعد وفاة زوجها فلا تضيعهم. والأسفع: الثور الوحشي الذي في خده سواد. وفي حديث النخعي "ولقيت غلام أسفع أحوى". قال القتبي: الأسفع الذي أصاب خده لون يخالف سائر لونه من سراد.

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهذا السبب في الشكاية: يجوز [أن يكون راجعًا إلى ما يتعلق بالزوج، وجحد حقه. ويجوز أن يكون راجعًا] (¬2) إلى ما يتعلق بالله تعالى من عدم شكره، والاستكانة لقضائه. قال الفاكهي: والأول أظهر، لأن الشكاية لله غير مختصة بالنساء. الثامن عشر: "العشير"، قال أهل اللغة: هو المعاشر والمخالط. ومعناه هنا: عند الأكثرين: الزوج، وهو معدول عن اسم الفاعل للمبالغة. وقيل: هو كل مخالط، وقد أحسن الحريري -رحمه الله-، حيث قال: وأفي (¬3) العشير وإن لم يوافِ بالعشير. أراد بالأول المعاشر، وبالثاني العشر، فإنه يقال عشر وعشير و [معشار] (¬4) بمعنى. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 173). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) وأفي للعشير، وإن لم يكافىء بالعشير. قال الشارح: (أفي للعشير) أعامل الصاحب بالوفاء (وإن لم يكافىء بالعشير)، يجازي بالعشير، من فعلي. والمكافأة المواساة. من شرح مقامات الحريري، لأبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي: الجزء الأول (ص 80) بإشراف محمد عبد المنعم خفاجي: الطبعة الأولى (المقامة الرابعة). (¬4) في ن ب ساقطة.

وقال الخليل: هو العشير [والشعير] (¬1) على القلب. التاسع عشر: معنى "الكفر" هنا: جحد الإِحسان لضعف عقلهن، وقلة معرفتهن، فإن الزوج قوّام على المرأة بالنفقة والكسوة والسكنى، وغض بصرها عن المحارم، وقيام حرمتها به وسترها، وقد بين [الله] (¬2) ذلك، في كتابه، فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ...} (¬3) الآية. واعلم أن الكفر عند الإِطلاق لا يطلق إلَّا على الكفر المنافي للإِسلام، وقد يطلق على الكفر المنافي لكماله، لقصد التنبيه على عظم قبحه شرعًا وعادة، لا للخروج من الإِسلام. العشرون: في الحديث سؤال الواعظ والمذكر حال وعظه وتذكيره عما يلبس عليه من العلم وما لا يعلمه. الحادي والعشرون: فيه أيضًا مباشرة المرأة المفتي بالسؤال خصوصًا بحضرة النساء. الثاني والعشرون: فيه أيضًا سؤال المستفتين للعالم عن العلم للنساء وغيرهم. [الثالث والعشرون: فيه أيضًا جواز كشف المرأة وجهها إذا كانت غير جميلة للاستفتاء بحضرة الرجال والنساء، وقد جوّز الفقهاء ¬

_ (¬1) في ن ب (العشير). قال الخليل: يقال: هذا عشيرك وشعيرك على القلب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة النساء: آية 34.

كشف وجه المرأة مطلقًا للشهادة عليها (¬1)] (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن جرير الطبري (18/ 117) في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، قال: الثياب، وإسناده صحيح. وقال ابن كثير على هذه الآية: أي لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلَّا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود: كالرداء والثياب. يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها. وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن عطية: "ويظهر ليس بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألَّا تبدي وأن تجتهد في الإِخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه". وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في تفسير سورة النور "فما ظهر من الزينة هو الثياب الظاهرة، فهذا لا جناح عليها في إبدائه -إذا لم يكن هناك محذور آخر- فإن هذا لا بد من إبدائها وهذا قول ابن مسعود وغيره وهو المشهور عن أحمد، وأما من قال: إن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان وهو بعض بدن المرأة، واستدل بالآية على جواز كشفهما فهذا قول لا ينبغي حمل الآية عليه لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولم يقل "إلَّا ما أظهرن منها" وبين الجملتين فرق فإن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يفيد أنه ظهر بنفسه من غير قصد، وهذا بخلاف ما يتعمد الإِنسان إظهاره، فإظهار الوجه والكفين عمدًا لا ينطبق عليه قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلَّا لو كانت الآية "إلَّا ما أظهرن منها"، وعلى هذا فلا يصح ان يرجع الخلاف ليس وجوب ستر الوجه والكفين أو عدم الوجوب إلى الآية، وإنما برجع ذلك إلى السنة، لما علمنا أن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر، ولأنه جاءت نصوص الكتاب والسنة تحريم كشف الوجه. والله أعلم. (¬2) في ن ب ساقطة، مع تقديم بعض الأوجه بعضها على بعض.

الرابع والعشرون: فيه شكر الإِحسان وأهله. الخامس والعشرون: فيه الصبر، وعدم الشكاية إلى المخلوقين، وقد أمر الله (¬1) تعالى بالصبر في غير آية، وحث عليه، وأن يكون جميلًا، وهو الذي لا شكوى فيه ولا جزع، وقد حث الشرع على إنزال الحوائج بالله دون غيره، وأَنَّ إنزالها بالله سبب لحصولها وأَنَّ إنزالها بالمخلوقين سبب لفواتها. السادس والعشرون: فيه أيضًا تحريم كفران النعم، سواء كانت من مفضول أو فاضل، لأنه جُعل سببًا لدخول النار، وقد صح أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" (¬2). السابع والعشرون: فيه التنبيه على شكر الله، والثناء عليه، فإنه تعالى خلق الأسباب والمسببات، والهادي لأحسنها، والصارف لسيئها ولا شك أن ذكر النعم والتحدث بها شكرها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وأمَّا بالنسبة إلى الآدميين فبالمكافأة عليها إن قدر، وإلَّا فالثناء على صاحبها والدعاء له، وأما التحدث بها فإن علم أن صاحبها يؤثر التحدث بها وذكرها أمسك عنها. وإن علم أنه يكره ذلك فعلها، وينبغي أن يكون مع ذلك مقصود شرعي من التنبيه على ¬

_ (¬1) في ن ب د زيادة (سبحانه). (¬2) أبو داود (4811) في الأدب، باب: شكر المعروف، والترمذي (1955) في البر والصلة، باب: ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك، والبغوي (3610)، باب: شكر المعروف.

مثل فعل المنعم، والاقتداء به في الإِحسان، وحكم المكافأة في الثناء عليه والذكر. الثامن والعشرون: فيه التنبيه على الأعلى بالأدنى، فإنه إذا كان بالشكاية وكفر الإِحسان فاعلهما من أهل النار، فكيف بمن ترك الصلاة، وقذف [المحصنات] (¬1)، ورماهم بالكفر والبهتان. التاسع والعشرون: "الحلي": جمع، والمفرد حلي، وهو بضم الماء المهملة وكسرها، والضم أشهر وأكثر. وقد قرئ بهما في السبع، وأكثر القراء على الضم، والسلام مكسور، والياء مشددة فيهما. الثلاثون: "الأقرطة": جمع قرط، قال ابن دريد: كل ما علق [في] (¬2) شحمة الأذن فهو قرط، سواء كان من شهبة أو حرز (¬3). وأما الخرص: فهو الحلقة الصغيرة من الحلى (¬4). قال القاضي (¬5): قيل: الصواب "قرطهن" بحذف الألف وهو ¬

_ (¬1) في ن ب د (المؤمنين). (¬2) في ن د ساقطة. (¬3) ذكره في مشارق الأنوار (2/ 178). (¬4) وهو بضم الخاء وكسرها: الحلقة من الذهب والفضة. (¬5) قال القاضي في مشارق الأنوار (2/ 118) على قوله: "فجعل النساء يلقين من أقرطتهن". كذا جاءت الرواية. قال بعضهم: والصواب "قرطتهن" جمع قرط قالوا: ويجمع القرط قرطة وأقراطًا وقراطًا وقروطًا ولم يذكروا قرطة ... إلخ وقد ذكر هنا.

المعروف في جمع قرط كجرح وجرحه، ويقال: في جمعه قراط كرمح ورماح، وقيل: في جمع قرط قروط، حكاه القرطبي (¬1). قال القاضي: ولا يبعد صحة أقرطة، ويكون جمع الجمع أي يكون أقرطة جمع قراط، لا سيما وقد صح في الحديث. الحادي والثلاثون: قد يستأنس بما ذكرناه من تفسير القرط لمسألة مهمة، وهي تنقيب الأذان، وفيها اختلاف للعلماء. قال الغزالي: هو حرام لأنه جرح لم تَدْعُ الحاجةُ إليه، وبالغ فيه مبالغة شديدة. قال إلَّا أن يثبت فيه من جهة النقل رخصة، ولم يبلغنا. لكنه قال في "بسيطه"، في زكاة النقدين: وأما ما يختص بالنساء، فالتحلي للأزواج جائز لهن في [المعاصم] (¬2) والمخانق والأذان، وما يعتاد فيه من السوار، والخلخال، وغيره. فقوله: والأذان فيه مخالفة لما ذكره في "الإِحياء". وقال صاحب "الرعاية" (¬3) الحنبلي: يجوز ثقب أذن الصبية للزينة، ويكره ثقب أذن الصبي. وقال قاضي خان الحنفي في "فتاويه": لا بأس بتثقيب أذن الصبية، لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية، ولم ينكر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1492). (¬2) في ن ب (معاجم). (¬3) ص (9/ أ) مخطوط.

الثاني والثلاثون: "الخواتيم"، جمع خاتم وفيه ست لغات: فتح التاء وكسرها وخاتام وخِيتام وخِتام وخَتَم والخاتم (¬1). والقرط: من أنواع الحلى مأخوذ من الحلية وهي الزينة، وفي رواية في الصحيح: "فجعلن يلقين الفَتَخَ والخواتم". والفتخ: -بفتح الفاء والتاء المثناة فوق وبالخاء المعجمة- واحدها فتخة. واختلف في تفسيرها: ففي البخاري عن عبد الرزاق، قال: هي الخواتيم العظام، وقال الأصمعي: هي خواتيم لا فصوص لها. وقال ابن السكيت (¬2): خواتيم تلبس في أصابع اليد. قال ثعلب (¬3): وقد تكون في أصابع الواحد من الرجل. قال ابن دريد: وقد يكون لها فصوص، وتجمع أيضًا فتخات وأفتاخ. الثالث والثلاثون: في الحديث جواز طلب الصدقة للفقراء من الأغنياء عند الحاجة كما استنبطه الصوفية. ¬

_ (¬1) قال في لسان العرب الخاتم هو ما يوضع على الطينة ليختم به، قال: وكأنه أول وهلة ختم به فدخل في باب الطابع ثم كثر استعماله وإن أُعد لغير الطبع وفيه تسع لغات: انظر: لسان العرب (1/ 11)، وتاج العروس (8/ 266، 267). (¬2) انظر: كنز الحفاظ في ترتيب الألفاظ (655)، وانظر ما يأتي في شرح مسلم (6/ 173). ذكره في المفهم (3/ 1483). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 35).

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهو حسن بالشرط المذكور. الرابع والثلاثون: فيه أيضًا جواز تصرف المرأة في مالها وحليها بالصدقة وغيرها بغير إذن زوجها، وقد منعه مالك فيما زاد على الثلث إلَّا برضى زوجها، والجمهور على جوازه، لأنه - عليه الصلاة والسلام - حث النساء عليها وفعلنَها من غير تقييد بإذن زوج، فدل على الجواز. وأجاب بعض المالكية عن ذلك: بأنهن تصدقن بحضرة أزواجِهِنَّ فإنه الغالب، ولعله لم يفعلن ذلك فيما زاد على الثلث، وهو ضعيف أو باطل، لأن فعلهن ذلك كان في غيبة أزواجهن وهن معتزلات عنهن في حضرته - عليه الصلاة والسلام -. وقال الشيخ تقي الدين (¬2): من أجاز الصدقة مطلقًا من غير تقييد بمقدار معين، فلا بدَّ له من أمر زائد على هذا يقرر به العموم في جواز الصدقة، وكذا من خصص بمقدار معين، فإن الحديث دال على [الجواز] (¬3) من حيث الجملة. الخامس والثلاثون: فيه أيضًا أنه ينبغي للإِمام إذا لم يكن في بيت المال شيء من مال أو متاع أو عقار أن يطلب الصدقة للمحتاجين، ويقيم من يتطوع بجمعها لهم، وكذلك كبير القوم يفعل إذا دعت إلى ذلك حاجة أو ضرورة. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 174). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 174)، وانظر: تعقب النووي في شرح مسلم (6/ 173). (¬3) في ن ب (جواز).

السادس والثلاثون: فيه أيضًا المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إليها. السابع والثلاثون: فيه أيضًا الصدقة بجميع أنواع المال وإن كان المتصدق محتاجًا إلى ما يتصدق به. الثامن والثلاثون: فيه أيضًا منقبة ظاهرة للنساء المتصدقات ورفع مقامهن في الدين، وامتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أنهن ضعيفات عن التكسب غالبًا، وتحصيلُ الأموال والشحُّ فيهن أغلب من الرجال. التاسع والثلاثون: فيه أيضًا أن النساء إذا حضرنَ صلاة الرجال أو مجامعهن يكن بمعزل عنهم خوفًا من فتنة أو نظرة أو فكر ونحوه، وهذا كان ينبغي تقديمه قبل الوجه التاسع. الأربعون: فيه أيضًا أن صدقة التطوع لا تحتاج إلى إيجاب وقبول، بل يكفي فيها المعاطاة، لأنهن ألقين الصدقة في ثوب بلال من غير [كلام منهن] (¬1)، ولا من بلال، ولا [من] (¬2) غيره، وهذا هو الصحيح عندنا، وبه جزم المحققون، وقال: أكثر أصحابنا العراقيون كما حكاه النووي عنهم في "شرح مسلم" (¬3)، يفتقر إلى إيجاب وقبول باللفظ كالهبة. ¬

_ (¬1) في ن ب (كلامهن). (¬2) في ن ب د ساقطة. (¬3) في شرح مسلم (6/ 173).

الحادي و [الثاني] (¬1) والأربعون: قيل فيه وجوب الصدقة في الحلي، وجواز تقديم الزكاة إذْ لم يسئلهن عن حلولها، وفيه نظر الظاهر أنها صدقة تطوع، ولذلك قال بعضهم: فيه حجة أنه لا زكاة فيه، لقوله في رواية: "ولو من حليكن"، ولا يقال هذا في الواجب. الثالث والأربعون: فيه حجة لمن يرى جواز فعل البكر وفيه نظر، إذ لم يأت فيه عن بكر أنها تصدقت معهن، ولا حضرت ذلك المشهد، نعم في الحديث الآتي ما يشعر بحضورهن كما ستعلمه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 147/ 5/ 28 - عن أم عطية نسيبة الأنصارية - رضي الله عنها - قالت: "أمرنا - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -- أن نُخْرِجَ في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحُيَّض أن يعتزلن مصلَّى المسلمين". وفي لفظ: "كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض [فيكن خلف الناس] (¬1) فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته" (¬2) (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه "نُسَيبة" -بضم النون وفتحها، وفتح السين، ثم ياء مثناة تحت، ثم باء موحدة، ثم هاء- وقيل: "نبيشة" -بنون وباء وشين معجمة، حكاه الشيخ تقي الدين (¬4). وفي ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) البخاري (324، 351، 971، 974، 980، 981، 1652)، ومسلم (890)، والنسائي (3/ 180، 181). (¬3) زيادة من متن العمدة. (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 176).

[التلقيح] (¬1) لابن الجوزي: [لسينة] (¬2) بلام ونون، وبخط الصريفيني "لسيبة" بنت كعب، ذكرها الأصفهانيان. وفي "صحيح أبي عوانة" (¬3) في كتاب الزكاة "لتيبه" بلام، ثم تاء [ثم] (¬4) مثناة تحت، ثم باء ثم هاء، كذا رأيته بالخط. وفي "تاريخ ابن أبي حاتم" اسم أم عطية "حُقة" (¬5) أيضًا. فهذه ستة أقوال، وهي بنت كعب. ¬

_ (¬1) في الأصل (البلغة)، وما أثبت من ن ب د، وفي حاشية الصنعاني على العمدة التنقيح (3/ 176). (¬2) هكذا كتب بلام ونون "لسنة"، وما كتب في المخطوطات كما أثبت، وقد ذكرها في تلقيح فهوم أهل الأثر (345) "لسيبه"، قال ابن الجوزي في "تلقيح": ذكرها الأكثرون وذكرها ابن إسحاق في المغازي "لِسَيبة" وهو متحرف في "التلقيح" إلى "نسبة". أما في المغازي (2/ 49، 74) (3/ 29) الموجودة فيها فهو "نسيبة". وفي "توضيح مشتبه السنة لابن ناصر" (9/ 79)، فقد ذكرها "لِسَيبة" نقلًا عن المغازي. وفي المعجم الكبير (25/ 30) في باب اللام، فقال: "السيبة" كما أفاده في "التلقيح" وبعد الاطلاع عليه وجدته قد تحرفت إلى "لبيسة" بتأخير "السين" وتحرفت أيضًا في الإِصابة (8/ 180). أما في أسد الغابة (5/ 540) فقال: "لسيبة" على الصواب. أما عبد الغني في المؤتلف والمختلف (124) فقد اقتصر على اسمها "بالضم" فقال: "نسيبة". (¬3) في القسم المفقود من مسند أبي عوانة (72) لبيبة. وما أثبت من المخطوطة. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) كتاب الثقات لابن حبان (3/ 100)، حقة بنت عمرو.

ويقال: بنت الحارث. قال أبو عمر: نسيبة بنت كعب فيه نظر ليست أم عطية، وإنما هي أم عمارة. وقال ابن ماكولا (¬1): وابن حبان (¬2): نسيبة -بضم النون- أم عطية. و-بالفتح- أم عمارة. وذكر ابن سعد أن أم عطية غزت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، وشهدت خيبر وكان عليٌّ يقيل عندها. وكانت تنتف إبطه بورسه (¬3)، روى (¬4) عنها محمد بن سيرين وغيره. قال أبو عمر: تعد من أهل البصرة كانت من كبار نساء الصحابة، وكانت تغزو كثيرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمرّض المرضى وتداوي الجرحى، وشهدت غسل ابنة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحكت ذلك فاتقنت، وحديثها أصل في غسل الميت سيأتي في بابه حيث ذكره المصنف إن شاء الله، وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت، روت أربعين حديثًا اتفقا على ستة، وقيل: سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم آخر، ولم أر من أرخ وفاتها. ¬

_ (¬1) انظر: في الإِكمال (7/ 259). (¬2) الثقات لابن حبان (3/ 423)، وهكذا في تلقيح فهوم أهل الأثر (359). (¬3) انظر: طبقات ابن سعد (8/ 455). (¬4) في ن ب زيادة (واو).

الثاني: "العواتق": جمع عاتق، وهي الجارية البالغة، وعتقت أي بلغَت، وقيل: التي قاربت البلوغ، وقيل: هي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنِس ما لم تتزوج. والتعنيس: طول المقام في بيت أبيها بلا زواج حتى تطعن في السن. سميت: عاتقًا لأنها عتقت من [امتهانها (¬1)] في الخدمة والخروج في الحوائج، وقيل: لأنها قاربت أن تتزوج فتعتق من قهر أبويها وأهلها، وتشتغل في بيت زوجها. الثالث: "الخدور": جمع خدر وهي البيوت، وقيل: الخدر ستر في ناحية البيت، وقيل: السرير الذي عليه قبَّة، حكاه القاضي (¬2)، وجاء في رواية و"المخبأة" وهي مثلها، قال الفاكهي: والأليق عندي بهذا الحديث القول الثاني وما في معناه من ذكر الخدر، فإنا لو فسرناه هنا بالبيت لم يكن فيه اختصاص أصلًا، إذ البيت يجمع البكر و [غيرها] (¬3)، ولا يعنون بذوات الخدور إلَّا الأبكار. ¬

_ (¬1) في الأصل (انهانها)، وفي ن د (انتهانها)، وفي ن ب غير واضحة. (¬2) مشارق الأنوار للقاضي عياض (1/ 231)، ولم يذكر لفظة: (قبة)، وإنما قال: "عليه ستر". (¬3) في ن ب (غير).

الرابع: قولها: "وأمَرَ الحُيَّض" أمر -بفتح الهمزة والميم- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. الخامس: المقصود بالأمر بإخراجهن جميعهن المبالغة في الاجتماع، وإظهار الشعار، وكان المسلمون إذ ذاك في غاية القلة فاحتيج إلى [المبالغة] (¬1) بإخراج العواتق وذوات الخدور الحيض منهن والطاهرات لذلك". السادس: في الحديث إشارة إلى أن البروز إلى المصلى هو سنة العيد، سواء فيه الرجال والنساء والجواري، والصبيان، لما فيه من إظهار الشعار، لكن السنَّة إذا خرج النساء مع الرجال أن يكنَّ في حافات الطريق لا في وَسَطِهَا، ولا بد من عدم التبرج في حقهن، وأن لا يُفْتَنَّ، ولا يفُتَتن بهن، وقد تقدم اختلاف الصحابة ومن بعدهم في خروجهن في الحديث قبله، قال أصحابنا: يستحب إخراج النساء غير ذوات الهيئات والمستحسنات في العيدين دون غيرِهنَّ، وأجابوا عن إخراج ذوات الخدور والمخبئات بأن المفسدة في ذلك الزمن كانت مأمونة بخلاف اليوم كما قدمناه في الحديث قبله، [أيضًا] (¬2). السابع: فيه أيضًا إشارة إلى أن السنَّة الخروج لصلاتها إليها وأنه أفضل من فعلها في المسجد [من الزمن الأول] (¬3) وعلى هذا ¬

_ (¬1) في ن ب (مبالغة). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب.

عمل الناس في معظم الأمصار (¬1)، وأما أهل مكة فلا يصلونها إلَّا في المسجد من الزمن الأول (¬2). وأَلْحَقَ الصيدلاني والبندنيجي والغزالي في "الخلاصة" والروياني بمسجد مكة المسجد الأقصى، ولم يتعرض له الجمهور كما قاله النووي في "شرح المهذب" (¬3)، وظاهر إطلاقهم أن بيت المقدس كغيره، واختلف أصحابنا: في الأفضل في حق غيرها هل هو المسجد أو الصحراء على وجهين. أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث وغيره، وأصحهما: المسجد أفضل إلَّا أن يضيق على الناس، لأن صلاة أهل مكة في المسجد لسعته، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (17/ 480): ولم يكن يصلي صلاة العيد إلَّا في مكان واحد مع الإِمام يخرج بهم إلى الصحراء، فيصلي هناك، فيصلي المسلمون كلهم خلفه صلاة العيد، كما يصلون الجمعة، ولم يكن أحد من المسلمين يصلي صلاة عيد في مسجد قبيلته ولا بيته، كما لو يكونوا يصلون جمعة في مساجد القبائل. (¬2) قال ابن قاسم -رحمه الله- في حاشية الروض (2/ 499) على قوله: "وتكره" صلاة العيد "في الجامع بلا عذر" إلَّا بمكة المشرفة لمخالفة فعله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تكره صلاة العيد فيه، بل تسن فيه، لفضيلة البقعة وشرفها، ولمعاينة الكعبة المشرفة، وذلك من أكبر شعائر الدين، وكذا بيت المقدس، لشرفه، ولسعتهما، ولم يزل المسلمون يصلون بهما، خلفًا عن سلف بلا نزاع. (¬3) المجموع شرح المهذب (5/ 5).

لضيق المسجد (¬1)، فدل على أن المسجد إذا اتسع أفضل، وبهذا [يقوي] (¬2) ما ذكرناه عن جماعة في بيت المقدس. الثامن: "أمر الحيض باعتزال مصلى المسلمين" ليس لتحريم حضورهن فيه إذَا لم يكن مسجدًا، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد [في حال إقامة الصلاة، كما جاء أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لرجل: "ما منعك أن تصلي] (¬3) مع الناس ألست برجل مسلم" (¬4)، أو للاحتراز من مقاربتهن للرجال من غير حاجة ولا صلاة ولصيانتهن، واختلف أصحابنا في تحريم مكث الحائض في المصلَّى على وجهين: أصحهما: المنع لأنه ليس مسجدًا. وقيل: نعم لأنه موضع الصلاة فأشبه المسجد. التاسع: لا يصح أن يستدل بالأمر بإخراجهن على وجوب صلاة العيدين والخروج إليها، لأن هذا الأمر إنما يوجه لمن ليس بمكلف بالصلاة باتفاق كالحيض، وإنما مقصود هذا الأمر تدريب ¬

_ (¬1) ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر، والمصلى معروف، بينه وبين المسجد ألف ذراع، وعبر بالمصلَّى ليعم من تأتي منه وغيره. (¬2) في الأصل (يقوم)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) سبق تخريجه.

الأصاغر على الصلاة، وشهود دعوة المسلمين ومشاركتهم في الثواب، وإظهار كمال الدين، نبه عليه القرطبي (¬1) في "شرحه". العاشر: قولها: "فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته" فيه إشعار بتعليل خروجهن لأجل ما ذكر ويستثنى خروج الشابة التي يخاف من خروجها الفتنة، كما سلف. واعلم: أن التكبير للعيدين يشرع في أربعة مواطن. في السعي إلى الصلاة إلى حين يخرج الإِمام (¬2). وفي أول الصلاة (¬3). وفي أول الخطبة (¬4). ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1490). (¬2) لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج في العيدين رافعًا صوته بالتكبير والتهليل ... " الحديث، أخرجه البيهقي (3/ 279)، وصححه الألباني في الإِرواء (3/ 122، 123). (¬3) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّر في العيدين الأضحى والفطر اثنتي عشرة تكبيرة، في الأولى سبعًا وفي الثانية خمسًا سوى تكبيرة الصلاة. أخرجه أبو داود (1/ 299)، وابن ماجه (1/ 407)، والدارقطني (2/ 47، 48)، وصحح الحديث أحمد وابن المديني والبخاري بما حكاه الترمذي. انظر: تلخيص الحبير (2/ 84)، وهي ستة لا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا. (¬4) قال أحمد: قال عبيد الله بن عتبة: إنه من السنة، وذكره البغوي وغيره عن أحمد. وقال ابن القيم: كان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى =

وبعد الصلاة كما سيأتي بيان تفصيله. الحادي عشر: فيه جواز ذكر الله للحائض من غير كراهة وكذلك الجنب. الثاني عشر: فيه أيضًا حضور مجالس الذكر والخير لكل أحد من الحائض والجنب ومن في معناهما إلَّا في المسجد. الثالث عشر: فيه شرعية التكبير في العيدين لكل أحد، وفي كل موطن (¬1) خلا موضع نَهَى الشرعُ عنه وهو إجماع، ويستحب إحياء ليلتي العيد (¬2)، وتقدم مواطن التكبير في العيد ويتأكد استحبابه حال الخروج إلى الصلاة (¬3)، وبه قال جماعة من الصحابة وسلف ¬

_ = ابن ماجه في سننه عن سعد، أنه كان يكثر التكبير أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي السجدتين وصوبه شيخ الإِسلام. اهـ. (¬1) قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}، والمقصود هنا: أن الله سبحانه أراد شرعًا: التكبير على ما هدانا، ولهذا قال من قال من السلف، كزيد بن أسلم: هو التكبير تكبير العيد. (¬2) وقد ورد فيها حديث ضعيف عند ابن ماجه (1/ 567): "من قام ليلتي العيدين محتسبًا بالله، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب". قال البوصيري في الزوائد (2/ 85): إسناده ضعيف. وقال العراقي في تخريج الإِحياء (1/ 328): إسناده ضعيف. قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 225): في هديه - صلى الله عليه وسلم - ليلة النحر من المناسك: "ثم نام حتى أصبح، ولم يُحيِ تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء". (¬3) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (220/ 24) بعد كلام سبق: ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد وهذا باتفاق الأئمة =

الأمة، وكانوا يكبرون إذا خرجوا حتى يبلغوا المصلي يرفعون أصواتهم، قاله الأوزاعي ومالك والشافعي، قالا (¬1) يكبر إلى أن يخرج الإِمام. وروي عن ابن عباس إنكار التكبير في الطرق وهو مردود (¬2). وقال أبو حنيفة: [يكبر] (¬3) للخروج في الأضحى دون الفطر (¬4) [وخالفه] (¬5) أصحابه [وقالوا] (¬6): بقول الجمهور. وقالت المالكية: إن سعى بعد طلوع الشمس وهو المشروع (¬7) ¬

_ = الأربعة ... إلخ كلامه. وانظر بقية الكلام في الوجه العاشر التعليق (13). (¬1) أي مالك والشافعي. (¬2) قال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. انظر: السنة للبغوي (4/ 301). (¬3) في ن ب د (يكبرون). (¬4) كما أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الفطر، ويوم الأضحى يجهر بالتكبير، حتى يأتي المصلَّى، ثم يكبر حتى يأتي الإِمام، وقال ابن أبي موسى: يكبر في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيدين جهرًا، حتى يأتي الإِمام المصلَّى، فيكبر الناس بتكبير الإِمام في خطبته، وينصتون فيما سوى ذلك، وعليه عمل الناس، والتكبير في كل موضع يجوز فيه ذكر الله، قال أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعًا، وفي الخروج إليهما، لاتفاق الآثار عليه. (¬5) في الأصل (وخالف)، وما أثبت من ن ب د. (¬6) في ن ب (فقالوا). (¬7) وذلك لفعل ابن عمر - رضي الله عنه - مع شدة اتباعه للسنة. لا يخرج حتى تطلع الشمس، ويكبر من بيته إلى المصلَّى.

في ذلك في حق من يمكنه إدراك [(¬1)] الصلاة كبر قطعًا وإن [كان] (¬2) سعيه قبل طلوعها فثلاثة أقوال عندهم. ثالثها: يكبر إن أسفر وإلَّا فلا. وأَمَّا التكبير: بتكبير الإِمام في الخطبة فمالك يراه، وغيره يأباه (¬3). وأما التكبير في أول صلاة العيد سوى تكبيرة [الإِحرام في] (¬4) الأولى وتكبيرة القيام إلى الثانية فهو متفق عليه بين العلماء للإِمام والمأموم والمنفرد (¬5). لكن اختلفوا في عدده. فقال الشافعي: سبع في الأولى وخمس في الثانية لحديث عمرو بن شعيب (¬6) وعمرو بن ...................... ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (الإِمام). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) انظر التعليق (15). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) قال شيخ الإِسلام (220/ 24)، وأما التكبير في الصلاة فيكبر المأموم تبعًا للإِمام. (¬6) لما روى عمرو بن شيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة. أخرجه أحمد (2/ 180)، وابن ماجه (1278)، وصححه علي بن المديني وغيره، وفي رواية: سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما. رواه أبو داود (1151، 1152)، والدارقطني أيضًا، وصححه البخاري، =

عوف (¬1) صححهما البخاري وابن عباس (¬2) أيضًا، وقال مالك وأحمد وأبو ثور: ست في الأولى وخمس في الثانية. وقال الثوري (¬3) وأبو حنيفة (¬4): فيما حكاه عنهما ابن المنذر (¬5) يكبر أربع تكبيرات قبل القراءة ثم يقوم في الركعة الثانية فيقرأ ثم يكبر ¬

_ = وأحمد، وقال: أنا أذهب إلى هذا، وللترمذي وحسنه (2/ 416)، عن كثير ابن عبد الله، عن أبيه عن جده في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا، وقال: هو أحسن شيء في هذا الباب، ولأبي داود عن عائشة نحوه، وقال البخاري: ليس في الباب شيء أصح من هذا، وبه أقول. العلل الكبير للترمذي (1/ 287، 288). وقال شيخ الإِسلام: صح عنه هذا وهذا، ولم يصح عنه غير ذلك. وقال ابن عبد البر: روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من طرق كثيرة حسان، أنه كبر سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلافه، وهو أولى ما عمل به، وقال جابر: مضت به السنة. (¬1) الترمذي (2/ 416)، وابن ماجه (1279)، والدارقطني (2/ 48)، والبيهقي (3/ 286)، وابن عدي (2/ 273)، وابن ماجه في صحيحه (2/ 346)، والبغوي في السنة (4/ 309). (¬2) ابن أبي شيبة (2/ 173)، والطحاوي (2/ 401)، والبيهقي (3/ 289)، والفريابي (148)، والحاكم في المستدرك (1/ 326)، والدارقطني (2/ 66)، والطبراني في الكبير (10/ 357). (¬3) انظر: إختلاف العلماء للمروزي (58). (¬4) كتاب الأصل (1/ 372). (¬5) الأوسط (4/ 276).

أربع تكبيرات ثم يركع بالتكبيرة الرابعة. قال: وبهذا القول قال أصحاب الرأي وممن قال به من الصحابة ابن مسعود (¬1) وحذيفة وأبو موسى الأشعري وعقبة بن عامر (¬2)، واعلم أن جمهور العلماء: كما نقله النووي (¬3) في "شرحه" عنهم يرى هذه التكبيرات متوالية متصلة، وقال عطاء والشافعي وأحمد: يستحب بين كل تكبيرتين ذكر الله تعالى، وروى هذا عن ابن مسعود أيضًا (¬4)، وأما التكبير بعد الصلوات وغيرها: ففي عيد الفطر لا يسن ¬

_ (¬1) الترمذي (2/ 417)، وابن أبي شيبة (2/ 173)، وعبد الرزاق (5686، 5687)، وصححه الحافظ في الدراية (1/ 220)، والسنة للبغوي (4/ 310). (¬2) ابن أبي شيبة (2/ 173)، وابن حزم في المحلى (6/ 83) وقال: هذا إسناد في غاية الصحة، ونصب الراية (2/ 213، 314). (¬3) انظر: شرح مسلم (6/ 180). (¬4) قال عقبة بن عامر: "سألت ابن مسعود عما يقوله بعد تكبيرات العيد قال: "يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -". رواه الأثرم وحرب، واحتج به أحمد، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير. وقال ابن مسعود: "بين كل تكبيرتين قدر كلمة". البغوي في السنَّة (4/ 310)، وعبد الرزاق (5697)، وفي مجمع الزوائد (2/ 205). وانظر الإِرواء (3/ 114)، فإنه قال: "صحيح"، وصفته "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلَّى الله على محمد النبي وآله ومسلم تسليمًا كثيرًا"، وقال شيخ الإِسلام: يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بما شاء". =

عقب صلوات ليلتِهِ على الأصح (¬1)، وفي عيد الأضحى اختلف علماء السلف ومن بعدهم في ابتدائه وانتهائه على نحو عشرة أقوال كما ذكره النووي في "شرحه" (¬2). هل ابتداؤه من صبح يوم عرفة، أو ظهره، أو صبح يوم النحر، أو ظهره؟ وهل انتهاؤه ظهر يوم النحر، أو ظهر أول أيام النفر، أو في صبح آخر أيام التشريق، أو ظهره، أو عصره؟ واختار مالك والشافعي وجماعة ابتداءه من ظهر يوم النحر وانتهاءه بصبح آخر أيام التشريق، وللشافعي قول إلى العصر من آخر أيام التشريق. [وقول آخر أنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق] (¬3) وهو الراجح عند جماعة من أصحابنا وعليه العمل في الأمصار. واختار بعض أصحاب مالك قَطْعَهُ بعد صلاة الظهر آخر أيام ¬

_ (¬1) قال البغوي -رحمة الله عليه-: ومن السنَّة إظهار التكبير ليلتي العيدين مقيمين وسفرًا في منازلهم، ومساجدهم، وأسواقهم، وبعد الغدو وفي الطريق إلى المصلَّى يوم الفطر إذا طلعت الشمس. اهـ، من شرح السنة (4/ 300). (¬2) شرح مسلم (6/ 180). (¬3) زيادة من ن ب د.

التشريق (¬1). ¬

_ (¬1) اختلف العلماء في ابتداء، التكبير وانتهائه على أقوال كثيرة كما ذكرها المصنف -رحمه الله-، فذهب جماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى أن التكبير يبتدىء من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق هذا لغير المحرم، وهذا مروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - حيث صح عن علي - رضي الله عنه -: "أنه كان يكبر بعد صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ويكبر بعد العصر". رواه ابن أبي شيبة (2/ 165)، والبيهقي (3/ 314)، والحاكم (1/ 300)، عن علي وعمار مرفوعًا، والدارقطني عن جابر (182)، والخطيب في التاريخ (1/ 2380)، والبيهقي (3/ 315)، ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، حين يسلم من المكتوبات، وفي لفظ: "كان إذا صلَّى الصح من غداة عرفة أقبل على أصحابه، فيقول. "مكانكم"، "ويقول: الله أكبر، الله كبر، لا إله إلَّا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد"، فإن قيل: مداره على جابر بن زيد الجعفي وهو ضعيف؟ قيل: روى عنه شعبة والنوري ووثقاه، وناهيك بهما، وقال أحمد: لم يتكلم في جابر في حديثه، إنما تكلم فيه لرأيه، على أنه ليس في المسألة حديث مرفوع أقوى إسنادًا منه، ليترك من أجله، وقيل له: بأي حديث تذهب في ذلك؟ قال: بالإِجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، ولأن الله تعالى يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، وهي أيام التشريق، فيتعين الذكر في جميعها. وقال النووي: هو الراجح، وعليه العمل في الأمصار، وقال شيخ الإِسلام: أصح الأقوال في "التكبير، الذي عليه جمهور السلف والفقهاء، من الصحابة والأئمة، أن يكبر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، لما في السنن" يوم عرفة ويوم النحر، وأيام مني عيدنا =

فرع: مذهب مالك والشافعي وجماعة من أهل العلم استحباب هذا التكبير للمنفرد والجماعة والرجال والنساء والمقيم والمسافر. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: إنما يلزم جماعات الرجال (¬1). فرع: اختلفوا في التكبير عقب النوافل فالأصح عند الشافعية أنه يكبر. [وقال مالك: في المشهور عنه لا يكبر] (¬2)، وهو قول [الثوري] (¬3) وأحمد وإسحاق. فرع: اختلفوا في صفة التكبير- فمشهور مذهب مالك [أنه] (¬4) ثلاث، وله قول آخر أنه لا حد فيه وهو قول الكوفيين وفقهاء الحديث. فرع: اختلفوا في التكبير في تلك الأيام في غير أدبار الصلوات ¬

_ = أهل الإِسلام، وهي أيام أكل وشرب، وذكر لله" ولما رواه الدارقطني عن جابر، ولأنه إجماع من أكابر الصحابة، وقال ابن كثير وغيره: هو أشهر الأقوال الذي عليه العمل. (¬1) اختلف العلماء. في ذلك فبعضهم قال يكبر نظرًا لإِطلاق الآية والأحاديث، وبعضهم قال لا يكبر وهو المنقول عن ابن مسعود، وفعل عمر، ولا مخالف لهما في الصحابة، فكان إجماعًا لأنه ذكر مختص بوقت العيد، فأشبه الخطبة، قيل لأحمد: تذهب إلى فعل ابن عمر أنه لا يكبر إذا صلَّى وحده؟ قال: نعم، وقال: هو أعلى شيء في الباب. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (النووي). (¬4) في ن ب (له).

أم يختص بأدبارها، فالمروي عن جماعة السلف الأول. وذكر مالك أنه أدرك الناس يفعلون الوجهين، وأجاز كلاًّ لمن فعله، لكن الذي فعلُه من يقتدي به، واختار هو التكبير دبر الصلوات فقط، قال الفاكهي: واختار بعض شيوخنا الأول [للتشبيه] (¬1) بأهل مني. الرابع عشر: فيه جواز بروز الأبكار للطاعات بالشرط السالف في الوجه السادس. الخامس عشر: فيه أنه ينبغي لأولياء الجواري والصبيان تمرينهم على العبودية لله تعالى بالدعاء له وتكبيره، ويعرفوهم بركة ذلك اليوم وما يترتب عليه من الثواب والجزاء والغفران، ولذلك يجب عليهم تعليم ما يجب عليهم و [ما] (¬2) يحرم، حتى قال الواحدي: يجب عليهم تعليم أسماء الأنبياء، ونقل الاتفاق عليه. السادس عشر: ينبغي مراعاة يومي العيد لبركتهما بمزيد الخيرات وتطهير السيئات، وعدم ارتكاب المخالفات وفضلهما في ذاتهما، وشرف زمنهما على غيره، فإن الشرف [(¬3)] يكون بالعطاء ويكون بالمنع من البلاء، وهذان حاصلان فيهما مما جعله الله فيهما فينبغي مراقبتهما بما ذكرنا. ¬

_ (¬1) في ن ب (بالتشبيه). (¬2) في ن ب د ساقطة. (¬3) في ن ب زيادة (ما).

29 - باب صلاة الكسوف

29 - باب صلاة الكسوف نفتتحه بمقدمات: الأولى: "الكسوف" التغير إلى سواد، يقال: كسفت حاله إذا تغيرت وكسف وجهه إذا تغير. والخسوف: النقصان. قاله الأصمعي. والخسف: أيضًا الذل [فالخسوف والكسوف] (¬1) التغير ونقصان الضوء. والأشهر من ألسِنَة الفقهاء تخصيص الكسوف بالشمس والخسرف بالقمر. وادعى الجوهري (¬2)، أنه أفصح ويشهد له [قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} (¬3). وقيل: عكسه وهو ضعيف. وقيل: هما فيهما ويشهد له] (¬4) اختلاف الألفاظ في ¬

_ (¬1) في ن ب د تقديم وتأخير. (¬2) انظر: مختار الصحاح (80). (¬3) سورة القيامة: آيتان 7، 8. (¬4) زيادة من ن ب د.

الأحاديث الصحيحة فأطلق فيها الكسوف والخسوف معًا في محل واحد، وستقف على بعضها في الباب. وقيل: الكسوف أوله والخسوف آخره إذا اشتد وذهب الضوء. وقيل: الكسوف ذهاب النور بالكلية. والخسوف: تغير اللون (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في فتح الباري (2/ 535): قوله- أي البخاري، باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟ -قال الزين بن المنير: أتى بلفظ الاستفهام- إشعارًا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء. قلت ولعله أشار إلى ما رواه ابن عيينة عن الزهري، عن عروة قال: "ولا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت" وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر واختاره ثعلب، وذكر الجوهري: أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن، وكأن هذا السر في استشهاد المؤلف به في الترجمة، وقيل: يقال بهما في كل منهما وجاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف لأن الكسوف التغير إلى سواد، والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت لأنها تتغبر ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره. قوله: وقال الله عز وجل: "وخسف القمر" في إيراده لهذه الآية احتمالان: =

الثانية: قال أرباب علم الهيئة (¬1): كسوف الشمس لا حقيقة له، فإنها لا تتغير في نفسها. وإنما القمر يحول بيننا وبينها، ونورها باق. وأما خسوف القمر فحقيقة، فإن ضوءه من ضوء الشمس، وكسوفه بحيلولة ظل الأرض بين الشمس وبينه بنقطة التقاطع فلا يبقى فيه ضوء البتة، ورد هذا عليهم ابن العربي (¬2) في الأحوذي [وكذبهم] (¬3) من أوجه: منها: قد قلتم إن الشمس أضعاف القمر في الجرمية فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله. وحكمة كسوفهما أنهما لما كانا من الآيات الباهرة وعبدا من دون الله واعتقد بعضهم تأثيرها في العالم ¬

_ = أحدهما: أن يكون أراد أن يقال خسف القمر كما جاء في القرآن ولا يقال كسف، وإذا اختص القمر بالخسوف أشعر باختصاص الشمس بالكسوف. والثاني: أن يكون أراد أن الذي يتفق للشمس كالذي يتفق للقمر، وقد سمي في القرآن بالخاء في القمر فليكن الذي للشمس كذلك. ثم ساق المؤلف حديث ابن شهاب عن عروة، عن عائشة بلفظ "خسفت الشمس" وهذا موافق لما قال عروة، لكن روايات غيره بلفظ "كسفت" كثيرة جدًّا. اهـ. (¬1) قال أبو منصور بن الجبان -رحمنا الله وإياه- في شرحه لفصيح ثعلب (324): "كسفت الشمس" تكسف كسوفًا: إذا حجز بيننا وبينها القمر وحجبها عنا. "وخسف القمر" يخسف خسوفًا: إذا حجزت الأرض بينه وبين الشمس فلم يصل منها إليه نور يضيء به. اهـ. (¬2) انظر: العارضة (3/ 37). (¬3) زيادة من ن ب د.

أرسل الله عليهما النقص والتغير، وأزال نورهما الذي عظما به في النفوس. ونقل المحب الطبري في "أحكامه" عن بعضهم أن في الكسوف سبع فوائد: الأولى: ظهور التصرف في الشمس والقمر وهما خلقان عظيمان. الثانية: أن يتبين بتغيرهما تغير شأن ما بعدهما. الثالثة: إزعاج القلوب الساكنة بالغفلة وإيقاظها. الرابعة: ليرى الناس أنموذج ماسيجري في القيامة قال تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} (¬1). الخامسة: أنهما موجودان في حال الكمال، ويكسَفَان ثم يلطف بهما، ويعادان إلى ما كانا عليه، تنبيهًا على خوف المكر، ورجاء العفو. السادسة: إعلام بأنه قد يؤخذ من لا ذنب له ليحذر من له ذنب. السابعة: أن الناس قد أَنِسوا بالصلوات المفروضت فيأتونها من غير انزعاج ولا خوف فأتى بهذه الآية سببًا لهذه الصلاة ليفعلوها بانزعاج [وخوف] (¬2) ولعل تركه يصير عادة لهم في المفروضات. ¬

_ (¬1) سورة القيامة: آيتان 8، 9. (¬2) في ن د (وتخوف).

والثالثة: ذكر ابن حبان في [أول] (¬1) كتابه الثقات أن الشمس كسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة السادسة من الهجرة فصلى صلاة الكسوف وقال: "إن الشمس والقمر [لا ينكسفان] (¬2) لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فصلوا" (¬3). ثم كسفت أيضًا في السنة العاشرة يوم مات إبراهيم - رضي الله عنه -، وهل كان موته في ربيع الأول أو عاشر من رمضان قولان، وعلى الأول (¬4) أقوال: أحدها: أن موته كان يوم الثلاثاء لعشر خلون منه ¬

_ (¬1) في ن ب (أوائل). (¬2) في الأصل (لا ينخسفان)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) الثقات لابن حبان (1/ 282). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 529): على قوله "يوم مات إبراهيم" يعني ابن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، فقيل في ربيع الأول، وقيل في رمضان، وقيل في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل في رابعه، وقيل في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل أنه مات سنة تسع فإن ثبت يصح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية، ويجاب بأنه كان يومئذ بالحديبية: ورجع منها في آخر الشهر ... إلخ. وقال أيضًا في موضع آخر من الفتح (3/ 174): فائدة: في وقت وفاة إبراهيم - عليه السلام -، جزم الواقدي بأنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وقال ابن حزم: مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشهر، واتفقوا على أنه ولد في ذي الحجة سنة ثمان.

قاله [(¬1)، الزبير بن بكار والواقدي (¬2). ثانيها: لأربع خلون منه قاله أبو نعيم. ثالثها: لثلاث عشرة. رابعها: لأربع عشرة واستشكل كل ذلك، فإن إبراهيم ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وعاش سبعة عشر شهرًا أو ثمانية عشر شهرًا كما ثبت في صحيح البخاري (¬3) أو ستة عشر شهرًا كما ذكره ابن حبان (¬4) أو ولد سنة ثمان وعاش سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام كما قاله القضاعي، وعلى كل من الأقوال لا يصح موته في ربيع الأول ولا عاشره إلَّا على قول من قال: إنه ولد في رمضان مع قول من قال: إنه عاش ثمانية عشر شهرًا فتأمله، ولا يصح أيضًا في اصطلاح أرباب تسيير الكواكب إنه مات يوم العاشر، فإنهم يقولون إن الكسوف لا يكون إلَّا في الثامن والعشرين إن كان الشهر ناقصًا أو التاسع والعشرين إن كان تامًّا (¬5) - نعم روى ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (ابن)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) قال الذهبي -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن الكبرى للبيهقي (3/ 306) بعد سياق الإِسناد، قال: أفسدت إذا أسندت، فلو كان الواقدي رواه لرد، كيف ولم يسند. وقال على رواية الزبير بن بكار، وكذلك ذكر الزبير بن بكار "فإن كان محفوظًا فوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده بسنة". (¬3) انظر: الفتح (3/ 184). (¬4) الثقات لابن حبان (2/ 82). (¬5) حاشية الروض (2/ 537).

البيهقي (¬1) إن الشمس كسفت يوم قتل الحسين بن علي وكان قُتِل يوم عاشوراء. ففيه رد عليهم، ووقع في شرح هذا الكتاب لابن العطار أن إبراهيم توفي يوم عاشوراء، والظاهر أنه التبس عليه بالحسين (¬2). الرابع: كسف القمر في السنة الخامسة من الهجرة في جمادى الآخرة كما ذكره ابن حبان (¬3) أيضًا قال: فجعلت اليهود يرمونه ¬

_ (¬1) البيهقي (3/ 336). قال الذهبي -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن الكبرى للبيهقي (3/ 307)، قلت: ابن لهيعة ضعيف، وبتقدير صحته لم يقل إن الكسوف كان يوم مصرعه - رضي الله عنه - بل يكون قبل ذلك بأيام أو بعده، وقال متعقبًا على تبويب البيهقي في السنن: "ما يدل على جواز الاجتماع للعيد وللخسوف لجواز وقوع الخسوف في العاشر"، قال: لم يقع ذلك ولن يقع، والله قادر على كل شيء لكن امتناع وقوع ذلك كامتناع رؤية الهلال ليلة ثامن وعشرين الشهر. (¬2) نعم ذكرها البيهقي في السنن (3/ 336) وانظر آخر التعليق (7)، وذكر أن إبراهيم ابن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مات أيضًا في هذا اليوم وأيضًا ذكر هذا في المعرفة (5/ 159) عن الواقدي، وقد ضعف كما ترى في كلا الحالتين. (¬3) الثقات لابن حبان (1/ 260). أقول: قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (1/ 456) صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الكسوف مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم. اهـ. وما ذكره المصنف عن ابن حبان ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها في جماعة وقد ذكر أنها أول صلاة كسوف في الإِسلام. ولعل ابن القيم لم يبلغه هذا أو لم يصحح الرواية.

بالشهب ويضربون [بالطساس] (¬1) ويقولون: سحر القمر، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة [الخسوف] (¬2) انتهى. فيستفاد من هذا أن الضرب على الطساس ونحوها عند [خسوف] (¬3) القمر من فعل اليهود فينبغي اجتنابه لعموم نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن التشبه بالكفار. إذا عرفت هذه المقدمات المهمة فلنرجع إلى المقصود فنقول: ذكر المصنف -رحمه الله- في الباب أربعة أحاديث، وأفاد ابن العربي (¬4) أن الكسوف رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر رجلًا، وتبعه المنذري: ¬

_ (¬1) هكذا هو في المخطوطات، أما في ابن حبان (بالطاس). (¬2) في الثقات لابن حبان (1/ 260) (الكسوف). (¬3) في ن د (كسوف). (¬4) عارضة الأحوذي (3/ 37).

الحديث الأول

الحديث الأول/ 148/ 1/ 29 - عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث منادي ينادي: "الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وتقدَّم فكبَّر، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات" (¬1). الكلام عليه من [اثنى عشر] (¬2) وجهًا: والتعريف براويه [تقدم] (¬3) في الطهارة. الأول: قولها: "خسفت" هو بفتح أوله وثانيه- ويقال -بضم الخاء- على ما لم يسم فاعله، حكاه الشيخ تقي الدين (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري (1046، 1047، 1058، 1065، 1066، 3203)، ومسلم (901)، والنسائي (3/ 127، 132)، وأبو داود (1190)، والترمذي (561)، وابن ماجه (1263)، والبغوي (143، 1146)، وأحمد (6/ 76، 168)، وابن حبان (2843)، وابن خزيمة (1387، 1398). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب د (سلف). (¬4) إحكام الأحكام (3/ 180).

وقال النووي (¬1): في "شرح مسلم" يقال: كسفت الشمس والقمر وكسفا وانكسفا وخسفا وخُسفا وانخسفا، سِت لغات. الثانية: "الصلاة جامعة" هما منصوبان الأول على الإِغراء والثاني على الحال، ويجوز رفعهما أيضًا، أي الصلاة جامعة فاحضروها، قاله النووي في دقائق الروضة (¬2). الثالث: يؤخذ من الحديث أنه لا يُؤَذِّنُ لها ولا يقام، وهو اتفاق، [وأنه] (¬3) ينادي لها "الصلاة جامعة" وهو حجة لمن استحبه. الرابع: يؤخذ منه أيضًا المبادرة إلى الصلاة عند كسوف الشمس، والسعي في أسبابها بالنداء لها، والاجتماع واهتمام الإِمام بها، والتحريض عليها، والمبادرة إلى الاجتماع من غير تأخير. الخامس: صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة بالاتفاق، ودليله فعل الرسول لها، وجمعه الناس مظهرًا لذلك، وهذه أمارات التأكد والاعتناء، كذا استنبطه الشيخ تقي الدين، ولك أن تقول قد يستدل بذلك على أنها فرض كفاية كما هو وجه عندنا، حكاه الماوردي (¬4) في باب صلاة التطوع، لكن غيره حكى الإِجماع على أنها سنة. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (6/ 198). (¬2) الروضة (2/ 85) بدون زيادة (فاحضروها). (¬3) في ن ب (وهو). (¬4) الحاوي الكبير (2/ 360، 361)، وانظر: المجموع (5/ 59، 60)، حيث قال عن الشافعي: ولا يجوز تركها لمسافر ولا مقيم ولا لواحد.

وأما كسوف القمر فالجمهور ألحقوه بها. وتردد مالك في الصلاة له، ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول، وسيأتي بيان ذلك في الحديث الثاني أيضًا. [السادس] (¬1): فيه أن السنة أن تصلى جماعة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور. وقال العراقيون: فرادى. وهذا الحديث وغيره حجة عليهم. وعندنا أوجه: أن الجماعة فيها شرط كالجمعة، حكاه الإِمام عن الصيدلاني. قال الرافعي: ولم أجده في كتابه هكذا لكن قال: خرّج أصحابنا وجهين في أنها هل تصلى في كل مسجد، أو لا تكون إلَّا في جماعة واحدة، كالقولين في العيد. السابع: السنة في كيفيتها أن تصلى ركعتين في كل ركعة قيامان وركوعان وسجودان وهو مذهب الشافعي (¬2) ومالك (¬3) والليث وأحمد (¬4) وأبو ثور وجمهور علماء الحجاز. وقال الكوفيون (¬5): هما ركعتان كسائر النوافل، وهذا الحديث ¬

_ (¬1) في ن ب (الخامس مكرر). (¬2) انظر: المهذب (1/ 122)، وروضة الطالبين (2/ 80). (¬3) انظر: الاستذكار (4/ 93). (¬4) المغني (2/ 422)، وكشاف القناع (2/ 69). (¬5) انظر: الاستذكار (7/ 96).

مع حديث جابر (¬1) وابن عباس (¬2) وابن عمرو بن العاص (¬3) حجة عليهم، مع أنه قد صح غيره وهو ثلاث ركعات (¬4). وأربع ركعات (¬5) ¬

_ (¬1) مسلم (904)، وأبو عوانة (2/ 372، 373)، وأبو داود (1179)، والنسائي (1/ 217)، والطيالسي (1754)، والبيهقي (3/ 324)، وأحمد (3/ 374، 382). (¬2) البخاري (29، 431، 748، 1052، 3202، 5197)، ومسلم (907)، والنسائي (3/ 146، 148)، والموطأ (1/ 186، 187)، وأحمد (1/ 298، 358، 359)، والدارمي (1/ 360)، وأبو داود (1189)، وابن حبان (2832، 2853). (¬3) ابن خزيمة (1389، 1392، 1393)، والنسائي (3/ 137، 139)، أبو داود (1194)، والحاكم (1/ 329)، وابن حبان (2829، 2838). (¬4) مسلم (904)، وأحمد (3/ 217، 218، 374، 382)، وابن خزيمة (1380، 1381، 1386)، وأبو عوانة (2/ 372، 373)، وابن حبان (2843، 2844)، وأبو داود (1179)، والطيالسي (1754)، والبيهقي (3/ 324)، والنسائي (3/ 136)، وورد عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الآيات ست ركعات، وأربع سجدات". أخرجه مسلم (902)، والنسائي (3/ 130)، وابن خزيمة (1382، 1383)، وابن حبان (1830). (¬5) مسلم (908، 909)، والنسائي (3/ 128، 129)، وأحمد (1/ 225، 346)، وأبو داود (1183)، والبغوي (1144)، والطبراني (11019)، والدارمي (1/ 359). قال ابن حبان في صحيحه (98/ 7): خبر حبيب بن أبي ثابت عن طاووس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في كسوف الشمس ثماني ركعات وأربع سجدات ليس بصحيح لأن حبيبًا لم يسمع من طاووس هذا الخبر. =

في "صحيح مسلم". وروى أحمد وأبو داود والحاكم خمسة (¬1). لكن قال ابن عبد البر (¬2): أحاديث قول الجمهور أصح ما في الباب وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة، وحديث جابر بن سمرة (¬3) وأبي .......................... ¬

_ = قال ابن حجر في الفتح (2/ 532) بعد ذكره أنواع صلاة الكسوف الواردة في الأحاديث غير الركعتين في كل ركعة ولا يخلو إسناد منها من علة. انظر كلام ابن حجر عليه في تلخيص الحبير (2/ 90)، وكلام الألباني في الإِرواء (3/ 129). قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (17، 18/ 18): ما روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الكسوف ثلاث ركوعات أو أربع ركوعات ضعفه حذاق أهل العلم، وكان أحمد يجوّز ذلك قبل أن يتبين له ضعف هذه الأحاديث" اهـ. وهذا يدخل تحته ما زاد على الركعتين. انظر زاد المعاد (1/ 456). (¬1) أبو داود (1139). قال المنذري: في إسناده أبو جعفر الرازي، وفيه مقال، واختلف فيه قول ابن معين وابن المديني واسمه عيسى بن عبد الله بن ماهان. انظر: عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه (5/ 134)، والحاكم (1/ 333). قال الذهبي: "خبر منكر وعبد الله بن أبي جعفر ليس بشيء، وأبوه لين". البيهقي (3/ 329)، وضعفه بقوله: "وهذا إسناد لم يحتج بمثله صاحبا الصحيح". (¬2) انظر: الاستذكار (7/ 93)، والتمهيد (3/ 302، 313). (¬3) ولفظه: "صلاها ركعتين كل ركعة بركوع". انظر: النسائي (3/ 140، 141)، وأبو داود (1184)، والطبراني (6798) (6799)، وابن خزيمة =

بكرة (¬1) أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى في الكسوف ركعتين الذي احتج به الكوفيون مطلق والروايات الصحيحة تبين المراد به، وبتقدير صحته فالروايات الكثيرة أصح، ورواتها أحفظ وأضبط (¬2). ¬

_ = (1397)، وأحمد (5/ 16)، والحاكم (1/ 329). وقال الذهبي: صحيح. انظر: البيهقي (3/ 339). أقول: وقوله: "جابر بن سمرة" فلعله وهم منه -رحمنا الله وإياه- والموجود في الكتب السابقة "سمرة بن جندب". انظر: تحفة الأشراف (4/ 60)، وانظر: مجموع حديث جابر بن سمرة أيضًا في تحفة الأشراف (2/ 146). (¬1) البخاري (1040)، والنسائي (3/ 124، 146، 152)، والدارقطني (2/ 64)، وأحمد (5/ 37)، وانظر كلام ابن حجر في الفتح (2/ 527) على الحديث حيث بين أنه معناه ركعتان في كل ركعة ركوعان واستدل بما يقويه. (¬2) أيضًا روي عن عبد الله بن عمرو عن البخاري (1042)، ولمسلم (914)، وأخرجه أبو داود (1194) في الصلاة، باب: من قال يركع ركعتين، والنسائي (3/ 149)، والترمذي في الشمائل (317)، وأحمد (2/ 198)، والطحاوي (1/ 194)، وقبيصة الهلالي، وعبد الرحمن بن سمرة، وعن النعمان بن بشير، وأبو داود (1193)، والنسائي (3/ 141)، وابن ماجه (1/ 401)، وأحمد (4/ 271، 277). نقل ابن القيم في "زاد المعاد" (1/ 123 - 127) عن الشافعي والبخاري أنهما كانا يعدان الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطًا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم - عليه السلام -، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة، وأن =

ومن العلماء من اعتذر عنه فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت ركع (¬1) وفي هذا التأويل ضعف، كما قال الشيخ تقي الدين (¬2): إذا قلنا إن سنتها ركعتان كسائر النوافل. وقال بعض العلماء: اختلاف الروايات بحسب [حال اختلاف] (¬3) الكسوف ففي بعض الأوقات تأخر الانجلاء فزاد عدد الركوع، وفي بعضها أسرع الانجلاء فاقتصر، وفي بعضها توسط بينهما فتوسط في [عدده] (¬4). واعترض الأولون: على هذا بإن [تأخر] (¬5) الانجلاء لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن ¬

_ = الكسوف وقع مرارًا، فيكون كل من هذه الأوجه جائزًا، وإلى ذلك نحا إسحاق، لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات، وقال ابن خزيمة، وابن المنذر، والخطابي، وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك، وهو من الاختلاف المباح، وإليه شهبة ابن حبان (98/ 7) في صحيحه، وقوى ذلك النووي في شرح مسلم. (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار -رحمنا الله وإياه- (7/ 100): فليس هذا بشيء لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الكسوف في صحراء قط فيما علمت وإنما صلاها في المسجد وذلك معلوم نصوص عليه في الآثار الصحاح. اهـ. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 183). (¬3) بين النسخ تقديم وتأخير. (¬4) في ن ب عدد. (¬5) في ن ب (تأخير).

عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوي من أول الحال، وكأن العلماء الذين جعلوا اختلاف الروايات بحسب الانجلاء جعلوا ذلك سنة صلاة الكسوف، لا أن تكون سنتها، أن تكون هيئتها منوية من أولها فيكون الفعل مبينًا لسنة هذه الصلاة. وعلى مذهب من جعلها ركعتين كأنهم أرادوا أن [يُخرجوا] (¬1) فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العبادة عن المشروعية مع مخالفتهم (¬2) للقياس في زيادة ما ليس من الأفعال المشروعة في الصلاة (¬3). وقال ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم من العلماء: جرت صلاة الكسوف في أوقات، واختلاف صفاتها محمول على بيان جواز جميعها، فيجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة، وهو قوي (¬4). واعلم أن النووي في "شرح المهذب" (¬5): نقل عن مقتضى كلام أصحابنا أنه لو صلى الكسوف ركعتين كسائر النوافل صحت، وكان تاركًا للأفضل. قلت: وبه صرح الجرجاني في "تحريره"، لكن حكى صاحب ¬

_ (¬1) في ن ب (يجعلوا). (¬2) في ن ب زيادة (على). (¬3) انظر: كلام الصنعاني على هذا في الحاشية (3/ 184). (¬4) انظر إلى هذه الاحتمالات وتوجيهها في فتح الباري (2/ 532). (¬5) المجموع شرح المهذب (5/ 63).

"الذخائر" (¬1) عن القاضي حسين عدم الصحة، [وأفهمه] (¬2) كلام البندنيجي. الثامن: أطلق في الحديث لفظ الركعات على الركوع. التاسع: فيه تقدم الإِمام على المأمومين. العاشر: أن [إحرام] (¬3) الإِمام وتكبيره يكون عقب كونه في مصلاه. الحادي عشر: فيه استحباب بعث الإِمام من ينادي بصلاة الكسوف، وكذلك ينبغي أن يفعل في كل صلاة شرعت لها الجماعة. الثاني عشر: فيه نقل فعله - عليه الصلاة والسلام - عند تغير الأحوال والأزمنة إلى أمته للاقتداء والعمل. ¬

_ (¬1) لمجلى بن جميع. انظر: طبقات ابن الصلاح (475، 670)، وطبقات ابن شهبة (1/ 283، 322). (¬2) في ن ب (وأفهم). (¬3) في الأصل (محراب)، والتصحيح من ن ب د.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 149/ 2/ 29 - عن أبي مسعود -عقبة بن عمرو- الأنصاري البدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئًا فصلوا، وادعوا، حتى ينكشف ما بكم" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في باب الإِمامة. والآية: العلامة. والخوف: غم على ما سيكون. والحزن: غم على ما مضى (¬2). الوجه الأول: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن الشمس ¬

_ (¬1) البخاري (1041، 1057، 3204)، ومسلم (911)، والشافعي (1/ 180)، وابن ماجه (1261) في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف، والنسائي (3/ 126). (¬2) المغرب (2/ 389).

والقمر آيتان من آيات الله" معناه إنهما علامتان كما قدمناه دالتان على عِظم قدرة الله وقهره، وكمال إلاهيته، وإنما خصهما بالذكر لما وقع للجاهلية من أنهما لا يخسفان إلَّا لموت عظيم، أو ضرر أو نقص ونحوها، لأن بعضهم كان يعظمهما وهذا لا يصدر إلَّا ممن لا علم له ضعيف العقل، مختل الفهم، فرد - عليه الصلاة والسلام - جهالتهم، وبين أنهما مخلوقان لا صنع لهما كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغيير كغيرهما، وتضمن ذلك الرد على من قال بتأثيرات النجوم، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان، فقال: "يخوّف الله بهما عباده" أي أنه ينبغي للعباد الخوف عند وقوع التغيرات العلوية قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} (¬1). فإن قيل: وأي تخويف من ذلك والكسوف أمر عادي، بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى حجب الجسم الكثيف نور الشمس عما تقابله من الأرض وذلك لا يحصل به تخويف (¬2). فالجواب: ما ذكره القرطبي (¬3) وغيره: أنّا لا نسلم أن سبب ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: آية 59. (¬2) قال ابن العربي -رحمنا الله وإياه- في القبس (1/ 380): قلنا طلوع الشمس وغروبها آية، والسموات والأرض كلها آيات، إلَّا أن الآيات على ضربين منها مستمر عادةً فيشق أن يحدث لها عبادة، ومنها ما يأتي نادرًا فشرع للنفس البطّالة الآمنة التعبد والرهبة عند جريان ما يخالف الاعتياد ذكرى لها وصقلًا لصريرها. إهـ. (¬3) المفهم (3/ 1519).

الكسوف ما ادعوه، ومن أين عرفوا ذلك، أبالعقل أو بالنقل؟ وكل واحد منهما إما بواسطة نظر أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا. ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية تفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع أيضًا ما ذكروه إلى القطع وهو أوّل المسألة، ولئن سلمنا ذلك جدلًا لكنا نقول يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة، أوضحها: أن ذلك مُذَكِّرٌ بالكسوفات التي تقع بين يدي الساعة، ويمكن أن [يكون] (¬1) ذلك الكسوف منها، ولذلك قام - عليه الصلاة والسلام - فزعًا يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا؟ وقد قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} (¬2) قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما. وقيل: غير ذلك وأيضًا فإن كل ما في العالم علويه وسفليه دليل على تفرد قدرة الله وتمام قهره باستغنائه، وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬3). فاصحاب المراقبة له ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعظيم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن اسبابها إذا وقع عندهم شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى على ما يشاء، وذلك لا يمتنع أن يكون ثم أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سورة القيامة: آيات 7 - 9. (¬3) سورة فاطر: آية 28. إلى هنا ينتهي نقله من المفهم.

خرقها (¬1). ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد (¬2) وإن كان ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (24/ 259): وهذا بيان منه - صلى الله عليه وسلم - أنهما سبب لنزول عذاب الله بالناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا، قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} وأمر - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل الخوف أمر بالصلاة والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق، حتى يكشف ما بالناس وصلى بالمسلمين صلاة طويلة. (¬2) البخاري في تفسير سورة الأحقاف، باب: فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم، وفي الأدب، باب: التبسم والضحك، ومسلم (899) في الاستسقاء، باب: التعوذ عبد رؤية الريح والغيم، والبغوي (4/ 389) من حديث عائشة، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ "كان إذا هاجت الريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه ومد يديه" ... إلخ الحديث. قال الصنعاني في حاشيته على أحكام الأحكام (3/ 187): أقول: فرق بين المشبّه والمشبه به، فإن الله -تعالى- قد عرفنا بالأمرين في الريح بأنها تكون رحمة وقد تكون عذابًا، فتحصل الخشية عند هبوبها، بخلاف الكسوف فإنه لم يعرفنا إلَّا أنه يكون تخويفًا، ولم يعرفنا أنه يكون لأجل الحساب، نعم لو ثبت عن الشارع ما ثبت في الريح وقلنا به وحملناه عليه، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ريح يفزع عند هيجانها "اللهم اجعلها ريح رحمة ولا تجعلها عذابًا" لأنها قد عرفت بالأمرين، وأما الكسوف فإنه أخبر بأنه تخويف لا غير وأمر العباد أنهم إذا رأوه صلوا ودعوا حتى ينكشف ما بهم في كل كسوف اتفق.

هبوب الريح موجودًا في العادة، فيكون لله تعالى أفعال خارجة عن كل الأسباب، وأفعال جارية على الأسباب، وقدرته سبحانه وتعالى حاكمة على كل سبب، فيقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وخص خسوفهما بالتخويف، لأنهما أمران علويان نادران طارئان [عظيمان، والنادر العظيم مخيف موجع، بخلاف ما يكثر وقوعه فإنه] (¬1) لا يحصل منه ذلك غالبًا، وأيضًا [لما] (¬2) وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدهما ولما وقع للجهال من المنجمين وغيرهم من اعتقاد تأثيرها حتى قالوا: كسفت لموت إبراهيم فقال - عليه الصلاة والسلام -: هذا الكلام ردًّا عليهم. الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإذا رأيتم منها شيئًا" الضمير في "منها" عائد على الآيات في قوله: "من آيات الله". ومعنى "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" بادروا بالصلاة والدعاء، وأسرعوا إليهما حتى يزول عنكم هذا العارض، الذي يخاف كونه مقدمة عذاب أو وجود عذاب، ولا شك أن الله -تعالى- امتن على البشر بالشمس والقمر ونورهما، ووصف القمر بالنور، والشمس بالسراج. فإذا زال ذلك أو تغير فهو عذاب حاضر، سواء عاد نورهما أو لم يعد، لكن عدم عودهما أشد عذابًا لما يدل على قرب الساعة وأهوالها. فالإِسراع إلى الصلاة والدعاء سبب رفع البلاء غالبًا. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل ون د (فلما).

الثالث: في أمره - عليه الصلاة والسلام - بالصلاة والدعاء جميعًا ما يدل على أن المراد بالصلاة: الصلاة الشرعية للكسوف، لجمعه في الأمر بينهما، فلو كان المراد بالصلاة الدعاء الذي به سميت الصلاة لما حسن [ذلك] (¬1)، فدل على ما ذكرنا، وإذا كان كذلك فيقتضي الأمر بهما أن يكون غاية فعلهما إلى الانجلاء. [وقال] (¬2) الفقهاء: إذا صليت صلاة الكسوف على الوجه المشروع، ولم يقع [الانجلاء] (¬3) أنها لا تصلى ثانيًا، بخلاف صلاة الاستسقاء فانهم إذا لم يسقوا صلوا ثانيًا وثالثًا. قال الشيخ تقي الدين (¬4): وليس في الحديث ما يدل على خلاف ما ذكره الفقهاء من عدم إعادة صلاة الكسوف إذا صليت ولم تَنْجَلِ لوجهين. أحدهما: أنه أمر بمطلق الصلاة، لا بالصلاة على هذا الوجه المخصوص. ومطلق الصلاة سائغ إلى حين الانجلاء. الثاني: لو سلمنا أن المراد الصلاة الموصوفة بالوصف المذكور لكان لنا أن نجعل هذه الغاية لمجموع الأمرين (¬5) أعني ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في الأصل (وقالت)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في ن ب (انجلاء). (¬4) إحكام الأحكام (3/ 188). (¬5) قال الصنعاني في حاشيته (3/ 188): قوله "لمجموع الأمرين" أقول: الاحتمالات ثلاثة: أن يكون غاية لهما معًا، غاية للصلاة على انفرادها، غاية لله على انفراده، والأظهر عودة إلى الكل وتخصيص أحد الأمرين =

الصلاة والدعاء، ولا يلزم من كونها غاية لمجموع الأمرين أن تكون غاية لكل واحد منهما على انفراده، فجاز أن يكون الدعاء ممتدًا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة على الوجه المخصوص مرة واحدة [ويكون] (¬1) غايةً [للمجموع] (¬2). الرابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإذا رأيتم منها شيئًا" إلى آخره فيه دليل للشافعي وأحمد وجميع فقهاء أصحاب الحديث في استحباب الصلاة لكسوف القمر على هيئة صلاة كسوف الشمس. وروي ذلك عن جماعة من الصحابة وغيرهم. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يسن لكسوف القمر هكذا، وإنما يسن ركعتان كسائر الصلوات فرادى (¬3). وقال أشهب من المالكية: بجواز الجمع لها وكرهه بعضهم إذ لم يستمر العمل عليه. وقال عبد العزيز (¬4) بن أبي [سلمة] (¬5) يصلي على هيئة كسوف الشمس. ¬

_ = دون الآخر لا بد له من دليل، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "فصلوا" مطلق يصدق على الكسوف وهي الأقرب هنا وعلى غيرها من النوافل. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د، و"إحكام الأحكام". (¬3) انظر: الاستذكار (7/ 107). (¬4) انظر: الاستذكار (7/ 107). (¬5) في الأصل (مسلمة)، وما أثبت من ن ب د.

[وقد اختلف عندهم في أقوال عبد العزيز هل تضاف إلى المذهب أم لا؟] (¬1). واختلف قول مالك في الخروج لصلاة [خسوف] (¬2) القمر إلى المسجد والمعروف عندهم كما قال الفاكهي: سقوط ذلك للمشقة، وعلله غيره بأنه لم يثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - جمع له، وهو عجيب، ففي "صحيح ابن حبان" (¬3) من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا انكسف أحدهما فافزعوا إلى المساجد". الخامس: فيه استحباب المبادرة إلى الخير وأعمال البر والتضرع إذا حدثت آية، وروت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "بالعتاقة في كسوف الشمس". رواه البخاري (¬4). قال الحاكم: وهو على شرط مسلم أيضًا. وروى ابن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (كسوف). (¬3) ابن حبان (2829، 2838)، وابن خزيمة (1389، 1392، 1393)، والحاكم (1/ 329)، وأبو داود (1194)، وأحمد (2/ 159)، والنسائي (3/ 137، 139). قال أبو حاتم في الإِحسان في تقريب صحيح ابن حبان (7/ 69): أمر في هذا الخبر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر، وهو المقصود، فأطلق هذا المقصود على سببه، وهو المساجد، لأن الصلاة تتصل فيها، لا أن المساجد يستغنى بحضورها عند كسوف الشمس أو القمر دون الصلاة، قال ابن حجر في فتح الباري (2/ 548). (¬4) البخاري (86، 184، 922، 1053، 1054، 1061، 1235، 1373، =

عباس مرفوعًا "إذا رأيتم آية فاسجدوا". رواه أبو (¬1) داود وهذا يشمل الكسوف وغيره كالزلزلة ونحوها، وبمقتضاه قال راويه وابن مسعود وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم. وكذلك الصلاة عند الصواعق والرياح الشديدة، والظلمة المنتشرة في الأفق نهارًا (¬2). ونص الشافعي ومالك على استحباب الصلاة فرادى لغير الكسوفين (¬3). وروي عن علي أنه صلى في زلزلة جماعة (¬4). قال الشافعي (¬5) إن صح قلت به فمن أصحابنا من قال هذا قول آخر له في ¬

_ = 2519، 2520، 2287)، والحاكم (1/ 331)، وأبو عوانة (2/ 369)، وأبو داود (1192)، وأحمد (6/ 345)، وابن خزيمة (2/ 329)، والبيهقي (3/ 340)، والبغوي في شرح السنة (4/ 384). (¬1) أبو داود (1197) في الصلاة، باب: السجود عند الآيات، والترمذي (3889) في المناقب، في فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسنه، والبغوي (1156). (¬2) انظر الأم (1/ 218)، وكشف الصلصلة عن وصف الزلزلة للسيوطي (52). (¬3) قال الشافعي: ولا آمر بصلاة جماعة في آية سواهما -يعني: سوى خسوف الشمس والقمر- وآمر بالصلاة منفردين. اهـ، من شرح السنة للبغوي (4/ 284)، والبيهقي في السن (3/ 343)، وفي المعرفة (5/ 157)، والشافعي في الأم (7/ 168)، (¬4) الشافعي في الأم (7/ 168)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 472)، والبيهقي في السنن (3/ 343)، وفي المعرفة (5/ 157)، والمغني (3/ 332). (¬5) الأم (7/ 168).

الزلزلة وحدها، ومنهم من عممه في جميع الآيات، ولم يصح ذلك عن علي، [ولو ثبت] (¬1) فهو محمول على الصلاة منفردًا، وكذا كل ما جاء عن غير علي من نحو هذا. السادس: فيه أيضًا دليل على التنبيه بالاعتبار بآيات الله وحدوث ظهورها، وعلى عظيم قدرته وإلهيته -سبحانه وتعالى- وعلى أن الكواكب لا فعل لها ولا تأثير، كما سلف، وإنما هي علامات، وعلى الرجوع إلى الله -تعالى- عند الحوادث المخالفة للعادة بالصلاة والدعاء كما سلف، خصوصًا إذا خشي زوال نعم الله فيها، وعلى شرعية صلاة الكسوف كما سلف، والتوجه إلى الله -تعالى- عنده، وعلى وجوب البيان للأمور خصوصًا إذا اعتقد خلاف الصواب فيها، وعلى الاجتهاد في السؤال لله -تعالى-، والعبادة حال وجود الحوادث حتى تزول. ¬

_ (¬1) في ن ب (ولم يثبت).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 150/ 3/ 29 - عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: خسفت الشمس (¬1) على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا". ثم قال: "يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (والقمر). (¬2) البخاري (1044، 1046، 1047، 1050، 1056، 1058، 1064، 1065، 1066، 1212، 3203، 4624، 5221، 6631)، ومسلم (901)، ومالك (1/ 186)، وأبو عوانة (2/ 373، 374)، وأبو داود =

وفي لفظ: "فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات". الكلام عليه من سبعة وعشرين وجهًا: الأول: فيه دليل على جواز استعمال الخسوف في الشمس وهي لغة ثابتة كما تقدم. الثاني: فيه المبادرة بالصلاة عند الكسوف لقولها "فصلى" بالفاء التعقيبية، وشرعية صلاة الكسوف جماعة وهو مذهب الجمهور، كما أسلفته في الحديث الأول. الثالث: فيه شرعية طول القيام فيها، ولم يُذكر في الحديث حد لطوله، لكن قال أصحابنا وغيرهم: يطول القيام الأول نحوًا من سورة البقرة، لحديث ابن عباس في الصحيح (¬1) فإن فيه تقدير [القيام بنحو قدر سورة البقرة، وأن الثاني دونه، وأن] (¬2) القيام الأول من الركعة الثانية نحو القيام الأول وكذا الباقي. ¬

_ = (1/ 119)، والنسائي (3/ 132، 133)، وابن خزيمة (2/ 324)، والطحاوي (1/ 327)، والبيهقي (3/ 338)، والبغوي (4/ 373، 374)، وابن الجارود (1/ 222)، وابن حبان (2845، 2846). (¬1) البخاري (29، 431، 748، 1052، 3202، 5197)، ومسلم (907)، وأبو عوانة (2/ 379، 380)، وأبو داود (1189)، والنسائي (3/ 146، 147، 148)، والدارمي (1/ 298)، وأحمد (1/ 298، 359)، وابن الجارود (1/ 220)، وابن خزيمة (2/ 312، 313)، والبيهقي (3/ 321)، والبغوي (4/ 369، 370)، ومن رواية عائشة - رضي الله عنها -: عند أبي داود (1187)، والبيهقي في معرفة السنن (7139)، والتمهيد (3/ 308)، والاستذكار (7/ 102). (¬2) في ن ب ساقطة.

وفي الدارقطني من حديث عائشة (¬1) قراءته في الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بـ"يس"، لم يضعفه عبد الحق. وادعى الفاكهي: أنه ورد في حديث أنه قرأ في [القيام] (¬2) الأول بنحو سورة البقرة، وفي الثاني بنحو سورة آل عمران، وفي الثالث بنحو سورة النساء، وفي الرابع بنحو سورة المائدة، وشرع يستشكل تقدير الثالث بالنساء، لأن المختار كون القيام الثالث أقصر من الثاني والنساء أطول من آل عمران [فليحرر] (¬3) ذلك. الرابع: فيه تطويل الركوع الأول ولم يذكر أيضًا في الحديث له حد، وذكر أصحابنا: أنه يطوله بقدر مائة آية من البقرة، واختار غيرهم أنه لا يطوله [(¬4)] إلَّا بما لا يضر بمن خلفه. الخامس: أن القيام الثاني يكون دون القيام الأول [وهو سنة هذه الصلاة وهو مناسب لحكم الركعة الثانية في غيرها من الصلوات] (¬5) عند المحققين لأنها تكون أقصر من الأولى كما تقدم في باب وجوب القراءة في الصلاة [في] (¬6) الحديث [الثاني منه] (¬7). ¬

_ (¬1) الدارقطني (2/ 64)، والبيهقي (3/ 336)، انظر: تلخيص الحبير (2/ 93). وقد روي عن علي أيضًا أنهم حزروا قراءته بالروم ويس أو العنكبوت. انظر: التمهيد (3/ 310)، والاستذكار (7/ 102). (¬2) زيادة من ن ب. (¬3) في ن ب (فليحر). (¬4) في ن ب زيادة (بقدر مائة). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) في ن ب ساقطة. (¬7) في ن ب (الثامنة).

السادس: اتفق الفقهاء على القراءة: في هذا القيام الثاني أعني الذين قالوا به، وجمهورهم على قراءة الفاتحة، وقالوا لا تصح الصلاة إلَّا بقراءتها فيه. وقال محمد بن سلمة المالكي: لا تقرأ الفاتحة في القيام الثاني. وكأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع والركعة الواحدة لا تثنى فيها الفاتحة، فهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث كما سيأتي في قول [عائشة] (¬1) إستكمل أربع ركعات [و] (¬2) أربع سجدات، ومنصوص مذهب مالك أنه يقرأ. واعلم أني لم أر في الأحاديث قراءة الفاتحة في كل قيام، وإنما فيها أنه قرأ فيهما. وفي البخاري (¬3) من حديث عائشة أنه قرأ سورة طويلة ثم ركع فأطال، ثم رفع رأسه فاستفتح سورة أخرى، ثم ركع. وفي مسلم (¬4) من حديث جابر بن سمرة "أنه قرأ سورتين وصلى ركعتين"، وكان من أوجبها في القيام الثاني ألحقه بالركعة الكاملة. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (في). (¬3) انظر تخريج الحديث الأول من باب الكسوف. (¬4) قوله: "من حديث جابر بن سمرة" الذي في مسلم "عبد الرحمن بن سمرة"، والحديث أخرجه مسلم (913)، وابن أبي شيبة (2/ 469)، وأبو داود (1195) في الصلاة، باب: من قال يركع ركعتين، والنسائي (3/ 124، 125)، وأحمد (5/ 61)، وابن حبان (2848)، والحاكم (1/ 329).

السابع: الاعتدال بعد الركوع الأخير لم يذكر في هذا الحديث، ولا في حديث ابن عباس في صحيح أبي عوانة (¬1)، وهو ثابت من حديث جابر في صحيح (¬2) مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة. الثامن: اتفق العلماء على أن القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى أقصر من القيام الأول والركوع، وكذا القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الثانية يكون أقصر من الأول منهما. واختلفوا في القيام الأول، والركوع الأول [من] (¬3) الثانية هل هما ¬

_ (¬1) أبو عوانة (2/ 379). انظر: التعليق ت (1) ص (292). (¬2) مسلم (904). قال ابن حجر في الفتح (2/ 539): تنبيه: وقع في حديث جابر الذي أشرف إليه عند مسلم، تطويل الاعتدال الذي يليه السجود ولفظه "ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم سجد"، وقال النووي: هي رواية شاذة مخالفة فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع، وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضًا ففيه ثم ركع فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق النووي عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه، والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط فالحديث صحيح، ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلَّا في هذه، وقد نقل الغزالي الاتفاق على إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام؛ وإلَّا فهو محجوج بهذه الرواية. (¬3) في ن ب (واو).

أقصر [من القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى أم هما سواء فمن قال يكون أقصر] (¬1) في ذلك كله يجعل قوله - عليه الصلاة والسلام (¬2) -: "وهو دون القيام الأول ودون الركوع الأول" عائدًا إلى مجموع الصلاة وهو بعيد من لفظ الحديث فإنها قالت: "ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى" وهو يقتضي التسوية بينها وبين الأولى من غير تقصير عنها، والعلماء متفقون على شرعية إطالة القراءة والركوع فيها كما وردت به الأحاديث، فلو اقتصر على الفاتحة في كل قيام، وأدنى طمأنينة في كل ركوع، صحت صلاته، وفاته الفضيلة. تنبيه: قيل إن السبب في تقصير القيام الثاني في الكسوف وسائر الصلوات أن النشاط يكون في الركعة الأولى أكثر فيناسب التخفيف في الثانية خشية الملل، وقد أسلفت هذا في الحديث الثاني من باب وجوب القراءة في الصلاة مع زيادة فوائد متعلقة به فراجعه من هناك. التاسع: فيه استحباب إطالة السجود فيها. قال الشيخ تقي الدين: وظاهر مذهب مالك والشافعي أنه لا يطوله، بل يقتصر على قدره في سائر الصلوات، وبه قال جمهور الشافعية وابن القاسم من المالكية، وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن ابن سريج أنه يطيل السجود، كما يطيل الركوع، ثم ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) هذا ليس من قوله وإنما هو من قول الراوي -أي عائشة-.

قال: وليس بشيء، لأن الشافعي لم يقل ذلك، ولا نقل في خبر. ولو كان قد أطال لنقل، كما نقل في القراءة والركوع. واعترض الشيخ تقي الدين (¬1) عليه فقال: بل نقل ذلك في أخبار، منها حديث عائشة هذا. وفي حديث آخر إنها قالت: "ما سجدت سجودًا أطول منه" وكذلك نقل تطويله في حديث أبي موسى (¬2)، وجابر بن عبد الله (¬3). قلت: حديث أبي موسى أخرجه البخاري ومسلم، وحديث جابر أخرجه مسلم، وأخرجه الشيخان أيضًا من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاصي (¬4)، وأخرجه البخاري من حديث أسماء (¬5) وأبو داود، والحاكم من حديث سمرة بن جندب (¬6)، وفي رواية ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 192). (¬2) ولفظه: "فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود". البخاري (1059)، ومسلم (912)، والنسائي (3/ 153، 154)، وابن حبان (2836)، وابن خزيمة (1371). (¬3) سبق تخريجه. انظر التعليق (1) ص (275) من الحديث الأول، وانظر كلام ابن حجر في المسألة في الفتح (2/ 539). (¬4) البخاري (1051)، ومسلم (910). (¬5) انظر التعليق ت (4) ص (288) من الحديث الثاني. (¬6) أبو داود (1184) في الصلاة، باب: من قال أربع ركعات، والحاكم (1/ 329، 331)، وواففه الذهبي ثم استدرك بعد ذلك (1/ 334)، وتعقبه بقوله: ثعلبة مجهول وما أخرجا له شيئًا. والنسائي (3/ 140، 141)، والبيهقي (3/ 339)، والطبراني (6798)، وابن خزيمة (1397).

للحاكم (¬1) من حديث عائشة "ثم سجد حتى إن رجالًا يومئذ ليغشى عليهم مما قام بهم حتى [إن سجال] (¬2) الماء ليصب عليهم" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين. والشيخ تقي الدين (¬3) أقر الشيخ أبا إسحاق الشيرازي على أن الشافعي لم يقل ذلك وهو عجيب، فقد نص الشافعي في البويطي في موضعين منه على تطويله، حيث قال: يسجد سجدتين ثانيتين طويلتين يقيم في كل سجدة نحوًا مما قام في ركوعه، هذا لفظه ومنه نقلته (¬4). وقال الشافعي في جمع الجوامع (¬5): يقيم في كل سجدة نحوًا مما قام في ركوعه. ونقل الترمذي (¬6) عن الشافعي: تطويل السجود. ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 332)، ووافقه الذهبي. (¬2) في ن ب غير واضحة. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (3/ 191). (¬4) انظر: فتح الباري (2/ 539) وتعقبه لهذه المسألة. (¬5) جمع الجوامع مؤلفه هو: أحمد بن محمد الزوزني أبو سهل ويعرف بابن العفريس، قال عنه مؤلفه: جمعته من كتب الشافعي وهي القديم، المبسوط، الأمالي، البويطي، وحرملة، ورواية موسى بن أبي الجارود، ورواية المزني في المختصر والجامع الكبير ورواية أبي ثور، وحكيت مسائلها بألفاظها ... إلخ. انظر: ترجمة طبقات الشافعية لابن هداية (1/ 2)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شيبة (1/ 139). (¬6) الترمذي النص كامل فيه (2/ 450)، وقد نص الشافعي في الأم (1/ 217) حيث يظهر تغاير فيهما.

وقال الخطابي (¬1): مذهب الشافعي تطويل السجود كالركوع. وقال البغوي (¬2): أحد القولين يطيل السجود في السجود الأول كالركوع، والسجود الثاني كالركوع الثاني. فالمسألة منصوصة كما قد علمت، والأحاديث صحت أيضًا فلا محيد عنها، لا جرم صححه المحققون، وعجيب من الشيخ أبي إسحاق مع جلالته كيف وقع له مثل هذا، وقد أوضحت الرد عليه في كتابي المسمى بـ"المحرر المذهب في تخريج أحاديث المهذب". العاشر: لم يذكر في هذا الحديث تطويل الجلوس بين السجدتين، لا جرم نقل الغزالي والرافعي الاتفاق على أنه لا يطوله لكن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص يقتضي إطالته [وأيداه] (¬3) في "الذخائر" عن بعض الأصحاب احتمالًا، وجاء في صحيح مسلم من حديث جابر أنه طول الاعتدال الذي يلي السجود، وحكاه في "الذخائر" احتمالًا أيضًا، لكن قال النووي في "شرح مسلم": إنها رواية شاذة مخالفة لرواية الأكثرين فلا يعمل بها (¬4). الحادي عشر: فيه شرعية الخطبة بعد صلاة الكسوف لقولها "فخطب فحمد الله وأثنى عليه"، وهو ظاهر الدلالة في أن لصلاة الكسوف خطبة، وبه قال الشافعي، وابن جرير، وفقهاء أصحاب ¬

_ (¬1) معالم السنن (2/ 45). (¬2) السنة للبغوي (4/ 380). (¬3) في ن ب (وأيدايه). (¬4) انظر التعليق ت (1) ص (295)، وانظر: شرح مسلم (6/ 207).

الحديث قالوا: يستحب بعدها خطبتان، ولم ير ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد ووافقنا أحمد في رواية، والحديث رواه مالك وخالفه لأنه لم يشتهر، وقال بعض أتباعه: لا خطبة لها ولكن يتقبلهم ويذكرهم، وهذا خلاف الظاهر من الحديث لأنه ابتداء بما يبتدىء به الخطيب من الحمد لله والثناء عليه، وما ذكر من أن المقصود الإِخبار بأنهما آيتان من آيات الله إلى آخره ردًّا على من قال: إنهما ينكسفان لموت عظيم، وقد قالوه عند موت إبراهيم كما مضى، والإِخبار عن الجنة والنار حيث رآهما، وذلك يخصه - عليه الصلاة والسلام - دون غيره، كله ضعيف. فإن الخطب لا تنحصر مقاصدها بما يخص الخطيب، بل ما ذكر مطلوب للخطيب وغيره، فإن الحمد والثناء والموعظة شامل لذكر الجنة والنار، وكونهما آيتين من آيات الله وذلك بعض مقاصد الخطبة لا كل المقصود لو سلم خصوصيته - عليه الصلاة والسلام - بذلك (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 534): على قوله "باب خطبة الإِمام في الكسوف" اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث قال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد -رحمه الله- أن لها خطبة، المغني (3/ 328)، وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس لها خطبة لأنه لم ينقل، وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه وهي ذات كثرة. والمشهور عند المالكية أن لا خطبة لها، مع أن مالكًا روى الحديث، وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد لها خطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، =

الثاني عشر: فيه أن خطبة الكسوف لا تفوت بالانجلاء بخلاف الصلاة. الثالث عشر: فيه أن الخطبة يكون استفتاحها بالحمد لله -تعالى- والثناء عليه، دون شيء آخر من الذكر والبسملة وغيرهما. ومذهب الشافعي وأحمد أن [لفظة] (¬1) الحمد لله متعينة، فلو قال معناها لم تصح خطبته. ¬

_ = فلم يقتصر على الإِعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلَّا بدليل، وقد استضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور وقال: إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين، بعد الإِتيان بما هو مطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة، وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره من مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيذكر الإِمام ذلك في خطبة الكسوف، نعم نازع ابن قدامة في المغني (3/ 328) في كون خطبة الكسوف كخطبتي العيدين والجمعة، إذ ليس في الأحاديث. المذكورة ما يقتضي ذلك، وإلى ذلك نحا ابن المنير في حاشيته ورد على من أنكر أصل الخطبة لثبوت ذلك صريحًا في الأحاديث وذكر أن بعض أصحابهم احتج على ترك الخطة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر، ثم زيفه بأن المنبر ليس شرطًا ثم لا يلزم من أنه لم يذكر لم يقع. اهـ. وقد أيده في الدراية في تخريج الهداية (1/ 225)، على قوله: وليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل". انتهى، هذا النفي مردود بما في الصحيحين عن أسماء ثم ساق لفظه، وفي المتفق عليه عن ابن عباس، وعائشة، ومسلم عن جابر، ولأحمد والحاكم عن سمرة، ولابن حبان عن عمرو بن العاص، وصرح أحمد والنسائي وابن حبان في روايتهم "بأنه صعد المنبر". اهـ. (¬1) في ن ب (لفظ).

الرابع عشر: شرعية صلاتها لكسوف الشمس في جماعة، وقد سلف ذلك في الحديث الذي قبله أيضًا مع ما فيه من الخلاف وجه الدلالة أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "فإذا رأيتم ذلك فصلوا" [من] (¬1) بعد ذكرهما من غير تفصيل في جماعة أو فرادى، وقد فعلها - عليه الصلاة والسلام - في جماعة في كسوف الشمس، فدل على أن كسوف القمر كذلك، وقد روى الشافعي عن الحسن البصري قال: خسف القمر وابن عباس أمير بالبصرة فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتان. فلما فرغ ركب وخطبنا، وقال: صليت بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بنا (¬2) وتقدم في أول الباب أنه - عليه الصلاة والسلام - صلَّى له أيضًا. الخامس عشر: فيه جواز فعلها وقت الكراهة وغيرها عند رؤية الكسوف أي وقت كان، فإنه - عليه الصلاة والسلام - أمر بهما إذا رأوا كسوفهما وهو عام في كل وقت، وهو مذهب الشافعي (¬3) وغيره. واختلف مذهب مالك (¬4) في ذلك، فظاهر مذهبه: أنها لا تفعل إلَّا بعد جواز النافلة إلى الزوال: كالعيدين والاستسقاء على المشهور فيه عندهم. وعن مالك أيضًا أنها تصلى للغروب. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) المعرفة للبيهقي (5/ 155)، والسنن الكبرى (3/ 328). (¬3) انظر: الاستذكار (7/ 106). (¬4) انظر: الاستذكار (7/ 105).

وعنه رواية ثالثة أنها إلى صلاة العصر كالنافلة، ومنطوق الحديث بعمومه يرد ذلك. السادس عشر: فيه استحباب الصدقة عند رؤية الكسوف، وكذلك يستحب عند كل المخاوف [لاستدفاع البلاء والمحاذر. السابع عشر: فيه استحباب الدعاء والتوجه إلى الله -تعالى- واللجوء إليه عند المخاوف] (¬1) والشدائد وقد أمر الله بالدعاء في كتابه في غير ما موضع كما أمر بالصلاة وغيرها من العبادات فقال -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ...} (¬2) الآية، وقال -تعالى-: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬3)، وقال- تعالى-: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬4)، وغير ذلك من الآي، وقد تقدم بسط ذلك، وما عارضه في الحديث الرابع من باب التشهد، ولا شك أن الدعاء في الرجاء مطلوب لكونه سببًا لدفع البلاء والشدائد، فإنه ثبت في الصحيح (¬5) مرفوعًا "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" وفي ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) سورة البقرة: آية 186. (¬3) سورة غافر: آية 60. (¬4) سورة الأعراف: آية 55. (¬5) أخرجه الترمذي (2518)، وأحمد (1/ 307)، وأبو يعلى (1099، 4556). انظر: مجمع الزوائد (7/ 189)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ح 19): وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيده كلها ضعف، وذكر =

الترمذي (¬1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا "من سره أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب فليكثر من الدعاء في الرخاء". الثامن عشر: فيه أنه ينبغي أن لا يفخم الإِنسان نفسه ولا يعظمها بالوصف المتصف به، بل يذكر نفسه باسمه الموضوع له، فإنه - عليه الصلاة والسلام -، قال في الخطبة "يا أمة محمد" وكرره من غير أن يصفهم إلى نبوته ولا رسالته كل ذلك تواضعًا وأدبًا (¬2). [التاسع عشر] (¬3): قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ما من أحدٍ أغير من الله" "من" زائدة تقديره: ما أحد، وثبت في صحيح مسلم (¬4): "إن من أحد" وهي نافية بمعنى "ما" فعلى هذا يجوز في "أغير" النصب خبر إن النافية فإنها تعمل عمل "ما" عند الحجازيين، وعلى اللغة التميمية هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو أحد، ¬

_ = العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة" وبعضها أصلح من بعض، وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة. انظر: كلام أحمد شاكر على الحديث في مسند الإِمام أحمد (2669، 2763، 2804)، والطبراني في الكبير (11243)، ومسند الشهاب (745). (¬1) الترمذي (3382)، والحاكم (1/ 544) ووافقه الذهبي، وأبو يعلى (6396، 6397)، والمؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكره بلفظ: "من أراد الله أن يستجيب له دعاءه عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء"، وما أثبت من الترمذي، كما عزاه إليه. (¬2) وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أمة محمد". (¬3) في الأصل (الثالث عشر)، والتصحيح في ن ب ... إلخ الأوجه. (¬4) مسلم (901).

قاله القرطبي (¬1) في "شرحه"، والوجهان جائزان في رواية الكتاب في "أغير" فيقرأ بالنصب والرفع. العشرون: "الغيرة" في حقنا راجعة إلى تغير وانزعاج وهيجان يلحق الغَيْرَان عندما يُنال شيء من حريمه أو محبوباته يحمل على صيانتهم ومنعتهم، وهذا التغير على الله -تعالى- محال (¬2) إذْ هو منزه عن كل تغير ونقص (¬3) لكن لما كانت ثمرة المغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر المقاصد إليهم أطلق ذلك على الله -تعالى- إذ قد زجر وذم ونصب الحدود وتوعد بالعقاب الشديد من تعرض لشيء ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1516). (¬2) قال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في تعليقه على فتح الباري (2/ 531): المحال عليه -سبحانه وتعالى- وصفه بالغيرة المشابهة لغيرة المخلوق، وأما الغيرة اللائقة بجلاله -سبحانه وتعالى- فلا يستحيل وصفه بها، كما دل عليه هذا الحديث وما جاء في معناه، فهو -سبحانه- يوصف بالغيرة عند أهل السنَّة على وجه لا يماثل فيه صفة المخلوقين، ولا يعلم كنهها وكيفيتها إلَّا هو -سبحانه-، كالقول في الاستواء والنزول والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته -سبحانه- ... والله أعلم. وانظر: الفتاوى لابن تيمية (3/ 141). (¬3) وذلك كما قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في رد شبهاتهم في الفتاوى (6/ 120) على قولهم: إن المغيرة انفعالات نفسانية، فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل، ونحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها: لا يوجب أن يكون الله منفعلًا لها عاجزًا عن دفعها، وكان كل ما يجري في الوجود، فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلَّا ما يشاء، ولا يشاء إلَّا ما يكون، له الملك وله الحمد. اهـ.

من محارمه، وهذا من التجوز، ومن باب تسمية الشيء باسم ما يترتب عليه، [قاله] (¬1) كله القرطبي (¬2) في "شرحه". وقال النووي (¬3) في "شرحه": قالوا معناه ليس أحدًا أمنع من المعاصي من الله ولا أشد كراهة لها منه -سبحانه وتعالى-. وقال الشيخ تقي الدين (¬4): المنزهون لله -تعالى- عن سمات الحدث ومشابهة المخلوقين بين رجلين: إما ساكت عن التأويل، وإما مؤول، على أن يراد شدة المنع والحماية من الشيء. فإن الغائر على الشيء مانع له وحام له. فالمنع والحماية من لوازم الغيرة، فأطلق لفظ الغيرة عليها من مجاز الملازمة، أو غير ذلك من الوجوه الشائعة في لسان العرب، والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يسلم التنزيه، فإنه حكم شرعي. أعني الجواز وعدمه، فيؤخذ كما يؤخذ سائر الأحكام، إلَّا أن يدعي مدع أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع، أعني المنع من التأويل ثبوتًا قطعيًّا فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح، وقد يتعدى بعض خصومه إلى التكذيب القبيح. الحادي والعشرون: فيه جواز الحلف من غير استحلاف وهو متكرر في الأحاديث، ولا كراهة أيضًا فيه، لأن الحاجة تدعو إليه ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) المفهم (3/ 1516). (¬3) في شرح مسلم (6/ 201). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 194)، وانظر كلام الصنعاني في الحاشية.

للتأكيد وتعظيم الأمر. والقاعدة أن اليمين مكروهة إلَّا في هذا أو في الطاعة، وفي اليمين الصادقة في الدعوى. الثاني والعشرون: فيه الحث على اجتناب الزنا والمعاصي وتفخيم العقوبة عليها، وقبحها عند الله، ولا شك أن الزنا من الكبائر، لا يكفر بفعله كفرًا يخرجه عن الإِسلام، إلَّا أن يعتقد حله فيكفر إجماعًا، وينبغي اجتناب المعاصي كلها كبيرها وصغيرها، فإنه ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "لا يحقرن أحدكم صغير الذنب فربما به دخل النار"، وكذلك لا ينبغي أن يحقر من الخير شيئًا، فإنه ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" (¬1)، والجامع لذلك كله قوله -تعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} (¬2) الآية، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (¬3) الآية. الثالث والعشرون: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لو تعلمون ما أعلم" إلى آخره معناه لو تعلمون من عظم انتقام الله -تعالى- من أهل الجرائم، وشدة عقابه، وأهوال القيامة وما بعدها كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرًا ولقل ضحككم لفكركم فيما علمتموه. وقيل: معناه لو دام علمكم كما يدوم علمي به لبكيتم لأن علوم الأنبياء متواصلة لا يلحقها سهو، وعلومنا يدخل عليها ¬

_ (¬1) مسلم في البر والصلة (2626)، والسنَّة للبغوي (13/ 84). (¬2) سورة الزلزلة: آية 7. (¬3) سورة النساء: آية 40.

الغفلات والجهالات بالانهماك في الشهوات، فتركن النفوس إلى البطالة حتى تصدأ فلا يصقلها إلَّا الذكر. وقال ابن بزيزة: يحتمل أن يكون المعنى أنكم لو علمتم من رحمة الله -تعالى- وحلمه، وعفوه عن ذنوب خلقه ومعاني كرمه ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا فبكاؤكم إذ لم تفهموا من ذلك ما فهمت ولمَ تعلموا منه ما علمت. وينشأ هذا عن مطالعة جمال الله -تعالى- ونعوت أفضاله ومشاهدة النعم الواسعة التي لا تقصر عن شيء. فائدة: قال ابن منده في مستخرجه قوله: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" رواه مع عائشة عشرة من الصحابة. الرابع والعشرون: في قوله "لو تعلمون ما أعلم" إلى آخره دليل على علة مقتضى الخوف وترجيح الخوف في الموعظة على الإِشاعة بالرخص لما في ذلك من التسبب إلى تسامح النفوس لما جبلت عليه من الإِخلاد إلى الشهوات، وذلك مرضها الخطر. والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها لا بما يزيدها. فإن العلل المزمنة إن لم يبادر إليها يقطع مادة الداء بالدواء النافع القاطع لها وإلاَّ استحكمت العلة. الخامس والعشرون: فيه الحث على قلة الضحك وكثرة البكاء والتحقيق بما الإِنسان صائر إليه وما هو فيه، ولا شك أن كثرة الضحك وقلة البكاء مذمومان شرعًا، فإنهما يدلان على قسوة القلب وكثرة البطر. ومن الضحك ما هو محمود وهو ما إذا اقترن به مقصود شرعي من تعجب بنعم الله -تعالى- أو فرح للمسلمين أو تجلد

على الكافرين والمنافقين ونحو ذلك. ومن البكاء ما هو مذموم كالبكاء لإِظهار الجزع أو للرياء أو لإِضعاف المؤمنين أو تحزنًا على المنافقين أو ما شاكل ذلك. فأما ما كان منه من خشية الله -تعالى- وخوفًا فهو شعار عباده العارفين، وهو جلاء للقلوب، وتطهير للذنوب، وتقريب من علام الغيوب. وقد يغلب على الفاجر البكاء، كما ورد في بعض الأحاديث مرفوعًا وموقوفًا: "إذا كمل فجور الرجل ملك عينيه، فإذا أراد أن يبكي بكى"، وقد يقع البكاء على أمر نفساني فيوهم أنه من خشية الله -تعالى- فليتفطن لذلك ليقطع ويجتنب. السادس والعشرون: قولها "فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات" أطلقت الركعات على عدد الركوع. وتقدم في الحديث الأول في ركعتين وهو متمسك بعض المالكية في أنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث إنه أطلق على الصلاة ركعتين، وقد سلف ذلك في الوجه السادس. السابع والعشرون: وكان ينبغي تقديم قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا يخسفان" قال ابن الصلاح (¬1) في مشكل الوسيط هو بفتح الياء، وقال: وقد منعوا من أن يقال بالضم. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 528): على قوله "لا يخسفان" بفتح أوله ويجوز الضم، وحكى ابن الصلاح منعه، وروى ابن خزيمة والبزار من طريق نافع عن ابن عمر قال: "خسفت الشمس يوم مات إبراهيم ... " الحديث، وفيه: "فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله وادعوا وتصدقوا".

الحديث [الرابع]

الحديث [الرابع] (¬1) 151/ 4/ 29 - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: خسفت الشمس في زَمَانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام فزعًا [يخشى] (¬2) أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد، فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: "إن هذه الآيات التي يرسلها الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله -عز وجل- يرسلها يُخوِّف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئًا فافزعوا إلى ذكر الله، ودعائه، واستغفاره" (¬3). الكلام عليه من أحد عشر وجهًا. الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب السواك. الثاني: فيه دليل على جواز استعمال الخسوف في الشمس، وقد سلف ذلك في الحديث الذي قبله أيضًا. ¬

_ (¬1) في الأصل (الخامس)، والتصحيح من ن ب. (¬2) في ابن حبان (7/ 78) (خشينا). (¬3) البخاري (1059)، ومسلم (912)، والنسائي (3/ 153، 154)، وابن حبان (2836)، وابن خزيمة (1371).

الثالث: قوله: "فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة". أما "فزع" فهو من أبنية المبالغة كحذر. "والساعةُ" بضم التاء على تمام كان أي يخشى أن تحضر الساعة الآن، ويجوز أن تكون كان ناقصة. والساعة اسمها، والخبر محذوف، أي تكون الساعة قد حضرت، ويجوز فتحها على أن تكون كان ناقصة، ويكون اسمها مضمرًا فيها والساعة خبرها، والتقدير أن تكون هذه الآية الساعة أي علامتها وحضورها. واعلم أن قوله "يخشى أن تكون الساعة" مما يستشكل من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة لا بد من وقوعها ولم تقع كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدجال، وقتال الترك وأشياء كثيرة لا بد من وقوعها قبل الساعة كفتوح الشام والعراق ومصر وغيرها، وإنفاق كنوز كسرى في سبيل الله، وقتال الخوارج، وغير ذلك من الأمور المشهورة في الأحاديث، وجوابه من أوجه. أحدها: لعل هذا الكسوف قبل إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأمور (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 546)، في رده على هذه الاستشكالات: قال عن هذا: الأول فيه نظر لأن قصة الكسوف متأخرة جدًّا، فقد تقدم أن موت إبراهيم كان في السنة العاشرة كما اتفق عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك.

ثانيها: لعله خشي أن يكون ذلك بعض مقدماتها (¬1) وقد جاء على ما نقله القاضي: "أن القيامة تقوم ومعها كسوفان". ثالثها: أن قيامه - عليه الصلاة والسلام - فزعًا خاشيًا أن تكون الساعة إنما هو ظن من الراوي (¬2) لما رآه خرج إلى الصلاة مستعجلًا مبادرًا إليها، لا أنه - عليه الصلاة والسلام - خشي ذلك حقيقة. ولعله - عليه الصلاة والسلام - خاف أن يكون الكسوف نوع عقوبة كخوفه عند هبوب الريح أن يكون عذابًا. فظن الراوي خلاف ذلك ولا اعتبار بظنه. وذلك دليل على دوام مراقبته - عليه الصلاة والسلام - لفعل الله -تعالى- وتجريد الأسباب العادية عن إيجادها لمسبباتها. الرابع: فيه أن السنَّة فعلها في المسجد وهو المشهور من مذاهب العلماء. قال أصحابنا: وإنما لم يخرج إلى المصلَّى خوفًا من فواتها بالانجلاء فإن السنَّه المبادرة إليها، وخيّر بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، وهو خلاف الصواب، والمشهور. إنتهاء فعل ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (2/ 546): وأقر بها الثاني فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطلوع أثناء مما ذكر وتقع مسألة بعضها أثر بعض مع استحضار قوله -تعالى-: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (2/ 546): أما الثالث فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلَّا بتوقيف.

الصلاة بالانجلاء وهو مقتضى لأن يعتني بمعرفته [ومراقبته] (¬1) حال الشمس، [فلولا أن المسجد أرجح لكانت الصحراء أولى، لأنها أَقْرَبُ إلى إدراك حال الشمس] (¬2) في الانجلاء وعدمه وأيضًا فإنه يخاف من (¬3) اجتماع الناس في المصلَّى ذوات إقامتها، كما ذكره أصحابنا. الخامس: فيه جواز الإِخبار بما يوجب الظن من شاهد الحال وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، فإن إخباره أنه قام فزعًا خاشيًا أن تكون الساعة محتمل له ولغيره كما سلف. السادس: فيه الدوام على مراقبة الله -تعالى- وطاعته، والخوف منه بحيث لا يخرجه الخوف إلى اليأس من رحمته. قال الفاكهي: وفيه دلالة على المحافظة على طهارة الوضوء. قلت: قد يتوقف في أخذه منه فتأمله (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب (ويراقب)، ون د (وتراقب). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) فإنه يخاف من تأخيرها فوات أوقاتها فتشرع في الانجلاء قبل اجتماع الناس في المصلَّى فوات إقامتها كما ذكره أصحابنا. هذه عبارة زائدة من ن ب د. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (2/ 530): على قوله "خسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، استدل به على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على الوضوء فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال، وفيه نظر لأن في السياق حذفًا سيأتي في رواية ابن شهاب "خسفت الشمس فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه" وفي رواية عمر "فخسفت فرجع ضحى فمر بين يدي =

السابع: فيه تطويل الركوع والسجود وقد تقدم الكلام عليه في الحديث قبله. الثامن: فيه شرعية صلاة الكسوف للنساء والمسافرين وكل واحد. فإنه وإن كان الخطاب للذكور لقوله: "فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره". وفي الحديث الثاني "فصلوا وادعوا" فالنساء مُدرَجاَتٌ فيه، كما في قوله -تعالى-: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (¬1) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬2) وغير ذلك من خطاب التعبد العام، فإنهن داخلات فيها باتفاق، وكونها مشروعة للنساء وغيرهن هو مذهب الشافعي، ومشهور مذهب مالك، وروي عن مالك أيضًا [أن] (¬3) المخاطب بها من يخاطب بالجمعة، فيخرج النساء والمسافرون ونحوهم. وذهب الكوفيون: إلى أنهن يصلين أفرادًا لا جماعة، وقد صح حضورهن لها معه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يدل على أنهن مخاطبات بها في جماعة (¬4). ¬

_ = الحجر ثم قام يصلي" وإذا ثبتت هذه الأفعال جاز أن يكون الحذف أيضًا فتوضأ ثم قام يصلي فلا يكون نصًّا في أنه كان على وضوء. اهـ. (¬1) سورة المائدة: آية 6. (¬2) سورة البقرة: آية 183. (¬3) في ن ب (في). (¬4) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه الفتح (2/ 543): باب: صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. قال ابن حجر: أشار بهذه الترجمة إلى رد قول من منع ذلك وقال: يصلين فرادى وهو منقول عن الثوري =

التاسع: فيه شرعية الدعاء والذكر والاستغفار عند الكسوف، ولا شك أن كل واحد من المذكورات عبادة مستقلة مطلوبة في جميع الحالات، سواء كان مخوفًا أم لا، لكنه آكد في المخوف. العاشر: في قوله: "فافزعوا" إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيه [على] (¬1) الالتجاء إلى الله -تعالى- عند المخاوف بالدعاء والاستغفار، وإشارةٌ إلى أن الذنوب سبب البلايا والعقوبات العاجلة أيضًا، وأن التوبة والاستغفار سببان للمحو يرجى. بهما زوال المخاوف. الحادي عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا تكون لموت أحد ولا لحياته" قد تقدم الكلام عليه في الحديث الثاني، وأنه رد على من اعتقد ذلك. خاتمة: يسن الجهر في كسوف القمر، وفي كسوف الشمس مذاهب. أحدها: كذلك وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق، وقال ابن بزيزة: ورواه ابن معين وغيره عن مالك. ¬

_ = وبعض الكوفيين، وفي المدونة: تصلي المرأة في بينها وتخرج المنجالة، وعن الشافعي يخرج الجميع إلَّا من كانت بارعة الجمال. وقال القرطبي: روى عن مالك أن الكسوف إنما يخاطب به من يخاطب بالجمعة. (¬1) في ن ب د (عليه من).

وثانيها: الإِسرار وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والليث وأصحاب الرأي، وهو المشهور عن مالك، وقول جمهور العلماء. ثالثها: أنه [يخير] (¬1) بينهما، قاله الطبري وغيره من فحول العلماء جمعًا بين الأحاديث، ومنهم من أوّل أحاديث الجهر على كسوف القمر. ¬

_ (¬1) في ن ب د (مخير). وانظر: المفهم (3/ 1518).

30 - باب صلاة الاستسقاء

30 - باب صلاة الاستسقاء الاستسقاء: طلب [السقيا] (¬1) كالاستصحاء طلب الصحو. وهو "استفعال" من [أسقيت] (¬2) يقال: سقاه وأسقاه بمعنى. وقيل: سقاه ناوله ليشرب. وأسقاه: جعل له سقيا. وقيل: سقيته من سقى [السقه] (¬3) وأسقيته: دللته على الماء. حكاه صاحب "المحكم". واعلم: أن الاستسقاء أنواع: الأول: الدعاء بلا صلاة، ولا خلف صلاة. وأوسطها: الدعاء خلف الصلوات، وفي خطبة الجمعة. والاستسقاء: بركعتين وخطبتين. والثاني: أفضل من الأول. والثالث: أكمل الكل. وخالف [فيه] (¬4) أبو حنيفة كما سيأتي. وقد ذكر المصنف في الباب النوع الثالث والثاني الذي في الجمعة، وذكر في الباب حديثين: ¬

_ (¬1) في ن ب د (السقي). (¬2) في ن ب د (سقيت). (¬3) في ن ب د (الشفة). (¬4) زيادة من ن ب د.

الحديث الأول

الحديث الأول 152/ 1/ 30 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال: "خرج النبي - صلَّى الله عليه وسلم - يستسقي (¬1) [فتوجه] (¬2) إلى القبلة (¬3) وحول رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة". "وفي لفظ: إلى المصلى" (¬4). الكلام عليه من ثلاثة عشر وجهًا: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في كتاب الطهارة. ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (فخرج). (¬2) في ن ب (فخرج). (¬3) في ن ب (يدعو). (¬4) البخاري (1005، 1011، 1012، 1023، 1024، 1025، 1026، 1027، 1028، 6343)، ومسلم (894)، وأبو داود (1161، 1162، 1163) في الصلاة، باب: جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والترمذي (556)، والنسائي (3/ 157، 158، 163، 164)، وابن ماجه (1267)، وابن حبان (2864، 2865، 2866، 2867)، وأحمد (4/ 38، 39، 40، 41)، وابن خزيمة (1406، 1407، 1410، 1415)، والطحاوي (1/ 323، 324)، والدارقطني (2/ 67)، والدارمي (1/ 360، 361)، ومالك (1/ 190).

الثاني: قوله: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي" أي يطلب السقي بتضرعه ودعائه، فيستنبط منه أن الخروج إلى المصلَّى لصلاة الاستسقاء سنة. وقال أصحابنا: يخرجون إلى الصحراء لأنه أبلغ في الافتقار والتواضع، ولأنها أوسع للناس لأنه يحضرها الناس كلهم فلا يسعهم المصلَّى ولا المسجد الجامع. ورأيت في كتاب "الخصال" للخفاف من قدماء أصحابنا: استثناء مكة من ذلك، ولم أر من تعرض له سواه. وسيأتي في الحديث الثاني استسقاؤه في المسجد بالدعاء. الثالث: خروجه - صلى الله عليه وسلم - "إلى المصلَّى للاستسقاء" المذكور كان في أول شهر رمضان سنة ست من الهجرة لما جدب الناس جدبًا شديدًا، قاله ابن حبان (¬1). الرابع: استقباله القبلة هنا لأنها حالة دعاء وتضرع لطلب السقيا، فناسب استقبالها بخلاف الخطبة والموعظة فإنها حالة إنذار وتذكير فيناسب استقبال الناس، واستدبار القبلة، وهي السنة، بخلاف سائر العبادات، كالطهارة، والقراءة، والأذكار، والأذان، وأما حديث "خير المجالس ما استقبل به القبلة" (¬2) ¬

_ (¬1) الثقات لابن حبان (1/ 286)، ونقله في فتح الباري (2/ 499). (¬2) ضعيف رواه الطبراني عن ابن عمر، إتحاف السادة المتقين (4/ 371، 10/ 107)، وتخريج الإِحياء (4/ 390)، وكشف الخفاء (1/ 474)، والدرر المنتثرة (81)، والمقاصد الحسنة (76)، وقد ذكر البخاري في =

فهو خارج عن هذا حيث [لا تعلق لأحد به] (¬1) من موعظة أو تعلم أو مخاطبة. الخاص: تحويله الرداء هو من باب التفاؤل وانقلاب الحال من الشدة إلى السعة. قال أصحابنا: ويكون التحويل في نحو ثلث الخطبة الثانية حين يستقبل القبلة فيها، وجمهور العلماء على أَنَّ تحويله سنة. وأنكره أبو حنيفة وصعصعة بن سلام: من قدماء العلماء بالأندلس، كما حكاه القرطبي (¬2) عنه. وهذا الحديث وغيره حجة عليهم. قال أصحابنا: ويفعل الناس مثل الإِمام. وبه قال مالك وغيره (¬3). وخالف فيه جماعة من العلعاء ونقله القرطبي (¬4) عن الجمهور. ثم الذين قالوا بالتحويل اختلفوا فمنهم من قال: إنه يرد ما ¬

_ = الأدب المفرد (388) عن ابن عمر قال: كان أكثر جلوس عبد الله بن عمر وهو مستقبل القبلة. (¬1) في ن ب (لا يتعلق بأحد به). (¬2) المفهم (3/ 1502). (¬3) انظر: الموطأ (1/ 152)، والمدونة (1/ 166). (¬4) المفهم (3/ 1502).

على يمينه على شماله (¬1). ولا ينكسه. وحكاه القرطبي (¬2) عن الجمهور. وقال الشافعي في الجديد: ينكسه فيجعل ما يلي رأسه أسفل (¬3). وسبب هذا الاختلاف اختلافهم في مفهوم رواية الإِمام أحمد من "حوّل" و"قلب" هل هما بمعنى. أو بينهما فرقان. ولا خلاف في تحويل الإِمام وهو قائم. [والذين قالوا بتحويل الناس قالوا: يفعلونه وهم جلوس. ¬

_ (¬1) وهذا ما عليه جمهور الفقهاء من تحويل ما على اليمين منه على اليسار مستدلين بما جاء في حديث عبد الله بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه خرج إلى المصلَّى يستسقي فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين" زاد المسعودي: "قلت لأبي بكر أجعل الشمال على اليمين أم جعل أعلاه أسفله؟ قال: بل جعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال". أخرجه مالك (1/ 190)، والبخاري (1005)، ومسلم (894)، وابن ماجه (1267)، وأحمد (4/ 39، 41). وهذا يذهب إليه الإِمام أحمد وأبو ثور وابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي وابن راهوية والشافعي في القديم. (¬2) المفهم (3/ 1503). (¬3) انظر: الأم (1/ 251) للاطلاع على القولين ودليله في جعل أسفل الرداء أعلاه ما روى عن عبد الله بن زيد قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه". أخرجه أحمد في المسند (4/ 40، 41)، وأبو داود (1164)، وصححه ابن خزيمة (1415). وعند ابن المنذر في الأوسط (4/ 422).

وكذلك نص الشافعي في مختصر البويطي على أن الإِمام يدعو وهو قائم، وأن الناس لا يقومون بل يكونون جلوسًا] (¬1). والذين قالوا بعدم التحويل: استدل لهم بأن التحويل إنما فعله - عليه الصلاة والسلام - ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء، أو عرف بطريق الوحي تغير الحال عند تغير ردائه وهو بعيد. فإن الأصل عدم نزول الوحي بتغيير الحال عند تحويل الرداء، وفعله - عليه الصلاة والسلام - التحويل لمعنى مناسب أولى من حمله على مجرد ثبوت الرداء على عاتقه أو غيره، واتباع الرسول في فعله أولى [(¬2)] من تركه لمجرد احتمال الخصوص مع ما عرف في الشرع من محبته التفاؤل (¬3). وقد روى الدارقطني (¬4) من حديث حفص بن غياث عن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (من حمله). (¬3) لحديت أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة". البخاري (5756)، ومسلم (2224)؛ ومن رواية أبي هريرة عند البخاري (5755)، ومسلم (2223)، ومن رواية عقبة بن عامر عند أبي داود (3719)، والبيهقي (8/ 139)، ومن رواية بريدة عند أحمد (5/ 347، 348)، وأبو داود (3920)، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 215). (¬4) الدارقطني (2/ 66)، والبيهقي في السنن (3/ 351)، والحاكم (1/ 326). قال الذهبي: غريب عجيب صحيح.

جعفر بن محمد، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى وحوّل رداءه ليتحول القحط". فرع: اختلف العلماء في وقت التحويل، فقيل: بين الخطبتين. وقيل: في أثناء الثانية. وقيل: بعد انقضائها. وكل ذلك واقع في مذهب مالك. وفي بعض الأحاديث أنه كان يحوّل إزاره إذا استقبل القبلة (¬1). وروي عن مالك أنه يحول قبل الاستقبال. وروى عنه بعده. فائدة: ذكر أهل الآثار أن رداءه - عليه الصلاة والسلام -، كان طوله أربعة أذرع وشبر. في عرض ذراعين وشبر. وكان يلبسه في العيدين والجمعة ثم يطويان (¬2). السادس: فيه تقديم الدعاء على الصلاة عملًا. بقوله: "ثم صلَّى ركعتين". وإن كانت "ثم" استعملت لغير الترتيب في عطف الجمل بعضها على بعض. وإن كان ما بعدها متقدمًا على المذكور في قوله -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ...} (¬3) الآية إلى قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ...} الآية. وقد قال بتقديم ¬

_ (¬1) وانظر التعليق (4) ص (318)، ولفظه: "فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة". (¬2) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - (98، 99). قال ابن حجر في الفتح (2/ 498): ذكر الواقدي: أن طول ردائه - صلى الله عليه وسلم - كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبرين، ووقع في شرح الأحكام لابن بزيزة ذرع الرداء كالذي ذكره الواقدي في ذرع الإِزار، والأول أولى. (¬3) سورة الأنعام: آيتان 153، 154.

الخطبة فيها على الصلاة الليث ومالك (¬1). لكن مالكًا (¬2) رجع عنه. وقال: بتقديم الصلاة على الخطبة. وهو مذهب الشافعي (¬3) وجمهور العلماء. والأحاديث بعضها يقتضي بتقديم الصلاة على الخطبة. وبعضها يقتضي عكسه. واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم -. وصرح المتولي وغيره من أصحابنا بجواز ذلك. ونقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب بل أشار ابن المنذر (¬4) إلى استحباب ذلك. وصح فيه حديث عائشة في سنن أبي داود (¬5). فرع: انفرد الإِمام أحمد فقال: لا خطبة في الاستسقاء بل يكثر الاستغفار ويدعو. وقد أخرج هو في مسنده من حديث أبي هريرة أنه - عليه الصلاة والسلام - خطب لها (¬6). قال البيهقي: ورواته كلهم ثقات. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (7/ 133). (¬2) انظر: المدونة (1/ 166)، والموطأ (1/ 152). (¬3) الأم (1/ 250)، وإليه ذهب محمد بن الحسن. انظر: كتاب الأصل (1/ 449). (¬4) الأوسط (4/ 399). (¬5) سنن أبي داود معالم السنن (2/ 38)، وقال أبو داود: هذا حديث غريب إسناده جيد، والطحاوي (1/ 325)، والحاكم (1/ 328)، وقال: على شرطهما، ووافقه الذهبي، والبيهقي (3/ 349)، وابن حبان (2860). (¬6) أحمد (2/ 326)، وابن ماجه (1268)، والبيهقي (3/ 347)، وقال البيهقي في خلافياته: رواته كلهم ثقات. انظر: خلاصة البدر المنير لابن الملقن (1/ 250).

ووقع في "شرح الفاكهي" دعوى الإِجماع على أنه يخطب لها. [فرع: ويخطب خطبتين كالعيد كما قاله مالك (¬1)، والشافعي (¬2). وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن (¬3) بن مهدي: يخطب واحدة لا جلوس فيها. وخيره الطبري (¬4). وقال البندنيجي: من أصحابنا أيضًا يكفي واحدة] (¬5). السابع: فيه استقبال القبلة عند تحويل الرداء والدعاء في الاستسقاء (¬6). الثامن: فيه استقبالها عند الدعاء مطلقًا قياسًا عليها. التاسع: فيه الرد على من أنكر صلاة الاستسقاء. العاشر: فيه أنها ركعتان وهو كذلك بإجماع المثبتين لها. الحادي عشر: لم يذكر في صلاة الاستسقاء في هذا الحديث التكبيرات الزوائد كما في صلاة العيد. وقد قال به ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 166). (¬2) الأم (1/ 251). (¬3) المجموع (5/ 93)، والمعني (2/ 435)، والاستذكار (7/ 135). (¬4) انظر: الاستذكار (7/ 135). (¬5) في الأصل ساقطة، كما أثبت من ن ب د. (¬6) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه الفتح (2/ 515): باب: استقبال القبلة في الاستسقاء. وساق حدث الباب. وفيه: "وأنه لما دعا -أو أراد أن يدعو- استقبل القبلة وحول رداءه".

الشافعي (¬1). وابن جرير. وروي عن ابن المسيب (¬2). وعمر بن عبد العزيز. ومكحول. وقال الجمهور كما نقله عنهم النووي في "شرحه" (¬3): لا يكبر. واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد. وخيره داود بين التكبير وتركه (¬4). واحتج الشافعي ومن وافقه بحديث ابن عباس (¬5) أنه - عليه الصلاة والسلام - صلاها ركعتين، كما يصلي العيد. رواه أصحاب السنن الأربعة. وقال الترمذي: حسن صحيح. ¬

_ (¬1) كتاب الأم (1/ 250). (¬2) انظر: مصنف عبد الرزاق (3/ 85). (¬3) شرح مسلم (6/ 189). (¬4) انظر: الاستذكار (7/ 135). (¬5) أحمد (1/ 230، 269)، والترمذي (558، 559)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي (3/ 156، 163)، وأبو داود (1165، 1173)، وابن حبان (2862)، وابن خزيمة (1405، 1419)، والبيهقي (3/ 344)، والحاكم (1/ 326، 327)، وابن ماجه (1266)، والدارقطني (2/ 68)، ولفظه: "وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد" فأحكامها كأحكام العيد. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- ليس الاستذكار (7/ 137): وليس عندي فيه حجة من جهة الإِسناد ولا من جهة المعنى، لأنه يمكن أن يكون التشبيه فيه بصلاة العيدين من جهة الخطبة إلَّا أن ابن عباس رواه وعمل بالتكبير كصلاة العيد، بمعنى ما روي، وقد تابعه من ذكرنا معه. اهـ، وانظر أيضًا: التمهيد (17/ 173).

وأما ابن أبي حاتم (¬1): فرمى راويه عن ابن عباس بالإِرسال عنه. وأجاب الجمهور: عنه بأن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة، وكونها قبل الخطبة. فإن التشبيه بالشيء يصدق من بعض الوجوه. لكن أخرجه الدارقطني (¬2) وفيه عدد التكبير في الأولى. والثانية وقراءة سبح في الأولى والغاشية في الثانية. وأعله عبد الحق بمحمد بن عبد العزيز بن عمر بن عوف المذكور في إسناده. وقال: إنه ضعيف. قلت: ووالده مجهول، كما قال ابن القطان. لكن أخرج الحاكم (¬3) في "مستدركه" هذه الرواية. وقال بدل محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عوف. محمد بن عبد العزيز بن عبد الملك عن أبيه. ثم قال: هذا حديث صحيح الإِسناد، فالله أعلم. فرع: اختلف مذهب مالك هل يكبر الإِمام والناس إذا خرجوا إلى المصلى قياسًا على العيدين أم لا لعدم وروده هنا. ¬

_ (¬1) الجرح والتعديل (2/ 226). (¬2) الدارقطني (2/ 66)، والبيهقي (1/ 326)، والحاكم (1/ 326)، وقال الذهبي: صحيح. قلت: ضعف عبد العزيز، والمذكور في الإِسناد هو: محمد بن عبد العزيز. وفي تصحيحه نظر؛ لأن محمد بن عبد العزيز هذا، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال ابن القطان: أبوه عبد العزيز مجهول الحال فاعتل الحديث، بهما. اهـ، من التعليق المغني. (¬3) الحاكم (1/ 326).

قال الفاكهي: وهو المشهور، قال: وبالتكبير، قال: ابن المسيب. وعمر بن عبد العزيز. ومكحول. والشافعي. [والطبري] (¬1). قلت: هو غريب عن الشافعي، لا أعلمه في كتبه ولا كتب أصحابه، ولا من حكاه عنهم من المذهبين، ولعله التبس عليه بالتكبير في أول الصلاة فإنه يحكي عن هؤلاء كما قدمته عنهم فابحث عنه (¬2). الثاني عشر: فيه الجهر بالقراءة في هذه الصلاة، وهو إجماع، وقوله في الحديث: "جهر فيهما بالقراءة" هو من أفراد البخاري كما نبه عليه النووي في "شرحه لمسلم"، فكان ينبغي للمصنف أذن أن ينبه (¬3). الثالث عشر: فيه أن السنة في صلاة الاستسقاء أن تكون جماعة. وقال أبو حنيفة: لا تشرع له صلاة فضلًا عن الجماعة. ولكن يستسقى بالدعاء. وقال سائر العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ¬

_ (¬1) في ن ب (الطبراني)، وما أثبت يوافق ما في الاستذكار (7/ 135). (¬2) قلت: وهو الذي يظهر لي من ذلك حسب ما ساقه ابن عبد البر في الاستذكار، فإنه ذكر قول هؤلاء في التكبير في أول الصلاة (7/ 135). (¬3) انظر: فتح الباري (2/ 514)، وشرح مسلم (6/ 189). انظر: تصحيح العمدة للزركشي، تحقيق د. الزهراني في مجلة الجامعة الإِسلامية، عدد (75، 76) (ص 100).

ومن بعدهم حتى أصحاب أبي حنيفة كلهم: يصلى للاستسقاء ركعتين بجماعة. واستدل لأبي حنيفة باستسقاثه - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة من غير صلاة (¬1). قالوا: ولو كانت سنة لما تركها. وأجاب الجمهور: عن هذا [بأنه كان في خطبة الجمعة. ويتعقبه الصلاة لها فاكتفى بها بيانًا لجواز مثل هذا] (¬2). وقد أجمع أهل العلم على أن الاستسقاء سنة. لكنه مشروع على ثلاثة أنواع بينّاها مقدمة لهذا الباب. قال أصحابنا: ويتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر، ونحو ذلك من الطاعات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: أقوال العلماء في هذه المسألة فتح القدير (1/ 439)، وحاشية الدسوقي (1/ 405)، وبدائع الصنائع (1/ 283)، واللباب (1/ 336)، والشرح الصغير (1/ 539)، والمحلى (5/ 93)، والقوانين الفقهية (87)، وبداية المجتهد (1/ 208)، والمجموع (5/ 75)، ومغني المحتاج (1/ 334)، والشرح الكبير (1/ 406)، وكشاف القناع (2/ 81). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أقول: كل ما ذكر جاءت الأحاديث الصحيحة بالحث عليه. انظر: الأم (1/ 248)، مختصر المزني (33)، وشرحه (3/ 147).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 153/ 2/ 30 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رجلًا دخل المسجد [يوم الجمعة] (¬1) من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، ثم قال: يا رسول الله (¬2) هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا"، قال أنس: فلا والله، ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، قال: فلا والله، ما رأينا الشمس سبتًا، قال: ثم دخل ¬

_ (¬1) زيادة من ن د. (¬2) البخاري. وانظر: فتح الباري (2/ 413)، حيث ذكر أطراف الحديث في مواضعها، ومسلم (897)، والنسائي (3/ 154، 155، 161، 163)، وأبو داود (1175)، ومالك في الموطأ (1/ 191)، والشافعي (490)، وابن حبان (2857، 2858، 2859)، والبغوي (1166)، والطحاوي في معاني الآثار (1/ 322)، وابن خزيمة (1423)، وأبو يعلى (3334)، وأحمد (3/ 104، 194، 245، 261، 271).

رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائمًا، [فقال] (¬1): يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس (¬2). قال شريك: فسألت أنس بن مالك، أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. قال المصنف: "الضراب" الجبال الصغار. ["والآكام" جمع أكمة، وهي أعلى من الرابية، ودون الهضبة. "ودار القضاء" دار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. سميت بذلك: لأنها بيعت في قضاء دينه] (¬3). هذا حديث عظيم مشتمل على أعلام نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وعلى أحكام مهمة، فيحصر الكلام عليه في ثلاثة أطراف: الأول: في فن الأسماء: أما راويه: فتقدم التعريف به في باب الاستطابة. وأما شريك: فهو ابن عبد الله بن أبي نمر المدني أبو عبد الله ¬

_ (¬1) في ن ب (ثم قال). (¬2) البخاري (933). (¬3) زيادة من متن العمدة.

القرشي، روى عن أنس، وابن المسيب وغيرهما، وعنه مالك وغيره. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. وقال ابن معين: إذا روى عنه ثقة فلا بأس بروايته. (¬1) قال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وقال ابن حبان (¬2) في "ثقاته": في التابعين منهم ربما أخطأ. قال: وجده شهد بدرًا. مات بعد سنة أربعين ومائة. وأما الرجل الداخل: فرأيت من ادعى أنه العباس بن عبد المطلب ويبعد أن في بعض طرق البخاري "فقام أعرابي" وفي بعض طرقه "رجل من أهل البدو" (¬3)، ويبعد تعدد القصة على أن في بعض طرق البخاري (¬4) "فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله قحط المطر" الحديث، وهو ظاهر في التعدد. وقد يمكن الجمع بأن الرجل هو الذي ابتدأ بالسؤال أولًا، ثم تابعوه، فالله أعلم. وقول شريك: "سألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري" ثبت في صحيح البخاري (¬5) وغيره في بعض طرق هذا الحديث "أنه الرجل الأول"، من رواية شريك أيضًا، ومن رواية ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) الثقات (4/ 360). (¬3) البخاري (1029). (¬4) البخاري (1031). (¬5) البخاري (1029).

يحيى بن سعيد عن أنس، فلعل أنسًا تذكره بعد أو نسي بعد ذكره، كما نبه عليه ابن التين شارح "البخاري". وروى في صحيحه أيضًا من حديث قتادة عن أنس "فقام ذلك الرجل أو غيره" وروى من حديث ثابت عن أنس "فقام ذلك الرجل أو غيره" وروى من حديث ثابت عن أنس "فقام الناس فصاحوا وقالوا: يا رسول الله! قحط المطر، واحمرت الشجر، وهلكت البهائهم، فادع الله أن يسقنا. فقال: اللهم اسقنا مرتين" الحديث، وفي آخره "فلما قام - عليه الصلاة والسلام - يخطب صاحوا إليه: تهدمت البيوت" الحديث. قال ابن التين: في "شرح البخاري" قوله: "فقام الناس" إن كان هذا محفوظًا فقد تكلم الرجل ثم صاحوا. ويحتمل أنه يعني بالناس الرجل، لأنه يتكلم عنهم وهم حضور، أو لعلهم صاحوا وتكلم عنهم (¬1). الطرف الثاني: في ألفاظه ومعانيه، وفيه مواضع: الأول: "دار القضاء" هي دار بيعت في دين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كتبه على نفسه لبيت مال المسلمين، وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله، فإن عجز ماله استعان ببني عدي ثم بقريش. فباع ابنه داره هذه لمعاوية، وباع ماله بالغابة وقضى دينه، وكان دينه ستًّا وثمانين ألفًا فيما رواه البخاري في صحيحه، وغيره من أهل الحديث والسير والتواريخ وغيرهم. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (2/ 413)، حيث ذكر الأطراف.

وقال القاضي عياض (¬1): كان ثمانية وعشرين ألفًا، وهو غلط غريب، كما قاله النووي (¬2) قلت: وأَغْرَبُ منه قول القرطبي (¬3): كان عشرين ألفًا [فكان] (¬4) يقال لها دار قضاء دين عمر. ثم اختصروا، فقالوا: دار القضاء، وهي دار مروان. وقال بعضهم: هي دار الإِمارة. وغلط لأنه بلغه أنها دار مروان، فظن أن المراد بالقضاء الإِمارة، والصواب ما ذكرنا (¬5). ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (3/ 46). (¬2) شرح مسلم (6/ 189). (¬3) المفهم (3/ 1506). (¬4) في ن ب (وكان). (¬5) قال ابن حجر في الفتح (2/ 502): ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر: "من باب كان نحو دار القضاء" وفسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإِمارة، وليس كذلك وإنما هي دار عمر بن الخطاب، وسميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها: دار قضاء دين عمر، ثم طال ذلك الأمر فقيل لها: دار القضاء. ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر، وذكر عمر بن شبة في "أخبار المدينة" عن أبي غسان المدني: سمعت ابن أبي فديك عن عمه: كانت دار القضاء لعمر بن الخطاب، فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه، فباعوها من معاوية، وكانت تسمى دار القضاء، قال ابن أبي فديك: سمعت عمي، يقول: إن كانت لتسمى دار قضاء الدين. قال: وأخبرني عمي أن الخوخة الشارعة في دار القضاء غربي المسجد هي خوخة أبي بكر الصديق، التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبقى في المسجد خوخة إلَّا خوخة أبي بكر" وقد =

الثاني: في كلام هذا الداخل للنبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة على جواز كلام الداخل مع الخطيب في حال خطبته، ويحتمل أن يكون إنما كلمه في حال سكتة كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إما لاستراحة في النطق، وإما في حال الجلوس. الثالث: "الأموال" جمع مال، وألفه منقلبة عن واو بدليل ظهورها في الجمع، وليس [له] (¬1) جمع كثرة، وجُمع وإن كان جنسًا لاختلاف أنواعه. وهو كل ما يتملك وينتفع به. والمراد هنا: مال مخصوص، وهو الأموال الحيوانية والنباتية [لأنها] (¬2) التي يؤثر فيها انقطاع الغيث من المطر وغيره، بخلاف الأموال الصامتة. ¬

_ = صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة من قال إنها دار الإِمارة، فلا يكون غلطًا، كما قال صاحب المطالع وغيره. وجاء في تسميتها دار القضاء قول آخر، رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة" عن أبي غسان المدني أيضًا عن عبد العزيز بن عمران عن راشد بن حفص عن أم الحكم بنت عبد الله عن عمتها سهلة بنت عاصم قالت: كانت دار القضاء، لعبد الرحمن بن عوف، وإنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن بن عوف اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فيها فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية بن أبي سفيان. اهـ. محل المقصود منه، انظر: تاريخ ابن شبة (1/ 224). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د.

والسبل: جمع سبيل وهو هنا الطريق، يذكّر ويؤنّث، فمن التذكير قوله -تعالى-: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} (¬1)، ومن التأنيث قوله -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (¬2)، وانقطاعها إما بعدم المياه التي يعتاد المسافرون ورودها، وإما باشتغال الناس بشدة القحط عن الضرب في الأرض. وقوله: "وانقطعت"، روي بدله: "وتقطعت"، قال ابن التين شارح "البخاري": والأول أشبه. الرابع: قوله: "فادع الله يغيثنا"، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "اللهم أغثنا"، كذا هو في الصحيح يغيثنا بضم الياء، وأغثنا بالألف من أغاث يغيث رباعي. والمشهور في اللغة: أنه يقال [في المطر] (¬3) غاث الله الناس والأرض يغيثهم بفتح الياء ثلاثي أي أنزل المطر والذي في هذا الحديث وغيره من روايته "أغثنا" بالألف و"يغيثنا" بضم الياء من "أغاث" "يغيث" رباعي كما قدمته، لكن الهمزة فيه للتعدية، ومعناه: هب لنا غيثًا. وقال بعضهم: المذكور في الحديث من الإِغاثة بمعنى: المغوثة، وليس من طلب الغيث إنما يقال في طلب الغيث: "اللهم غثنا وارزقنا غيثًا". ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 146. (¬2) سورة يوسف: آية 108. (¬3) زيادة من ن ب.

قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث أي هب لنا غيثًا أو ارزقنا" غيثًا [كما] (¬1) يقال: سقاه الله وأسقاه أي جعل له سقيًا على لغة من فرق بينهما (¬2). والصواب: أن الهمزة فيه للتعدية كما ذكرنا. فائدة: يجوز في "يغيثنا" الرفع والجزم والرفع على الاستئناف. الخامس: قوله: "فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة". المراد بالسماء: هنا الفضاء المرتفع بين السماء والأرض. والسحاب: معروف وهو جنس واحده سحابة وهي الغيم. ويجمع: أيضًا على سُحُبٍ وسحائب. والقزعة (¬3): بفتح القاف والزاي وهي القطعة من السحاب وجماعتها قزع كقصبة وقُصب. قال أبو عبيد (¬4): وأكثر ما يكون في الخريف، ومنه أُخذ القزع في الرأس وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه. السادس: قوله: "وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار" هو تأكيد لقوله: "ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة" لأنه أخبر أن ¬

_ (¬1) زيادة من ب. وإكمال إكمال المعلم (3/ 46). (¬2) ذكره في شرح مسلم (6/ 191). (¬3) قال ابن سيده: القزع: قطع من السحاب رقاق. (¬4) غريب الحديث (1/ 184).

السحابة طلعت من وراء سلع، فلو كان [بينهم] (¬1) وبينه دار لأمكن أن تكون السحابة والقزعة موجودة، حال بينهم وبينها ما بينهم وبين سلع من دار لو كانت. وقال القاضي (¬2): يحتمل والله أعلم، أن ذلك لِحمل الناس عن تلك الجهة لشدة الجدب وحزونة الموضع وطلب الكلأ والخصْب. وقوله: "بيت كذا" هو في الصحيحين ووقع في مسند السراج، بدله: "نقب". وسلع: -بفتح السين المهملة وسكون اللام- وهو جبل بقرب المدينة من غربها، وقال البخاري: هو الجبل الذي بالسوق. قال ابن قرقول: وقع عند ابن سهل: -بفتح اللام وسكونها- وذكر أن بعضهم رواه بغين معجمة وكله خطأ. وقال صاحب "المحكم": سلع موضع. وقيل: جبل (¬3). وزعم الهروي: أن سلعًا معرفة لا يجوز إدخال الألف واللام عليه، وليس كما ذكر، ففي "دلائل النبوة للبيهقي" وكتاب أبي نعيم الأصبهاني "فطلعت سحابة من وراء السلع" (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل (بينة)، والتصحيح من ن ب. (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 46). (¬3) انظر: معجم البلدان (3/ 236). (¬4) بعد الاطلاع على الكتابين لم أجد ما ذكره المؤلف.

قلت: والمقصود بقوله: "وما بيننا وبين سلع" إلى آخره الإِخبار عن معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظيم كرامته على الله -تعالى- بإنزال المطر سبعة أيام متوالية من غير تقدم سحاب ولا قزع ولا سبب آخر، لا ظاهر ولا باطن، سوى سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي نحن مشاهدون له - صلى الله عليه وسلم - ولسَلْع والسماء، وليس هناك سبب للمطر أصلًا. السابع: قوله: "مثل الترس"، قال القاضي عياض: قال ثابت: ولم يرد -والله أعلم- في قدره، ولكن في استدارته، وهو أحمد السحاب عند العرب، وقوله: "ثم أمطرت" يقال: مطرت وأمطرت في المطر. وهذا الحديث دليل لجواز أُمطر بالألف وهو المختار عند المحققين والأكثرين من أهل اللغة. وقال بعضهم: لا يقال أمطرت بالألف إلَّا في العذاب. لقوله -تعالى-: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} (¬1)، والمشهور الأول ولفطه أمطرت يطلق [على] (¬2) الخير والشر ويعرف بالقرينة قال تعالى-: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} وهذا من أمطر، والمراد به المطر في الخير لأنهم ظنوه خيرًا فقال -تعالى- (¬3): {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحجر: آية 74. (¬2) في ن ب د (في). (¬3) انظر: شرح مسلم (6/ 192). (¬4) سورة الأحقاف: آية 24.

الثامن: قوله: "ما رأينا الشمس سبتًا" هو بسين ثم باء موحدة ثم مثناة فوق، أي جمعة، وقد بيَّن في رواية أخرى المراد به سبعة أيام: أولها بعض يوم الجمعة ويوم السبت، وآخرها يوم الخميس وبعض يوم الجمعة. وهو في اللغة القطع، وبه سمي يوم السبت. وقال ثابت: في تفسير قوله: "سبتًا" أي قطعة من الزمان يقال: سبت من الدهر أي قطعة منه، وسبّته قطّعته، وقد رواه الداوودي (¬1) "ستًّا" وفسره ستة أيام من الدهر. وهو تصحيف، كما قال القرطبي (¬2). والصحيح من حيث الرواية الأول، وإن كان الثاني يصح من حيث المعنى، فإنهم ما رأوها سبعة أيام كوامل، بل ستًّا كوامل، وبعض يوميّ جمعة، وذلك لا يطلق عليه يوم كامل. فائدة: "السبت" من الألفاظ المشتركة (¬3). فالسبت: الدهر، والراحة، وحلق الرأس، وإرسال الشعر عن العقص، وضرب من سير الإِبل. قال أبو عمرو: وهو العنق. ¬

_ (¬1) أي أحد رواة البخاري وقد جاء في سنن الدارقطني "ستًا". (¬2) في المفهم (3/ 1508)، وقد تعقبه ابن حجر في الفتح (2/ 504). (¬3) في اتفاق المباني (198، 199)، هذه المعاني المذكورة وزيادة: وهذا غلام سبت: إذا كان جريئًا عازمًا، وقال أبو عمرو: هذا يومٌ سبتٌ: طويل، وسبت القدر مسبتًا إذا نشر مدادها ومنه: عرق الهجير بها سُبَاتُ المرجل.

والسبت: القطع. وسبت: [علا وبه سبتًا إذا ضرب عنقه] (¬1). وقيل: ومنه يوم السبت لانقطاع الأيام عنده، قال -تعالى-: {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} (¬2)، [والسبت: قيام اليهود بأمر سبتها. وقيل: لأن الله -تعالى- أمر بني إسرائيل بقطع الأعمال] (¬3). والجمع: أسبت وسبوت. فائدة ثانية: نحوية كل ظرف وقع خبرًا عن أسماء أيام الأسبوع فإنه يكون مرفوعًا إلَّا الجمعة والسبت تقول: الأحد اليومُ والاثنان اليومُ برفع اليوم. وتقول: الجمعة اليومَ والسبت اليومَ بالنصب فيهما. قالوا: وعلة ذلك أن الجمعة والسبت مصدران فيهما معنى الاجتماع والقطع، فإما يقال الاجتماع اليوم والقطع اليوم بالنصب لأن الثاني غير الأول، فكذلك الجمعة والسبت، وليست كذلك في باقي الأيام لأنها ليست بمصادر نابت مناب الأول والثاني والثالث والرابع والخامس. التاسع: قوله في الخطبة الثانية: "هلكت الأموال وانقطعت السبل" أي بكثرة المطر فإن إمساك المطر وكثرته مضر [به] (¬4). ¬

_ (¬1) اتفاق المباني (199)، وقد سبت فلان عِلاوة فلان: إذا ضرب عنقُه. (¬2) سورة الأعراف: آية 163. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب.

وقوله: "فادع الله يمسكها عنا" في "يمسكها" ما في "يغيثنا" من الرفع والجزم على ما قدمناه. العاشر: قوله: "اللهم حوالينا [ولا علينا] (¬1) " (¬2) هو ظرف متعلق محذوف تقديره "اللهم أنزل حوالينا ولا تنزل علينا"، ويقال: "حَولنا" و"حَوَالينَا"، وهما روايتان صحيحتان. فإن قلت: إذا أمطرت حوالي المدينة فالطرق ممتنعة فلم يزل شكواهم. فالجواب: أنه أراد بحوالينا الآكام والظراب وشبههما. الحادي عشر [(¬3)]: قوله: "اللهم على الآكام" إلى آخره سأل - صلى الله عليه وسلم - ربه -سبحانه وتعالى- ذلك أدبًا معه حيث لم يسأل رفعه من أصله، بل سأل رفع ضرر المطر وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق، بحيث لا يتضرر به ساكِنٌ ولا ابن سبيل، وسأل بقاءه في مواضع الحاجة بحيث يبقى نفعه وخصبه، وهو بطون الأودية وغيرها من المواضع المذكورة (¬4). الثاني عشر: "الآكام" -بكسر الهمزة- ويقال -بفتحها- مع المد فيها جمع أكمة، ويقال: جمع أكم بفتح الهمزة والكاف وكم بضمها. ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) في ن ب د زيادة (واو). (¬3) في ن ب زيادة (أنه أراد بحوالينا). (¬4) انظر: شرح مسلم (6/ 193).

[فيقتضي أن يكون جمع الآكام مثل كتاب وكتب. وقد يكون ذلك جمع آكم بفتحهما] (¬1). مثل جبال وجبل، وهو التل المرتفع من الأرض دون الجبل وأعلى من الرابية، وقيل دون الرابية (¬2). الثالث عشر: "الظراب" -بكسر الظاء المعجمة- جمع: ظرب -بفتحها وكسر الراء- وهي الروابي الصغار كما فسرها القرطبي والنووي (¬3). وقال المصنف: هي الجبال الصغار، وتبعه الشيخ تقي الدين (¬4). قال الأزهري (¬5): وإنما خصها بالطلب لأنه أرفق للراعية من شواهق الجبال. الرابع عشر: "بطون الأودية" ما استفل منها. ومنابت الشجر أصولها. الخامس عشر: "الأودية" جمع وادٍ، وليس في كلام العرب جمع فاعل على أفعلة إلَّا في هذه الكلمة خاصة فهي من النوادر. السادس عشر: قوله: "فأقلعت" هكذا هو في أكثر نسخ ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) انظر: شرح مسلم (6/ 193). (¬3) المفهم (3/ 1507). انظر: شرح مسلم (6/ 193). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 214). (¬5) الزاهر (85)، وفيه "أَوْفَقُ" بدل "أرْفق".

صحيح [مسلم] (¬1) وفي بعض [النسخ] (¬2) المعتمدة ["فانقلعت"] (¬3) وهما بمعنى واحد. السابع عشر: قوله: "لا أدرِ"، قال الفاكهي: وهو بحذف الياء تخفيفًا لكثرة الاستعمال كما قالوا: لم يك. فحذفوا النون أيضًا لكثرة الاستعمال على ما هو مقرر في كتب العربية. الطرف الثالث في فوائده: وأحكامه وهي سبعة عشر: الأولى: استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء والاستصحاء وعظيم قدره وحرمته عند ربه -سبحانه وتعالى- حتى أمطرت في الاستسقاء عقب دعائه أومعه وحتى أمسكت في الاستصحاء حتى خرجوا يمشون في الشمس. الثانية: أدبه - صلى الله عليه وسلم - مع ربه -تعالى- حيث لم يسأل رفعه بل سأل دوامه حيث ينتفع به كما سلف. الثالثة: استحباب سؤال الإِمام الاستسقاء والاستصحاء. الرابعة: استحباب ذلك في خطبة الجمعة وهو أحد الأنواع فيه كما تقدم ذكره. الخامسة: جواز الاستسقاء منفردًا عن الصلاة المخصوصة له واغترت به الحنفية وقالوا: هذا هو الاستسقاء المشروع لا غير. وجعلوا الاستسقاء بالبروز إلى الصحراء والصلاة بدعة، وهو ¬

_ (¬1) في ن ب (النسخ). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) هذه هي رواية مسلم وذكر النووي في شرحه (6/ 193) فانقطعت.

عجيب، بل هو سنة ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، كما سلف في الحديث الأول وغيره من الأحاديث الصحيحة. وقد ذكرنا أنه ثلاثة أنواع، وفيما قالوه إبطال نوع ثابت. السادسة: استحباب تكرير الدعاء ثلاثًا، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دعا بدعوة دعا ثلائًا وورد "أن الله يحب الملحين في الدعاء" (¬1) كما أورده الماوردي (¬2) حديثًا. السابعة: استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل والمرافق إذا كثر وتضرروا به وهو الاستصحاء، ولكن لا يشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء، كما قاله النووي في "شرح مسلم" (¬3). الثامنة: إجابة الإِمام الرعية إذا سألوه في مصالحهم الدنيوية والأخروية خصوصًا إذا كانت مصلحة عامة. التاسعة: الرجوع إلى الله -تعالى- بالسؤال والتضرع في جميع حالات العبد وما ينزل به. العاشر: الاستعانة في ذلك بالصالحين وأهل الخير في المجامع والمساجد والأماكن الشريفة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه العقيلي في الضعفاء (4/ 452). انظر: الإِرواء (3/ 143). (¬2) الحاوي الكبير (3/ 151). (¬3) انظر (6/ 194). (¬4) إذا كانوا حاضرين فلا يمنع الاستغاثة بهم كما في فعل عمر مع العباس -رضي الله عنهما-، وهي في صحيح البخاري (1010)، وهذا التوسل بدعائهم، أما إذا كانوا غير حاضرين أو موتى فهذا لا يجوز. وهذا هو التوسل البدعي، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك.

الحادية عشرة: الدعاء قائمًا للإِمام ومن في معناه. الثانية عشرة: رفع اليدين فيه، فمن الناس من عَدّاه إلى كل دعاء، وقالوا السنَّة رفع اليدين في الدعاء مطلقًا، ومنهم من لم يعده مستدلًا بحديث أنس الثابت في الصحيحين (¬1) وغيرهما أنه - عليه الصلاة والسلام -: "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلَّا في الاستسقاء، حتى يُرى بياض إبطيه" ولا شك أن هذا مؤول على عدم الرفع البليغ بحيث يُرى بياض إبطيه إلَّا في الاستسقاء أو أن المراد: لم أره رفع. فيقدم المثبتون في مواضع كثيرة وهم جماعات على واحد لم يحضر ذلك، وقد ورد في حديث آخر أنه استثنى ثلاثة مواضع، الاستسقاء: والاستنصار (¬2)، وعشية عرفة (¬3)، وفي رواية وعند رؤية البيت (¬4)، وقد روى رفع اليدين في الدعاء جماعات من الصحابة، وقد روى أنس حديثًا يعارض حديثه هذا، وهو حديث القراء الذين بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان فيهم خاله حرام، وفيه فقال أنس: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ما صلى الغداة رفع يديه يدعو ¬

_ (¬1) البخاري (1031، 3565، 6341)، ومسلم (895)، والنسائي (3/ 158)، وأبو داود (1170)، والطبراني في الدعاء (959، 2175). (¬2) مسلم في صحيحه، باب: الإِمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، والترمذي في تحفة الأحوذي (8/ 468)، وأخرجه أحمد وأبو داود، والبخاري مختصرًا. (¬3) مجمع الزوائد (10/ 168، 166)، ومسند الإِمام أحمد (1/ 226) (5/ 209). (¬4) ابن أبي شيبة: (4/ 97).

عليهم (¬1)، وقد صنف الحافظ المنذري في ذلك جزءًا (¬2)، وجمع النووي في "شرح المهذب" نحوًا من ثلاثين حديثًا من الصحيحين أو أحدهما في رفع اليدين في الدعاء مطلقًا في باب صفة الصلاة منه (¬3). فرع: قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنَّة في كل دعاء لرفع بلاءً كالقحط ونحوه: أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى الماء. وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء، وقد ثبت في صحيح مسلم (¬4): من حديث أنس أنه - عليه الصلاة والسلام - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. الثالثة عشرة: الدعاء في الخطبة وقطعها للأمر يحدث. الرابعة عشرة: الاعتبار بعظيم قدرة الله (¬5) وما يجريه على أيدي أنبيائه ورسله من المعجزات وعلى يدي أوليائه من الكرامات. الخامسة عشرة: الاقتداء بهم في جميع ذلك، كما فعل الصحابة وأتباعهم، وهلم جرا وفقنا الله لذلك. السادسة عشرة: فيه القيام في الخطبة وقد تقدم ما فيه في بابه. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري وتخريج الروايات فيه (7/ 378، 392). (¬2) انظر: فض الدعاء في أحاديث رفع الدين في الدعاء، للسيوطي. (¬3) انظر: المجموع شرح المهذب (3/ 507، 511)، وشرح مسلم (6/ 190). (¬4) مسلم (896)، ابن خزيمة (1412)، ابن المنذر في الأوسط (4/ 321). (¬5) في ن ب زيادة (تعالى).

السابعة عشرة: احتج بعض السلف بهذا الحديث على أن الخروج إلى الاستسقاء يكون بعد الزوال. إذ كان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال يوم الجمعة (¬1). قال القاضي عياض: والناس كلهم على خلافه وأنها بكرة كصلاة العيدين (¬2) وهذا غريب منه، ففي كتاب ابن شعبان منهم: لا بأس أن يستسقى بعد الصبح وبعد العصر والمغرب. ¬

_ (¬1) وهذا رأي أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. انظر: الاستذكار (7/ 139). (¬2) لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت. شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحط المطر، فأمر بالمنبر، فوضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس ... إلخ. ابن حبان (2860)، وسبق تخريجه في الحديث الأول من هذا الباب فراجعه.

31 - باب صلاة الخوف

31 - باب صلاة الخوف قد قدمنا في الحديث الثاني من صلاة الكسوف أن الخوف غم على ما سيكون؛ والحزن: غم على ما مضى. وليس المراد [في] (¬1) هذه الترجمة أن صلاة الخوف تقتضي صلاة مستقلة كقولنا: صلاة العيد، ولا أنه يؤثر في تغيير قدر الصلاة أو وقتها كقولنا صلاة السفر، وحديث ابن عباس في صحيح مسلم (¬2) "إن الله فرض الصلاة في الخوف ركعة". المراد للمأموم مع الإِمام جمعًا بين الأحاديث كما قدمته في باب قصر الصلاة في السفر [وإنما] (¬3) المراد أنه يؤثر في كيفية إقامة الفرائض واحتمال أمور فيها كانت لا تحتمل في غيرها، ثم هي في الأكثر لا تؤثر في كيفية إقامة الفرائض، بل في إقامتها بالجماعة ونفتتح هذا الباب بمقدمات: ¬

_ (¬1) في ن ب (ومن). (¬2) مسلم (687)، والنسائي (3/ 168، 169)، وأحمد (1/ 237، 243، 254)، وابن أبي شيبة (2/ 464)، وأبو داود (1247)، وابن خزيمة (1346)، والطبراني (10336، 10337، 11041)، والبيهقي (3/ 135)، والطحاوي (1/ 309)، وابن حبان (2868). (¬3) في ن ب د (دائمًا).

الأولى: أن صلاة الخوف باقية اليوم خلافًا لأبي يوسف، فإنه قال: إنها مختصة به - صلى الله عليه وسلم - وبمن يصلي معه وذهبت بوفاته. واستدل بقوله -تعالى-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (¬1) الآية. وهو قول مكحول والحسن اللؤلؤي. ومحمد بن الحسن. والأوزاعي أيضًا. والجواب: أن الصحابة لم يزالوا [على فعلها] (¬2) بعده. ومنهم علي وأبو هريرة. وأبو موسى. وليس المراد بالآية خصوصيته. وقد قال -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3) وقال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (¬4) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} (¬5). ونحوه كثير وثبت قوله - صلى الله عليه وسلم - "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬6). فالآية خطاب مواجهة، لأنه المبلغ عن الله، لا خطاب تخصيص بالحكم. وادعى المزني: نسخ صلاة الخوف، فإنها لم تفعل يوم الخندق. والجواب: أنها لم تشرع إذ ذاك، بل بعد. والجمهور: على أنها باقية، وأن للخوف تأثيرًا في تغيير ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 102. (¬2) في ب ن (فعلى فعلهما). (¬3) سورة التوبة: آية 103. (¬4) سورة يونس: آية 94. (¬5) سورة الأنفال: آية 64. (¬6) سبق تخريجه.

الصلاة المعهودة عن أصل مشروعيتها المعروفة. وانفرد مالك فقال لا يجوز فعلها في الحضر. قلت: وذكر القرطبي (¬1) في "شرح مختصر مسلم" عن بعضهم أنه - عليه الصلاة والسلام - صلاها ببطن نخل على باب المدينة. ومن العلماء من رأى أن الصلاة تؤخر إلى وقت الأمن، ولا تصلى في حالة الخوف، كما فعل - عليه الصلاة والسلام - يوم الخندق. والجواب: أن فعله - عليه الصلاة والسلام - كان قبل نزول صلاة الخوف بالإِجماع. الثانية: جاءت صلاة الخوف عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - على ستة عشر نوعًا وهي مفصلة في "صحيح مسلم" بعضها، وبعضها في سنن أبي داود. واختار الشافعي منها ثلاثة أنواع: بطن نخل، وذات الرقاع، وعسفان. وذكر الحاكم في "مستدركه" (¬2) منها ثمانية أنواع. وذى ابن حبان (¬3) في "صحيحه" منها تسعة. وصحح [ابن حزم] (¬4) في صفتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1422). (¬2) الحاكم في مستدركه (1/ 335، 338). وأيضًا ابن المنذر في الأوسط (5/ 29 - 36). (¬3) ابن حبان (7/ 119، 147). (¬4) في ن ب د (ابن حبان وابن خزيمة).

وجهًا (¬1). وذكر ابن القصار المالكي عشرة. وذكر القرطبي (¬2) في "شرح مختصر مسلم" عشرة أحاديث منها، وتكلم عليها. وقال الفاكهي: صحيح المحدثون منها سبع هيئات لشهرتها وثبوتها. وقال الإِمام أحمد: ما أعلم في هذا الباب إلَّا حديثًا صحيحًا، واختار حديث سهل بن أبي حثمة. وقال داود: جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف جائز، لا نرجح بعضه على بعض. وقال الخطابي (¬3): صلاة الخوف أنواع، صلاَّها النبي - صلَّى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، فهن على اختلاف [صورها] (¬4) متفقة المعنى. الثالثة: قال أهل الحديث والسير على ما نقله النووى في "شرح المهذب" (¬5): أول صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - للخوف صلاته ¬

_ (¬1) المحلى (5/ 33، 42)، وفي ن ب (ابن خزيمة). انظر تصحيحه له (2/ 293، 307). (¬2) المفهم (3/ 1416، 1421). (¬3) في معالم السنن (2/ 64) مع اختلاف يسير في السياق. (¬4) في ن ب د (أنواعها). (¬5) المجموع شرح المهذب (4/ 407).

بذات الرقاع [وقال في "شرح مسلم" (¬1): شرعت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع. وقيل: في غزوة بني النضير] (¬2). قال ابن حبان (¬3) في أوائل "ثقاته": وكانت ذات الرقاع في المحرم سنة خمس. وقال المنذري (¬4) في "مختصر السنن": كانت سنة أربع. قال: وذكر البخاري أنها بعد خيبر؛ لأن أبا موسى الأشعري جاء بعد خيبر. قال ابن حبان (¬5): وصلاها أيضًا بذي قرد سنة ست. وقال ابن العطار في "شرحه": صلاة الخوف كانت في عسفان سنة ست بعد رمضان، وبها نزلت آيتها التي في النساء. وكان سبب نزولها أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى بأصحابه الظهر، فندم المشركون على عدم اغتيالهم بالقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. فعزموا على ذلك في الصلاة الآتية، فنزل جبريل، وتلا عليه {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬6) الآية، فعلمه صلاة الخوف، ثم صلاها بعد على أوجه في أماكن. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (6/ 128). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) الثقات لابن حبان (1/ 257). (¬4) فتح الباري (7/ 416)، وانظر: تحديد تاريخ الغزوة (7/ 417، 464). (¬5) الثقات لابن حبان (1/ 287). (¬6) سورة النساء: آية 102.

وقال بعد ذلك في الحديث الثاني: أن ذات الرقاع شرعت صلاة الخوف فيها. وقيل: في غزوة بني النضير كما حكيناه عن النووي. وفيه مخالفة لما جزم به أولًا فتأمله. قال ابن بزيزة: واتفق أهل العلم بالآثار على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصل صلاة الخوف قبل نزول قوله -تعالى-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ ...} الآية. فلما نزلت صلاها. واختلفوا في أين نزلت: فقيل: بعسفان. وفي حديث ابن أبي حثمة وجابر وأبي هريرة أنه صلاها في غزاة ذات الرقاع سنة خمس. وفي حديث جابر أيضًا أنه صلاها في غزوة جهينة. وقيل: في غزوة بني محارب ببطن نخل على قرب المدينة. وقيل: في غزوة نجد وغطفان. قاله غير واحد من الرواة. إذا تقررت هذه المقدمات فلنرجع إلى الكلام على أحاديث الباب، فنقول: ذكر المصنف -رحمه الله- ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول

الحديث الأول 154/ 1/ 31 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعة ركعة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. الثاني: "الإِزاء" المقابل. والعدو: يقع على الواحد، والاثنين، والجماعة، والمؤنث، والمذكر بلفظ واحد قال -تعالى-: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} (¬2) وهو ضد ¬

_ (¬1) البخاري (942، 943، 4132، 4133، 4535)، ومسلم (839)، والترمذي (564)، والنسائي (3/ 171، 172، 173)، وابن خزيمة (1349، 1354)، والبيهقي (3/ 260، 263)، وابن حبان (2879)، والدارمي (1/ 357، 358)، والبغوي (1092)، ومالك (1/ 184)، وأحمد (2/ 132)، والدارقطني (2/ 59). (¬2) سورة الشعراء: آية 77.

الولي، ومثله ضعيف وصديق، ويقال: أيضًا أعداء، وعدوه، عِدى وعَدى. قال الجوهري (¬1): والعِدا بكسر العين الأعداء وهو جمع لا نظير له. قال ابن السكيت: ولم يأت فعول في النعوت إلا حرف واحد يقال هؤلاء قوم عدى أي غرباء. وقوم عدى أي أعداء. كذا ادعى وقد جاء (¬2) فعل منه في سبعة ألفاظ فكان سِوى قوم عدى ملامةٌ ثِنىً أي ثنيت مرتين ومنه قوله -تعالى-: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (¬3) في قول من جعلها الفاتحة، لأنها تثنى في كل ركعة وما روي ولحم زيم. ووادٍ طِوى فمن كسر الطاء جعله صفة. وقال ثعلب (¬4): يقال: قوم أعداء وعِدىً بكسر العين. فإن أدخلت الهاء قلت عُداة بالضم والعَادي العدوُ قالت امرأة من العرب: اشمتّ عَادِيك أي عدوك. الثالث: هذا الحديث أخذ به الأوزاعي وأشهب المالكي وهو جائز عند الشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (179). (¬2) قال في لسان العرب (9/ 94): قال ابن بري -بعد كلام سبق- قال: ولم يأت فعل صفة إلَّا قوم عِدًى، ومكانُ سوًى، وماءٌ رِويً وماءٌ صِرًى، ومِلامةٌ ثنىً، ووادٍ طوًى، وقد جاء الضم في سُوًى وثُنىً وطُوىً، قال: وجاء على فِعَل من غير المعتل لحم زِيَمٌ، وتبنىٌ طِيَبَة، وقال علي بن حمزة: قومٌ عِدىً أي غُرباء، بالكسر لا غير، فأما في الأعداء فيقال عِدىً وعُدىً وعُداة. اهـ. (¬3) سورة الحجر: آية 87. (¬4) انظر: شرح الفصيح لابن الجبان (300).

ثم قيل: إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معًا. وقيل: متفرقين وهو الصحيح. ورجح أبو حنيفة الأخذ بهذا الحديث أيضًا إلَّا أنه قال بعد سلام الإِمام: تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الإِمام فتقضي ثم تذهب، ثم تأتي الثانية إلى موضع الإِمام فتقضي ثم تذهب. وقد أنكرت عليه هذه الزيادة. وقيل: إنها لم ترد في حديث (¬1). واختار الشافعي: رواية صالح بن خوّات الآتية في الحديث الثاني. واختلف أصحابه: لو صلى على رواية ابن عمر هل تصح أم لا؟ والأصح نعم لصحة الرواية، وترجيح رواية صالح من باب الأولى. واختار مالك: ترجيح الصفة التي ذكرها سهل ابن أبي حثمة، التي رواها هو عنه في الموطأ موقوفة. وهي تخالف الرواية المذكورة في الكتاب [من] (¬2) سلام الإِمام: فإن فيها "أن الإِمام يسلم وتقضي الطائفة الثانية بعد سلامه" (¬3). ¬

_ (¬1) في حاشية ن د (قيل إنها منسوخة بحديث سهل). (¬2) في ن ب د (في). (¬3) لأن في رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإِمام فيركع بهم ويسجد، ثم يسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون. رواه مالك =

ولما رجح الفقهاء (¬1) بعض الروايات على بعض احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح: فتارة يرجحون موافقة ظاهر القرآن. وتارة بكثرة الرواة. وتارة يكون بعضها موصولًا وبعضها موقوفًا. وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة. وتارة بالمعاني، وهذه الرواية التي اختارها أبو حنيفة توافق الأصول في أن قضاء الطائفتين بعد سلام الإِمام (¬2). وأما ما اختاره الشافعي ففيه قضاؤهما معًا قبل سلامه (¬3). ¬

_ = (1/ 183)، وأبو داود (1239)، والبخاري في المغازي (4129، 4131)، والترمذي (565)، وابن ماجه (1259)، وابن خزيمة (1356). (¬1) انظر: حاشية إحكام الأحكام (3/ 218). (¬2) لحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا فقاموا مقام أولئك "وجاء أولئك" فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم بهم، فقام هؤلاء فقضوا ركعتهم، وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم. أخرجه الترمذي (564)، والبخاري (4535)، ومسلم (839). (¬3) لرواية يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع، صلاة الخوف، "أن طائفة صفت معه، وصفت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم =

وأما ما اختاره مالك: ففيه قضاء إحداهما فقط قبل سلامه. ¬

_ = الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم" وسبب ترجيحه أنه مسند بخلاف رواية القاسم فإنها موقوفة، الأم. ومن صحته أيضًا أنه أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله -عزّ وجل-. الأم (1/ 210). وأيضًا أن الله -عزّ وجل- ذكر استفتاح الإِمام ببعضهم لقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}. وذكر انصراف الطائفتين والإِمام من الصلاة معًا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} ذلك للجميع لا للبعض ولم يذكر أن على واحد منهم قضاء. أيضًا: وفيها دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل في الصلاة إلَّا بانصراف الأولى لقوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا}. أيضًا: في قوله تعالى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} دليل على أن الطائفة الثانية تنصرف ولم يبق عليها من الصلاة شيء تفعله بعد الإِمام.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 155/ 2/ 31 - عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات بن جبير عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفت [معه] (¬1)، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم" (¬2). ¬

_ (¬1) في متن العمدة (مع الإِمام). (¬2) البخاري (4129، 4131)، ومسلم (841، 842)، والترمذي (565)، ومالك (1/ 183، 184)، وابن خزيمة (1357، 1358، 1359)، والنسائي (3/ 170، 171)، وابن ماجه (1259)، وأبو داود (1238، 1239) في الصلاة، باب: من قال: إذا صلى ركعة وثبت قائمًا أتموا لأنفسهم ركعة، وأحمد (3/ 448)، والبيهقي (3/ 253، 254)، (وقد تحرف فيه إلى زيد ابن رومان فليتنبه له) وهذه من تنبيهات محقق ابن حبان، والدارمي (1/ 358)، والبغوي (1094)، وابن حبان (2885، 2886).

[الذي] (¬1) صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو "سهل بن أبي حثمة". الكلام عليه من وجوه: الأول: في فن الأسماء: أما يزيد بن رومان: فهو أبو روح الأسدي القرشي مولى آل الزبير المدني القاري تابعي. وثقه النسائي وغيره. وكان عالمًا كثير الحديث. روى عنه نافع القاري وآخرون. توفي سنة ثلاثين ومائة. وقيل: سنة تسع وعشرين ومائة. وهو من كبار شيوخ نافع في القراءة. ورومان -بضم الراء-. وحكى في اسم رومان فتح الراء مطلقًا وهو شاذ. وأما صالح بن خوات: فهو أنصاري مدني تابعي ثقة غزير الحديث. وأما والده: خَوّات فهو بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو ثم ألف ثم مثناة فوق. وهو صحابي. وكان أحد فرسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو أنصاري مدني شهد بدرًا. كنيته: أبو عبد الله. وقيل: أبو صالح من بني ثعلبة ابن عمرو بن عوف. مات سنة أربعين. وهو ابن أربع وسبعين. وله عقب بالمدينة. ¬

_ (¬1) في ن ب (الرجل)، وهو الذي يوافق متن العمدة وأحكام الإِحكام.

واعلم: أن "خوّات" يشتبه "بجواب" بالجيم [والباء] (¬1) وهم جماعة عدّدهم ابن ماكولا و"بُجوان" بضم الجيم وآخره نون وهم جماعة أيضًا. ذكرت كل ذلك في كتابي "مشتبه النسبة" (¬2). وأما سهل بن أبي حثمة: فهو أنصاري، خزرجي. مدني. كنيته: أبو عبد الرحمن. وحثمة: بحاء مهملة مفتوحة ثم ثاء مثلثة ثم ميم ثم هاء. واسم أبي حثمة: عبد الله. وقيل: عامر. له صحبة. وأمه: أم الربيع بنت أسلم بن خريس. روى عنه صالح بن خوّات بن جبير وغيره. قال أبو حاتم: بايع تحت الشجرة. وكان دليل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد ولم يشهد بدرًا. وأما الواقدي فقال: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره ثمان سنين. وقال: حفظ عنه وجزم به ابن حبان في "ثقاته". وقال ابن الأثير: إنه أصح. قال وتوفي في أول أيام معاوية. قال أبو عمرو: وما أظن ابن شهاب سمع منه. روي له خمسة وعشرون حديثًا. اتفقا على ثلاثة منها. الثاني: قوله: "الرجل الذي صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سهل بن أبي حثمة" كذا نص عليه عبد الحق أيضًا. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) انظر: مشتبه النسبة للذهبي (186، 187)، والإِعلام لابن ناصر الدين (215، 218)، وتبصير المنتبه لابن حجر (1/ 270).

[وأما ابن القطان فتوقف في ذلك لأن ذات الرقاع كانت بعد بني النضير] (¬1) في صدر السنة الرابعة من الهجرة. وسهل توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين قاله جماعات. وقول أبي حاتم: إنه بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد كلها إلَّا بدرًا. وكان دليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح إنما كان الدليل أبوه عامر بن ساعدة. وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارصًا. وأبو بكر وعمر بعده. وتوفي في خلافة معاوية. فسهل كان سنه في زمن ذات الرقاع سنتين أو نحوهما ثم أوضح ذلك بأدلته (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) قال ابن حجر: قال الزركشى في تصحيح العمده مجلة الجامعة (101)، تحقيق د. الزهراني: قوله: "الذي صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو سهل ابن أبي حثمة" هذا الذي قاله في تعيين المبهم ذكره عبد الحق، وابن عبد البر وغيرهما وهو عجيب وكيف يكون هذا؟! وقد كان إذ ذاك صغيرًا، أكثر ما يكون عمره أربع سنين، أو خمس. فإنه لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عمره ثمان سنين بالاتفاق، وقد رجح ابن العطار أن سهلًا لم يشهد هذه الواقعة، وهو الصواب، وقد قال الإِمام الرافعي في شرح الوجيز: إن هذا المبهم هو خوات بن جبير. وهو أقرب إلى الصواب، كما أوضحته في الذهب الإِبريز. قال ابن القطان: هذا لا يصح، لإِطباق الأئمة على أنه كان ابن ثمان سنين أو نحوها عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ابن منده وابن حبان، وابن السكن، والحاكم أبو أحمد اهـ، من الإِصابة (4/ 271). وقال ابن حجر في الفتح (7/ 422): بعد ما ذكر سبب اختلاف المبهم: قال: وينفع هذا فيما سنذكره قريبًا من استبعاد أن يكون سهل بن أبي حثمة كان في سن من يخرج في تلك الغزاة، فإنه لا يلزم من ذلك أن لا يرويها فتكون روايته إياها مرسل صحابى. اهـ.

الوجه الثالث: "ذات الرقاع" قدمنا أنها سنة خمس وهي بأرض غطفان من نجد. سميت بذلك: لأن أقدام المسلمين نقبت من الحِفاء، فلفوا عليها الخرق، كذا ثبت في الصحيح (¬1) عن أبي موسى الأشعري. وفيه أقوال أخر، ذكرتها في تخريجي لأحاديث الرافعي فراجعها منه. الرابع: "الطائفة" الفرقة والقطعة من الشيء، تقع [على] (¬2) القليل والكثير. ومنه قوله -تعالى-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} (¬3). قال ابن عباس: الواحد فما فوقه. وقيل: إن الطائفة تقع على أربعة. وقيل: على أربعين. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلًا. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثة فصاعدًا. وعن عكرمة: رجلان فصاعدًا. ¬

_ (¬1) فتح الباري (7/ 417)، وسميت بذلك لأنهم رفعوا فيها راياتهم، وقيل بشجر بذلك الموضع يقال له ذات الرقاع، وقيل بل الأرض التي كانوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض قاله ابن حبان، وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع، وهذا لعله مستند ابن حبان ويكون قد تصحف جبل بخيل. اهـ، من الفتح (7/ 419). انظر: شرح مسلم (6/ 128). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سورة النور: آية 2.

وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وهو أبعد الأقوال. قال الشافعي: وأكره أن تكون الطائفة في صلاة الخوف أقل من ثلاثة. فينبغي أن تكون الطائفة التي تكون مع الإِمام ثلاثة فأكثر. والذين في وجه العدو كذلك. واستدل بقوله -تعالى-: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا. . .} (¬1) الآية. فأعاد على كل طائفة ضمير الجمع، وأقله ثلاثة على المشهور. الخاص: قوله: "صفت معه" كذا هو في أكثر نسخ مسلم وفي بعضها "صلت معه" وهما صحيحان. السادس: "وجاه العدو" -بكسر الواو وضمها- يقال: وجاهه ووجاهه وتجاهه أي قبالته. ولو أبدلت الواو فيه همزة لم تبعد كما في وشاح ووسادة حيث قالوا أشاح وإسادة استثقالًا للكسرة تحت الواو. السابع: هذا الحديث مختار الشافعي، ومالك، وأبي ثور وغيرهم في صلاة الخوف، إذا كان العدو في غير جهة القبلة. ومقتضاه أن الإِمام ينتظر الطائفة الثانية قائمًا في الثانية، وهذا في الصلاة الثنائية، مقصورة كانت أو بأصل الشرع. فأما الرباعية فهل ينتظرها قائمًا في الثالثة، أو قبل قيامه؟ فيه اختلاف لأصحابنا وللمالكية أيضًا. وإذا قيل بأنه ينتظرها قبل قيامه، فهل تفارقه الطائفة الأولى قبل تشهده عند رفع رأسه من السجود، أو بعد التشهد؟ ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 102.

واختلف الفقهاء فيه: وليس في الحديث دلالة على أحد المذهبين. وإنما يؤخذ بطريق الاستنباط منه. وإذا قلنا: إنه ينتظرها قائمًا فلا يصح عندنا أنه يقرأ. وعند المالكية أربعة أقوال: - يقرأ. - يسبِّح. - يسكت. - التخيير. وقال بعض متأخريهم: إن كانت القراءة بالفاتحة خاصَّة سبح ولم يقرأ، لأنه لو قرأ لم تدرك الطائفة الأخرى قراءته وإلَّا قرأ. قال الشيخ تقي الدين (¬1): ومقتضى الحديث أيضًا أن الطائفة الأولى تتم لأنفسها، مع بقاء صلاة الإِمام. وفيه مخالفة للأصول في غير هذه الصلاة. لكن فيها [ترجيح] (¬2) من جهة المعنى، لأنها إذا قضت وتوجهت إلى نحو العدو، وتوجهت فارغة من الشغل بالصلاة، وتوفر مقصود صلاة الخوف وهو الحراسة. وعلى الصفة التي اختارها أبو حنيفة تتوجه الطائفة للحراسة مع كونها في الصلاة، فلا يتوفر المقصود من الحراسة. وربما أدى إلى أن يقع في الصلاة الضرب والطعن وغير ذلك من منافيات الصلاة، ولو وقع في هذه الصورة لكان خارج الصلاة، وليس بمحذور. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 222). (¬2) زيادة من ن ب د.

ومقتضى الحديث أيضًا أن الطائفة الثانية تتم لنفسها قبل فراغ الإِمام. وفيه ما في الأول. ومقتضاه أيضًا أنه يثبت حتى تتم لنفسها ويسلم بهم. وهذا اختيار الشافعي وقول في مذهب مالك، ثم ظاهر مذهب مالك أن الإِمام يسلم، وتقضي الثانية بعد سلامه، وربما ادعى بعضهم أن ظاهر القرآن يدل على أن الإِمام ينتظرهم ليسلم بهم، بناء على أنه فهم من قوله: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬1). أي بقية الصلاة التي بقيت للإِمام، فإذا سلم الإمام بهم فقد صلوا معه [البقية] (¬2)، وإذا سلم قبلهم فلم يصلوا معه البقية، لأن السلام من البقية، وليس بالقوي الظهور. وقد يتعلق بلفظ الراوي من يرى أن السلام ليس من الصلاة (¬3)، من حيث إنه قال: "فصلى بهم الركعة التي بقيت" فجعلهم مصلين معه، فيما يسمى ركعة. ثم أتى بلفظة. "ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم"، فجعل لفظ (¬4) "السلام" متراخيًا عن مسمى "الركعة" إلَّا أنه ظاهر ضعيف (¬5). وأقوى منه في الدلالة ما دل على أن السلام من الصلاة. والعمل بأقوى الدليلين متعين. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 102. (¬2) في ن ب (بقية). (¬3) أي الأحناف. (¬4) في إحكام الأحكام (مسمى). (¬5) قوله: "إلَّا أنه ظاهر ضعيف". قال الصنعاني في الحاشية (3/ 224): فإن كل واحدة من ركعات الصلاة تسمى ركعة، وليس في كل ركعة تسليم، فالتسليم من الصلاة لا من ركعة معينة فيها. اهـ.

فروع: متفرقة من مذهب مالك - رضي الله عنه - أحببت ذكرها هنا: اختلف في المسبوق في صلاة الخوف هل يبدأ بالبناء. وهو قول ابن القاسم. أو بالقضاء وهو قول سحنون؟ وإذا صلى ركعة ثم أحدث قبل قيامه إلى [الصلاة] (¬1) الثانية أو بعدها فلا، لأن من معه خرج عن متابعته ولو أحدث بعد ركعة من المغرب استخلف. وقال بعض متأخريهم: مقتضى النظر الاستخلاف فإن حكم الطائفتين واحد من حيث أنهما صلاة واحدة، فالإِمامة ثابتة له على الطائفتين حكمًا. واختلفوا إذا انهزم العدو. فهل يكملون على الهيئة الأصلية أو الخوفية؟ قولان. وقال بعض متأخريهم: إن تحقق عدم عودهم كملوا على حكم الأمن وإلَّا فعلى الخوف. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 150/ 3/ 31 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف فصففنا صفين [صف] (¬1) خلف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة. فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع فرفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى. وقام الصف المؤخر في نحو العدو. فلما قضى النبي - صلَّى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا" (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة، وهي في صحيح مسلم. (¬2) البخاري (4125)، ومسلم (840)، والنسائي (3/ 175، 176)، وأحمد (3/ 374)، وأبو عوانة (2/ 358، 359، 360، 361)، والبيهقي =

قال جابر: كما [يفعل] (¬1) حرسكم هؤلاء بأمرائهم. ذكره مسلم بتمامه. وذكر البخاري طرفًا منه، وأنه صلَّى صلاة الخوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة السابعة، غزوة ذات الرقاع. الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه قد سلف في آخر باب الجنابة. الأول: معنى "شهدت" حضرت واسم الفاعل منه شاهد. وقوم شهود أي حضور. وهو في الأصل مصدر [شهد] (¬2) أيضًا مثل راكع وركّع. وامرأة مشهد إذا حضر زوجها بلا هاء. وامرأة مغيبة إذا غاب زوجها عنها. وهذا بالهاء. وأشهدني إملاكه أي أحضرني [والمشهد] (¬3) محضر الناس. ومن [هذا] (¬4) قوله -تعالى-: {وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} (¬5) أي حضورًا عنده لا سالم لمفارقتهم. الوجه الثاني: هذه كيفية الصلاة إذا كان العدو في وجه القبلة. وبها قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف. ¬

_ = (3/ 257، 258)، والطبري في تفسيره (10377)، والطيالسي (1738)، والبغوي (1097)، وابن حبان (2876)، وابن أبي شيبة (2/ 463). (¬1) في ن ب د (يصنع). (¬2) في ن ب (شهدت). (¬3) في ن ب (والمشهود). (¬4) زيادة من ن ب. (¬5) سورة المدثر: آية 13.

ويجوز عند الشافعي: تقدم الصف الثاني وتأخر الأول كما في هذا الحديث. ويجوز بقاؤهما على حاله. وقد رواه مسلم في حديث (¬1) آخر. الثالث: "الحراسة" يتأتى للكل مع الإِمام في الصلاة ويتأتى فيها التأخير عن الإِمام لأجل العدو. وموضع الحراسة في السجود. وأما في الركوع: فالأصح المنع، لأنه لا يمنع من إدراك العدو بالبصر. فالحراسة ممكنة معه بخلاف السجود. وفي وجه للشافعية يحرس في الركوع أيضًا. الرابع: المراد بالسجود الذي سجده النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجد معه الصف الذي يليه هو السجدتان جميعًا. وقوله: "في نحر العدو" أي مقابلته، ونحر كل شيء أوله. الخامس: الحديث يدل على أن الصف الذي يلي الإِمام يسجد معه في الركعة الأولى، ويحرس الصف الثاني فيهما. ونص الشافعي على خلافه، وهو أن الصف الأول يحرس في الركعة الأولى. فقال بعض أصحابه: لعله سها أو لم يبلغه الحديث. وجماعة من العراقيين وافقوا الصحيح في مذهبه، ولم يذكر بعضهم سوى ما دل عليه الحديث، كأبي إسحاق الشيرازي [رضي الله عنه] (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (843). (¬2) في ن ب ساقطة.

وبعضهم قال بذلك: بناء على المشهور عن الشافعي أو الحديث إذا صح يؤخذ به، ويترك قوله. أما الخراسانيون: فإن بعضهم تبع نص الشافعي، كالغزالي في "وسيطه". ومنهم من ادعى: أن في الحديث رواية كذلك. ورجح ما ذهب إليه الشافعي بأن الصف الأول يكون جُنة لمن خلفه. ويكون ساترًا له عن أعين المشركين. وبأنه أقرب إلى الحراسة وهؤلاء مطالبون بإبراز تلك الرواية. والترجيح إنما يكون بعدها. السادس: الحديث يدل على أن الحراسة يتناوبها الطائفتان في الركعتين، فلو حرست طائفة واحدة في الركعتين معًا، فالأصح عندنا الصحة، لأنه قد لا يتأهل للحراسة إلَّا معتنون. السابع: روى مسلم (¬1) من حديث جابر هذا أنه - عليه الصلاة والسلام -: "صلى بكل طائفة ركعتين" ورواه أبو داود (¬2) من رواية ¬

_ (¬1) مسلم (843) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، وعلقه البخاري (4136) في المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، وأحمد (3/ 364)، والبغوي (1095)، والبيهقي (3/ 259)، والطحاوي (1/ 315)، وابن خزيمة (1352)، والدارقطني (2/ 60، 61)، وابن حبان (2885، 2882، 2883)، وابن أبي شيبة (2/ 464). (¬2) أبو داود (1248) في الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، والنسائي (3/ 179)، والبيهقي (3/ 259، 260)، والدارقطني (2/ 61)، والطيالسي (877)، أحمد (5/ 39)، ابن حبان (2881)، والطحاوي (1/ 315)، ولفظه عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =

أبي بكرة أيضًا. وبه قال الشافعي والحسن البصري. وادعى الطحاوي أنه منسوخ فقال: هذا كان في أول الإِسلام إذ كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين ثم نسخ [ذلك] (¬1) وهذه دعوى منه. وأين الدليل على النسخ. خاتمة: من أنواع صلاة الخوف صلاة المسايفة وهو إذا التحم القتال [أو] (¬2) يشتد الخوف. فيصلي كيف أمكن راكبًا. وماشيًا ويعذر في ترك القبلة والأعمال الكثيرة لحاجة. وهو قول ابن عمر وبه أخذ مالك والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وعامة العلماء. ويشهد له قوله -تعالى-: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬3). قال بعض العلماء: بحسب ما يتمكن منه. وقال جماعة من الصحابة والسلف: يصلي في الخوف ركعة يومئ بها إيماءً. وقال الضحاك: فإن لم يقدر على ركعة فتكبيرتين حيث كان وجهه. وقال إسحاق: إن لم يقدر على ركعة إيماء صلى سجدة. فإن لم يقدر فتكبيرة. ¬

_ = صفهم صفين، فصلى ركعتين بالصف الذي يليه، ثم سلم، وتأخروا، وتقدَّم الآخرون، فصلى بهم ركعتين، ثم سلم فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللمسلمين ركعتين ركعتين. (¬1) في الأصل (بذلك)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) في ن ب (واو). (¬3) سورة البقرة آية 239. انظر: الاستذكار (7/ 81).

وقال الأوزاعي نحوه: إذا تهيأ الفتح لكن إن لم يقدر على ركعة ولا على سجدة لم يجزئه التكبير وأخرها حتى يأمنوا ويشهد لهذه المذاهب قوله -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1). [وقول رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام -: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2)] (¬3) وهو مأمور بالصلاة على صفة من قيام وركوع وسجود وتكبير وتلاوة. فإذا تعذر بعضها أتى بالباقي محافظة على امتثال الأمر. ومنع مكحول وبعض أهل الشام: من صلاة الخائف جملة إلى التمكن استدلالًا بتأخيره - عليه الصلاة والسلام - يوم الخندق. وهو عجيب لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك. وانفرد أبو حنيفة وأبو ليلى فقالا: لا يصلي الخائف إلَّا إلى القبلة. وعامة العلماء على خلافه (¬4). واختلف الذين قالوا بالجواز للمطلوب في جواز ذلك للطالب. فمالك وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما. وقال الشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلَّا بالأرض. ¬

_ (¬1) سورة التغابن: آية 16. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) انظر: الاستذكار (7/ 81).

ونقل عن الأوزاعي: أيضًا أنه إن كان الطالب قرب المطلوب صلَّى إيماء وإلَّا لم يجز له الإِيماء. ونقل ابن بزيزة في "شرح الأحكام ": عن الشافعي أيضًا أنه إن خاف الطالب انقطاعه عن أصحابه وكثرة المطلوبين واجتماعهم عليه صلى إيماء وإلَّا فلا.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز

32 - باب الجنائز

32 - باب الجنائز الجنائز: -بفتح الجيم- لا غير جمع جنازة -بالفتح والكسر- لغتان.-والكسر- أفصح كما قاله القيسي. وقيل: -بالفتح- للميت.-وبالكسر- للنعش وعليه الميت. وقيل: عكسه. وقال الجوهري (¬1): الجنازة -بالكسر- واحدة الجنائز. والعامة تقول الجنازة بالفتح: وهو عبارة عن الميت على السرير فإذا لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش. وحكى الثعالبي في فقه اللغة (¬2): أن النعش [ما] (¬3) كان عليه ميت وإلَّا فهو سرير فقط. قلت: وتظهر فائدة [هذا] (¬4) الخلاف اللغوي فيما إذا قال أصلي على [الجنائز] (¬5) فتنبه له. ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (54). (¬2) انظر: فقه اللغة (17). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) في ن ب د (الجنازة بالكسر).

واشتقاقها: من جنز يجنز، إذا سترته، قاله ابن فارس (¬1) وغيره. وذكر المصنف هذا الباب هنا وإن كان من حقه أن يذكر بين الوصايا والفرائض لأن الأهم من هذه الثلاثة ما يفعل بالميت فإنه مقدم على ما يفعل في ماله وأهم ما يفعل به الصلاة عليه؛ إذ فائدتها أخروية وهي الدعاء له والشفاعة ليتخلص من العذاب. وأما الباقي فأمور دنيوية إذ فائدة الغسل النظافة والتكفين والدفن الستر، ومجموع ما ذكر المصنف -رحمه الله- في الباب أربعة عشر حديثًا: ¬

_ (¬1) انظر: مجمل اللغة (1/ 200).

الحديث الأول

الحديث الأول 157/ 1/ 32 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربعًا" (¬1). الكلام عليه من أحد عشر وجهًا: والتعريف براويه سلف في الطهارة. الأول: "النجاشي" -بفتح النون وبالشين المعجمة وتشديد الياء-. قال صاحب "مجمع البحرين": وتخفيفها أعلا وأفصح (¬2) قال وكان ثعلب يختار كسر النون فيه. ¬

_ (¬1) البخاري (1245)، وأطرافه في الفتح (3/ 116)، ومسلم (951)، وأبو داود (3204)، في الجنائز، باب: في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، والنسائي (4/ 72)، والموطأ (1/ 226)، وأحمد (2/ 438، 289، 439)، وابن حبان (3068، 3098، 3100، 3101)، وعبد الرزاق (6393)، وابن ماجه (1534)، والترمذي (1022)، وابن أبي شيبة (3/ 300، 392، 363)، والبيهقي في السنن (4/ 49)، وفي والمعرفة (5/ 314). (¬2) في ن ب زيادة (واو).

قال الجوهري (¬1): هو اسم ملك الحبشة. قال الصاغاني: هذا تحريف. وإنما اسمه أصحمة أي بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء المهملتين. وقد قال ابن دريد: فأما النجاشي فكلمة حبشية يقال للملك منهم نجاشي كما يقال كسرى وقيصر. وقال صاحب "المطالع": النجاشي اسمًا كان أو كنية. وقال المطرزي في "المغرب" (¬2): تشديد جيمه خطأ. واسمه أصحمة، والسين تصحيف. قلت: وقيل اسمه أصمحة بتقديم الميم على الحاء. حكاه الرافعي في "شرح مسند الشافعي". وحكى القاضي عياض (¬3): صحمه بحذف الألف. وفي "المستدرك" (¬4) للحاكم [أن] (¬5) ابن إسحاق قال اسمه مصمحة. قال: ولم يتابع عليه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (271). (¬2) انظر: المغرب (2/ 290). (¬3) المشارق (1/ 63). (¬4) (2/ 623). (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) سيرة ابن إسحاق (201). ذكره القاضي عياض في المشارق (1/ 63) عن ابن إسحاق أن اسم النجاشي: أصحمة: بفتح الهمزة وسكون الصاد بعدها حاء مهملة مفتوحة، وهو قول ابن إسحاق.

والذي نقله القاضي عياض: عن ابن إسحاق أصحمة فاعلمه. وقال ابن أبي شيبة (¬1) في "مسنده" [(¬2)]: صمحة بتقديم الميم على الحاء بلا ألف وهو شاذ كما قاله النووي (¬3). فحصل في اسمه خمسة أقوال: وفي لفظ "النجاشي" أربع لغات وهذا مهم عزيز الوجود. ¬

_ (¬1) والذي نسبه القاضي عياض لابن أبي شيبة في المشارق (1/ 63) صحمة بغير ألف وبفتح الصاد وسكون الحاء، قال: وكذلك قال يزيد بن هارون وإنما هو صمحة بتقديم الميم والمعروف ما تقدم أولًا. اهـ. وفي ابن أبي شيبة أصحمة (3/ 300، 362، 363)، قال ابن حجر في الفتح (3/ 203): تنبيه: وقع في جميع الطرق التي اتصلت لنا من البخاري أصحمة بمهملتين بوزن أفعلة مفتوح العين في المسند والمعلق معًا، وفيه نظر لأن إيراد المصنف يشعر بأن يزيد خالف محمد بن سنان، وأن عبد الصمد تابع يزيد، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة عن يزيد صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء فهذا متجه -قلت: خلاف ما ذكره ابن الملقن هنا- ويتحصل منه أن الرواة اختلفوا في إثبات الألف وحذفها. وحكى الإِسماعيلي أن في رواية عبد الصمد أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف، قال: وهو غلط فيحتمل ان يكون هذا محل الاختلاف الذي أشار إليه البخاري. وحكى كثير من الشراح أن رواية يزيد ورفيقه صحمة بالمهملة بغير ألف، وحكى الكرماني أن في بعض النسخ في رواية محمد بن سنان أصحبة بموحدة بدل الميم. اهـ. انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض (1/ 63)، حيث ذكر صمحة، صحمة أصحمة. (¬2) في ن ب زيادة (صحيح). (¬3) انظر: شرح مسلم (7/ 22).

ومعنى "أصحمة" بالعربية "عطية". قال ابن دحية في التنوير: قال أهل السير: وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة. وقال ابن الأثير: [أسلم] (¬1) قبل الفتح. ومات قبله أيضًا وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -[با] (¬2) لمدينة. قال الرافعي: وكان بينه وبين النجاشي مسيرة شهر. وكبر عليه أربعًا كما ساقه المصنف وروى الطبراني بإسناد (¬3) واهٍ أنه كبر عليه خمسًا. وكان المسلمون قد هاجروا إليه فأحسن إليهم. وآمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة. وجهز إليه جعفرًا. وروى أبو داود (¬4) عن عائشة قالت: "لما مات النجاشي كانوا يتحدثون أنهم لا يزالوا يرون النور على قبره". وجاريته أبرهة أسلمت وأرسلت السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أم حبيبة فقال: "وعليها السلام ورحمة الله وبركاته". ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (في). (¬3) الطبراني في المعجم الكبير (17/ 20)، ورواه ابن ماجه (1506) بدون لفظة "النجاشي". قال في مجمع الزوائد (3/ 41): كثير: ضعيف. انظر ت (2، 3) ص (396). (¬4) مختصر المنذري (2412)، وهو ضعيف، والسيرة لابن إسحاق (201)، والسهيلي (1/ 211).

قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم: وكان ذلك سنة سبع، ذكره ابن الجوزي في "تنويره" وذكره العسكري في كتاب "الصحابة" فيمن ولد في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرو عنه شيئًا، وقال: إنه أول ملك أسلم وصح إسلامه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستغفر له ثلاثًا. وصلى عليه. واعلم أن النجاشي تابعي كما ذكرناه آنفًا لأنه آمن ورأى الصحابة ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن ذكره ابن منده في الصحابة توسعًا. وهذه المسألة تلقى في المعاياه، فيقال: شخص صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -[وأصحابه] (¬1) وهو تابعي، فيقال: هو النجاشي. ومن الغرائب التي نظيرها نادرًا أيضًا إسلام صحابي طويل الصحبة كثير الرواية على يد تابعي وهو عمرو بن العاص فإنه أسلم على يد النجاشي فاستفد ذلك. فائدة: "النجاشي" لقب لكل من ملك الحبشة. ويقال: لكل من ملك المسلمين أمير المؤمنين، ولمن ملك الروم قيصر وهرقل، والفرس كسرى والترك خاقان، والقبط فرعون، ومصر العزيز، واليمن تبع، وحمير القيل -بفتح القاف- وقيل: القيل أقل درجة من الملك، ودهمي ويعبورا لمن ملك الهند، و [عاند] (¬2) لمن ملك الزنج، ومالح، وقيل: الفطيون لمن ملك اليهود، والنمروذ لمن ملك الصابئة، وجالوت لمن ملك البربر. تنبيه: ذكر المحب الطبري في "أحكامه": أن النجاشي من ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) في ن ب (عامر).

النجش: وهو الإِثارة، ومنه قيل: لمن يزيد في السلعة: ناجش ونجاشي. الثاني: "النعي" خبر الموت يقال "نَعَاهُ، ينعاه، نَعْيًا" و"نُعْيَانًا" بالفتح والضم، وكذلك "النَّعِيُّ" على فعيل، يقال: جاء نَعِيُّ فلان والنَّعِيُّ (¬1) أيضًا الداعي وهو الذي يأتي بخبر الموت. قاله الجوهري (¬2). وقال الهروي: النعي: بسكون العين الفعل والنعي يريد بالكسر الميت. ويجوز أن يجمع على نعايا كصفى وصفايا. وقال الجوهري قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات منها ميت له قدر ركب راكب فرسًا، وجعل يسير في الناس، ويقول: نَعاءِ فلانًا أي أنعه وأظهر خبر وفاته. ونعا مبنية على الكسر مثل دراك. وفي الحديث (¬3) " [يا نعايا] (¬4) العرب" أي أنعهم. قلت: والنعي على ضربين: أحدهما: مجرد إعلام لقصد ديني كطلب كثرة الجماعة ¬

_ (¬1) أي هو الناعي وهو الذي يأتي بخبر الموت. (¬2) انظر: مختار الصحاح (279). (¬3) قال ابن الأثير في حديث شداد بن أوس (5/ 85): "يا نعايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية"، وفي رواية: [يا نعيان العرب"، يقال: نعى الميت ينعاه نعيًا ونعيًا، إذا أذاع موته، وأخبر به، إذا ندبه. انظر: لسان العرب (14/ 216). (¬4) في ن ب د (كانعاء).

تحصيلًا للدعاء للميت وتتميمًا للعدد الذي وُعد بقبول شفاعتهم له كالأربعين (¬1) والمائة (¬2) مثلًا أو لتشييعه وقضاء حقه في ذلك. وقد ثبت في معنى ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: "هلا أذنتموني به" (¬3) ونعيه - عليه الصلاة والسلام - أهل مؤتة جعفرًا وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة (¬4). الثاني: فيه أمر محرم مثل نعي الجاهلية المشتمل على ذكر مفاخر الميت ومآثره وإظهار التفجع عليه وإعظام حال موته فالأول: مستحب ¬

_ (¬1) ولفظه: "ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلَّا شفعهم فيه". مسلم (948)، وأحمد (1/ 277)، وأبو داود (3170)، والبيهقي (4/ 30)، والبغوي (1505)، وابن جان (3082)، وابن ماجه (1489)، والطبراني (11/ 12158). (¬2) ولفظه: "ما من أحد يموت يصلي عليه أمة يبلغون أن يكونوا مئة فيشفعون إلَّا شفّعوا فيه". مسلم (947)، وأحمد (6/ 32، 40، 231)، والترمذي (1029)، والنسائي (4/ 75، 76)، وابن حبان (3081)، وابن أبي شيبة (3/ 321)، والطيالسي (1526)، والبغوي (1504)، والبيهقي (4/ 30). (¬3) البخاري (458، 460، 1337)، ومسلم (956)، وأبو داود (3203)، وابن ماجه (1527)، والبيهقي (4/ 47)، وابن حبان (3086، 3087)، والطيالسي (2446)، وأحمد (2/ 353، 388)، والنسائي (4/ 84، 85)، والحاكم (3/ 591). (¬4) البخاري (1299، 1305، 4263)، ومسلم (935)، والنسائي (4/ 14، 15)، وأبو داود (3122)، وأحمد (6/ 276، 277)، والبيهقي (4/ 59)، وابن حبان (3147، 3148).

والثاني: محرم، وعليه يحمل نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن النعي كما أخرجه الترمذي وصححه (¬1)، وهذا التفصيل هو الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة. وبعض أصحابنا، قال: يستحب الإِيذان وإشاعة موته في الناس بالنداء عليه والإِعلام للقريب دون غيره، وبه قال ابن عمر - رضي الله عنه -. وجزم البغوي (¬2) وغيره من أصحابنا: بكراهة النعي والنداء عليه للصلاة وغيرها. ونقل ابن الصباغ عن الأصحاب: أنه يكره النداء عليه، وأنه لا بأس أن يعرف أصدقاءه، وبه قال الإِمام أحمد. وقال أبو حنيفة: لا بأس به، ونقله العبدري عن مالك أيضًا. وفي "الحلية" للروياني من أصحابنا: الاختيار بالنداء عليه ليكثر المصلون، ودليله حديث الكتاب وغيره. وكره مالك الإِنذار بذلك على أبواب المساجد والأسواق، ورآه من النعي. الثالث: في الحديث الإِعلام بالميت للمقصد المديني كما قررناه. الرابع: فيه إثبات الصلاة على الميت المسلم، وأجمعوا على أنها فرض كفاية. وما حكى عن بعض المالكية أنها سنَّه مؤكدة فمردود. ¬

_ (¬1) الترمذي (986)، وابن ماجه (1476)، وأحمد (5/ 385). (¬2) انظر: شرح السنة (5/ 340).

واختلفوا: في [العدد] (¬1) الذي تسقط به. فالصحيح من الأوجه الأربعة عندنا أنها تسقط بصلاة واحد. وقيل: اثنان. وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. الخامس: صلاته - عليه الصلاة والسلام - على النجاشي كانت متعينة حيث مات بأرض لم يقم بها فريضة الصلاة عليه، فتعين الإِعلام بموته لذلك، وإن كان معه من تابعه على الإِسلام إلَّا أنه لا يقدر على إظهاره أو يجهل حكم هذه الصلاة. وهكذا الحكم في كل مسلم مات ولم يصل عليه، فإنه يتعين على كل من علم بموته الصلاة عليه (¬2). السادس: فيه معجزة ظاهرة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - لإِعلامه بموته وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه. السابع: فيه شرعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد وهو مذهب الشافعي. وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة وغيرهما. والحديث حجة عليهم، [ولهم] (¬3) اعتذارات: منها: ما أسلفنا من أن الصلاة عليه كانت متعينة. ¬

_ (¬1) في ن د (القدر). (¬2) انظر: السنة للبغوي (5/ 342)، وفتح الباري (3/ 151)، وانظر كلام ابن القيم في زاد المعاد (1/ 301)، ونقله عن شيخ الإِسلام التفصيل في ذلك الجواز مطلقًا إن لم يصل عليه ويأتي مفصلًا في التعليق ت (4) ص، (390). (¬3) في ن ب ساقطة.

ومنها: ما قيل إنه - عليه الصلاة والسلام - رآه فيكون حين صلاته عليه كميت رآه الإِمام ولم يره المأمومون (¬1). قال الشيخ تقي الدين (¬2): وهذا يحتاج إلى نقل يثبته، فمثله لا يثبت بالاحتمال. ومنها: أن ذلك مخصوص بالنجاشي. قلت: والعجب أن ابن عبد البر المحقق الحافظ اعتذر بهذا أيضًا فقال (¬3): دلائل الخصوص في هذه المسألة واضحة، لا يجوز أن يشرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها غيره؛ لأنه -والله أعلم- أحضر روح النجاشي بين يديه، حيث شاهدها، وصلى عليها، أو رفعت له جنازته (¬4)، ¬

_ (¬1) ذكره السهيلي في الروض (2/ 94). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 231). (¬3) انظر: الاستذكار (1/ 233، 234)، والتمهيد (6/ 328، 329). (¬4) قال ابن حجر في الفتح (3/ 188): ومن ذلك قول بعضهم: كشف له - صلى الله عليه وسلم - عنه حتى رآه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإِمام على من رآه ولم يره المأمومون ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا ثبت بالاحتمال. وتعقبه بعض الحنفية بان الاحتمال كاف في مثل هذا من جهة المانع، وكأن مستند قائل ذلك ما ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد عن ابن عباس قال: "كشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه" ولابن حبان من حديث عمران بن حصين "فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلَّا أن جنارته بين يديه" أخرجه من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير =

كما كشف (¬1) [له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن ¬

_ = عن أبي قلابة عن أبي المهلب عنه، ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى "فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلَّا أن الجنازة قدامنا" ومن الاعتذارات أيضًا أن ذلك خاص بالنجاشي لأنه لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على ميت غائب غيره، قال المهلب: وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية الليثي وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوى بالنظر إلى مجموع طرقه، واستند من قال بتخصيص النجاشي لذلك إلى ما تقدم من إرادة إشاعة أنه مات مسلمًا أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته، قال النووي: لو فتح باب هذا الخصوص لا نسدّ كثير من ظواهر الشرع، مع كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله، وقال ابن العربي المالكي: قالوا المالكيه ليس ذلك إلَّا لمحمد، قلنا وما عمل به محمَّد تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية قالوا: طويت له الأرض وأحضرت الجازة بين يديه، قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلَّا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثًا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلَّا بالثابتات ودعوا الضعاف، فإنها سبيل تلاف. إلى ما ليس له تلاف. وقال الكرماني: قولهم رفع الحجاب عنه ممنوع. ولئن سلمنا فكان غائبًا عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت: وسبق إلى ذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه، ويؤيده حديث مجمع بن جارية بالجيم في قصة الصلاة على النجاشي قال: "فصفنا خلفه صفين وما نرى شيئًا" أخرجه الطبراني وأصله في ابن ماجه. لكن أجاب بعض الحنفية عن ذلك بما تقدم من أنه يصير كالميت الذي يصلي عليه الإِمام وهو يراه ولا يراه المأمومون فإنه جائز اتفاقًا. اهـ. انظر: حاشية الصنعاني على الأحكام (3/ 231)، وانظر: نصب الراية (2/ 283)، ونيل الأوطار (4/ 89). (¬1) في الأصل (للشف)، وما أثبت من ن ب د.

صفته (¬1). وقد روي أن جبريل أتاه بروح، (¬2) جعفرٍ وجنازَتِه وقال: "قم فصل عليه" (¬3) ومثل هذا كله يدل على أنه مخصوص به لا يشاركه فيه غيره. قال: وعلى هذا أكثر العلماء في الصلاة على الغائب. وقد كفانا مؤنة الرد عليه ابن دحية الحافظ. فقال في كتابه "التنوير": بعد أن ساق كلامه: هذا كله دعوى لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، إلا ما كان من قصة رفع بيت المقدس، فهو في الصحيحين. وأما إحضار روح النجاشي أو رفع جنازته: فلا يصح من طريق عند أهل العلم بالنقل. فإن قلت: فقد طويت الأرض له في موت معاوية بن ¬

_ (¬1) البخاري (3886، 4710). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) رواه الواقدي في كتاب المغازي عن عبد الله بن أبي بكر قال: لما التقى الناس بمؤتة، جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معركتهم، فقال - عليه السلام -: أخذ الراية زيد بن حارثة فمضى حتى استشهد، وصلى عليه ودعا له، وقال: استغفروا له وقد دخل الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ودعا له وقال: استغفروا له، وقد دخل الجنة، فهو يطير بجناحين حيث شيء. قال في نصب الراية: (2/ 284) هو مرسل.

معاوية (¬1). قلت: لا يصح كما شهد بذلك العقيلي والبيهقي وغيرهما. ولقد أنصف القرطبي (¬2) -رحمه الله- فقال: في الاعتذار الثاني والثالث نظر وأن الأول أقربهما. واستحسن الروياني من أصحابنا ما ذهب إليه الخطابي (¬3): أنه لا يصلي عليه، إلَّا إذا لم يصل عليه أحد [وكذا] (¬4) كانت قضية ¬

_ (¬1) معاوية بن معاوية الليثي أو المزني. انظر: دلائل النبوة للبيهقي (5/ 245)، قال ابن كثير بعد أن ساق ما نقله من الأحاديث الواردة في قبض الأرض وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في البداية والنهاية (5/ 14، 15)، نقلًا عن البيهقي: "وقال منكر من هذا الوجه". وقال ابن عبد البر -رحمه الله- في الاستيعاب (): أسانيد هذه الأحاديث -أي قبض الأرض- ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة. وفضل "قل هو الله أحدا" لا ينكر. انظر: مسند أبي يعلى (7/ 257)، ومجمع الزوائد (3/ 40) (9/ 378). وقال ابن القيم في زاد المعاد: روى النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاوية بن معاوية الليثي، وهو غائب، ولكن لا يصح؛ لأن في إسناده العلاء بن زياد، قال علي بن المديني كان يضع الحديث. اهـ. انظر: نصب الراية (2/ 284) (1/ 302). وقال ابن حجر في الفتح (3/ 188): وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه. (¬2) المفهم (3/ 1594، 1595). (¬3) معالم السنن (4/ 334). (¬4) في ن ب (وهذا).

النجاشي (¬1). وقال ابن حبان (¬2): من أصحابنا: إنما تجوز الصلاة عليه إذا كان في جهة القبلة فقط إما إذا كان وراءه بحيث إذا استقبلها استدبره. وإذا استقبله استدبرها لم تصح الصلاة عليه. قال المحب الطبري في "أحكامه": ولم أقف على هذا (¬3) لغيره واحترزت بقولي أولًا [الغائب] (¬4) عن البلد عما إذا كان في البلد غائبًا عن موضع الصلاة فإنه لا يجوز أن يصلى عليه على الأصح حتى يحضر عنده، لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يصل على حاضر في البلد إلَّا بحضرته، ولأنه لا مشقة فيه بخلاف الغائب. ¬

_ (¬1) ونقل ابن حجر في الفتح (3/ 188)، كلام الخطابي، وقال: واستحسنه الروياني من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في "السنن" الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر وهذا محتمل إلَّا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد ... إلخ، وانظر التعليق (10). وذكر ابن القيم في "زاد المعاد" (1/ 301)، عن شيخ الإِسلام ابن تيمية: الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه، صلى عليه صلاة الغائب، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، لأنه مات بين الكفار، ولم يصل عليه، وإن صلى عليه حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب، لأن الفرض سقط بصلاة المسلمين عليه والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب وتركه، وفعله وتركه سنَّة، وهذا له موضع والله أعلم، والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد، وأصحها هذا التفصيل، والمشهور عند أصحابه الصلاة عليه مطلقًا. (¬2) ابن حبان (7/ 367)، وانظر: كلام ابن حجر في الفتح (3/ 188). (¬3) في ن ب د زيادة (لأحد). (¬4) في ن ب (الغالب).

فرع: لو صلى على الأموات الذين ماتوا في يومه وغسلوا ولا يُعرَف عددهم جاز. الثامن: فيه الخروج إلى المصلى للميت الغائب من غير كراهة. التاسع: تمسك به الحنفية والمالكية في منع الصلاة على الميت في المسجد، وبجعل الكراهة في الصلاة على الميت في المسجد مطلقة، ولا يتم لهم ذلك إلا أن تخص الكراهة بكون الميت في المسجد، فإنه - عليه الصلاة والسلام - صلى على سهيل بن بيضاء [وأخيه] (¬1) في المسجد، كما أخرجه مسلم (¬2) من حديث عائشة ومعلوم أن موته كان خارج المسجد وحمل إلى المسجد للصلاة عليه فيه. والخروج إلى المصلي للصلاة على النجاشي أبلغ في إظهار أمره المشتمل على هذه المعجزة الباهرة ولإِكثار المصلين عليه، وجمهور العلماء، كما نقله عنهم النووي في "شرح مسلم" (¬3) على جواز الصلاة على الميت في المسجد، بل نص أصحابنا على استحبابه، وقد أوضحت الجواب عما عارض حديث سهل من خمسة أوجه في "شرح المنهاج"، فراجعه منه، على أن لا يتم ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) مسلم (99، 100)، والترمذي (1033)، والنسائي (4/ 68)، وأحمد (6/ 79، 133، 261، 169)، وابن ماجه (1518)، وابن حبان (3065، 3066)، ومالك منقطعًا (1/ 229)، والبغوي (1491)، والطحاوي (1/ 490). (¬3) شرح مسلم (7/ 21، 22).

الاستدلال للحنفية من هذا الحديث على الكراهة في الصلاة عليه فيه أصلًا، لأن الممتنع عندهم إنما هو إدخاله المسجد، لا مجرد الصلاة عليه فيه (¬1). العاشر: أن سنَّة تكبيرات الجنازة أربع وهو مذهب الشافعي وجمهور العلماء، كما نقله عنهم النووي في "شرحه" (¬2). وفي رواية باطلة أنه كبر عليه خمسًا نبه على بطلانها الجوزقاني (¬3) في موضوعاته. قال القاضي عياض (¬4): وكان - عليه الصلاة والسلام - يكبر أربعًا وخمسًا وسبعًا وثمانيًا، حتى مات النجاشي فكبر عليه أربعًا وثبت [على] (¬5) أربع حتى توفي (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: بسط المسألة في فتح الباري (3/ 188، 199)، والبغوي (5/ 350)، وكتاب الجنائز للألباني (106 - 108). (¬2) شرح مسلم (7/ 21). (¬3) الجوزقاني في الأباطيل (2/ 50)، ومجمع الزوائد (3/ 38، 41)، والمعجم الكبير للطبراني (17/ 20). لضعف كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف. انظر: سؤال محمَّد بن أبي شيبة لابن المديني (90)، وتاريخ عثمان بن سعيد الدارمي (95). وقد مضى في أول الحديث تضعيفه. (¬4) إكمال إكمال المعلم (3/ 88). (¬5) في ن د ساقطة. (¬6) قال ابن حجر في الفتح (3/ 202): وقد اختلف السلف في ذلك: فروى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبر خمسًا ورفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلى على جنازة رجل من بني أسد فكبر خمسًا، وروى ابن المنذر وغيره عن علي أنه كان يكبر على أهل بدر ستًّا =

قال: واختلف السلف من الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع. وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه -: "أنه كان يكبر على أهل بدر ستًّا وعلى سائر الصحابة خمسًا. وعلى غيرهم أربعًا" (¬1). قال ابن عبد البر: وانعقد الإِجماع بعد ذلك على أربع، ¬

_ = وعلى سائر الصحابة خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا، رروي أيضًا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فكبر ثلاثًا. وسنذكر الاختلاف على أنس في ذلك، قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع، وفيه أقوال أخر فذكر ما تقدم. قال: وذهب بكر بن عبد الله المزني إلى أنه لا ينقص من ثلاث ولا يزاد على سبع. وقال أحمد مثله لكن قال: لا ينقص من أربع. وقال ابن مسعود: كبر ما كبر الإِمام. قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسب قال "كان التكبير أربعًا وخمسًا، فجمع عمر الناس على أربع" وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبى وائل قال: "كانوا يكبرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعًا وستًّا وخمسًا وأربعًا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة". اهـ. وروى ابن عد البر في "الاستذكار" من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر على الجنائز أربعًا، وخمسًا، وسبعًا، وثمانيًا، خى جاء موت النجاشي، فخرج إلى المصلي، وصف الناس وراءه، وكبر عليه أربعًا، ثم ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربع حتى توفاه الله -عز وجل-. اهـ. (¬1) الطحاوي (1/ 287)، والدارقطني (1/ 191)، والبيهقي (4/ 37)، وسنده صحح رجاله كلهم ثقات، والحاكم (3/ 309)، وهي عند البخاري في المغازي (4004) دون قوله ستًّا، مع مراجعة الفتح (7/ 328).

واتفق الفقهاء: أهل الفتوى بالأمصار على أنها أربع، لا زيادة عليها، على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم مردود، لا يلتفت إليه. قال ولا نعلم أحدًا قال من فقهاء الأمصار بخمس إلَّا ابن أبي ليلى (¬1). قلت: ولا أعلم له سلفًا من ذلك، إلَّا زيد بن أرقم (¬2) وقد اختلف عنه في ذلك وحذيفة (¬3)، وفي الإِسناد عنهما من لا يحتج به. وذكر الحازمي (¬4) أنه قول ابن مسعود وعيسى مولى حذيفة، وأصحاب معاذ بن جبل، وهو مذهب الشيعة (¬5). وعزاه الفاكهي إلى الفقهاء السبعة، ولعله التبس عليه. وروي أيضًا مرفوعًا لكنه واهٍ كما قدمته، وبتقدير ثبوته فالتكبير أربعًا متأخر عنها. ¬

_ (¬1) ساق ابن حجر كلامه في الفتح (7/ 328) ودعوى الإِجماع مع وجود آثار صحيحة عن الصحابة تدل على أن العمل بالخمس والست تكبيرات عمل به إلى ما بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- تحتاج نظر، وانظر إلى كلام ابن حزم في رد ذلك في المحلى (5/ 124). (¬2) مسلم (957)، والترمذي (2/ 140)، وابن ماجه (1/ 458)، والطحاوي (1/ 285)، والبيهقي (4/ 36)، والطيالسي (674)، وأحمد (4/ 367، 368، 372). (¬3) أحمد (5/ 406) عن مولى حذيفة عيسى. (¬4) الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (123)، ورسوخ الأخبار في منسوخ الأخبار للجعبري (136)، وناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين (263). (¬5) انظر: حاشية الصنعاني على إحكام الأحكام (3/ 232).

وروي فيه حديث عن ابن عباس (¬1). وروي عن بعض المتقدمين أنه يكبر على الجنازة ثلاثًا وعزاه الحازمي (¬2) إلى ابن سيرين وأبي الشعثاء، وابن عباس، وأنس، وهذا الحديث يرده، ويتلخص في هذه المسألة ستة أقوال: أصحها: أربع تكبيرات. ثانيها: ثلاث. ثالثها: خمس. رابعها: عن ابن مسعود [أنه] (¬3) قال: كبّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعًا وسبعًا وخمسًا وأربعًا فكبروا ما كبر الإِمام (¬4)، فأشار إلى أن ذلك كله جائز، وأن المصلي مخير في ذلك. خامسها: يكبر ما كبر الإِمام، ولا يزيد على سبع. قاله إسحاق. ¬

_ (¬1) البخاري (857، 1319، 1322، 1336)، ومسلم (954)، والنسائي (4/ 85)، والبيهقي (4/ 45)، وابن حبان (3085، 3088، 3090، 3091)، وأحمد (9/ 224)، وابن ماجه (1530)، وأبو داود (3196)، باب: التكبير على الجنازة، والدارقطني (2/ 76، 77)، والترمذي (1037). (¬2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ (138). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) عبد الرزاق (6395، 6403)، والبيهقي (4/ 37)، وابن حزم في المحلى (5/ 126)، وحسنه الحافظ في الفتح (3/ 162).

سادسها: ما أسلفنا عن علي (¬1). الحادي عشر: فيه استحباب الصفوف والأمر بها في صلاة الجنازة، لقوله: "فصف بهم" وقد ثبت من حديث مرثد بالثاء المثلثة بن عبد الله قال: كان مالك بن هبيرة - رضي الله عنه - إذا صلى على جنازة فاستقل الناس جزاءهم ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب" رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم [في هذا الحديث] (¬2). ورواه أحمد بلفظ "فقد غفر له" ولفظ الحاكم بهما (¬3). ¬

_ (¬1) الأوسط (5/ 428، 435). انظر: كتاب الجنائز للألباني للاطلاع على ما ورد في عدد التكبير (111، 114). وانظر التعليق ت (1) ص (397). (¬2) في ن ب د ساقطة. (¬3) أبو داود (3036)، وابن ماجه (1/ 478)، والترمذي (1028)، والبيهقي (4/ 30)، والحاكم (1/ 362، 363)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، أحمد (4/ 79)، وقال النووي تبعًا للترمذي: حديث حسن "المجموع" (5/ 212)، وأيضًا ابن حجر في الفتح (3/ 187). وقد ضعفه الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه على الفتح (3/ 187)، قال: لكن في إسناده محمَّد بن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة وهي علة مؤثرة في حق المدلس، وعليه لا تقوم بهذا الحديث حجة حتى يوجد ما يشهد له بالصحة، والله أعلم. اهـ. أقول: ورد من رواية أبي إمامة عند الطبراني في الكبير (8/ 190). قال في مجمع الزواند (3/ 32): وفيه ابن لهيعة- وفيه كلام بسبب =

خاتمة: لم أر في هذا الحديث ذكر السلام. نعم روى أبو أمامة (¬1) أنه السنَّة، كما رواه النسائي بإسناد على شرط الصحيح وهو إجماع، وإن كان وقع في "العتبية"، أنه يستحب. وقال به محمَّد بن أبي صفرة. والصحيح عند الشافعية: أنه يسلم تسليمتين كغيرها، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وجماعة من السلف. وقيل: واحدة لبنائها على التخفيف. قال النووي في "شرح المهذب" (¬2): وبه قال أكثر العلماء منهم مالك، ويسر بالسلام عند الشافعي، كما نقله النووي في "شرحه لمسلم" (¬3). وكذا القرطبي (¬4) ويُعلم تمامها بالانصراف. ¬

_ = اختلاطه- ولفظه: صلى - صلى الله عليه وسلم - على جنازة ومعه سبعة نفر، فجعل ثلاثة صفًا واثنين صفًا واثنين صفًا ... الحديث. (¬1) ولفظ: "السنَّة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة". أخرجه النسائي (1/ 281)، والشافعي في الأم (1/ 239، 240)، والبيهقي (4/ 39)، وابن الجارود في المنتقى (540)، والحاكم 1/ 360)، والطحاوي (1/ 500)، وعبد الرزاق (6228)، وابن حزم في المحلى (5/ 129)، والنووي في المجموع (5/ 33)، وقال: على شرط الشيخين. (¬2) المجموع (5/ 34). (¬3) شرح مسلم (7/ 24)، والذي ذكره: أنه يجهر. انظر: الاستذكار (8/ 242) للاطلاع على أقوال العلماء ومذاهبهم في هذه المسألة. (¬4) المفهم (3/ 1595).

وفي مستدرك (¬1) الحاكم أنه السنَّة ويجهر عند أبي حنيفة وهو المشهور من قول مالك. ولم يذكر فيه أيضًا ما يقرأ في صلاة الجنازة. وقد اختلف العلماء في قراءة الفاتحة (¬2) فيها. فذهب مالك في المشهور عنه وأبو حنيفة والثوري إلى عدم قراءتها لأن مقصودها الدعاء (¬3). وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن مسلمة وأشهب من أصحاب مالك وداود إلى أنه يقرأ فيها بالفاتحة لعموم الأول (¬4) وخصوصها أيضًا كما أوضحته في "شرح المنهاج" وغيره. ¬

_ (¬1) المستدرك (1/ 360). (¬2) ورد فيها حديث ابن عباس ولفظه "صليت خلف ابن عباس - رضي الله عنه - على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وجهر، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته؟ فقال إنما جهرت لتعلموا أنها سنَّة وحق". انظر: البخاري (1335)، والنسائي (4/ 75)، والترمذي (1027)، وأبو داود (3198)، والبغوي (1494)، وابن الجارود (537)، والطيالسي (2741)، والبيهقي (4/ 38)، والدارقطني (2/ 72)، والحاكم (1/ 358) ووافقه الذهبي، والشفعي (1/ 580)، وابن حبان (3071). وقد جاء من رواية جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى. أخرجه الشافعي في الأم (1/ 270)، والبيهقي في الكبرى (4/ 39)، وابن عبد البر في الاستذكار (8/ 264) وقال: ليس بثابت عن جبر. (¬3) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (3/ 298)، وأسانيده عنهم جيّاد. (¬4) السنَّة للبغوي (5/ 354)، ودليلهم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وتقدم تخريجه. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (3/ 298).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 158/ 2/ 32 - عن جابر - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: فيه استحباب كون الصفوف في الصلاة على الميت أكثر من واحد وهو بعض من الحديث الأول، وثبت عن بعض العلماء من الصحابة: أنه كان إذا حضر الناس للصلاة صفهم صفوفًا، كما سلف طلبًا للغفران، للحديث الذي أسلفناه، وحديث جابر هذا لعله من هذا القبيل. فإن الصلاة كانت في الصحراء، ولعلها لا تضيق من صف واحد، ويمكن أن يكون لغير ذلك، وادعى الفاكهي أن المراد من قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ثلاث صفوف" الكثرة ¬

_ (¬1) البخاري فتح الباري (3/ 186) مع ذكر أطرافه، ومسلم (952)، والنسائي (4/ 69، 70) (3/ 363، 369، 400، 355)، وابن حبان (3096، 3097، 3099)، والبيهقي (4/ 29، 49، 50)، وعبد الرزاق (4606)، وابن أبي شيبة (3/ 300، 363).

(¬1) لا مجرد الصفوف حتى لو اجتمع في صف مائة نفس مثلًا وكان في ثلاثة صفوف ثلاثون لكان ما يتحصل من بركة أهل الصف الواحد وشفاعتهم للميت أكثر مما يتحصل من الصفوف الثلاثة، لقلة عددهم بالنسبة إلى الصف الواحد المشتمل على مائة نفى هذا حيث لا ينازع فيه. قلت: وراوي الحديث فهم [أن] (¬2) المراد بعدد الصفوف كما قدمته لك هناك فراجعه. الثاني: فيه التثبت فيما يقوله الإِنسان ويحكيه خصوصًا إن كان لتبيين حكم أو تعليم أدب. فإن جابرًا لما ذكر أن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم - على النجاشي كانت بصفوف وراءه، وأنه كان في الصف الثاني والثالث حكى الحال على ما هو في ذهنه من غير زيادة ولا نقص، والظاهر أنه شك منه لا من الراوي عنه. الثالث: فيه الصلاة على الغائب خصوصًا إذا علم عدم الصلاة عليه [(¬3)] (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب: زيادة واو. (¬2) الزيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب: ساقطة. (¬4) تقدم التفصيل في هذه المسألة في الحديث الأول فراجعه إن شئت.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 159/ 3/ 32 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعًا" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في باب الاستطابة. وقد روى هذا الحديث أعني في الصلاة على القبر من الصحابة أيضًا غير ابن عباس أنس (¬2)، وبريدة (¬3)، وزيد بن ثابت (¬4)، ¬

_ (¬1) البخاري (757، 1319، 1322، 1336)، ومسلم (954)، والنسائي (4/ 85)، والبيهقي (4/ 45)، وابن ماجه (1530)، وأبو داود (3196)، في الجنائز، باب: التكبير على الجنازة، والترمذي (1037)، وأحمد (1/ 224)، وابن حبان (3085، 3088، 3090، 3091)، والدارقطني (2/ 76، 77). (¬2) حديث أنس، ولفظه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على قبر امرأة قد دفنت". أخرجه مسلم (955)، وابن ماجه (1531)، والبيهقي (464)، والدارقطني (2/ 77)، والنسائي (4/ 5)، وابن حبان (3084). (¬3) عند ابن ماجه (1532) والبيهقي. (¬4) في ابن حبان: يزيد بن ثابت أخو زيد بن ثابت، وأيضًا في الترمذي =

وأبو هريرة (¬1)، وعامر بن ربيعة (¬2)، وأبو قتادة (¬3)، وسهل بن حنيف (¬4)، كما أفاده الترمذي (¬5) في جامعه: قال ابن مندة في مستخرجه: ورواه أيضًا جابر بن عبد الله (¬6)، وأبو أمامة بن ثعلبة (¬7)، وحصين بن [وحوح] (¬8). ¬

_ = (1037) مثله، وابن ماجه (1528)، وأحمد (4/ 388)، وابن أبي شيبة (3/ 275، 276، 360)، والبيهقي (4/ 48، 35)، وابن حبان (3083، 3087، 3092)، والحاكم (3/ 591)، والطبراني (22/ 627). (¬1) البخاري (458، 460، 1337)، ومسلم (956)، وأبو داود (3203) في الجنائز، باب: الصلاة على القبر، وابن ماجه (1527)، والطيالسي (2446)، وأحمد (2/ 353، 388)، وابن حبان (3086)، والبيهقي (4/ 47). (¬2) ابن ماجه (1529)، وأحمد (3/ 444، 445)، وابن أبي شيبة (3/ 361). (¬3) البيهقي في السنن (4/ 48). (¬4) مالك (1/ 227)، والنسائي (3/ 66)، وابن أبي شيبة (3/ 360)، والبيهقي (4/ 48). (¬5) الترمذي (3/ 336). (¬6) عند النسائي (4/ 85) في الجنائز، باب: الصلاة على القبر. (¬7) النسائي (4/ 69). الإِصابة (7/ 9). (¬8) هكذا ضبط بمهملتين: ترجمته في الإِصابة (2/ 22)، وانظر: الإِصابة (1/ 149) (2/ 22) (3/ 288، 289) (4/ 87)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 198)، أيضًا ورد من طريق أبي سعيد عند ابن ماجه (1533)، وذكره في المجمع (3/ 37) (9/ 365)، وأبو داود (3143)، والطبراني في الكبير (3554، 8163).

الوجه الأول: هذا القبر يحتمل أن يكون قبر سوداء التي كانت تقم المسجد، ويحتمل أن يكون غيره. الثاني: قوله "على قبر" أي على صاحب قبر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو قياس سماعي. وقوله: "بعد ما دفن" أي بعد ما دفن صاحبه، ففي دفن ضمير يعود على المضاف المقدر، إذ لا يجوز أن يقدر ظاهرًا؛ لأن المفعول القائم مقام الفاعل كالفاعل في أنه لا يحذف. الثالث: "القبر" واحد القبور والمقبرة مثلثة الباء، حكاه ابن مالك. ويقال: قبرت الميت أقبُره وأقبِره -بضم الباء وكسرها- قبرًا أي دفنته وأقبرته أمرت بأن يقبر وقوله -تعالى-: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (¬1) أي جعله ممن يقبر، ولم يجعله ملقى للكلاب، وقد تقدم الكلام على هذه المادة في باب الاستطابة في الحديث السادس منه واضحًا، وكأن القبر مما أكرم الله -تعالى- بني آدم، قال -تعالى-: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬2)، أي أوعية واحدها كفت. ويقال: كفاتًا مضمًا تكفت أهلها أي تضمهم أحياء على ظهرها وأمواتًا في بطنها، وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفته لا مقبرة، لضم الموتى. ¬

_ (¬1) سورة عبس: آية 21. (¬2) سورة المرسلات: آيتان 25، 26.

الرابع: في الحديث دليل على جواز الصلاة على القبر بعد دفن الميت، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وموافقيه كالأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وسواء كان صُلي عليه أم لا. ومنع الصلاة عليه أصحاب مالك. والمشهور عندهم كما قال القرطبي (¬1) المنع فيمن صلى عليه، والجواز فيمن لم يُصلَّ عليه. واحتج من منع بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله -تعالى- ينورها بصلاتي عليهم" (¬2) فقد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وغيره لا يعلمه فصار مخصوصًا به، وهذا ليس بشيء، كما قال القرطبي (¬3) من وجوه: أحدها: أنّا وإن لم نعلم ذلك لكنا نظنه ونرجو فضل الله -سبحانه- ودعاء المسلمين لمن صلوا عليه. الثاني: أنّا لا نسلم أن المراد بصلاته عليهم الصلاة المعهودة وإن كان سياق الحديث يدل على إرادته، بل المراد مجرد الدعاء. فيكون دعاؤه بخصوصيته مجردًا عن الصلاة هو الذي يحصل تنويرها به لتحقق استجابته، لا مطلق الصلاة الذي هو المجموع، لكن يقال استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أبلغ منها في غيرها. الثالث: أنه - عليه الصلاة والسلام - قد قال: "من صلى عليه ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1597). (¬2) انظر التعليق ت (1) ص (406). (¬3) المفهم (3/ 1599).

مائة (¬1)، وفي رواية: "أربعون من المسلمين كلهم يشفعون له إلَّا شفعوا فيه" (¬2) رواهما مسلم في صحيحه، فقد أعلمنا أن ذلك يكون من غيره. الرابع: أنه كان يلزم منه أن لا يصلي على ميت بعده لإِمكان الخصوصية فيمن صلى عليه وهو باطل. فإن قيل: الخصوصية في جواز صلاته على القبر [إنما كانت لكونه ولي المؤمنين. وواليهم فيختص جواز الصلاة على القبر] (¬3) بالوالي والولي إذا لم يصليا على الميت، وهو مذهب أبي حنيفة في [الولي] (¬4). فالجواب: أن هذا المذكور خارج عن محل الخلاف كيف وقد صلى عليه - عليه الصلاة والسلام - هو وعدد من أصحابه على القبر ولم ينكر عليهم، لكن هذا يحتاج إلى نقل من حديث آخر، إذ ليس في هذا الحديث ذكر له. وقال المازري المالكي (¬5): من منع الصلاة على القبر فوجهه أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يُصلِّ على قبره. قلت: ذاك من خصائصه كما ستعلمه في الحديث الحادي عشر ¬

_ (¬1) انظر التعليق (2) ص (387) من الحديث الأول. (¬2) انظر التعليق (1) ص (387) من الحديث الأول. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) في الأصل (الأولى)، والتصحيح من ن ب. (¬5) المعلم بفوائد مسلم (1/ 489).

من هذا الباب، قال: ووجه الإِجازة صلاته - عليه الصلاة والسلام - على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد، قال: وقد انفصل عنه بوجوه: أحدها: أنه إنما فعل ذلك لأنه كان وعدها أن يصلي عليها، فصار ذلك كالنذر عليه، وهذا ضعيف، لأن النذر إنما يوفى به إذا كان جائزًا، فلو لم تكن الصلاة على القبر جائزة لما فعلها. ثانيها: أنه فعل ذلك لأنه أمرهم أن يعلموه، وهو الإِمام الذي إليه الصلاة، فلما صلوا دون علمه كان ذلك بمنزلة من دفن بغير صلاة (¬1). قال: وهذا التأويل يسعده القولة الشاذة، التي لمالك، فيمن دفن بغير صلاة. قلت: بل هي المشهورة كما قدمناه عنهم. قال: ويحتمل عندي أن يكون وجه ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - لما صلى على القبر قال عند ذلك: "إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة" (¬2) الحديث. وهذا خاص به، إذ لا يقطع على وجود ذلك في غيره، وهذا قد أسلفناه وأبطلناه. وأجمل النووي -رحمه الله- في "شرحه" (¬3) القول في إبطال ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه أبو داود (3143)، والطبراني في الكبير (3554، 8163) انظر: المجمع (3/ 37) (9/ 365)، وانظر التعليق (8) والتعليق (11). (¬2) انظر تخريج رواية أبي هريرة. ت (1) ص (406). (¬3) انظر: شرح مسلم (7/ 25).

هذه الأوجه فقال: تأول أصحاب مالك الحديث بتأويلات باطلة، لا فائدة في ذكرها لظهور فسادها (¬1). وروى النسائي (¬2) من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه - عليه الصلاة والسلام -: "صلى على قبر تلك المسكينة وأنهم أعادوا الصلاة خلفه". فرع: إلى متى يصلى على القبر عندنا فيه أوجه سبعة: أحدها: إلى ثلاثة أيام فقط، وهو مذهب أبي حنيفة. ثانيها: إلى شهر، وبه قال أحمد. ثالثها: ما دام يبقى منه [شيء في القبر. رابعها: أبدًا، وباقيها ذكرته في "شرح المنهاج" مع بيان ¬

_ (¬1) قال أحمد -رحمنا الله وإياه-: قد رويت الصلاة على القبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستة وجوه حسان كلها. وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (8/ 248): قد ذكرتها كلها بالأسانيد الجياد وذكرت أيضًا ثلاثة أوجه حسان مسندة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فتمت تسعة. وانظر: التمهيد (6/ 262)، فمنها حديث سهل بن حنيف، سبق تخريجه وحديث ابن عباس سبق تخريجه في أول الباب. حديث سعد بن عبادة، انظر: نيل الأوطار (4/ 55). حديث عامر بن ربيعة. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (3/ 362). حديث أبي هريرة، انظر ت (1) ص (406). حديث أنس، انظر: ت (2) ص (405). حديث زيد بن ثابت، انظر: ت (4) ص (405). حديث الحصين بن وحوح، انظر: ت (8) ص (406). حدث أبو أمامة بن ثعلبة، انظر: ت (7) ص (406). (¬2) النسائي (4/ 69).

الراجح منها] (¬1)، وبيان الاضطراب فيه فراجعه منه. ومذهب إسحاق كمذهب أحمد في الغائب وكمذهب أبي حنيفة في الحاضر. وقال أبو عمر (¬2): أجمع من قال بالصلاة على القبر أنه لا يصلى عليه إلَّا بالقرب، وأكثر ما قيل في ذلك شهر. قلت: قد حكينا وجهًا أنه يصلى عليه أبدًا وحديث البخاري (¬3) أنه - صلى الله عليه وسلم -: "صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات". فالمراد أنه دعاء لهم، لأنه عندنا أنه لا يصلى على الشهيد. وعند أبي حنيفة: لا يصلي على القبر بعد ثلاثة أيام، فوجب تأويل الحديث. واختلفت المالكية (¬4) حيث قالوا: تفوت الصلاة عليه فيما يقع به الفوت. فقيل: بإهالة التراب وتسويته، قاله أشهب، وعيسى، وابن وهب. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ذكره في المفهم (3/ 1598). (¬3) البخاري (1344، 3596، 4042، 4085، 6426، 6590)، ومسلم في الفضائل (2296)، وأبو يعلى (1748)، وأحمد (4/ 149، 153، 154)، وأبو داود (3223) في الجنائز، باب: الميت يصلي على قبره بعد حين، والنسائي (4/ 61، 62)، والبيهقي (4/ 14)، وابن حبان (3198، 3199)، والبغوي (3823)، والدارقطني (2/ 78)، والطبراني (17/ 768، 769). (¬4) ذكره في المفهم (3/ 1597، 1598).

وقيل: بخوف تغيره، قاله ابن القاسم وابن حبيب وسحنون. وقيل: بالطول فيمن لم يصل عليه، وقد تقدم الاختلاف في حده. الوجه الخامس: فيه دليل على [أن] (¬1) التكبير في الصلاة على الميت أربع، وقد تقدم ما فيه في الحديث الأول. السادس: فيه [أبيان] (¬2) ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التواضع والرفق بأمته وتفقد أحوالهم والقيام بحقوقهم في الحياة والموت والاهتمام بمصالح آخرتهم ودنياهم. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) زيادة من ن ب د.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 160/ 4/ 32 - عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب يمانية [بيض] (¬1)، لبس فيها قميص ولا عمامة" (¬2). الكلام عليه من عشرة أوجه: والتعريف براويه سلف في الطهارة. الأول: "الثوب" معروف، وقد تقدم الكلام عليه في الحديث السادس من باب جامع وكانت هذه الأثواب من قطن، كما سيأتي. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) البخاري في الفتح (3/ 135) فيه ذكر الأطراف، ومسلم (941)، ومالك (1/ 223)، وأبو داود (3151، 3152) الجنائز، باب: في الكفن، والترمذي (996) في الجنائز، باب: ما جاء في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي (4/ 35، 36)، وابن ماجه (1469)، والبيهقي (3/ 399، 400)، وعبد الرزاق (3/ 421، 422)، وأبو يعلى (4402، 4451، 4495)، وابن حبان (3037)، وأحمد (6/ 40، 192، 204، 214، 165، 118، 132، 93، 231، 264)، والمحلى لابن حزم (5/ 118).

الثاني: قولها "يمانية"، هو بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة، والأصل: يمنيّة بتشديد الياء [لكنهم]، (¬1) عوضوا عن الياء الألف فلا يجتمعان، وحكى سيبويه، والجوهري (¬2) لغة في تشديدها، وفي الصحيحين (¬3) أنها "سَحولية" أيضًا بفتح السين على الأكثر. قال ابن الأعرابي (¬4) وغيره: هي ثياب بيض نقية، لا تكون إلَّا من القطن. وقال ابن وهب: من قطن ليس [بجيد] (¬5). وقال ابن قتيبة: هي ثياب بيض، ولم يخصها بالقطن. وقيل: السَّحولِيَّهُ: المقصورة، كأنها نسبت إلى السَّحولِ، وهو القصار، لأنه يَسْحَلُها، أي: يغسلها. وقال الأزهري (¬6): هي بالفتح مدينة في ناحية اليمن يحمل منها ثياب يقال لها: سَحَولية. وأما السُحُولِيَّة: -بالضم- (¬7)، فهي الثياب البيض. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) انظر: مختار الصحاح (309). (¬3) انظر التعليق ت (2) ص (414). (¬4) انظر: تهذيب اللغة (4/ 306). (¬5) في ن ب د (بالجيد). (¬6) انظر: تهذيب اللغة (4/ 306)، والزاهر (128). (¬7) نسبة إلى الجمع، كما يقال: رجُل سُحُولي: إذا كان يبيع السُحُول =

وقيل: القرية بالضم أيضًا حكاه ابن الأثير في نهايته (¬1) في هذا الحديث. الثالث: "بيض" وزنه في الأصل فعل بضم الفاء مثل حمر، ولكن أبدل من ضمة الياء كسرة كراهة [انقلاب] (¬2) الياء واو. فائدة: قيل: إن أصول الألوان أربعة، الإِبيضاض، والإِحمرار، والإِصفرار، والإِسوداد، وما عدا ذلك من الألوان يتشعب منها. الرابع: قولها: "ليس فيها قميص ولا عمامة" حمله الشافعي والجمهور على أنه ليس في الكفن موجود، فلا [يستحب] (¬3) ذلك. وحمله، مالك وأبو حنيفة: على أنه ليس [معدود] (¬4)، بل يحتمل أن يكون ثلاثة أثواب زيادة على القميص والعمامة ومثله قوله -تعالى-: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (¬5)، فإنه يدل على أن ثم عمدًا إلَّا أنها غير مرئية، والتقدير بغير عمد مرئية لكم، ويحتمل أن ¬

_ = أو يلبُسهَا كثيرًا. انظر: النظم المستعذب (1/ 128)، وغريب الخطابي (1/ 158)، والنهاية (2/ 347)، وتهذيب اللغة (4/ 305، 306). (¬1) النهاية (2/ 347). قال الزمخشري على قوله: "إن القرية اليمانية بضم السين" هذا خلاف ما أروي وأرى في الكتب المضبوطة. اهـ، من الفائق (1/ 159). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) ما أثبت من ن ب د، وفي الأصل (يستحب). (¬4) في ن ب د (بمعدود). (¬5) سورة الرعد: آية 2.

يتناول الصفة والموصوف جميعًا وهو حمل ضعيف لعدم ثبوته في الحديث، بل يتضمن أن القميص الذي غسل فيه - صلى الله عليه وسلم -[(¬1)] نزع عنه عند تكفينه، ولا يتجه غير ذلك؛ لأنه لو كفن فيه مع رطوبته لأفسد الأكفان. وأما حديث ابن عباس في مسند أحمد، وسنن أبي داود، وابن ماجه أنه - عليه الصلاة والسلام -: "كفن في ثلاثة أثواب الحلة ثوبان وقميصه الذي مات فيه (¬2) فهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته تفرد به، ولا يحتج به لضعفه، لا سيما وقد خالف رواية الثقات. واحتجت المالكية: بإعطائه - عليه الصلاة والسلام - القميص لابن أُبي ابن سلول وانفصلوا عن هذا الحديث بأنه قد قيل إنما ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) أحمد (1/ 223)، وابن ماجه (1471)، والحديث ضعفه النوويّ كما في سنن ابن ماجه، وأيضًا الشوكاني في نيل الأوطار (4/ 42). قال أحمد شاكر في تعليقه: إسناده صحيح، المسند (3/ 289)، وأبو داود (عون المعبود) (3137). قال المنذري: وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد أخرج له مسلم في المتابعات، وقد قال: غير واحد لا يحتج بحديثه، قال النووي: هذا الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن أبي زياد مجمع على ضعفه سيما، وقد خالفت روايته رواية الثقات. اهـ. انظر ترجمة يزيد بن أبي زياد في: الضعفاء للعقيلي (4/ 378)، وابن حجر في التقريب (2/ 365)، وميزان الاعتدال (4/ 423).

أعطاه ذلك عوضًا عن القميص الذي كساه للعباس، لأن العباس كان بالمدينة فطلب له الأنصار ثوبًا يكسونه إياه، فلم يجدوا قميصًا يصلح عليه إلَّا قميص عبد الله بن أُبي فكسوه إياه، كما ذكره الخطابي في معالمه (¬1). وقيل: أعطاه [لتطيب] (¬2) قلب ابنه، وهو استدلال عجيب، فإنه لا نزاع في الجواز، بل لا يكره تكفينهما فيه عند الشافعية، خلافًا لأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، فإنه قال بها. وحكى ابن القصار المالكي: أن القميص والعمامة غير مستحب عند مالك ونحوه عن ابن القاسم كقول الشافعي. قال القاضي عياض (¬3): وهذا خلاف ما حكاه مقدمو أصحابنا: ¬

_ (¬1) حديث إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه لعبد الله بن أبي ورد من حديث جابر وفيه ذكر السبب وذلك أن العباس - رضي الله عنه- حينما أسر في بدر طلب له قميص فأعطاه عبد الله بن أبي قميصه، وهو عند البخاري (1270، 1350، 3008، 5795)، ومسلم (3174)، وابن حبان (3174)، والنسائي (4/ 37 - 38)، عبد الله بن عمر، البخاري (1269، 4670، 4672، 5792)، ومسلم (2777)، والنسائي (4/ 36)، وفي التفسير كما في تحفة الأشراف (6/ 173)، والترمذي (3098)، وابن ماجه (1523)، وابن حبان (3175، 3176)، والطبراني (17050)، وفيه أن الإِعطاء كان من طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي، وورد من حديث أسامة بن زيد عند أبي داود (معالم السنن) (2967) للاطلاع على كلام الخطابي (معالم السنن) (4/ 275). (¬2) في ن ب (لطيب). (¬3) إكمال إكمال المعلم (3/ 80).

ابن القاسم وغيره عن مالك من أنه يُعمم ويُقَمّص ويدرج في ثلاثة أثواب فيكون خمسة [على ما] (¬1) قاله بعض شيوخنا، وقد جاء عنه أيضًا لا بأس بالقميص في الكفن، ويكفن معه بثوبين فوقه، فهذا على قوله ثلاثة أثواب. قال اللخمي المالكي: ولا يجاوز في الكفن سبعة فإنه سرف، والاثنان خير من الواحد لأنه أستر، والثلاثة خير من الأربعة، والخمسة خير من الستة، قال: فإن كانت السبعة مدارج من غير قميص، ولا عمامة فحسن. وعند الشافعية: أن الزيادة على الخمسة مكروهة. قالت المالكية (¬2): وعمامة الميت على حسب عمامة الحي. رواه مطرف عن مالك: يجعل منها تحت لحيته ويترك منها قدر الذراع ذؤابة تطرح على وجهه، وكذلك من خمار [المرأة] (¬3)، لأنه بمنزلة العمامة للرجل. الخامس: يؤخذ من الحديث استحباب التكفين في ثلاثة أثواب [وقد] (¬4) ثبت في الصحاح أنها كانت سوابغ. قال العلماء: وأقل الواجب فيه ثوب واحد وما زاد مستحب. وفي وجه عندنا: أن أقله ثلاثة، والأصح أن أقله ثوب ساتر للعورة فقط. ¬

_ (¬1) في الأصل (كما)، وما أثبت من ن ب د والمرجع السابق. (¬2) انظر: المنتقى (2/ 8). (¬3) في المنتقى: الميتة. (¬4) في ن ب ساقطة.

وقيل: يعم جميع البدن. وقال القرطبي في "شرحه": الوتر مستحب عند عامة العلماء، وكلهم مجمعون على أنه ليس فيه حد واجب، وفي هذا التعبير الأخير نظر. السادس: فيه أيضًا إيجاب التكفين وهو إجماع، ومحله أصل التركة فإن لم يكن، ففي بيت المال أو على جماعة المسلمين. السابع: فيه أيضًا كما قال الشيخ تقي الدين: أن الورثة لا يضايق بعضهم بعضًا في الزائد على الواحد الساتر لجميع البدن، ولا يتبع رأي من منع [من الورثة منه] (¬1). الثامن: فيه كراهة القميص (¬2) والعمامة في الأكفان وقد تقدم ما فيه. التاسع: فيه الاقتداء بآثاره - صلى الله عليه وسلم - في حياته وموته. العاشر: فيه استحباب التكفين في الأبيض وهو إجماع، وقد أمر به - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح في جامع الترمذي (¬3) وغيره، والتكفين ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (3/ 1/ 238)، هكذا: "منه من الورثة". (¬2) يدل على إباحة القميص في الكفن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى عبد الله بن أبي قميصه ليكفن فيه. أخرجه البخاري (1270، 1350). (¬3) ولفظه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثابكم وكفنوا فيها موتاكم". انظر: الترمذي (994)، وابن ماجه (1472)، وأبو داود (3778) في الطب، باب: الأمر في الكحل، وفي اللباس، باب: في البياض، =

في غيره جائز، ومن أطلق عليه أنه مكروه فمعناه أنه خلاف الأولى، ولو كانت كلها حبرة لم يكره، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يلبسها يوم الجمع والعيد. ويكره المصبغات وغيرها من ثياب الزينة. ويحرم تكفين الرجل في الحرير بخلاف المرأة، فإنه يكره لها فقط. ذكره مالك وعامة العلماء: التكفين في الحرير مطلقًا. قال ابن المنذر (¬1): ولا أحفظ خلافه. خاتمة: ثبت في صحيح مسلم (¬2) عن عائشة بعد روايتها لهذا الحديث: "أما الحلة فإنما يشبه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسها حتى أكفن فيها نفسي، ثم قال: والله لو رضيها الله -عزَّ وجلَّ- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها"، وفي رواية له: "أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمانية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب سحولية يمانية ليس فيها عمامة ولا قميص". ¬

_ = والبيهقي (3/ 245)، وإسناده صحيح، صححه الحاكم (1/ 354)، ووافقه الذهبي، والبغوي (5/ 314)، وأحمد (3426)، وقد ورد من حديث سمرة بن جندب عند النسائي (4/ 34)، والبيهقي (3/ 402، 403)، وصححه الحاكم (1/ 354، 355)، وأقره الذهبي وابن حجر في الفتح (3/ 108). (¬1) يراجع لما سبق في الأوسط (5/ 352، 362). (¬2) مسلم (941).

وفي كفنه - عليه الصلاة والسلام - روايات أخر ذكرتها في تخريجي لأحاديث الرافعي (¬1)، ولما ذكر الترمذي (¬2) حديث عائشة الذي ذكره المصنف، وقال فيه: حسن صحيح، قال: وقد روي في كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة وحديث عائشة أصح الأحاديث التي رويت في كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (8/ 179، 185، 205، 216) للاطلاع على جميع ما ورد في ذلك. (¬2) الترمذي (3/ 313). (¬3) في ن ب د زيادة (عليه أفضل الصلاة والسلام).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 160/ 5/ 32 - عن أم عطية الأنصارية - رضي الله عنها -، قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك -إن رأيتن ذلك- بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورًا -أو شيئًا من كافور- فإذا فرغتن فآذنني". فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال: "أشعرنها به)، يعني إزاره. وفي رواية: "أو سبعًا". وقال: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها". وأن أم عطية قالت: "وجعلنا رأسها ثلاثة قرون" (¬1). الكلام عليه من ثلاثة وثلاثين وجهًا فأكثر. الأول: أم عطية: سلف التعريف بها في باب صلاة العيدين. ¬

_ (¬1) البخاري (167، 1253، 1254، 1255، 1256، 1257، 1258، 1259، 1260، 1261، 1262، 1263)، ومسلم (939)، والنسائي (28/ 4 - 31)، أبو داود (3142، 3146) في الجنائز: باب كيف غسل الميت، وابن ماجة (1458)، والترمذي (990)، والبيهقي (3/ 389)، وابن الجارود (519، 520)، وابن حبان (3032، 3033)، وأحمد (5/ 84، 85) (6/ 407، 408)، والطبراني (25/ 94، 95، 96) وفي عدة مواضع منه.

الثاني: يقال: "توفي الِإنسان" و"هلك" و"مات" و"قضى" و"درج". ويقال: في غير الآدمي "نفق الحمار" "طفس البرذون" تنبل البعير (¬1) "همدت النار" (¬2) "قرت الجرح" إذا مات الدم فيه. الثالث: ابنته - صلى الله عليه وسلم - هذه هي زينب، هذا هو المشهور الذي رواه مسلم (¬3) في "صحيحه" وذكر القاضي عياض عن بعض أهل السير أنها أم كلثوم. قال النووي (¬4): والصواب الأول وهو قول الجمهور. وقال المنذري: في القول الثاني نظر، لأنها توفيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر، وفي هذا النظر الذي ذكره نظر، بل هذه رقية أما أم كلثوم فتوفيت سنة تسع، كما جزم به أبو عمر [وغيره (¬5) ¬

_ (¬1) لسان العرب (8/ 172)، والمنتخب للهنائي (1/ 344). (¬2) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح. (¬3) مسلم (939). (¬4) شرح مسلم (7/ 3). (¬5) قال في فتح الباري (3/ 128) على قوله: "ابنته" لم تقع في شيء من روايات البخاري مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع والدة أمامة التي تقدم ذكرها في الصلاة، وهي أكبر بنات النبي -صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها فيما حكاه الطبري في الذيل في أول سنة ثمان، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم في طريق عاصم الأحول عن حفصة عن أم عطية قالت: "لما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اغسلنها" فذكر الحدث، ولم أرها في شيء من الطرق عن حفصة ولا عن محمد مسماة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إلَّا في رواية عاصم هذه، وقد خولف في ذلك فحكى ابن التين عن الداودي الشارح أنه جزم بأن البنت المذكورة أم كلثوم زوج عثمان ولم يذكر مستنده، وتعقبه المنذري بأن أم كلثوم توفيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر فلم يشهدها، وهو غلط منه فإن التي توفيت حينئذٍ رقية، وعزاه النووي تبعًا لعياض لبعض أهل السير، وهو قصور شديد فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب ولفظه: "دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم"، وهذا الإِسناد على شرط الشيخين، وفيه نظر سيأتي في "باب كيف الإِشعار" وكذا وقع في "المبهمات" لابن بشكوال من طريق الأوزاعي عن محمَّد بن سيرين عن أم عطية قالت: "كنت فيمن غسل أم كلثوم" الحديث، وقرأت بخط مغلطاي زعم الترمذي أنها أم كلثوم وفيه نظر كذا قال، ولم أر في الترمذي شيئًا من ذلك، وقد روى الدولابي في الذرية الطاهرة من طريق أبي الرجال عن عمرة أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث فيمكن دعوى ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما جميعًا، فقد جزم ابن عبد البر -رحمه الله- في ترجمتها بأنها كانت غاسلة ووقع لي من تسمية النسوة اللاتي حضرن معها ثلاث غيرها، ففي الذرية الطاهرة أيضًا من طريق أسماء بنت عميس أنها كانت ممن غسلها قالت ومعنا صفية بنت عبد المطلب، ولأبي داود من حديث ليلى بنت قانف بقاف ونون وفاء الثقفية: قالت كنت فيمن غسلها. وروى الطبراني من حديث أم سليم شيئًا يومئ إلى أنها حضرت ذلك أيضًا، وسيأتي قول ابن سيرين: ولا أدري أي بناته: أي في باب كيف الإِشعار من الصحيح، وهذا يدل أنها تسميتها في رواية ابن ماجه وغيره وهو دون ابن سيرين. اهـ. والحديث في تكفينها في خمسة أثواب لا يصح إسناده، لأن فيه نوح بن =

] (¬1). قال: وشهدت أم عطية غسلها، أي كما أخرجه أبو داود من حديث ليلى بنت قانف بنون. قلت: وأم عطية كانت غاسلة للميتات، كما أسلفناه في ترجمتها، فلعلها غسلت الكل. وقال ابن دحية في المولد: وهم ابن فارس حيث قال: إن زواج أم كلثوم بعد رقية. فائدة: له - صلى الله عليه وسلم - ثمانية من الولد أربعة ذكرر القاسم وبه كان يكنى - صلى الله عليه وسلم - عاش سنتين ومات قبل الوحي، والطيب، ويقال: له عبد الله ولد بعد الوحي، والطاهر: ولد بعد الوحي، وقيل: إنه الطيب، وإبراهيم من مارية ولد سنة ثمان، ومات سنة [عشر] (¬2)، [وأربع بنات: زينب هذه، ولدت سنة ثلاثين من الفيل، وماتت سنة ثمان] (¬3) ورقية ولدت سنة ثلاث وثلاثين من الفيل بعد زينب وماتت بالمدينة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر، ولأجل ذلك تخلف عثمان عن بدر، وأم كلثوم قيل: ولدت قبل رقية، وقبل فاطمة، وماتت سنة تسع، وفاطمة ولدت وقريش تبني البيت قبل النبوة بخمس سنين [سنة إحدى وأربعين من الفيل] (¬4)، ¬

_ = حكيم الثقفي وهر مجهول، كما قاله الحافظ ابن حجر وغيره وفيه علة أخرى بينها الزيلعي في نصب الراية (2/ 258)، وأحكام الجنائز للألباني (65)، وأبو داود (3157). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (ثمان). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) هكذا في المخطوطة لأنها بالتاريخ توافق سنة خمس وثلاثين من عام الفيل على القول أن ولادته - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل.

وهي أصغر بناته، وماتت بعده لستة أشهر، وقيل: غير ذلك، وكلهم من خديجة إلَّا إبراهيم، فإنه من مارية التي أهداها له المقوقس من حفن كورة أنصنا (¬1) وأكبر بنيه القاسم، ثم الطيب والطاهر. قاله ابن هشام، قال: وأكبر بناته رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم فاطمة. قلت: وقيل أكبر بناته أم كلثوم، وقيل: زينب كما أسلفته، والقاسم والطيب والطاهر ماتوا قديمًا. وأما بناته فهاجرن معه - صلى الله عليه وسلم. الرابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا" معناه وترًا وليكن ثلاثًا فإن احتجتن إلى زيادة الإِنقاء فليكن خمسًا. الخامس والسادس: استدل بقوله: "اغسلنها" على وجوب الغسل. وبقوله: "ثلاثًا أو خمسًا" على أن الإِيتار مطلوب في غسل الميت، فإن حصل تعميمه وإنقاؤه بواحدة كانت الثلاث مأمورًا بها ندبًا وإن [لم] (¬2) يحصل ذلك بواحدة وحصل بالثلاث كانت الثلاث ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 4، 206). قال ابن الأثير: "حفن" هي بفتح الحاء وسكون الفاء النون قرية من صعيد مصر، ولها ذكر من حديث الحسن بن علي مع معاوية. اهـ وحديثه الذي أشار إليه هو أن الحسن خاطب معاوية في أن يضع الخراج عن أهل حفن حفظًا لوصية رسول الله بهم ورعاية لحرمة الصهر. "أنصنا": بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الصاد: مدينة في صعيد مصر ينسب إليها كثير من أهل العلم. (¬2) زيادة من ن ب د.

واجبة وندب الخمس. وقد اختلف أصحاب الأصول في جواز إرادة المعنيين المختلفين بصيغة واحدة فقوله: "اغسلنها" صيغة أمر بالغسل، وقوله: "ثلاثًا" غير مستقل بنفسه، فإذا حصل المقصود بواحدة كان وقوله: "ثلاثًا أو خمسًا" غير داخل في صيغة الأمر بأصل الغسل، فيكون المراد به الاستحباب، فالوجوب مراد بالنسبة إلى أصل الغسل والاستحباب بالنسبة إلى الإِيتار عند عدم الحاجة إلى الزيادة على الواحدة أو الثلاث وقد رواه البخاري بلفظ آخر "اغسلنها، وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأتين ذلك" ولم يذكر الواحدة لخروج الحديث على الغالب في الإِنقاء والتعميم، لا على التحديد بعدد، ولهذا جعله - صلى الله عليه وسلم - مفوضًا إليهن على حسب الحاجة الشرعية، لا مجردة بحسب التشهي، فإن الأمر الوارد من الشرع يصان عن التشهي خصوصًا إذا كان موصوفًا بصفة لوجود الإِسراف في التشهي، فهو من قبيل الإِسراف في ماء الطهارة. ووقع لبعض الشراح من المالكية: أنه إذا زيد على ذلك فالانتهاء إلى السبع إذ لا يحتاج إلى الزيادة عليها في الأغلب، وهذا ذهول منه على الرواية التي أوردناها "أو سبعًا أو أكثر من ذلك". ووقع للشيخ تقي الدين (¬1) نحوه، فإنه قال وإنهاؤه الزيادة إلى سبعة -في بعض الروايات- لأن الغالب أنه لا يحتاج إلى الزيادة عليها فاستفد ما ذكرته لك. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 240).

وقال ابن عبد البر (¬1): لا نعلم أحدًا من العلماء قال بمجاوزة سبع غسلات. السابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أو أكثر من ذلك" إلى آخره هو بكسر الكاف من ذلك لأن الخطاب لمؤنث وإن كان المشار إليه مذكر إذ: القاعدة العربية: أن يجعل أول كلام لمن يسأل عنه وآخره لمن يخاطبه، فيقول: كيف ذلكَ الرجل يا امرأة، وكيف تلكَ المرأة يا رجل، وأتى - عليه الصلاة والسلام - بالنون الثقيلة لجميع النساء من حيث إن الغسل لا يتعاطاه إلَّا جماعة منهن لكن نظرًا للمصلحة الشرعية قد يكون لواحدة منهن فحسن جمعهن في الرواية وإفراد أم عطية في الخطاب. الثامن: معنى قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إن رأيتن ذلك"، أي إن رأيتن الزيادة في العدد وعند [(¬2)]، الاحتياج وليس معناه التخيير والتفويض إلى شهوتهن كما سلف. وقيل: معناه إن رأيتن الغَسل، وما أَبعدهُ وبنى المالكية على ذلك منهم المازري (¬3) الخلاف عندهم في وجوب الغسل فمن قال بالثاني قال: إن غسله سنَّة، ومن قال بالأول قال: إنه واجب وهذا مبني على الخلاف في أن التقييد والاستثناء والشرط إذا تعقب جملًا هل يعود إلى جميعها إلَّا ما أخرجه الدليل أو إلى أقربهما. ¬

_ (¬1) التمهيد (1/ 373). (¬2) في ن ب زيادة (معنى قوله - عليه السلام -). (¬3) المعلم (1/ 486).

وتعجب بعضهم من النووي (¬1) في [نقله] (¬2) الإِجماع على أن غسل الميت فرض كفاية. فإن الخلاف فيه عندهم حكاه المازري (¬3) وغيره، وقال القرطبي (¬4): الأولى أنه سُنَّة. فرع: ليس عند مالك وبعض أصحابه في غسل الميت تحديد بعدد معين، ولكن ينقى الميت ولا يقتصر مع ذلك على دون الثلاث، فإن احتيج إلى الزيادة استحب الوتر، وليس لذلك عنده حد. قال القاضي عياض (¬5): وإلى هذا يرجع قول الشافعي وغيره من العلماء وكذا إذا احتاج الغاسل إلى أكثر من ذلك لقوله: "إن رأيتن ذلك"، ونحا أحمد وإسحاق إلى أن لا يزاد على سبع، والرواية التي أسلفناها ترد ذلك. التاسع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "بماء وسدر" قد يوهم هذا اللفظ أن الماء المختلط بالسدر يجوز التطهير به من غير ماء مطلق، وليس هو ظاهر في امتزاج السدر بالماء حال التطهير، بل يحتمل اجتماعهما في الغسل من غير مزج، ويكون أحدهما واردًا على الآخر، فيزول توهم جواز ذلك .. (¬6) وقد احتج به ابن شعبان ومن يجيز غسله بماء الورد وبالماء المضاف. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (7/ 3). (¬2) في ن ب (نقل). (¬3) انظر: المعلم بفوائد مسلم (1/ 486). (¬4) المفهم (3/ 1573). (¬5) إكمال إكمال المعلم (3/ 76). (¬6) ما بين النقطتين ذكره في المفهم (3/ 1574).

وقال ابن [الفرضي (¬1)] (¬2): وإنما يكره غسل الميت بماء الورد ونحوه من ناحية السرف، وإلَّا فهو جائز، إذ لا يغسل للتطهر، بل هو إكرام للقاء الملكين. والجمهور: على أن غسله بذلك لا يجوز وإن ذلك لا يفهم من الحديث. قال القاضي عياض (¬3): ليس قولهم: "بماء وسدر"، أن يلقي ورقات من السدر في الماء عند كافتهم، بل أنكروه ونسبوا فعله للعامة. وقد ذكر الداوودي نحوًا منه قال: يسحق السدر ويرمى في الماء ولكنه عند جمهورهم أن يغسل أولًا بالماء القراح فتتم الطهارة، ثم الثانية بالماء والسدر للتنظيف، ثم الثالثة بالماء والكافور للتطيب والتخفيف، وهذا حقيقة مذهب مالك (¬4)، وحكاه ابن حبيب، وقال: يبدأ بالماء والسدر ليقع التنظيف أولًا، ثم بالماء القراح ثانيًا. وقال أبو قلابة مثله لكنه قال: ويحسب هذا غسلة واحدة، وهذا جارٍ على قياسات الطهارة. ¬

_ (¬1) انظر: الفتح (3/ 26). (¬2) في ن ب (الرضي). (¬3) إكمال إكمال المعلم (3/ 76). (¬4) انظر: الاستذكار (8/ 193). قال ابن العربي -رحمنا الله وإياه-: من قال الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر أو العكس والثالثة بالماء والكافور فليس هو في لفظ الحديث. اهـ. وكأن قائله أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصرف المطلق لأنه المطهر في الحقيقة، وأما المضاف فلا. اهـ، من الفتح (3/ 126).

[وذهب] (¬1) أحمد (¬2): إلى أن الغسلات كلها تكون بالسدر على ظاهر الحديث. وفي حديث (¬3) آخر "كلهن بالماء والسدر"، وقد يكون قولهم غسله بالماء والسدر ليس بأن يلقي السدر فيه كما قالوا، ولكنه يخضخض السدر بالماء حتى تخرج رغوته للغسل ثم يغسل به الميت ويصب الماء من فوق ذلك للتطهير وأظن هذا مراد الداوودي كسائر ما يزال من النجاسات والأقذار اللزجة بالغاسول فلا يكون غسلًا مضافًا. قلت: والأصح عند الشافعية أن غسلة السدر لا تحسب من الثلاث، لأنه يزيل طهورية الماء بتفاحشه، ولا يحسب ما بعدها أيضًا، لأن الماء إذا أصاب المحل اختلط بما عليه من السدر، فالمحسوب ما يصب عليه من الماء القراح بعد زوال السدر، فيغسل بعد زوال السدر ثلاثًا بالقراح (¬4). تنبيه: يقوم مقام السدر الخطمي [أو غيره مما يقوم مقامه كالغاسول عند كافة العلماء، كما حكاه القرطبي (¬5). قال: وروي عن عائشة (¬6) في غسل رأس الميت بالحظمي ¬

_ (¬1) في ن ب (وهذب). (¬2) انظر: الاستذكار (8/ 139). (¬3) من رواية ابن عباس ولفظه: "بماء وسدر". انظر: الاستذكار (8/ 193)، وروى حديثًا آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غُسِّل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر. (¬4) انظر: فتح الباري (3/ 126). (¬5) المفهم (3/ 1574). (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 244)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 331)، =

نهي] (¬1). قال الماوردي (¬2) من أصحابنا: إن السدر أولى لأنه أمسك للبدن. العاشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "واجعلن في الأخيرة كافورًا" أي [في] (¬3) المرة الأخيرة والحكمة في الكافور لشدة تبريده وتجفيفه جسد الحيت وحفظه له عن سرعة التغير والفساد ولتطيب رائحته للمصلين ومن يحضره [من] (¬4) الملائكة، ولعل ذلك السبب في جعله في الأخيرة فإنه لو جعل في غيرها من الغسلات قبلها لأذهبه، فلا يحصل المقصود من ذلك، مع ما فيه من إكرام الميت وغيره مما أسلفناه. الحادي عشر: انفرد أبو حنيفة (¬5) فقال: لا يستحب استعمال الكافور. وخالفه الثلاثة والجمهور. وهذا الحديث حجة عليه. وروي عن النخعي (¬6): إنما ذلك في الحنوط لا في الغسل. ¬

_ = ولفظ عن الأسود قال: "سألت عائشة رضي الله عنها أيغسل رأس الميت بالخطمي؟ نقالت: لا تعفنوا أمواتكم"، وكرهه ابن سيرين. انظر المراجع السابقة. ولكن إذا لم يوجد سدر فيوضع مكانه. كما قاله ابن المنذر في الأوسط. (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) الحاوي (3/ 172). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) انظر: الاستذكار (8/ 193). (¬6) الاستذكار (8/ 193)، ومصنف عبد الرزاق (3/ 398، 419)، وآثار محمَّد الحسن (44)، وفتح الباري (3/ 129).

وعزاه القرطبي (¬1) إلى الأوزاعي. ويمكن أن يتأول من قال هذا في الأخيرة، أي بعد تمامها والظاهر بخلافه. الثاني عشر: فيه دلالة على استحباب الطيب وخصوصًا الكافور، كما قدمناه، فإن لم يجده قام غيره من الطيب قامه. الثالث عشر: نص أصحابنا على أنه يجعل في كل غسلة قليل من كافور. وفي الأخيرة آكد، واستدلوا بهذا الحديث، وخصه في المهذب بالثالثة والجرجاني بالثانية وهما غريبان. فرعان: الأول: يستثنى من استعمال الكافور في غسله المحرم للحديث الآتي بعده. الثاني: ليكن الكافور قدرًا لا يسلب الطهورية فإن كان صُلبًا وتفاحش التغير به فالأظهر عندنا أنه لا يؤثر في طهورية غير الميت. وأما فيه فقد نص عليه وتابعوه. وقال القاضي أبو الطيب: ويغير الكافور تغير مجاورة لا مخالطة. وقال السرخسي في "الأمالي" من الأصحاب. من قال لا يحسب إذا تغير بالكافور، وتأول الحديث، وكلام الشافعي على كافور يسير لا يفحش تغيره. ومنهم من حمله: على ما إذا جعل الكافور في البدن، ثم صب الماء القراح عليه. ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1574).

ومنهم من قال: هو على إطلاقه، ولا يحسب ذلك عن الفرض. ومنهم من قال: يحسب عنه في غسل الميت خاصة، لأن مقصوده التنظيف. الرابع عشر: قوله: "كافورًا أو شيئًا من كافور"، الظاهر أن هذا شك من الراوي: هل قال - عليه الصلاة والسلام - هذا أو هذا؟ فتأمله. الخامس عشر: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإذا فرغتن فآذنني" أي أعلمنني، ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم إذا علم أمرًا يتعلق بالمأمورية لا يمكن الائتمار به إلَّا بالفعل على صورة أن يقيد الأمر والتعليم بغاية لتوضع موضعه، ويؤخذ منه أيضًا وهو الوجه. السادس عشر: أنه ينبغي للمأمور التقيد بالأمر [فورًا، (¬1) وغاية. السابع عشر: "الحقو" -بكسر الحاء وفتحها- لغتان، والمعروف من كلام العرب الثاني، وقالته هذيل بالأول، كما أفاده القرطبي (¬2)، وهو الإِزار والأصل فيه الخصر معقد الأزار. وسعي الإِزار: مجازًا لملازمته إياه، وهو من باب تسمية الشيء بما يلازمه، كما قالوا للمزادة راوية، والراوية: اسم للجمل الحامل لها. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) المفهم (3/ 1575).

وجمعه: أحق مثل دلو. وتجمع أيضًا: على أحقّاء كأدلاء. وفي الكثير: حقي [كدلي] (¬1). وأصله: حقووٌ فأداه التصريف إلى حقي. الثامن عشر: معنى "أشعرنها" اجعلنه شعارًا لها. والشعار: ما يلي الجسد، والدثار: ما فوقه، سمى شعارًا لأنه يلي شعر الجسد. التاسع عشر: الحكمة في إشعارها تبريكها بآثاره - عليه الصلاة والسلام - ففيه التبرك بآثار الصالحين، ولباسهم (¬2). العشرون: فيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل. الحادي والعشرون: اختلف في صفة إشعارها إياه، كما قال القاضي (¬3). فقيل: يجعل لها مئزارًا وهو قول ابن وهب (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) قد سبق غير مرة في حاشية هذا الكتاب أن التبرك بآثار الصالحين غير جائز وإنما يجوز ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لما جعل الله في جسده وما ماسه من البركة، وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين: أحدهما: أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يفعلوا ذلك مع غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. الثاني: أن فعل ذلك مع غيره من وسائل الشرك فوجب منعه، والله أعلم. اهـ، من تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز على الفتح (3/ 130). (¬3) إكمال إكمال المعلم (3/ 77). (¬4) انظر: الاستذكار (8/ 196).

وقيل: لا تؤزر ولكن تلف فيه، وهو قول ابن القاسم وجماعة من العلماء. قال ابن سيرين (¬1): المرأة لا تشعر ولا تؤزر. وقال ابن جريج (¬2): أشعرنها ألففنها. وقال النخعي (¬3): الحقو: فوق الدرع. وقال ابن علية (¬4): الحقو: النطاق سبتية طويلة يجمع بها فخذاها تحصينًا لها ثم يلف على عجزها (¬5). الثاني والعشرون: "الميامن" جمع ميمنة وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالبدأة بها على الأصل في استحباب البدأة بالميامن في الطهارة وغيرها من العبادات تيمنًا بلفظ اليمين، وتفاؤلًا بأن يكون من أصحاب اليمين. الثالث والعشرون: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ومواضع الوضوء منها" هذا أمر بإكرام مواضع الطهارة من بدنه أيضًا كما أمر بإكرام الميامن، والمعنى فيه شرفها على البدن، فإن البدأة بالشيء يقتضي الاهتمام به، لكن إذا فعل ذلك هل هو وضوء حقيقة أو هو جزء من الغسل خصت به المذكورات من الميامن ومواضع الوضوء تشريفًا؟ فيه كل ذلك محتمل. ¬

_ (¬1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (3/ 403)، والاستذكار (8/ 196). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 403)، والاستذكار (8/ 196). (¬3) انظر: الاستذكار (8/ 197). (¬4) انظر: الاستذكار (8/ 197). (¬5) ذكر ما سبق في المفهم (3/ 1575).

ووضوء الميت مستحب عند الشافعي ومالك والجمهور خلافًا لأبي حنيفة، وهو عند الشافعية في أول الغسل كما في وضوء الجنب. واختلفت المالكية: متى يوضأ؟ فقيل: عند المرة الأولى. وقيل: عند الثانية. وقيل: فيهما حكاهن القرطبي. الرابع والعشرون: استدل بعضهم بهذا الحديث على أن النساء أحق بغسل الميتة من زوجها، وأنه لا يغسلها إلَّا عند عدمهن، وهو مذهب الحسن (¬1). وقد يمنع من ذلك حتى يتحقق أن زوج زينب كان حاضرًا إذ ذاك، لا مانع له من غسلها، وأنه لم يفوض الأمر إلى النسوة. وجمهور العلماء: على خلافه وأنه أحق. وذهب الشعبي والثوري وأبو حنيفة: إلى أنه لا يغسلها جملة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (8/ 197). (¬2) فقالوا: تُغسلُهُ ولا يُغسلُها لأنه لي في عدةٍ منها. أجيب عنه: بأن هذا لا حجة فيه لأنها في حكم الزوجية ليس في عدة منها بدليل الموارثة، لا في الحكم المبتوتة، واعتوا أيضًا: بأن لزوجها أن يتزوج أختها، فلذلك لا يُغسلها. وهذا لا ينتقد عليهم بغسلها له. اهـ، من الاستذكار (8/ 199).

وقال سحنون: الأولياء أحق (¬1). واختلف أصحابنا في أن النساء أحق بغسل الميتة من زوجها على وجهين. أصحهما: نعم لأنهن أليق. وأجمع العلماء (¬2): على أن [لها] (¬3) غسل زوجها، وإن كان فيه رواية عن أحمد، والأصح أنها تغسله أبدًا، ومحل الخوض في ذلك كتب الفقه، وقد بسطناه فيها ولله الحمد. الخامس والعشرون: استدل بعضهم بهذا الحديث على أنه لا يجب الغسل من غسل الميت من حيث إنه موضع تعليم (¬4)، فلو وجب لذكره، وعدم الوجوب هو الصحيح من مذهب الشافعي (¬5) ورواية المدنيين عن مالك (¬6) وهو قول أبي حنيفة (¬7) وأحمد ¬

_ = والصحيح أن للرجل أن يغسل زوجته كما أن لها أن تغسله والأحاديث في ذلك كثيرة منها حديث على حيث غسل فاطمه وحديث أسماه بنت عميس حيث غسلت أبا بكر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "ما ضرك لو مت قبلي، وغسلتك وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك" الحديث. (¬1) ما سبق ذكره في المفهم (3/ 1578). (¬2) قال ابن عبد البر: ولم يختلف الفقهاء في جواز غسل المرأة لزوجها. أهـ. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) ساق هذا المبحث من المفهم (3/ 1578). (¬5) انظر: الاستذكار (8/ 201). (¬6) انظر: الاستذكار (8/ 201). (¬7) انظر: الاستذكار (8/ 201).

والجمهور. لكن قال الخطابي (¬1): لا أعلم أحدًا قال بوجوبه. وأوجب أحمد إسحاق: الوضوء منه. والجمهور: على استحبابه. والحديث المروي فيه من طريق أبي هريرة (¬2): "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن مسه فليتوضأ"، ¬

_ (¬1) انظر: معالم السنن (4/ 305). (¬2) الترمذي (993)، وابن ماجه (1463)، وأبو داود (3161، 3162)، وأحمد (2/ 280، 433، 454، 472)، والبيهقي (1/ 300، 301)، والطيالسي (2314)، وابن حبان (1161)، وابن أبي شيبة (3/ 269)، وابن حزم في المحلى (1/ 250) (2/ 23) وعبد الرزاق (6110)، والبغوي (339)، وقد حسن الحديث الترمذي وصححه ابن القطان، وقال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 137) وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنًا. قال البغوي في شرح السنَّة (2/ 169): واختلف أهل العلم في الغُسْل من غَسْل الميت، فدهب بعضهم إلى وجوبه، وذهب أكثرهم إلى أنه غير واجب، قال ابن عمر وابن عباس: ليس على غاسل الميت غُسل، وروي عن عبد الله بن أبي بكر، عن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر أنها غسلت أبا بكر حين توفي، فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة، وهذا يوم شديد البرد، فهل عليّ من غسل؟ فقالوا: لا، وقال النخعي وأحمد وإسحاق: يتوضأ غاسل الميت، وقال مالك والشافعي: يستحب له الغسل ولا يجب، ويؤيد قول من حمل الأمر في الحديث على الاستحباب ما رواه الخطيب في تاريخه (5/ 424) عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل. وقال ابن حجر في الفتح (3/ 126): وقيل تعلق هذا الأثر وما بعده بالترجمة من جهة أن المصنف يرى أن المؤمن لا ينجس بالموت وأن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = غسله إنما هو تعبد لأنه لو كان نجسًا لم يطهره الماء والسدر ولا الماء وحده ولو كان نجسًا ما مسه ابن عمر ولغسل ما مسه من أعضائه، وكأنه أشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود من طريق عمرو بن عمير مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" ورواته ثقات إلَّا عمر بن عمير فليس بمعروف، وروى الترمذي وابن حبان من طريق سهيل. بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة نحوه، وهو معلول لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: الصواب عن أبي هريرة موقوف، وقال أبو داود بعد تخريجه: هذا منسوخ، ولم يبين ناسخه، وقال الذهلي فيما حكاه الحاكم في تاريخه ليس فيمن غسل ميتًا حديث ثابت. وقال أيضًا (3/ 135): واستدل به على أن الغسل من غسل الميت ليس بواجب لأنه موضع تعليم ولم يأمر به، وفيه نظر لاحتمال أن يكون شرع بعد هذه الواقعة، وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوبه، وكأنه ما درى أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، والخلاف فيه ثابت عند المالكية وصار إليه بعض الشافعية أيضًا، وقال ابن بزيزة الظاهر أنه مستحب، والحكمة فيه تتعلق بالميت، لأن الغاسل إذا علم أنه سيغتسل لم يتحفظ من شيء يصيبه من أثر الغسل فيبالغ في تنظيف الميت وهو مطمئن، ويحتمل أن يتعلق بالغاسل ليكون عند فراغه على يقين من طهارة جسده مما لعله أن يكون أصابه من رشاش ونحوه. انتهى. انظر كلام ابن عبد البر على الحديث في الاستذكار (8/ 202) حيث ضعفه وأورد حديثًا آخر عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يأمر بالغسل من الحجامة والجنابة وغسل الميت ويوم عرفة". قال: فمما لا يحتج به ولا يقوم عليه ثم أورد رواية عنها أنها سئلت عن الغسل من غسل الميت، فقالت: لا قال: فدل على بطلان هذا الحديث لأنه لو صح =

ضعيف بالاتفاق، كذا قاله النووي (¬1) في "شرح مسلم"، وتبعه بعض شراح هذا الكتاب، وليس بجيد، فقد حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان وابن السكن. وقال البخاري: الأشبه وقفه على أبي هريرة، ويحمل على الاستحباب بدليل حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه فإن ميتكم ليس بنجس" رواه الحاكم (¬2) في مستدركه، وقال: صحيح على شرط البخاري، ثم قال: وفيه رد لحديث أبي هريرة الذي أسلفناه، وليس كما قال، بل يعمل بهما، فيستحب الغسل. فإذا قلنا بالوجوب. فقيل: هو تعبد. وقيل: محمول على نجاسة بدن الآدمي بالموت وهو قول بعضهم. ¬

_ = ما خالفته. إلى أن قال: ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه ولا أوجبها عليه رسوله من وجه يشهد به عليه ولا اتفق العلماء على إيجابها. اهـ. قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في تعليقه على الفتح (3/ 135): وقال بعضهم: "إن الحكمة في ذلك -والله أعلم- جبر ما يحصل للغاسل من الضعف بسبب مشاهدة الميت وذكر الموت، وما بعده، وهو معنى مناسب"، والله أعلم. (¬1) انظر: شرح مسلم (7/ 6). (¬2) الحاكم (1/ 386)، ووافقه الذهبي، والبيهقي (3/ 398)، وسنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر، انظر الفتح (3/ 127).

وقيل: المعنى فيه حرمة الميت حكاه الماوردي. السادس والعشرون: [قولها] (¬1) "واجعلن رأسها ثلاثة قرون" أي ثلاث ضفائر ضفيرتين وناصيتها، كما جاء مبينًا في رواية أخرى (¬2) وتضمن ذلك التسريح والضفر بناء على أن الغالب في أن الضفر بعد التسريح وإن كان هذا اللفظ لا يشعر به صريحًا، وقد جاء في رواية في الصحيح (¬3): "فمشطناها ثلاثة قرون" وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي. وقال الأوزاعي والكوفيون: لا يستحب المشط ولا الضفر بل يرسل الشعر على جانبيها مفرقًا. ونقل القرطبي (¬4): عن الأوزاعي أنه لا يجب المشط وما نقلناه عن الأوزاعي (¬5) تبعنا فيه النووي (¬6) -رحمه الله-[وقال الأوزاعي ولم يعرف [ابن] (¬7) القاسم الضفر] (¬8) وقال: يلف. وقال بعض الشافعية: فيما حكاه الشيخ (¬9) تقي الدين: تجعل ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) البخاري (1263). (¬3) البخاري (1254). (¬4) المفهم (3/ 1576) مع ما سبق ساقه منه. (¬5) في ن ب زيادة (أنه لا يجب). (¬6) انظر: شرح مسلم (7/ 4). (¬7) في الأصل (أبي)، والتصحيح من ن د. والمفهم وقوله: "وقال الأوزاعي" غير موجودة في المفهم. (¬8) في ن ب ساقطة. (¬9) إحكام الأحكام (3/ 343).

الثلاث خلف ظهرها، قال: وروي في ذلك حديثًا أثبت استحبابه به، وهو ثابت من فعل من غسل بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي ك ما أخرجه البخاري من حديث عائشة (¬1). وقال ابن الجوزي: إنه السنَّة. قال القاضي عياض: ومن حجة من منع الاستحباب إنه ليس في الحديث معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعل أم عطية فيجعل سنَّة وحجة. ¬

_ (¬1) قوله من حديث عائشة: هذا سبق قلم من المؤلف -رحمنا الله وإياه- فالذي في صحيح البخاري من حديث أم عطية (1263). قال الصنعاني في الحاشية (3/ 243): أقول: هو في بعض طرق الحديث عند البخاري. وقال الحافظ ابن حجر (3/ 134): قال ابن دقيق العيد: فيه استحباب تسريح المرأة وتضفيرها، وزاد بعض الشافعية أن تجعل الثلاث خلف ظهرها، وأورد فيه حديثًا غريبًا، كذا قال وهو مما يتعجب منه مع كون الزيادة في صحيح البخاري، وقد توبع راويها عليها كما تراه. اهـ. ولم أجد في شيء من نسخ العمدة لفظًا غريبًا الذي هو موضع تعجب الحافظ، فتنظر نسخ شرح العمدة، واللفظ كما في الأحكام (2/ 166)، وروي في ذلك حديثًا أثبت به الاستحباب لذلك وهو غريب، فتكون لفظة غريبة موجودة ... الخ. وقوله: "وهو ثابت من فعل من غسّل بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد هذه الرواية فإنها صرحت أم عطية فإن في حديثها الذي في البخاري "فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها" فالمنازع نازع في ثبوت حديث مرفوع في إلقاء القرون خلفها وهذا الإِلقاء لم يأت به حديث مرفوع، وقد بوب له البخاري (3/ 134) فقال: "باب يلقى شعر المرأة خلفها" وذكر فيه قولة أم عطية الذي قدمناه، وقولها: "فألقيناها خلفها" ليس بمرفوع، وادعاء أنه علمه - صلى الله عليه وسلم - وأقرها بعيد، وإذا عرفت هذا فلا وجه لتعجب الحافظ.

قال النووي (¬1): [الظاهر اطلاعه عليه واستبيانه فيه كما في غيرها. واعترض عليه الفاكهي فقال: هذا] (¬2) الظاهر عنده غير ظاهر. قلت: عجيب منه ومن القاضي عياض ففي صحيح ابن حبان (¬3) أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك ولفظ روايته: "واجعلن لها ثلاثة قرون" وترجم عليه ذكر البيان بأن أم عطية إنما مشطت قرونها بأمر المصطفى لا من تلقاء نفسها، فاستفد ذلك، ولم يطلع القرطبي أيضًا على هذه الرواية فادعى أن ذلك لم يرد مرفوعًا. السابع والعشرون: من فوائد الحديث أن العالم [لا] (¬4) يجب عليه الابتداء بتعليم العلم إذا علم أن العامل يجهل ذلك العلم أو يقصر في العمل به. الثامن والعشرون: ومنها شرعية الإِيتار في غسل الميت على حسب الحاجة كما سلف. التاسع والعشرون: ومنها تفويض الحاجة في ذلك إلى العامل على حسب المصلحة الشرعية من غير إسراف كما سلف أيضًا. الثلاثون: ومنها استحباب السدر في غسل الميت كما سلف وهو متفق على استحبابه ويكون في المرة الواجبة، وقيل: يجوز فيهما. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (7/ 4). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) ابن حبان (3033)، والطبرانى (25/ 92، 95، 98)، وإسناده صحيح. (¬4) في ن ب د ساقطة.

الحادي والثلاثون: منها استحباب شيء من الكافور في الغسلة الأخيرة كما سلف، وأن الحديث حجة على من خالف. الثاني والثلاثون: منها تبريك الرجل الصالح أقاربه وأصحابه شيء من آثاره خصوصًا في الموت وأسبابه وقبول ذلك منه وهذا قدمته (¬1). الثالث والثلاثون: استحباب مشط رأس الميت وضفره، وقد علمت ما فيه وغير ذلك ومما سلف ومما لم أسلفه أن فيه دلالة على أن غسل الميت للتعبد لا للنجاسة إذ لو كان للنجاسة لما زاد الغسل إلَّا نجاسة إذ الذات [النجسة] (¬2) لا يطهرها الماء على القول الضعيف بنجاستها (¬3). ¬

_ (¬1) التبرك بآثار الصالحين، الصواب: أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما جعل الله فيه من البركة؛ إذ لم يرد عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم تبركوا بشيء من آثار أبي بكر، لا بشعره ولا بثوبه، ولا بعرقه، ولا بغيره، وهو أفضل الأمة بعد رسولها - صلى الله عليه وسلم -، وكذا لم يتبركوا بشيء من آثار عمر - رضي الله عنه -. وقد سبق الكلام عن مثل هذا. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) انظر التعليق (10) مع الفتح (3/ 127).

الحديث السادس

الحديث السادس 162/ 6/ 32 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال: فأوقصته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" (¬1). وفي رواية: "لا تخمروا وجهه ولا رأسه". قال [رضي الله عنه] (¬2): الوقص: كسر العنق. الكلام عليه من زيادة على عشرين وجهًا: ¬

_ (¬1) البخاري (1265) فتح (3/ 136) للأطراف، ومسلم (1206)، وأبو داود (3241) في المناسك، باب: المحرم يموت كيف يصنع به، والنسائي (5/ 195، 196، 197)، والحميدي (466)، وابن الجارود (507)، والدارقطني (2/ 295، 296، 297)، وابن حبان (3957، 3958، 3859)، وأحمد (1/ 221، 266، 286، 333، 220، 328)، والبغوي (1480)، والطيالسي (2623)، والترمذي (951)، وابن ماجه (3084)، والبيهقي (3/ 391، 393) (5/ 53)، والطبراني (12523، 12541)، ومشكل الآثار (1/ 99). (¬2) في ن (إحكام الأحكام -رحمه الله-).

الأول: هذا الرجل لا أعلمه ورد سمى ولم أر من ذكره أيضًا في كتب المبهمات بعد البحث عنه (¬1)، وكان وقوعه عنها عند الصخرات موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاله ابن حزم (¬2). الثاني: فيه إطلاق لفظ الواقف على الراكب. الثالث: "عرفة" موضع الوقوف شرفه الله وفي سبب تسميته بذلك أقوال ستعرفها في الحج إن شاء الله ذلك وقدره. الرابع: "الراحلة" الناقة التي تصلح للرجل، ويقال: إنها كل ما يركب من الإِبل، ذكرًا كان أو أنثى: كالشاة بالنسة إلى الغنم. حكاه الجوهري (¬3) وجزم به الفاكهي. الخامس: "الوقص" قد فسره المصنف (¬4). ويقال أيضًا: وقصت به راحلته فهو كقولك: خذ الخطام وخذ بالخطام، ووقص فهو موقوص على بناء ما لم يسم فاعله. وقوله: "فوقصته"، أو قال: "فأوقصته" الظاهر أنه شك من ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (4/ 55): تنبيه: لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية المحرم المذكور، وقد وهم بعض المتأخرين فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي ... إلخ للاطلاع. انظر: فتح الباري. (¬2) المحلى (5/ 117، 148) (7/ 92، 93). (¬3) مختار الصحاح (105). انظر: المغني في الأنباء عن غريب المهذب (1/ 102). (¬4) انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 96).

الراوي عن ابن عباس، وقال القاضي (¬1) عياض: روي "فوقصته" وروي: "فأوقصته" وهما صحيحان. قال القرطبي: وهما لغتان. قال: والثاني أفصح. قال القاضي وروي: [فقصعته] (¬2)، ومعناه: قتلته لحينه، ومنه قعاص الغنم (¬3): وهو موتها بداء يأخذها فلا يلبثها، ويروى [فأقصته] (¬4) رباعيًّا ووجهه فقصعته [ثلاثيًا] (¬5) ومعناه: شدخته. السادس: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا تحنطوه" هو بالحاء المهملة أي لا تمسوه حنوطًا. والحنوط: بفتح الحاء، ويقال له: الحناط بكسرها، وهو أخلاط من طيب يجمع للميت خاصة لا يستعمل في غيره، وقد يعني به الرجل، وحَنَّطَ الميتَ تحنيطًا. السابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ولا تخمروا رأسه" أي: لا تغطوه. والتخمير: التغطية. الثامن: قوله: فإنه "يبعث يوم القيامة" [ملبيًا] " معناه: على هيئته ¬

_ (¬1) انظر: مشارق الأنوار (2/ 189 - 293). (¬2) الذي في إكمال إكمال المعلم (3/ 319) فأقعصته. (¬3) انظر: مختار الصحاح (229)، وفي الحديث "وموتان يكونُ في الناس كقُعاص الغنم". (¬4) في ن د ب (فأقصعتة). (¬5) في ن د ب ساقطة.

التي مات عليها، ليكون ذلك علامة وحجة ودلالة على فضيلته، كما يجيء الشهيد يوم القيامة] (¬1)، وأوداجه تشخب دمًا (¬2)، وفي رواية: في الصحيح "ملبدًا" (¬3) بدل "ملبيًا"، أي: على هيئته كما قلناه. التاسع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "وكفنوه في [ثوبه] (¬4) ". جاء في رواية أخرى في الصحيح (¬5): في ثوبين. قال القاضي عياض: والأولى أكثر الروايات. قال القرطبي: فعلى الرواية الأولى يحتج به الشافعي على بقاء ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) ولفظه عن أبي هريرة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مجروح يجرح في سبيل الله إلَّا بعثه الله وجُرحه يثعب دمًا: اللون لون الدم والريح ريح المسك" انظر: البخاري (237)، ومسلم (3/ 1495)، وأحمد في مسنده (2/ 231، 384)، ومالك في الموطأ (2/ 461)، والبيهقي في السنن (4/ 11)، والبغوي في شرح السنة (10/ 349)، والنسائي (6/ 28). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (3/ 137) على قوله: (باب: كيف يكفن المحرم)، سقطت هذه الترجمة للأصيلي وثبتت لغيره وهو أوجه، وأورد المصنف فيها حديث ابن عباس المذكور من طريقين، ففي الأول: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" كذا للمستملي وللباقين "ملبدًا" بدال بدل التحتانية والتلبيد: جمع الشعر بصمغ أو غيره ليخف شعثه، وكانت عادتهم في الإِحرام أن يصنعوا ذلك، وقد أنكر عياض هذه الرواية وقال: ليس للتلبيد معنى. انظر: مسلم (1206)، والبيهقي (3/ 391). (¬4) في الأصل ون د (ثوبيه). (¬5) البخاري (1265، 1266، 1267، 1268).

حكم إحرامه عليه كما سيأتي، لأنه أمر أن يكفن في ثيابه التي كانت عليه. والرواية الثانية: يحتمل أن تحمل على الأولى، ويحتمل أن يريد. زيدوا على ثوبه الذي أحرم فيه ثوبين ليكون كفنه وترًا، والأول أولى لأن أحد الروايتين مفسرة للأخرى. وقال المحب الطبري في "أحكامه": إنما لم يزده ثالثًا تكرمة له كما في الشهيد لم يزد على ثيابه. العاشر: الرواية الثانية التي ذكرها المصنف هي من أفراد مسلم، وكان ينبغي للمصنف التنبيه على ذلك. قال البيهقي: وذكر الوجه وهم من بعض رواته في الإِسناد، والمتن الصحيح "لا تغطوا رأسه"، كذا أخرجه البخاري، وذكر "الوجه" فيه غريب (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (4/ 54): قال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته، وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث قال منصور: "ولا تغطوا وجهه"، وقال أبو الزبير: "ولا تكشفوا وجهه"، وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه"، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جير بلفظ: "ولا يمس طيبًا خارج رأسه"، قال شعبة: ثم قال: حدثني به بعد ذلك فقال: "خارج رأسه ووجهه" انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية، وشعبة أحفظ من كل من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية، وقال أهل الظاهر: يجوز =

الحادي عشر: ظاهر الحديث بقاء حكم الإِحرام بعد الموت، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق: فيحرم شر رأسه وتطبيبه ولم يقل به مالك ولا أبو حنيفة وهو مذهب الحسن والأوزاعي، أيضًا كما [حكاه] (¬1) القرطبي عنهما، وهو مقتضى القياس لأنه بالموت انقطع التكليف. ولكن الشافعي قدم ظاهر الحديث على القياس. واعتذر من خالف عن الحديث بتعليله - عليه الصلاة والسلام -: هذا الحكم في هذا المحرم بعلة، لا يقطع بوجودها في غيره، ولا يعلم إلَّا من جهته، وهو أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، والحكم إنما يُعمم بحموم علته فهو خاص به، ولا يتعدى إلى غيره إلَّا بدليل، وأيد ذلك بعض من أدركناه من أئمة الحنفية بأنه لو بقي إحرامه لطيف به، وكملت مناسكه. قال: ولأنه أمر بغسله بماء وسدر، والمحرم لا يغتسل ¬

_ = للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملًا بالظاهر في الموضعين، وقال آخرون هي واقعة عين لا عموم لها فيها لأنه علل ذلك بقوله: "لأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فيكون خاصًّا بذلك الرجل، ولو استمر إحرامه لأمر بقضاء مناسكه وسيأتي ترجمة المصنف بنفي ذلك، وقال أبو الحسن بن القصار: لو أريد تعميم هذا الحكم في كل محرم لقال: "فإن المحرم" كما جاء "أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دمًا" وقال النووي: يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطي رأسه. اهـ. (¬1) في ن ب (قاله).

بالسدر، والخطمي، عند الشافعي كما حكاه ابن المنذر في الإِشراف. قال ابن القصار: ويدل على أن الحديث خاص بذلك الرجل، قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإنه يبعث ملبيًا" ولم يقل: فإن المحرم كما قال: "فإن الشهيد يبعث يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك" (¬1). قلت: وللشافعي له أن يقول: العلة الإِحرام وهي عامة في كل محرم، والأصل أن ما ثبت لشخص في زمنه - عليه الصلاة والسلام - ثابت لغيره حتى يدل الدليل على خلافه، ولم يثبت خلافه كيف، وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "يبعث المرء على ما مات عليه (¬2)، وهذا عام في كل صورة ومعنى. فاقتضى ذلك تعلق هذا الحكم لأجل الإِحرام حيث مات محرمًا، فيعم كل محرم كيف والتلبية من لوازم الإِحرام، والعمل بالحديث مقدم على القياس وهو متعين، وما حكاه عن الشافعي: من أن المحرم لا يغتسل بالسدر، وقد رأيته في إشرافه. وحكاه القرطبي عن الشافعي أيضًا، وهو غريب، ولعل مرادهما [الكراهة] (¬3) فقط، كما حكى عنه في القديم. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق، والتعليق ت (5) ص (450). (¬2) ألفاظه: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" مختصرًا "يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفافه". انظر: مسلم (2878)، وأحمد (3/ 331، 366)، والحاكم (1/ 340) (2/ 452)، وابن حبان (7313، 7319)، والبغوي (4206، 4207)، وأبو يعلى (1901، 2269). (¬3) زيادة من ن ب د.

الثاني عشر: نص الشافعي (¬1) وأصحابه، ومن وافقهم: على أنه يباح ستر وجهه ولا يحرم، وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة فقالا: إن إحرام الرجل في وجهه أيضًا. والجواب عن رواية الكتاب من وجهين: الأول: الطعن فيها بوهم الراوي كما أسلفته عن البيهقي. الثاني: أن يتأول على أن النهي عن تغطيته ليس مقصودًا لذاته، بل لكونه لازمًا لتغطية الرأس غالبًا، ولا بد من تأويله، لأن المخالف يقول: لا يمنع من ستر رأسه ووجهه كما سلف، والشافعي ومن وافقه يقول: يباح ستر وجهه فقط فيتعين تأويل الحديث. الثالث عشر: يستفاد من الحديث بقاء حكم الإِحرام في الميت المحرم، وهو مذهبنا ومذهب أحمد كما قررته لك. واختلف أصحابنا في [أن] (¬2) الموت هل يبطل الصوم؟ فقيل: لا، كالإحرام لأنه - عليه الصلاة والسلام - قال لعثمان: "أنت تفطر عندنا الليلة"، رواه ابن حبان (¬3) في "صحيحه" والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإِسناد. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 269). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) ابن حبان (6919)، والطبري في تاريخه (4/ 354، 356، 383، 384)، والحافظ في المطالب العالية (4/ 283، 286)، وقال: رجاله ثقات سمع بعضهم من بعض، والحاكم في المستدرك (3/ 103)، ووافقه الذهبي، ونسبه ابن حجر في الفتح (5/ 408) إلى ابن حبان وابن خزيمة.

وأصحهما: نعم كالصلاة. فرع: اختلف أصحابنا أن المعتدة المحدة هل تطيب على وجهين؟ أصحهما: نعم، لأن منعها كان تفجعًا أو لئلا تدعوها نفسها إلى الرجال أو أنفسهم إليها وقد زال الجميع بالموت. وقيل: لا، كالمحرم. الرابع عشر: فيه أيضًا أن الميت المحرم يجب غسله وتكفينه. الخامس عشر: جواز التكفين في الثياب الملبوسة وهو إجماع. السادس عشر: جوازه في ثوبين لكن الأفضل ثلاثة كما مر في حديث عائشة في الباب وفيه: الاحتمال السالف في الوجه التاسع. السابع عشر: أن الكفن مقدم على الدين وغيره حيث لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دين مستغرق ولا غيره، وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال [ينزّل] (¬1) منزلة العموم في المقال. الثامن عشر: أن الكفن للميت واجب، وهو إجماع، وكذا غسله والصلاة عليه ودفنه. التاسع عشر: استحباب دوام التلبية في الإِحرام. العشرون: فيه التنبيه والتحريض على لقاء الله -تعالى- بحالة تناسب العبودية لتكون شاهدًا لصاحبها يوم القيامة. ¬

_ (¬1) في ن ب (نزل).

الحادي والعشرون: فيه دلالة على استحباب السدر في غسل الميت المحرم وهذا مذهبنا وبه قال طاوس وعطاء ومجاهد وابن المنذر وآخرون. ومنعه أبو حنيفة ومالك وآخرون. قال ابن المنذر: كره جابر بن عبد الله ومالك، غسل المحرم رأسه بالخطمي. قال مالك: وعليه الفدية، وبه قال أبو حنيفة (¬1). وقال صاحباه: عليه صدقة. قال ابن المنذر: وهو مباح لهذا الحديث (¬2). الثاني والعشرون: لم يذكر في الحديث الصلاة عليه. وحكى القرطبي في ذلك خلافًا. فنقل عن مالك وأبي حنيفة: أنه يصلى عليه كغيره من الموتى. ونقل عن الشافعي: أنه يغسل ولا يصلى عليه. كذا نقله عنه ولا أعرفه عندنا. الثالث والعشرون: استنبط الإِمام الشافعي [وتبعه المزني في هذا الحديث جواز قطع شجر السدر. قال أبو ثور: سألت أبا عبد الله الشافعي] (¬3) عن قطع السدر، ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (11/ 21) الخطمي: نبات يغسل به الرأس ليلين. (¬2) وهو مروي عن ابن عمر. انظر: الاستذكار (11/ 21). (¬3) في ن ب ساقطة.

فقال: لا بأس به، قد قال - عليه الصلاة والسلام - "اغسلوه بماء وسدر". وحكى أبو سليمان (¬1): عن المزني أنه أخبر بذلك، وقال: لو كان حرامًا لم يحل الانتفاع به كما سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حرم قطعه من شجر الحرم بين الورق وغيره. وأما حديث: "من قطع شجر سدر صوب الله رأسه في النار" (¬2) فإنه روي موصولًا ومرسلًا وأسانيده مضطربة معلولة، وفي بعضها "إلَّا من زرع" ومدار أكثرها على عروة بن الزبير (¬3)، وقد روي عن أبيه: "أنه كان يقطعها بأرضه". وقيل: النهي عن سدر مكة لأنها حرم. ¬

_ (¬1) انظر: عون المعبود (14/ 154)، مع اختلاف في النقل عنه. (¬2) أبو داود (5078) في الأدب، باب: في قطع السدر، سئل أبو داود عن معنى هذا الحديث، فقال: هذا الحدث مختصر، يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثًا وظلمًا بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار. وذكر الخطابي تأويل آخر عن الشافعي عون المعبود (14/ 152)، وبذل المجهود (20/ 182)، والبيهقي (6/ 139، 140)، والبغوي (8/ 250)، ومجمع الزوائد (3/ 284) (4/ 69)، وكشف الخفاء (2/ 145، 375)، والأسرار المرفوعة (485)، ومشكل الآثار (4/ 117)، وسنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/ 310). (¬3) السنن الكبرى (6/ 139، 140)، وأبو داود (5079)، ومصنف عبد الرزاق (19756)، ومشكل الآثار (4/ 117، 119) انظر: معالم السنن (8/ 100).

وقيل: عن سدر المدينة نهى عن قطعه ليكون أنسًا وظلاًّ لمن هاجر إليها. وقيل: أراد به سدر الفلاة يستظل به أبناء السبيل (¬1). خاتمة: نقل أبو داود عن أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول: في هذا الحديث خمس سنن: تكفين الميت في ثوبين، وأن الكفن من أصل المال ولو أتى على جميعه، وغسل الميت بالسدر في الغسلات كلها، وأن لا يخمر رأسه، ولا يقرب طيب. قال المحب الطبري في "أحكامه": ويستبط منه سادسة وهي: استحباب التلبيد للمحرم. قلت: ويستنبط منه غير ذلك كما قررته لك. ¬

_ (¬1) انظر: معالم السنن (8/ 100).

الحديث السابع

الحديث السابع 163/ 7/ 32 - عن أم عطية - رضي الله عنها - قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا" (¬1). الكلام عليه من وجوه أربعة: والتعريف براويه سلف في العيدين. الأول: هذا الحديث حكمه حكم المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن النهي لا يجوز أن يضاف إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الإِطلاق ¬

_ (¬1) البخاري (1278)، ومسلم (938)، وأبو داود (3037)، وأحمد (6/ 408، 409)، والبيهقي (4/ 77)، وابن ماجه (1577)، والدارمي (2/ 377)، وابن الجارود (531)، وعبد الرزاق (3/ 454، 455)، وله شاهد وفيه ذكر عمر عند ابن حبان (3041)، وأبو يعلى (226)، وأحمد (5/ 85)، أبو داود في الصلاة (1139)، وأيضًا له شواهد عند البخاري (324)، ومسلم (980)، والنسائي (3/ 180، 7/ 149)، وابن ماجه (1307، 1308)، وفيها بيان أن الناهي عن ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر: الطبراني في الكبير (25/ 147)، وناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين (278)، ولفظ: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا".

واعلم: أن الصحابي إذا قال: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، أو من السنَّة كذا، وما أشبه ذلك كله مرفوع على الصحيح، كما قدمته في الحديث الأول من باب الأذان عند قول أنس - رضي الله عنه -: "أمر بلال أن يشفع الأذان"، ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده إن كان يحتمل إذا قاله بعده أن يكون الآمر والناهي من أدركه من الخلفاء، لكن احتمال إرادته النبي - صلى الله عليه وسلم - أظهر، وقد قال الشافعي في الأم (¬1) في باب: ما عدد كفن الميت؟ بعد ذكر ابن عباس والضحاك. ما نصه: وابن عباس والضحاك بن قيس رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقولان: السنَّة إلَّا سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن نقل الن داود من أصحابنا في شرحه لـ"المختصر" في كتاب "الجنايات" في (باب أسنان الإِبل) عن الشافعي، أنه كان يرى في القديم أن ذلك مرفوع، إذا صدر من الصحابي أو التابعي، ثم رجع عنه، لأنهم قد يطلقونه ويريدون به سنَّة البلد، وهذا نقل غريب عن الشافعي فتنبه له. الثاني: "العزم" في اللغة: القصد المؤكد، ومنه: عزمت على فعل الشيء. قال الجوهري (¬2): عزمت على كذا عزمًا وعُزْمًا بالضم وعَزيمة وعزيمًا إذا أردت فعله وقطعت عليه، قال -تعالى-: {فَنسِىَ وَلَمْ ¬

_ (¬1) الأم للشافعي (2/ 266). (¬2) انظر: مختار الصحاح (184).

نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (¬1) أي جزمًا. [(¬2)]: فقولها: "ولم يعزم علينا"، أي: لم يؤكد علينا في المنع من اتباع الجنائز ما اؤكد علينا في غيره، فلم نؤمر فيه بعزيمة، والعزيمة دالة على التأكيد كما قررناه، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. وهذا يخالف ما حدَّبه الإِمام فخر الدين العزيمة في "المحصول" (¬3) من قوله: العزيمة هي جواز الإِقدام مع عدم المانع بخلاف الرخصة، فيدخل فيه أكل الطيبات ولبس الناعمات وليس [من العزائم وفيها جواز الإِقدام مع عدم المانع. وهذا القول مخالف للحديث، ولما دل عليه الاستعمال اللغوي من إشعار العزم بالتأكيد كما أسلفناه. وحدها القرافي: بطلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي. قال: ولا يمكن أن يكون المباح من العزائم] (¬4)، فإن العزم هو الطلب المؤكد فيه. قال الفاكهي: وهذا الحد يدخل فيه الواجبات وليس ¬

_ (¬1) سورة طه: آية 112. قال صاحب التعريفات للجرجاني على هذه الآية: أي لم يكن له قصد مؤكد في الفعل بما أمر به، وفي الشريعة اسم لما هو أصل المشروعات غير متعلق بالعوارض. (¬2) في الأصل زيادة (الثالث)، وهي ساقطة من ن ب د. (¬3) المحصول (1/ 154). (¬4) في ن ب ساقطة.

[يحتمل] (¬1) فيما يظهر، ومن الأصوليين من خص العزيمة بالواجب وبه جزم الغزالي في "المستصفى" (¬2) والآمدي في "الأحكام" (¬3)، و"منتهى السول" (¬4)، وابن الحاجب في"مختصره الكبير". فقالوا: العزيمة بما لزم العباد بإيجاب الله -تعالى-، وكأنهم احترزوا بايجاب الله -تعالى- عن النذر. الثالث: وردت أحاديث في التشديد في اتباع النساء أو بعضهن الجنائز أكثر مما يدل عليه هذا الحديث، كالذي جاء عن فاطمة - رضي الله عنها -. رواه أبو داود (¬5)، والنسائي (¬6)، وضعفه ¬

_ (¬1) في الأصل (بجيد). (¬2) (1/ 62). (¬3) (1/ 131). (¬4) (1/ 129)، وانظر: كتاب السبب عند الأصوليين- د. الربيعة، للاطلاع على تعريف العزيمة عند الأصوليين (1/ 112). (¬5) (3123) في الجنائز، باب: في التعزية. (¬6) (4/ 27) في الجنائز، باب: النعي، وقال النسائي (4/ 28) في أحد رواته: ربيعة بن سيف ضعيف، والبيهقي (4/ 77، 78)، والحاكم (1/ 374) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وافقه الذهبي فقال: "على شرطهما" وهو عجيب منهما، فإن ربيعة بن سيف لم يخرج له الشيخان ولا أحدهما، وقد استدرك ابن دقيق العيد ذلك على الحاكم، فيما نقله الشوكاني في نيل الأوطار (4/ 164) قال: "قال ابن دقيق العيد: وفيما قاله الحاكم عندي نظر فإن راويه ربيعة بن سيف لم يخرج له الشيخان في الصحيح شيئًا فيما أعلم"، والحديث أشار إليه ابن حجر في الفتح (3/ 145). انظر كلام ابن القيم على الحديث في =

عبد الحق والنووي (¬1)، وحسنه ابن القطان، وصححه ابن حبان (¬2)، فإما أن يكون لعلو منصبها، وحديث أم عطية هذا في عموم النساء أو يكون الحديثان محمولين على اختلاف حالات النساء وهذه المسألة فيها مذاهب: فأجاز مالك (¬3) لهن اتباع الجنائز وكرهه للشابة [مع] (¬4) الأمر المستنكر، وخالفه غيره من أصحابه فكرهه مطلقًا لظاهر النهي. وعندنا: أنه مكروه وليس بحرام لهذا الحديث، ونقله النووي في "شرح المهذب" (¬5) عن جماهير العلماء فإن اقترن باتباعهن لها محرم، أو جرَّ [إلى] (¬6) مفسدة، فينبغي الجزم بأنه حرام شديد التحريم، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الشيخ نصر المقدسي. لا يجوز للنساء اتباع الجنائز، أو يكون المراد بذلك كراهة التنزيه وإلَّا فهو شاذ، وعادتهن بمصر يجتمعن ولا يصلين على الجنازة، بل يتبعنها لا لمعنى شرعي أصلًا، بل ربما ينحن ويبكين، فالوجه ¬

_ = تعليقه على أبي داود (4/ 347) قال: وقد طعن غيره في هذا الحديث، وقالوا: هو غير صحيح، لأن ربيعة بن سيف -هذا- ضعيف الحديث، عنده مناكير. اهـ. ولم ينسبه إلَّا إلى ابن أبي حاتم ولم يتعقب هذا الكلام بشيء. انظر: تعليق أحمد شاكر على المسند (10/ 80). (¬1) في المجموع شرح المهذب (5/ 277، 378). (¬2) (3177). (¬3) المدونة الكبرى (1/ 188). (¬4) في ن ب د (وفي). (¬5) المجموع شرح المهذب (5/ 310، 311). (¬6) زيادة من ن ب د.

منعهن. [ونقل العبدري عن مالك أنه يكره إلَّا أن يكون الميت ولدها أو والدها أو زوجها أو كانت ممن يخرج مثلها لمثله] (¬1). ونقل القاضي عياض عن جمهور العلماء: أنهم قالوا بمنعهن من اتباعها وأجازه علماء المدينة. ونقل الفاكهي أيضًا: أن مذهبه اتباع المرأة جنازة ولدها ووالدها وزوجها وأخيها، إذا كان ذلك مما يعرف أنه يخرج مثلها على مثله وإن كانت شابة، وكراهة الخروج على غيرها، ولا ممن لا ينكر عليها الخروج عليهم من قرابتها. قال ابن حبيب: ويكره خروج النساء في الجنائز وإن كنَّ غير نوائح ولا بواكي في جنائز أهل الخاصة من ذوي القرابة، وغيرهم قالوا: وينبغي للإِمام أن يمنعهن من ذلك فقد "أمر - صلى الله عليه وسلم - بطرد امرأة رآها في جنازة فطردت حتى لم يرها" (¬2)، وقال لنساء رآهن ينتظرن جنازة: أتغسلنه؟. قلن: لا. قال: أتحملنه فيمن يحمله؟ قلن: لا. قال: فتدخلن قبره فيمن يدخله؟ قلن: لا. قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) ذكره في مجمع الزوائد (3/ 31). (¬3) ابن ماجه (1578)، وساقه البغوي (5/ 465) بلفظ التضعيف، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 44): "هذا إسناد اختلف فيه من أجل دينار، وإسماعيل بن سلمان. وأورده ابن الجوزي في العلل (2/ 420) من هذا الوجه، ورواه البيهقي (4/ 77)، ومجمع الزوائد (3113). وانظر: ترجمته في ميزان الاعتدال (1/ 232). =

قلت: هذا الحديث رواه ابن ماجه من حديث علي بإسناد ضعيف لأجل إسماعيل بن سلمان الأزرق الذي في إسناده. قال ابن حبيب: وكان الحسن (¬1) يطردهن، فإذا لم يرجعن لم يرجع ويقول لا ندع حقًّا لباطل. وكان مسروق: يحثي في وجوههن التراب ويطردهن، فإن رجعن وإلَّا رجع (¬2). وقال النخعي: كانوا إذا خرجوا بالجنائز أغلقوا الأبواب على النساء (¬3). وقال ابن عمر (¬4): ليس للنساء في الجنائز نصيب. وقال بعض متأخري المالكية: الصواب اليوم الأخذ بقول ابن حبيب لأن خروجهن يؤدي إلى فتنة وفساد كبير فينبغي للإِمام أن يمنعهن من ذلك (¬5). ¬

_ = ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أنس بن مالك (4056، 4284). و (مأزورات) أصلها موزورات ولكنه اتبع مأجورات، أي لما قابلوا الموزورات بالمأجورات قلبوا الواو همزة ليأتلف اللفظان ويزدوجا. (¬1) عبد الرزاق (3/ 457)، وابن أبي شيبة (3/ 285). (¬2) ابن أبي شيبة (3/ 284)، وعبد الرزاق (3/ 457). (¬3) ابن أبي شيبة (3/ 284)، وعبد الرزاق (3/ 456). (¬4) المراجع السابقة. (¬5) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى (24/ 343): وأما المسألة المتنازع فيها: فالزيارة المأذون فيها، هل فيها إذن للنساء، ونسخ للنهي في حقهن؟ أو لم يأذن فيها، بل هن منهيات عنها؟ وهل النهي نهي تحريم؟ أو تنزيه؟ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في ذلك للعلماء ثلاثة أقوال معروفة، والثلاثة أقوال في مذهب الشافعي، وأحمد أيضًا، وغيرهما. وقد حكى في ذلك ثلاث روايات عن أحمد وهو نظير تنازعهم في تشييع النساء للجنائز، وإن كان فيهم من يرخص في الزيارة دون التشييع، كما اختار ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. فمن العلماء من اعتقد أن النساء مأذون لهن في الزيارة، وأنه أذن لهن كما أذن للرجال، واعتقد أن قوله - صلى الله عليه وسلم - "فزوروها فإنها تذكركم الآخرة" خطاب عام للرجال والنساء، والصحيح أن النساء لم يدخلن في الإِذن في زيارة القبور لعدة أوجه -نذكرها باختصار وتصرف-: أحدها: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فزوروها" صيغة تذكير، وصيغة التذكير إنما تتناول الرجال بالوضع. الثاني: أن يقال: لو كان النساء داخلات في الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور، كما استحب للرجال عند الجمهور، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بعلة تقتضي الاستحباب، وهي قوله: "فإنها تذكركم الآخرة"، إلى أن قال -فلو كانت زيارة القبور مأذونًا فيها للنساء لاستحب لهن كما استحب للرجال- إلى أن قال- وما علمنا أن أحدًا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور كما يخرج الرجال. والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما يروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء، كما تستحب للرجال إذ لو كان كذلك لاستحب لها زيارته، كما تستحب للرجال زيارته، سواء شهدته أو لم تشهده وأيضًا فإن الصلاة على الجنائز أوكد من زيارة القبور، ومع هذا فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء عن اتباع الجنائز، وفي ذلك تفويت صلاتهن على الميت، فإذا لم يستحب لهن اتباعها لما فيها من الصلاة والثواب، فكيف بالزيارة؟ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الوجه الثالث: أن يقال: غاية ما يقال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فزوروا القبور" خطاب عام، ومعلوم أن قوله - صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان" هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ: "من" يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، -إلى أن قال- ثم قد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن عن اتباع الجنائز سواء كان نهي تحريم أو تنزيه، فإذا لم يدخلن في هذا العموم، فكذلك في ذلك بطريق الأولى، وكلاهما من جنس واحد، فإن تشييع الجنازة من جنس زيارة القبور، قال -تعالى-: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فنهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين، وعن القيام على قبورهم -إلى أن قال- فإذا كان النساء لم يدخلن في عموم اتباع الجنائز، مع ما في ذلك من الصلاة على الميت، فلأن لا يدخلن في زيارة القبور التي غايتها دون الصلاة عليه بطريق الأولى، بخلاف ما إذا أمكن النساء أن يصلين على الميت بلا اتباع، كما يصلين عليه في البيت، وإذا قيل إن مفسدة الاتباع للجنائز أعظم من مفسدة الزيارة، لأن المصيبة حديثة، وفي ذلك أذى للميت، وفتنة للحي بأصواتهن وصورهن. قيل: ومطلق الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة -إلى أن قال- وقول القائل: مفسدة التشييع أعظم: ممنوع، بل إذا رخص للمرأة في الزيارة كان ذلك مظنة تكرير ذلك، فتعظم فيه المفسدة، ويتجدد الجزع، والأذى للميت، فكان ذلك مظنة قصد الرجال لهن والافتتان بهن كما هو الواقع في كثير من الأمصار، فإنه يقع بسبب زيارة النساء القبور من الفتنة والفواحش والفساد ما لا يقع شيء منه عند اتباع الجنائز، وهذا كله يبين أن جنس زيارة النساء أعظم من جنس اتباعهن وأن نهي الاتباع إذا كان نهي تنزيه لم يمنع أن يكون نهي الزيارة نهي تحريم ... إلخ.

الرابع: يستفاد من الحديث التفرقة بين نهي التنزيه والتحريم لقولها: "نهينا ولم يعزم علينا" وذلك في عرف الصحابة بالنسبة إلى العلم. وأما بالنسبة إلى العمل: فلم يفرقوا فيه بل قالوا: يجتنبون المكروه تنزيهاً وتحريماً مطلقاً إلَّا لضرورة بيان من اعتقادٍ أو إلجاء إلى ارتكاب محرم فيفعلون المكروه تنزيهاً خلوصاً من المحرم. ومن استقرى فعلهم وقولهم، وقواعد الشرع وجد الأمر كذلك. وقال المحب الطبري في "أحكامه": يحتمل أن يكون معنى الحديث ولم يعزم علينا في اتباعها كما عزم على الرجال فيكون النهي نهي تحريم وبه استدل كثير على ذلك (¬1). ... ¬

_ = الوجه الرابع: أن يقال قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريقين: أنه لعن زوارات القبور، وبلفظ: "لعن زائرات القبور" من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس: "لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"، وانظر كلامه على هذا الحديث في الفتاوى (348، 356/ 24)، وانظر كلام ابن القيم على هذا الحديث في تهذيب السنن (3106)، وحاشية الروض لابن قاسم (3/ 146). (¬1) قال ابن القيم في تهذيب السنن (4/ 350) على قول أم عطية: "ولم يعزم علينا"، إنما نفت فيه وصف النهي، وهو النهي المؤكد بالعزيمة، وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كاف، ولما نهاهنَّ انتهين، لطواعيتهن لله ولرسوله، فاستغنين عن العزيمة عليهن، وأم عطية لم تشهد العزيمة في ذلك النهي، وقد دلت أحاديث لعنه الزائرات على العزيمة، فهي مثبتة للعزيمة، فيجب تقديمها، وبالله التوفيق.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 164/ 8/ 32 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" (¬1). الكلام عليه من أحد عشر وجهاً: الأول: من قال الجنازة بالفتح للميت وبالكسر للنعش كما قدمنا أول الباب يتعين عنده هنا قراءة قوله "أسرعوا بالجنازة" بالفتح لأن المقصود الإِسراع (¬2) بالميت لا النعش ويدل على ذلك آخر الحديث. ¬

_ (¬1) البخاري (1315)، ومسلم (944)، والترمذي (1015) في الجنائز، وابن ماجه (1477) في الجنائز، باب: ما جاء في شهود الجنازة، وأبو داود (3181) في الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة، والنسائي (4/ 41، 42)، وابن الجارود (527)، ومالك (1/ 243) في الجنائز، باب: جامع الجنائز موقوفاً، ورفعه أحمد (2/ 488)، والحميدي (1022)، وأحمد (2/ 240، 280)، والبغوي (11/ 14)، وابن حبان (3042)، والبيهقي (4/ 21)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 478). مع اختلاف في ألفاظ الحديث بين متن العمدة وصحيح البخاري. (¬2) في ن ب زيادة (هنا).

الثاني: المراد بالإِسراع هنا الإِسراع بالميت كما قلناه فيتضمن الأمر بحمله إلى قبره وهو فرض كفاية. وقيل: المراد به الإِسراع بتجهيزه بعد موته لئلا يتغير والأول أظهر وعليه الجمهور. قال النووي (¬1): والثاني باطل مردود بقوله -عليه الصلاة والسلام- فشر تضعونه عن رقابكم. وقال القرطبي: لا يبعد أن يكون كل واحد منها مطلوباً إذ مقتضاه مطلق الإِسراع فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يقيده بقيد. وقال الفاكهي: ما رده النووي جمود على ظاهر لفظ الحديث وإلَّا فيحتمل حمله على المعنى فإنه قد يعبر بالحمل على الظهر أو العنق عن المعاني دون الذوات فيقال: حمل فلان على ظهره أو على عنقه ذنباً أو نحو ذلك ليكون المعنى في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فشر تضعونه عن رقابكم" إنكم تستريحون من نظر مَنْ لا خير فيه أو من مجالسته ونحو ذلك فلا يكون في الحديث دليل على رد قول هذا القائل ويقوى هذا الاحتمال أن كل حاضري الميت لا يحملونه، إنما يحمله القليل منهم لا سيما اليوم، فإنما يحمله في الغالب من لا تعلق له به. الثالث: الخطاب بالإِسراع للرجال فإن النساء يضعفن عن الحمل، وربما انكشف منهن بعض أبدانهن. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (7/ 13).

الرابع: الإِسراع بالميت مطلوب لكن بشرط أن لا يكون على هيئة مزرية ولا يؤدي إلى انفجاره أو سقوطه ونحو ذلك وقد بين -عليه الصلاة والسلام- الحكمة من الإِسراع بقوله: "فإن تك صالحة" إلى آخره وكره بعضهم الإِسراع بها وهو محمول على الإِسراع المحذور. فرع: لا تؤخر لزيادة مصلين ولا لانتظار أحد غير الولي فينتظر لأجله إن لم يخف تغيرها. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن تك" هو في الموضعين بحذف النون الخفيفة لكثرة الاستعمال، والأصل: تكون فدخل الجازم فأسكن النون فاجتمع ساكنان الواو والنون فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، ثم حذفت النون لما ذكرناه من كثرة الاستعمال كما قالوا: لا أدر فحذفوا الياء كذلك كما تقدم في باب صلاة الاستسقاء. السادس: "خير" و"شر": فيه إعرابان. الأول: أن يكونا مبتدأين والخبر محذوف أي فلها خير ولها شر. وساغ هنا الابتداء بالنكرة لكون فاء الجزاء وليتهما، فهما من باب قولهم: إن مضى عير فعير في الرباط. الثاني: أن يكونا خبرين محذوفي [المبتداء] (¬1) والتقدير: فهي، وهي أي ذات خير وذات شر، وأما الجملتان اللتان بعدهما وهما "تقدمونها" و"تضعونه" فصفة لهما. ¬

_ (¬1) موضع هذا الحديث في المفهم (3/ 1583، 1584)، وهذا الكلام ساقط من المطبوع.

السابع: فيه إكرام أهل الخير والصلاح إذا ماتوا بالمبادرة إلى الوصول إلى جزاء ما قدموه من الأعمال الصالحة وجزاؤها من فضل الله ورحمته (¬1). الثامن: فيه تقليل مصاحبة أهل الشر إلَّا فيما شرع بسببهم من بعد موتهم لبعدهم عن رحمة الله، فلا مصلحة في مصاحبتهم، وكذا ينبغي اجتناب مصاحبة أهل البطالة وغير الصالحين (¬2). التاسع: معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فخير تقدمونها إليه" أي ما أعد الله لها من النعيم المقيم وقوله "فشر تضعونه عن رقابكم" معناه أنها بعيدة من الرحمة فلا مصلحة لكم في مصاحبتها وملابستها. العاشر: استدل به الأصبهاني على أن حكم القبر من أحكام الآخرة، ولا يوصل إلى معرفة ذلك إلَّا بالخبر، ليس للعقل فيه مدخل. الحادي عشر: عورض هذا الحديث بحديث آخر فيه النهي عن الإِسراع ويجمع بينهما على تقدير صحته بحمل النهي على الإِسراع المحذور (¬3). ... ¬

_ (¬1) في الأصل (الابتداء)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) انظر: شرح مسلم (7/ 13). (¬3) أخذه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".

الحديث التاسع

الحديث التاسع 165/ 9/ 32 - عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: "صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها" (¬1). الكلام عليه من تسعة أوجه: أولها: في التعريف براويه هو سمرة بن جندب -بفتح الدال وضمها- ابن هلال الفزاري حليف الأنصار، ووقع في نسبه في [تهذيب] (¬2) الكمال ثلاثة أوهام، نبهت عليها فيما أفردته من الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعها منه، وهو من بني ذبيان، كنيته: ¬

_ (¬1) البخاري (332، 1331، 1332)، ومسلم (964) في الجنائز، والترمذي (1035) في الجنائز، باب: ما جاء أين يقوم الإِمام من الميت للصلاة عليه، وأبو داود (3195) في الجنائز، باب: أين يقوم الإِمام من الميت إذا صلَّى عليه، والنسائي (1/ 195) في الحيض، باب: الصلاة على النفساء (4/ 70، 71، 72) في الجنائز، باب: الصلاة على الجنازة قائماً، وابن ماجه (1493) في الجنائز، باب: ما جاء في أين يقوم الإِمام، وابن الجارود (544)، والبيهقي (4/ 33، 34)، وابن حبان (3067)، والطيالسي (902)، وابن أبي شيبة (3/ 312)، والطحاوي (1/ 490)، والطبراني (7/ 6763). (¬2) زيادة من ن ب.

أبو سعيد، وقيل: أبو سليمان، وقيل: غير ذلك، نزل البصرة وسكنها ثم انتقل إلى الكوفة، واشترى بها داراً في بني أسد، له صحبة ورواية، وكان من الحفاظ المكثرين، روى عنه ابنه سعيد وسليمان وغيرهما واستُخْلِفَ على البصرة وعلى الكوفة، وكان شديداً على الحرورية، مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية، وقيل: تسع. وقيل: ستين سقط في قدر مملوءة ماء حارًّا كان يتعالج بالقعود عليها من شيء به، فسقط فيها فمات، فكان ذلك تصديقاً لقوله -عليه الصلاة والسلام- له ولأبي هريرة وثالث معهما: "آخركم موتاً في النار" (¬1) وقال -رضي الله عنه-: "كنت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً فكنت أحفظ عنه وما يمنعني من القول إلَّا أن ها هنا رجالاً هم أسن مني"، روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثاً، اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بأربعة. ثانيها: لفظة: "وراء" من الأضداد (¬2) فإنها قد تكون بمعنى قدام، ومنه قوله -تعالى-: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (¬3) الآية، أي أمامهم وهو مشترك أيضاً. فإن الوراء أيضاً ولد الولد (¬4)، فإن قُطع ¬

_ (¬1) انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 184). (¬2) انظر: كتاب الأضداد للأصمعي (20)، والأضداد لأبي حاتم السجستاني (95، 82)، وابن السكيت (175)، ولسان العرب (15/ 264). (¬3) سورة الكهف: آية 79. (¬4) قال ابن الجوزي -رحمنا الله وإياه- في نزهة الأعين النواظر (608) الوراءُ: ظرف من ظروف المكان. ومثله: الخلف. ومقابله: الأمامُ =

عن الأضافة بني كسائر الظروف. قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف وتجعله اسماً وهو غير متمكن كقولك من قبل ومن بعد وأنشد: إذا أنا لم أؤمن عليكِ ولم يكن ... لقاؤك إلَّا من وراءُ وراءٌ قال: ووراء مؤنث وكذلك قدام ولم يؤنث من الظروف غيرهما قالوا: في تصغيرها وُرَيِّئةٌ، وقديدمة وإنما أدخلت الهاء في تصغيرها وإن كان تصغير ما زاد على ثلاثة أحرف لا تلحقه التاء للفصل بين ¬

_ = والقدّام. والوراء: ولد الولد وذكر بعض المفسرين أن الوراء في القرآن على خمسة أوجه: أحدها: الخلف. ومنه قوله تعالى في آل عمران: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، وفي هود: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} وهذا على سبيل المثال. والثاني: الدنيا ومنه قوله تعالي في الحديد: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}. والثالث: ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}، وفي إبراهيم: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}. والرابع: بمعنى سوى. ومنه قوله تعالى في النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، وفي المؤمنين: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}. والخامس: بمعنى "بعد". ومنه قوله تعالى في البقرة {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}، وفي مريم: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}، أي من [بعدي، يعني]: بعد موتي وفي البروج: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)}، أي: من بعد أعمالهم محيط بهم للانتقام منهم.

المذكر والمؤنث إذ لو تركت التاء لالتبس بالمذكر وعكسهما أسماء ثلاثية [(¬1)]، لم يلحق تصغيرها الهاء نحو حرب ودرع وعرب وهي أحد عشر اسماً فتقول حريب ودريع وعريب وكذلك بقيتها. ثالثها: هذه المرأة المبهمة في هذا الحديث هي أم كعب، كما رواه مسلم (¬2) في صحيحه، وأغرب بعض الشراح فعزى ذلك إلى رواية النسائي (¬3) في سننه وهو قصور منه. رابعها: "النفاس" بكسر النون هو الدم الخارج بعد الولد، مأخوذ من النفس وهو الدم أو من التنفس وهو التشقق والانصداع، وأنه يخرج عقب النفس، وليس هذا مراداً بقوله: "ماتت في نفاسها" بل المراد: ماتت قبل خروج الولد في نفاسها، وعلى هذا تأوله بعض من منع القيام على جنازة المرأة في وسطها، وقال: إنما قام -عليه الصلاة والسلام- وسط هذه المرأة من أجل جنينها حتى يكون أمامه، وقد أوضحت الكلام على مادة: نفس في لغات المنهاج من باب الغسل، فراجع ذلك منه. خامسها: قوله: "فقام وسطها" هو بسكون السين، هكذا الرواية فيه وكذا قيده الحفاظ، وقيده بعضهم بالفتح أيضاً، وعلى الإِسكان اقتصر النووي في "شرح مسلم" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب د زيادة (مؤنثة). (¬2) (964). (¬3) (1/ 195) (4/ 70، 71، 72). (¬4) انظر: شرح مسلم (7/ 32).

قال القرطبي (¬1): وهو الصواب فإن الساكن ظرف، والمفتوح اسم، فإذا قلت: حفرت وسط الدار [بئراً كان معناه حفرت في الجزء المتوسط منها، ولا تقول حفرت وسط الدار] (¬2) بالفتح إلَّا أن تعم الدار بالحفر. وأما القاضي عياض (¬3): فقال: ضبط بالسكون والوجه عندي الفتح، وهو مقتضى ما قاله أهل اللغة فإنهم قالوا: جلست وسط القوم بالإِسكان أي بينهم، وجلست وسط الدار بالفتح، فكل موضع صلح فيه بين فهو وسط بالإِسكان وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالفتح. قال الجوهري (¬4): وربما سكن وليس بالوجه، ويستحيل تقدير بين في الحديث لأن بين لا تضاف إلَّا إلى شيئين فصاعداً، تقول: المال بين زيد وعمرو. ولا يصح بين زيد، وأما قوله -تعالى-: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (¬5) فإنما أضيف إلى ذلك وإن كان مفرداً لوقوع الإشارة به إلى شيئين وهما الفروضة والبكارة، وأما قوله -تعالى-: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (¬6)، فلما في "أحد" من معنى العموم [ويدل على أن فيها معنى العموم] (¬7) قوله -تعالى-: ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 1609). (¬2) زيادة من ن ب د، وموجودة في المفهم. (¬3) انظر: مشارق الأنوار (2/ 295). (¬4) انظر: مختار الصحاح (299)، وقد سبق التعليق عليه. (¬5) سورة البقرة: آية 68. (¬6) سورة البقرة: آية 284. (¬7) زيادة من ن ب د.

{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} (¬1) فنعت أحدٍ حاجزين، وغلِط من ادعى أن التقدير بين أحد [واحد] (¬2) وأن الثاني حذف لدلالة الأول عليها. سادسها: كون هذه المرأة ماتت في نفاسها، هو وصف غير معتبر بالاتفاق، وإنما هو حكاية أمر وقع، وهذا مما يدل على تحري الصحابة وشدة تحرزهم فيما ينقلونه -رضي الله عنهم-. وأما وصف كونها امرأة: فهل هو معتبر أم لا؟ من الفقهاء من ألغاه، وقال: يقام عند وسط الجنازة مطلقاً، ذكراً كان أو أنثى. ومنهم من خص ذلك بالمرأة كي يسترها عن الناس (¬3). وقيل: كان قبل إيجاد الأنعشة والقباب. وأما الرجل: فعند رأسه لئلا ينظر إلى فرجه وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف. وقال ابن مسعود: بعكس هذا. وذكر عن الحسن (¬4): التوسعة في ذلك، وبها قال أشهب وابن شعبان من أصحاب مالك. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: آية 47. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) انظر للإطلاع على أقوال الفقهاء في هذه المسألة: القوانين الفقهية (95)، والمبسوط (2/ 69)، ومغني المحتاج (1/ 348)، والمغني (2/ 517)، والفقه الإِسلامي وأدلته (2/ 496)، وبداية المجتهد (1/ 228)، وحاشية الروض (3/ 79)، والمجموع (5/ 173). (¬4) الاستذكار (8/ 281).

وقال أصحاب الرأي: يقوم فيها حذاء الصدر (¬1). وعند المالكية: قول أنه يقف عند منكبها (¬2) وعند وسطه، وقول ثان عكسه، حكاه صاحب الإِكمال. وروى ابن غانم (¬3) عن مالك: نحو مذهب الشافعي في المرأة، وسكت عن الرجل. وروى صاحب "الجواهر" قولاً آخر عنه: أنه يقف فيهما جميعاً [وسطهما. وحكى غيره قولاً آخر أنه يقف فيهما جميعاً عند] (¬4) صدرهما. وقال الزناتي "شارح الرسالة": لا فرق في ذلك كله بين أن يكون نعشهما مستوراً أم لا. وقال بعضهم: الخلاف إذا لم يكن مستوراً. فإن كان وقف حيث شاء. ¬

_ (¬1) استدلوا على ذلك بأن الصدر موضع القلب، وفيه نور الإِيمان فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإِيمانه، فإذا قام عند صدر الرجل فكذا المرأة، ويقوم عند صدر المرأة ليكون أبعد عن عورتها الغليظة. (¬2) استدل على ذلك بما روى إبراهيم النخعي قال: "كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يستقبل القبلة فإن كان رجلاً قام عند وسطه، وإن كانت امرأة قام عند منكبيها". المدونة (1/ 7159)، وبلغة السالك (1/ 198)، وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 313). (¬3) هو أبو محمد عبد الله بن عمر بن غانم القيرواني قاضي أفريقية وفقيهها ولد سنة 128هـ، وتوفي سنة (190). انظر: شجرة النور الزكية (62)، والأعلام للزركلي (4/ 109). (¬4) في ن ب ساقطة.

قلت: وقد روى أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) وابن ماجه (¬3) ما يرفع الخلاف عن أنس "أنه صلَّى على رجل فقام عند رأسه، وعلى امرأة، وعليها نعش أخضر فقام عند عجيزتها" فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة! هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الجنازة؟ قال نعم. قال الترمذي: حديث حسن. وما حكاه الصيدلاني من أصحابنا: أن أنساً وقف عند صدره غلط صريح فاجتنبه. وقول بعض أصحابنا: بمقتضاه شاذ، لا يعرج عليه، ولا يلتفت إليه، وهذا الحديث الذي أوردناه يدل على أن مشروعية مقام الإِمام كذلك، وهو يبطل التأويل السالف مقامه -عليه الصلاة والسلام- وسط هذه الجنازة، إنما كان من أجل جنينها، حتى يكون أمامه، بل كان ذلك لأنه حكم بمشروعية ذلك. ¬

_ (¬1) أبو داود (3194). (¬2) الترمذي (1034)، والبيهقي (4/ 33)، وأحمد (3/ 118، 204). (¬3) ابن ماجه (1494). قال ابن حجر في الفتح (3/ 201): ولهذا أورد المصنف الترجمة مورد السؤال، وأورد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي: ثم ساق الحديث. قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في تعليقه عليه: وأخرجه أحمد وابن ماجه ولفظهما ولفظ الترمذي: "عند رأس الرجل ووسط المرأة" وإسناده جيد، وهو حجة قائمة على التفرقة بين الرجل والمرأة في الموقف، ودليل على أن السنَّة الوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة، والله أعلم. انظر: المسند (3/ 118، 204)، والفتح الرباني (7/ 243).

فرع. الخنثى كالمرأة. فرع آخر: أجمع العلماء على أنه لا يقوم ملاصقاً للجنازة، وأنه لا بد من فرجة بينهما. سابعها: في هذا الحديث إثبات الصلاة على النفساء وإن كانت شهيدة. وعن الحسن: أنه لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا ولدها، قاله قتادة في ولدها. ثامنها: فيه أيضاً أن السنَّة أن يقف الإِمام عند عجيزة المرأة كما أسلفناه. تاسعها: فيه أن موقف المأموم في صلاة الجنازة وراء الإِمام. ***

الحديث العاشر

الحديث العاشر 166/ 10/ 32 - عن أبي موسى عبد الله بن قيس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بريء من الصالقة والحالقة والشاقة" (¬1). قال المصنف -رحمه الله-: الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة. الكلام عليه من سبعة أوجه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في باب السواك. ثانيها: يقال: برئت منك ومن الذنوب والعيوب برأة بكسر الراء إبرأ بفتحها، وبرئت من المرض بُرءْاً بضم الباء. قال الجوهري (¬2): وأهل الحجاز: يقولون: برأت من المرض. بالفتح. ¬

_ (¬1) البخاري (1296) في الجنائز، ومسلم (104) في الإِيمان، والنسائي (4/ 20)، وابن ماجه (1586) في الجنائز، وأبو عوانة (1/ 56، 57)، وابن حبان (3152)، والبيهقي (4/ 64). (¬2) انظر: مختار الصحاح (26).

ثالثها: كأن براءته -عليه الصلاة والسلام- من هؤلاء من باب قوله: "من غشنا فليس منا" (¬1) ونحوه أي: ليس من أهل سنتنا ولا من المهتدين بهدينا. فالمراد: المبالغة في الزجر، وليس المراد به الخروج من الدين، كما في قوله -تعالى-: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2) فإن الشرك كفر. والمعاصي سواه، ليست بكفر عند أهل السنَّة. ¬

_ (¬1) مسلم (102) في الإِيمان، والترمذي (1315) في البيوع، وابن ماجه (2224) في التجارات، وأبو داود (3452) في البيوع، وأبو عوانة (1/ 57)، والبيهقي (5/ 320)، وأحمد (2/ 242)، وابن حبان (567، 4905)، والبغوي (2120، 2121) وابن منده (550/ 551) في الإِيمان. قال البغوي في شرح السنَّة (8/ 167) على قوله: "من غشنا فليس منا"، وفي رواية: "من غش فليس مني": لم يرد به نفيه عن دين الإِسلام، إنما أراد أنه ترك اتباعي، إذ ليس هذا من أخلاقنا وأفعالنا، أو ليس هو على سنتي وطريقتي في مناصحة الإِخوان، هذا كما يقول الرجل لصاحبه: أنا منك، يريد به الموافقة والمتابعة، قال الله -سبحانه- إخباراً عن إبراهيم -عليه السلام-: "فمن تبعني فإنه مني" والعش نقيض النصح، مأخوذ من الغشش، وهو المشرب الكدر ... إلخ. قال النووي في شرح مسلم (2/ 108): وكان سفيان بن عيينة -رحمه الله-: يكره قول من يفسره بليس على هدينا ويقول: بئس هذا القول يعني بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر، والله أعلم. انظر "تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد (455). (¬2) سورة التوبة: آية 4.

قال النووي: ويجوز أن يراد به ظاهره، وهو البراءة من فاعل هذه الأمور، ولا يقدر فيه حذف، وأصل البراءة الانفصال. رابعها: هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - دليل على تحريم هذه الأفعال لإِشعارها بالسخط لقضاء الله -تعالى- وقدره. وذلك كبيرة من كبائر الذنوب، حيث اقتضى فعل هذه الأشياء التبرىء من فاعلها ولعنه وخروجه من طريقة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - وإن اعتقد معتقد حل فعلها كان كافراً. خامسها: "الصالقة" (¬1) فسرها "المصنف" لكن تقييده برفع الصوت بالمصيبة صحيح في أنه المراد بهذا الحديث لا مطلقاً، فإن الصلق شدة رفع الصوت. قال لبيد (¬2): فصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقةً ... وُصَدآء أَلْحَقَتْهم بالثَّلَلْ أي رفعنا أصواتنا بالدعاء إلى قتال بني مراد. وأصلق: لغة في صلق. ويقال: التسليق بالسين أيضاً وهو الأصل، ويقرب منه قوله -تعالى-: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (¬3) والصاد تبدل من السين. وحكى القاضي عياض: عن ابن الأعرابي: أن الصلق ضرب الوجه وهو غريب، والمشهور المعروف ما أسلفناه. ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب (7/ 390). (¬2) انظر: لسان العرب (7/ 290). (¬3) سورة الأحزاب: آية 19.

قلت: ومن الصلق النوح. سادسها: الحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، وفي معناه قَدَّهُ من غير حلق. سابعها: "الشاقة" التي تشق ثوبها عند المصيبة، ومنه حديث ابن مسعود الآتي في الباب (¬1) وشق الجيوب وهذه الأفعال في الرجال أشد تحريماً، ويحرم تعاطي الأسباب الحاملة على ذلك، وصرف الأموال فيه: كصرفه إلى النواحات والمنوحين، سواء كان ذلك بقراءة أو إنشاد أو وعظ ونحو ذلك. خصوصاً إن ترتب محَرمات أُخر من: تمطيط قراءة، أو تهييج على صراخ، وشق، وحلق، أو تعديد محامد الميت من غير قصد تحريض اقتداء بفعله. ولم يكن الميت متصفاً بها، أو جعل المقابح محاسن. ومن الأفعال المحرمة عند مصائب الموت. إدارة ذاوئب العمامة إلى قدام يديه فإن ذلك فعل اليهود وقد نهينا عن التشبه بهم وأمرنا بمخالفتهم. ومنها ما يفعل من نشر الشعور، ولبس جلال الدواب، وقلب سروج الخيل، وتنكيس الرايات، وبذر التبن علي الأبواب، وذبح البهائم لموت الميت، وعقر الحيوان، وإعلاء الأصوات بالبكاء، والندب، والمرآت بذلك. ... ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله في الحديث (13).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 167/ 11/ 32 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، وكانت أم سلمة، وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة -فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها- فرفع رأسه فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" (¬1). الكلام عليه من سبعة عشر وجهاً: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في الطهارة. وأم سلمة: تقدمت ترجمتها في باب الجنابة، وأن اسمها هند. وقيل رملة. وأم حبيبة: سيأتي التعريف بها في كتاب النكاح إن شاء الله، واسمها رملة على المشهور. ¬

_ (¬1) البخاري (422، 434، 1341، 3878)، ومسلم (528)، والبغوي (509)، وأبو عوانة (1/ 400، 401)، وأحمد (6/ 121، 255)، وابن حبان (3181)، والبيهقي (4/ 80)، وابن أبي شيبة (4/ 140)، والنسائي (2/ 41).

وقولها: "ذكر بعض نسائه" المراد به أم حبيبة وأم سلمة كما بينته بعد. ثانيها: "اشتكى" افتعل من الشكوى، ومعناه مرض وهو لفظ يستعمل في المرض على اختلاف أنواعه يقال: اشتكى عينه، واشتكى رأسه، واشتكى بطنه. ومنه الحديث (¬1) الآتي في بابه "أن ابنتي اشتكت عينها أفنكحلها". ثالثها: هذا المرض، والله أعلم [مرض] (¬2) موته الذي مات فيه، كما جاء مفسراً في الحديث الذي بعده وهو قولها: "في مرضه الذي لم يقم منه" (¬3)، وفي صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "ألا! فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" (¬4). رابعها: الكنيسة بفتح الكاف وكسر النون متعبد النصارى، وجمعها كنائس كصحيفة وصحائف. وأما البيع: فقيل: كنائس النصارى. ¬

_ (¬1) في كتاب العدة. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سيأتي في الحديث الذي بعده. (¬4) أخرجه مسلم (532)، وأبو عوانة (2/ 401)، والنسائي في التفسير في الكبرى، تحفة الأشراف (2/ 443).

وقيل: اليهود واحدتها بِيعَة بكسر الباء (¬1). وأما الصوامع (¬2): فهي مواضع العبادة كانت قبل الإِسلام مختصة برهبان النصارى وعباد الصابئين. قاله قتادة، ثم استعمل في مأذنة المسلمين (¬3). وأما الصلوات: فقيل إنها مشتركة لكل ملة (¬4). قال ابن عطية (¬5): وذهبت طائفة إلى أن الصلوات اسم لشرائع ¬

_ (¬1) انظر: المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب (78)، والمعرب للجواليقي (207). (¬2) الصوامع: بناء يتخذه النصارى للعبادة يكون رأسه دقيق. اهـ. القاموس المحيط، باب: العين فصل الصاد (2/ 53)، وبصائر ذوي التمييز (3/ 380)، والعمدة في غريب القرآن لمكي (213)، وتحفة الأريب لأبي حيان (199)، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى، يقال: صمّع الثريدة أي رفع رأسها وحدّده، ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة ... إلخ. وهي منازل الرهبان وبيوتهم. (¬3) القرطبي (12/ 71)، والمحرر الوجيز لابن عطية (11/ 206). (¬4) غرائب التفسير للكرماني (761)، وغريب القرآن لابن الملقن (264)، والعمدة في غريب القرآن لمكي (213)، وتحفة الأريب لأبي حبان (202)، وتفسير المشكل من غريب القرآن لمكي (161)، والمعرب للجواليقي (419)، والمهذب فيما وقع في القرآن من المعرب (107). انظر: تعليق أحمد شاكر على المعرب للجواليقي (211)، حيث لم يرتضى هذا التفسير. (¬5) العبارة كما هي في المحرر الوجيز (11/ 206): وذهبت فرقة إلى أن الصلوات اسم "لشرائع" في المطبوع تحرفت إلى "شفاعة"، فليتنبه، وأن اللفظة عبرانية عربت وليست بجمع صلاة. وقال أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين. اهـ.

اليهود وأن اللفظة عربت صلاة. وقال أبو العالية: إنها مساجد الصابئين كالمساجد للمسلمين. قال ابن عطية (¬1): وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها إلَّا البيعة، فإنها مختصة بالنصارى في عرف لغة العرب، والمساجد للمسلمين. خامسها: "مارية" بكسر الراء وفتح الياء المثناة تحت مخففة الكنيسة المذكورة، وممن نص على تخفيف الياء صاحب المشارق (¬2). قال ابن العطار في "شرحه": "مارية": -بكسر الراء وفتح المثناة- تحت، الخفيفة الكسر والفتح فيهما. سادسها: في الحديث دليل على تحريم تصوير الحيوان خصوصاً الآدمي الصالح، سواء كان التصوير في حائط أو ثوب أو ورق أو مجسداً قائماً بذاته. والأحاديث في الصحيح تدل لما ذكرناه: منها "لعن الله المصورين" (¬3)، ومنها "أشد الناس عذاباً يوم ¬

_ (¬1) قال ابن عطية -رحمنا الله وإياه- في المحرر (11/ 206): قال القاضي: وذهب خصيف إلى أن هذه. الأسماء قصد بها متعبدات الأمم، والصوامع للرهبان، وقيل: للصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين. (¬2) مشارق الأنوار (1/ 397). (¬3) البخاري (2086، 2238، 5347، 5945، 5962)، وأبو داود (3/ 338) في البيوع، باب: في أثمان الكلب، وأبو يعلى (890)، وأحمد (4/ 308، 309)، والطيالسي (1043، 1045)، وابن حبان (5852)، والبغوي (8/ 25).

القيامة المصورون" (¬1)، وفي الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين" (¬2). قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح (¬3). وقال -تعالى-: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (¬4). ولقد غلط من حمل التحريم على المسجد القائم بذاته حيث إنه شبهت الأصنام، وأبعد من ذلك حمل الأحاديث على كراهة التنزيه (¬5) وأن التشديد الوارد في التصوير إنما ¬

_ (¬1) عن عائشة البخاري (5954. 5955، 2479، 6109)، ومسلم (2107)، والنسائي (8/ 213)، وابن ماجه (3653)، والبيهقي (4/ 283، 284) (7/ 269، 270)، والدارمي (2/ 284)، وأبو يعلى (4404، 2438، 4468، 4469)، والبغوي (12/ 128)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 283، 284)، وعبد الرزاق (19484)، وأحمد (6/ 199، 229)، ومن رواية ابن مسعود عند أحمد (1/ 375، 407، 426)، والحميدي (251)، والطيالسي (1848) عن عائشة. (¬2) أحمد (8411)، والترمذي (4/ 702). (¬3) فيه اختلاف في اللفظ بين تحفة الأشراف (9/ 363)، والسنن. (¬4) سورة النمل: آية 60. (¬5) قد تواترت الأدلة الكثيرة على تحريم التصوير والأمر بطمسها والنهي عن اتخاذها والوعيد الشديد على المصورين وعدم دخول الملائكه بيتاً فيه صورة، لأن فيه مضاهاة لخلق الله. قال البخاري -رحمه الله- بعد سياق الإسناد: قال أبو زرعة: دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة، فرأى في أعلاها مصوراً يصور، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله =

كان في ذلك لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان. وهذا الزمان انتشر الإِسلام وتمهدت قواعده فلا تساويه في المعنى ولا في التشديد في التحريم (¬1) وكل من القولين باطل حيث أخبر الشارع بعذاب المصورين يوم القيامة: "وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (¬2) وذلك مخالفاً لمقالتهم، كيف وقد صرح بذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام- في وصف المصورين: إنهم لمشبوهون لخلق الله. وهذه علة عامة مستقلة [شاملة] (¬3) مناسبة لا تخص زمناً دون زمن، وليس لنا التصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة الصريحة بمعنى خيالي يمكن أن لا يكون مراداً مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره وهو التشبيه بخلق الله، وقد يؤخذ من قوله -عليه الصلاة والسلام- والمشبهون بخلق الله: تحريم تصوير غير الحيوان مطلقاً، إذ الكل ¬

_ = -تعالى-: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة"، وقال: بعد سياقه لإسناد حديث: أن عائشة -رضي الله عنها- حدثته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاوير إلَّا نقضه، وعنها قالت: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر وعلقت درنوكاً فيه تماثيل، فأمرني أن أنزعه فنزعته"، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون"، قال البخاري: باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة: وفيه حديث ابن عمر: فقال: "إنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب". (¬1) انظر: كلام الشيخ صالح الفوزان في كتابه الإِعلام بنقد كتاب الحلال والحرام (47)، وكلام الشيخ أحمد شاكر في المسند (7166). (¬2) انظر التعليق ت (5) ص (490). (¬3) زيادة من ن ب د.

خلق الله -تعالى- (¬1). ¬

_ (¬1) وقد نقل ابن حجر -رحمه الله- وجهاً بالمنع من تصوير الأشجار عن أبي محمد الجويني، لأن من الكفار من عبدها، قلت: ولا يلزم من تعذيب من صور ما فيه روح بما ذكر تجويز تصوير ما لا روح فيه، فإن عموم قوله: "الذين يضاهون بخلق الله" وقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"، يتناول ما فيه روح وما لا روح فيه، فإن خص ما فيه روح بالمعنى من جهة أنه مما لم تجر عادة الآدميين بضعته وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلاً امتنع ذلك في مثل تصوير الشمس والقمر، ويتأكد المنع بما عبد من دون الله، فإنه يضاهي صورة الأصنام التي هي الأصل في منع التصوير، وقد قيد مجاهد صاحب ابن عباس جواز تصوير الشجر بما لا يثمر وأما ما يثمر فألحقه بما له روح، قال عياض: لم يقله أحد غير مجاهد، ورده الطحاوي بأن الصورة لما أبيحت بعد قطع رأسها التي لو قطعت من ذي الروح لما عاش دل على إباحة ما لا روح له أولاً قلت: وقضيته أن تجويز تصوير ما له روح بجميع أعضائه إلَّا الرأس فيه نظر لا يخفى، وأظن مجاهداً سمع حديث أبي هريرة الماضي ففيه: "فليخلقوا ذرة، وليخلقوا شعيرة" فإن في ذكر الذرة إشارة إلى ماله روح وفي ذكر الشعيرة إشارة إلى ما ينبت مما يؤكل، وأما لا روح فيه ولا يثمر فلا تقع الإِشارة إليه. اهـ، من فتح الباري (10/ 394). وأيد الصنعاني -رحمه الله- في حاشيته على الأحكام (3/ 256)، وتفسير القرطبي (13/ 221، 222) (14/ 238)، ما ذهب إليه مجاهد قال: والحق مع مجاهد لعموم الدليل، ولا نسلم خصوص: "أحيوا ما خلقتم" بذوات الروح، وأي روح في الشعيرة فلا بد أن يراد ما لحياة ما أسلفناه، وفتيا ابن عباس اجتهاد منه ... إلخ. اهـ. وقد ورد في حديث عند ابن ماجه (3652) ولفظه عن أبي أمامة: "أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته أن زوجها في بعض المغازي فاستأذنته أن تصور في بيتها نخلة، =

ولنبين الحكم في مسألة التصوير فنقول: مذهب مالك: إن الصور إن كانت تماثيل على صفة الإِنسان أو غيره من الحيوان فلا يحل فعلها ولا استعمالها في شيء أصلاً، وإن كانت رسماً في حائط أو رقماً في ثوب (¬1) ينشر ويبسط أو وسائد ¬

_ = فمنعها أو نهاها"، قال في الزوائد (4/ 94): هذا إسناد فيه عفير بن معدان وهو ضعيف. (¬1) قال النووي في شرح مسلم (14/ 85)، حيث قال بالاستثناء الوارد في الحديث: "إلَّا رقماً في ثوب"، ورده على المستدلين به، قال: هذا يحتج به من يقول: بإباحة ما كان رقماً مطلقاً، وجوابنا وجواب الجمهور عنه، أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا. اهـ. وقال ابن حجر في الفتح (10/ 391): ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي، كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن، وسأذكره في الباب الذي يليه، وقال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإِجماع، وإن كانت رقماً فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب "إلَّا رقماً في ثوب". الثاني: المنع مطلقاً حتى الرقم. الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح. الرابع: إن كان مما يمتهن جازوا وإن كان معلقاً لم يجز. قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في كتابه: الجواب المفيد في حكم التصوير: "وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف: "إلا رقماً في ثوب" فهذا استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصوير، وذلك واضح من سياق الحديث والمراد بذلك إذا كان الرقم في =

يرتفق بها للاتكاء عليها فهي مكروهة. وقيل: محرمة. قال القاضي أبو بكر: وقد قيل: إن الذي يمتهن من الصور يجوز وما لا يمتهن لا يجوز، لأن الجاهلية كانت تعظم الصور فما يبقى فيه جزء من التعظيم والارتفاع يمنع، وما يمتهن فهو مباح، لأنه ليس مما كانوا فيه (¬1). وحكى القرطبي عن بعضهم تفصيلاً: إن التصوير على صفة غير الحيوان جائز: كالأشجار ونحوها، وعلى صفته حرام إن كان له ظل بشروط أربعة: أن يكون قائماً بنفسه، وأن يكون على صفة ما يحيي، وأن يكون كامل الخلقة، وأن يكون مما يسرع إليه الفساد. ¬

_ = ثوب ونحوه يبسط ويمتهن، ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين. وحديث أبي هريرة وقول جبربل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة لشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان" إلخ، ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار، أو نحو ذلك لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه، كما تقدم ذكرها الفاكهي. وحديث أبي هريرة صريح في منع دخول الملائكة في مثل هذا الستر حتى يبسط أو يقطع رأس التمثال فيكون كهيئة الشجرة ... إلخ. وانظر: كتاب الأعلام بنقد كتاب الحلال والحرام للشيخ صالح الفوزان. (¬1) انظر: شرح مسلم للنووي، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان (14/ 75)، وفتح الباري (10/ 388، 390)، والجواب المفيد في حكم التصوير للشيخ عبد العزيز بن باز.

وقال أصبغ: يجوز مثل الحلوى ونحوها. قال ابن رشد: وهو بعيد عن القياس والنظر فإن كان له ظل فثلاثة أقوال: ثالثها إباحة ما عدا المرسوم منها في الجدر. وقيل: في الجدر والستور. ومذهب الشافعي -رضي الله عنه-: أنه يحرم تصوير حيوان على حائط وبيت، ولا أجرة لفاعله. وكذا في ثياب على الأصح، وطرد المتولي الخلاف في الأرض ونحوها. وقد بسطت المسألة بفروعها والخلاف فيها في شرحي "المنهاج والتنبيه" فليراجع منهما. قال القرطبي: وقد استثنى من هذا الباب لعب البنات لقصة عائشة (¬1) في الصحيح. ¬

_ (¬1) قال الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (1/ 180): ومن زعم أن لعب عائشة -رضي الله عنها- صور حقيقية لذوات الأرواح فعليه إقامة الدليل ولن يجد إلى ذلك سبيلاً، فإنها ليست منقوشة ولا منحوتة ولا مطبوعة من المعادن المنطبقة ولا نحو ذلك، بل الظاهر أنها من عهن أو قطن أو خرق أو قصبة، أو عظم مربوط في عرضه عوداً معترضاً بشكل يشبه الموجود في اللعب في أيدي البنات الآن في البلدان العربية البعيدة عن التمدن والحضارة مما لا يشبه الصورة المحرمة إلَّا بنسبة بعيدة جدًّا لما في صحيح البخاري من أن الصحابة يُصَوِّمُون أولادهم. فإذا طلبوا الطعام أعطوهم اللعب من العهن يعللونهم بذلك ... إلخ. وينبغي أن يتنبه المسلم للفرق بين اللعب المذكورة في الحديث مع ما تطرق دليل الجواز من الاحتمالات التي قيل إنها قيل التحريم وأنه منسوخ -فقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم في الموضع السابق بعد سؤال وجه =

قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك، والتدريب على تربية الأولاد، ثم إنه [لا بقاء] (¬1) لذلك قال: وكذلك ما يصنع من الحلوى والعجين لا بقاء له فرخص في ذلك. قال القرطبي: ولم يختلفوا في أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة، وكذا ما كان خرطاً أو نقشاً في البناء، واستثنى ما كان رقماً في ثوب، كما جاء في الحديث. قلت: وحمل على ثوب عليه صورة غير ذات روح جمعاً بين الأحاديث. وقال ابن العربي: خص الرقم من جملة التصوير بالحديث المذكور. ثم ثبتت الكراهة فيه بقوله لعائشة: "أخريه عني" فقطعته ¬

_ = إليه عن لعب البنات الموجودة في هذا الوقت: نعم يختلف حكم هذه الحادثة الجديدة عن حكم لعب عائشة -رضي الله عنها-، لما في هذه الحادثة الجديدة من حقيقة التمثيل والمضاهاة والمشابهة بخلق الله -تعالى- لكونها صوراً تامة بكل اعتبار، ولها من المنظر الأنيق والصنع الدقيق والرونق الرائع ما لا يوجد مثله، ولا قريب منه في الصور التي حرَّمتها الشريعة المطهرة، وتسميتها لعباً وصغر أجسامها لا يخرجها عن أن تكون صوراً، إذا العبرة بحقائقها لا بأسمائها، فكما أن الشرك شرك وإن سماه صاحبه استشفاعاً وتوسلاً، والخمر خمر وإن سماها صاحبها نبيذاً، فهذه صور حقيقة وإن سماها صانعوها لعب أطفال، وفي الحديث: "يجيء في آخر الزمان أقوام يستحلون الخمر ويسمونها بغير اسمها" ... إلخ. انظر: مبحث في مجلة البحوث العلمية والإِفتاء (11/ 263). (¬1) في ن ب (يقال).

وسادتين حتى تغيرت الصور، وخرجت عن هيئتها. فتبين جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب، ثم نسخه المنع منه، وهكذا استقر الأمر فيه. خاتمة: قال القرطبي في تفسير (¬1) قوله -تعالى-: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} أن التماثيل جمع تمثال وحكى فيها أقوالاً. أحدها: أنها كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان وهو كل ما صور على مثل صورة غيره من حيوان أو غيره، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء وكانت تصور في المساجد ليراها الناس ليزدادوا عبادة واجتهاداً. ومنه الحديث الذي نحن فيه: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور" أي ليذكروا عبادتهم فيجتهدوا. قلت: فلما جاء من بعدهم لم يفهموا أغراضهم فعبدوها. فهذا أصل عبادة الأصنام كما نبه عليه القاضي وما أسلفناه يدل على أن التصوير كان مباحاً في ذلك الزمان، وبه صرح أبو العالية، ونسخ ذلك بشرعنا (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (14/ 238). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (10/ 382)، بعد سياقه قريباً من كلام المؤلف قال بعده: ويحتمل أن يقال: إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم يتعين الحمل على المعنى =

ثانيها: أنها طلسمات كانت تعمل ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها، فيعمل تمثالاً للذباب والبعوض [والتماسيح] (¬1) في مكان ويأمرهم أن لا يتجاوزه [فلا يتجاوزه] (¬2) أبداً ما دام ذلك التمثال قائماً. ثالثها: أنها رجال اتخذوهم من نحاس، وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله فلا يحتك فيهم السلاح، ويقال: إن اسفنديار كان منهم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان إليه ذراعيهما وإذا قعد ظلله النسران بأجنحتهما. ¬

_ = المثسكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة الكنيسة التي بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئِك شرار الخلق عند الله"، فإن ذلك يشعر بأنه لو كان جائزاً في ذلك الشرع ما أطلق عليه - صلى الله عليه وسلم - أن الذي فعله شر الخلق، فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عباد الصور، والله أعلم. قال أبو بكر بن العربي: "والذي أوجب النهي في شريعتنا -والله أعلم- ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون فقطع الله الذريعة، وحمى الباب". وكلام الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (277)، فإن فيه ما يشفي ويكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع، وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن (229). (¬1) في ن ب د (أو للتماسيح). (¬2) زيادة من ن ب د.

وحكى مكي في الهداية: أن فرقة تجوّز الصور، وتحتج بهذه الآية، وقد تقدم وهن ذلك. الوجه السابع: في الحديث دليل أيضاً على منع بناء المساجد على القبور، وهو منع يقتضي التحريم، كيف وقد ثبت في الحديث الآتي (¬1) "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" (¬2)، وقد استجاب الله دعاءه فله الحمد والمنة. وأما الشافعي والأصحاب فصرحوا بالكراهة قال البندنيجي: والمراد أن يسوي القبر مسجداً فيصلى فوقه وقال: إنه يكره أن يبنى عنده مسجداً فيصلي فيه إلى القبر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" (¬3). رواه مسلم في صحيحه. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه بعد هذا الحديث. (¬2) مالك في الموطأ (1/ 172)، وعبد الرزاق (1/ 406)، وابن أبي شيبة (3/ 345)، وأحمد (2/ 246)، والحميدي (1025)، وصححه البزار وابن عبد البر كما في تنوير الحوالك (1/ 186)، والزرقاني (1/ 351)، وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة (6/ 283، 7/ 317)، وابن سعد في الطبقات (2/ 240، 241)، مرسلاً عن عطاء. وانظر المسند برقم (7352)، تحقيق أحمد شاكر. وانظر كلام الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد (294)، وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن (229)، كما قال ابن القيم -رحمة الله تعالى- علينا وعليه: فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في غزة وحماية وصيان (¬3) مسلم (972) في الجنائز، والترمذي (1050، 1051) في الجنائز، =

وخالف أبو حنيفة فقال: يباح البناء على القبور وتجصيصها. وقيل لمحمد بن عبد الحكم: في الرجل يوصي أن يبنى على قبره فقال: لا، ولا كرامة. قال [(¬1)] القاسم في العتبية: كره مالك أن يرصص على القبور بالحجارة والطين، وأن يبنى عليها بطوب أو أحجار. قال: وكره المساجد المتخذة على القبور (¬2). ¬

_ = باب: ما جاء في كراهية المشي على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها، وأبو داود (3229) في الجنائز، باب: في كراهة القعود على القبور (2/ 67)، وابن خزيمة (793، 794)، والحاكم (3/ 220، 221)، وأحمد (4/ 135)، وابن حبان (2320، 2324)، والبيهقي (2/ 425). (¬1) في ن ب (أبو)، وفي د (ابن). (¬2) للإطلاع تفسير سورة الإِخلاص (192)، اقتضاء الصراط المستقيم، الرد على البكري (233)، قال شيخ الإِسلام: أما بناء المساجد على القبور: فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه، قال: ولا ريب في القطع بتحريمه"، ثم ذكر الأحاديث في ذلك -إلى أن قال- وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم، تتعين إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين، وقال ابن القيم: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي، والظهير التزمنتي وغيرهما. وانظر كلام علماء المذاهب كافة في تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد في فتح المجيد (240).

وأما مقبرة داثرة: يبنى فيها مسجد يصلى فيه فلم أر به بأساً (¬1). وكره ابن القاسم: أن يجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها ولم ير بالحجر والعود بأساً يعرف به الرجل قبر وليه ما لم يكتب فيه (¬2). الثامن: فيه دليل أيضاً على جواز حكاية الإِنسان ما رآه من البناء والتصاوير وأنه لا حرج في ذلك. التاسع: فيه دليل أيضاً على وجوب البيان عند حكاية ما ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام: وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب، ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا، لعموم الاسم وعموم العلة ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس، وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ كلامه. (¬2) قال النووي في شرح المهذب (5/ 298): قال أصحابنا: وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس، أم في غيره، فكله مكروه لعموم الحديث". اهـ. أما التعليم بحجر ونحوه ليدفن إليه من يموت من أهله وأقاربه فجائز لحديث المطلب بن أبي وداعة قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأني انظر إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنها، ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". انظر: أبو داود (2/ 69)، والبيهقي (3/ 412)، وسنده حسن كما قال ابن حجر.

يقتضي مخالفة الشرع، وأن المرض ليس عذراً من البيان والإِنكار. العاشر: فيه دليل أيضاً على تحريم التعظيم بما لا يحل فعله وقوله. الحادي عشر: فيه دليل أيضاً على وصف فاعل المحرمات المضاهية لخلق الله -تعالى- والآمر بها ومرتضيها بأقبح وصف فإنه -عليه الصلاة والسلام- وصفهم بشرار الخلق عند الله. الثاني عشر: فيه دليل أيضاً على أن الاعتبار في الأحكام والأوصاف وغيرها إنما هو بما عند الله لا بما عند الخلق. الثالث عشر: فيه دليل أيضاً على جواز الكلام عند المريض والشاكي. الرابع عشر: فيه أيضاً أن الكلام عنده إنما يكون بما يناسب حال الشاكي ومقامه حيث ذكرتا أماكن العبادة وتعظيم النصارى لها بما ذكرتا فبين - صلى الله عليه وسلم - ذلك ودليل جميعه. الخامس عشر: فيه دليل أيضاً على كراهة الصلاة في القبور، وعلل الشافعي ذلك بأنها مدفن النجاسات ودل كلام القاضي أن الكراهة لحرمة الموتى، ولا فرق في الكراهة في المقبرة بين أن يصلى على القبر أو بجانبه أو إليه (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد (244): بعد كلام سبق -انظر ما بعده- والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله كلام باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم، وحرام بنص الكتاب، ومنها أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول من صلَّى =

السادس عشر: بناء غير المساجد على القبور إن كان لمعنى مقصود شرعي فهو جائز إجماعاً، بشرط أن لا يكون في بقعة محرمة من غصب أو تسبيل على المسلمين. وقد نص الشافعي وأصحابه على تحريم البناء في المقبرة المسبلة للمسلمين (¬1). ¬

_ = في بقعة نجسة فعليه لعنة الله، ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - بعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً، لما يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم ويقال أيضاً: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، عُلم أن العلة ما ذكره هؤلاء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وعلة ما يؤدي إليه ذلك: من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع، والله المستعان. (¬1) وقال أيضاً: وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس في أبواب العلم بالله اضطرابهم وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنَّة بقيود أوهنت الانقياد، وغيّروا بها ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وأراد، فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل -ثم ساق ما ذكرناه بأعلاه-.

قال الشافعي: ورأيت الولاة عندنا بمكة يأمرون بهدم ما بني منها، ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم. قلت: ومن ذلك القرافة ببلدنا مصر -حماها الله وصانها وسائر بلاد الإِسلام وأهله- فإنها مسبلة على المسلمين لدفنهم خاصة، وقد جرى فيها بسبب البناء أمور منكرة شنيعة. وقد ذكر ابن الرفعة (¬1) -رحمه الله- عن شيخه الظهير التزمنتي (¬2)، عن الشيخ بهاء الدين بن الجميزي (¬3) قال: جهدت مع الملك الصالح في هدم ما أحدث بقرافة مصر من البناء فقال: أمر ¬

_ (¬1) أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع، أبو العباس، البخاري، ابن الرفعة، ولد بمصر سنة خمس وأربعين وستمائة. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (220)، وشذرات الذهب (6/ 22)، والطبقات الكبرى للسبكي (5/ 177)، وطبقات الشافعية للنووي (372)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 211). (¬2) هو جعفر بن يحيى بن جعفر ظهير الدين التزمنتي المخزومي، توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين وستمائة. انظر: هدية العارفين (1/ 254)، وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 54)، وطبقات الأسنوي (113)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 171). (¬3) علي بن هبة الله بن سلامة بن المسلم المعروف بابن الجميزي، ولد يوم عيد الأضحى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة تسع وأربعين وستمائة. انظر: البداية والنهاية (13/ 181)، ومرآة الجنان (4/ 119)، والنجوم الزاهرة (7/ 24)، وشذرات الذهب (5/ 246)، وطبقات الشافعية للأسنوي (133)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 118).

فعله والدي لا [أزيله] (¬1). قال: ودخل الظهير التزمنتي إلى صورة مسجد بناه بعض الناس بقرافة مصر الصغرى، فجلس فيه من غير أن يصلي له تحية، فقال له: [الباني] (¬2) لم لا صليت التحية؟ قال: لأنه غير مسجد، فإن المسجد هو الأرض، والأرض مسبلة لدفن المسلمين. أو كما قال. ومن المقصود الشرعي فعل الصحابة -رصي الله عنهم- بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه حيث دفنوا في بيت عائشة وأخفيت قبورهم بالبناء كي لا تتخذ مسجداً كما ذكرته عائشة في الحديث الآتي. أما البناء على القبر في ملكه فهو مكروه، وعموم النهي [عنه] (¬3) في الأحاديث الصحيحة تقتضي التحريم. قال القاضي الماوردي في "حاويه": البناء على القبور كالبيوت والقباب إن كان في غير ملكه لم يجز للنهي والتضييق على الناس، وإن كان في ملكه فإن لم يكن محظوراً لم يكن [مختاراً] (¬4). فرع: المظلة ونحوها ملحقة بالبناء عليه في الكراهة. قاله البغوي من الشافعية وغيره. وقال ابن حبيب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أفضل من ضربه على قبر الرجل لما يستر منها عند إقبارها، وقد ضربه عمر على قبر زينب بنت جحش. ¬

_ (¬1) في ن د ساقطة. (¬2) في ن ب (الثاني). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في ن د (مجتازاً).

وكره ابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن المسيب: ضربه على قبر الرجل. وضربته عائشة: على قبر أخيها عبد الرحمن. وضربه محمد ابن الحنفية: على قبر ابن عباس، وروى أنه بات على قبره شهراً. وروى البخاري: أنه لما مات الحسن بن الحسين بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة، ثم رجعت فسمعوا صائحاً يقول: الأهل وجدوا ما فقدوا. فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا (¬1). قال ابن حبيب: وأراه واسعاً في اليومين والثلاثة وإنما كرهه من كرهه لمن ضربه على وجه السمعة والمباهاة. فرع: عقد القبر بالحجر ونحوه الذي يظهر أنه في معنى البناء لما فيه من الزينة بخلاف التطيين. وقال الحضرمي في "شرح المهذب": كأن المراد بقولهم: لا تبنى القبور أن لا تبنى القبور في نفسها بأجُر ولبن. ... ¬

_ (¬1) ذكره البخاري معلقاً (3/ 200) في الفتح. انظر: تغليق التعليق (2/ 482) لابن حجر.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 268/ 12/ 32 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬1) " (¬2). قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. الكلام عليه من أربعة عشر وجهاً: أحدها: قولها أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "في مرضه ¬

_ (¬1) البخاري (435، 1330، 1390، 3453، 4443، 5815) من رواية عائشة، ومن رواية ابن عباس (436)، ومسلم (529، 531)، وأبو عوانة (1/ 399)، والنسائي (2/ 40، 41)، والبغوي (3825)، والبيهقي في السنن (4/ 80)، والدلائل (7/ 207)، وأحمد (1/ 218/ 6/ 34، 121، 228، 229، 255، 275)، وابن حبان (6619)، والدارمي (1/ 326)، وعبد الرزاق (1588، 9754). (¬2) في البخاري زيادة بعد المتن "يحذر ما صنعوا"، وفي ابن حبان "قال: تقول عائشة: يحذرهم مثل الذين صنعوا". قال في فتح المجيد (233): الظاهر أن هذا من كلام عائشة -رضي الله عنها-، وأيضاً في فتح الباري (1/ 532).

الذي لم يقم منه" فيه تنبيه على كانت الصحابة تعتمده من الأخذ [بالآخر] (¬1) من قوله وفعله، فنبهت على أن ذلك ليس من أمره المتقدم، بل هو من المتأخر عند موته، وكذا حديث جندب الذي قدمناه في الحديث قبله. ثانيها: "اللعن" هو الطرد والإِبعاد. فاللعنة: من العباد الطرد ومن الله العذاب والإِبعاد من الرحمة (¬2). ثالثها: فيه: لعن اليهود والنصارى غير المعينين وهو إجماع سواء أكان لهم ذمة أم لم يكن لجحودهم الحق وعداوتهم الدين وأهله. واختلف في لعن المعين منهم (¬3) والجمهور على المنع لأن ¬

_ (¬1) في ن ب (بالأمرين). (¬2) انظر: تيسير العزيز الحميد (156)، ومثله في فتح المجيد (145). (¬3) قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- ما معناه: إن الله -تعالى- يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي -سبحانه- على من استحق الصلاة من عباده. اهـ، من فتح المجيد (145). قال في تيسير العزيز الحميد (159): وفي الحديث دليل على جواز لعن أنواع الفساق، كقوله: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"، ونحو ذلك: فأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: ذكرهما شيخ الإِسلام، أحدهما: أنه جائز، اختاره ابن الجوزي وغيره. والثاني: لا يجوز، اختاره أبو بكر بن عبد العزيز وشيخ الإِسلام، قال: والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله، وأن يقول كما قال الله: "ألا لعنة الله على الظالمين".

حاله عند الوفاة لا تعلم، وقد شرط الله في ذلك الوفاة على الكفر بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} (¬1)، وأما ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- لعن قوماً بأعيانهم من الكفار إنما كان ذلك لعلمه بمآلهم. قال ابن العربي: والصحيح عندي الجواز، لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله. قال: وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني" (¬2) فلعنه وإن كان الإِيمان والإِسلام مآله، وأنصف بقوله: عدد ما هجاني ولم يزد ليُعلم العدل والإِنصاف، وأضاف [الهجو] (¬3) إلى الله -تعالى- في باب الجزاء (¬4) دون الابتداء بالوصف بذلك، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة -سبحانه- عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً. ويباح لعن كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 161. (¬2) العلل لابن أبي حاتم (2/ 263)، قال أبي: هذا حديث خطأ، إنما يروونه عن عدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً بلا براء. واللفظ ليس فيه تعيين عمرو، إنما هو مبهم. (¬3) في ن ب (الهجر). (¬4) قال الشيخ عبد العزيز السلمان في الكواشف الجلية (267): وأما تسميته مكراً وكيداً فقيل من باب المقابلة نحو "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، وقوله: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"، وقيل: إنه على بابه فإن المكر إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده ... إلخ كلامه.

والظلمة والسراق والمصورين والزناة، ومن يتشبه من النساء بالرجال وعكسه إلى غير ذلك مما ورد في الحديث لعنه. قال بعض المتأخرين من المالكية: وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على [الكفر] (¬1) وإظهار قبح كفره، سواء كان الكافر ميتاً أو مجنوناً. وقال قوم من السلف: لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به. وأما لعن العاصي المعين فادعى ابن العربي: أنه لا يجوز لعنه اتفاقاً للحديث الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- أتي بشارب مراراً فقال بعض من حضر: "لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال -عليه الصلاة والسلام-: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم" (¬2) فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة. وأما القرطبي: فحكى خلافاً فيه في "جامعه" (¬3) قال: وإنما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم" في حق النعيمان بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله ¬

_ (¬1) في الأصل (الله)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) البخاري (6777، 6781)، وأبو داود (4477) في الحدود، باب: الحد في الخمر، ومطولاً (4478)، والنسائي في "الكبرى"، وكما في التحفة (10/ 474)، وابن حبان (5730)، وأحمد (2/ 299، 300)، والبيهقي (8/ 312)، والبغوي (2607). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (2/ 189).

فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه فلعنه جائز، سواء سمي أو عين أم لا، لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يلعن إلَّا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعنة، وإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه، ومن هذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب" (¬1)، فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكونا قبل أخذ الحد وقبل التوبة. قال ابن العربي: وأما لعن العاصي أي غير المعين فيجوز إجماعاً، لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع [فيها] (¬2) يده" (¬3). فائدة: حكى أبو جعفر النحاس عن بعض العلماء أنه قال: إذا لعن الإِنسان من لا يستحق اللعن، فليبادر بقوله إلَّا أن يكون لا يستحق. رابعها: "اليهود" أصله: اليهوديون ولكنهم حذفوا ياء الإِضافة كما قالوا: زنجي وزنج. ¬

_ (¬1) البخاري (2152، 2234، 6839)، ومسلم (1703)، وأبو داود في الحدود، باب: في الأمة تزني ولم تحصن (4470، 4471). (¬2) في ن ب د ساقطة. (¬3) البخاري (6783، 6799)، ومسلم (1687)، والنسائي (8/ 65)، وابن ماجه (2583)، وابن حبان (5748)، وأحمد (2/ 253)، والبغوي (2597، 2598)، والبيهقي (8/ 253).

قال الجوهري: وإنما أعرب على هذا الحد فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عُرّف الجمع بالألف واللام، ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام، لأنه معرفة مؤنث يجري مجرى القبيلة، ولم يجعل كالحي. وأما النصراني: فجمع: نصران [ونصرانية] (¬1) مثل الندامى جمع ندمان، وندمانة، ولكن لم يستعمل نصران إلَّا بياء النسب لأنهم قالوا: رجل نصراني وامرأة نصرانية (¬2). خامسها: "اتخذ" افتعل من تخذ وهو تارة يتعدى إلى مفعول واحد كقوله: اتخذت داراً. وتارة إلى مفعولين كما في هذا الحديث ومنه قوله -تعالى-: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} (¬3). سادسها: في الحديث دليل على امتناع اتخاذ قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسجداً، فلا يجوز أن يصلى على قبره بعد دفنه، لأنه لم ينقل فعلها عن أحد من السلف والخلف (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب د (ونصرانه). (¬2) انظر: مختار الصحاح (277). (¬3) سورة النساء: آية 125. (¬4) قال الصنعاني -رحمه الله عليه- في حاشيته (3/ 262): قوله: "بعدم صلاة المسلمين على قبره"، أقول: قد صلى عليه المسلمون صلاة الجنازة وهو في منزله، والصلاة بعد الدفن فيمن قد صلى عليه ليست بواجبة فما تركها دليل على شيء، سيما وقد كان دفنه في منزله وعند زوجه فاحترموا الدخول لذلك وما تركوا واجباً، والذي يظهر -والله أعلم- أن الصلاة على القبر أي صلاة الجنازة لا يدخل القبر بها تحت مسمى اتخاذه مسجداً =

وقال أبو الوليد النيسابوري من الشافعية: يجوز الصلاة على قبره فرادى لا جماعة. وحمل النهي على الصلاة جماعة، وكان أبو الوليد (¬1) يقول: أنا اليوم أصلي على ¬

_ = لا لغة ولا عرفاً، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على القبر كما تقدم، وقد لعن اليهود والنصارى لاتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذكر أن شرار خلق الله من بنى على قبور الصالحين مساجد، فلو كانت صلاة الجنازة على القبر يصير بها متخذها مسجداً لما فعله - صلى الله عليه وسلم - ولا صلى على قبر ولا يقال إنه لما لعن من اتخذ قبور الأنبياء -عليهم السلام- مساجد ولم يصل - صلى الله عليه وسلم - إلا على رجل من أمته أو امرأة، لأنا نقول إذا كان يذم من اتخذ قبر النبي -عليه السلام- مسجداً فأولى من اتخذ قبر غير النبي مسجداً، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر غير الأنبياء وهم الصالحون ومن صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد دفنه فهو صالح قطعاً فيكون - صلى الله عليه وسلم - متخذاً لقبره بصلاة الجنازة عليه مسجداً، هذا لا يقوله أحد. اهـ. (¬1) هو حسان بن محمد بن أحمد النيسابوري أحد أئمة الشافعية: ترجمته في الأعلام (2/ 190)، وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 191)، والبداية والنهاية (11/ 236)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 126)، وطبقات الشافعية لابن الصلاح (691)، وتهذيب النووي. قال النووي فيها: ومن غرائبه تجويزه الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فُرادى. اهـ، وأيضاً في طبقات ابن قاضي شهبة. قال ابن كثير -رحمنا الله وإياه- في البداية والنهاية (5/ 266): وقد اختلف المتأخرون من أصحاب الشافعي في مشروعية الصلاة على قبره لغير الصحابة، فقيل: نعم لأن جسده -عليه السلام- طرى في قبره، لأن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما ورد بذلك الحديث في السنن وغيرها، فهو كالميت اليوم، وقال آخرون: لا يفعل =

[قبور] (¬1) الأنبياء والصالحين. وقطع بهذا الوجه القاضي أبو الطيب والمحاملي، ورجحه الشيخ أبو حامد، وحكاه الإِمام عن الشيخ أبي علي قال: وهذا القائل يحمل المنع من اتخاذ القبر مسجداً على إقامة الجماعة، وينزل القبر في ذلك منزلة المساجد المهيأة للجماعة. وعبارة الشيخ تقي الدين (¬2) في حكاية هذا الوجه: أجاز بعض الناس الصلاة على قبره كجوازها على غيره عنده، وهو ضعيف لتطابق المسلمين على خلافه، ولإِشعار الحديث بالمنع منه، فإن كان ما حكاه الشيخ تقي الدين هو قول أبي علي وأبي الوليد والظاهر أنه هو فلا كلام [وإلَّا] (¬3) فهو رأي ثالث، لأنه أطلق حكايته ولم يخصه بجماعة ولا غيرها، وفهم بعض شراح هذا الكتاب أن ذلك وجهاً في المذهب، فصرح به وفيه إطلاق فاعلمه. وعبارة ابن الرفعة: فيما أظن أن من قال بالجواز: هل يجوزه جماعة أو فرادى؟ سكت الجمهور عن ذلك، ثم ذكر مقالة أبي علي وأبي الوليد (¬4). ¬

_ = لأن السلف من بعد الصحابة لم يفعلوه، ولو كان مشروعاً لبادروا إليه ولثابروا عليه، والله أعلم. اهـ. (¬1) في ن ب (قبر). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 262). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-: ما علمت أحداً رخص فيه، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً، ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل =

[سابعها] (¬1): أما الدعاء عند قبره فلم يزل السلف والخلف يفعلونه ويتوسلون إلى الله -تعالى- بالدعاء هناك وبه - صلى الله عليه وسلم - عند قبره ¬

_ = المسجد ليصلي منهي عنه، لأن ذلك لم يشرع، إلخ كلامه. والدليل على ذلك من السنة حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". رواه أحمد (2/ 367)، وأبو داود (2042). قال شيخ الإِسلام في الاقتضاء (2/ 654): هذا إسناد حسن فرواته كلهم ثقات ومشاهير. اهـ، وحسنه الحافظ في نتائج الأفكار (/)، والسخاوي في القول البديع (155). وله شاهد في حديث الحسن بن حسن بن علي -رضي الله عنهما- أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". رواه ابن أبي شيبة (4/ 345). وقال أيضاً في الرسالة الرابعة من رسائل الزيادة (408): وما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عندما يقال: إنه قبر نبي، أو قبر أحد من الصحابة -إلى أن قال- ونحو ذلك فهو مخطىء مبتدع، مخالف للسنة، فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا كانوا يفعلون ذلك، إلخ كلامه، ولا يجوز أن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعة. ولكن يجوز أن يسأل الله ويتوسل به بحب نبيه وبالأعمال الصالحة كما في حديث الثلاثة -أي أصحاب الغار- لأن الأعمال الصالحة سبب للإِثابة، والدعاء سبب للإِجابة. انظر: الجامع الفريد (412) رسائل الزيادة. (¬1) في ن ب د (فرع).

وغير من البقاع من غير منع (¬1). [ثامنها] (¬2): لا خلاف في أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل وكفن واختلف في الصلاة عليه على قولين: أحدهما: أنه لم يصل عليه أحد أصلاً، وإنما كان الناس يدخلون أرسالاً فيدعون وينصرفون. واختلف هؤلاء في علة ذلك على قولين: أحدهما: لفضيلته فهو غني عن الصلاة عليه كالشهيد وهذا ينكسر بغسله. ثانيهما: أنه لم يكن هناك إمام وهو غلط فإن إمامة الفرائض لم تتعطل، ولأن بيعة الصديق كانت قبل دفنه، وكان إمام الناس قبل الدفن. وأصحهما وهو قول الجمهور: أنهم صلوا عليه أفراداً فكان يدخل قوم يصلون فرادى، ثم يخرجون ثم يدخل قوم آخر فيصلون كذلك، ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد (¬3)، ليأخذ كل واحد نصيبه من بركة الصلاة، وإنما أخروا دفنه -عليه الصلاة والسلام- من يوم الاثنين إلى ليلة الأربعاء أو آخر نهار الثلاثاء للاشتغال بأمر البيعة ليكون لهم إمام يرجعون إلى قوله إن اختلفوا في شيء من أمور تجهيزه ودفنه وينقادون لأمره لئلا يؤدي إلى النزاع واختلاف الكلمة. ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق، والتعليق ت (4) ص 511. (¬2) في ن ب د (فائدة). (¬3) ابن هشام (4/ 271)، ودلائل النبوة (7/ 250).

وكان هذا أهم الأمور [عندهم] (¬1). وادعى ابن دحية: أن عدد المصلين عليه ثلاثون ألفاً. وجاء بعض الآثار أنه [صُلِّي عليه] (¬2) بصلاة جبريل (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في الأصل (- صلى الله عليه وسلم -)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) قال الديّار بكري في كتابه "تاريخ الخميس (2/ 171): لما ذكر صفة الصلاة عليه، وهي الرجال ثم النساء ثم الغلمان. قيل: لأنه أوصى بذلك لقوله: "أول من يصلي عليّ ربي ثم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده ثم الملائكة ثم ادخلوا أفواجاً بعد فوج". الحديث فيه ضعف. وفي المسند الفتح الرباني (7/ 204)، والإِصابة (7/ 131)، من حديث أبي عُسيب أو أبي عُسيم قال بهزٌ: إنه شهد الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: كيف نصلي عليك؟ قال: ادخلوا أرسالاً أرسالاً. قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر" قال: صاحب الفتح الرباني: والظاهر أن أبا عسيب علم ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل موته، فلما رأى الصحابة يسأل بعضهم بعضاً عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بما علم، ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مطوّلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه قلنا: فمن يصلي عليك يا رسول الله؟ فبكى وبكينا، وقال: مهلاً غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني وحنطتموني وكفنتموني فضعوني على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي خليلاي وجليساي جبريل وميكائيل، ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة -عليهم السلام- وليبدأ بالصلاة عليّ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم، ثم ادخلوا علي أفواجاً أفواجاً. الحديث. وفي إسناده من ضُعِّف -ورواه البزار بطوله من طرق متعددة، لكنها لا تخلو من علة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وربما يعتضد بكثرة طرقه، ويشهد له حديث الباب، وقد ضعف ابن حجر حديث أبي عسيب في تلخيص الحبير (2/ 124)، وساق له شواهد وقد جزم بضعفها، ونقل عن البزار أنه قال: حديث أبي عسيب موضوع. وضعفه ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 254، 265)، وقال: وفي صحته نظر. كما قدمنا. اهـ. وانظر الحديث تمامه فيه. قال صاحب الفتح الرباني (21/ 254): قال في "المواهب" وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا دخل النساء حتى إذا فرغن دخل الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً. اهـ. (قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (5/ 265): هذا أمر مجمع عليه، واختلف في أنه تعبد لا يعقل معناه أو ليباشر كل واحد الصلاة عليه منه إليه. وقال السهيلي في الروض الأنف (4/ 272)، فقال ما حاصله: إن الله -تعالى- قد أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل. أقول: إشارة إلى قوله -تعالى-: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً" وأخيراً تبين إنه لم يذكر أنهم صلوا بصلاة جبريل. قال أيضاً: فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة -أي لأنه ثنى بالملائكة في الآية-، والله أعلم. قال البيهقي في السنن (4/ 30): قال الشافعي -رحمه الله- وذلك لعظم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي، وتنافس في أن لا يتولى الإِمامة في الصلاة عليه واحد وصلوا عليه مرة بعد مرة. وساقوا روايات أخر من أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى ما ذكرت من المراجع أو غيرها.

[سابعها] (¬1): استدل بعض الفقهاء بعدم الصلاة على قبره -عليه الصلاة والسلام- على عدم الصلاة على القبر جملة وهو عجيب، فإن قبره -عليه الصلاة والسلام- مخصوص عن هذا بما فهم من الحديث من النهي عن اتخاذ قبره مسجداً. ثامنها: تحرم الصلاة إلى قبره والسجود له لما حرض ومنع منه من الصلاة إلى قبر غيره من الإِنبياء صلَّى الله وسلَّم عليهم ومنع من السجود له في حياته فبعد موته أولى، ولما علم الصحابة والتابعون ذلك لم يبنوا الحجرة النبوية -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- مربعة، بل بنوها من جهة شمالها مثلثة على صفة (¬2) السنبوسك لئلا يصلى هناك ويسجد، وهذا كله تعريف لمقام الربوبية فإنه المتفرد بالعبادة، وكلما أوهم تعظيماً كان فعله حراماً إلاَّ ما قرره الشرع من التوقير والتعظيم للأشياء المضافة إليه -سبحانه وتعالى-: ككتاب الله -تعالى- وبيته والحجر الأسود ومساجده وأنبيائه وأوليائه وأحبابه والعلماء به وبأحكامه ونحو ذلك ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعلها تاسعها ... إلخ الأوجه. (¬2) قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأغلقوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم -، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة، إذا كان مستقبل المصلين، فتُصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.

من غير مجازفة ومجاوزة لحد في ذلك. وأما التعظيم المطلق فهو لله -تعالى- لا يشركه فيه غيره. تاسعها: قولها: "ولولا ذلك لأبرز قبره" أي ولولا تحذيره من اتخاذ القبور مساجد لأبرز قبره، أي: أظهر للناس، ولكن تركوا ذلك خشية ما ذكر. لا سيما مع تقادم الزمان وتغير الأحوال. وقولها: "خشي": قال "النووي" (¬1) ضبطناه في مسلم بضم الخاء وفتحها وهما صحيحان. [عاشرها] (¬2): يؤخذ من الحديث جواز ذكر سبب اللعن للتحذير منه. الحادي عشر: يؤخذ منه أيضاً تحريم بناء المسجد على القبور مطلقاً، لأنه إذا منع من بنائها على قبور الأنبياء وهم أرفع البشر درجة فمن دونهم أولى، وقد تقدم في الحديث قبله. الثاني عشر: يؤخذ منه أيضاً تعظيم الربوبية كما أسلفناه، وتحريم تعاطي الأسباب المؤدية إلى المشاركة لها في ذلك، بل إن اعتقد جواز ذلك فهو كفر. الثالث عشر: فيه أيضاً وجوب البيان وتحقيقه بالعلل والحكم. الرابع عشر: فيه تحريم الصلاة إلى القبور وإن لم يقصد ¬

_ (¬1) شرح مسلم (5/ 12). (¬2) في ن ب د (العاشر).

تعظيمها وأما الشافعية فجزموا بالكراهة. والحديث الصحيح السالف "لا تصلوا إليها" ظاهر في التحريم، وكذا هذا أيضاً وغيره من الأحاديث (¬1). ... ¬

_ (¬1) اقرأ تراجم باب: "ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ " وباب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله" والترجمة من قبلهما، وباب: "ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسدّه كل طريق يوصل إلى الشرك" .. من فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (218، 280)، فإن فيها علم وفِقْه لمن وفقه الله للهداية وسلوك صراطه المستقيم.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 169/ 13/ 32 - عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" (¬1). الكلام عليه من اثني عشر وجهاً: والتعريف براويه سلف في باب المواقيت. الأول: معنى قوله: "ليس منا" ليس من أهل سنتنا ولا من المهتدين بهدينا، وليس المراد به الخروج من الدين جملة؛ إذ المعاصي لا يكفر بها عند أهل السنَّة كما أسلفنا ذلك في الحديث العاشر، اللهم إلاَّ أن يعتقد حل ذلك فإنه يكفر. وأما سفيان الثوري فقال: بإجرائه على ظاهره من غير تأويل؛ لأن إجراءه كذلك أبلغ في [الانزجار] (¬2) عما يذكر في الأحاديث التي ¬

_ (¬1) البخاري (1294، 1297، 1298، 3519)، ومسلم (103)،والترمذي (999)، في الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب عند المصيبة، والنسائي (4/ 20)، وابن ماجه (1584)، والبغوي (1533)، وابن حبان (3149)، وابن الجارود (516)، وأحمد (1/ 432، 456، 465، 386، 442)، والبيهقي (4/ 63، 64). (¬2) في الأصل (الأمر)، وما أثبت من ن ب د.

صيغتها "ليس منا" أو "فعل كذا". الثاني: خص "الخدود بالضرب" دون سائر الأعضاء لأنه الواقع منهن عند المصيبة، ولأن أشرف ما في الإِنسان الوجه، فلا يجوز امتهانه وإهانته بضرب ولا تشويه ولا غير ذلك مما يشينه، وقد أمر الضارب باتقاء الوجه (¬1). الثالث: "الخدود" جمع خد، وليس للإِنسان إلاَّ خدان، وهذا -والله أعلم- من باب قوله -تعالى-: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} (¬2). وقالت العرب: شابت مفارقه، وليس له إلَّا مفرق واحد، فكأنهم سموا كل موضع من المفرق مفرقاً، ومثله شق الجيوب. الرابع: لما تضمن ضرب الخدود وعدم الرضا بالقضاء والقدر، ووجود الجزع، وعدم الصبر، وضرب الوجه، الذي نهي عن ضربه من غير اقتران مصيبة كان فعله حراماً مؤكداً للتحريم كما أسلفناه. الخامس: "الجيوب" جمع جيب وهو ما يشق من الثوب ليدخل فيه الرأس نازلاً به إلى العنق والرقبة أو يقطع، ومنه قوله -تعالى-: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} (¬3) أي قطعوا. ¬

_ (¬1) الحديث الوارد بذلك: "إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله -عز وجل- خلق آدم على صورته" واللفظ الآخر: "لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن". (¬2) سورة طه: آية 130. (¬3) سورة الفجر: آية 9.

وشق الجيوب: قطعها وإفسادها به في غير محله، وحُرِّمَ ذلك لما فيه من إظهار السخط، كما قدمناه مع ما فيه من إضاعة المال والرياء بذلك وقد برىء - صلى الله عليه وسلم - من الشاقة في الحديث السالف. السادس: "الجاهلية" ما قبل الإِسلام، وكل فعل خالف فعل الإِسلام وما قرره الشرع هو جاهلي، وفاعله من الجاهلية حيث خالف الإِسلام فيه. السابع: دعوى الجاهلية تطلق على أمرين. الأول: ما كانت العرب تفعله عند القتال من الدعوى. الثاني: وهو المراد هنا ما كانت تفعله عند موت الميت برفع الصوت وغيره: واجبلاه واسنداه واسيداه وامرمل النسوان ومؤتم الولدان ومخرب العمران. ويدخل ذلك تحت لفظ الصالقة في الحديث السالف، وما كانت تدعو الناس إلى المآتم والنعي وما أشبه ذلك. فالمراد بها إذن النياحة والندب، وهو ذكر صفاته وشمائله ومحاسنه في زعمهم، وهي في الشرع قبائح ورفع الصوت بها نياحة وبدون رفعه ندب. وفي الحديث الآخر: إن النياحة من أفعال الجاهلية (¬1) وفي سنن أبي داود بإسناد ضعيف "لعن الله النائحة ¬

_ (¬1) لحديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية ثم قال والنياحة". لحديث أخرجه مسلم (934)، والبغوي (1533)، وأحمد (5/ 342، 343، 344)، والبيهقي (4/ 63)، والحاكم (1/ 383)، وعبد الرزاق (6686)، وأيضاً حديث أبي هريرة: "ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإِسلام: النياحة". الحديث لمسلم (67)، وابن الجارود (515)، وغيرهم.

والمستمعة" (¬1). ومذهب العلماء كافة أنها حرام. وخالف بعض المالكية، فقال: ليست بحرام، وإنما الحرام ما كان معه شيء من أفعال الجاهلية: كشق الجيب ونحوه مستدلاً بحديث أم عطية أنه -عليه الصلاة والسلام-: "لما أخذ البيعة عليهن أن لا ينحن قالت: يا رسول الله! إلَّا آل فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال "إلَّا آل فلان" (¬2). فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه خاص بها جزم به النووي (¬3) ولم يرتضه القرطبي. ثانيا: أنه كان قبل تحريم النياحة وهو فاسد. ثالثها: أن يكون قوله "إلَّا آل فلان" إعادة لكلامها على وجه الإِنكار والتوبيخ، كما قال للمستأذن حين قال: أنا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أنا، أنا" منكراً عليه، ويؤيد هذا رواية النسائي ¬

_ (¬1) أبو داود في الجنائز (2999)، باب: في النوح (2999)، والبغوي (1536). (¬2) البخاري (4892، 7215)، ومسلم (936)، والنسائي (7/ 148، 149)، والحاكم (1/ 383)، وابن أبي شيبة (3/ 389)، وأحمد (6/ 407، 408)، والطبراني (25/ 133، 136)، وابن حبان (3145)، والبيهقي (4/ 62). (¬3) انظر: شرح مسلم (6/ 238).

في حديث بمعنى حديث أم عطية: "لا إسعاد في الإِسلام" (¬1) وحديث قصة نساء جعفر (¬2) جوابه الوجه الثاني من هذه الأوجه. الثامن: في هذا الحديث تحريم هذه المذكورات والسكون إلى أوامر الله -تعالى- ورسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام- في جميع الحالات. [التاسع] (¬3): فيه تحريم ضرب الوجه، لأنه إذا حرم البعض فالكل بطريق الأولى، مع أن في الوجه ما هو أفضل من الخد. العاشر: فيه تحريم إفساد المال أو تنقيصه خصوصاً عند السخط والجزع. الحادي عشر: فيه تحريم ما كانت الجاهلية تفعله، لأنه إذا حرم مثل ما ذكر عند المصائب مع أن فاعل ذلك كالمكره عليه طبعاً فغيره من الأمور الاختياريات من فعلهم الذي قرر الشرع عدم فعلها أولى بالتحريم. الثاني عشر: في رواية لمسلم في كتاب الإِيمان "أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية" بلفظ "أو" وروايته هنا كما في الكتاب فتحمل رواية "الواو" على رواية "أو". ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 197)، والنسائي (4/ 16)، وعبد الرزاق (6690)، وابن حبان (3146). (¬2) البخاري (1299، 1305، 4263)، ومسلم (935)، والنسائي (4/ 14، 15)، وأبو داود (3122) في الجنائز، باب: الجلوس عند المصيبة، وأحمد (6/ 276، 277)، والبيهقي (4/ 59). (¬3) في ن ب د (التاسع) ... إلخ الأوجه.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 170/ 14/ 32 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها، فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين" (¬1). ولمسلم: "أصغرهما مثل أحد" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: معنى: "شهد": حضر، كما قدمت مثله في باب صلاة العيدين. ¬

_ (¬1) في بعض الصحاح والمسانيد: "عظيمين". انظر: البخاري (47، 1323، 1325)، ومسلم (945)، والنسائي (4/ 76)، وأبو داود (3168) في الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها، والترمذي (1040) في الجنائز، باب: ما جاء في فضل الصلاة على الجنازة، وابن ماجه (1539)، والبيهقي (3/ 412)، وأحمد (2/ 233، 280، 273، 321)، وابن حبان (3078)، وابن الجارود (526). (¬2) مسلم (945)، وأبو داود (3168) في الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها، والترمذي (1040) في الجنائز.

[الثاني] (¬1): "القيراط" اسم لمقدار معلوم في العرف وهو جزء من أربعة وعشرين جزءاً وهو في أصل اللغة نصف دانق. والدانق: سدس درهم، وذلك ثمان حبات وثلث حبة، وثلث خمس حبة. وأصله: قِرّاط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء مثل دينار أصله دِنّار بالتشديد أيضاً (¬2). قال القرطبي: وقد يراد بالقيراط الجزء مطلقاً ويكون عبارة عن الحظ والنصيب ألا ترى أنه قال أصغرهما مثل أحد. قلت: وبه صرح القاضي حسين من الشافعية فقال: القيراط مقدار من الثواب يقع على القليل والكثير. فبين في هذا الحديث أنه مثل أحد فيكون تمثيلاً بجزء من الأجر ومقدار منه وهو من مجاز التشبيه، تشبيهاً للمعنى العظيم بالجسم العظيم ونحوه. قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض" (¬3) الحديث. ثم لا يلزم أن يكون هذا القيراط هو المذكور في حديث "من اقتنى كلباً إلَّا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط" (¬4). وفي رواية "قيراطان" بل ذلك قدر معلوم ¬

_ (¬1) في ن ب د (ثانيها) ... إلخ الأوجه. (¬2) لسان العرب (11/ 114). (¬3) حديث ابن أبي أوفى -رضي الله عنه-. انظر: مسلم (476) في الصلاة، والنسائي (1/ 198)، وأحمد (4/ 354)، والبخاري في الأدب المفرد (684)، والطيالسي (1/ 256)، وابن حبان (956). (¬4) زيادة من ن ب د.

يجوز أن يكون مثل هذا أو أقل أو أكثر. [بل ينبغي أن يكون القيراط في الأجر أعظم منه في نقصه لأنه من قبيل المطلوب تركه والأول من قبيل المطلوب فعله وهو الصلاة و"حضور الدفن وعادة" الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها كرماً منه] (¬1). ثالثها: قوله: "أصغرهما مثل أحد" هل الصغر راجع إلى الأول أم الثاني -الله أعلم بذلك- ولا يرجح قيراط الصلاة بكونها فرض كفاية لكون الدفن كذلك. ورواية البخاري الآتية دافعة لذلك، فإنها فيها جعل القيراطين على السواء، نعم قد يرجح بأن [أفضل] (¬2) عبادات [البدن] (¬3) الصلاة. وفي رواية لمسلم أيضاً "كل قيراط مثل أحد" (¬4). وفي رواية للترمذي "أحدهما أو أصغرهما مثل أحد" (¬5) ثم قال: حسن صحيح. وفي رواية للبخاري: "من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر ¬

_ (¬1) في الأصل (أكثر)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) البخاري (5480، 5481، 5482)، ومسلم (1574)، والترمذي (1487، 1488)، والنسائي (7/ 187، 188، 189)، وأحمد (2/ 4، 27، 37، 47)، والبغوي (2775)، والبيهقي (6/ 9)، ومالك (2/ 969)، وابن حبان (5653). (¬4) انظر التعليق (1) و (2). (¬5) المصدر السابق.

بقيراطين كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم يرجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط" (¬1) تفرد البخاري بقوله: "إيماناً واحتساباً". وفي رواية للحاكم في مستدركه في فضائل أبي هريرة عنه مرفوعاً: "من تبع جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان القيراط أعظم من أحد" (¬2). ثم قال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه. وفي مسند الإِمام أحمد من حديث الحجاج بن أرطأة عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب مرفوعاً: "والذي نفس محمد بيده لهو في الميزان أثقل من أحد" (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المستدرك (3/ 510). (¬3) أحمد في المسند الفتح الرباني (7/ 198)، وابن ماجه (1/ 492). قال في الزوائد: في إسناده الحجاج بن أرطأة. وهو مدلس فالإِسناد ضعيف. مع اختلاف في اللفظ فيما بينهما ولا تأثير للمعنى، وله شاهد من حديث البراء بن عازب عند النسائي (4/ 54)، وأنس بن مالك. قال الهيثمي في المجمع (3/ 33): وفي إسناد أحدهما محتسب وفي الآخر روح بن عطاء، وكلاهما ضعيف -أقول: وقد تحرف في المجمع إلى "محسب" فليتنبه له- وأصله في مسند أبي يعلى (7/ 133، 185) الطبراني في الأوسط. انظر: الفتح الرباني (7/ 198)، وأيضاً من حديث ابن عمر في المعجم الكبير، والمجمع (3/ 33). قال ابن حجر في الفتح (3/ 196): تكملة: وقع لي حديث الباب من رواية عشرة من الصحابة غير أبي هريرة وعائشة: من حديث ثوبان عند مسلم، والبراء، وعبد الله بن مغفل عند النسائي، وأبي سعيد عند أحمد، =

ورأيت في السنن الصحاح لابن السكن الحافظ [من حديث] (¬1) أبي هريرة مرفوعاً: "من أوذن بجنازة فأتى أهلها فعزاهم كتب الله له قيراطين فإن شيعها كتب الله له قيراطين. فإن صلى عليها كتب الله له ثلاثة قراريط، فإن شهد دفنها كتب الله له أربعة قراريط. القيراط مثل أحد" (¬2). رابعها: مقصود الحديث أن من صلى على جنازة كان له مقدار عظيم من الثواب والأجر فإن اتبعها بعد أن صلى عليها حتى تدفن كان له حظان عظيمان من ذلك، إذ قد عمل عملين. الصلاة وكونه معها حتى تدفن. فإن قيل: فظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان" ما يقتضي أن القيراطين يحصلان بشهودها وهو اتباعها ودفنها، فيكون حينئذ له بالصلاة والاتباع والدفن ثلاثة قراريط. ¬

_ = وابن مسعود عند أبي عوانة، وأسانيد هؤلاء الخمسة صحاح ومن حديث أبي بن كعب عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقي في الشعب، وأنس عند الطبراني في الأوسط وواثلة بن الأسقع عند ابن عدي، وحفصة عند حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال وفي كل أسانيد هؤلاء ضعف ... إلخ كلامه. (¬1) في الأصل (عن)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) قال في الفتح الرباني (7/ 198): رواه البزار وفيه معدي بن سليمان صحح له الترمذي ووثقه أبو حاتم وغيره. وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 135): ومعدي فيه مقال، وانظر: مجمع الزوائد (3/ 33).

فالجواب: أن هذا مردود برواية البخاري السالفة التي أوردناها، فإنها صريحة في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان. وبه صرح جماعة من العلماء منهم: أبو الحسن علي بن عمر القزويني، وابن الصباغ من الشافعية. ومثل هذا ما جاء في الصحيح: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله" (¬1). وقيل: في هذا حصول قيام كل الليل بالصبح خاصة، وهو المتبادر إلى الذهن. وأجاب: ابن الصباغ عن الرواية الأولى بأن معناها: ومن تبعها فله قيراطان بالمجموع. قال ونظيره قول الله -تعالى-: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي تمام أربعة ثم قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (¬2). فائدة: في الصحيحين: عن نافع أن ابن عمر حين بلغه حديث أبي هريرة بعث إلى عائشة فسألها فصدقته. قال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم (656)، وأبو داود (555) في الصلاة، باب: في فضل صلاة الجماعة، والترمذي (221) في الصلاة، باب: ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، وأبو عوانة (2/ 4)، وأحمد (1/ 58، 68)، وابن حبان (2060)، والبيهقي في السنن (3/ 60، 61)، وعبد الرزاق (2008). (¬2) سورة فصلت: آيات 9، 10، 12. (¬3) البخاري (1323، 1324)، ومسلم (945)، وأبو داود (3169) في =

خامسها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "حتى تدفن" وفي لفظ في الصحيحين "حتى يفرغ من دفنها" فيه دليل على أن القيراط الثاني لا يحصل إلاَّ لمن دام معها من حين صلى إلى أن فرغ من دفنها. وهذا أصح الأوجه عندنا. وثانيها: يحصل إذا ستر الميت في القبر باللبن وإن لم يلق عليه التراب. وثالثها: أنه يحصل بمجرد الوضع في اللحد وإن لم يلق عليه التراب، حكاه السرخسي في "أماليه". وقال: إنه أضعفها. ويحتج له برواية مسلم: "حتى توضع في اللحد" وفي أخرى: "في القبر". ويتأول بالفراغ من دفنها جمعاً بين الروايات. سادسها: في قوله -عليه الصلاة والسلام -: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها" ما يؤذن بما ورد في بعض الروايات وهو اتباعها من عند أهلها، وأنه المراد بشهودها حتى يصلى عليها ولا شك أن من صلى عليها مجرداً حصل له قيراط، لكن قيراط من شهدها [من] (¬1) عند أهلها حتى صلى عليها أكمل، وكذلك قيراط من تبعها حتى يفرغ من دفنها أكمل ممن حضر الدفن والفراغ منه دون الاتباع. لكن قال النووي في القطعة التي له على صحيح البخاري في رواية البخاري يعني التي أسلفناها. ¬

_ = الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها، والنسائي (4/ 77)، وأحمد (2/ 387)، والبيهقي (3/ 412، 413)، وابن حبان (3079)، والطيالسي (2581). (¬1) في ن ب ساقطة.

تنبيه: على أن القيراط الثاني مقيد بمن اتبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده، ومكث حتى جاءت الجنازة بعد ذلك، وحضر الدفن لم يحصل له القيراط وكذا لو حضر الدفن، ولم يصلِ، أو تبعها ولم يصلِ فليس في الحديث حصول القيراط له، لأنه إنما جعل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، ولكن له أجر في الجملة. وأما إذا كان مع الجنازة جمع كثير تقدم إنسان أو جماعة في أول الناس أو تأخروا فإن كانوا بحيث ينسبون إلى الجنازة ويعدون من مشيعيها حصل لهم القيراط الثاني وإلاَّ فلا هذا كلامه. وكذا قال في "شرح المهذب": إن الفضل لمن هو معها لا لمن شيعها إلى المقبرة، فإن ذلك لا يكون له ثواب متبعها لأنه ليس معها ثم استدل برواية البخاري السالفة. وكره أشهب اتباعها والرجرع قبل الصلاة إلاَّ لحاجة. تنبيهات: أحدها: قال في "الروضة" (¬1): تبعاً للرافعي لا يتقدم الجنازة إلى المقبرة فإن تقدم لم يكره. وفي "الرعاية" (¬2) في مذهب أحمد: أنه يكره المتقدم إلى موضع الصلاة دون المقبرة. ¬

_ (¬1) انظر: الروضة (2/ 115). (¬2) انظر: الفروع (2/ 262).

قال الرافعي: بعد أن ذكر أنه لا يكره أن يتقدمها إلى المقبرة وهو بالخيار إن شاء قام منتظراً لها وإن شاء قعد وتبعه في الروضة. وقال في "شرح المهذب" (¬1): ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بالقيام لمن مرت به جنازة حتى تخلفه أو توضع (¬2) وأمر من معها أن لا يقعد عند القبر حتى توضع. قال الشافعي وجمهور الأصحاب: هذان القيامان منسوخان. وقال جماعة من أصحابنا: يكره القيام لها إذا لم يُرد المشي معها، وخالف صاحب "التتمة"، فقال: إنهما مستحبان، واختاره النووي، لأنه صح الأمر بالقيام ولم يثبت في القعود إلاَّ حديث علي (¬3) -رضي الله عنه- ولا نسخ فيه، لأنه يحتمل القعود لبيان الجواز. ثانيها: الانصراف عن الجنازة أربعة أقسام. أحدها: أن ينصرف عقب الصلاة فله قيراط. ثانيها: أن يتبعها حتى توارى ويرجع قبل إهالة التراب. ثالثها: أن يقف إلى الفراغ من القبر وينصرف. ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (5/ 280). (¬2) البخاري (1307)، ومسلم (958)، وأبو داود (3172) في الجنائز، باب: القيام للجنازة، وابن ماجه (1542)، وابن حبان (3051)، وأحمد (3/ 445، 446، 447)، والطحاوي (1/ 486). (¬3) الموطأ (1/ 232)، وأبو داود (3175) في الجنائز، باب: القيام للجنازة، وابن حبان (3054)، والبغوي (1487)، والبيهقي (4/ 27).

رابعها: أن يقف بعده عند القبر ويستغفر للميت ويدعو له بالتثبيت وهذا أقصى الدرجات في الفضيلة وحيازة القيراط الثاني تحصل للثالث ولا تحصل للثاني على الأصح، كما أسلفنا واختار الإِمام الحصول. وقال أشهب في "المجموعة": له الانصراف قبل أن تقبر إذا بقي معها حتى من يلي ذلك. وهو ظاهر، لأنه لا إثم عليه والحالة هذه، لكن فاته القيراط الثاني. ثالثها: قال بعض العلماء: إذا حضر الدفن وبينه وبين القبر حائل يمنع المشاهدة فإن عد حاضراً حصل له القيراط الثاني. وإلاَّ فلا. الوجه السابع: في إطلاق هذا الحديث وغيره إشارة إلى أنه لا يحتاج المنصرف من اتباع الجنازة بعد دفنها إلى استئذان وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو المشهور عن مالك [لأن الإِذن لمن له الإِمساك وليس لهم الإِمساك] (¬1). وحكى ابن عبد الحكم عنه أنه لا ينصرف إلاَّ بإذن وهو قول جماعة (¬2). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) لورود ذلك في بعض الأحاديث وفيها ضعف منها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً "من تبع جنازة فحمل من علوها وحثا في قبرها وقعد حتى يؤذن له رجع بقيراطين" إسناده ضعيف وحديثه الآخر "أميران وليسا بأميرين: "الرجل يكون مع الجنازة يصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأذن وليها" وهذا منقطع موقوف أخرجه عبد الرزاق.

الثامن: قد يستدل بلفظ الاتباع في رواية البخاري التي أسلفناها من يقول: المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها، وهو مذهب الأوزاعي وأبي حنيفة وقول علي بن أبي طالب. وقال جمهور الصحابة والتابعين ومالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء: المشي أمامها أفضل. وقال الثوري وطائفة: هما سواء. ولا فرق عند الشافعية بين الراكب والماشي. به صرح الرافعي في [شرحيه] (¬1). وقال في "شرح المسند": الأفضل للراكب أن يكون خلفها بلا خلاف، وكأنه قلد الخطابي (¬2) فإنه كذا ادعى، وفيه حديث صححه الحاكم على شرط البخاري من حديث المغيرة بن شعبة (¬3) وهو رأي الثوري. التاسع: رواية البخاري المذكورة دالة على أن الثواب ¬

_ (¬1) في ن ب (شرحه). (¬2) انظر: معالم السنن (4/ 316). (¬3) ولفظه: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلي عليه". انظر: الترمذي (1031)، وأبو داود (3180) في الجنائز، باب: المشي أمام الجنائز، والنسائي (4/ 55)، وابن ماجه (1481)، والحاكم (1/ 355، 363)، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وأحمد (4/ 248، 249، 252)، وابن حبان (3049)، والطيالسي (701، 702)، والبيهقي (4/ 8).

المذكور، إنما يحصل لمن تبعها إيماناً واحتساباً فإن حضورها على ثلاثة أقسام: احتساب. ومكافأة. ومخافة. فالأول: هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط الوزر كما هو ظاهر هذا الحديث. الثاني: لا يبعُدُ ذلك في حقه. والثالث: الله أعلم بما فيه. العاشر: إن قلت: لِمَ كان الجزاء على الجنازة قيراط دون غيره. فالجواب: من وجهين: الأول: أن ذلك جرى مجرى العادة بتقليل الأجر على القليل من العمل، إذ لا كبير مشقة على الإِنسان في الصلاة على أخيه ودفنه. الثاني: أنه أقل ما يقع به الإِجارة في ذلك الوقت على الأعمال لكثرة المستأجرين وقلة الأعمال لزهد الناس في عمل الدنيا وقلة رغبتهم فيها. وجواب ثالث: أنه أكثر ما يحتاج إليه الإِنسان في ذلك الوقت وبه تقع الكفاية. الحادي عشر: "أحد" هو الجبل المعروف الذي بجنب المدينة -زادها الله شرفاً وفضلاً-. فإن قلت: ما خصوصية التمثيل به دون غيره.

فالجواب: من وجهين محتملين: أحدهما: أنه أعظم جبال المدينة إن كان الواقع كذلك. ثانيها: لتعلق بركته - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أحد جبل يحبنا ونحبه" (¬1). الثاني عشر: في الحديث استحباب شهود الميت من حين غسله وتكفينه واتباعه بالصلاة عليه إلى حين يفرغ من دفنه، ولا شك أن النفوس لما كانت لاهية بالحياة الدنيا وزينتها شرع لها ما يلهيها عن ذلك لشهود الجنائز ورغبت في ذلك بالأجور [والثواب ليكون أتقى لها وأزكى وأبعد لها عما اشتغلت به، فينبغي أن يستعمل في ذلك] (¬2) كله الآداب الشرعية من السكينة والوقار وعدم الجبرية والاستكبار والحديث فيما يلهي عن ذلك من المحظور والمباح شرعاً في ظاهره وباطنه، ولا يغفل عما يجب عليه في ذلك كله. الثالث عشر: فيه وجوب الصلاة على الميت ودفنه وفيه التخصيص على الاجتماع لهما والتنبيه على عظيم ثوابهما، وهي مما خص الله -تعالى- بها هذه الأمة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله أعطاكم شيئين لم يكونا لأحد من الأمم قبلكم: صلاة المؤمنين عليكم ... " الحديث. ¬

_ (¬1) البخاري (4083، 2889)، ومسلم (1393)، والترمذي (3922)، وابن ماجه (3115)، ومالك (2/ 293)، وأحمد (3/ 140)، وابن حبان (3725). (¬2) في ن ب ساقطة.

الرابع عشر: فيه التنبيه على عظيم فضل الله -تعالى- فيما شرعه للنفوس، وما رتبه من الأجور على ما شرعه لها لمصلحتها الدنيوية والأخروية. الخامس عشر: فيه آداء حقوق الموتى بالصلاة والتشييع وحضور الدفن. السادس عشر: فيه التنبيه على ما الإِنسان صائر إليه ومشاهدته، ليعلم أنه راجع إلى الله -تعالى- ومتصرف فيه، لا يملك لنفسه شيئاً فيستيقظ: "فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله (¬1). خاتمة: قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد عن مروان بن سالم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن أول ما يجازى به العبد المؤمن بعد الموت أن يغفر لجميع من تبع جنازته" (¬2) [قال] (¬3) ¬

_ (¬1) الترمذي (2459)، والحاكم (1/ 57) (4/ 251). (¬2) المنتخب لعبد بن حميد (1/ 539)، وذكره الخطيب في تاريخه (11/ 81) من حديث أبي هريرة: "أول كرامة المؤمن أن يغفر لمشيعيه"، والحديث ضعيف وقد أشار المصنف -رحمنا الله وإياه- إلى ذلك. انظر: كشف الخفاء (1/ 308)، وتنزيه الشريعة (2/ 370)، واللآلىء المصنوعة (2/ 430)، والنوافح العطرة (79)، ونوادر الأصول (78) وقد ساقه بدون حكم عن أنس. (¬3) زيادة من ن ب د.

عبد المجيد وعبد الملك من رجال مسلم، ومروان: الظاهر أنه الجزري، تكلم فيه أحمد وغيره. وأحاديث الفضائل يتسامح فيها، والله الموفق. ... انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله كتاب الزكاة

الإِعلامُ بفوائِد عُمَدة الأَحْكَام للإمَام الحَافظ العَلّامَة أبي حَفصٍ عُمر بْن عَليٍّ بْن أَحْمد الأَنْصَاريِّ الشَّافِعيِّ المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هَيئة كبَار العُلمَاء وَعُضو اللجنَة الدائمة للافَتَاء فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد عضو هَيئة كبَار العُلمَاء وَعُضو اللجنَة الدائمة للافَتَاء حقّقهُ وضَبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه وَوثّق نقوله وعَلّق عَليه عبد العزيز بن أحمد بن محمّد المشيقح غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء الخامِس مِن أوّل كتَاب الزَّكاة إلى نهاية كتَاب الصَّوم (171 - 210) حَديث دَار العاصَمة لِلنَشْرِ وَالتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُقوق الطّبع مَحفُوظَة الطّبعَة الأولى 1417هـ - 1997م دَارُ العَاصِمَة المَمُلكَة العَربية السّعوديَة الريَاض - ص ب 42507 - الرمز البريدى 11551 هاتف 4915154 - 4933318 - فَاكس 4915154

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة

33 - باب الزكاة

33 - باب الزكاة هي في اللغة: النماء والتطهير. فمن الأول: قولهم: زكى الزرع، أي نما. فالمال ينمو بإخراج الزكاة من حيث لا يرى. وإن كان في الظاهر يحس بالنقصان. وقد صح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما نقص مال من صدقة" (¬1) وقد وقع ذلك لبعض الصالحين، فوجد وزن ما عنده كما كان قبل الصدقة. وقيل: يزكو عند الله أجرها كما صح أن الله -تعالى- يربي الصدقة حتى تكون كالجبل. وقيل: لأن متعلقها الأموال ذات النماء فسميت بالنماء لتعلقها به. ومن الثاني: قوله -تعالى-: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬2)، وقوله: ¬

_ (¬1) مسلم (2588)، ومالك في الموطأ (2/ 1000)، وابن خزيمة (2438)، والترمذي (2029)، والبغوي (1633)، وابن حبان (3248)، والدارمي (1/ 396)، والبيهقي (4/ 187)، وأحمد (2/ 235، 386، 438). انظر زيادة في معناه: الاستذكار (27/ 426). (¬2) سورة التوبة: آية 103.

[{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} (¬1)، أي طهرها من دنس المعاصي والمخالفات دليله] (¬2)، قوله - تعالى-: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (¬3) أي أخملها بالمعاصي. فالزكاة تطهر النفس من رذيلة البخل وغيره. وقد قيل: من أدى زكاة ماله لم يسم بخيلاً. وتطهر أيضاً من الذنوب، وتطهر المال أيضاً من الخبث. وقيل: سميت زكاة، لأنها تزكي صاحبها، وتشهد بصحة إيمانه؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "والصدقة برهان" (¬4). وقد قيل: في قوله -تعالى-: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬5) لا يشهدون أن لا إله إلَّا الله. وتسمى أيضاً: صدقة؛ كما نص عليه القرآن والسنَّة، لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه ظاهراً وباطناً. وتسمى أيضاً: حقّاً: قال -تعالى-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬6) ¬

_ (¬1) الشمس: آية 9. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) الشمس: آية 10. (¬4) مسلم في كتاب الطهارة، باب: فضل الوضوء (223)، والترمذي (5/ 535) في الدعوات، وأحمد (5/ 342)، وأبو عبيد في الطهور (35)، وأول الحديث: "الطهور شطر الإِيمان ... " الحديث. (¬5) سورة فصلت: آية 7. (¬6) سورة الأنعام: آية 141.

ونفقة: قال -تعالي-: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). وعفواً: قال -تعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ} (¬2)، فهذه خمسة أسماء. وقوله -تعالى-: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} (¬3)، وقوله: {غُلَامًا زَكِيًّا} (¬4) أي طاهراً. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} (¬5)، وقوله: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} (¬6)، أي يتقرب. وقيل: يعمل صالحاً. وجاء في القرآن بمعنى الإِسلام: قال -تعالى-: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)} (¬7). وبمعنى الحلال: قال -تعالى-: {أَزْكَى طَعَامًا} (¬8). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 34. (¬2) سورة الأعراف: آية 199. (¬3) سورة الكهف: آية 74. (¬4) سورة مريم: آية 19. وقال الفيروز آبادي في بصائر ذوى التمييز (3/ 134) على هذه الآية: الحسن واللطافة أي ذات جمال. (¬5) سورة الأعلى: آية 14. (¬6) سورة الليل: آية 18. (¬7) سورة عبس: آية 7. (¬8) سورة الكهف: آية 19.وذكر المصنف -رحمنا الله وإياه- للزكاة تسعة معانٍ: وإكمالاً للفائدة نضيف ما ورد في كتاب بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (3/ 134)، فإنه: الصلاح والصيانة (أن يبدلهما ربهما خيراً =

ومن العجب العجاب إنكار داود الظاهري: وجود الزكاة لغة وقال: إنما عرفت بالشرع. وهي في الشرع: اسم لما يخرج من المال طهارة له. وشرعت لمصلحة الدافع طهرةً له وتضعيفاً لأجره، ولمصلحة الآخذ سدّاً لخلته. وأفهم الشرع أنها وجبت للمساواة, وأنها لا تكون إلاَّ في مال له بال وهو النصاب. ثم جعلها في الأموال النامية وهي العين والزرع والماشية. وأجمعوا على [(¬1)] (¬2) وجوب الزكاة في هذه الأنواع. واختلفوا فيما سواها كالعروض. والجمهور: على الوجوب فيها خلافاً لداود مستدلاًّ بالحديث الآتي: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" (¬3). ¬

_ = منه زكاة)، أي صلاحاً، وبمعنى النبوة والرسالة: (لأهب لكِ غلاماً زكياً) أي رسولاً نبيَّاً وبمعنى الدعوة والعبادة: (وأوصاني بالصلاة والزكاة)، وبمعنى الاحتراز عن الفواحش: "ما زكى منكم من أحد أبداً" وبمعنى الإِقبال على الخدمة "ومن تزكّى فإِنما يتزكّى لنفسه" وبمعنى الثناء والمدح: "فلا تزكّوا أنفسكم" وبمعنى النقاء والطهارة: "قد أفلح من زكّاها" وبمعنى التوبة من دعوى الربوبية: "هل لك إلى أن تزكّي" وبمعنى أداء الزكاة الشرعية: " {آتُوا الزَّكَاةَ} "ويؤتوا الزكاة" ولها نظائر كثيرة. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب زيادة (ذلك). (¬3) البخاري (1463، 1464)، ومسلم (982)، وأبو داود (1595) في الزكاة، باب: صدقة الرقيق، والترمذي (628) في الزكاة، باب: ما جاء =

وحمله الجمهور على ما كان للقنية كما ستعلمه في الباب وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة. فنصاب الفضة خمس أواق: وهي مائَتا درهم بنص الحديث والإِجماع. وأما الذهب: فعشرون مثقالاً بنص الحديث والإِجماع أيضاً، وإن كان فيه خلاف شاذ. وأما الزرع والثمار والماشية: فنصبها معلومة. ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها وأقلها تعباً الركاز وفيه الخُمُسُ لعدم التعب فيه، ويليه الزرع والثمر فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر وإلاَّ فنصفه، لأن في الأول التعب من طرفين والثاني من طرفين، ويليه الذهب والفضة والتجارة ففيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة، ويليه الماشية فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة فالمأخوذ إذن: الخمس، ونصفه، وربعه، وثمنه. وهذا من حسن ترتيب الشريعة وهو التدريج في المأخوذ: إذا عرفت هذه المقدمة فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول ذكر المصنف -رحمه الله- في الباب ستة أحاديث: ¬

_ = ليس في الخيل والرقيق صدقة، والنسائي (5/ 35)، وابن ماجه (1812)، والشافعي (1/ 226)، وابن خزيمة (2285، 2288، 2289)، وأحمد (2/ 242، 254، 470، 477)، والدارمي (1/ 384)، وابن حبان (3271)، ومالك في الموطأ (1/ 277)، وعبد الرزاق (6878).

الحديث الأول

الحديث الأول 171/ 1/ 33 - عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل، حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهلَ كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلَّا الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (¬1). الكلام عليه من ثلاثين وجهاً: وهو حديث عظيم جامع لمعظم دعائم الإِسلام، وليس فيه ذكر ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (1395)، ومسلم (19)، وابن ماجه (1783)، والترمذي (625، 2014)، والنسائي (5/ 2)، والكبرى له (2/ 4)، والدارمي (1/ 379، 384)، وشرح السنَّة (1557)، والدارقطني (2/ 136)، والبيهقي (4/ 101)، وابن أبي شيبة (3/ 114)، وأحمد (1/ 233)، وأبو داود (1584) في الزكاة، باب: في زكاة السائمة.

الصوم والحج وهو [تقصير] (¬1) من الراوي، كما قال ابن الصلاح: لأن بعثه -عليه الصلاة والسلام- معاذاً كان قبل وفاته بقليل، ويبعد حيئنذٍ القول: بأن ذلك كان قبل فرض الحج والصوم؛ لأن الصوم فرض في السنة الثانية من الهجرة، والحج فرض في السنة السادسة على المشهور. وبدأ المصنف بهذا الحديث لأنه دال على فرضية الزكاة، وهو أمر مقطوع به، ومن جحده كفر. الوجه الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. ومعاذ -رضي الله عنه- قد أحلنا على ترجمته في الحديث الخامس من باب جامع (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل (تقتضيه)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (3/ 360): تكميل: لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر، وأجاب ابن الصلاح: بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يقضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان. وأجاب الكرماني: بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كُررا في القرآن، فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإِسلام. والسر في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلاً، بخلاف الصوم؛ فإنه قد يسقط عنه بالفدية، والحج فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المغضوب، ويحتمل أنه حينئذٍ لم يكن شرع. اهـ. وقال شيخنا شيخ الإِسلام: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء كحديث ابن عمر: "بني الإِسلام على خمس" فإذا كان في الدعاء إلى الإِسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله =

"واليمن": إقليم معروف. [الثاني] (¬1): قوله عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمعاذ" هذا يقتضي أن يكون الحديث من مسند ابن عباس وكذا رواية مسلم عن ابن عباس أنه -عليه الصلاة والسلام- بعث معاذاً. نعم في رواية له عن ابن عباس عن معاذ، وفي أخري: أن معاذ بعثه. ويجمع بينهما بأن يكون سمع ابن عباس الحديث مرة من معاذ فرواه متصلاً وأرسله تارة، ومُرسَلُه حجة على المشهور، كيف وقد عرف من أرسل عنه، ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ وحضر القصة فرواه تارة بلا واسطة وتارة بها: إما لنسيانه الحضور، وإما لمعنى آخر. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنك ستأتي قوماً ¬

_ = -تعالى-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} في موضعين من براءة مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً، وحديث ابن عمر أيضاً: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من الأحاديث، قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة: اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة، اقتصر في الدعاء إلى الإِسلام عليها لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض والحج بدني مالي، وأيضاً فكلمة الإِسلام هي الأصل، وهي شاقة على الكفار والصلوات شاقة لتكررها والزكاة شاقة كما في جبلة الإِنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها، والله أعلم. اهـ. (¬1) في الأصل ون ب (الثاني، الثالث) وهكذا، أما في ن د (ثانيها، ثالثها) ... إلخ الأوجه.

أهل كتاب" هو كالتوطئة والتمهيد بالوصية، لاستجماع همته على الدعاء لهم. إلى ما ذكر في الحديث، لأن أهل الكتاب أهل علم، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين وعبدة الأوثان في العناية بها. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا جئتهم فادعهم" إلى آخره، وقعت البدأة بدعائهم إلى الشهادتين ومطالبتهم بهما، لأنها أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلَّا بهما، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق: كالنصارى فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عيناً. ومن كان موحداً: كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإِقرار بالرسالة. وإن كان هؤلاء اليهود الذين كانوا في اليمن عندهم ما يقتضي الإِشراك ولو باللزوم تكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم. وقد ذكر الفقهاء: أن من كان كافراً بشيء وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإِسلام إلَّا بالإِيمان بما كفر به. كذا نقله الشيخ تقي الدين عنهم، وليس على إطلاقه. بل قال أصحابنا العراقيون: لا يدخل في الإِسلام إلَّا بالتلفظ بالشهادتين، وهو الصحيح. وقال الخراسانيون منهم القاضي حسين: كل من أقر بما هو معروف من دين الإِسلام أنه حق صار به مسلماً، وإن لم يتلفظ بالشهادتين، لأنه لو جحد ذلك كان كافراً، فإذا اعترف به يكون مؤمناً.

الخامس: يؤخذ من هذا الحديث أنه لا يكفي الاقتصار في الإِسلام على شهادة أن لا إله إلَّا الله، وهو مذهب الجمهور، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله وأن محمداً رسولُ الله" (¬1). ومن أصحابنا من قال: يصير مسلماً، ويطالب بالشهادة الأخرى. فإن أبى حكم بارتداده. واحتج بقوله -عليه الصلاة والسلام- في بعض الروايات: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله" وجاء في رواية لمسلم في حديث ابن عباس [هذا] (¬2): "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم". والجواب: أنه -عليه الصلاة والسلام- رمز بقوله: "لا إله إلَّا الله" إلى الإِتيان بالشهادتين وغيرهما مما هو من لازمها. سادسها: يؤخذ أيضاً أنه لا يشترط التبرىء من كل دين يخالف دين الإِسلام، وهو الصحيح عندنا، وهو ظاهر حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" أيضاً. ¬

_ (¬1) البخاري (1399، 1456، 6924، 7284، 7285)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556) في الزكاة، والترمذي (2607) في الإِيمان, باب: ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله، والنسائي (5/ 14) (7/ 77)، وابن حبان (216، 217)، وأحمد (2/ 423، 528) والإِيمان لابن منده (215، 216)، والسنن للبيهقي (4/ 104)، وعبد الرزاق (18718). (¬2) زيادة من ن ب د.

سابعها. قوله: "فإن هم أطاعوا لك بذلك" أي تلفظوا بالشهادتين ولا بد، هذا معنى طاعتهم فلا يكفي غير التلفظ من إشارة أو قرينة ما دالة على الأعيان، بل لا بد من النطق بهما جميعاً كما أسلفنا. واعلم أن ظاهر الرواية التي أوردناها عن مسلم: "فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم" أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين، وهو مذهب حذّاق المتكلمين فيهم، وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته لدلالة السمع عندهم على هذا، وإن كان العقل عندهم لا يمنع أن يعرف الله من كذب رسوله. قال القاضي عياض ما عرف الله -تعالى- من شبهه وجسمه من اليهود، وأجاز عليه اليد (¬1) أو أضاف إليه الولد (¬2) منهم أو أضاف ¬

_ (¬1) أقول: إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه كما وصف الله نفسه ووصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في تعليقه على الفتح (3/ 359): لا شك أن من شبه الله بخلقه أو أضاف إليه الولد جاهل به -سبحانه- ولم يقدره حق قدره، لأنه -سبحانه- لا شبيه له ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأما إضافة اليد له -سبحانه- فمحل تفصيل -قلت: اليد من صفات الله الذاتية، ولعل إضافتهم لها على سبيل التنقص كقولهم: "يد الله مغلولة"- فمن أضافها إليه -سبحانه- على أنها من جنس أيدي المخلوقين فهو مشبه ضال، وأما من أضافها إليه على الوجه الذي يليق بجلاله من غير أن يشابه خلقه في ذلك فهذا حق، وإثباتها لله على هذا الوجه واجب، كما نطق به القرآن، وصحت به السنَّة، وهو مذهب أهل السنَّة، فتنبه، والله الموفق.

إليه الصاحبة والولد وأجاز [الحلول] (¬1) عليه والانتقال والامتزاج من النصارى أو وصفه بما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به، إذ ليس موصوفاً بصفات الإِله الواجبة، فإذاً. ما عرفوا الله -سبحانه- فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها. قال: وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا وبها قطع الكلام أبو عمران [الفاسي] (¬2) بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب (الحول). (¬2) زيادة من ن ب د هـ. وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 545). (¬3) قال القاضي عياض -رحمنا الله تعالى وإياه- في ترتيب المدارك (4/ 705). قال: حدث في القيروان مسالة في الكفار، هل يعرفون الله تعالى أم لا؟ فوقع فيها اختلاف العلماء، ووقعت في السنة العامة، وكثر المراءُ, واقتتلوا في الأسواق إلى أن ذهبوا إلى أبي عمران الفاسي، فقال: إن أنصتم، علمتكم. قالوا: نعم. قال: لا يكلمني إلَّا رجل، ويسمع الباقون. فنصبوا واحداً، فقال له: أرأيت لو لقيت رجلاً، فقلت له: أتعرف أبا عمران الفاسي؟ قال: نعم. فقلت له: صفه لي. قال: هو يقال في سوق كذا، ويسكن سبته، أكان يعرفني؟ فقال: لا. فقال: لو لقيت آخر فسألته كما سألت الأول، فقال: أعرفه، يدرس العلم، ويفتي، ويسكن بغرب الشماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: فكذلك الكافر، قال: لربه صاحبة وولد، وأنه جسم، فلم يعرف الله ولا وصفه بصفته بخلاف المؤمن، فقالوا: شفيتنا. ودعوا له، ولم يخوضوا أبعد في المسألة. اهـ. نقلها الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/ 546) وعلق عليها تعليق نفيس فراجعه.

ثامنها: قد يتعلق بالحديث من يقول: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، حيث دعوا أولاً إلى الإِيمان فقط، ودعوا إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإِيمان. وضُعف هذا: بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه [ولا بُدءَ] (¬1) الترتيب في الوجوب، بدليل أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قُدمت في الذكر، وأخرت الزكاة مع تساويهما في خطاب الوجوب في الدنيا, ولا تتعلق المطالبة به في الدنيا إلَّا بعد الإِسلام، وليس المراد أن لا يزاد عذابهم بسببهما في الآخرة، كيف وهو - صلى الله عليه وسلم - رتب ذلك في الدعاء إلى الإِسلام، وبدأ بالأهم فالأهم. وقد اختلف العلماء في أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: المأمور بها والمنهي عنها على ثلاثة أقوال: أصحها: نعم. فيهما. وثانيها: لا. فيهما. وثالثها: أنهم مخاطبون بالمنهي دون المأمور (¬2). تاسعها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" قد قدمنا أن طاعتهم بالإِيمان بالنطق بالشهادتين، وأما طاعتهم في الصلاة فتحتمل أمرين. ¬

_ (¬1) هذه الكلمة ساقطة من إحكام الأحكام (3/ 373) مع اختلاف يسير بنقل المؤلف عنه. (¬2) انظر: حاشية الصنعاني (3/ 273) في كلامه على هذه المسألة.

أحدهما: إقرارهم بوجوبها واعتقاد فرضيتها والتزامهم بها. والثاني: طاعتهم بالفعل وأدائها، ويحتمل أن المراد مجموع ذلك وهو الظاهر، لكن رجح الأول بأمر معاذ بإخبارهم بالفرضية، فتعود الإِشارة إليها. ورجح الثاني بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل كفى، ولم يشترط تلفظهم بالإِقرار بالوجوب. وكذلك في الزكاة: لو بادروا بأدائها من غير تلفظ بالإِقرار كفى. فالشرط عدم الإِنكار للوجوب، لا التلفظ بالإِقرار (¬1). وإنما كان ذلك لأن المبادرة إلى الفعل تتضمن الامتثال فهو أبلغ في ذلك جميعه، لا أنه المطلوب فقط ظاهراً بل مطلوب الشرع وجود الامتثال للأمر بسوابقه ولواحقه، لكن هل يستفاد ذلك من صيغة الأمر بالمطلوب أم من كلام خارج فيه كلام أصولي. عاشرها: فيه دلالة على أن الوتر ليس بواجب، وكذا ركعتا الفجر، فإنَّ بعث معاذ إلى اليمن قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل بعد الأمر بالوتر وركعتي الفجر. وقد قال بوجوب الوتر أبو حنيفة: دون صاحبيه. وبوجوب ركعتي الفجر [الحسن البصري] (¬2) كما سلف ذلك في باب صلاة الجماعة، وباب الوتر. ¬

_ (¬1) ساقه بمعناه في إحكام الأحكام (3/ 275). (¬2) في ن ب ساقطة.

الحادي عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنّ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" الضمير في "فقرائهم" و"أغنيائهم" يعود إلى المسلمين أم إلى كل ناحية منهم. فإن نظرنا إلى عموم الحكم جعلنا الضمير عائداً إلى جميع المسلمين، وإن نظرنا إلى خصوصية المبعوث إليهم أهل اليمن رددناه إلى الناحية، فيختص الحكم بهم، لكن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر. [ولولا] (¬1) المناسبة الموجودة في باب الزكاة لقطعنا بعدم اعتبار خصوصية الناحية، كما هي غير معتبرة في الصلاة قطعاً في الحكم. وتظهر فائدة هذا الكلام وهو عود الضمير إلى ما زاد في جواز نقل الزكاة وعدمه عن بلد المال [(¬2)] وفيه خلاف: فعند أبي حنيفة: يجوز. وقد استدل به الخطابي (¬3) وغيره من الشافعية: على المنع وهو الأصح عند جمهورهم وهو مذهب مالك وأحمد. قال الشيخ تقي الدين (¬4): وفيه عندي ضعف، لأن الأقرب أن المراد: وتؤخذ من أغنيائهم من حيث إنهم مسلمون، لا من حيث إنهم من أهل اليمن، وكذلك الرد على فقرائهم، وإن لم يكن هذا هو الأظهر فهو محتمل قويّاً. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د هـ. (¬2) في الأصل كلمة غير واضحة، وهي غير موجودة في النسخ الأخرى. (¬3) انظر: معالم السنن (2/ 199). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 276).

قلت: ولا دلالة فيه أيضاً على منع النقل، لأن من منع النقل استثنى منه الإِمام والساعي كما هو ظاهر الأحاديث. وقد نقلها معاذ إلى عمر كما سيأتي. قال النووي في "شرح المهذب" (¬1): وهو الراجح ويستثنى مسألة ثالثة ذكرتها في "شرح المنهاج" فليراجع منه. فرع: لو خالف ونقل فالأصح عندنا أنه لا يجزيه. والأصح عند المالكية: الإِجزاء خلافاً لسحنون، وعندهم لو بلغ الإِمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة بغيره إليه. وهل العبرة مكان المال وقت تمام الحول، فيفرق الصدقة عنده إذ هو سبب [الوجود] (¬2) أو مكان المالك إذ هو المخاطب بذلك؛ فيخرجها في ذلك لأصحابهم قولان: الأول: هو مذهب الشافعي. وأما صدقة الفطر: فإنما ينظر فيها إلى موضع المالك فقط على المذهبين. فرع: يجوز عندنا نقل الكفارة والنذر والوصية على المذهب، لأن الأطماع لا تمتد إليها امتدادها إلى الزكاة والأوقاف الجارية على الفقراء المساكين أو من يعرض لحكمها في ذلك، وهي رتبة بين رتبتين لأن الأطماع تمتد إليها كالزكاة، ولكنها غير متعلقة بمال كالوصية ونحوها, ولا يبعد تصحيح جواز النقل إلَّا أن يكون الواقف قد نص على بلد فلا يُتجاوز. ¬

_ (¬1) انظر: المجموع (5/ 332). (¬2) في ن ب د (الوجوب).

فائدة: كان معاذ على اليمن من حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى زمان عمر، فبعث إليه بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد [(¬1)] [آخذاً] (¬2) فلما كان العام القابل بعث إليه [بالنصف] (¬3) فتراجعاً بمثل ذلك، فلما كان [(¬4)] الثالث بعث إليه [بكلها] (¬5)، وقال ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً. الثاني عشر: في الحديث دلالة على تحريم دفع الزكاة إلى كافر. الثالث عشر: فيه أيضاً أنها لا تدفع إلى غني من نصيب الفقراء. ومقتضى مذهب الشافعي: أن الغني والفقير من ذلك معتبر برتبة الشخص. وقد اختلف العلماء في الغني الذي يحرم عليه أخذ الزكاة. ¬

_ (¬1) في كتاب الأموال (أحداً). (¬2) في كتاب الأموال (يأخذه مني). (¬3) في كتاب الأموال (بشطر الصدقة). (¬4) في كتاب الأموال (العام). (¬5) في كتاب الأموال (بها كلها)، فراجعه عمر بمثل ما رجعه قبل ذلك، فقال. لمراجعة ضبط النص والاطلاع عليه. انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد (1912).

فقيل: هو من ملك نصاباً، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1) وبعض أصحاب مالك، من حيث إنه -عليه الصلاة والسلام- جعله في الحديث غنيًّا وقابله بالفقير، ومن ملك نصاباً فالزكاة مأخوذة منه فهو غني بهذا الاعتبار. والغني لا يعطى من الزكاة إلَّا في المواضع الخمسة المستثناة، وليس بالشديد القوة (¬2)، كما قاله الشيخ تقي الدين (¬3). وعند أحمد (¬4): إذا ملك خمسين درهماً لم يعط شيئاً من الزكاة، لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة، خدوشاً، أو كدوجاً، في وجهه" قالوا: يا رسول الله! وما غناه؟ قال: "خمسون درهماً, أو حسابها من الذهب" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه (¬5) ولكن ضعفه ابن الجوزي في تحقيقه ¬

_ (¬1) انظر: معالم السنن (2/ 227). (¬2) عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل الصدقة لغني، إلَّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني". أخرجه مالك في الموطأ (1/ 268)، وأبو داود (1635). (¬3) انظر: إحكام الأحكام (3/ 278). (¬4) معالم السنن (2/ 226). (¬5) أبو داود (1626) في الزكاة، باب: من يعطى الصدقة وحد الغنى، والنسائي (5/ 97)، وابن ماجه (1840)، والترمذي (650، 651)، والبغوي (1600)، وأحمد (1/ 388)، والحاكم (1/ 407)، وسكت عليه الذهبي، والطحاوي (2/ 20)، وأبو يعلى (5217)، والطيالسي (1/ 177)، والدارمي (1/ 386)، والحديث ضعيف لضعف حكيم بن =

بحكيم بن جبير وغيره. ولا اعتبار عند الشافعية: بالنصاب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل المسألة إلَّا لثلاثة فذكر رجلاً أصابته جائحة [اجتاحت] (¬1) ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش" (¬2) رواه مسلم في صحيحه, مطولاً ومن لم يجد ما يكفيه وهو المعتبر عندهم لم يجد قواماً أو سداداً من عيش. الرابع عشر: [ظاهره] (¬3) قد يستدل به من يرى إخراج الزكاة لصنف واحد إذ لم يذكر في الحديث إلَّا الفقراء، وهو مذهب مالك ¬

_ = جبير غير أنه لم ينفرد به، بل تابعه زبيد بن الحارث، كما نقله الترمذي وغيره عن سفيان، المستدرك (1/ 407). وله شاهد من حديث سهل بن الحَنْظَلِيَّة عند أبي داود في الزكاة (1629)، باب: من يعطى الصدقة وحد الغنى، وأحمد (4/ 180، 181)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 20). "الخدوش": يقال: خمشت المرأة وجهها، إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها. و"الكدوح": الآثار من الخَدْش والعض ونحوه، وإنما قيل للحمار مُكَدَّح، لما به من آثار العضاض. (¬1) في ن ب (أجاحت). (¬2) مسلم (1044)، وأبو داود (1640) في الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة، والنسائي (5/ 88، 89)، وابن خزيمة (2361)، والطيالسي (1327)، وابن حبان (3395، 3396)، والدارمي (1/ 396)، وابن الجارود (367)، وأحمد (3/ 377، 5/ 60)، والحميدي (819)، والبغوي (1626). (¬3) في ن ب د ساقطة.

ومن وافقه (¬1)، قال الشيخ تقي الدين (¬2): وفيه بحث. الخامس عشر: فيه اهتمام الإِمام بأمر الفقراء في الزكاة. السادس عشر: فيه [أيضاً] (¬3) أن الإِمام أو نائبه هو الذي يتولى قبض الزكاة لوصفه إياها بكونها مأخوذة من الأغنياء، وكل ما اقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه [والأظهر] (¬4) عند الشافعية أن الأفضل الصرف إليه إلَّا أن يكون جائزاً. السابع عشر: فيه أيضاً أن صاحب المال إذا امتنع من دفعها أخذت منه بغير اختياره، حيث قال: "تؤخذ من أموالهم" وهذا الحكم لا خلاف فيه، لكن هل تبرأ ذمته ويجزيه في الباطن، فيه خلاف وتفصيل لأصحابنا، ذكرته في "شرح المنهاج". الثامن عشر: قوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: " فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم" إياك: منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره، والتقدير: باعد واتق وكرائم أموالهم. وهو من باب إياك والأسد وأهلك والليل وإشباه ذلك. ¬

_ (¬1) وهو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة). انظر: كشاف القناع (2/ 335)، والمغني (2/ 668)، واللباب (1/ 156)، وفتح القدير (2/ 14)، والفوانين الفقهية (110)، وبداية المجتهد (1/ 267). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 278). للاطلاع على المسألة مفصلة عندهم. انظر: مغني المحتاج (3/ 106، 112)، والمهذب (1/ 170، 173)، وحاشية الباجوري (1/ 291، 294). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في الأصل (الأفضل)، والتصحيح من ن ب د.

قال ابن قتيبة: "ولا يجوز: إياك كرائم" بحذف الواو. والكرائم جمع كريمة وهي جامعة الكمال [(¬1)] الممكن في حقها من غزارة لبن وكمال صورة أو كثرة لحم أو صوف وهي النفائس، التي تتعلق بها نفس مالكها، أو يختصها لنفسه، ويؤثرها كالأكوله. والرُّبا: هي التي تربي ولدها أو الحديثة العهد بالنتاج. والماخض: هي الحامل. وفحل الغنم. وحزرات المال: -بتقديم الزاي- وقيل: بتأخيرها (¬2) وهي التي تحرز بالعين، وترمق لشرفها عند أهلها. التاسع عشر: الحكمة في منع الساعي ذلك أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء في مال الأغنياء فلا يناسب ذلك الإِجحاف بأرباب الأموال فسامحهم الشرع بما يظنون به، ونهى الساعي عن أخذه فيحرم عليه أخذها، بل يأخذ الوسط، ويحرم على رب المال إخراج شر المال، نعم لو رضي المالك بإخراج الكريمة قبلت منه. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (واو)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ (1/ 267): "لا تأخذ من حزرات الناس شيئاً"، وأورده ابن الجوزي في غريب الحديث فى موضعين: في باب الحاء مع الراء (1/ 203)، وفي الحاء مع الزاي (1/ 209)، وأيضاً في النهاية كذلك (1/ 367) (1/ 377). قال أبو عببدة الحزرة: خيار المال، وحكى الأزهري: أن حزرات الأموال هي التي يودها أربابها, وليس كل المال الحزرة ... إلخ.

وعندنا وجه: أن الرُّبا (¬1) لا تؤخذ لأنها لقرب عهدها بالولادة مهزولة، والهزال عيب. ووجه آخر: أنه لا تقبل الكريمة إذا تبرع المالك بها للنهي المذكور، وهما فاسدان، كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج مع فروع متعلقة بذلك فراجعها منه. العشرون: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "واتق دعوة المظلوم! فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" هذا تنبيه على الامتناع من جميع أنواع الظلم، وذكر ذلك عقب أخذ الكرائم، حيث إن أخذها ظلم، وعلل إنفاذ دعوة المظلوم [بعدم الحجاب بينها وبين الله -تعالى- تأكيداً لتحريم الظلم وتنبيهاً على سرعة عقوبة فاعله، ودعوة المظلوم] (¬2) مسموعة لا ترد، وهو معنى عدم الحجاب بينها وبين الله -تعالى-. الحادي والعشرون: الحجاب يقتضي الاستقرار في المكان (¬3) والباري -تعالى- منزه عن ذلك، إلَّا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب العرب بما تفهم. والمراد: أنها مقبولة على كل حال لا أن للباري -جل وتعالى- حجاباً بحجبه عن الناس. ويحتمل كما قال الفاكهي: أن ¬

_ (¬1) أي التي تربي ولدها. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) يقال: إن الله مستوٍ على عرشه، ولا يحيط به شيء من خلقه، وما فوقه هواء.

يراد بالحجاب هنا المعنوي دون الحسي (¬1). والمعنى: أن المظلوم دعوته مقبولة وإن كان عاصياً مخلطاً، ولا يكون عصيانه وتخليطه حاجباً لدعائه. ومما يؤيد هذا الاحتمال ما جاء في الصحيح (¬2): "أنى يستجاب له ومطعمه حرام ومشربه حرام"، الحديث، فعلم أن المطعم الحرام والمشرب الحرام ونحو ذلك مما يمنع الإِجابة، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن دعوة المظلوم لا يمنعها شيء كما منع المطعم والمشرب الحرام من استجابة الدعاء في حق غير المظلوم. الثاني والعشرون: يؤخذ من الحديث أن السنَّة أن الكفار يدعون إلى التوحيد قبل القتال. الثالث والعشرون: يؤخذ منه أيضاً وجوب الزكاة كما سلف. الرابع والعشرون: يؤخذ منه أيضاً أن الإِمام يبعث سعاة عدولاً أُمناء ثقات علماء يأخذون الزكاة نيابة عن الفقراء. الخامس والعشرون: يؤخذ منه أيضاً بوصية الإِمام نوابه بما يحتاجون إليه من علمهم من العمل بالأحكام أمرها ونهيها خصوصاً بما يأمر الرعية. السادس والعشرون: يؤخذ منه أيضاً وجوب بيان تحريم الظلم على الإِمام وغيره من العلماء والأمر باجتنابه وبتقوى الله -تعالى- والمبالغة في ذلك وتعريف قبح عاقبته. ¬

_ (¬1) يقال: ليس بينها وبين الله مانع، ولا يقال: معنوي ولا حسي. (¬2) مسلم (1015)، والترمذي (2989).

السابع والعشرون: يؤخذ منه أيضاً تحريم جميع أنواع الظلم كما أسلفناه. الثامن والعشرون: فيه أيضاً استجابة دعاء المظلوم. التاسع والعشرون: يؤخذ منه أيضاً جواز الدعاء على الظالم بما يسوغ شرعاً. الثلاثون: يؤخذ منه أيضاً قبول خبر الواحد ووجوب العمل به. قال القاضي عياض (¬1): وفيه دليل على إيجاب الزكاة على الصبي والمجنون لعموم قوله: "من أغنيائهم وضُعَّفَ بأنهما ليسا أهلاً للطاعة. فالحديت حجة للمخالف (¬2). واتفقوا: على وجوب العشر فيما أخرجته أرضه (¬3). ووجوب صدقة الفطر عليه. قال البغوي: وفيه دلالة أيضاً على أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة، لأنه أضاف الصدقة إلى الأموال، ¬

_ (¬1) الصحيح أن الزكاة تجب في أموال اليتامى لحديث: "من ولي يتيماً فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". وفي رواية: "ابتغوا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة". (¬2) أخرجه الترمذي والبيهقي. انظر: نصب الراية (2/ 331)، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تخرج الزكاة من أموال اليتامى، وقال عمر -رضي الله عنه-: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة". (¬3) أي أرض اليتيم. انظر: الاستذكار (9/ 83)، ومعالم السنن (2/ 200).

وفيه نظر: لأنها لم تقيد بالوجود (¬1). ... ¬

_ (¬1) البغوي (5/ 473)، وقال ابن القاسم في حاشية الروض (3/ 183): أي فلا تسقط زكاة النصاب الذي تلف بيده، لأنه عين تلزمه مؤونة تسليمه إلى مستحقه، فيضمنه بتلفه في يده، كعارية ونحوها، سواء فرط أو لم يفرط وما لم يكن تحت يده تسقط زكاته، وعنه: تسقط إذا لم يفرط، فيعتبر التمكن من الأداء مطلقاً، واختار الشيخ وجمع: تسقط بتلفه إذا لم يفرط على كلا الروايتين أما لو أمكنه الأداء فلم يزك لم تسقط، كزكاة الفطر وكالحج، وقال الموفق: والصحيح تسقط بتلف المال إذا لم يفرط، لأنها تجب على المواساة فلا تجب مع عدم المال، وفقر من تجب عليه ... إلخ كلامه. وأيضاً نقل الحافظ كلام البغوي في الفتح (3/ 285) , وقال: وفيه نظر، ولم يبينه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 172/ 2/ 33 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة " (¬1). الكلام عليه من أحد عشر وجهاً: الأول: التعريف براويه وقد سلف في باب المواقيت. الثاني: "الأواق" (¬2) جمع أوقيّة -بتشديد الياء-، ويقال في ¬

_ (¬1) البخاري (1405، 1447، 1459، 1484)، ومسلم (979)، وأبو داود (1558) في الزكاة، باب: ما تجب فيه الزكاة، ومالك في الموطأ (1/ 244)، والحميدي (735)، والنسائي (5/ 17)، والشافعي (1/ 231، 232)، وابن حبان (3268، 3275، 3282)، وابن خزيمة (2263، 2298)، والبغوي (1569)، وأحمد (1/ 44، 45، 79، 3/ 6)، وأبو يعلى (979). (¬2) الأوقية تساوي = 127 غراماً. الأوقية أيضاً تساوي = 40 غراماً. النش نصف الأوقية = 4, 63 غراماً. الدرهم يساوي = 175, 3 غراماً. =

كل جمع إذا كان مفرده مشدداً -بتشديد الياء وتخفيفها- كالأَوَاقِيُّ والبخاتي والكراسي وما أشبه ذلك. قال ذلك ابن السكيت (¬1) والجوهري (¬2): وقد ثبت في هذا الحديث في الجمع حذف الياء فيصير في الجمع للأوقية ثلاث لغات: التشديد والتخفيف والحذف. والأُوقية بضم الهمزة. وأنكر جمهور أهل اللغة: حذف الهمزة. وحكى اللحياني: جواز فتح الواو وتشديد الياء، وجمعها "وقايا" كضحية وضحايا. وفي "مجمع الغرائب" وزنها: أفعولة والهمزة زائدة، ولكنها لما لزمت في الواحد والجمع صارت كالأصل، وحقها أن تذكر في فصل الواو والقاف. وقيل: اشتقاقها من الأوقة وهو موضع منهبط، يجتمع فيه الماء. وقيل: هو من باب وقي يقي. وأجمع العلماء من المحدثين والفقهاء واللغويين: على أن المراد بالأوقية الشرعية: أربعون درهماً، وهي أوقية الحجاز. ¬

_ = النواة يساوي = 16 غراماً تقريباً. فيكون نصاب الذهب 96 غراماً، ونصاب الفضة 642 غراماً عند الجمهور، و700 عند الحنفية. (¬1) انظر: المشوف المعلم (84). (¬2) انظر: مختار الصحاح (305).

قال القاضي عياض (¬1): ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهو يوجب الزكاة في أعداد منها ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. قال: وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة سبعة مثاقيل وزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل. وإنما معنى ما نقل في ذلك: أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإِسلام، وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم، وصغاراً وكباراً، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإِسلام ونقشه وتصييرها وزناً واحداً، لا يختلف وأعياناً يستغنى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها، وضربوه على وزنهم. قال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلاَّ فكيف [كان] (¬2) يتعلق بها حقوق الله -تعالى- من الزكاة وغيرها وحقوق العباد. ولهذا كانت الأوقية معلومة. وقال أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدراهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإِسلام. واعلم: أن الدراهم كانت في الجاهلية على نوعين مختلفين: ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (7/ 52)، وإكمال إكمال المعلم (3/ 109). (¬2) زيادة من ن ب د.

بغلية وطبرية، نوع عليه نقش فارس، والآخر نقش الروم. فالبغلية نسبة إلى ملك يقال له رأس البغل (¬1) وهي السود كل درهم منها ثمانية دوانيق. والطبرية: نسبة إلى طبرية الشام وزن كل درهم منها أربعة دوانيق. وهي العتق، فقدر الشرع في الإِسلام الدرهم ستة دوانيق جمعاً بينهما، ووقع الإِجماع عليه من غير ضرب، وكانوا يتعاملون بهذا التقدير الشطر من هذه والشطر من هذه عند الإِطلاق، ما لم يعينوا بالنص أحد النوعين. وكذلك كانوا يؤدون الزكاة في أول الإِسلام باعتبار مائة من هذه ومائة من هذه في النصاب، هكذا قاله أبو عبيد وغيره (¬2) وهي الخمسة الأواقي المذكورة في الحديث، ولم يخالف في ذلك أحد إلَّا ابن حبيب الأندلسي، فإنه زعم أن كل بلد يتعاملون بعرفهم في الدراهم، وهو خلاف قول الجمهور، ويعضد قولهم ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوزن وزن مكة" (¬3) وهذا المقدار هو ¬

_ (¬1) في حاشية الأصل: الرأس ثمان حبات وثلث حبة وثلث خمس حبة من الشعير الخلص. فالدرهم خمسون حبة وخمسا حبات والدرهم ستة دوانيق. (¬2) كتاب الأموال لأبي عبيد (629)، وانظر النص كاملاً فيه. (¬3) أبو داود (3340) في البيوع، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المكيال مكيال أهل المدينة"، والنسائي (5/ 54)، والزكاة (7/ 284) في البيوع، والبيهقي (6/ 31)، وابن حبان (3283)، والأموال لأبي عبيد (1607)، والطحاوي في مشكل الَآثار (2/ 99)، والبغوي (2063). انظر: شرح السنَّة (8/ 69)، وفتح الباري (3/ 310، 311).

الذي كان أهل مكة يتعاملون به في عصره -عليه الصلاة والسلام- فلما تمكن الإِسلام واتسع ضربت الدراهم على ضرب الإِسلام تحرجاً من تلك النقوش وتحرياً لمعاملتهم الإطلاقية، فنسب التقدير إلى من [ضربت] (¬1) في زمنه ابتداء، وليس كذلك، بل كان ذلك إظهاراً للضرب لا ابتداء تقدير. واختلف في زمن من ابتدأ إظهار ذلك. فقيل: في زمن عمر بن الخطاب. وقيل: في زمن بني أمية. الثالث: "الصدقة" واحد الصدقات بفتح -الصاد والدال-. وأما ما هو اسم من أسماء الصداق: ففيه سبع لغات، ذكرتها في "شرح السنن" (¬2). الرابع: المراد بالأواقي الخمسة المذكورة الخالصة من الغش, ولا يشترط كونها دراهم منقوشة، بل السبائك وغيرها حكمها كذلك، فلو كانت مغشوشة أو بعضها لم يجب فيها شيء حتى يبلغ من الخالص نصاباً، هذا مذهبنا وهو المشهور من مذهب مالك. وقيل: يعتبر أكثر فيكون الأقل تبعاً. ¬

_ (¬1) في ن ب (ضرب). (¬2) قال ابن القاسم في حاشية الروض (6/ 363): الصداق بفتح الصاد وكسرها, وله تسعة أسماء: صداق، ومهر، ونحلة، وفريضة، حباء، وأجر، ثم عقر، علائق التاسع: الصدقة.

قال القاضي عبد الوهاب: إلاَّ أن يكون ما لا حكم له كما يقول أهل الصنعة أنه لا يتأتى الضرب إلاَّ به كالدانق في العشرة وما أشبهه. قال الفاكهي: فلو تصور أن يكون جوده أو سكة تجبر ما نقصه الغش لم يعتبر باتفاق. وانفرد السرخسي: من الشافعية بحكاية وجه أنها إذا بلغت قدراً لو ضمت إليه قيمة الغش من النحاس أو غيره لبلغ نصاباً فإن الزكاة تجب فيه (¬1). الخامس: فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه على عدم الوجوب فيما إذا نقص عن النصاب ولو بحبة ونحوها، فإنه يصدق أنها دون خمس أواق، وفيه رد على المالكية، حيث أوجبوا الزكاة في ذلك، وسامحوا بالنقص اليسير جدّاً الذي تروج معه الدراهم والدنانير رواج الكامل، هذا نص مالك. واختلف أصحابه: في مقداره. فقيل: ما لا يتشاحح فيه في العادة. وقيل: بأنه المقدار الذي يختلف فيه في الموازين بشرط جوازها بجواز الموازنة، فإن كثر النقص وجرى مجرى الموازنة، ففي وجوب الزكاة فيه قولان عندهم فمن اتبع مقتضى اللفظ أسقطها، ومن اتبع المعنى في الانتفاع بها كالوَازِنَة أوجبها. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (3/ 311)، وأيضاً الخامس والتنبيه.

وحُكِيَ عن عمر بن عبد العزيز (¬1): نقص ثلاثة دراهم وثلث دينار من نصابهما [لا يسقطها] (¬2). وحكى الغزالي: عن مالك وجوب الزكاة على من معه مائة وخمسون، تساوي مائتين قراضة، ونقد البلد قراضة وأنكر ذلك عليه بأن أصحابه لا يعرفونه، ولا نقله أحد منهم عنه، بل صرح المتأخرون منهم بنفيه، وقالوا: إنما رأوا في الموطأ أنها إذا نقصت وكانت تجُوزُ بجواز الوازنة وجبت الزكاة (¬3). فظنوا النقص في المقدار والجواز في الفضة، لأنها بارتفاع ثمنها تلحق بالوازنة، وهذا ظن باطل والمراد أنها ناقصة نقصاً لا يتشاحح الناس في مثله في العادة [كما سلف] (¬4). فرع: لو نقص النصاب حبة أو نحوها في بعض الموازين وكان تامّاً في بعضها، فالأصح عند الشافعية لا وجوب للشك في النصاب. تنبيه: خالف المعري وبشر المريسي الإِجماع فاعتبرا العدد دون الوزن. السادس: لم يذكر في الحديث الذهب لأن غالب تصرفهم كان ¬

_ (¬1) انظر: الموطأ (1/ 255)، والأم (2/ 46). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: الاستذكار (9/ 39)، قال النووي -رحمنا الله وإياه- في شرح مسلم (7/ 54) متعقباً هذا: "دليلنا أنه يصدق أنها دون خمس أواق". وفيه: "تروج رواج" بدل "تجوز بجواز". وفي إكمال إكمال المعلم (3/ 110): فإن لم تجز بجواز الوازنة. (¬4) زيادة من ن ب د.

بالورق. وقد ذكر الذهب في غير هذا الحديث في "صحيح ابن حبان" و"الحاكم" وغيرهما وفي "صحيح البخاري" من حديث أنس "وفي الرقة ربع العشر" (¬1) وهي الفضة. وقيل: يشمل الذهب أيضاً وقام الإِجماع على وجوب الزكاة في عشرين مثقالاً منه. وادعى النووي (¬2) أن الاستدلال به كاف، وأن الأحاديث الواردة بتحديد ذلك ضعاف. وفي الثاني: نظر لما ذكرته لك. والمثقال: أربعة وعشرون قيراطاً. والقيراط: ثلاث حبات من وسط الشعير مجموعه اثنان وسبعون حبة بالإِجماع. وحُكِيَ عن الحسن البصري والزهري أنهما قالا: لا تجب في أقل من أربعين مثقالاً، لكن الأشهر عندهما الوجوب في عشرين، كقول العلماء. ¬

_ (¬1) البخاري (1448)، وأبو داود (1567) في الزكاة، باب: في زكاة السائمة، والنسائي (5/ 18، 23، 27، 29)، وابن الجارود (342)، ومسند أبي بكر للمروزي (70)، وابن ماجه (1800)، والبغوي (1570)، والبيهقي (4/ 85، 86)، والدارقطني (2/ 114، 116)، والحاكم (1/ 390)، وابن حبان (3266)، والشافعي (1/ 235، 236)، وأبو يعلى (127)، وأحمد (1/ 11، 12)، وابن خزيمة. (2261، 2279، 2281). (¬2) شرح مسلم (7/ 53).

وحكى القاضي عياض: عن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمتة مائتين درهم، وإن كان دون عشرين مثقالاً. قال هذا القائل ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مائتي درهم (¬1). فرع: اختلف العلماء فيما إذا ملك بعض نصاب من الذهب وبعض نصاب من الفضة هل يضم بعضه إلى بعض بالقيمة (¬2). فقال مالك والجمهور كما نقله القرطبي عنهم: يضمان في إكمال النصاب على اختلاف بينهم. فمالك وجماعة: يراعون الوزن والضم على الأجزاء لا على القيم، وينزلون كل دينار منزلة عشرة دراهم على الصرف القديم (¬3). وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري: يرون ضمها على القيمة في وقت الزكاة. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: لا يضم مطلقاً. وذهب آخرون: إلى أنه إنما يضم إذا كمل من أحدهما ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (7/ 49)، وإكمال إكمال المعلم (3/ 110). (¬2) قال ابن قاسم في حاشية الروض (3/ 245) على قوله: "ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب" بالأجزاء قال: كالنصف والربع، لا بالقيمة، وفاقاً لمالك وأبي حنيفة، وصححه غير واحد، وأنه لا يسع الناس غيره، لأن الضم بالأجزاء متيقن، ورجع أحمد عن القول بعدم الضم. اهـ. (¬3) انظر: الاستذكار (9/ 40).

نصاب، فيضم الآخر ويزكى الجميع، حكاه القرطبي (¬1). السابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا فيما دون خمس ذود صدقة" الرواية المشهورة إضافة خمس إلى ذود وروي بتنوين خمس [(¬2)] ويكون ذود بدلاً منها والمعروف الأول. ونقله ابن عبد البر (¬3) والقاضي (¬4) عن الجمهور. والذود أصله كما قال القرطبي: من ذاد يذود إذا دفع شيئاً فهو مصدر، فكأن من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الفاقة والحاجة. وهو عند أهل اللغة: من الثلاثة إلى العشرة من الإِبل لا واحد له من لفظه. قالوا: ويقال في الواحد بعير. قالوا: وكذلك النفر والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الألفاظ لا واحد لها من لفظها. قالوا: وقولهم خمس ذود كقولهم خمسة أبعرة وخمسة جمال وخمس نوق وخمس نسوة. وقال سيبويه: تقول ثلاث ذود، لأن الذود مؤنث، وليس باسم كسّر عليه مذكر. ¬

_ (¬1) انظر لما سبق الاستذكار (9/ 40، 42). (¬2) في ن ب زيادة (ذود صدقة). (¬3) انظر: الاستذكار (9/ 14). (¬4) انظر: مشارق الأنوار (1/ 271).

وقال أبو عبيد: الذود ما بين اثنين إلى تسع، وقوله مخالف جمهور أهل اللغة. قال: وهو مختص بالإِناث (¬1). وقال الأصمعي: لما ذكر أن الذود: من الثلاث، إلى العشرة الصُبه. خمس، أو ست (¬2)، والصرمة: ما بين العشر، إلى العشرين (¬3) والعكرة: ما بين العشرين، إلى الثلاثين (¬4) والهجمة: ما ¬

_ (¬1) انظر المغرب (1/ 310)، ولسان العرب (5/ 70). (¬2) قال في لسان العرب (7/ 268): الصُّبَّة: القطعة من الإِبل والشاه فقيل الصبَّة: من الإِبل والغنم: ما بين العشرين إلى الثلاثين والأربعين، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين. وفي الصحاح عن أبي زيد: الصبة من المعز ما بين العشرة إلى الأربعين. وقيل: هي من الإِبل ما دون المائة، كالفرق من الغنم. في قول من قال الفرق ما دون المائة، والفِزرُ من الضأن: مثل الصبة من المعزى. والصدعة نحوها إلخ قال ابن الأثير في النهاية (3/ 4)، وقد اختلف في عدها فقيل: ما بين العشرين إلى الأربعين من الضأن والمعز، وقيل من المعز خاصة، وقيل: نحو الخمسين، وقيل: ما بن الستين إلى السبعين، قال: والصبة من الإِبل نحو خمس أو ست ... إلخ. (¬3) قال في لسان العرب (7/ 335): الصرمة وهي القطيع من الإِبل والغنم. قيل: هي من العشرين إلى الثلاثين والأربعين كأنها إذا بلغت هذا القدر تستقل بنفسها فيقطعها صاحبها عن معظم إبله وغنمه ... إلخ. (¬4) قال في لسان العرب (9/ 338): العكرة: القطعة من الإِبل، وقيل: العكرة الستون منها، وقال أبو عبيد: العكرة ما بين الخمسين إلى المائة، وقال الأصمعي: العكرة الخمسون إلى الستين إلى السبعين، وقيل العكرة: الكثير من الإِبل، وقيل: العكر ما فوق خمسمائة من الإِبل.

بين الستين، إلى السبعين (¬1) والهنيد: مائة (¬2) , والخطر: نحو المائتين، والعَرْج: من خمس مائة إلى الف (¬3). وقال أبو عبيد وغيره: الصرمة: من العشر إلى الأربعين. وقال غير الأصمعي: وهند: غير مصغر مائتان وأمامة: ثلاثمائة. وأنكر ابن قتيبة (¬4): أن يراد بالذود الواحد. وقال: لا يصح أن يقال: خمس ذود، كما لا يقال خمس ثوب. وغلطه العلماء، بل هذا اللفظ شائع مسموع من العرب معروف في كتب اللغة، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة وليس جمعاً لمفرد، بل بخلاف الأثواب. ¬

_ (¬1) قال في لسان العرب (15/ 41): الهجمة: القطعة الضخمة من الإِبل، وقيل هي ما بين الثلاثين والمائة مما يدلك على كثرتها. وقيل: الهجمة أولها الأربعون إلى ما زادت، وقيل: هي ما بين السبعين إلى دون المائة، وقيل: هي ما بين السبعين إلى المائة، وقيل: هي ما بين التسعين إلى المائة، وقيل ما بين الستين إلى المائة. (¬2) قال في لسان العرب (15/ 145): الهنيدة: المائة فقط من الإِبل خاصة: قال أبو عبيد: هي اسم لكل مائة من الإِبل وقيل: هي اسم للمائة ولما دوينها ولما فويقها. والهنيدة اسم المائة سنة. والهند: مائتان. (¬3) في لسان العرب (4/ 138): الخطر: الإِبل الكثيرة، والجمع أخطار، وقيل: الخطر مائتان من الغنم والإِبل، وقيل: هي من الإِبل أربعون، وقيل: ألف وزيادة. وقال أبو حاتم إذا بلغت الإِبل مائتين، فهي خطر. فإذا جاوزت ذلك وقاربت الألف، فهي عَرِج. (¬4) انظر: الاستذكار (9/ 13)، وشرح مسلم (7/ 50).

قال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجمع، فقالوا: خمس ذود [من الإِبل وثلاث ذود، لثلاث من الإِبل، وأربع ذود وعشر ذود] (¬1) على غير قياس، كما قالوا: ثلاثمائة وأربعمائة. والقياس مئتين ومئات، ولا يكادون يقولونه. وقال القرطبي: وهذا صريح بأن الذود واحد في لفظه: الأشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يقال على الواحد. ثم اعلم أن رواية الجمهور: "خمس ذود" ورواية بعضهم "خمسة ذود" [وكلاهما لرواية] (¬2) مسلم، ولكن الأول أشهر، وهما صحيحان في اللغة، فإثبات الهاء لإِطلاقه على [المذكر] (¬3) والمؤنث ومن حذفها قال: أراد أن الواحدة منه فريضة. الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة" [معنى "دون" في مواضع هذا الحديث "أقل" أي ليس في أقل من خمس صدقة] (¬4) لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعضهم في قوله "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" أنها بمعنى "غير" ولقد أبعد غاية الإِبعاد، فإنه يلزم أن لا تجب الزكاة فيما زاد، على الخمسة وهو باطل كما سيأتي. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. وفي شرح مسلم (7/ 50) زيادة في أوله فقالوا: خمس ذود لخمس ... إلخ. (¬2) في ن ب (وكليهما)، وفي ن ب د (رواه). (¬3) في ن ب (المذكور). (¬4) في ن ب ساقطة.

التاسع: "الأوسق" (¬1) جمع وسق بفتح الواو وكسرها، حكاهما صاحب المحكم وغيره، والأشهر فتح الواو، وهو جمع قلة، ويقال في الجمع أيضاً [على الأول] (¬2) أوسق كفلس وأفلس، وعلى الثاني: أوساق كجمل وأجمال. وأصله في اللغة الحمل. واختلفوا في اشتقاقه: فقال شمر (¬3): كل شيء حملته فقد وسقته، يقال ما أفعل كذا ما وسقت عيني الماء أي حملت. وقال غيره: الوسق ضمك الشيء إلى الشيء، ومنه قوله -تعالى-: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)} (¬4) أي جمع وضم، وذلك أن الليل يضم كل شيء إلى مأواه، واستوسق الشيء إذا اجتمع [وكمل] (¬5). وقيل: معنى "وسق" علا، وذلك أن الليل يعلو كل شيء ويجلله، ولا يمتنع منه شيء. ويقال: للذي يجمع الإِبل: واسق. وللإبل نفسها: وسقت، وقد وسقتها فاستوسقت، أي اجتمعت وانضمت (¬6). وقال الخطابي (¬7): ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب (15/ 299). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: لسان العرب (15/ 300). (¬4) سورة الانشقاق: آية 17. انظر: لسان العرب (15/ 300). (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) لسان العرب (15/ 299). (¬7) أعلام الحديث (1/ 750). =

الوسق تمام حمل الدواب النقالة، وهو ستون صاعاً. قال غيره: والصاع: أربعة أمداد. والمد: رطل وثلث بالبغدادي. والرطل: البغدادي هنا اثني عشر أوقية. والأوقية: هنا هي زنة عشرة دراهم وثلثي درهم من دراهم عبد الملك بن مروان [فبلغ] (¬1) زنة الرطل من ذلك مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً، كذا [قدره] (¬2) القرطبي وهو أحد الأوجه عندنا، والأصح عند الإِمام الرافعي أنه مائة وثلاثون. والأصح عند النووي (¬3): أنه مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. ¬

_ = قال في لسان العرب (15/ 299): الوَسْقُ والوِسْقُ: مكيلة معلومة، وقيل: هو حمل بعير وهو ستون صاعاً بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو خمسة أرطال وثلث، فالوسْقُ على هذا الحساب. مئة وستون مَناً، قال الزجاج: خمسة أوسق هي خمسة عشر قفيزاً، قال: وهو قفيزنا الذي يسمى المعدّل، وكل وَسْق بالمُلَجَّم وذلك ثلاثة أَقْفِزَةٍ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ليس فيما دون خمسة أوْسُقٍ من التمر صدقة. التهذيب: الوَسْقُ بالفتح، ستون صاعاً وهو ثلاثمائة وعشرون رطلاً عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلاً عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد ... إلخ. (¬1) في ن ب د (فمبلغ). (¬2) في ن ب (ذكره). (¬3) انظر: شرح مسلم (7/ 49).

فالأوسق الخمسة: ألف وستمائة رطل بالبغدادي، وهل هذا التقدير بالأرطال تقريب أم تحديد. وجهان لأصحابنا: أصحهما: أنه تحديد كسائر النصب، وهو ظاهر الحديث. وقيل: تقريب. ووقع في شرح مسلم للنووي (¬1) تصحيحه وتبعه على ذلك الفاكهي وابن العطار، ورجحه الشيخ تقي الدين (¬2) أيضاً فقال: الأظهر أن النقصان اليسير جدّاً لا يمنع إطلاق الاسم في العرف ولا يعبأ به أهل العرف، أنه يغتفر. العاشر: الحديث دال على الوجوب في هذه المحدودات من الدراهم والإِبل والحبوب، وعلى عدم الزكاة فيما دون المحدود ولا خلاف بين العلماء في ذلك، إلاَّ ما قاله أبو حنيفة وبعض السلف أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيرة. واستدل له بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فيما سقت السماء العشر، وما سقى بنضح أو داليه وما سقي بالنضح نصف العشر" (¬3) وهذا عام في القليل والكثير. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (7/ 49). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 288). (¬3) البخاري (1483)، وأبو داود (1596) في الزكاة، باب: صدقة الزرع، والترمذي (640) باب: ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار، والنسائي (5/ 41)، وابن ماجه (1817)، والبيهقي (1/ 130)، وابن حبان (3285)، والبغوي (1580)، والدارقطني (2/ 130). وأيضاً استدلوا =

والجواب: عنه بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرَج لا قدر المُخرج منه وكأنها -والله أعلم- نزعه ظاهرة. وحكى القاضي عياض (¬1): عن داود أن كل ما تداخله الكيل يراعي فيه خمسة أوسق، وما عداه لا يوسق ففي قليله وكثيره الزكاة. ولما ذكر الشيخ تقي الدين (¬2) الجواب السالف قال: هذا فيه قاعدة أصولية وهي أن الألفاظ العامة ترد بوضع اللغة على ثلاث مراتب. أحدها: ما يظهر فيها قصد التعميم [بأن يرد مستنده على سبب] (¬3) لقصد تأسيس القواعد. ثانيها: [ما يظهر فيها قصد التخصيص، كهذا الحديث] (¬4). [ثالثها] (¬5): ما لم تظهر فيه قرينة [بقصد التعميم ولا عدمه ولا يحتاج ذلك] (¬6) إلى دليل [وإن طلبه بعض المتأخرين، بل يعرف ¬

_ = بقوله -تعالى-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك العشر أو نصف العشر. انظر: الاستذكار (9/ 239). (¬1) إكمال إكمال المعلم (3/ 108). مع ملاحظة تغير العبارة. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 284). (¬3) اللفظ في الأحكام (بأن أورد مبتدأ لأعلى سبب) ... إلخ. وانظر تعليق الصنعاني على هذا الموضع فإن فيه فوائد (3/ 284). (¬4) العبارة في إحكام الأحكام: ما ظهر فيه عدم قصد التعميم، ومُثل بهذا الحديث. (¬5) زيادة من ن ب د وإحكام الأحكام. (¬6) اللفظ في الأحكام: "زائدة تدل على التعميم، ولا قرينة تدل على عدم التعميم".

ذلك من السياق ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فهم المقصود من الكلام وطولب بالدليل لعسُر إقامته. لكن الناظر يرجع إلى ذوقه، ودينه وإنصافه] (¬1). الحادي عشر: لم يتعرض في الحديث في القدر الزائد على المحدود من المذكورات فيه، وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة فيما زاد على خمسة أوسق من الحب والتمر بحسابه، وأنه لا أوقاص (¬2) فيها. واختلفوا فيما زاد على نصاب الذهب والفضة قليلاً كان أو كثيراً، هل فيه ربع العشر ولا وقص فيه: فقال مالك والليث والثوري والشافعي (¬3) وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأكثر ¬

_ (¬1) تمام العبارة في الأحكام وحاشيته (3/ 285)، والمناظر يرجع الشنق دينه واتصافه. (¬2) الوقص: فيه لغتان: فتح القاف وإسكانها، وهو مشتق من قولهم: "رجل أوقص" إذا كان قصير العنق واصطلاحاً: يطلق لما بين الفريضتين في الصدقة، والشنق مثله، وبعض العلماء يجعل الوقص في البقر والغنم، والشنق: في الإِبل خاصة. انظر: المجموع (5/ 392، 393). (¬3) ذكر النووي أن للشافعي في المسألة قولين: "أصحهما عند الأصحاب أنها عفو، ويختص الفرض بتعلق النصاب، وهذا نصه في القديم وأكثر كتبه الجديدة المختصر وقال في البويطي من كتبه الجديدة: يتعلق بالجميع ... وقال: وهو المذهب وبه قطع الجمهور: للمراجعة: انظر: المجموع مع المهذب (5/ 354، 356)، ومختصر المزني (41)، والتنبيه (38)؛ مستدلين: بأنها عفو -أي لا تجب فيها زكاة- بحديث أنس -رضي الله عنه- في الصدقات: "في أربع وعشرين من الإِبل فما دونها، الغنم في =

أصحاب أبي حنيفة وجملة أصحاب الحديث لا وقص فيه وفيه ربع العشر، وهو مروي عن علي وابن عمر. وقال أبو حنيفة (1) وبعض السلف: لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهمًا، ولا فيما زاد على عشرين دينارًا حتى يبلغ أربعة دنانير، فإن زادت ففي كل أربعين درهمًا درهم، وفي كل أربعة دنانير درهم. فجعل لها وقصًا كالماشية. واحتج الجمهور بالحديث الذي أسلفناه في الرقة ربع العشر وهو عام في النصاب فما فوقه. وبالقياس على الحبوب، ولأبي حنيفة في المسألة حديث ضعيف (2)، لا يصح الاحتجاج به، كما قاله النووي. وقال

_ = كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاض" حيث أسقط الوجوب فيما بين النصاب. أما رأي الشيرازي من علماء الشافعية "فجعل الغرض في النصاب وما زاد، ولأنه زيادة على نصاب فلم يكن عفوًا، كالزيادة على نصاب القطع في السرقة". المهذب (1/ 152). (1) انظر: الاستذكار (9/ 38). (2) في نصب الراية (2/ 362)؛ مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - "في خمس من الإِبل شاة، وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرًا". قال الزيلعي: غريب بهذا اللفظ. قال ابن حجر في الدراية (1/ 256): "لم أجده"، وقد ذكره عن أبي يعلى وأبي إسحاق الشيرازي في كتابيهما، وقال العيني: إنما روى معناه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عمرو بن حزم في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الصدقة: "إن الإِبل إذا زادت على عشرين ومائة، فليس فيما دون العشر شيء، يعني حتى تبلغ ثلاثين ومائة. أخرجه أبو عبيد في الأموال (452). =

القرطبي: إنه حديث ضعيف، لا أصل له. خاتمة: أجمع العلماء على اشتراط الحول في الماشية والذهب والفضة دون المعشرات (1) وحديث علي -رضي الله عنه- في سنن

_ = قال الزمخشري في رؤوس المسائل (201): الوقص هل هو عفو أو شائع في الوجوب؟ عندنا هو عفو، وعند الشافعي: شائع في الوجوب. بيان المسألة: إذا ملك تسعة من الإبل تجب عليه شاة واحدة، والشاة تجب على الخمسة، والأربعة عفو، عندنا وعند الشافعي، تجب على الخمسة، وعلى الأربعة الزائدة. دليلنا: وهو أن الأربعة الزائدة مال. متقاصر عن الخطاب فلا يتعلق به وجوب الزكاة، كالأربعة، وقال الخطابي في معالم السنن (2/ 171) وفيه دليل على أن ما زاد على المائتين فإن الزكاة تجب فيه بحسابه، لأن في دلالة قوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" إيجابًا في الخمس الأواقي وفيما زاد عليه، وقليل الزيادة وكثيرها سواء في مقتضى الاسم. ولا خلاف في أن فيما زاد على الخمسة الأوسق من التمر صدقة، قلَّت الزيادة أو كثرت، وقد أسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة عما نقص عن الخمسة الأوسق، كما أسقطها عما نقص عن الخمس الأواقي، فوجب أن يكون حكم ما زاد على الخمسة الأواقي من الورق حكم الزيادة على الخمسة الأوسق، لأن مخرجهما في اللفظ مخرج واحد -هذا فيما يتعلق بأوقاص الحبوب وغيرها-. أما ما يتعلق بأوقاص النقدين فقال- وقد اختلف الناس فيما زاد من الورق على مائتي درهم، فقال أكثر أهل العلم: يخرج عما زاد على المائتي درهم بحسابه ربع العشر، قلَّت الزيادة أو كثرت، وانظر إرواء الغليل (3/ 289، 291). (1) من الحبوب والثمار لقوله -تعالى-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.

أبي داود (¬1) دال على اشتراط الحول في النقدين، وهو حديث صحيح، كما قرره القرطبي. ¬

_ (¬1) أبو داود (1153، 1154) في الزكاة، باب: في زكاة السائمة، والبيهقي (4/ 95)، وأحمد في المسند (1/ 148). قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2/ 311): إسناده صحيح، وهو موقوف على علي، ورواه أبو داود من طريق جرير بن حازم وآخر عن أبي إسحاق عند عاصم بن ضمرة. والحارث الأعور عن علي مرفوعاً. وهذا إسناد صحيح أيضاً، من جهة عاصم لا الحارث. وانظر كلام ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 188)، وتقويته للحديث ونقله عن ابن حزم من المحلى (6/ 70، 74)، ثم ساق بعد كلام سبق، وقد روي حديث "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" من حديث عائشة بإسناد صحيح. قال محمد بن عبيد الله بن المنادى: حدثنا أبو زيد -والصحيح أبو بدر كما في التعليق- شجاع بن الوليد, حدثنا حارثة بن محمد عن عمرة عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". رواه أبو الحسين بن بشران عن عثمان بن السماك عن ابن المنادى. وأخرجه ابن ماجه (1793)، وأبو عبيد في الأموال (505)، والدارقطني (2/ 91)، والبيهقي (4/ 95، 103) من طرق، ورواه الثوري عن حارثه موقوفاً، وابن أبي شيبة (4/ 30). وأخرج الترمذي (3/ 7)، والدارقطني (2/ 90)، والبيهقي (4/ 104)، ومالك (1/ 246)، ورواه مالك موقوفاً، وقال الدارقطني: والصحيح وقفه كما في الموطأ. انظر: ابن أبي شيبة (4/ 30) من رواية ابن عمر، والموطأ (1/ 246)، وعبد الرزاق (4/ 78)، والبيهقي (4/ 103)، والمحلى (5/ 235). ومن رواية أنس الدارقطني (2/ 91)، وانظر: نصب الراية (2/ 328)، وتلخيص الحبير (2/ 156)، وإرواء الغليل (3/ 254).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 173/ 3 / 33 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" (¬1). وفي لفظ: "إلَّا زكاة الفطر في الرقيق" (¬2). الكلام عليه من خمسة أوجه: الأول: الرواية الثانية من أفراد مسلم: فكان ينبغي للمصنف أن ينبه عليها (¬3). وقوله: "إلَّا زكاة". الأولى: في قراءته رفعه على البدل من صدقة، ويجوز [نصبه] (¬4) على الاستثناء، ولا يصح جره. الثاني: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا تجب زكاتها، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في ت (3)، ص (10). (¬2) لفظ مسلم (982): "ليس في العبد صدقة إلَّا صدقة الفطر"، ولفظ أبي داود (1530) في الزكاة، باب: صدقة الرقيق: "ليس في الخيل والرقيق زكاة، إلَّا زكاة الفطر في الرقيق". (¬3) انظر: تصحيح العمدة للزركشي (ح 38). (¬4) زيادة من ن ب د.

لكن قال العلماء: لا يصير المال للقنية إلَّا بالنية، ولا يصير للتجارة أيضاً إلَّا بالنية، وزكاته متعلقة بقيمته لا بعينه، فعند عدم النية لهما وعدم النص بعدم وجوبها يقتضي أن تجب الزكاة فيه أو يكون مسكوتاً عنه. [الثالث] (¬1): الحديث دال بصريحه على عدم وجوبها في عين الخيل والرقيق، وهو مذهب العلماء كافة من السلف والخلف، إلَّا أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان وزفر، فإنهم أوجبوها في الخيل إذا كانت ذكوراً وإناثاً قولاً واحداً، وإن انفردت الذكور والإِناث فعن أبي حنيفة في ذلك روايتان، من حيث إن النماء بالنسل لا يحصل إلَّا باجتماع الذكور والإِناث, وإذا وجبت الزكاة فهو مخير بين أن يخرج عن كل فرس ديناراً، أو يقوّم ويخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم (¬2)، فحينئذ وقع الإِجماع على عدم وجوبها ¬

_ (¬1) في ن ب د (الثاني) ... إلخ الأوجه، وقد نقلها من إحكام الأحكام (3/ 289، 291) مع اختلاف يسير. (¬2) قال في فتح الباري (3/ 327): على الترجمة: "باب ليس على المسلم في فرسه صدقة"، وباب: "ليس على المسلم في عبده صدقة"، قال ابن رشد: أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف، والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضاً أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين: يؤخذ منها بالقيمة, ولعل البخاري أشار حديث علي مرفوعاً: (قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة ... " الحديث. أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن، والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة: إذا كانت الخيل ذكراناً وإناثاً نظراً إلى النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثم عنده أن المالك يخير بين =

في عينها بل بسببها، فيخرج من غيرها. واحترزنا أولّا بقولنا في "عين الخيل والرقيق" عن وجوبها في قيمتها إذا كانت للتجارة، وهذا الحديث صريح في الرد عليهم، فإنه يقتضي عدم وجوبها في فرس المسلم مطلقاً، وفي عين العبد. الرابع: استدل بهذا الحديث الظاهرية على عدم وجوب زكاة [التجارة (¬1). ¬

_ = أن يخرج عن كل فرس ديناراً أو يقوَّم ويخرج ربع العشر، واستدل بهذا الحديث، وأجيب بحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة. اهـ. ودليل أبي حنيفة في هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها"، وتأوله الجمهور بأن المراد الجهاد بها، وقد يجب بها إذا تعين، وقيل: المراد بظهورها إضراب، فحلها إذا طلبت عاريته ... إلخ من حاشية الصنعاني (3/ 290). وقال السرخسي في المبسوط (2/ 188) مستدلاًّ على إيجاب الزكاة فيها بحديث: عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم". انظر: الدارقطني (2/ 125)، والسنن الكبرى (4/ 119). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 69): رواه الطبراني في الأوسط وفيه الليث بن حماد وغورك وكلاهما ضعيف. انظر: نصب الراية (2/ 358). (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 290): قوله: "زكاة التجارة"، أي في الخيل والرقيق إذا كانا لهما، وعبارة الشارح فيها إيهام أنهم استدلوا به لنفيها عن زكاة التجارة في أي نوع كانت. اهـ. وقال في الفتح (3/ 327): واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما -أي في الخيل والعبيد- مطلقاً ولو كانا للتجارة. =

وقيل: إنه قول قديم للشافعي، من حيث إن الحديث يقتضي عدم وجوب الزكاة] (¬1) في الخيل والعبيد مطلقاً. وأجاب الجمهور عن استدلالهم بوجهين: الأول: القول بالموجب، فإن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين، والحديث يدل على عدم تعلقها بالعين، فإنها لو تعلقت بالعين منهما لبقيت ما بقيت العين، وليس كذلك فإنه لو نوى القنية [انتفت] (¬2) الزكاة، والعين باقية، وإنما متعلق الزكاة فيها القيمة بشرط نية التجارة، وغيرها من الشروط المقررة في الفروع. فشروط وجوب الزكاة في عروض التجارة: بلوغ النصاب، وتمام الحول، ونية التجارة حال الشراء، وأن تكون الأموال صالحة لنية التجارة. الثاني: أن الحديث عام في عدم وجوبها في الخيل والعبيد، فإذا أقاموا الدليل على وجوب زكاة التجارة، كان هذا الدليل أخص من ذلك العام، فيقدم عليه، نعم يحتاج إلى تحقيق (¬3) إقامة الدليل ¬

_ = وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإِجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث، والله أعلم، (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في إحكام الأحكام مع الحاشية (3/ 291) لسقطت مع ملاحظة الفرق بين الألفاظ. (¬3) قال الصغاني في الحاشية (3/ 291) بعد كلام سبق: قال فيه: والأصل فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا =

على وجوب زكاة التجارة. والمقصود ههنا بيان كيفية النظر بالنسبة إلى هذا الحديث. ثم إن الظاهرية مسبوقون بالإِجماع. قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة. الخامس: الرواية الثانية صريحة في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبيده، سواء كانوا للقنية أو للتجارة، وهو مذهب الشافعي والجمهور، وأشهر الروايتين عن مالك. وقال أهل الكوفة: لا تجب في عبيد التجارة. وحُكِيَ عن داود: أنها لا تجب على السيد، بل تجب على العبد، ويلزم السيد تمكينه من الكسب ليؤديها. وحكاه القاضي عياض عن أبي ثور أيضاً، واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فرض زكاة الفطر من رمضان على ¬

_ = أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}. قال مجاهد: نزلت في التجارة، وروى الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الإِبل صدقتها، وفي البقرة صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقتها"، والبز بالباء والزاي المعجمة ما يبيعه البزازون، كذا ضبطه الدارقطني والبيهقي، وفي سنن أبي داود عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان يأمرنا "أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع"، وروى الشافعي بسنده عن حماس الليثي قال: مررت على عمر بن الخطاب، وعلى عنقي أدمة أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت ما لي غير هذه وأهب قرض، قال: ذلك مال فضع، فوضعتها بين يديه فحسبها فوجد فيها الزكاة فأخذ منها، ثم قال: ولا يكفر جاحدها للاختلاف فيها. اهـ.

الناس صاعاً من تمر، أوصاعاً من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين" (¬1)، وسيأتي في بابه. وأجاب الجمهور: بأن "على" بمعنى "عن" (¬2). السادس: قد يستدل به لمن قال من أصحابنا: إن فطرة المكاتب كتابة صحيحة تجب على سيده، بدليل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" (¬3)، وبه قال عطاء ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في زكاة الفطر مع ذكر خلاف العلماء فيمن يتحمل زكاة الفطر السيد أو العبد؟ (¬2) انظر: المغني (3/ 70, 73)، والمجموع (6/ 105، 120، 138)، ونيل الأوطار (4/ 153، 201)، والمحلى (6/ 187، 189)، وفتح الباري (3/ 369)، وإكمال إكمال المعلم (3/ 118). (¬3) روى من حديث ابن عمر في الموطأ (1/ 787)، والأم (8/ 35)، ومعرفة السنن (14/ 446). ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أبو داود (3926، 3927)، وابن ماجه (2519)، والترمذي (1260)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 445)، والأم للشافعي (8/ 53). ومن رواية عمر بن الخطاب: معرفة السنن (14/ 447)، وفي الكبرى (10/ 325)، ومصنف عبد الرزاق (8/ 325)، والمحلى (9/ 33، 229). ومن رواية عائشة عند مالك: في الموطأ (1/ 787)، ومعرفة السنن (14/ 446)، وفي الكبرى (10/ 324). ومن رواية زيد بن ثابت: الأم (8/ 53)، وفي الكبرى (10/ 324)، وفي معرفة السنن (14/ 446).

ومالك وأبو ثور. والأصح عندنا: أنها لا تجب عليه ولا على سيده، وبه قال جمهور العلماء. وعندنا وجه ثالث: أنها تجب على المكاتب لأنه كالحر في كثير من الأحكام (¬1). ... ¬

_ (¬1) المغني (3/ 76، 77)، والمحلى (6/ 191، 193)، والمجموع (6/ 105 - 120).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 174/ 4/ 33 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" (¬1). الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه. العجماء: الدابة. الكلام عليه من أربعة عشر وجهاً: الأول: "العجماء" البهيمة، كما قال المصنف. ¬

_ (¬1) البخاري (1499، 2355، 6912، 6913)، ومسلم (1710)، والنسائي (5/ 44)، وأبو داود (3085) في الإِمارة: باب ما جاء في الركاز، والترمذي (1377) في الأحكام، باب: ما جاء في العجماء جرحها جبار، وابن ماجه (2673)، وابن الجارود (372، 795)، والدارقطني (3/ 151)، والطيالسي (2305)، والحميدي (1079)، وابن حبان (6005، 6006)، والشافعي (1/ 248)، وابن خزيمة (2326)، والطحاوي (3/ 203)، وأحمد (2/ 495، 501، 239، 254، 274، 285)، وابن أبي الجعد (1157)، وابن أبي شيبة (3/ 225).

ووقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬1): أن العجماء الحيوان البهيم عن تفسير المصنف، وتبعه ابن العطار وغيره. والذي نحفظه أنه قال: العجماء: الدابة. قال الجوهري (¬2): وسميت عجماء لأنها لا تتكلم, فكل من لا يقدر على الكلام أصلاً فهو "أعجم" و"مُسْتَعْجِمٌ". والأعجم: أيضاً الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب. والمرأة عجماء، ومنه زياد الأعجم الشاعر. والأعجم: أيضاً الذي في لسانه [عجمه] (¬3) وإن أفصح بالعجمية، ورجلان "أعجمان" [و] (¬4) رجال "أعجمون" و"أعاجم", قال -تعالى-: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)} (¬5). الثاني: "الجبار": قد فسره المصنف وأصل التسمية به أن العرب تسمي السيل جباراً للمعنى الذي ذكره المصنف، أي: لا طلب فيه ولا قود ولا دية. الثالث: فيه أن الحيوان إذا أتلف شيئاً من الأبدان أو الأموال فهو غير مضمون، وهو محمول على ما إذا أتلف شيئاً بالنهار أو [انفلت] (¬6) بالليل من غير تفريط من مالكه، وأتلف ولم يكن معه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 293). (¬2) انظر: مختار الصحاح (178). (¬3) في ن ب د (عجمية). (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) سورة الشعراء: آية 198. (¬6) في ن ب (انقلب)، وفي الأصل (انفلط).

أحد، لكن الحديث محتمل لإِرادة الجناية على الأبدان فقط، وهو أقرب إلى حقيقة الجرح، فإنه قد ثبت في بعض طرقه في صحيح مسلم (¬1) وغيره "العجماء جرحها جبار" ومعلوم أن الجرح لا يكون إلَّا على الأبدان, وعلى كل تقدير فلم يقولوا بالعموم في إهدار كل متلف من بدن أو مال. والمراد: بجرح العجماء إتلافها سواء كان بجرح أو بغيره. قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن جناية البهائم [بالنهار] (¬2) لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفت. وقال داود (¬3) وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال إلَّا أن يحملها الذي هو معها على ذلك أو يقصده. قال أصحابنا: وسواء كان إتلافها بيدها أو رجلها أو فمها ونحوه فإنه يجب ضمانه في مال الذي هو معها، سواء كان مالكها ¬

_ (¬1) انظر ت (1)، (60). العجماء هي: البهيمة. قال أبو عبيد في غريب الحديث (1/ 281، 282): إنما سميت عجماء لأنها لا تتكلم، وكذلك كل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم. وأما الجبار: فهو الهدر، وإنما جعل جرح العجماء هدراً إذا كانت منفلتة ليس لها قائد، ولا سائق، ولا راكب، فإن كان معها واحد من هؤلاء الثلاثة فهو ضامن، لأن الجناية حينئذٍ ليس للعجماء، إنما هي جناية صاحبها الذي أوطأها الناس. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) انظر: الاستذكار (25/ 213، 214).

أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً أو مودعاً أو وكيلاً أو غيره, إلَّا أن تتلف آدميّاً فتجب ديته على عاقلة الذي معها والكفارة في ماله. وقال مالك (¬1) والليث والأوزاعي: لا ضمان فيما إذا أصابته بيدها أو رجلها، أما إذا أتلفت بالنهار وكانت معروفة بالإِفساد ولم يكن معها أحد، فإن مالكها يضمن، لأن عليه ربطها والحالة هذه. وأما جنايتها بالليل فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته. وقال الشافعي وأصحابه: إن فرّط في حفظها ضمن وإلاَّ فلا. وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما رعته نهاراً. وقال الليث وسحنون: يضمن [وإلَّا فلا (¬2)] (¬3). وقد ورد حديث مرفوع (¬4) في إتلافها بالليل دون النهار في المزارع, وأنه يضمن كما قاله مالك. ¬

_ (¬1) الاستذكار (25/ 253)، وأما الليث بن سعد فقد نقل عنه (255) قوله: يضمن رب الماشية ما أفسدت بالليل والنهار، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية. اهـ. (¬2) انظر بحث المسألة مفصلاً في فتح الباري (12/ 256) كتاب الديات، باب: العجماء جبار. (¬3) زيادة من ن ب. (¬4) الحديث أخرجه أبو داود في البيوع، في باب: "المواشي تفسد زرع قوم" (3570)، وابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: "الحكم فيما أفسدت المواشي" (2/ 781)، والشافعي في المسند (525، 526)، وأحمد (4/ 295)، والدارقطني (3/ 154، 156)، ومالك (747)، ولفظه: "أن على الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل، ضامن على أهلها".

الرابع: "البتر" مؤنثة مشتقة من بارت إذا حفرت، والبؤرة الحفرة (¬1) وهو مهموز أصلاً، ولا يهمز تسهيلاً، وجمعه بئار جمع كثرة وأبْآر، وآبار، وأبْؤُر، جمع قلة. والمراد به: ما حفره الإِنسان حيث يجوز له، فما هلك فيها فهو هدر، سواء كان آدميّاً أو غيره مستأجراً كان أو غيره فإن حفرها في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير إذنه فتلف بها إنسان وجب ضمانه على عاقلة حافرها، والكفارة في مال الحافر. وإن تلف بها غير الآدمي وجب ضمانه في مال الحافر. وعند المالكية (¬2): أنه إذا حفرها فيما يجوز له فإن قصد ضرراً أو سارق ضمن الدية دون القود، لأنه فعل في ملكه وإلاَّ فلا ضمان عليه. وقيل: المراد بالبئر هنا: البئر القديمة (¬3). الخامس: "المعدن" بكسر الدال ما عدن فيه شيء من جواهر الأرض. ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب (1/ 301)، ومختار الصحاح (24). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (25/ 215): قال مالك: وإن حفر بئراً في داره لسارق يرصده ليقع فيها، أو وضع به حبالات، أو شيئاً مما يتلفه به، فعطب به السارق، فهو ضامن، وكذلك إن عطب غير السارق. اهـ. (¬3) قال أبو عبيد في غريب الحديث: المراد هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد.

قال الأزهري (¬1): سمي معدناً لعدون ما أنبته الله فيه أي لإِقامته. وقال الجوهري (¬2): سمي معدناً لإِقامة الناس فيه. قلت: ومنه جنة عدن، أي إقامة. ومنه أعدنت البلد، وعدنت الإِبل بمكان كذا. ومركز كل شيء معدنه (¬3). والعادن: الناقة المقيمة في المرعى. وقال في "التتمة": سمي معدناً لطول بقائه في الأرض، وبذلك سميت عدناً: لأنها كانت حيّاً لتبع، قال ذلك. بل إن قرر إن المعدن اسم للعروق في الأرض كذهب وفضة ونحوهما. وجمع المعدن: معادن. ومعادن الأرض أصولها وبيوتها. ومعدن الشيء أصله، ومنه معادن الذهب وغيره (¬4). السادس: معنى كونه جباراً: أي إن حفر معدناً في ملكه أو موات ومر به مار أو استأجر أجيراً يعمل فيه، فوقع عليه فمات [فلا] (¬5) شيء عليه. ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (2/ 218). (¬2) المرجع السابق. (¬3) تهذيب اللغة (2/ 218)، ومختار الصحاح (179)، والمصباح المنير (397). (¬4) النهاية (3/ 192)، ولسان العرب (9/ 89)، ومعجم البدان (4/ 89)، مع المراجع السابقة. (¬5) في الأصل ون د (لا).

السابع: "الركاز" بكسر الراء هو المركوز، كالكتاب بمعنى المكتوب. ومعناه في اللغة: الثبوت. فسمي بذلك لأنه رُكِزَ في الأرض، أي أقر، ومنه ركز رمحه إذا غرزه وأثبته. ومركز الدابة وسطها، ومركز الرجل موضعه. وقال المتولى: سُمَّيَ به لاختفائه ومنه "أو تسمع لهم ركزاً" (¬1). وهو في الشرع: الموجود الجاهلي عند جمهور العلماء (¬2). الثامن: "الخمس" بضم الميم وإسكانها، ويقال فيه الخميس ثلاث لغات ومنه سمي الجيش خميساً، لأنه ينقسم على خمسة أقسام: مقدمة وساقة وميمنة وميسرة وقلب. وكذلك في النصف إلى العشر يقال: بالضم والإِسكان، ووزن فعيل ثلاث لغات، إلَّا الثلث فإنه لم يسمع فيه الثلث فمن تكلم فيه فقد أخطأ. التاسع: يؤخذ من الحديث أن الركاز غير المعدن، فإنه -عليه الصلاة والسلام- فرّق بينهما في اللفظ والحكم، وعطف أحدهما على الآخر، وذلك يقتضي المغايرة دون الترادف، وهو مذهب أهل الحجاز. ومذهب أهل العراق أن الركاز هو المعدن، والحديث يرد ¬

_ (¬1) سورة مريم: آية 99. وانظر: مختار الصحاح (111). (¬2) وهو قول المالكية، الشافعية والحنابلة، أي أن الركاز هو المال المدفون بفعل صاحبه، أو بأثر حادث إلهي، كزلزال أو رياح عاتية أدى إلى طمر بلد مع ما فيه من ثروات.

عليهم (¬1). العاشر: فيه وجوب الخمس في الركاز، وبه قال جميع العلماء. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً خالف فيه إلَّا الحسن البصري، فقال: إن وجد في أرض الحرب ففيه الخمس وإن وجد في أرض العرب ففيه الزكاة (¬2). فرع: هذا الخمس يصرف مصرف الزكاة على المشهور عندنا. وقيل: إلى أهل الخمس (¬3). الحادي عشر: فيه أن الركاز لا يختص بالذهب والفضة لعموم الحديث، وهو أحد قولي الشافعي، ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء، قال: وبه أقول، وأصحهما اختصاصه بالنقد، لأنه مال مستفاد من الأرض، فاختص به كالمعدن: والخلاف محكي في مذهب مالك أيضاً (¬4). ¬

_ (¬1) الفرق بين المعدن والركاز: أن المعدن جزء من الأرض. أن الركاز ليس جزء من الأرض، وإنما هو دفين مودع فيها هذا عند الأحناف: الركاز دفين الجاهلين، المعدن دفين أهل الإِسلام. (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 325)، وتغليق التعليق (3/ 38)، وفتح الباري (3/ 364). (¬3) فتح الباري (3/ 365)، والمعرفة (6/ 174)، وعمدة القاري (7/ 360)، والأم (2/ 37) باب: زكاة الركاز. (¬4) فتح الباري (3/ 365)، والمعرفة الحاشية (6/ 171). وانظر: الاستذكار (9/ 62)، حيث ذكر أن مالكاً كان يرى غير الذهب والفضة من الجواهر =

الثاني عشر: فيه أنه لا فرق في الركاز بين القليل والكثير في وجوب الخمس لعموم الحديث فيه، وهو أحد قوليه أيضاً. قال ابن المنذر: وبه قال جل أهل العلم وهو أولى، وأصحهما عنده اختصاصه بالنصاب، والأصح عند المالكية الأول (¬1). الثالث عشر: فيه عدم اعتبار الحول في إخراج زكاة الركاز، وهو إجماع، كما نقله الماوردي، ويخالف المعدن على رأي للمشقة فيه (¬2). الرابع عشر: فيه إطلاق اعتبار الخمس في الركاز من غير اعتبار الأراضي، لكن الفقهاء جعلوا الحكم [يختلف] (¬3) باختلافها، فإن أرادوا اعتبار الأراضي في بعض الصور فهو قريب من الحديث. فعند أصحابنا: أن الأرض إن كانت مملوكة لمالك محترم مسلم أو ذمي فليس بركاز. فإن ادعاه فهو له، وإن نازعه منازع فالقول قوله. وإن لم يدعه لنفسه عرض على البائع، ثم على بائع البائع حتى ينتهي الأمر إلى من أحيا الموضع. فإن لم يعرف فظاهر المذهب أن يجعل لقطة. ¬

_ = والعروض أن فيه الخمس، ثم رجع فقال: لا شيء فيه ثم استقر أن فيه الخمس. (¬1) فتح الباري (3/ 364). (¬2) الحاوي الكبير (4/ 367)، ومغني المحتاج (1/ 394، 396)، والمهذب (1/ 162)، وبدائع الصنائع (2/ 65، 68)، والمبسوط (2/ 211)، والمغني (3/ 17، 19)، وبداية المجتهد (1/ 250). (¬3) في ن ب د (مختلف).

وقيل: لا بل هو مال ضائع، يسلم إلى الإِمام، فيجعله في بيت المال أو يحفظه الواجد [وإن] (¬1) وجد الركاز في أرض عامرة لحربي فهو كسائر أموال الحربي إذا حصلت في أيدي المسلمين. وإن وجد في موات دار الحرب فهو كموات دار الإِسلام، وأربعة أخماسه للواجد، سواء أكانوا يذبون عنه أم لا. وفصّل الفاكهي المالكي المسألة فقال: له أحوال أربعة: الأول (¬2): أرض الحرب فما وجد فيه فهو للجيش الذي وصل وأخذه بهم. ثانيها: أرض العنوة فما وجد فيها فهو لمن افتتحها أو لورثتهم إن وجدوا. قال سحنون: فإن لم يوجدوا أو انقطع نسلهم كان كاللقطة وتفرق في المساكين. وقال أشهب: إن عرف أنه لأهل العنوة فهو لمن افتتح والاَّ فهو لعامة المسلمين، وخمسه في وجوه الخمس. ثالثها: أرض الصلح فما وجد منها فهو لأهل الصلح دون واجده. قال القاضي أبو الوليد: وهذا إذا كان واجده من غير أهل ¬

_ (¬1) في الأصل (ومن)، وما أثبت من ن ب د. (¬2) انظر أثر الحسن البصري في: المصنف لابن أبي شيبة (3/ 225)، والمعرفة (6/ 174)، وتفصيل المسألة في فتح الباري 3/ 364، والمنتقى للباجي (1/ 102، 106).

الصلح فإن كان منهم فقد قال ابن القاسم: هو له. وقال غيره: بل هو لجملة أهل الصلح. وقال أشهب: إن علم أنه من أموال أهل الصلح كان لهم، وكان حكمه حكم اللقطة، يفرق، فمن ادعاها منهم أقسم على ذلك في كنيسته، وسلمت إليه اللقطة، وإن علم أنها ليست من أموالهم ولا من أموال من ورثوه، فهو لمن وجده يخرج خمسه. رابعها: فيافي المسلمين وما وجد في فيافي العرب والصحارى، التي لم تفتح عنوة ولا أسلم أهلها عليها، فهو لمن وجده ويخرج خمسه. وقال مطرف وابن الماجشون وابن نافع وأصبغ: ما وجد من الركاز فهو لواجده وعليه الخمس، كان في أرض العرب أو أرض عنوة أو أرض صلح (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (9/ 61، 65).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 175/ 5/ 33 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينقم ابن جميل إلَّا أن كان فقيراً، فأغناه الله [تعالى] (¬1)، وأما خالد: فإنكم تظلمون خالداً، وقد احتبس ادراعه واعتاده في سبيل الله، وأما العباس: فهي عليّ ومثلها، ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" (¬2). الكلام عليه من وجوه زائدة على العشرين، وفي مواضع منه إشكالات ستتضح إن شاء الله -تعالى-: الأول: في التعريف براويه وبالأسماء الواقعة فيه. أما أبو هريرة فتقدمت ترجمته في [كتاب] (¬3) الطهارة, وكذا عمر -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) البخاري (1468)، ومسلم (983)، وأبو داود (1623) في الزكاة، باب: في تعجيل الزكاة، والنسائي (5/ 33)، والبغوي (1578)، والدارقطني (2/ 123)، والبيهقي (6/ 164، 165). (¬3) في الأصل (باب)، والتصحيح من ن ب د.

وأما ابن جميل: فهو -بفتح الجيم وكسر الميم ثم ياء مثناة ثم لام-. قال ابن مسنده: لا يعرف اسمه، وتبعه بعض الشراح فجزم به. وذكره ابن الجوزي (¬1): مع جماعة لا يعرفون إلَّا بالنسبة إلى آبائهم فقط. ووقع في "تعليق" القاضي حسين و"بحر" الروياني في متن الحديث [(¬2)]، عبد الله بن جميل. ووقع في "غريب" أبي عبيد: منع أبو جهم ولم يذكر أباه. وقال ابن بزيزة: اسمه حميد فاستفد ذلك (¬3)، فإنه من المهمات. وذكر القاضي حسين في "تعليقه": أن ابن جميل هذا هو ¬

_ (¬1) انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر (283). (¬2) في ن ب زيادة (عن). (¬3) قال في فتح الباري (3/ 333): ابن جميل لم أقف على اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي حسين المروزي الشافعي، وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشيخ سراج الدين بن الملقن -أي صاحب هذا الكتاب- أن ابن بزيزة سماه حميداً ولم أرَ ذلك في كتاب ابن بزيزة، ووقع في رواية ابن جريج: أبو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل، وهو خطأ لإِطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنه كان أنصاريّاً، وأما أبو جهم بن حذيفة فهو قرشي فافترقا، وذكر بعض المتأخرين أن أبا عبيد البكري ذكر في شرح الأمثال له أنه أبو جهم بن جميل. اهـ. انظر: رواية ابن جريج في مصنف عبد الرزاق (4/ 18).

الذي نزل فيه قوله -تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ} (¬1) , وذكر غيره: "أنها نزلت في ثعلبة". [قال] (¬2) المهلب: كان منافقاً أولّا فمنع الزكاة فأنزل الله -تعالى-: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3)، قال: فاستثانه الله فتاب [وصلَحت] (¬4) حاله. وأما خالد: فسيأتي التعريف به في كتاب الأطعمة إن قدر الله الوصول إليه وشاء، وخذ لك هنا عجالة وهي: أنه سيف الله، أسلم في صفر شيبة ثمان، وبادر فشهد غزوة مؤتة، وكان النصر على يده، ومات شيبة إحدى وعشرين بحمص. وأما العباس فهو ابن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف أبو الفضل الهاشمي: عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين أو ثلاث، ومات سنة اثنين وثلاثين بالمدينة، وصلَّى عليه عثمان -رضي الله عنه-، وعاش ثمانياً وثمانين سنة، وقد أفرد ترجمته بالتصنيف ابن أبي الدنيا، وغيره. قال ابن دحية في كتابه "مرج البحرين": وكان العباس طويلاً يقل من الأرض فيما زعموا الجمل إذا برك بحمله. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 75. (¬2) في ن ب (وقال) , وفي ن د (وكان). (¬3) سورة التوبة: آية 74. (¬4) في الأصل (وصلح)، والتصحيح من ن ب د. وإكمال إكمال المعلم (3/ 115).

الوجه الثاني: قوله: "بعث" معناه أرسل، وكذا ابتعث. وقولهم: "كنت في بعث فلان" أي في الجيش الذي بعث معه. والبُعُوث: الجيوش. الثالث: فيه بعث الإِمام العمال لجباية الزكوات. الرابع: فيه أيضاً أن يكونوا أمناء. فقهاء. ثقات عارفين حيث بعث عليها عمر. الخامس: قوله: "على الصدمه". أي الزكاة المفروضة، هذا هو الصحيح المشهور، نقله القرطبي عن الجمهور. وقيل: المراد صدقة التطوع، وبه قال ابن القصار (¬1): حكاه ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (3/ 333) على قوله: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة"، في رواية مسلم من طريق ورقاء عن أبي الزناد "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر ساعياً على الصدقة" -قلت: وفي رواية عبد الرزاق المشار إليها آنفاً "ندب"- وهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة، وقال ابن القصار المالكي: الأليق أنها صدقة التطوع، لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض، وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحداً ولا عناداً, أما ابن جميل فقد قيل: إنه منافق ثم تاب بعد ذلك، كذا حكاه المهلب، وجزم القاضي حسين في تعليقه أن فيه نزلت: "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ" الآية انتهى، والمشهور أنها نزلت في ثعلبة، وأما خالد فكان متأولاً بإجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - خالداً والعباس ولم يعذر ابن جميل. اهـ. أيضاً إكمال إكمال المعلم (3/ 113).

القاضي قال: ويؤيده أن عبد الرزاق (¬1) روى هذا الحديث، وذكر في روايته أنه -عليه الصلاة والسلام- ندب الناس إلى الصدقة، وذكر تمام الحديث. قلت: أغربت في العزو فهذا في البخاري (¬2)، ولفظه عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة، فقيل: منع ابن جميل، ثم ساق الحديث إلى آخره، وظاهر غيره من الأحاديث أنها في الزكاة، ويبعد أن يراد بها صدقة التطوع لوجوه: أحدها: أن المتبادر إلى الذهن خلافه. ثانيها: أنه -عليه الصلاة والسلام- إنما كان يبعث في الزكاة المفروضة على ما نقل. ثالثها: قوله: "وأما العباس فهي عليّ"، [وعليّ] (¬3) من ألفاظ الوجوب. رابعها: أن ابن جميل تاب لما نزلت فيه الآية السالفة [ثمَّ] (¬4)، والتوبة لا تكون [(¬5)] من ترك المندوبات. السادس: قوله: "فقيل: منع ابن جميل"، أي منع الزكاة وامتنع من أدائها، وكأن هذا الامتناع على وجه التأويل، فتأول خالد ¬

_ (¬1) المصنف لعبد الرزاق (4/ 18). (¬2) انظر ت (2)، (71). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) في الأصل ون ب زيادة (إلَّا)، وهي غير موجودة في ن ج.

بأن يحتسب له بها، والعباس بأنه -عليه الصلاة والسلام- يحملها عنه، أو بغير ذلك من التأويلات المسوغة كما سيأتي، ولم يكن فيهم أبعد تأويلاً من ابن جميل ولذلك عتب [عليه] (¬1) - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "فقيل: منع" إلى آخره، لم أقف على تعيين قائله، وظاهر قوله في أثناء الحديث: "فإنكم تظلمون خالداً"، إنهم جماعة، وسياق آخر الحديث قد يشعر بأن قائل ذلك، هو عمر -رضي الله عنه-، فالله أعلم. ويؤخذ من ذلك تعريف الإِمام بمانعيها, ليعينهم على أخذها منهم، أو يبين لهم وجوه أعذارهم في منعها. السابع: قوله: "ما ينقم ابن جميل"، هو بكسر [القاف] (¬2) والماضي منه بفتحها، كضرب يضرب وهي [لغة] (¬3) القرآن، قال -تعالى-: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬4)، وقال: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} (¬5)، وقال الشاعر: وما نقم الناس من أمية ... إلَّا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ... ولا تصلحُ إلَّا عليهم العرب ويقال: بفتحها في المضارع وكسرها في الماضي كعَلِم، ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) سورة التوبة: آية 7. (¬5) سورة البروج: آية 8.

يَعْلَم، وقد استعمل هذه اللغة الحريري، واختُلِفَ في معناه على أقوال: أحدها: ينكر. وثانيها: يكره. وثالثها: يعيب وقد فُسر قوله -تعالى-: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} (¬1) الآية. [يتكرهون] (¬2) [وينكرون] (¬3)، فإن فسرناه، بينكر فإن معناه: أنه لا عذر له في المنع إذا لم يكن موجبه، إلَّا أن كان فقيراً فأغناه الله، وجاء في البخاري: "فأغناه الله ورسوله" (¬4)، وذلك ليس بموجب له فلا موجب البتة، وهذا من وَادِي قوله: ولاعيب فيهم، غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فيقصدون النفي على سبيل المبالغة في الإِثبات، إذ المعنى أنه لم يكن لهم عيب إلَّا هذا، وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم البتة، وكذلك المعنى هنا إذا لم ينكر ابن جميل إلَّا كون الله أغناه بعد ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 59. (¬2) في ن د (بيكرهون). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (3/ 333): وقوله: "فأغناه الله ورسوله" إنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه لأنه كان سبباً لدخوله في الإِسلام فأصبح غنيّاً بعد فقره بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته من الغنائم، وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، لأنه لم يكن له عذر إلَّا ما ذكر من أن الله أغناه، فلا عذر له، وفيه التعريض بكفران النعم وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإِحسان. اهـ.

فقره، فلم ينكر منكراً أصلاً، فلا عذر له في المنع، وكذلك إن فسرناه بيكره أي ما يكره إخراج الزكاة على ما تقدم. ويقال: نقم الإِنسان إذا جعله مؤدياً إلى كفر النعمة. فالمعنى: أن غناه أداه إلى كفر نعمة الله -تعالى- بالمنع، فما ينقم أي ما يكره إلَّا أن يكفر النعمة، وأما تفسيره "بيعيب" ففيه بعد. الثامن: فيه تعريف الفقير بنعمة الله -تعالى- عليه في الغنى، ليقوم بحق الله -تعالى- فيه في الواجب والمندوب. التاسع: فيه أيضاً عتب الإِمام على من منع الخير، وإن كان منعه مندوباً في غيبته وحضوره إذا قلنا: إن المراد بالصدقة: صدقة التطوع. العاشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنكم تظلمون خالداً" (¬1)، هو خطاب للعمال على الصدقة [حيث] (¬2) لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الجتد والعدة، لأنهم طلبوا منه زكاة اعتاده ظنًّا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم عليّ. فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن خالداً منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمون خالداً"، لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها، ولا زكاة فيها. قاله النووي (¬3) في شرحه. قال: ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة [لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (3/ 334)، وحاشية العمدة للصنعاني (3/ 302). (¬2) في ن ب ساقطة، وفي د (حين). (¬3) انظر: شرح مسلم (7/ 56).

أمواله لله -تعالى- متبرعاً. فكيف يشح بواجب عليه] (¬1) ويحتمل أنه لم يقفها، بل رفع يده عنها، وخلى بينها وبين الناس في سبيل الله، لا أنه احتبسها وقفاً على التأبيد. لأنه صرفها مصرفها حيث تعينت للجهاد، وقد جعل الله للجهاد حظّاً من الزكاة، فرأى صرفها فيه، فاشترى بها ما يصلح له، كما يفعله الإِمام، فلما تحقق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال: "إنكم تظلمون خالداً" فإنه قد صرفها مصرفها وأجاز له ذلك، وبه جزم القرطبي في شرحه، وقيل: يجوز أن يكون -عليه الصلاة والسلام- أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة، لأنه في سبيل الله. حكاه القاضي عياض (¬2). قال: فهو حجة لمالك في جواز دفعها لصنف واحد، وهو قول العلماء كافة، خلافاً للشافعي في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية (¬3). قال: وعلى هذا يجوز إخراج القيمة في الزكاة، وقد أدخل البخاري (¬4) هذا الحديث في باب: أخذ العَرضِ في الزكاة. فيدل على أنه ذهب إلى هذا التأويل. ومذهب مالك والشافعي: منع إخراج القيمة في الزكاة. وأبو حنيفة: يجيز ذلك، وحكاه البغداديون عن مذهب مالك، ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، وأيضاً موجودة في شرح مسلم. (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 115). (¬3) انظر: الاستذكار (9/ 204، 206). والمرجع السابق. (¬4) انظر: الفتح (3/ 311).

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهذا التأويل لا يزيل الإِشكال لأن ما حبس على [جهة] (¬2) معينة تعين صرفه [إليها] (¬3)، واستحقه أهل تلك الصفة مضافاً إلى جهة الحبس، فإن كان قد طلب من خالد زكاة ما حبسه، فكيف يمكن ذلك مع تعيّن ما حبسه لمصرفه! وإن كان [قد] (¬4) طلب منه زكاة المال الذي لم يحبسه -من العين والحرث، والماشية- فكيف يحاسب بما وجب عليه في ذلك، وقد تعين صرف ذلك المحبس إلى جهته؟ قال: وأما الاستدلال بذلك على أن صرف الزكاة [على] (¬5) صنف من الثمانية جائز، وأنّ أخذ [القيمة] (¬6) جائز، فضعيف جدّاً، لأنه لو أمكن توجيه ما قيل في ذلك لكان الإِجزاء في المسألتين مأخوذاً على تقدير ذلك التأويل. وما ثبت [على تقدير لا يلزم أن يكون واقعاً إلَّا إذا ثبت وقوع ذلك التقدير. و [لم] (¬7) يثبت] (¬8) ذلك بوجه، ولم [يتبين] (¬9) بهذه المقالة إلَّا مجرد الجواز، والجواز ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 302). (¬2) في ن ب (وجهه). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) زيادة من إحكام الأحكام. (¬5) في إحكام الأحكام (3/ 303) (إلى). (¬6) في إحكام الأحكام (القيم). (¬7) في المصدر السابق (ولا). (¬8) في ن ب ساقطة. (¬9) في المصدر السابق (يبين قائل هذه).

لا يدل على الوقوع [إلَّا أن يريد القاضي أنه حجة لمالك وأبي حنيفة على التقدير، فقريب. إلَّا أنه يجب التنبيه لأنه لا يفيد الحكم في نفس الأمر (¬1)] (¬2). قال: وأنا أقول: يحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده في سبيل الله إرصادَه إياها لذلك، وعدم تصرفه بها في غير ذلك. وهذا النوع حبيس، وإن لم يكن تحبيساً، ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا اللفظ، ويكون قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنكم تظلمون خالداً"، مصروفاً إلى قولهم: "منع خالد" أي تظلمونه في نسبته إلى منع الواجب، مع كونه صرف ماله [إلى] (¬3) سبيل الله، ويكون المعنى: [إنه] (¬4) لم يقصد منع الواجب، ويحمل منعه على غير ذلك. قلت: وهو عين ما أسلفناه عن القرطبي فهذه تأويلات. تأويل النووي (¬5). الأول: وهو ظنهم أنها عروض للتجارة. وتأويل القرطبي والشيخ تقي الدين الثاني. ¬

_ (¬1) زيادة من حاشية الصنعاني فإنه قال في بعض العمدة: زيادة، وأشار إليها (3/ 303). (¬2) في إحكام الأحكام (3/ 304) زيادة (قال شيخنا الإِمام الشارح رحمه الله)، قال في الحاشية: أقول هذا الكلام لابن الأثير تلميذ ابن دقيق العيد الذي ذكر في الخطبة أنه طلب منه تأليف هذا الشرح، جزاهما الله خيراً. (¬3) المصدر السابق (في). (¬4) في ن ب (أن) , وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬5) انظر: شرح مسلم (7/ 56).

والتأويل الثالث: الذي حكاه القاضي عياض (¬1)، وتأويله هو أنه أخرج العروض قيمة عما وجب في ماله، وأنه صرفها في أحد مصارف الزكاة، وهو سبيل الله. واعترض الفاكهي على الثاني فقال: إن قصد الشيخ تقي الدين أنها صارت حبساً بغير لفظ الحبس فالإِشكال الذي قرره أولاً يعود، وإن أراد إرصاده كما صرح به فالزكاة باقية في الذمة، ولم يعلم ما جرى فيها ورجح تأويل القاضي عياض. ثم هذا كله إذا قلنا: إن الصدقة هي الزكاة، وهو الظاهر على ما تقدم. فإن قلنا: إنها صدقة التطوع ارتفع الإِشكال من أصله، ويكون المعنى: أنه -عليه الصلاة والسلام- اكتفى بما حبسه [خالد] (¬2) [في سبيل الله] (¬3) عن أخذ شيء آخر من صدقة التطوع [حتى يكون الطالب منه شيئاً آخر بعد تحبيسه ماله ظالماً على طريق المبالغة والتوسع] (¬4). الحادي عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" معنى احتبس (¬5): وقف ويحتمل أن ¬

_ (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (3/ 115). (¬2) في ن ب ساقطة، وموجودة في إحكام الأحكام (3/ 305). (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 305) (على هذه الجهات). (¬4) النص في إحكام الأحكام (3/ 305): (ويكون من طلب منه شيئاً آخر -مع ما حبسه من ماله وأعتاده في سبيل الله- ظالماً له في مجرى العادة، وعلى سبيل التوسع في إطلاق اسم الظلم). (¬5) انظر: النهاية (1/ 328)، وغريب الحديث لابن الجوزي (1/ 187).

يكون [معناه] (¬1) إبانة اليد عن الملك لله -تعالى- كما يفعل المهدي لبيت الله -تعالى- فيها بالتخلية بينها وبين مستحقيها. وقد سبق كل ذلك. قال الأصبهاني: واحتبس: لغة في حبس. والأدراع: جمع درع ويكون من الحديد وغيره. وأعتاد: هذه اللفظة رويت على أوجه. أحدها: "أعتاده" كما ذكره المصنف، وأنكره بعضهم، وهي ثابتة في صحيح مسلم (¬2). ثانيها: "أعتده" بالتاء المثناة فوق. وحكى الدارقطني: أن أحمد بن حنبل قال: أخطأ علي بن حفص في هذا وصحف، وإنما هو "وأعبده" (¬3) يعني بالباء الموحدة، كما سيأتي. وقال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين": وقع في رواية ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (3/ 305) (على هذه الجهات). (¬2) قال في الحاشية للصنعاني (3/ 300): العتاد: بالعين المهملة والمثناة الفوقية آخره دال مهملة، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري "أعتده" بضم المثناة الفوقانية وإليهما أشار الشارح، ونقل الدارقطني عن أحمد أنه صوبها، قاله ابن الأثير في النهاية. اهـ. وكلها جاءت على الجمع كما أشار إليها في فتح الباري (3/ 333). (¬3) وهم المؤلف -رحمة الله علينا وعليه-: وإنما المذكور في النهاية "وأعْتُده" (3/ 176).

للبخاري "وأعبده" [بالباء] (¬1)، والصحيح "وأعتده" بالتاء المثناة فوق. قلت: وهي الأعتاد جمع قلة لعتد بفتح العين، والتاء وهو الفرس الصلب. وقيل: المعد للركوب. وقيل: السريع الوثب. وقال الهروي والخطابي (¬2): هو ما أعده الرجل من سلاح وآلة ومركوب للجهاد. وبه جزم الشيخ تقي الدين، وعزاه النووي (¬3) إلى أهل اللغة ولم يذكر غيره، وما قدمناه أولاً من أنه الفرس، ثم حكينا الخلاف بعده، هو ما ذكره القرطبي. ثالثها: "عتاده" ويجمع على "أعِتُده" بكسر التاء وضمها. رابعها: "أعبده" بالباء الموحدة جمع قلة للعبد وهو الحيوان العاقل، هذا هو [الظاهر] (¬4). وقيل: إنه جمع صفة من قولهم: "فرس [عتد] (¬5) " أي ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) معالم السنن (2/ 223). (¬3) شرح مسلم (7/ 56)، وإكمال إكمال المعلم (3/ 115). (¬4) في ن ب (الأظهر). (¬5) في ن د ب (عبد)، وفي إحكام الأحكام (3/ 301)، وفتح الباري (3/ 323) (عتد).

صلب (¬1). وقيل: معد للركوب. وقيل: سريع الوثب. حكى هذه الأوجه الشيخ تقي الدين (¬2) على هذه الرواية, ثم رجح بعضهم هذا بأن العادة لم تجر بتحبيس العبيد في سبيل الله، بخلاف الخيل. وأما القاضي فقال: هذا جائز غير ممتنع، بل قد وجد في العرب بزمن المسمى بصوفة (¬3) وبالربيط وذلك أن أمه ربطت رأسه ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 301): وقيل إن لبعض رواة البخاري "أعبدة" بالموحدة جمع "عبد" اهـ، من الفتح (3/ 333)، قال: فدل كلامه على أن الذي هو صفة للفرس هو "أعتده" جمع "عتيد" وهو خلاف كلام الشارح -أي ابن دقيق- ويوافق كلام الفتح أنه في القاموس. فإنه قال في "عند" بالمثناة الفوقية أنه يقال: "فرس عتد"، بل الذي فيه "وفرس عتد" محركة، وككتف معد للجري أو شديد تام الخلق. اهـ. وكلام فتح الباري صريح أن رواية "عبد" بالموحدة إنما هي لغير الفرس، ولذا جعله قولاً مقابلاً للأول. قال أيضاً: وقال ابن حزم إنها وهم أي رواية "أعبده". (¬2) إحكام الأحكام (3/ 300). (¬3) قال ابن الجوزي في كشف النقاب عن الأسماء والألقاب (1/ 304): صوفه لقب الغوث بن مُر. قال ابن الكلبي: كان لا يعيش لأمه ولد فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيطاً للكعبة ففعلت فقيل له صوفة، وقال عقال بن شبيب: كانت لا تلد إلَّا البنات فنذرت إن ولدت غلاماً لتعبدنه للبيت فولدت الغوث فربطته عند البيت فأصابه الحر فمرت به وقد سقط واسترخى فقالت ما صار ابني إلَّا صوفة فقيل له صوفة وكانت إجازة الحاج إليه وإلى عقبه. اهـ. انظر أيضاً: نزهة الألباب في الألقاب (1/ 430)، والإِكمال (5/ 224).

بصوفه وجعلته ربيط الكعبة فخدمها. وقيل: مثله في ابن الأخرم (¬1). وروي: "فقد احتبس رقيقه ودوابه"، وروى "عقاره" (¬2) بالقاف والراء وهو الأرض والضياع والنخل ومتاع البيت. الثاني عشر: فيه دلالة على صحة الوقف إذا قلنا: إنه وقفها حقيقة، وصحة وقف المنقول، وبه قالت الأمة بأسرها إلَّا أبا حنيفة وبعض الكوفيين، وأنه لا زكاة في الوقف. الثالث عشر: أخذ بعضهم من الحديث وجوب زكاة التجارة، وأن خالد طولب بأثمان الأدراع والأعتد قالوا: ولا [(¬3)] زكاة في هذه الأشياء إلَّا أن تكون للتجارة. وفيه نظر من حيث إنه استدلال بأمر محتمل غير متعين لما أُدعي (¬4). الرابع عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وأما العباس فهي عليَّ ومثلها". فيه جواز التصريح باسم القريب ولفظ رواية البخاري: "وأما العباس بن عبد المطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي عليه صدقة ومثلها معها"، والسر في التصريح باسم القريب: أن اسم ¬

_ (¬1) انظر: نزهة الألباب في الألقاب (1/ 63، 64)، والإِكمال (1/ 37). (¬2) انظر: إكمال إكمال المعلم (3/ 115). (¬3) في ن ب زيادة (لو). (¬4) قال في حاشية الصنعاني (3/ 305): "غير متعين لما أُدعى"، إذ لا دليل على أنه كان يتجر في الأدرع والأعتاد، وإنما هو مجرد احتمال لا يتم به الاستدلال. اهـ. وهذا كلام مراد المصنف.

العلم إذا جيء به على أصل وصفه كأنه ذكر معه ما اشتمل عليه من جميع صفاته المعروفة منه، وإلى ذلك أشار سيبويه بقوله: الأعلام مختصِرات الصفات. ودخلت الألف واللام على عباس وإن كان علماً لمحاً لصفته قبل التسمية. الخامس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهي عليّ ومثلها" في الصحيحين زيادة بعد "ومثلها معها"، وفي معناه أقوال: أحدها: أني تسلفت منه صدقة عامين فصار ديناً عليَّ وصوبه النووي في شرحه (¬1)، ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (3/ 333): وجمع بعضهم بين رواية "عليّ" ورواية "عليه" بأن الأصل رواية "عليّ"، ورواية "عليه" مثلها إلَّا أن فيها زيادة هاء السكت حكاه ابن الجوزي عن ابن ناصر، وقيل: معنى قوله "عليّ" أي هي عندي قرض، لأنني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي، وفي إسناده مقال، وفي الدارقطني من طريق موسي بن طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين"، وهذا مرسل، وروى الدارقطني أيضاً موصولاً بذكر طلحة فيه، وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطني أيضاً من حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر ساعياً فأتى العباس فأغلظ له، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام، والعام المقبل"، وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضاً هو والطبراني من حديث أبي رافع نحو هذا، وإسناده ضعيف أيضاً، ومن حديث ابن مسعود: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجل من العباس صدقته سنتين"، وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعاً للإِشكال ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات، وفيه رد لقول من قال: =

ثانيها: أن معناه: أنا أؤديها عنه، والذي قال: بهذا لا يجوّز تعجيل زكاة عامين. [وقد جاء] (¬1) في الدارقطني: "إنا تعجلنا منه صدقة عامين" (¬2)، وأوله بعض المالكية بأن معناه أوجبناها عليه وضمناها له وتركناها عليه ديناً. وقيل: بل كان تسلف منه النبي - صلى الله عليه وسلم - مالاً لما احتاج إليه في السبيل، فقاصه بها عند الحول، وهذا مما لا يختلف في جوازه، وحينئذ لا يكون حجة على جواز التقديم. قلت: وهذه الرواية أعني رواية الدارقطني فيها انفطاع أيضاً كما نبه عليها البيهقي (¬3). ¬

_ = إن قصة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصدقة، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق، والله أعلم. وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يقاصَّ به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان - صلى الله عليه وسلم - أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد. اهـ. انظر: تلخيص الحبير (2/ 162)، وشرح مسلم (7/ 57). (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) الدارقطني (2/ 123، 124)، وأيضاً الأحاديث الموجودة في الدارقطني في التعليق السابق، وانظر: تخريج الأحاديث الضعاف من الدارقطني (217، 218)، وقد ضعفه في الفتح (3/ 334). (¬3) السنن الكبرى (4/ 111). قال الشافعي في الأم (2/ 22): ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أدري أثبت أم لا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل"، وانظر: =

ثالثها: أنه -عليه الصلاة والسلام- قبض منه صدقة العام الذي شكاه فيه العامل وتعجيل صدقة عام ثان، فقال: "هي عليّ ومثلها معها" (¬1). رابعها: أنه -عليه الصلاة والسلام- تحمل الصدقة وأداها عنه السنتين، ولذلك قال: "إن عم الرجل صنو أبيه" (¬2). خامسها: يحتمل أنه تبرع بزيادة على ما وجب على العباس إكراماً له، ويعضده آخر الحديث. وأما رواية البخاري السالفة: "هي عليه صدقة ومثلها معها"، فقال البيهقي (¬3): يبعد أن تكون محفوظة لأن العباس كان من جملة بني هاشم الذين تحرم عليهم الصدقة. وقال غيره: لعل ذلك قبل تحريمها على آله - صلى الله عليه وسلم -، ورأى -عليه الصلاة والسلام- إسقاط الزكاة عامين لوجه رآه. وقال القرطبي: هي نص في أنه تركها له ومثلها، وذلك لأنه ¬

_ = المعرفة (6/ 82)، والسنن الكبرى (4/ 111)، وتلخيص الحبير (2/ 162)، وقد ضعفه في الفتح (3/ 334). (¬1) قال البغوي -رحمنا الله وإياه- في شرح السنة (6/ 35): أن يكون قد قبض منه صدقة ذلك العام الذي شكاه فيه العامل، وتعجَّل صدقة عام ثانٍ، فقال: هي عليَّ، أي الصدقة التي قد خلت، وأنت تطالبه بها مع مثلها من صدقة عام لم يحلَّ، فيكون قد أخذ صدقة أحد العامين بعد محلها، واستعجل صدقة العام المقبل. اهـ. (¬2) قال ابن دقيق العيد في الأحكام (3/ 306): فإن في هذه اللفظة إشعاراً بما ذكرناه، فإن كونه صنو الأب: يناسب تحمل ما عليه. (¬3) السنن الكبرى (4/ 111).

قد فدا نفسه وعقيلاً فكأنه كان غريماً، وإليه يرد قوله أي في الرواية الآتية: "فهي له ومثلها". وفي البخاري عن ابن إسحاق عن أبي الزناد: "هي عليه ومثلها معها" (¬1)، وقال ابن جريج (¬2): حدثت عن الأعرج مثله. فيحتمل أن يحمل على هذه الرواية. ويحتمل أن يكون -عليه الصلاة والسلام- أخرها عنه عامين لحاجة كانت بالعباس (¬3) إليها, وللإِمام تأخير ذلك إذا أداه اجتهاده إليه كما فعل عمر بن الخطاب عام الرمادة إلى أن حيَّ الناس من العام المقبل، فأخذ منهم زكاة عامين (¬4). ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "ومثلها معها"، أن عليه صدقة عام آخر قبله وأخرهما ليجد رفقاً به، حكاه الأصفهاني. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (3/ 334): بني الجمع بين الروايات، ومعنى "عليه" على التأويل الأول أي لازمة "له" وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها فقال: كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، ويؤيده رواية موسي بن عقبة عن أبي الزناد عن ابن خزيمة بلفظ "فهي له" بدل "عليه"، وقال البيهقي: اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات، وهذا أولى لأن المخرج واحد وإليه مال ابن حبان. (¬2) المرجع السابق. (¬3) انظر: شرح مسلم (7/ 57). (¬4) البغوي في السنة (6/ 35)، والأموال لأبي عبيد (465، 705).

وحكى معه قولاً آخر بعيداً [أُنبه] (¬1) [عليه] (¬2) لئلا يعتد به وهذا لفظه في حكايته قيل: فيه دليل على أن للإِمام أن يأخذ الصدقة ومن منعها فله أن يعزره على حسب ما يؤدي إليه اجتهاده أضعّف الصدقة عليه على ضرب من التعزير، وهذا لا يحل ذكره عندي إلَّا على وجه [التنبيه على وهنه فإن آخر الحديث يرده (¬3). وفي رواية موسى بن عقبة: "هي له] (¬4) ومثلها معها" [وعنها] (¬5) جوابان: أحدهما: وإليه يميل أبو حاتم بن حبان أن "له" بمعنى "عليه"، قال -تعالى-: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬6)، وقال -تعالى-: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬7) وأشبههما (¬8)، احتماله -عليه الصلاة والسلام- لها على ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب (عليه السلام). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (3/ 334): وأبعد الأقوال كلها قول من قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة بأن يؤدي ضعف ما وجب عليه لعظمة قدره وجلالته، كما في قوله -تعالى- في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) سورة الرعد: آية 25. (¬7) سورة الإِسراء: آية 7. (¬8) قال ابن أبي حاتم في صحيحه (8/ 69): وقد روى موسي بن عقبة عن أبي الزناد هذا الخبر، وقال في شأن العباس: "فهي له ومثلها معها"، يريد فهي له عليَّ كما قاله ورقاء بن عمر في خبره، وانظر ت (1)، (87) =

ما تقدم ويعضده [رواية] (¬1): "فهي له وصدقة عليها"، لا أنه أحل له الصدقة، ولكنه تركها له فأخرج الصدقة عنه من مال نفسه (¬2). ¬

_ = و (1)، (90) لزيادة الإِيضاح. وقد رجح ابن باز -حفظه الله- في الفتح (3/ 333)، قائلاً: وظاهر الحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - تركها له وتحملها عنه وسمى ذلك صدقة تجوزاً وتسامحاً في اللفظ، ويدل على ذلك رواية مسلم فهي "عليّ ومثلها"، والله أعلم. اهـ. وهذا هو الجواب الثاني. (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) قال ابن حبان في صحيحه (8/ 69): وقد روى شعيب بن أبي حمزة هذا الخبر عن أبي الزناد، وقال في شأن العباس: "فهي عليه صدقة ومثلها معها". قال ابن حجر في الفتح (3/ 333): كذا في رواية شعيب، ولم يقل: ورقاء ولا موسي بن عقبة "صدقة"، فعلى الرواية الأولى يكون ألزمه بتضعيف صدقته, ليكون أرفع لقدره, وأنبه لذكره، وأنفى للذم عنه، فالمعنى: فهي صدقة ثابتة عليه سيصدق بها، ويُضيف إليها مثلها كرماً، ودلت رواية مسلم على أنه - صلى الله عليه وسلم - التزم بإخراج ذلك لقوله: "فهي عليّ"، وفيه تنبيه على سبب ذلك وهو قولُه: "إن العم صنو الأب"، تفضيلاً له وتشريفاً. اهـ. من الفتح. ثم قال ابن حبان -ويشبه أن يكون معناه-: فهي له صدقة، لأن العرب في لغتها تقول "عليه"، بمعنى "له" قال الله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}، يريد: عليهم اللعنة، والعباس لم يحل له أخذ الصدقة من وجهين، أحدهما: أنه كان غنيّاً لا يحل له أخذ الصدقة الفريضة، والأخرى: أنه كان من صبية بني هاشم فكيف يترك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - صدقته عليه وهو لا يحل له أخذها، ويمنعها من أهلها الفقراء؟ اهـ. للاطلاع =

السادس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن عم الرجل صنو أبيه"، أي يرجع مع أبيه إلى أصل واحد فيتعين إكرامه كما يتعين إكرام الأب، ومنه قوله -تعالى-: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} (¬1)، وأصله في النخلتين والثلاث والأربع التي ترجع إلى أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو، والاثنان صنوان، والثلاث صنوانٌ برفع النون. فالصنوان: جمع صنو كقنوان وقنو ويجمع أصناء كأسماء، فإذا كثرت قلت الصنى والصُني، وعن ابن الأعرابي: أن الصنو المثل أي مثل أبيه، وذكر ذلك - صلى الله عليه وسلم - لعمر تعظيماً لحق العم وهو مقتض ومناسب لأن يحمل قوله: "هي عليَّ" أنه يحملها، [عنه احتراماً له ومبرة وإكراماً حتى لا يتعرض له بطلبها أحد إذا تحملها] (¬2) عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. السابع عشر: في الحديث البيان للعمال ما يظلمون فيه من غيره. الثامن عشر: فيه أيضاً تحمل الإِمام عن بعض رعيته وأتباعه وأقاربه ما وجب عليه أو ندب إليه. التاسع عشر: فيه أيضاً بيان فضل العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = على تفاصيل مما مر من الروايات. انظر: تهذيب السنن لابن القيم (2/ 222)، ومعالم السنن. (¬1) سورة الرعد: آية 4. (¬2) زيادة من ن ب د.

والتنبيه على فضل العم وأنه يرفق به ويخص بمزيد إِكرام، وقد نبه -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر على فضل الخالة فقال: "الخالة بمنزلة الأم" (¬1). العشرون: فيه أيضاً أنه يجوز للإِمام ويستحب له أن يتأول لمن شكي إليه من رعيته في منع الحق التأويلات المحتملة وإن كانت خلاف الظاهر. الحادي والعشرون: فيه أيضاً جواز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها على ما مر من التأويل، وهو مذهب أبي حنيفة والأوزاعي والشافعي وفقهاء المحدثين، ومن هؤلاء من جوّز تقديم زكاة عامين أخذاً بهذا الحديث، ومنع ذلك مالك والليث، وهو قول عائشة وابن سيرين وقالوا: لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها كالصلاة، وعن مالك خلاف فيما قرب، وتحديد القرب مذكور في كتبهم, وكأن هؤلاء لم يرتضوا بذلك التأويل أو يجعلوه خاصّاً بالعباس. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1844، 2699، 4251)، وأحمد (1/ 98، 108، 115) عن علي (4/ 298)، عن البراء، والدارمي (2/ 237)، وابن حبان (4873)، والترمذى (3765)، وابن سعد (4/ 36)، والحاكم (3/ 120).

الحديث السادس

الحديث السادس 176/ 6/ 33 - عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على [رسوله] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، قسم في الناس، وفي المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا في أنفسهم، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ "، كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمَنُّ، قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "، [قال: كلما قال شيئاً] (¬2) قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، قال: "لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون [بالنبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثارٌ، إنكم ستلقون من بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تلقوني على ¬

_ (¬1) في بعض من العمدة (نبيه). (¬2) الإِضافة قال مصحح العمدة من فتح الباري (8/ 47). (¬3) في بعض ن العمدة (برسول الله).

الحوض" (¬1). الكلام عليه من أربعين وجهاً: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في الطهارة. الثاني: هذا الحديث لا مدخل له في الزكاة إلَّا أن يقاس إعطاء المؤلفة منها على إعطائهم من الفيء والخمس. والثالث: قوله "لما أفاء" أي رد ورجع، وهو أفعل من الفيء، يتعدى إلى مفعولين [أحدهما] (¬2) بنفسه والآخر بحرف الجر، يقول أفاء الله على المسلمين مال الكفار، يفي إفاءة، واستفدت هذا المال ¬

_ (¬1) البخاري في المغازي (4330)، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1061) في الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإِسلام وتصبر من قوي إيمانه. وقد أخرج الحديث البخاري وغيره من رواية أنس: البخاري (4337، 3147، 4331، 4333، 4334، 5860، 7441)، ومسلم (1059)، والترمذي (3901)، وأحمد (3/ 157، 279، 188، 201، 246)، والحميدي (1201)، وأبو يعلى (3002، 3594). ومن رواية أبي سعيد الخدري: أحمد (3/ 67، 76، 57)، ومجمع الزوائد (10/ 29)، وقال: رواها كلها أحمد، وأبو بعلى ... إلخ، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: عند أحمد (3/ 67)، وأبو يعلى (1358). أبو هريرة: عند مسلم (1780)، والطيالسي (2/ 106)، والبيهقي في السنن (9/ 117)، والدلائل (5/ 57، 176)، وأحمد (2/ 538)، وأبو يعلى (6647). (¬2) في ن ب ساقطة.

أخذته فيئاً. والأصل في أفاء أفيا، فنقلت فتحة الياء [إلى] (¬1) الفاء فتحركت الياء في الأصل وانفتح ما قبلها فقلبت الفاء فصار أفاء (¬2). وأصل الفيء في اللغة: الرّد والرجوع كما سلف ومنه سمّي الظل بعد الزوال فيئاً، لأنه رجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق، وكأن الأموال التي بأيدي الكفار كانت [بالأصالة] (¬3) للمؤمنين، إذ الإِيمان هو الأصل والكفر طارىء عليه، فغلب الكفار على تلك الأموال فإذا غنم المسلمون منها شيئاً رجعت إلى نوع من كان يملك أصلها. الرابع: حنين: اسم واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً. قال عروة: إلى جنب ذي المجاز (¬4). وقال ابن حبان (¬5): هو واد أجوف، وكانت غزوته بعد فتح مكة [سنة ثمان من الهجرة وهي من غنائم هوازن، وكان فتح مكة] (¬6) في العشرين من شهر رمضان، وكانت حنين بعد فتح مكة، وإقامته ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) لسان العرب (10/ 360)، والمصباح المنير (486)، ومختار الصحاح (217). (¬3) في ن ب (بالإِضافة). (¬4) معجم البلدان (2/ 313). (¬5) الثقات لابن حبان (2/ 69). (¬6) في ن ب ساقطة.

فيها [خمس عشرة] (¬1) ليلة، فقصر الصلاة فيها، كما قاله ابن حبان في ثقاته في العشر الأول من شوال. و"حنين" مذكر ولذلك صرف. الخامس: قوله "قسم في الناس" أي قسم الأموال في الناس فمفعول قسم محذوف. السادس: "المؤلفة" من التأليف، وهو جمع القلوب، واختلف في المؤلفة قلوبهم من هم. فقيل: كفار يعطون ترغيباً في الإِسلام. وقيل: مسلمون ليتمكن إِسلامهم. وقيل: مسلمون لهم أتباع كفار ليتألفوهم (¬2). وقسمهم أصحابنا أقساماً ومحل الخوض فيها كتب الفروع وقد بسطتها في "شرح المنهاج" وغيره، ولله الحمد. والصحيح [من] (¬3) مذهب مالك: أعطاؤهم اليوم من الزكاة إن ¬

_ (¬1) في ن ب د (خمس عشرة). (¬2) انظر: تفسير الطبري، سورة التوبة: آية 60، فإنه ذكر هذه الأقوال. قال ابن حجر في الفتح (8/ 48): وأما المراد بالمؤلفة هنا فهذا الأخير -أي ما ذكر- وهم مسلمون أول ما دخلوا في الإِسلام ليتمكن الإِسلام من قلوبهم -ثم قال- لقوله في رواية الزهري في الباب: "فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم"-. (¬3) في ن ب ساقطة.

احتيج إليهم (¬1). ¬

_ (¬1) قال الطبري -رحمنا الله وإياه- في تفسيره على آية 60 من سورة التوبة: ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها، وهل يُعطى اليوم أحدٌ على التألف على الإِسلام من الصدقة؟ فقال بعضهم: قد بطلت المؤلفة قلوبهم اليوم، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلَّا لذي حاجة إليها، وفي سبيل الله، أو لعامل عليها. ذكر من قال ذلك -ساقه بإسناده- عن الحسن قال: أما "المؤلفة فلوبهم" فليس اليوم وأيضاً حديث عمر: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: وأتاه عيينة بن حصن: "الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر": أي ليس اليوم مؤلفة ... إلخ الأحاديث. ثم قال: وقال آخرون: "المؤلفة قلوبهم" في كل زمان، وحقهم في الصدقات. ذكر من قال ذلك -وساق بإسناده- عن أبي جعفر قال: في الناس اليوم، المؤلفة قلوبهم قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سد خلة المسلمين، والآخر: معونة الإِسلام وتقويته. فما كان في معونة الإِسلام وتقوية أسبابه، فإنه يُعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين. وذلك كما يعطى الذي يُعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيّاً كان أو فقيراً، للغزو، لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحاً بإعطائهموه أمر الإِسلام وطلب تقويته وتأييده، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإِسلام وعز أهله، فلا حجة لمحتج بأن يقول: "لا يتألف اليوم على الإِسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم" وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى منهم في الحال التي وصفت. اهـ.

قال العلماء: المشركون أصناف. منهم: من رجع إلى الإِسلام بالمعجزة وظهور البرهان. ومنهم: من رجع بالقهر والسنان. ومنهم: من رجع بالعطاء والإحسان، وهم المؤلفة قلوبهم. وعدهم ابن طاهر في كتابه (¬1) "إيضاح الإِشكال"، سبعة عشر: أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن (¬2)، وسهيل بن عمرو [الجهني] (¬3) [الحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى] (¬4) وأبو السنابل بن بعك، وحكيم بن حزام، ومالك بن عوف النصري (¬5)، وصفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع، وجد بن قيس (¬6)، وعمرو جد ¬

_ (¬1) إيضاح الإِشكال (159)، وسيرة ابن هشام (2/ 489، 490). (¬2) ذكر ابن طاهر: سهيل بن عمرو من بني لؤي، صحابي له ترجمة في أُسد الغابة (2/ 480)، والإِصابة (3/ 212)، ثم ذكر بعده: الحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى, ثم سهيل بن عمرو الجمحي. (¬3) انظر: الإِصابة (3/ 215)، ونسبته إلى الجهني خطأ، وإنما هو الجمحي. انظر: إيضاح الإِشكال (160). (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) في المخطوطة (النفري)، والتصحيح من أسد الغابة (5/ 43)، والإِصابة (5/ 742)، والباب (3/ 311)، وهو بالصاد المهملة نسبة إلى جده الأعلى نصر بن معاوية، وفي الحاوي (18/ 77) (النضري). (¬6) جد بن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن سلمة الأنصاري، أبو عبد الله: اختلف فيه هل هو من المنافقين أم لا، وهل أسلم وحسن =

مروان (¬1) [وعمرو بن مرداس] (¬2) ,وعمرو بن الأهتم (¬3) , وعباس بن مرداس، والعلاء بن [حارثة] (¬4). ¬

_ = إسلامه؟ وقد قال ابن عبد البر: إنه أسلم وحسن إسلامه: الاستيعاب (1/ 232)، والإِصابة (1/ 468)، وأسد الغابة (1/ 327)، ذكره ابن طاهر في إيضاح الإِشكال (161)، ولم يذكره ابن هشام (4/ 139) في السيرة، وأيضاً البيهقي في الدلائل (5/ 174)، وابن حجر في الفتح (8/ 48)، وإنما المذكور: خالد بن قيس السهمي كذا قال صاحب أسد الغابة: حيث قال: ووهم في ثلاثة أسامي فقال: عمرو بن مرداس وهو العباس بن مرداس وقال سهيل ابن عمرو الجهني، وقال جد بن قيس السهمي، وهو خالد فإن جد بن قيس من الأنصار ولو أصلحه لكان خيراً له (4/ 130). اهـ. وأيضاً ابن حجر في الفتح (8/ 48)، ذكره. (¬1) لم تذكره المصادر المشار إليها آنفاً فلعله ذكر باسم غير هذا. (¬2) كما أشار صاحب أسد الغابة إلى الوهم في ذلك كما في تعليق ما قبل هذا، وذكر ابن حجر في الإِصابة (5/ 15)، وجزم بأنه منهم وأنه أخو العباس بن مرداس وإنهما من المؤلفة قلوبهم، وأيضاً ذكر في الفتح (8/ 48)، باسم عمير. أما ابن هشام: فلم يذكره. (¬3) قال في الفتح (8/ 48)، الأيهم وجمع المصادر ذكرته بالأهتم: أسد الغابة (4/ 87)، والإصابة (4/ 285). وقد بلغ عدتهم في الفتح (8/ 48) أربعين نفساً. أما ابن هشام فذكر تسعة وعشرين رجلاً (4/ 142)، وأما ابن طاهر فلم يذكر سوى خمسة عشر رجلاً إيضاح الإِشكال (159، 161)، ولولا خشية الإِطاله لذكرتهم ولكن من أراد الاطلاع فعليه بالمصادر المذكورة آنفاً. (¬4) في الحاوي ابن جارية القفي، وفيه زيادة: الحارث بن كلدة، ومعاوية بن أبي سفيان، مخرمة بن نوفل، هشام بن عمرو، عمير بن وهب وجملة ما ذكر (16).

[السابع] (¬1): اختلف في هذا العطاء للمؤلفة: هل كان من الخمس أو من صلب الغنيمة على قولين، حكاهما القرطبي في "مفهمه": قال: والإِجراء على أصول الشريعة أن يكون من الخمس، ومنه كان أكثر عطاياه - صلى الله عليه وسلم - وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: [مالي مما أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، والخمس مردود فيكم" (¬2) ¬

_ (¬1) في الأصل (السادس)، والتصحيح من ن ب د ... إلخ الأوجه. (¬2) أبو داود كتاب الجهاد، باب: الإِمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه، من حديث عمرو بن عبسة (2638)، والنسائي كتاب قسم الفيء (7/ 131)، من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو، وابن ماجه (952). قال الخطابي: في معالم السنن (4/ 62): وروي أيضاً من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية، حديث العرباض أخرجه أحمد (4/ 127)، والبزار (1734)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 337): ورواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه أم حبيبة بنت العرباض ولم أجد من وثقها, ولا جرحها، وبقية رجاله ثقات. اهـ. الطبراني (18/ 260)، والأحاديت الصحيحة (669). قال ابن حجر في الفتح بعد نقله لكلام القرطبي (8/ 48): وقد قال في هذه الغزوة للأعرابي: "مالي مما أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، والخمس مردود فيكم" أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو -سبق تخريجه بأسطر. وعلى الأول فيكون ذلك مخصوصاً بهذه الواقعة، وقد ذكر السبب في ذلك في رواية قتادة عن أنس في الباب حيث قال: "إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم" قلت: الأول هو المعتمد، وسيأتي ما يؤكده، الذي رجحه القرطبي جزم به الواقدي، ولكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا خالف، وقيل: إنما كان تصرف في الغنيمة لأن الأنصار كانوا انهزموا فلم يرجعوا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حتى وقعت الهزيمة على الكفار فرد الله أمر الغنيمة لنبيه وهذا معنى القول السابق بأنه خاص بهذه الواقعة، واختار أبو عبيد أنه كان من الخمس، في كتاب الأموال (406، 407). وقد قال ابن القيم في زاد المعاد: (3/ 477، 479): اقتضت حكمة الله أن فتح مكة كان سبباً لدخول كثير من قبائل العرب في الإِسلام كانوا يقولون: دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في دينه, وإن غلبوه كفونا أمره، فلما فتح الله عليه استمر بعضهم على ضلاله فجمعوا له وتأهبوا لحربه، وكان من الحكمة في ذلك أن يظهر الله أن الله نصر رسوله لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل ولا بانكفاف قومه عن قتاله، ثم لما قدر الله عليه من غلبته إياهم قدر وقوع هزيمة المسملين مع كثرة عددهم وقوة عددهم ليتبين لهم أن نصر الحق إنما هو من عنده لا بقوتهم، ولو قدر أن لا يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظماً، فقدر هزيمتهم ثم أعقبهم النصر ليدخلوا مكة كما دخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح متواضعاً متخشعاً، واقتضت حكمته أن غنائم الكفار لما حصلت ثم قسمت على من لم يتمكن الإِيمان من قلبه لما بقي فيه من الطبع البشري في محبة المال فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم وتجتمع على محبته، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها، ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصوراً عليهم، بخلاف قسمته على المؤلفة لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سبباً لدخولهم في الإِسلام ولتقوية قلب من دخل فيه قبل تبعهم من دونهم في الدخول، فكان في ذلك عظيم المصلحة، ولذلك لم يقسم فيهم من أموال أهل مكة عند فتحها قليلاً ولا كثيراً مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه، فحرك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى كثيرهم =

والظاهر من مراجعة الأنصار، وقوله -عليه الصلاة والسلام-] (¬1) "ألَّا ترضون" إلى آخره أنه كان من صلب الغنيمة، وأن ذلك إنما كان لما يعلم من رضا أصحابه بذلك، ولطيب قلوبهم به. ويكون هذا مخصوصاً بتلك الواقعة، وله أن يفعل ما يشاء في الأموال والرقاب، والأصل التمسك بقواعد الشريعة على ما تقررت. الثامن: الأنصار: جمع ومفرده نصير: كشريف وأشراف. وقيل: ناصر كصاحب وأصحاب. وقد أسلفت ذلك في الكلام على حديث أبي أيوب في باب الاستطابة مع بيان نسب الأنصار وغيره فراجعه منه (¬2). قال الفاكهي: وجمع ناصر نصر: كصاحب وصحب. قال: ¬

_ = أن يخرجوا منهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم فكانوا غنيمة للمسلمين، ولو لم يقذف الله في قلب رئيسهم أن سوقه معه هو الصواب لكان الرأي ما أشار إليه دريد فخالفة فكان ذلك سبباً لتصييرهم غنيمة للمسلمين، ثم اقتضت تلك الحكمة أن تقسم تلك الغنائم في المؤلفة ويوكل من قلبه ممتلىء بالإِيمان إلى إيمانه، ثم كان تمام التأليف رد من سبي منهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإِسلام فدخلوا طائعين راغبين. اهـ، من محل المقصود. وقد ساق ذلك ابن حجر في الفتح (8/ 49)، وقال بعده (8/ 50)، وفي رواية هشام بن زيد عن أنس آخر الباب- (4331): "إذا كانت شديدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا" وهذا ظاهر في أن العطاء كان من صلب الغنيمة بخلاف ما رجحه القرطبي. اهـ. انظر: شرح السنة للبغوي (11/ 114). (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: مختار الصحاح (277).

وعندي أنه يجمع على أنصار: كشاهد وأشهاد، صاحب وأصحاب, وإن كان جمع فاعل على أفعال ليس بالكثير. التاسع: "وجد" من الألفاظ المشتركة يقال وَجَدَ مطلوبه يَجِدَهُ وُجوداً ويَجُدَه أيضاً بالضم لغة عامر. قال أهل اللغة (¬1): لا نظير لها في باب المثال، ووَجَدَ ضالّته وِجْداناً بالكسر، ووَجَد عليه في الغضب مَوجدَة ووِجْداناً بالكسر أيضاً ووَجَدَ في الحزن وَجْداً بالفتح ووجد في المال وُجْداً ووَجْداً وجِدَةً أي استغنى (¬2). وقوله: "فكأنهم وجدوا في أنفسهم" هو تعبير حسن كُسِيَ حلة الأدب في الدلالة على ما كان في أنفسهم. ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (295). (¬2) الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز (5/ 162)، وَجَدَ مطلوبه يَجِدهُ وُجوداً، ويَجُدَه بالضم، لغة عامريّة لا نظير لها في باب المِثال. ووَجدَ بكسر الجيم لغة ثم ساق أبيات ووَجَدَ ضالّته وِجْداناً، ووَجَد عليه في الغضب يَجدُ ويَجُدُ مَوجدَة ووِجْداناً أيضاً حكاها بعضهم، ووَجَدَ في الحُزن وَجْداً، ووجد في المَال وُجْداً ووَجْداً ووِجْداً وجِدَةَ قال ابن حجر في الفتح (8/ 50)، ويظهر الفرق بينهما بمصادرهما: ففي الغضب موجدة، وفي الحزن وجدا بالفتح، وفي ضد الفقد وجداناً، وفي المال وجدا بالضم، وقد يقع الاشتراك في بعض هذه المصادر. اهـ. وهي من الألفاظ المتداخلة المعاني قال في شجر الدر (136) والوجود جمع وَجْد، والوَجْد: السخيمة في القلب. اهـ. هو محل المقصود. انظر: شرح الفصيح (164)، والصحاح (1/ 544).

العاشر: "معشر" مفرد معاشر، وهي جماعات الناس، قال أهل اللغة: المعشر: الطائفة. الحادي عشر: "الضَّلال" جمع: ضال. والضَّلال والضَّلالة (¬1) ضد الرشاد والهدى، وهو هنا ضلال الشرك والكفر. والهداية: هداية الإِيمان, ولا شك أن نعمة الإِيمان أعظم النعم، فإنه لا يوازيها شيء من أمر الدنيا. فلذلك بدأ بها، ثم ثنى بنعمة الألفة، وهي أعظم من نعمة المال، إذ الأموال تبذل في تحصيلها، وهيهات أن تحصل. قال -تعالى-: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬2) الآية. وكانت الأنصار في غاية التباعد والتنافر، وجرت بينهم حروب قبل المبعث، منها يوم بغاث (¬3) بالغين المعجمة والمهملة، وأخره ثاء مثلثة: موضع من المدينة على ¬

_ (¬1) انظر: بصائر ذوي التمييز (3/ 481)، بصيرة في ضل. (¬2) سورة الأنفال: آية 63. (¬3) بغاث: بضم الموحدة وتخفيف المهملة وآخره مثلثة وحكى العسكري أن بعضهم رواه عن الخليل بن أحمد وصحفه بالغين المعجمة، وذكر الأزهري أن الذي صحفه الليث الراوي عن الخليل. وحكى القزاز في "الجامع" أنه يقال بفتح أوله أيضاً، وذكر عياض في المشارق (1/ 116)، أن الأصيلي ضبطه بالوجهين وبالمعجمة عند القابسي وآخره مثلثة، قال ابن حجر في الفتح (7/ 111)، أن الذي وقع في رواية أبي ذر بالغين المعجمة وجهاً واحداً. اهـ. وذكر عياض: أن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضاً. وهو مكان على ميلين من المدينة ويقال حصن ويقال مزرعة عند بني قريضة. وفي المشارق: ليلتين وأيضاً في معجم البدان لياقوت (1/ 451)، انظر: فتح الباري (7/ 111)، للاطلاع على سبب الحرب.

[ليلتين] (¬1)، ثم ثلَّث بنعمة الغنى والمال. وقد استعمل - صلى الله عليه وسلم - في ذلك [جميع] (¬2) ما يجب من الأدب مع القرآن العزيز وإتباعه في إضافة الهداية والألفة والإِغناء إلى الله -تعالى- فإِن ذلك جميعه خاص به -سبحانه- لا يشركه فيه أحد، قال -تعالى- {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (¬3) الآية، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬4) وفي إضافة الهداية إلى الأسباب حيث] (¬5) أضافها الله -تعالى- إليها في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} (¬6) ¬

_ (¬1) في ن ب (الثلثين). (¬2) في ن د (جميعه). (¬3) سورة البقرة: آية 272. (¬4) سورة القصص: آية 56. (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) سورة الشورى: آية 52. فالجمع بين الآيتين ولله الحمد متيسر ومعروف فالهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه هي هداية الإِرشاد والدلالة، كما قال -تعالى-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} أي ترشد وتبين والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق وخلق القدرة على الطاعة. اهـ من تيسير العزيز الحميد (260) و"الهدى" لغة: الدلالة والبيان وينقسم إلى قسمين: هدى دلالة وبيان، وهذا القسم يقدر عليه الرسل وأتباع الرسل ممن يجعله الله سبباً لهداية شخص أو أشخاص. قال الله -تعالى-: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} وقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي -رضي الله عنه-: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، ومن هذا القسم قوله -تعالى-: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي بينا لهم ودللناهم وأرشدناهم فلم يهتدوا وهذه التي بعثت بها الرسل =

فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم - "فهداكم الله بي" وكذلك الألفة حيث قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (¬1) وكذلك الإِغناء، فإنه -سبحانه وتعالى- المغني، وأمتن به في قوله -تعالى- لقوم نوح -عليه الصلاة والسلام- على لسانه {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (¬2). الثاني عشر: يؤخذ من الحديث إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليها. وأحسن الصحابة -رضي الله عنهم- الأدب في جوابهم، وحسن خطابهم مع اعترافهم بالحق وترك المماراة لا جرم أعقبهم الله -عز وجل- من حسن أدبهم شكر رسوله لهم وثناءه عليهم، فسبحان من اجتباهم! وأمتن عليهم بصحبته ونصرته. والأمر كما ذكروا، فالمنة في ذلك لله ولرسوله، ¬

_ = لتدل الأمم إليها وتدعوهم إلى قبولها فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة. وأما القسم الثاني: فمعناه التوفيق والإِلهام وهذا لا يقدر عليه إلَّا الله مختص بمن شاء الله هدايته ودليله قوله -تعالى-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وغيرها من الآيات. وهذه خاصة يتفضل الله بها على من يشاء من عباده وهو أعلم بالمهتدين -اللهم مُنَّ علينا بالهداية. النوع الثالث: هداية عامة، قال- تعالى-: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)}. النوع الرابع: غاية هداية الدلالة والبيان والتوفيق وفائدتها ونتيجتها، قال-تعالي-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}، وقال: إخباراً عما يقوله السعداء: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}. (¬1) سورة الأنفال: آيتان 62 - 63. (¬2) سورة نوح: آية 12.

قال الله -تعالى-: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُم} (¬1). الثالث عشر: "العالة" الفقراء، الذين لا مال لهم. والعيلة: الفقر (¬2). الرابع عشر: ما كنى عنه بكذا أو كذا. قد جاء مصرحاً به في رواية أخرى (¬3) فتأدب الراوي بالكناية دون التصريح (¬4). الخامس عشر: قوله: "لو شئتم لقلتم جئتنا كذا" هو منه -عليه الصلاة والسلام- على طريق التواضع ولين الجانب، وإلاَّ ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك لله ولرسوله عليهم وعلى غيرهم فإنه -تعالى- هو الذي أهلهم لمحبته، ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: آية 17. (¬2) المفردات في غريب القرآن (354). (¬3) قد جاء مصرحاً به في رواية أبي سعيد الخدري: ولفظه "فقال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدقتم: [أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك"]. انظر: تخريج الرواية في أول الحديث. وما بين القوسين مذكور في حاشية ن د. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (8/ 51)، على قوله: "لو شئتم قلتم جئتنا قلتم كذا وكذا" في رواية إسماعيل بن جعفر "لو شئتم أن تقولوا جئتنا كذا وكذا وكان من الأمر كذا وكذا" لأشياء زعم عمرو بن أبي بحيى المازني. راوي الحديث أنه لا يحفظها. وفي هذا رد على من قال أن الراوي كنى عن ذلك عمداً على طريق التأدب. وقد جوز بعضهم أن يكون المراد جئتنا ونحن على ضلالة فهدينا بك ما أشبه ذلك، وفيه بعد، وقد فسر في حديث أبي سعيد. ثم ساقه. اهـ. انظر التعليق السابق.

وأعانهم على نصرة رسوله، وسماهم أنصاراً، وناهيك نعمة وافتخاراً. السادس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ألاَّ ترضون" إلى آخره، فيه تنبيه على ما غفلوا عنه، من عظيم ما حصل لهم بالنسبة إلى ما أصاب غيرهم من عرض الدنيا؛ وإنه لا شيء بالنسبة لما حصل لهم. السابع عشر: "الشاة" الواحدة من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وأصلها شوهة (¬1)، ولهذا إذا صُغَّرت عادت الهاء فقيل: شويهة، والجمع شياه بالهاء في الوقف والدرج. والبعير: يقع في اللغة على الذكر والأنثى، وجمعه أبعرة وأباعر وبُعران، سمي به لأنه يبعر، يقال: بعر، يبعر بفتح العين فيهما، بعراً، كذبح، يذبح، ذبحاً. الثامن عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار" (¬2) معناه أتسمى باسمهم، وأنسب إليهم، ¬

_ (¬1) لم أجد من ذكر هذا، فالمذكور في لسان العرب (7/ 245)، وأيضاً في المصباح المنير (328)، ومختار الصحاح (150)، والشاةُ أصلها شاهة فحذفت الهاء الأصلية وأُثبتت هاء العلامة التي تنقلب تاء في الإِدراج. وقيل في الجمع شياةٌ كما قالوا ماء، والأصل ماهَة وماءة، إلى أن قال: وأما شَيَّةٌ فبين أنه شيوةٌ فأبدلت الواو ياءً لانكسارها ومجاورتها الياء، غيره تصغير، شُويهة، والعدد شياةٌ، والجمع شاءٌ فإذا تركوا هاء التأنيث مدوا الألف وإذا قالوا هاء بالهاء قصروا وقالوا شاةٌ ... إلخ. (¬2) الخطابي في أعلام الحديث (1758).

كما كانوا يتناسبون بالحلف لكن خصوصية الهجرة ومرتبتها سبقت وعلقت فهي أعلا وأشرف، فلا تتبدل بغيرها, ولا ينتفى منها من حصلت له، قاله القرطبي ففيه إشارة عظيمة إلى فضيلة الأنصار. وقيل: معناه لكنت منهم في الأحكام والعداد وبه جزم الشيخ تقي الدين (¬1). وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد لولا ثواب الهجرة لكنت أختار أن يكون ثوابي ثواب الأنصار فيما أحرزوه بالنصرة، ولا يجوز أن يكون المراد النسب قطعاً. وقال ابن الجوزي في "كشف مشكل الصحيحين": إن قال قائل: كيف يتصور أن يكون -عليه الصلاة والسلام- من الأنصار وكيف أراد هذا ونسبه أفضل؟! فالجواب: أنه لم يرد تغيير النسب، ولا محو الهجرة، إذ كلاهما ممنوع من تغييره. وإنما أراد النسبة إلى المدينة والنصرة للدين. فالتقدير: لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسع تركها لانتسبت إلى داركم، قال: ثم إن لفظة لولا تراد لتعظيم الأمر وإن لم يقع، كقوله -تعالى-: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} (¬2) وهذا إنما صدر منه بياناً لفضيلتهم وحبه إياهم. التاسع عشر: "الوادي" (¬3) اسم للحفيرة. وقيل: للماء، ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 311). (¬2) سورة الأنفال: آية 68. (¬3) قال الأصفهاني في المفردات (518): أصل الوادي الموضع الذي يسيل =

والأول أشهر، وجمعه أودية، ولا نظير له في كلامهم، كما أسلفته في باب صلاة الاستسقاء. العشرون: "الشعب" (¬1) بالكسر اسم لما انقدح بين الجبلين. وقيل: هو الطريق في الجبل، وبالفتح: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذين ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. والشعب: أيضاً ما تشعب من قبائل العرب على العجم، وقصد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لسلكت وادي الأنصار وشعبها" جبرهم والتنبيه على ما حصل لهم من الإِيمان والنصرة والقناعة بالله ورسوله؛ لأن ¬

_ = فيه الماء، ومنه سمى المفرج بن الجبلين وادياً وجمعه أودية، ويستعار الوادي للطريقة كالمذهب والأسلوب فيقال فلان في وادٍ غير واديك، قال: "ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون"، فإنه يعني أساليب الكلام من المدح والهجاء والجدل والغزل ... إلخ. انظر: بصائر ذوي التمييز (5/ 192). (¬1) قال في لسان العرب (7/ 126): الشعب: ما انفرج بين جبلين، والشعب: مسيل الماء. في بطن من الأرض، له حرفان مشرفان، والشَّعْبُ: ما تَشَعَّبَ من قبائل العرب والعجم. قال ابن الأثير: الشعوب ومنها العجم ووجهه أن الشعب ما تشعب من قبائل العرب أو العجم فخُص بأحدهما. الشعب: القبائل: وحكى ابن الكلبي، عن أبيه، الشعب أكبر من القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وقيل: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. انظر: المفردات للأصفهاني (261)، ومختار الصحاح (145)، وبصائر ذوي التمييز (3/ 322).

من كان هذا وصفه فهو حقيق بأن يسلك طريقه، ويتبع حاله لما فيها من الراحة الدنيوية والأخروية والسلامة فيها. وفيه أيضاً التنبيه على فضيلة نصرة الحق وعلى تعظيم من نصره وأعان عليه وأقام منار الدين وسعى في إظهار الحق. الحادي والعشرون: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الأنصار شعار والناس دثار" الشعار: الثوب الذي يلي الجلد من الجسد. والدثار: الثوب الذي فوقه، وهذا من أحسن التشبيه، فإنه استعارة لفرط قربهم، وكأنه جعلهم بطانته وخاصته، وأنهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم. وذكر الماوردي في "حاويه" (¬1) في كتاب السير: أنه دعا لهم بعد ذلك: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار [وأبناء أبناء الأنصار] (¬2) وأن القوم بكوا إذ ذاك حتى اخضلت لحاهم، وقالوا "رضينا بالله ورسوله قسماً وحظّاً" (¬3). الثاني والعشرون: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنكم ستلقون بعدي أثرة" وفي مسلم "أثرة شديدة". والأثرة: بفتح الهمزة والثاء على الأفصح الأشهر واللغة الثانية ضم الهمزة وسكون الثاء. ¬

_ (¬1) (18/ 79). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد (3/ 76)، وانظر: مجمع الزوائد (10/ 32).

والأثرة: الاستئثار بالمشترك أي يستأئر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق. قاله النووي (¬1). وقال القرطبي: روايتنا هي الأولى. قال أبو عبيد: أي يستأثر عليكم فيفضل [(¬2)] غيركم نفسه عليكم في الفيء. والأثرة: اسم من أثر يؤثر إيثاراً. وقال الأزهري: الأثرة الإِيثار والاسم: الأثر. قال القرطبي: ورواه بعضهم بالثاني وأصل [الأثرة] (¬3) الفضل. قال أبو عبيد: يقال: له عليّ أثرة أي فضل، ومعناها قريب من الأولى. قلت: وفيه لغة ثالثة بكسر الهمز وإسكان الثاء، وهي قليلة (¬4)، قال أبو علي القالي: ومعناها الشدّة [وكان] (¬5) يتأول الحديث، ولكن التفسير السالف أظهر، وعليه الأكثر. وسياق الحديث وسببه يشهد له وهو إيثارهم المهاجرين على أنفسهم، كما ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (7/ 153). (¬2) في ن ب (زيادة عليكم). (¬3) في ن ب (الأثر). (¬4) غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 288) (2/ 58)، ولسان العرب (1/ 69)، ومختار الصحاح (10). (¬5) في ن د (وبه كان).

جاء فأثر الأنصار المهاجرين أن فضلوهم فأجابهم -عليه الصلاة والسلام- بهذا. الثالث والعشرون: هذا الحديث علم من أعلام نبوته، فإنه إخبار بما سيقع، وقد وقع على وفق ما أخبر به من الاستئثار عليهم بالدنيا، فلم ينالوا رتبة من رتب ولياتها. الرابع والعشرون: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" أصل الصبر في اللغة الحبس، ومعناه حبس النفس عن حظوظها الدنيوية رجاء للحظوظ الأخروية. فأمرهم -عليه الصلاة والسلام- بذلك لرضاه لهم بالأخرى على الأولى لعلمه وتحققه أنها خير من الأولى، كما أخبر الله -تعالى- في كتابه العزيز (¬1) عن صحف إبراهيم وموسى - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد. والجميل منه الذي لا شكوى فيه ولا جزع. ومن لم يتعاطاه ويوصي به ويقبل الوصية فهو في خسر، كما أخبر -تعالى- به من سورة العصر. الخامس والعشرون: في الحديث أن للإِمام صرف بعض الخمس على ما يراه من تفضيل الناس فيه، وأن يعطي الواحد منه الكثير وأنه يصرفه في مصالح المسلمين، وله أن يعطي الغني منه لمصلحة. ¬

_ (¬1) أي في سورة الأعلى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [سورة الأعلى: آيات 15 - 19].

السادس والعشرون: فيه أيضاً إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإِسلام منه. السابع والعشرون: [فيه أيضاً إقامة الحجة عند الحاجة إليها على الخصم كما سلف. الثامن والعشرون] (¬1): فيه أيضاً أن المؤمن إذا وجد [في] (¬2) نفسه شيئاً من فوات الدنيا وتحدث به لا ينقصه ولا يبطل ثوابه. التاسع والعشرون: فيه استحباب الخطبة للإِمام عند الأمر يحدث، سواء كان الأمر خاصّاً بقوم أو عامّاً بالناس. وذكر الماوردي في "حاويه" (¬3) في كتاب السير: أن سعد بن عبادة "دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء فأعطيت غيرهم وحرمتهم. قال: "فأين سعد من ذلك" قال: يا رسول الله! ما أنا إلَّا من قومي. قال: "فأجمع لي قومك فلما اجتمعوا خطبهم" (¬4) الحديث. الثلاثون: فيه تخصيص المخاطب بالنداء في الخطبة. الحادي والثلاثون: فيه أيضاً تذكير العاتب على فوات الدنيا بنعم الله عليه الظاهرة والباطنة، ومن جرت على يديه أو بسببه. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل ون د (من). (¬3) (18/ 78). (¬4) مسند أحمد (3/ 76، 77)، عن أبي سعيد، وانظر: مجمع الزوائد (10/ 33).

الثاني والثلاثون: فيه أيضاً الأدب مع الله في الألفاظ وتنزيلها منازلها. الثالث والثلاثون: فيه أيضاً التخصيص على طلب الهداية والألفة والغنى. الرابع والثلاثون: فيه أيضاً أن المنة لله ورسوله على الإِطلاق. الخامس والثلاثون: فيه أيضاً استعطاف العاتب وتبين الحجة لرد عتبه. السادس والثلاثون: فيه أيضاً وجوب مراعاة جانب الله -تعالى- ورسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام- وولاة الأمور العادلين وتقديمها على مصلحة نفس الإِنسان لما فيها من مصالح الدنيا والدين. السابع والثلاثون: فيه أيضاً بيان فضل الأنصار ومزيتهم على غيرهم من الناس كما سلف. الثامن والثلاثون: فيه أيضاً اتباع آثار أهل الفضل والإِحسان والتحضيض عليه. التاسع والثلاثون: فيه أيضاً تقديم جانب الآخرة على جانب الدنيا. الأربعون: فيه أيضاً الأمر بالصبر عن حظوظ الدنيا وحطامها، وما استؤثر به منها، وادخار ثواب ذلك للدار الآخرة التي لا تفنى. ***

34 - باب صدقة الفطر

34 - باب صدقة الفطر يقال: صدقة الفطر وزكاة الفطر وكلاهما نطق به الحديث الصحيح. ويقال: للمخرج فِطرة بكسر الفاء لا غير، وهي لفظة مولدة وكأنها من الفطرة التي هي الخلقة، أي زكاة الخلقة، وشرعت تطهيراً للنفس وتنمية لعملها. وقال وكيع بن الجراح: زكاة الفطر لشهر رمضان: كسجدتي السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر السجود نقصان الصلاة. قلت: وكالهدي ليس الحج والعمرة، وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أنه -عليه الصلاة والسلام-: "فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين"، رواه أبو داود بإسناد (¬1) ¬

_ (¬1) أبو داود في زكاة الفطر (1534)، وابن ماجه ليس زكاة الفطر (1/ 584)، والدارقطني في زكاة الفطر (2/ 138)، والحاكم في المستدرك (1/ 409)، والبيهقي (4/ 163)، ونصب الراية (2/ 411). وحسنه النووي في المجموع (6/ 126)، وابن قدامة في المغني (4/ 284)، وقال الدارقطني: "ليس فيهم مجروح"، وابن دقيق في الإِلمام (227، 228)، وانظر: إرواء الغليل (3/ 332).

حسن وصححه الحاكم على شرط البخاري. فإن قلت: فقد وجبت على من لا إثم عليه ولا ذنب [كالصغير] (¬1)، والصالح المحقق الصلاح، والكافر الذي أسلم قبل غروب الشمس بلحظة. قلنا: التعليل بالتطهير لغالب الناس، كما أن القصر في السفر جُوز للمشقة فلو وجد من لا مشقة عليه فله القصر. وقد قيل: إن الصيام يبقى موقوفاً لا يرتفع إلى الله -عز وجل- على معنى الرضا والقبول، إلَّا بعد إخراجها. ولها حكمة أخرى وهي إغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد، كما سلف في الحديث الذي قدمناه، وذكر المصنف في الباب حديثين: ... ¬

_ (¬1) في ن ب (على الصغير).

الحديث الأول

الحديث الأول 177/ 1/ 34 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر -أو قال رمضان- على الذكر والأنثي والحر والمملوك: صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير: قال: "فعدل الناس به نصف صاع من بر، على الصغير والكبير" (¬1). وفي لفظ: "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (1511، 1512)، ومسلم (984)، وأبو داود في الزكاة، باب: كم يؤدي في صدقة الفطر (1613، 1614، 1615)، والترمذي (675) في الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الفطر، وابن خزيمة (2393، 2395، 2397، 2403، 2404، 2409، 2411)، والطحاوي (2/ 44)، والبيهقي (4/ 159، 160، 161، 164)، والدارقطني (2/ 139، 140)، والشافعي (1/ 251)، وأحمد (2/ 5، 55، 66, 102)، وابن حبان (3304)، والدارمي (1/ 392)، وابن أبي شيبة (3/ 72). (¬2) البخاري (1503)، وأبو داود (1612) في الزكاة، باب: كم يؤدي في صدقة الفطر، والنسائي (5/ 48) في الزكاة، باب: فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين، والبيهقي (4/ 162)، وابن حبان (3303)، والبغوي (1594)، والدارقطني (2/ 139، 140).

الكلام عليه من سبعة عشر وجهاً: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. الثاني: اختلف في معنى "فرض" على قولين. أصحهما: عند الجمهور أوجب وألزم. ثانيهما: بمعنى قدّر، وهو أصله في اللغة [لكنه] (¬1) نقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب. فالحمل عليه أولى، لأن ما اشتهر في الاستعمال فالقصد إليه هو الغالب (¬2) لمن قال بالأول قال: صدقة الفطر واجبة، وهو المشهور من مذاهب العلماء [لأن] (¬3) الفرض يغلب استعماله شرعاً في هذا المعنى، وهي داخلة أيضاً في عموم قوله -تعالي-: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬4). ونقل إسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي الإِجماع في ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من ب د. (¬2) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 314): قوله: "هو الغالب"، أقول: وذلك لأن الحقيقة العرفية مقدمة على اللغوية، إلَّا أنه قد يقال: أول ما تكلم به - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن قد تعورف أنه بمعنى الإِيجاب، لأن الفرض أن هذا أول إطلاقه، إلَّا أنه يقال: قد سبق عرف الشارع بذلك بمثل هذا اللفظ، وما أعز دليل هذه الدعوى، ولكن في قوله: "حق واجب" ما يوجب حمل فرض على الإِيجاب. اهـ. وهذا استدلال من حديث سيأتي بعد تعليق. (¬3) في ن ب (ألا إن). (¬4) سورة البقرة: آية 110. (¬5) انظر: الفتح (3/ 367)، والسنن الكبرى (4/ 159)، والحاوي =

ومن قال بالثاني قال: إنها سنَّة (¬1)، وبه قال بعض أهل العراق وداود (¬2) في آخر أمره، وابن اللبان من الشافعية، والقولان لمالك، والمشهور منهما الأول، وإن كان بعض شيوخه المتأخرين كان يعتقد أن مشهور مذهبه الثاني، كما نبه عليه الفاكهي. ¬

_ = (4/ 376). قال الصنعاني في الحاشية (3/ 313): أقول: نقل ابن المنذر وغيره الإِجماع على وجوبها, لكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرض. على قاعدتهم من التفرقة -كما سيذكره المصنف- وفي نقل الإِجماع في ذلك نظر، لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الأصم، قالا: إن وجوبها نسخ، واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن عبادة -وسيأتي تخريجه- قال وتعقب بأن في إسناده راوياً مجهولاً، وعلى تقدير الصحة فلا دليل على النسخ للاكتفاء بالأمر الأول، لأن نزول فرض لا ينسخ فرض آخر. اهـ. (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 313): قوله: "وذهب بعضهم إلى عدم الوجوب"، أقول: نقله المالكية عن أشهب فقال: إنها سنة مؤكدة، وهو قول بعض الظاهرية وابن اللبان من الشافعية، ولم يذكر لهم دليل يوجب تأويل فرض مقَدَّر كما قال الشارح، فإنه لا يؤول اللفظ ويخرج عن ظاهره إلاَّ بدليل، وكأنهم يقولون هو لغة التقدير، ولا يثبتون أنه نقل شرعاً إما لعدم قولهم بالحقيقة الشرعية كما هو قول طائفة من الأصوليين حينئذٍ فلا ينبغي أن يقال: تأولوا "فرض" بل هو معناه اللغوي، ولم ينقل عنه، ولكنه يؤيد نقله حديث ابن عباس عند الحاكم بلفظ: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر صارخاً ببطن مكة ينادي: إن صدقة الفطر حق واجب". أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وانظر كلام ابن عبد البر في الاستذكار (9/ 351) على قوله: "فرض". (¬2) انظر: الاستذكار (9/ 350)، والتمهيد (14/ 323).

وقال أبو حنفية: هي واجبة لا فرض (¬1) على قاعدته في التفرقة بينهما. وأغرب بعضهم فقال: إنها منسوخة بالزكاة (¬2) وهو غلط صريح. ثم اختلفوا هل وجبت بعموم آي الزكاة أو بغيرها؟ وذلك الغير هل هو الكتاب وهو قوله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} (¬3)، أي -صلاة العيد- أو السنَّة. فيه خلاف لأصحابنا حكاه الماوردي (¬4). والمشهور أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة عام فرض رمضان، وفي "سنن النسائي" و"ابن ماجه" و"صحيح الحاكم" عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت: "لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله" (¬5). قال الحاكم: [حديث] (¬6) صحيح على شرط الشيخين، وهو دال على وجوبها بالسنَّة، ولا دلالة فيه على إسقاطها, لأنه سبق الأمر به، والأصل بقاؤه. ¬

_ (¬1) انظر التعليق ما قبل هذا. (¬2) انظر: الاستذكار (9/ 349). (¬3) سورة الأعلى: آيتان 14، 15. (¬4) الحاوي (4/ 377، 378). (¬5) النسائي في الزكاة (5/ 49)، وابن ماجه في الزكاة (1828)، وأحمد (6/ 6)، وعبد الرزاق (5801)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 85)، وأبو يعلى (1434). (¬6) زيادة من ن ب د.

الوجه الثالث: اختلف العلماء في وقت وجوبها على أربعة أقوال. أصحها: عندنا وعند المالكية تجب بغروب الشمس ليلة عيد الفطر، وهو مذهب أحمد أيضاً (¬1). ¬

_ (¬1) قال في الحاشية (3/ 314): وهو المعتمد عند الشافعية، قالوا: لأنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، فكانت عند تمام صومه، قالوا: فتخرج عمن مات بعد غروب الشمس. اهـ. قال البهوتي في الروض مع الحاشية (3/ 279): "وتجب" الفطرة "بغروب الشمس ليلة" عيد "الفطر" لإِضافتها إلى الفطر، والإِضافة تقتضي الاختصاص والسببية، وأول ما يقع فيه الفطر من جميع رمضان، مغيب الشمس من ليلة الفطر. اهـ. وقال في فتح الباري (3/ 368): قوله: "زكاة الفطر" زاد مسلم من رواية مالك عن نافع "من رمضان" واستدل به على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر لأنه وقت الفطر من رمضان، وقيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد، لأن الليل ليس محلاً للصوم، وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر، والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك، والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك، ويقويه قوله في حديث الباب: "وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة"، قال المازري: قيل إن الخلاف ينبني على أن قوله: "الفطر من رمضان" الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطارىء بعد فيكون بطلوع الفجر. وقال ابن دقيق العيد: الاستدلال بذلك لهذا الحكم ضعيف لأن الإِضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب، بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان، وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر. اهـ. ثم أشار إلى "باب الصدقة قبل العيد"، قال ابن =

وثانيها: تجب بطلوع الفجر ليلة العيد، وبه قال أبو (¬1) حنيفة. وثالثها: تجب بمجموع الوقتين، وهذا القول خرجه صاحب "التلخيص"، وأنكره الأصحاب. ورابعها: تجب بطلوع شمس يوم العيد، وهو محكي في مذهب مالك، حكاه القرطبي وغيره، ولم يطلع عليه ابن العطار في شرحه، فقال: لا أعلم أحداً قال بوجوبها بالطلوع، وعندهم أيضاً قول آخر أنها تجب وجوباً موسعاً من الغروب إلى الطلوع. وحكى عندهم الأول والثاني أيضاً، فهذه أربعة أقوال عندهم، وعندنا الثلاثة الأُول فقط. ¬

_ = التين: أي قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، وبعد صلاة العيد، وبعد صلاة الفجر. وقال ابن عيينة في تفسيره: عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته، فإن الله بقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)}، ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية: فقال: نزلت في زكاة الفطر". اهـ. من الفتح (3/ 375). وقد ضعف هذا الحديث الشيخ ابن باز في تعليقه على الفتح قائلاً: "هذا الحديث ضعيف الإِسناد، لأن كثيراً ضعيف جدّاً عند أهل الحديث. (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 314): وعلله الرافعي بأنها قربة متعلقة بالعيد فلا تتقدم على العيد كالأضحية "وهو مردود" فإن وقت العيد من طلوع الشمس، ولأن الليل ليس محلاًّ للصوم، وهنا نسخة من شرح العمدة بلفظ "طلوع الشمس" بدلاً عن طلوع الفجر، والهادية تقول من طلوع الفجر، واستدلوا بحديث: "أغنوهم في هذا اليوم" إلَّا أنه حديث تكلموا على ضعفه وهو أيضاً كلام الحنفية والليث والشافعي في القديم.

وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما إذا ولد له ولد أو تزوج امرأة أو ملك عبداً أو باعه أو أسلم عبده الكافر أو مات فيما بين هذه الأزمان ولا يخفى عليك تفريعه وارتداد الزوج والرقيق وطلاقها البائن كالموت، وسبب هذا الخلاف أن الشرع قد أضاف هذه الزكاة للفطر، وهل هو الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب من وقت الغروب أو الفطر المعتاد في كل يوم فيكون من طلوع الشمس أو المراد أول الفطر المأمور به يوم الفطر، فيكون من طلوع الفجر. وقال ابن قتيبة: معنى صدقة الفطر أي صدقة النفوس. والفطرة أصل الخلقة، وهذا بعيد بل مردود (¬1)، كما قال القرطبي بقوله في رواية لمسلم: "صدقة الفطر من رمضان". وقال الشيخ تقي الدين (¬2): قوله "صدقة الفطر" أو قال: "رمضان" وفي رواية أخرى "من رمضان" قد يتعلق به من يرى أن وقت الوجوب غروب الشمس من ليلة العيد، وقد يتعلق به من يرى أن وقت الوجوب طلوع [شمسه] (¬3) من يوم العيد وكلاهما ضعيف. لأن إضافتها إلى الفطر من رمضان (¬4) [لا يستلزم أنه وقت الوجوب، ¬

_ (¬1) انظر: الفتح (3/ 367) باب: فرض صدقة الفطر. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 314). (¬3) في إحكام الأحكام (الفجر). (¬4) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 315) بعد ذكره لحديث ابن عمر: "أمر بصدقة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"، فإنه دال على أن وقت الإِخراج قبل صلاة العيد، ويحتمل تقدم الإِيجاب، وأما تعقب =

بل يقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر في رمضان] (¬1)، فيقال حينئذٍ: [بالوجوب] (¬2) بظاهر لفظة: "فرض" ويؤخذ وقت الوجوب من أمر آخر. الرابع: قوله: "على الذكر والأنثى والحر والمملوك" (¬3) [يقتضي] (¬4) هذا اللفظ وجوب إخراج الفطرة عن هؤلاء المذكورين وإن كانت لفظة "على" [يقتضي] (¬5) الوجوب عليهم أنفسهم ظاهراً. وقد اختلف الفقهاء في الذي يخرج عنهم هل باشرهم الوجوب أو لا؟ والمُخرِج عنهم يتحمله أو الوجوب يلاقي المخرج أو لا؟ ¬

_ = العراقي الشارح، بأنه لا معنى لإِضافتها إلى الفطر إلاَّ أنه وقت الوجوب فضعيف. اهـ. محل المقصود منه. (¬1) زيادة من ن ب د، وإحكام الأحكام. (¬2) في إحكام الأحكام (بالوجوب). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (3/ 368): ظاهره إخراج العبد عن نفسه ولم يقل به إلَّا داود فقال: يجب على السيد أن يمكن العبد من الاكتساب لها كما يجب عليه أن يمكنه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس، واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً: "ليس في العبد صدقة إلَّا صدقة الفطر" أخرجه مسلم, وفي رواية له: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة، إلَّا صدقة الفطر في الرقيق" وقد تقدم من عند البخاري قريباً بغير الاستثناء، ومقتضاه أنها على السيد، وهل تجب عليه ابتداء أو تجب على العبد ثم يتحملها السيد؟ وجهان للشافعية، إلى الثاني نحا البخاري كما سيأتي في الترجمة التي تلي هذه. اهـ. انظر: الحاشية (3/ 315). (¬4) في ن ب د (مقتضى). (¬5) في ن ب (مقتضى).

وهما وجهان عندنا وقيل: قولان مستنبطان أصحهما أولهما فمن قال به أخذ بظاهر الحديث حملاً للفظة "علي" على مقتضاها. ومن قال بالثاني تأول لفظة "على" بمعنى "عن" وهذا الخلاف له فوائد فروعية ذكرتها في "شرح المنهاج" وغيره. الخامس: قوله: "على الذكر والأنثى". تقتضي أيضاً الإِخراج عن كل غني أو فقير ممن تعلق الوجوب به وهو كونه: "من المسلمين" (¬1) كما قيد في الصحيح خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه، حيث قالوا: لا تلزم من يحل له أخذها. السادس: مقتضاه أيضاً الإِخراج عن الصغير وبه صرح في آخره، ولا خلاف عند من يقول: إنها تخرج بسببه أن وليه هو الذي يخاطب بإخراجها إذ الصبي لم يجر عليه بعد قلم التكليف. قال ابن بزيزة: وهو قول جمهور العلماء. قال: وجمهورهم على أنها غير واجبة على الجنين في بطن أمه. ومن شواذ الأقوال إخراجها عنه، قال: وروينا عن عثمان وسليمان بن يسار أنهما كانا [يخرجانها] (¬2) عنه (¬3). ¬

_ (¬1) قال في الفتح (3/ 369): فيه رد على من زعم أن مالكاً تفرد بها، وانظر تقريره على هذا الزيادة في الفتح (3/ 369، 370)، حيث صحح هذه الزيادة وأنها وردت من عدة طرق، عمر بن نافع والضحاك، وغيرهم. انظر: التمهيد (14/ 312، 316). (¬2) في ن د (يخرجاها)، ون د (يخرجها). (¬3) نقل عن عثمان -رضي الله عنه- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 63)، والإِمام أحمد في مسائل ابنه عبد الله (170)، ونقله ابن قدامة =

ونقل عن قوم من السلف أنه إذا كمل الجنين في بطن أمه أربعة أشهر قبل الفجر وجب الإِخراج عنه، وإنما خص الأربعة أشهر بذلك للاعتماد على حديث ابن مسعود (¬1) أن الخلق يجمع في بطن أمه أربعين يوماً. [الوجه] (¬2) السابع: مقتضاه أيضاً الإِخراج عن البادي كالحاضر وهو مذهب الجمهور وخالف الليث وربيعة والزهري وعطاء، فقالوا ¬

_ = في المغني (4/ 316) ولم يعزه، وضعف الألباني ما ورد في ذلك في الإِرواء (3/ 331). والصدقة عن الجنين غير واجبة وإنما هي مستحبة. قال ابن قاسم في حاشية الروض (3/ 277): واتفق عليه الأئمة الأربعة وغيرهم، وعن أبي قلابة: كان يعجبهم الفطر عن الحمل، في بطن أمه. اهـ. (¬1) البخاري (6594، 7454، 3208، 3332)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708) في السنَّة، باب: في القدر، والترمذي (2137) في القدر، باب: ما جاء في أن الأعمال بالخواتيم، والنسائي في الكبرى (6/ 336) ح (11246/ 1) باب: قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}، وابن ماجه (76)، وابن أبي عاصم في السنَّة (175)، والبغوي في السنَّة (71)، وابن حبان (6174)، وأبو يعلى (57/ 5)، وأحمد (1/ 414). قال ابن حجر في الفتح (3/ 369): ونقل ابن المنذر الإِجماع على أنها لا تجب على الجنين، قال: وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه، ونقل بعض الحنابلة رواية عه بالإِيجاب، وبه قال ابن حزم لكن قيده بمائة وعشرين يوماً من حمل أمه به، وتعقب بأن الحمل غير محقق، وبأنه لا يسمى صغيراً لغة ولا عرفاً. اهـ. (¬2) في جميع النسخ (الحديث)، وما أثبت من المصحح.

وجوبها خاص بأهل الحاضرة والقرى دون أهل العموم والخصوص (¬1). الثامن: ذهب الجمهور إلى وجوب إخراجها على الزوج، وخالف الكوفيون فقالوا: إنما يجب عليها وهو مقتضى الحديث. وأجاب الجمهور عنه: بأن "على" بمعنى "عن" أو أنها وجبت عليها ثم تحملها الزوج. التاسع: قوله "والحر والمملوك" ذهب الجمهور إلى أن المملوك ليس مخاطباً بها, لأنه لا شيء له ولو كان له مال فسيده قادر على انتزاعه. وخالف داود (¬2) فأوجبها عليه تمسكاً بهذا الحديث. وقال: على سيده أن يتركه لاكتسابها كما لا يمنعه من صلاة الفرض. وأجاب الجمهور: بما تقدم في فطرة الزوجة. وإذا قلنا بقولهم: فهل يخاطب السيد بإخراجها عنه أم لا؟ جمهورهم أيضاً على أنه يجب عليه ذلك، لأنه يلزمه نفقته ومؤنته، وهذه من جملة المؤن، فإن المخاطب بإخراجها مكلف الواجد لها حين الوجوب عن نفسه وعن من تلزمه نفقته (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (3/ 371): واستدل بعموم قوله: "من المسلمين" على تناولها لأهل البادية خلافاً للزهري والليث وربيعة في قولهم: "إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة"، وانظر: الإِقناع لابن المنذر (1/ 184). (¬2) انظر: الاستذكار (9/ 336). (¬3) انظر هذه المسألة وما قبلها في الفتح (3/ 368، 369)، والتمهيد (14/ 332).

فرع: لو كان لعبده عبد. قال ابن بريزة: اختلف الفقهاء في لزوم إخراجها عنه، والصحيح نعم، لأن الكل ملكه (¬1). فرع: لو انقطع خبر عبده فالأصح عندنا وجوب إخراج فطرته في الحال. ومذهب مالك الوجوب، وإن كانت الغيبة قريبة مرجوة. وقال قوم: تجب مطلقاً لبقاء الملك. ونقل الفاكهي عن الشافعي أنها لا تؤدى عنه مطلقاً، لما يتطرق إليه من الإِغرار واحتمال الحياة والموت قال وهو أصله في منع بيع الغائب على الصفة، وهذا عجيب، فهذا قول ضعيف عنده. والصحيح من مذهبه ما قدمناه. العاشر: "الصاع": مكيال معروف. وقد تقدم ذكره [وضبطه] (¬2) في آخر باب الجنابة. وأن الأصح أنه خمسة أرطال وثلث، وخالف أبو حنيفة فجعله ثمانية أرطال. واستدل مالك بنقل الخلف عن السلف بالمدينة، وهو استدلال قوي صحيح في مثل هذا, ولما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد في هذه المسألة رجع أبو يوسف إلى قوله لما استدل بذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (9/ 369). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) قال في الحاشية (3/ 316)، على قوله: "ولما ناظر ... إلخ" أقول: لما حج هارون الرشيد ومعه أبو يوسف حصل بينه وبين مالك مناظرة في =

فرع: الصواب اعتماد الكيل في الصاع، وأبعد من اعتمد فيه الوزن. الحادي عشر: قوله: "صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير" "من" فيه لبيان الجنس المخرج. قال القاضي عياض: واختلف في النوع المخرج، فأجمعوا على أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير، إلَّا خلافاً في البر لا يعتد به، وخلافاً في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإِجماع، مردود قوله به. وأما الإِقط فأجازه مالك والجمهور (¬1). ومنعه الحسن: وهو قول للشافعي. وقال أشهب: لا يخرج إلاَّ هذه الخمسة. وقاس مالك (¬2) على هذه الخمسة كل ما هو عيش أهل بلد من ¬

_ = تقدير الصاع، لأن أبا حنيفة يقول: إنه ثمانية أرطال بالعراقي، فأحضر أهل المدينة صيعانهم كل يقول: هذا صاعي أخبرني أبي عن جديّ أنه أتى بصدقة الفطر به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعاير هارون الرشيد فكانت خمسة أرطال وثلث، فرجع أبو يوسف إلى ذلك. وأخرج الدارقطني أيضاً من رواية إسحاق بن سليمان الرازي في السنن (2/ 151)، قال صاحب التعليق المغني: قال صاحب التنقيح: إسناده مظلم ورجاله غير مشهورين. ثم قال: والمشهور ما أخرجه البيهقي، عن الحسين بن الوليد القرشي وهو ثقة ... إلخ -أي ما ذكر بعالية-. (¬1) التمهيد لابن عبد البر (14/ 138). (¬2) المرجع السابق: وقال ابن قاسم في حاشية الروض (3/ 287): وعنه يجزىء. كل حب وثمر يقتات، ولو لم تعدم الخمسة، اختاره الشيخ =

القطاني وغيرها، وعن مالك قول آخر أنه لا يجزىء غير المنصوص في الحديث. وما في معناه ولم يجز عامة العلماء إخراج الزكاة في القيمة وأجازه أبو حنيفة (¬1). ¬

_ = وغيره، وقال: وهو قول لجمهور العلماء، مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واحتج بقوله: "من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وبقوله: "صاع من طعام" والطعام قد يكون برّاً، أو شعيراً، وقال أيضاً: يخرج من قوت أهل بلده، مثل الأرز وغيره، ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث، وهو رواية عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وقال في موضع آخر: هو قول أكثر العلماء، وهو أصح الأقوال، فإن الأصل في الصدقات، أنها نجب على وجه المساواة للفقراء، وذكر الآية والحديث، ثم قال: لأن هذا كان قوت أهل المدينة، ولو كان هذا ليس قوتاً لهم، بل يقتاتون غيره, لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه. اهـ. الفتاوى (25/ 68، 69) (10/ 410) (22/ 326) (21/ 205). وقال ابن القيم وغيره: وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصود سد خلة المساكين ليوم العيد، ومواساتهم، من جنس ما يقتات أهل بلدهم، لقوله: "اغنوهم في هذا اليوم". اهـ، من أعلام الموقعين (3/ 12). وصحح النووي أنه يتعين عليه غالب قوت بلده. اهـ. (¬1) قال عبد المعطي العجلوني محقق كتاب المعرفة للبيهقي (6/ 190)، ناقلاً مذاهب الفقهاء في هذه المسألة: قال الجمهور: تؤدي زكاة الفطر من الحبوب والثمار المقتات صاع، ويعادل (751, 2 كلغ)، وقال الحنفية: تجب زكاة الفطر من أربعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقدرها نصف صاع من حنطة، أو صاع من شعير أو تمر أو زبيب، ويجوز عندهم أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير، لأن الواجب أغناه الفقير لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم"، والإِغناء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يحصل بالقيمة، بل أتم وأوفر وأيسر، لأنها أقرب إلى دفع الحاجة فتبين أن النص معلل بالإِغناء. وقال الجمهور: لا يجزىء إخراج القيمة عن هذه الأصناف، فمن أعطى القيمة لم تجزئه، لقول ابن عمر: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر صاعاً من تمر، وصاعاً من شعير" فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض. وإخراج المال هو قول جماعة من الصحابة والتابعين، منهم الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وهو مذهب الثوري، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، واختاره من الحنفية الفقيه أبو جعفر الطحاوي، وبه العمل والفتوى عندهم في كل زكاة، وفي الكفارات والنذور والمحراج وغيرها، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، كما هو مذهب بقية أهل البيت، أعني القيمة عند الضرورة، وجعلوا منها: طلب الإِمام المال بدل المنصوص وهو قول جماعة من المالكية كابن حبيب، وأصبغ، وابن أبي حازم، عيسى بن دينار بن وهب المالكي، وانظر: التمهيد (4/ 139)، والاستذكار (9/ 361). وبوَّب ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 174): "إعطاء الدراهم في زكاة الفطر" وأورد آثاراً في ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وعن الحسن البصري وعن أبي إسحاق السبيعي. وألَّف أحمد بن محمد الغماري من علماء المغرب رسالة لطيفة، أسماها: "تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال مستدلاًّ بالآتي: الوجه الأول: أن الأصل في الصدقة المال، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فالمال هو الأصل، وبيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج، لا لتقييد الواجب وحصر المقصود فيه. الوجه الثاني: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً حين خرج إلى اليمن بالتيسير على الناس، فكان معاذ يأخذ الثياب مكان الذرة والشعير، لأنه أهون عليهم، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال: ائتوني بعرض ثياب خمس أو لبيس في الصدقة فكان الشعير الذرة، ثم قال: وخير لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. انظر: البخاري (3/ 311)، والخراج ليحيى بن آدم (147)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/ 181)، وغيرها .. وكان علي -رضي الله عنه- يأخذ في الجزية من أهل المال. وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد أن يحاسب نفسه لما حبسه فيما يجب عليه من أعتد وأدراع، فدل على جواز إِخراج القيمة في الزكاة، وفي إِخراج الشاة عن خمس من الإِبل، دليل على أن المراد قدرها من المال. وقاله العيني في عمدة القاري (9/ 8) تعليقاً على حديث ابن لبون: لا مدخل له في الزكاة إلَّا بطريق القيمة لأن الذكر لا يجوز في الإِبل إلا بالقيمة ولذلك احتج به البخاري أيضاً في جواز إخراج القيمة مع شدة مخالفته للحنفية. الوجه الثالث: وفيه بيان أنه إذا ثبت جواز أخذ القيمة سمي الزكاة المفروضة في الأعيان فجوازها في الرقاب أولى وهي صدقة الفطر. الوجه الرابع: وفي حديث: "أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التمر والشعير صاعاً، ومن البر نصف صاع" دليل على أنه اعتبر القيمة. الوجه الخامس: ثم أورد المصنف أدلة على أن الصحابة فهموا اعتبار القيمة ومراعاة المصلحة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر ما ذكره في الكتاب. انظر: مغني المحتاج (1/ 405، 407)، والمهذب (1/ 165)، وبدائع الصنائع (2/ 72)، والفتاوى الهندية (1/ 179)، وفتح القدير (2/ 36، 41)، والكتاب مع اللباب (1/ 147/ 160)، وتبيين الحقائق (1/ 308)، والشرح الصغير (1/ 675)، وبداية المجتهد (1/ 272)، والقوانين الفقهية (112)، والمغني (3/ 60، 65)، وكشاف القناع (2/ 295، 297)، والفقه على المذاهب الأربعة (1/ 627، 630)، والفقه الإِسلامي وأدلته =

وقال أصحابنا: جنس الفطرة فكل حب معشر، وكذا الإِقط على الأظهر كما تقدم، وأصح الأوجه أنه يتعين غالب قوت بلده. وقيل: قوته. وقيل: يخير بين الأقوات لظاهر "أو" المذكورة. وأجاب الأولون: عن ذلك لأنها للتنويع كما في قوله -تعالى-: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ...} الآية (¬1) ويجزىء [الأعلى عن الأدنى] (¬2) ولا عكس، والاعتبار بزيادة الاقتيات [لا القيمة في الأصح] (¬3). الثاني عشر: قوله: "فعدل الناس به نصف صاع من بر" الضمير من "به" عائد على التمر، وهو مذهب أبي حنيفة، وجماعة (¬4) من السلف في البر، وأنه يخرج نصف صاع. قال القرطبي: واحتجوا بأحاديث لم يصح عند أهل الحديث شيء منها، وكذا قال النووي (¬5) وأنّ ضعفها بين. وخالفهم الجمهور، فقالوا: الواجب من ذلك صاع أيضاً, ¬

_ = (2/ 909، 911)، ورؤوس المسائل (211)، والمبسوط (2/ 156)، والمجموع (5/ 402)، وفتح الباري (3/ 311). (¬1) سورة المائدة: آية 33. (¬2) في الأصل تقديم وتأخير. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) انظر: الاستذكار (9/ 361). (¬5) شرح مسلم (7/ 60).

لحديث أبي سعيد الآتي (¬1) لأن فيه: "صاعاً من طعام" وهو البر كما سيأتي، ولأنه ذكر أشياء قيمتها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعاً. فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته. وقوله: "فعدل الناس به" هو معاوية كما ستعلمه في الحديث الآتي. قال القاضي عياض: ولم يقل بذلك معاوية في كل بر، وإنما قاله في سمراء الشام (¬2) [وخالفهم الجمهور، فقالوا: الواجب من ذلك صاع أيضاً، لحديث أبي سعيد الآتي، لأن فيه صاعاً من طعام، وهو البر كما سيأتي، ولأنه ذكر أشياء فيها] (¬3). الثالث عشر: قوله في لفظ "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" يعني إلى صلاة عيد الفطر. وبهذا قال جمهور العلماء واستحبوه، وليستغني بها المساكين عن السؤال في ذلك اليوم، ويتفرغ قلبهم لما هم بصدده من العبادات، وهو سر الحديث المرفوع: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" (¬4) وكرهوا تأخيرها عن ¬

_ (¬1) انظر: حاشية إحكام الأحكام (3/ 317، 318). (¬2) في ن ب د زيادة (لما فيها من الريع). وهذه الزيادة مثبتة في إكمال إكمال المعلم (3/ 119). (¬3) في ن ب د ساقطة. (¬4) الدارقطني (2/ 153)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (131)، والبيهقي (4/ 175)، والأموال لابن زنجويه (1251)، وضعفه النووي في المجموع (6/ 126)، والحافظ في بلوغ المرام (159) باب: صدقة الفطر، قال: ولابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف ثم ساقه، والمغني =

يوم الفطر، ورخص بعضهم في تأخيرها، وقاله مالك وأحمد. قال القرطبي: ومشهور مذهب مالك أن آخر يوم الفطر آخر وقت أدائها (¬1)، وما بعد الفطر وقت قضائها. ومذهب الشافعي والجمهور: أنه يحرم (¬2). تأخيرها عن يومه، ¬

_ = (4/ 293، 298، 301)، والحافظ في تلخيص الحبير (2/ 183)، وسكت عنه، والحديث تكلم على إسناده البيهقي (4/ 175)، وابن حزم من أجل أبي معشر هذا، وهو نجيح السندي. انظر: تهذيب التهذيب (10/ 419)، وتقريبه (2/ 298)، والضعفاء لابن الجوزي (3/ 157)، ونصب الراية (2/ 432)، حيث ذكر أن ابن عدي أخرجه في الكامل، وأعله بأبي معشر وأيضاً ابن حجر في الفتح (3/ 375)، وضعفه الألباني في الإِرواء (3/ 332). (¬1) قال ابن حجر في الفتح (3/ 375): ودل حديث ابن عمر على أن المراد بقوله: "يوم الفطر" أي أوله، وهو ما بين صلاة الصبح إلى صلاة العيد، وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار، ثم ساق حديث ابن عمر: "كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي، فإذا انصرف قسمه بينهم وقال: "اغنوهم عن الطلب"، أخرجه سعيد بن منصور، ولكن أبا معشر ضعيف. اهـ. وضعفه في مختصر البدر المنير ح (811). (¬2) قال في زاد المستنقع مع شرحه وحاشيته (3/ 282): "وتكره في باقيه" أي باقي يوم العيد، بعد الصلاة. قال في الحاشية: "لمخالفة الأمر، وخروجاً من الخلاف في تخريجها". وقال شيخ الإِسلام وغيره: "إن أخرها بعد صلاة العيد، فهي صدقة من الصدقات". اهـ. قال ابن القيم: بعد بيانه بالأدلة وقتها: ومقتضى قوله: "من أداها قبل الصلاة ... إلخ: أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنها تفوت =

فلو أخرها بالنية وعينها لمستحقيها ولم يتفق له قبضها جاز، لأنه لم يؤخر عن يوم العيد في المعنى، نصّ على ذلك أصحابنا كما نقله عنهم ابن العطار في شرحه، ولا يحضرني من نقله ذلك عنهم غيره. فرع: يجوز عندنا تعجيل الفطرة من أول رمضان ويمتنع قبله (¬1). وعند المالكية: حكاية قولين في جواز تقديمها بيوم أو يومين أو ثلاثة. وفي الموطأ عن ابن عمر: أنه كان يؤديها قبل الفطر بيومين ¬

_ = بالفراغ في الصلاة، وصوبه، وقال قواه شيخنا ونصره. اهـ. انظر: زاد المعاد (1/ 151)، وبدائع الفوائد (4/ 70). ويحرم إذا أخرها عمداً، وقال ابن رشد: تأخيرها عن يوم العيد حرام بالاتفاق، وقال ابن الوزير: اتفقوا على أنها لا تسقط عمن وجبت عليه بتأخير، وهي دين عليه، حتي يؤديها. اهـ، من حاشية الروض. (¬1) عند الشافعية: يجوز تعجيل زكاة الفطر من أول رمضان، لأنها تجب بسببين: صوم شهر رمضان، والفطر منه، فإذا وجد أحدهما جاز تقديمها على الآخر. انظر: المهذب (1/ 165)، ومغني المحتاج (1/ 401)، والمجموع (6/ 118). وعند الحنفية: يجوز تقديمها مطلقاً قبل رمضان. انظر: تبيين الحقائق (1/ 310)، والفتاوى الهندية (1/ 179)، وفتح القدير (2/ 41)، وتحفة الفقهاء (1/ 519)، وحلية العلماء (3/ 108)، وبدائع الصنائع (2/ 74). أما المالكلية والحنابلة: فيجوزون تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين لا أكثر لفعل ابن عمر -الآتي تخريجه بعد هذا- ولا تجزىء قبل ذلك ولأن ذلك هو المأمور به بقوله -اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم- وهي متعلقة بالعيد، بخلاف زكاة المال.

أو ثلاثة (¬1). الرابع عشر: يؤخذ من الحديث جواز قول "رمضان" من غير إضافة إلى شهر من غير كراهة. واختلف السلف في كراهته. والأصح: لا كراهة، سواء كان هناك قرينة أو لم يكن. وقيل: يكره وفيه حديث لكنه ضعيف (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (1551)، والموطأ (1/ 285) في الزكاة، باب: وقت إرسال زكاة الفطر، والسنن الكبرى (4/ 175)، والصغرى له (2/ 66)، والمعرفة له (6/ 204). (¬2) ولفظه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: "لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله -تعالى-، ولكن قولوا شهر رمضان" موضوع آفته أبو معشر نجيح. اهـ. انظر: الآلىء المصنوعة (2/ 97، 98)، وتنزيه الشريعة (2/ 153)، وأخرجه البيهقي في السنن (4/ 201، 202)، وضعفه، وقال ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 187): هذا حديث موضوع لا أصل له ... إلخ. وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة: آية 185 بعد تضعيفه، قال: وقد وهم في رفع هذا الحديث ... إلخ. وأيضاً نقل هذا ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه (1/ 249)، فقال: هذا خطأ إنما هو قول أبي هريرة. اهـ. وضعفه ابن حجر في الفتح (4/ 113)، وانظر: الكامل لابن عدي (7/ 2517)، وقد أورده تمام في فوائده من رواية ابن عمر (2/ 162) أيضاً، وورد من رواية عائشة كما أشار إليها صاحب الآلىء المصنوعة وتنزيه الشريعة، وأيضاً ورد أثر عن مجاهد كما ذكره الخطابي في شأن الدعاء (109، 110)، وأيضاً أورده الطبري في تفسيره بإسناده سورة البقرة: آية 185، وقد =

وقيل: إن كان هناك قرينة تدل على الشهر لم يكره وإلاَّ كره. الخامس عشر: فيه أيضاً وجوب إخراج الصاع من كل نوع يخرج كما سلف بالخلاف فيه. السادس عشر: فيه أيضاً أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد كما سلف. وأن الأفضل إخراجها قبل الخروج إلى المصلَّى وتأخيرها عن الخروج مكروه عند أبي الطيب. وقال البندنيجي: يكون تاركاً للأفضل. السابع عشر: فيه أيضاً أن الاجتهاد والعمل به لا ينعقد مع وجود النص أو الظاهر المعمول به. فإنه تُرك اجتهاد معاوية في تعديل البر، وعمل بالنص أو الظاهر الموصوف، كما سيأتي في الحديث بعده. [الثامن عشر] (¬1): قال [المازري] (¬2) قوله في رواية مسلم: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زكاة الفطر من رمضان"، إلى آخره فيه دلالة لمن يقول لا تجب إلَّا على من صام رمضان، ولو يوماً واحداً، لأنها طهرة للصائم من اللغو والرفث. ¬

_ = انتصر البخاري -رحمه الله- في صحيحه لجواز إطلاق رمضان بدون إضافة الشهر. انظر: فتح الباري (4/ 113)، وبدائع الفوائد (2/ 104)، والأذكار للنووي (331) ومعجم المناهي (172). (¬1) في ن ب د (تنبيه). (¬2) في الأصل (الماوردي)، وما أثبت من ن ب د وهو الصواب. المعلم (2/ 13).

خاتمتان [الأولى] (¬1): لا تخرج الفطرة إلَّا عن مسلم، فلا يلزم المسلم فطرة العبد والقريب والزوجة الكفار، وبه قال مالك والشافعي والجمهور. وقال الكوفيون وبعض السلف: يجب على العبد الكافر. قال النووي في "شرح المهذب" (¬2): ولا خلاف في ذلك عندنا (¬3). قلت: قد حكى القاضي حسين وجهاً: أن المسلم يخرج الفطرة عن العبد الكافر (¬4) بناء على أن الوجوب يلاقي السيد أولاً ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) المجموع (6/ 106)، والحاوي (4/ 379). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (3/ 371): قال الطيبي: قوله "من المسلمين" حال من العبد وما عطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنها جاءت مزدوجة التضاد للاستيعاب لا للتخصيص، فيكون المعنى فرض على جميع الناس من المسلمين، وأما كونها فيما وجبت وعلى من وجبت؟ فيعلم من نصوص أخرى. اهـ. (¬4) وقال أيضاً: نقل ابن المنذر أن بعضهم احتج بما أخرجه من حديث ابن إسحاق: "حدثني نافع أن ابن عمر كان يخرج عن أهل بيته حرهم وعبدهم وصغيرهم وكبيرهم مسلمهم وكافرهم من الرقيق"، قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث، وتعقب بأنه لو صح حمل على أنه كان يخرج عنهم تطوعاً ولا مانع منه. وقال أيضاً في (3/ 369): واتفقوا على أن الزوج لا يخرج عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزمه. اهـ. وانظر التعليق (15). وقال أيضاً (3/ 370): واستدل بهذه الزيادة على اشتراط الإِسلام في =

وهو من أهله وطرده في "التتمة" في الزوجة والقريب، حكاه عنهما ابن الرفعة في "كفايته". وتأول الطحاوي قوله: "من المسلمين" في الحديث الصحيح: على أن المراد به السادة دون العبيد، وهو مردود بظواهر الأحاديث (¬1). الثانية: لا تجب (¬2) الفطرة عند الشافعي والجمهور إلَّا على من ملك فاضلاً عن قوته وقوت عياله يوم العيد. واعتبر أبو حنيفة النصاب. ¬

_ = وجوب زكاة الفطر ومقتضاه أنها لا تجب على الكافر عن نفسه وهو أمر متفق عليه إلى أن قال: وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا، خلافاً لعطاء والنخعي والثوري والحنفية وإسحاق، واستدلوا بعموم قوله: "ليس على المسلم في عبده صدقة إلَّا صدقة الفطر" وقد تقدم وأجاب الآخرون: بأن الخاص يقضي على العام، فعموم قوله: "في عبده" مخصوص بقوله: "من المسلمين" -إلى أن قال- وقال القرطبي: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة ومن تجب عليه ولم يقصد فيه بيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره، بل شمل الجميع ... إلخ. (¬1) قال ابن حجر في الفتح (3/ 370): وقال الطحاوي: قوله: "من المسلمين" صفة للمخرجين لا للمخرج عنهم، وظاهر الحديث يأباه. لأن فيه العبد وكذا الصغير في رواية عمر بن نافع وهما ممن يخرج عنه، فدل على أن صفة الإِسلام لا تختص بالمخرجين، ويؤيده رواية الضحاك عند مسلم بلفظ "على كل نفس من المسلمين حرًّ أو عبدٍ". اهـ. (¬2) للاطلاع على أقوال أهل العلم، انظر: الاستذكار (9/ 353).

وقال سفيان: من له خمسون درهماً وجبت عليه. وقال بعضهم: من له أربعون، ومشهور مذهب مالك وجوبها على من عنده قوت يومه معها. وقيل: إنما تجب على من لا يجحف به إخراجها (¬1). ... ¬

_ (¬1) قال ابن القاسم في الحاشية (3/ 271): على قوله: "ولا يعتر لوجوبها ملك نصاب", وقاله شيخ الإِسلام وغيره، لأنه قد حصل له غنى هذا اليوم، فاحتمل ماله المواساة ولعموم حديث ابن عمر، ولما رواه أبو داود قال: "أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فسيرد الله عليه أكثر مما أعطاه" وقال أحمد: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر، على الغني والفقير. وظاهره صحة هذا الحديث عنده. اهـ. وانظر: فتح الباري (3/ 369)، حيث قال: وقال ابن بزيزة: لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيها لأنها زكاة بدنية لا مالية. اهـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 178/ 2/ 34 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كنا نعطيها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام أو صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعيرٍ أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مدّاً من هذا يعدل مدين. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه" (¬1). الكلام عليه من أحد عشر وجهاً، وهو حديث ملحق بالمسند عند المحققين من الأصوليين لأن مثل هذا لا يأمر به غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يخفي مثله عنه، ولا يذكره الصحابي في معرض الاحتجاج إلَّا وهو مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) البخاري (1505، 1506، 1508، 1510)، ومسلم (985)، وأبو داود (1618) في الزكاة، باب: كم يؤدي في صدقة الفطر، والنسائي (5/ 51، 52)، ومالك (1/ 284)، والشافعي في المسند (93)، والسنن المأثورة له (331)، والدارمي (1/ 392)، والطحاوي (2/ 42)، والبيهقي (4/ 164)، والبغوي (1595)، وابن خزيمة (1413، 2414)، وأحمد (3/ 73)، والدارقطني (2/ 146)، وابن حبان بألفاظ مختلفة (3305، 3306، 3307)، وأبو يعلى (1227).

الوجه الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب المواقيت. الثاني: قوله: "صاعاً "هو منصوب: إما على البدل من الهاء والألف في نعطها إذ هما ضمير الصدقة، وإما على الحال، ويكون صاعاً بمعنى مكيلاً. الثالث: المراد بالطعام: هنا البر (¬1) بدليل ذكر الشعير بعده، ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (3/ 321): وقد فسره المصنف -أي ابن دقيق- بالبر، فلا يصح فيه أن يقال: فعدل الناس بنصف صاع من بر بخلاف حديث ابن عمر: فإنه يصح أن يقال: فعدل الناس بنصف صاع من بر أي عن الصاع من شعير أو تمر، وقال القاضي عياض: إن معاوية لم يطلق ذلك على كل بر إنما قال: "من سمراء الشام"، لما فيها من الريع. اهـ. وقال ابن حجر في الفتح (3/ 373): على قوله: "صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر"، هذا يقتضي المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده، وقد حكى الخطابي -أي في معالم السنن (2/ 218)، وفي الأعلام (2/ 829) - أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه اسم خاص له قال: ويدل على ذلك ذكر الشعير وغيره من الأقوات. ولا سيما حيث عطفت عليها بحرف "أو" الفاصلة، وقال هو وغيره: وقد كانت لفظة: "الطعام" تستعمل في الحنطة عند الإِطلاق حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه، لأن ما غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند الإِطلاق أقرب. اهـ. وقد رد ذلك ابن المنذر وقال: قال بعض أصحابنا: إن قوله في حديث أبي سعيد: "صاعاً من طعام" حجة لمن قال: صاعاً من حنطة، وهذا غلط منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أورد طريق =

وهو عرف أهل الحجاز في ذلك. وقد ورد في رواية أبي داود (¬1): "أوصاعاً من حنطة" لكنه قال: وليس بمحفوظ. الرابع: "الأقط": بفتح الهمزة وكسر القاف ويجوز إسكان القاف مع فتح الهمزة وكسرها كنظائره. ¬

_ = حفص بن ميسرة المذكورة في الباب الذي يلي هذا -أي باب: الصدقة قبل العيد- وهي ظاهرة فيما قال ولفظه: "كنا نخرج صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر"، وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى عن عياض وقال فيه: "لا يخرج غيره"، قال وفي قوله: "فلما جاء معاوية وجاءت السمراء" دليل على أنها لم تكن قوتاً لهم قبل هذا، فدل على أنها لم تكن كثيرة ولا قوتاً، فكيف يتوهم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجوداً؟ اهـ. وانظر إلى بقية مباحثه فيه وفيما ذكر من المراجع. (¬1) سنن أبي داود مع المعالم (2/ 219)، وذكر أبو داود أن بعضهم قال فيه: "أو نصف صاع من حنطة"، قال: وليس بمحفوظ وذكر أن بعضهم قال فيه: "نصف صاع من بُرٍّ"، وهو وهم. اهـ. قال ابن خزيمة (2419): ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم, وقوله: فقال: "رجل" ... إلخ، دال على أن ذكر الحنطة في أول القصة خطأ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً لما كان لقول الرجل: "أو مدين من قمح" معنى اهـ. انظر أيضاً: فتح الباري (3/ 373)، وشرح مسلم (7/ 60)، ونصب الراية (2/ 418)، والإرواء (3/ 338)، وأخرجه الحاكم (1/ 411)، والدارقطني (2/ 145، 146)، والبيهقي في السنن (4/ 165، 166)، وابن حبان (3306).

وقال ابن سيده: الأقط مثلث بهمزة مع سكون القاف، والأقِط: بفتح الهمزة وكسر القاف، وهو شيء يعمل من ألبان المخيض. وقال ابن الأعرابي: يعمل من ألبان الإِبل خاصة. وقال الشيخ زكي الدين المنذري: في باب أكل الضب: هو جبن اللبن المستخرج. وقال النووي: في "تحريره" هو لبن يابس غير منزوع الزبد. الخامس: "السمراء": الحنطة الشامية وهي خلاف حمولة وهي البيضاء. السادس: تقدم الكلام على هذا الحديث [في الحديث] (¬1) قبله واضحاً، وهل تعين هذه لأنها كانت أقواتاً في ذلك الوقت أو لتعلق الحكم بها مطلقاً. السابع: فيه دلالة صريحة على إجزاء الأقط، وإبطال لقول من منعه، وطعن ابن حزم (¬2) في الحديث لا يقبل، كما أوضحته في "تخريج أحاديث الوسيط"، فراجعه منه. وشرط أصحابنا في أجزائه أن لا يكون مملحاً أفسد كثرة الملح جوهره لأنه عيب، فإن كان الملح ظاهراً عليه فالملح غير محشو به، والشرط أن يخرج قدر ما يكون محض الأقط منه صاعاً، والرجوع في ذلك إلى أهله كما ذكره العجلي. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) المحلى (6/ 137، 138).

وقال الماوردي (¬1): والخلاف في إجزاء الأقط إنما هو في أهل البادية، وأما الحاضرة فلا يجزيهم قولاً واحداً. ذكره في باب كفارة الظهار، ورد عليه النووي في "شرح المهذب" (¬2). فقال: الصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لا فرق بين الحاضرة والبادية، وحديث أبي سعيد يعني هذا صريح في إبطاله، وإن كان قد تأوله على أنه كان من أهل البادية، وهو تأويل باطل. الثامن: قول معاوية: "أرى مدّاً من هذا يعدل مدين"، قاله على المنبر، كما أخرجه مسلم وهو الذي اعتمده أبو حنيفة، ومن وافقه في جواز نصف صاع حنطة، وقدموه على خبر الواحد، وخالفه الجمهور في ذلك كما قدمته في الحديث قبله. والجمهور يجيبون عنه بأنه: قول صحابي قد خالفه أبو سعيد، وغيره ممن هو أطول صحبة منه، وأعلم بأحوال الشارع، وإذا اختلفت الصحابة لم يكن بعضهم أولى من بعض، فيرجع إلى دليل آخر، وظاهر الأحاديث والقياس متفقة على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه، لا أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان عند أحد من حاضرى مجلسه مع كثرتهم تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره كما جرى في غير هذه القصة. وما أسلفناه من خلاف أبي سعيد لمعاوية هو الظاهر، وإن كان يحتمل أن يكون أخبر أنه لا ينقص شيئاً مما كان يخرجه، وأنه فعل ذلك تورعاً واحتياطاً لكن فيه بعد. ¬

_ (¬1) الحاوي (4/ 427)، وذكره في كفارة الظهار تلميحاً (13/ 442). (¬2) المجموع (6/ 131).

تنبيه: أجرى أبو حنيفة ومن وافقه قوله السالف في الحنطة في الزبيب، وقال: إنه يجزي نصف صاع منه. نقله النووي في "شرح مسلم" (1) ورأيت في شرح هذا الكتاب للصعبي إلحاق التمر بالزبيب وكأنه غلط. التاسع: فيه دلالة على أن فعل الشيء في حياته - صلى الله عليه وسلم - حجة في فعله وتقريره، لأن الظاهر علمه -عليه الصلاة والسلام- به، كيف والوحي كان ينزل، فلو لم يجز لنزل الوحي بمنعه، كيف وما يتعلق بشرع عام دائم. العاشر: فيه دلالة أيضًا على أنه لا يجوز لمن علم النص أن يرجع إلى اجتهاد المجتهد من العلماء، بل يجب على المجتهد الإِقرار بالرأي والتسليم للنص، كما ثبت عن معاوية في هذه المسألة لما بلغه حديث أبي سعيد هذا قال: إنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحادي عشر: فيه الثبوت على السنة والعمل بها وعدم الرجوع إلى قول من رأى خلافها وإن طالت المدة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! ". ...

_ (1) شرح مسلم (7/ 60).

كتاب الصيام

كتاب الصيام

35 - باب الصيام

35 - باب الصيام نفتتحه بمقدمات: الأولى: في حقيقة الصيام لغة وشرعاً: وهو في اللغة: الإِمساك. وفي الشرع: إمساك مخصوص، من شخص مخصوص، عن شيء مخصوص، في زمن مخصوص. [الثانية] (¬1): كان فرض رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة فصام -عليه الصلاة والسلام- تسع رمضانات، وأكثرها تسع وعشرون يوماً، كما جاء في [رواية] (¬2) أبي داود (¬3) من حديث ابن مسعود. الثالثة: اختلف في اشتقاق رمضان. فقيل: إنه كان يوافق زمن الحر والقيظ مشتق من الرمضاء وهي ¬

_ (¬1) في ن ب د (ثانيها) ... إلخ المقدمات. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) أبو داود (2225) في الصيام، باب: الشهر يكون تسعاً وعشرين، والترمذي (689).

الحجارة الحارة، لأن الجاهلية كانت تلبس في كل ثلاث سنين شهر، فيجعلون المحرم صفراً حتى لا تختلف شهورها في الحر والبرد، وذلك هو النسيء الذي حرم الله -تعالى- (¬1) وكذا ربيع في زمان الربيع، وجمادى في جمود الماء، فلما حرم النسيء اختلفت المشهور في ذلك. [وقيل: لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وفيه حديث مرفوع عن أنس (¬2). وقيل: غير ذلك] (¬3) وله عدة أسماء. وفي البزار (¬4) "سيد ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري (14/ 240). (¬2) من رواية أنس: "تدرون لم يسمى شعبان؟ لأنه يتشعب فيه لرمضان خير كثير, وإنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب". قال ابن حجر: فيه أبو محمد حبان عن أنس وأسنده من وجه آخر يذكر رمضان فقط وفيه زيادات في ذكر ليلة القدر. اهـ. وعزاه في تنزيه الشريعة (2/ 160) لأبي الشيخ في "الثواب"، عن أنس قال: وفيه زياد بن ميمون. وقد ورد أيضاً من رواية أبي سعيد في فردوس الأخبار (2/ 502): وقال ابن حجر في تسديد القوس: "أشده عن أبي سعيد"، وذكره العجلوني في كشف الخفاء (2/ 13)، وفي مختصر الترغيب والترهيب للقسطلاني (68)، ورواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، وعنه أحمد بن خلف، وعنه أبو منصور في كتابه مسند الفردوس، وقال: متصل الإِسناد. (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) كشف الأستار (1/ 457). قال البزار: يزيد فيه لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 140) مثله، والديلمي في الفردوس (2/ 462)، والبيهقي في شعب الإِيمان (7/ 242)، وقال: في إسناده ضعف. فضائل =

المشهور شهر رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة". [الرابع] (¬1): اختلف في ابتداء فرض الصيام على ثلاثة أقوال: أحدها: عاشوراء (¬2) قال البيهقي في كتابه فضائل الأوقات (¬3): والأصح أنه لم يجب قط. وثانيها: أيام البيض (¬4) لقوله -تعالى-: {أَيَّامًا ¬

_ = الأوقات له (335)، وانظر: المقاصد الحسنة (576)، وتمييز الطيب من الخبيث (724)، وكشف الخفاء (1504)، والشذرة (1/ 335)، وفيض القدير (4/ 122)، وضعيف الجامع (3/ 231). (¬1) في ن ب د (رابعها). (¬2) قال النحاس في الناسخ والمنسوخ (1/ 488): على آية الصيام، البقرة آية (186)، وفي هذه الآية خمسة أقوال. قال جابر بن سمرة: "وهي ناسخة لصوم يوم عاشوراء" ذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض صيام رمضان نُسخ ذلك، فمن شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء أفطره. اهـ. وحديثه في مسلم (1128)، وابن أبي شيبة (3/ 55)، والطحاوي (3/ 87)، والبيهقى في الصيام، باب: من زعم أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/ 287). (¬3) فضائل الأوقات (445). (¬4) لم يرد أنها أيام البيض حسب الكتب الي اطلعت عليها. وإنما ورد ثلاثة أيام بدون تقييد. قال النحاس في الناسخ والمنسوخ (1/ 489): وقال عطاء: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" كتب عليكم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، قال أبو جعفر: فهذان قولان على أن الآية ناسخة. اهـ. وقد ذكر الطبري في تفسيره (3/ 414) على قوله -تعالى-: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ثم ساق أثر عطاء هذا إلى أن قال: وقال =

مَعْدُودَاتٍ} ثم نسخ بقوله -تعالي-: {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلى قوله: {فَلْيَصُمْهُ} والأصح أن المراد بالمعدودات: أيام شهر رمضان لما في قوله -تعالى-: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} من الإِطلاق والإِبهام فتخصص وتبين بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فتكون الآية على هذا منسوخة. وقيل: أول ما فرض الصوم كان المطيق مخيراً بين أن يصوم أو يهدي، والصوم أفضل، وذلك في قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (¬1)، ثم نسخ التخيير بقوله -تعالى-: ¬

_ = آخرون: بل الأيام الثلاثة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومها قل أن يفرض رمضان، كان تطوعاً صومهن، وإنما عنى الله -عز وجل- بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أيام شهر رمضان، لا الأيام التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صوم شهر رمضان. اهـ. وهذا اختيار المؤلف، وقد حقق الطبري القول في ذلك. قال الطبري في تفسيره (3/ 417): وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عنى الله -جل ثناؤه- بقوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر، تقوم به حجة، بأن صوماً فُرِض على أهل الإِسلام غير صوم رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رضان، وأن الله -تعالى- قد بين في سياق الآية، أن الصيام الذي أوجبه -جل ثناؤه- علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها، بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.اهـ. (¬1) قال الطبري في تفسيره (3/ 418): على قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ =

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إذا تقررت هذه المقدمات فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: ذكر المصنف -رحمه الله- في الباب ثمانية أحاديث: ... ¬

_ = يُطِيقُونَهُ} في معناه، فقال بعضهم: كان ذلك في أول ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامه إن شاء، وإن شاء أفطره، وافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكيناً، حتى نُسخ ذلك. ثم ساق الأقوال في ذلك. اهـ.

الحديث الأول

الحديث الأول 179/ 1 /35 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقَدَّمُوا رمضانَ بصومِ يومٍ ولا يومين (¬1)، إلَّا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه" (¬2). الكلام عليه من عشرة أوجه: الأول: قوله: "لا تقدموا [رمضان] (¬3) "أصله لا تتقدموا بتائين فحذفت إحداهما تخفيفاً ومه قوله -تعالى-: {وَلَا تَيَمَّمُوا ¬

_ (¬1) في حاشية العمدة للصنعاني (3/ 322): "أو يومين"، وهو الذي يوافق ما في البخاري (1914)، وما أثبت يوافق رواية مسلم (1082). (¬2) البخاري (1914)، ومسلم (1082)، وأبو داود (2335) في الصوم، باب: فيمن يصل شعبان برمضان، والترمذي (685) في الصوم، باب: ما جاء لا تقدموا الشهر بصوم، والنسائي (4/ 149، 154)، وابن ماجه (1650)، والبغوي (1718)، وابن الجارود (378)، والبيهقي (4/ 207)، وأحمد (2/ 234، 237، 408، 438)، وابن حبان (3586، 3592) وعبد الرزاق (7315)، وابن أبي شيبة (3/ 23)، والدارمي (2/ 4). (¬3) في ن ب د ساقطة.

الْخَبِيثَ} (¬1)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تقاطعوا ولا تدابروا" الحديث ومثل ذلك. واعلم أن شرط جواز الحذف في مثل هذا تماثل الحركتين، كما هو ههنا، فإن اختلفتا لم يجز الحذف لو قلت تتغافر الذنوب وتتعلم الحكمة ونحو ذلك لم يجز الحذف لاختلاف الحركتين. الثاني: فيه دلالة على أنه يقال: رمضان من غير ذكر الشهر، بلا كراهة، وهو الصحيح، سواء كان هناك قرينة أو لم تكن. وقيل: يكره إلَّا أن يقول شهر رمضان، وفيه حديث لكنه ضعيف (¬2). وقيل: إن كان هناك قرينة تدل على الشهر لم يكره وإلَّا كره وقد [تقدم] (¬3) ذلك أيضاً في الحديث الأول من باب زكاة الفطر. الثالث: فيه التصريح بالنهي عن إنشاء الصوم قبل رمضان بيوم أو يومين تطوعاً من غير عادة وذلك على طريق الاحتياط لرمضان ومقتضاه أنه يجوز بأكثر وهو مقتضى كلام البندنيجي وابن الصباغ من أصحابنا. وحاصل الخلاف عندنا في المسألة أربعة أوجه. أحدها: هذا. وثانيها: أنه إذا انتصف شعبان يحرم الصوم، وبه قطع ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 267. (¬2) انظر التعليق (2) ص (140) في الحديث الأول من زكاة الفطر. (¬3) في ن ب د (أسلفنا).

المحققون من أصحابنا، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" (¬1)، رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة، وصححه الترمذي وابن حبان. والقائل بهذا يجيب عن حديث أبي هريرة الذي في الكتاب بأن قوله "بيوم ولا يومين" ليس للتخيير وإنما هو لتبيين المنع من التقديم عليه بالصوم، لأنه الغالب في الواقع ممن يقصد استقبال الشهر وأمدُ المنع فيه نصف شعبان كما هو مبين في حديث أبي هريرة الآخر (¬2). والوجه الثالث: أنه يجوز ولا يكره، وبه قطع المتولي، وقال في الحديث الذي أوردناه: إنه غير ثابت عند أهله (¬3). ¬

_ (¬1) الترمذي (738)، وأبو داود (2337) في الصوم، باب: في كراهية ذلك، وابن ماجه (1651)، والدارمي (2/ 17)، وأحمد (2/ 442)، وابن حبان (3589)، والبيهقي (4/ 209)، وعبد الرزاق (7325). (¬2) انظر التعليق الآتي. (¬3) ولفظه من رواية أبي هريرة: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا". قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 223): الذين ردوا هذا الحديث لهم مأخذان: أحدهما: أنه لم يتابع العلاء عليه أحد، بل انفرد به عن الناس، وكيف لا يكون هذا معروفاً عد أصحاب أبي هريرة، مع أنه أمر تعم به البلوى، ويتصل به العمل. المأخذ الثاني: أنهم ظنوه معارضاً لحديث عائشة وأم سلمة في صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - شعبان كله، أو قليلاً منه، وقوله: "إلاَّ أن يكون لأحدكم صوماً فليصمه" وسؤاله للرجل عن صوم سرر شعبان. قالوا: وهذه الأحاديث أصح منه. وربما ظن بعضهم أن هذا الحديث لم =

والرابع: يكره كراهة تنزيه واختار الروياني. الرابع: ذكر بعضهم في النهي عن [تقدم] (¬1) رمضان بالصوم إنما كان لأجل التقوى على صيام رمضان وهو بعيد، فإن ذلك إذا ¬

_ = يسمعه العلاء من أبيه. وأما المصححون له فأجابوا عن هذا بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته، وهو حديث على شرط مسلم، فإن مسلماً أخرج في صحيحه عدة أحاديث عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، وتفرده به تفرد ثقة بحديث مستقل، وله عدة نظائر في الصحيح. قالوا: والتفرد الذي يعلل به هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها. وأما الثقة العدل إذا روى حديثاً وتفرد به لم يكن تفرده علة، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عملت بها الأمة؟ قالوا: وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان، فلا معارضة بينهما، وإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف، لا لعادة ولا مضافاً إلى ما قبله، ويشهد له حديث التقدم. وأما كون العلاء لم يسمعه من أبيه فهذا لم نعلم أن أحداً علل به الحديث، فإن العلاء قد ثبت سماعه من أبيه، وفي صحيح مسلم عن العلاء عن أبيه بالعنعة غير حديث. وقد قال -بياض بالأصل-: "لقيت العلاء بن عبد الرحمن وهو يطوف، فقلت له: برب هذا البيت، حدثك أبوك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا؟ فقال: ورب هذا البيت سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم-" فذكره. اهـ. وانظر كلام الترمذي وأبي داود في موضعه عليه. (¬1) في ن ب (تقديم).

أضعف عن رمضان [كان] (¬1) شعبان كله أولى بأن يضعف، وقد قام الإِجماع على جواز صومه كله، بل على استحبابه. وقد روى أصحاب السنن الأربعة عن أم سلمة أنه -عليه الصلاة والسلام-: "لم يكن يصم من السنة شهراً تامّاً إلَّا شعبان يصله برمضان" (¬2) وقال الترمذي: حسن. وحمل المازري (¬3): النهي على من صام تعظيماً للشهر واستقبالاً له بذلك -أي لئلا يزاد في العبادة ما ليس فيها- فأما إن صام يوم الشك على جهة التطوع ففيه خلاف، سيأتي. وترجم النسائي (¬4) على هذا الحديث: التسهيل في صيام يوم الشك، وفيه نظر. الخامس: ذكر بعضهم: أن ظاهر حديث أبي هريرة هذا معارض بقوله -عليه الصلاة والسلام- لرجل: "هل صمت من سرر شعبان شيئاً؟ ". قال: لا. قال: "فإذا أفطرت فصم يوماً" (¬5)، ¬

_ (¬1) في ن ب (لأن). (¬2) النسائي (4/ 150)، والترمذي (736) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (1648)، وأبو داود (2236) في الصيام، باب: فيمن يصل شعبان برمضان، والدارمي (2/ 17). (¬3) المعلم (2/ 47). (¬4) النسائي 4/ 154. (¬5) سياق المؤلف -رحمنا الله وإياه- يوافق إحدى روايات أبي داود، وفي بعضها زيادة: "أو يومين"، والبخاري (1983)، ومسلم (1161)، وأبو داود (2231) في الصوم، باب: في التقدم، والبيهقي (4/ 210)، =

وفي رواية "يومين" رواه الشيخان من حديث عمران بن الحصين. والمراد: بسرر شعبان آخره، لأن الهلال يستسر ليلة أو ليلتين وجمع بينهما بأن الرجل كان [قد] (¬1) أوجب على نفسه صيام آخر الشهر [(¬2)] بنذر فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء به أو كان [الصوم] (¬3) آخر الشهر عادة له، فتركه لاستقبال رمضان لأجل النهي عن تقدمه، واستحب له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه لكونه عادة له. وقال بعضهم: بل قوله: "هل صمت من سرر شعبان" سؤال زجر وإنكار لأنه قد نهى عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، فلا يكون بينهما معارضة. وإن أُريد بسرر شعبان أوله على ما ذكره بعضهم: أن سرر الشهر أوله، فلا معارضة إذن (¬4). السادس: فيه الرد على الروافض الذين يرون تقدم الصوم على الرؤية فإن رمضان اسم لما بين الهلالين فإذا صام قبله يوماً فقد تقدم عليه (¬5). ¬

_ = والدارمي (2/ 18)، وابن حبان (3587)، وأحمد (4/ 428، 432، 439). (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب زيادة (يصوم). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) انظر خلاف العلماء مبسوط في: معالم السنن للخطابي (3/ 218)، والجمع بين الأحاديث وتفسير "السرر" في السنن، وعون المعبود (6/ 453)، وقد تركتها خشية الإِطالة رعاك الله. (¬5) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (25/ 133، 179، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 181): ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في الإِسلام ما ليس منه، فيقابلون هذه الأقوال بالإِنكار الذي يقابل به أهل البدع، وهؤلاء الذين ابتدعوا فيه ما يشبه بدع أهل الكتاب والصابئة أنواع: منهم: قوم منتسبة إلى الشيعة من الإِسماعيلية وغيرهم، يقولون بالعدد دون الرؤية. ومبدأ خروج هذه البدعة من الكوفة. فمنهم من يعتمد على جدول يزعمون أن جعفر الصادق دفعه إليه ولم يأت به إلَّا عبد الله بن معاوية. انظر: (25/ 133) ولا يختلف أهل المعرفة من الشيعة وغيرهم أن هذا كذب مختلق على جعفر، اختلقه عليه عبد الله هذا، وقد ثبت بالنقل المرضي عن جعفر وعامة أئمة أهل البيت ما عليه المسلمون، وهو قول أكثر عقلاء الشيعة. ومنهم: من يعتمد على أن رابع رجب أول رمضان، أو على أن خامس رمضان الماضي أول رمضان الحاضر. ومنهم: من يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً لا يعرف في شىء من كتب الإِسلام ولا رواه عالم قط، أنه قال: "يوم صومكم يوم نحركم"، وغالب هؤلاء يوجبون أن يكون رمضان تامّاً، ويمنعون أن يكون تسعة وعشرين. ومنهم: من يعتمد على رؤيته بالمشرق قبل الاستسرار، فيوجبون استسراره ليلتين، ويقولون: أول يوم يرى في أوله فهو من الشهر الماضي، واليوم يكون اليوم الذي لا يرى في طرفيه، ثم اليوم الذي يرى في آخره هو أول الشهر الثاني، ويجعلون مبدأ الشهر قبل رؤية الهلال مع العلم بأن الهلال يستسر ليلة تارة، وليلتين أخرى، وقد يستسر ثلاث ليال. فأما الذين يعتمدون على حساب الشهور وتعديلها فيعتبرونه برمضان الماضي، أو برجب، أو يضعون جدولاً يعتمدون عليه، فهم مع مخالفتهم =

السابع: فيه تبيين لمعنى الحديث الذي فيه "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". فإن اللام في قوله "لرؤيته" للتأقيت، لا للتعليل، كما زعمت الروافض، ولو كانت للتعليل لم يلزم تقديم الصوم على الرؤية أيضاً، كما تقول: أكرم زيداً لدخوله. فلا يقتضي تقديم الإِكرام على الدخول، ونظائره كثيرة. وحمله على التأقيت لا بد فيه من احتمال تجوز، خروج عن الحقيقة. لأن وقت الرؤية -وهو الليل- لا يكون محلاًّ للصوم (¬1). كذا قال الشيخ تقي الدين. وأجاب الفاكهي: بأنا إذا حملنا "صوموا" على "انووا الصيام" ¬

_ = لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكتب ولا نحسب" إنما عمدتهم تعديل سير النيرين، والتعديل أن يأخذ أعلى سيرهما، وأدناه، فيأخذ الوسط منه ويجمعه، إلى أن قال: فهذه طريقة هؤلاء المبتدعة المارقين الخارجين عن شريعة الإِسلام الذي يحسبون ذلك الشهر بما قبله من الشهور، أما في جميع السنين أو بعضها، ويكتبون ذلك. اهـ. (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (3/ 323): أقول: استدلوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته"، فقالوا: اللام مثلها في قوله -تعالى-: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، أي مستقبلين لها، فكذلك هنا صوموا مستقبلين رؤيته وربما ذكره الشارح، فإن اللام وإن جاءت في الآية بذلك المعنى فلا يصح في الحديث، لأنه قد بينه حديث "لا تصوموا حتى تروا الهلال"، فاللام لبيان وقت وجوب الصوم، -وقد نبه الصنعاني على قول المؤلف إن اللام للتعليل بناء على اختيار الروافض بقوله- واعلم أن الشارح جعل دليل الرافضة مبنيّاً على أن اللام في الحديث للتعليل، والذي في كتبهم أنها للاستقبال كالآية، وأما لام التعليل فلا تقتضي التقديم.

لم يكن فيه تجوز البتة، إذ الليل كله ظرف لإِيقاع نية الصوم فيه (¬1). الثامن: فيه عدم النهي عن تقديم يوم أو يومين لرمضان بالصوم لمن له عادة في غير شعبان أن يصوم أواخره، وسواء كانت عادته بنذر أو تطوع، فإنه داخل تحت إطلاق الحديث ومن صور النذر: لله عليّ أن أصوم يوم قدوم فلان. فوافق ذلك ما قبل رمضان بذلك القدر. التاسع: يدخل تحت النهي صوم يوم الشك، وهو عبارة عن اليوم الذي يتحدث الناس برؤيته أعني الهلال، أو يشهد بها صبيان أو عبيد أو فسقة. وقد اختلف السلف فيمن صامه تطوعاً بغير سبب. والأصح عندنا: منعه. وعند المالكية: في صومه تطوعاً ثلاثة أقوال: ثالثها: يصومه من عادته سرد الصوم دون غيره. وعندهم أنه يصومه أيضاً من نذره. وأوجب صومه عن رمضان أحمد وجماعة، بشرط أن يكون هناك غيم. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (4/ 128): قلت: فوقع في المجاز الذي فر منه، لأن الناوي ليس صائماً حقيقة بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر. اهـ. قال الصنعاني في الحاشية (3/ 323): والمجاز الذي أراده الشارح أنه يكون معنى صوموا استعدوا للصوم بالنية ونحوها، فأطلق الفعل على مقدماته. اهـ.

العاشر: قال ابن العربي (¬1): كما لا يجوز استقبال رمضان لا يجوز تشييعه قال: ومن أجله قلنا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من صام رمضان وأتبعه ستّاً من شوال كان كصيام الدهر" (¬2) [أنه] (¬3) لا يحل صلتها بيوم الفطر لكن يصومها متى كان، لأن المقصود: أن من صام رمضان فقد حصل له أجر عشرة أشهر ¬

_ (¬1) في القبس شرح موطأ مالك بن أنس (2/ 486). (¬2) مسلم (1164)، والترمذي (759)، وابن ماجه (1716)، وأبو داود (2323) في الصيام، باب: في فضل ستة أيام من شوال، والدارمي (2/ 21)، وابن خزيمة (2114)، وابن أبي شيبة (3/ 97)، وعبد الرزاق (7918)، وأحمد (5/ 417، 419)، والطيالسي (594)، وابن حبان (3634). وفي الباب عن جابر عند أحمد (3/ 308، 324، 344)، والبزار (1062)، والبيهقي (4/ 292). قال الهيثمي في المجمع (3/ 183): وفيه عمرو بن جابر وهو ضعيف. وعن أبي هريرة عند البزار (1060)، قال الهيثمي: رواه البزار وله طرق رجال بعضها رجال الصحيحين. وعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ابن ماجه (1715)، والنسائي في الكبرى (2860، 2861) في الصيام، باب: صيام شوال والعشر صيام ستة أيام من شوال، وابن حبان (3635)، وأحمد (5/ 280)، والدارمي (2/ 21)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 119، 120). وانظر إلى تحقيق ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في هذه الأحاديث في كتابه: تهذيب السنن (3/ 308)، وابن عبد البر في الاستذكار (10/ 256). (¬3) في القبس: لأنه.

ومن صام ستة أيام فقد حصل أجر شهرين وذلك الدهر، وأفضلها أن يكون في عشر ذي الحجة، إذ الصوم فيه أفضل منه في شوال، فإن قال: لعلي أموت؟ قيل له: صمها في شعبان. هذا كلامه وهو عجيب. فأين المتابعة بصوم ست من شوال؟ وحمل القاضي على ذلك التعصب لمذهبه والحق أحق بالاتباع في استحباب صومها، فقد صحت فيه عدة أحاديث كما أوضحته في "تخريج أحاديث المهذب" فراجعها منه تجد ما يشفي الغليل (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في كتابه تهذيب السنن (3/ 314): الاعتراض الثالث: أن هذا الحديث غير معمول به عند أهل العلم .. قال مالك في الموطأ: ولم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها, ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء ولو رأوا في ذلك رخصة عن أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك، تم كلامه. قال الحافظ أبو محمد المنذري: والذي خشي منه مالك قد وقع بالعجم، فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم، والنواقيس وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام، فحينئذ يظهرون شعائر العيد، ويؤيد هذا ما رواه أبو داود في قصة الرجل الذي دخل المسجد وصلى الفرض، ثم قام يتنفل، فقام إليه عمر، وقال له: اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصاب الله بك يا ابن الخطاب". قالوا: فمقصود عمر: أن اتصال الفرض بالنفل، إذا حصل معه التمادي وطال الزمن ظن الجهال أن ذلك من الفرض، كما قد شاع عند كثير من العامة؛ أن صبح يوم الجمعة خمس سجدات ولا بد، فإذا تركوا قراءة "الم (1) تَنْزِيل" قرأوا غيرها من سور السجدات، بل نهى عن الصوم بعد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = انتصاف شعبان حماية لرمضان أن يخلط به صوم غيره فكيف بما يضاف إليه بعده؟ فيقال الكلام هنا في مقامين: أحدهما: في صوم ستة من شوال، من حيث الجملة. والثاني: في وصلها به. أما الأول: فقولكم: إن الحديث غير معمول به: فباطل، وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له، وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم. قال ابن عبد البر: لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب، على أنه حديث مدني، والإِحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه له مالك أمرٌ قد بينه وأوضحه: وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان, وأن يسبق ذلك إلى العامة، وكان متحفظاً كثير الاحتياط للدين، وأما صوم الستة أيام على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان، فإن مالكاً لا يكره ذلك إن شاء الله، لأن الصوم جنة، وفضله معلوم: يدع طعامه وشرابه لله، وهو عمل بر وخير، وقد قال -تعالى-: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} ومالك لا يجهل شيئاً من هذا, ولم يكره من ذلك إلَّا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك، وخشي أن يعد من فرائض الصيام، مضافاً إلى رمضان، وما أظن مالكاً جهل الحديث، لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت، وأظن عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عمر بن ثابت, وقيل: إنه روى عنه، ولولا علمه به ما أنكر بعض شيوخه، إذ لم يثق بحفظه لبعض ما يرويه، وقد يمكن أن يكون جهل الحديث، ولو علمه لقال به. هذا كلامه. انظر أيضاً: الاستذكار (10/ 259). وقال القاضي عياض: أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء. وروي عن مالك وغيره كراهية ذلك، ولعل مالكاً إنما كره صومها على ما قال في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ¬

_ = الموطأ؛ أن يعتقد من يصومها أنه فرض، وأما على الوجه الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم- فجائز. وأما المقام الثاني: فلا ريب أنه متى كان في وصلها برمضان مثل هذا المحذور كره أشد الكراهة، وحمي الفرض أن يخلط به ما ليس منه، ويصومها في وسط الشهر أو آخره، وما ذكروه من المحذور فدفعه والتحرز منه واجب، وهو من قواعد الإِسلام فإن قيل: الزيادة في الصوم إنما يخاف منها لو لم يفصل بين ذلك بفطر يوم العيد، فأما وقد تخلل فطر يوم العيد، فلا محذور، وهذا جواب أبي حامد الإِسفراييني وغيره. قيل: فطر يوم العيد لا يؤثر عند الجهلة في دفع هذه المفسدة. لأنه لما كان واجباً فقد يرونه كفطر يوم الحيض لا يقطع التتابع واتصال الصوم، فبكل حال ينبغي تجنب صومها عقب رمضان إذا لم تؤمن معه هذه المفسدة، والله أعلم. اهـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 180/ 1/ 35 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له" (¬1). الكلام من عشرة أوجه: الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا رأيتموه" هو من الضمير الذي يفسره سياق الكلام، كقوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ¬

_ (¬1) البخاري (1900، 1906، 1907)، ومسلم (1080)، وابن ماجه (1654)، والنسائي (4/ 134)، وابن خزيمة (1905)، والبيهقي في السنن (4/ 205) وفي المعرفة له (6/ 8560)، والشافعي في السنن المآثورة (319) كتاب الصوم، باب: ما جاء في تقديم الشهر، وابن حبان (3441)، والطيالسي (1810)، ومالك (1/ 286)، وأبو داود (2320)، والمسند (1/ 272). وقد ورد من طريق أبي هريرة عند البخاري (1909)، ومسلم (1081)، والنسائي (4/ 133)، وابن ماجه (1655). وأيضاً من رواية عبد الله بن عباس عند أبي داود (2327)، والترمذي (688)، وأيضاً أبو بكرة وحذيفة، وطلق الحنفي.

لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} (¬1)، وقوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} (¬2)، أي إذا رأيتموا الهلال، وقد جاء في بعض روايات مسلم (¬3): "لا تصوموا حتى تروا الهلال". قال أهل اللغة (¬4): يقال: هلال من أول ليلة، إلى الثالثة ثم يقال: قمر بعد ذلك. الثاني: قوله: "فصوموا" أي انووا الصيام، لأن الليل ليس محلاَّ للصوم كما تقدم. الثالث: قوله: "فإن غم عليكم" معناه: حال بينكم وبينه غيم يقال: غُمَّ وأُغْمِيَ وغُمِّيَ بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما ويقال: "غَبِيَ" (¬5): بفتح الغين وكسر الباء وكلها لغات صحيحة، وقد غامت السماء [وغيمت] (¬6)، وأغامت وتغيمت وغيمت كلها بمعنى. وقيل: معنى هذه الألفاظ مأخوذة من أغما (¬7) المريض، يقال: ¬

_ (¬1) سورة القدر: آية 1. (¬2) سورة العاديات: آية 4. (¬3) مسلم (1080)، ومالك في الموطأ (1/ 286). (¬4) انظر: مختار الصحاح (290)، والمصباح المنير (639). (¬5) رواية البخاري (1909). (¬6) في مشارق الأنوار (2/ 135) (أغمت بالتخفيف والتثقيل)، وفي حاشية ن ج (أغمت)، انظرها فيه. (¬7) قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (2/ 136): من إغماء المرض، يقال: غمي عليه وأغمي والرباعي أفصح. وقال في موضع آخر =

غمى وأغمى عليه, والرباعي أفصح. قال القاضي عياض (¬1): وقد يصح أن ترجع إلى إغماء السماء والسحاب، وقد يكون [أيضاً] (¬2) من التغطية، ومنه قولهم: غممت الشيء إذا سترته، والغمى مقصور ما سقفت به البيت من شيء، وروي "عمي" بالعين المهملة والميم المخففة. حكاه القاضي أيضاً ومعناه: خفي يقال: عمي عليّ الخير أي خفي. وقيل: هو مأخوذ من العماء، وهو السحاب الرقيق. وقيل: المرتفع أي دخل في العماء أو يكون من العمى المقصود وهو عدم الرؤية. الرابع: قوله: "فاقدروا له". قال أهل اللغة: [قد] (¬3) (¬4) قدرت الشيء أقدُرْهُ، وأقِدرْهُ، وقَدّرْتهُ، وأقدَرْتُهُ بمعنى واحد وهو من التقدير، ومنه قوله -تعالى-: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} (¬5). واختلف العلماء في معناه في الحديث: فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف: ¬

_ = (2/ 137): أغمي عليه، أي غشي عليه. قال صاحب الأفعال: يقال: غمي عليه غمي وأغمي عليه، قال غيره: والرباعي أفصح. (¬1) مشارق الأنوار (2/ 88، 135، 136). إكمال إكمال المعلم (3/ 222). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب د (يقال). (¬4) في ن ب د (يقال)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) سورة المرسلات: آية 23.

معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً، ويؤيده روايات مسلم (¬1): "فعدوا ثلاثين"، "فاقدروا ثلاثين"، "فصوموا ثلاثين"، "فأكملوا العدد"، ورواية البخاري (¬2): "فأكملوا عدة شعبان [ثلاثين] (¬3) ". وقال أحمد بن حنبل وطائفة: معناه: ضيقوا له (¬4) -أي قدروه ¬

_ (¬1) الرواية الأولى والثالثة والرابعة من حديث أبي هريرة (1081)، والثانية من حديث ابن عمر (1080) في مسلم وقد سبق تخريجها. (¬2) البخاري (1909). (¬3) في ن ب ساقطة. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (4/ 121): على قوله: "لا تصوموا حتى تروا الهلال" ظاهرة إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلاً ونهاراً لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرق بين ما قبل الزوال أو بعده، وخالف الشيعة الإِجماع فأوجبوه مطلقاً، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى في ذلك لمن تمسك به، ولكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله: "فإن غم عليكم قاقدروا له" فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقاً بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل أن لا تفرقة، ويكون الثاني مؤكداً للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: "فاقدروا له"، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الآخر المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله: "فأكملوا العدة ثلاثين" ونحوها. وأولى ما فسر الحديث بالحديث، وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضاً فرواها البخاري كما ترى بلفظ: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، وهذا أصرح ما ورد في =

تحت السحاب- ولهذا أوجب صوم ليلة الغيم عن رمضان، لكن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فصوموا ثلاثين"، "وأكملوا عدة شعبان ثلاثين" لا يدلان على عدم التقدير لشعبان دون رمضان، ولا عكسه بل لهما، فالتخصيص بأحدهما من غير مخصص خلف. وقال مطرف بن عبد الله وابن سريج وابن قتيبة وآخرون من ¬

_ = ذلك. -إلى أن قال- قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة -وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غير أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان- ثلاثة أقوال: أحدها يجب صومه على أنه من رمضان، ثانيها: لا يجوز فرضاً ولا نفلاً مطلقاً، بل قضاء وكفارة ونذراً ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز عن فرض رمضان، ويجوز عما سوى ذلك. ثالثها: المرجع إلى الإِمام في الصوم والفطر، واحتج الأول بأنه موافق لرأي الصحابي راوي الحديث، قال أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث بلفظ "فاقدروا له"، قال نافع: فكان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطراً، وإن حال أصبح صائماً، وأما ما روى الثوري في جامعه عن عبد العزيز بن حكيم: "سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه"، فالجمع بينهما أنه في الصورة التي أوجب فيها الصوم لا يسمى يوم الشك، وهذا هو المشهور عن أحمد: أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته. فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكّاً، واختار كثير من المحققين من أصحابه الثاني ... إلخ. انظر: الاستذكار (10/ 16)، للاطلاع على مذهب الإِمام أحمد، وما فسره راوي الحديث ابن عمر، كما سبق في التعليق.

المالكية وغيرهم: معناه قدروه بحساب المنازل الذي يراه المنجمون، وهو ضعيف جدّاً (¬1) لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم ¬

_ (¬1) قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (2/ 173): وذهب ابن سريج من الشافعية: أن هذا خطاب لمن خص بهذا العلم من حساب القمر والنجوم أي يحمل على حسابها وإكمال العدة خطاب لعامة الناس الذين لا يعرفونه ولم يوافقه الناس على هذا. اهـ. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (10/ 18): وقد حكى ابن سريج، عن الشافعي، أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغَمَّ عليه، جاز له أن يعتقد الصوم ويبيته ويجزئه قال أبو عمر: الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلَّا برؤية فاشية، أو شهادة عادلة، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". اهـ. وانظر نقله عن مطرف وابن قتيبة. ونقل هذا القول عن ابن سريج البغوي في السنَّة (6/ 230)، وابن رشد في بداية المجتهد (1/ 207)، وقد ناقش ابن العربي ابن سريج في هذه المسألة في القبس (2/ 483)، والعارضة (3/ 208)، وقال فيها: فكأن وجوب رمضان جعله مختلف الحال يجب على قوم لحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب الجمل، إن هذا لبعيد عن النبلاء فكيف بالعلماء. اهـ. وقال ابن حجر في الفتح (4/ 122): على قوله: "فاقدروا له" تقدم أن للعلماء فيه تأويلين، -انظر التعليق- وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل، قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين، قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا، قال: ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: "فاقدروا له" خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: =

فإن ذلك لا يعرفه إلَّا أفراد، والشرع إنما تعرف إليهم بما يعرفه جماهيرهم، وأيضاً فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة، يصح أن يرى في إقليم دون إقليم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها، مع كون الصائمين منهم لا يعولون غالباً على طريق مقطوع [به] (¬1)، ولا يلزم قوماً ما يثبت عند قوم. وأيضاً لو كان معتبراً لبينه الشارع للناس كما بيَّن أوقات الصلاة وغيرها، وأما قوله -تعالى-: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} (¬2)، فالمراد: الاهتداء في طريق البر والبحر. ¬

_ = "فأكملوا العدة" خطاب للعامة، وقد سبقت الإِشارة إليه، وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، إلى أن قال: ونقل ابن المنذر الإِجماع على أن صوم يوم الثلاثين من شعبان إذ لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإِجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاجب وآخر، فمن فرق بينهم كان محجوجاً بالإِجماع قبله. اهـ. وقال أيضاً (4/ 127): قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، ولا شك أن مراعات ما غمض حتى لا يدرك إلَّا بالضنون غاية التكلف. اهـ. وقال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 213): على حديث: "فطركم يوم تفطرون"، وقيل: فيه الرد على من يقول: إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم ويفطر، دون من لم يعلم. اهـ. وانظر: مجموع الفتاوى (25/ 181). (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه تعليقاً: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى =

قال الشيخ تقي الدين: والحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم، لمفارقة القمر للشمس، على ما يراه المنجمون من [تقدم] (¬1) الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية يوم أو يومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله -تعالى-، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى، لولا وجود المانع -كالغيم مثلاً- فهذا يقتضي الوجوب، لوجود السبب الشرعي. وليس حقيقة الرؤية بشرط في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم أن اليوم من رمضان، بطريقة يجب (¬2) عليه ¬

_ = بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. "والمقصود به الاهتداء للتسيير لا للتأثير": انظر: حاشية التوحيد لابن قاسم (223). (¬1) في ن ب (تقديم)، وفي د (تقدير)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬2) في إحكام الأحكام مع الحاشية (3/ 328). قال الصنعاني في الحاشية: على قوله: "بمشترطه في اللزوم لأن الاتفاق ... إلخ"، أقول: إن النص اشترط في لزوم الصوم أحد أمرين: إما الرؤية أو إكمال العدة ثلاثين، ودل الدليل على أن رؤية البعض كافية فإثبات اللزوم بمجرد الحساب ينافي النص، وقياسه على من حبس في المطمورة قياس مع الفارق، إذ من المطمورة قد تعذر عليه معرفة المدرك المنصوص عليه حتى لو رآه الناس لما رآه، فرجوعه إلى الحساب والقرائن بالضرورة، لأنه ليس في حقه شيء يعرف به الصوم إلَّا ذلك، وكيف يرجع إلى قول الحاسب والشارع يقول: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، ولو كان كلام الحاسب مدركاً شرعياً للصوم والإِفطار لما أهمله الشارع، بل أشار إلى خلافه بقوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" ثم قال: "الشهر =

الصوم، وإن لم ير الهلال، ولا أخبره من رآه. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا رأيتموه" علق الحكم بالرؤية ولا يراد بها رؤية كل فرد من الأفراد بل مطلق الرؤية ويكفي فيها رؤية عدل لجميع الناس على أظهر القولين عند الشافعي، ونص عليه في القديم ومعظم الجديد، وبه قال أحمد: على أصح الروايتين عنه، ونقله البغوي (¬1) في "شرح السنَّة" [عن] (¬2) الأكثرين، وفي قول في البويطي: عدلان. وقال البغوي في "شرح السنَّة" (¬3): أنه أظهر قولي الشافعي قاله بعد أن حكى الأول قولاً عنه، ورأيت في "الأم" (¬4). ما يقتضيه: فإنه لما قال أولاً، فإن لم تر العامة هلال رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط (¬5). ¬

_ = هكذا ... " الحديث، فأشار بيديه إلى الثلاثين والتسع والعشرين، قال القاضي عياض: وصفه - صلى الله عليه وسلم - لهم بالأمية، وأنهم لا يحسبون ولا يكتبون إذا كانوا لا يجهلون الثلاثين، ولا التسع والعشرين، ولم ينف عنهم معرفة مثل هذا الحساب، وإنما وصفهم بذلك طرحاً للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب الذي تعول عليه الأعاجم في صومها وفطرها وفصلها. اهـ. بالضم -أي فصول السنة الأربعة. (¬1) انظر: شرح السنة (6/ 244). (¬2) في ن ب (لكن). (¬3) انظر: شرح السنة (6/ 244). (¬4) الأم (2/ 94). (¬5) الشافعي في الأم (2/ 94) أول كتاب الصيام الصغير, وفي المعرفة (6/ 243).

قال الشافعي: بعد لا يجوز على حلول رمضان إلا شاهدان (1). قال: وقد قال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلَّا شاهدين، في هذا القياس على كل مغيب استدل عليه (2)، هذا لفظه ومن الأم نقلته فاستفده، فإنه من المهمات الجليلة التي لم يقع للرافعي، ولا لمن بعده، بل لم أرها في شيء من كتب أصحابنا، واقتصر جامع مسند الشافعي على القول الثاني، ولم يحك الأول وأساء. ومذهب مالك (3): أنه لا بد من عدلين أيضًا إن كان ثم معنيون بالشريعة، وإلا كفى الخبر. وانفرد أبو حنيفة (4) فقال: إن كانت السماء مغيمة ثبت بعدل ولو عبدًا أو امرأة. وإن كانت مصحية فلا يثبت بواحد ولا باثنين بل بعدد الاستفاضة. وفي "بحر" الروياني عنه: أنه لا يقبل إلَّا قول خمسين كعدد القسامة. وأما في الفطر: فلا بد من رؤية عدلين عند جميع العلماء خلافًا لأبي ثور فإنه جوزه برؤية عدل.

_ (1) الشافعي في الأم (2/ 94) في أول كتاب الصيام، وفي المعرفة (6/ 244). (2) المراجع السابقة، المعرفة (6/ 246). (3) انظر: الاستذكار (10/ 26). (4) الاستذكار (10/ 26).

السادس: في الحديث دلالة على وجوب الصوم والفطر على منفرد رأى الهلال في رمضان أو شوال، وهو مذهب الجمهور (1). وذهب عطاء وإسحاق إلى أنه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية، حكاه القرطبي عنهما. وهذا الحديث يرد عليهما، لكن قال العلماء: يفطر في الثاني سرًّا لئلا يساء الظن به (2). ويجب عليه عند المالكية: رفع شهادته إلى الحاكم إن كان ممن تقبل شهادته رجاء أن ينضاف إليه غيره فيثبت الحكم. وقيل: يرفع وإن كان لا يرجى قبول شهادته لجواز حصول الاستفاضة. السابع: فيه أيضًا أن حكم الرؤية ببلد لا يتعدى إلى بلد آخر لأنه إذا فرض أنه رؤي الهلال ببلد في ليلة ولم ير في تلك الليلة بآخر

_ (1) انظر: الاستذكار (10/ 24). (2) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم (3/ 363، 364). قال في الاستذكار (10/ 25): اختلفوا في هلال شوال يراه الرجل وحده، فقال مالك وأبو حنيفة: لا يفطر. وهو قول أحمد بن حنبل وروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كره لمن رأى هلال شوال وحده أن يفطر وقال الشافعي: يفطر الذي رأى هلال شوال وحده إذا لم يشك فيه، فإن شك أو خاف أن يتهم لم يأكل وهذا رأي أبو ثور قال: ولا يسعه أن يصوم، فإن خاف التهمة اعتقد الفطر، وأمسك عن الأكل والشرب. وقال مالك: من رأى هلال رمضان وحده فافطر عامدًا كان عليه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء ولا كفارة عليه للشبهة. وهذا قول أكثر الفقهاء. اهـ.

فيكمل ثلاثين يوماً بالرؤية الأولى، ولم ير بالآخر فهل يفطرون أم لا؟ فمن قال: يتعدى الحكم على أحد الوجهين في المسألة وهو مذهب مالك، ولم يجز لهم الإِفطار، وقد وقعت المسألة في زمن ابن عباس، وقال: لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو يراه، وقال: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام وهو قوله: "أفطروا لرؤيته" (¬2)، لا حديثاً خاصّاً بهذه المسألة أو لأنه شهادة واحد. وعند المالكية رواية: أنه إن ثبت بأمر شائع تعدى الحكم أو بالشهادة عند الحاكم لم يلزم من خرج عن ولايته، إلَّا أن يكون أمير المؤمنين، فيلزم أيضاً جماعتهم. قال المازري (¬3): والفرق بين الخليفة وغيره أن سائر البلدان لما كانت بحكمه فهي كبلد واحد. الثامن: فيه أيضاً أنه لا يجوز صوم الشك ولا صوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم وقد روى أبو داود بإسناد على شرط الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم ¬

_ (¬1) انظر: لفظه كاملاً في مسلم (1087)، وأبو داود (2332) في الصيام، باب: إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة، والترمذي، (693)، والنسائي (4/ 131) انظر: الاستذكار (10/ 28، 29). (¬2) انظر: تخريج حديث الباب. (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 45).

يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام"، وقال الدارقطني: إسناده صحيح (¬1). وحكى القاضي عياض: صومه عن عائشة (¬2) وأسماء (¬3) وابن عمر (¬4) وطاوس. وقال الأوزاعي والكوفيون (¬5): إن صامه وتبين أنه من رمضان أجزأه. وجمهورهم أنه لا يصومه ولا يجزئه إن صامه. ¬

_ (¬1) أبو داود (2325) في الصيام، باب: إذا أغمي الشهر، والدارقطني (2/ 156، 157)، وصححه الحاكم (1/ 423)، ووافقه الذهبي، وابن حبان (3444)، وابن الجارود (377)، وأحمد (6/ 149)، والبيهقي (4/ 206)، وصححه ابن خزيمة (3/ 203) وأشار إليه في فتح الباري (4/ 121). (¬2) أخرجه سعيد بن منصور. قال الألباني في الإِرواء (4/ 11): في سنده رجل لم يسم فلا يصح سنده، لكن قد جاء مسمى "لعبد الله بن أبي موسى" في مسند أحمد (6/ 125، 126)، وسنده صحيح؛ فمن قال: العبرة برأي الراوي لا بروايته لزم الأخذ به كالحنفية. اهـ. انظر: البيهقي في السنن (4/ 211)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 148)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. انظر: الفتح الرباني (9/ 256). (¬3) البيهقي (4/ 211). انظر: المجموع (6/ 410)، وزاد المعاد (2/ 45). (¬4) أحمد (2/ 5)، وانظر: تخريجه لأحمد شاكر في المسند (6/ 226)، وعبد الرزاق (7323)، وأبو داود (222) في الصيام, باب: الشهر يكون تسعاً وعشرين، والدارقطني (2/ 161)، والبيهقي (4/ 204)، وصححه الألباني في الإِرواء (4/ 10). (¬5) انظر: الاستذكار (10/ 35).

وكان بعض الصحابة (¬1) يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين. وكره محمد بن مسلمة تحري ذلك آخر يوم، كما يكره تحري صومه. وصح عن جماعة النهي عن صيام يوم الشك (¬2). وفي الترمذي (¬3) عن عمار: من صامه فقد عصى أبا القاسم. التاسع: استدل به أيضاً لمن قال بالعمل بالحساب في الصوم بقوله: "فاقدروا له" من حيث إنه أمر بمقتضى التقدير، وتأوله الجمهور على إرادة إكمال العدد كما قدمناه. ¬

_ (¬1) أي ابن عباس وكان ينكر أن يصام يوم الشك، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لم تروا الهلال فأكملوا ثلاثين يوماً"، وعن عطاء قال: كنت عند ابن عباس قبل رمضان بيوم أو بيومين فقرب غداؤه فقال: "أفطروا أيها الصيّام، لا تواصلوا رمضان شيئاً، وافصلوا". انظر: مصنف عبد الرزاق (4/ 158)، والحديث الأول سبق تخريجه. (¬2) منهم عمر بن الخطاب في مصنف ابن أبي شيبة (3/ 73)، والاستذكار (10/ 233) .. وعلي بن أبي طالب عند ابن أبي شيبة (3/ 73)، والاستذكار (10/ 233)، والمجموع (6/ 426)، والمحلى (7/ 23) .. وحذيفة، وابن مسعود، وابن عباس وقد سبق تخريجه، وأبو هريرة وسبق أيضاً تخريجه، وأنس بن مالك وغيرهم. (¬3) الترمذي (686)، والنسائي (4/ 153)، والدارقطني (2/ 157)، وصححه ابن خزيمة (1914)، وأبو داود في الصيام (2234)، باب كراهية صوم يوم الشك، وابن ماجه (1645)، وابن حبان (3585)، وصححه الحاكم (1/ 423) ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة (3/ 72)، والدارمي (2/ 12).

العاشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "صوموا لرؤيته" ظاهره وجوب الصوم متى رأى قبل الزوال أو بعده، وهو المشهور من مذهب مالك. وقيل: إنه قبله للماضية ويفطرون ساعة رؤيته إن كان هلال شوال. وقال بعض أهل الظاهر: أما في الصوم فتجعل للماضية، وأما في الفطر: فيجعل لمستقبله وهو أخذ بالاحتياط منهم، ولكن الحديث حجة عليهم (¬1). ... ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (10/ 19).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 181/ 3/ 35 - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا، فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكة" (¬1). الكلام عليه من ثلاثة أوجه: الأول: "السَّحور": بفتح السين ما يتسحر به: كالبرود وهو ما يتبرد به، والسنون وهو ما يستن به، والرقو وهو [ما يرقأ] (¬2) به الدم والسُّحور: بضم السين الفعل ورووه هنا بالوجهين؛ قاله النووي (¬3). وقال الشيخ تقي الدين (¬4): هو بالفتح ما يتسحر به، وبالضم الفعل، هذا هو الأشهر. ¬

_ (¬1) البخاري (1923)، وسلم (1095)، والترمذي (708)، وابن ماجه (2/ 196)، وابن خزيمة (1937)، وابن الجارود (383)، والبغوي (1727، 1728)، والدرامي (2/ 6)، وابن حبان (3466)، وأحمد (3/ 99، 229، 258، 281)، والبيهقي (4/ 236). (¬2) في ن ب (ما يراد). (¬3) انظر: شرح سلم (7/ 205، 206). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 331).

قلت: واختار بعضهم أن يكون اسم الفعل بالوجهين، وكأن السحور سمي باسم زمنه، لأنه يفعل في السحر قبيل الفجر، ويدخل وقته بنصف الليل، ذكره النووي في "شرح المهذب" هنا، والرافعي في أواخر كتاب الإِيمان. الثاني: "البركة": النماء والزيادة، وهذه البركة المعلل بها السحور، يجوز أن تكون أُخروية، لأن فيه متابعة السنَّة، وهي موجبة للثواب وزيادته وثمرته، وقد يحصل له بسببه ذكر ودعاء ووضوء وصلاة واستغفار في وقت شريف، تنزل فيه الرحمة، ويستجاب الدعاء، وقد يدوم ذلك حتى يطلع الفجر، وكل ذلك سبب لمزيد الأجور. ويجوز أن تكون دنيوية كقوة البدن على الصيام، والنشاط له، ويحصل له بسببه الرغبة في الازدياد من الصوم لخفة المشقة على فاعله، فيجوز أن تضاف إلى كل واحد من الفعل، والمتسحر به معاً، وعلى هذا الأكثر فتح السين من السَّحور، كما قاله الشيخ (¬1) تقي الدين (¬2). ويجوز أن تكون البركة بمجموع الأمرين: وحاصل البركة في السحور يتنوع أنواعاً: أولها: اتباع السنَّة والاقتداء. ثانيها: مخالفة أهل الكتاب في الزيادة في الأكل على الإِفطار كما ستعلمه بعد. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 331).

ثالثها: النقوي به والنشاط للصوم سيما الصبيان. رابعها: التسبب للصدقة على من يسأل إذ ذاك. خامسها: التسبب لذكر الله والدعاء وللرحمة فإنه وقت الإِجابة. سادسها: التسبب في حسن الخلق، فإنه إذا جاع ربما ساء خلقه. سابعها: تجديد نية الصوم فيخرج من خلاف من أوجب تجديدها إذا نام ثم تنبه (¬1). الثالث: أجمع العلماء على استحباب السحور، وأنه ليس بواجب، وإنما الأمر به أمر إرشاد، وهو من خصائص هذه الأمة. قال -عليه الصلاة والسلام-: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" (¬2) رواه مسلم من حديث عمرو بن العاص وكان [الأمر] (¬3) في أول الإِسلام إذا وقع النوم بعد الإِفطار لم يحل معاودة الطعام والشراب, ثم رخص في ذلك إلى الفجر. فائدة: هذا الحديث رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنس أبو ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (4/ 140)، والاستذكار (10/ 34). (¬2) مسلم (1096)، والترمذي (708)، وأبو داود (2343) في الصوم، باب: في توكيد السحور، والنسائي (4/ 146)، وابن خزيمة (1940)، والبغوي (1729)، وابن حبان (3477)، وأحمد (4/ 302)، والدارمي (2/ 6). (¬3) زيادة من ن ب د.

هريرة (¬1)، وأبو سعيد الخدري (¬2)، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعائشة (¬3) وعمرو بن العاص، وحذيفة، والعرباض بن سارية (¬4) وأبو ليلى، وطلق والد قيس بن طلق، كما أفاد ذلك ابن منده في مستخرجه (¬5). ... ¬

_ (¬1) في المسند (2/ 377، 477). (¬2) في المسند (3/ 12، 32، 44). (¬3) انظر: مجمع الزوائد (3/ 154). (¬4) النسائي (4/ 145)، وأبو داود (2344) في الصيام، باب: من سمى السحور الغداء, وابن خزيمة (1938)، والبيهقي (4/ 236)، والبزار (977)، وابن حبان (3465)، وابن أبي شيبة (3/ 9). (¬5) ذكر صاحب مجمع الزوائد غالب هذه الروايات وذكر غيرهم عمر بن الخطاب، وعتبة بن عبد، وأبي الدرداء، وسلمان الفارسي (3/ 154).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 182/ 4/ 35 - " عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت -رضي الله عنهما-، قال: "تَسَحَّرْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قامَ إلى الصَّلاةِ، قالَ أنَسٌ: قلت لزيدٍ: كم [كانَ] (¬1) بيْنَ الآذانِ وَالسَّحُورِ؟ قال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةٌ (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه. أما أنس: فتقدم في باب الاستطابة. وأما زيد بن ثابت: فهو أبو خارجة أو أبو سعيد المدني الفرضي، وكاتب الوحي، وأحد نجباء الأنصار، وهو أخو يزيد بن ثابت لأبويه. وأمه: النوّار بنت مالك. روى عنه أنس وخلق. ¬

_ (¬1) ساقطة من النسخ وموجودة في إحكام الأحكام. (¬2) البخاري (1921)، ومسلم (1097)، والترمذي (703)، وابن ماجه (1694)، والنسائي (4/ 143)، والنسائي في الكبرى (2/ 77، 78)، والدارمي (2/ 6).

قُتِلَ أبوه في الجاهلية يوم بعاث، ولزيد عدة أولاد، قُتِلَ منهم يوم الحرة سبعة. قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -[المدينة] (¬1)، ولزيد إحدى عشرة سنة، فأُتي به إليه فقيل: هذا غلام من بني النجار قد قرأ مما أنزل عليك: سبع عشرة سورة، فقرأها عليه فأعجبه، وقال: "يا زيد تعلم في كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي". قال: فتعلمته فما مضي نصف شهر حتى حذقته. شهد أحداً وما بعدها من المشاهد. وفي الحديث من طريق أنس "أفرضكم زيد"، وفي رواية: "أفرض أمتي". وكان من أصحاب الفتوى، وأخذ القرآن عرضاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه ابن عباس وغيره. وندبه الصديق لجمع القرآن فجمعه، ثم لما جمع عثمان الناس على هذا المصحف كان أحد من قام بأعباء ذلك أيضاً. وكان عمر إذا حج يستخلفه على المدينة. استخلفه على [المدينة] (¬2) ثلاث مرات: مرتين في حجتين، ومرة في خروجه إلى الشام. وكان كاتبه أيضاً. وكان عثمان يستخلفه أيضاً. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة.

وهو الذي تولى قسمة غنائم اليرموك. واستعمله عمر على قضاء المدينة، وفرض له رزقاً. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اثنان وتسعون حديثاً اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بأربعٍ، ومسلم بحديث. مات بالمدينة سنة إحدى وخمسين على أحد الأقوال الثمانية فيه، ابن ست وخمسين. وقيل: ابن أربع. وصلَّى عليه مروان، وله بالمدينة عقب. قال أبو هريرة: لما مات مات خير الأمة, لعل الله أن يجعل في ابن عباس فيه خلفاً، وترجمته مبسوطة فيما أفردته في "كتاب العدة في معرفة رجال العمدة"، وذكرت هناك: أن ابن عباس أخذ بركابه. فقال له: تنح يا ابن عم رسول الله، قال: إنا هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. ثانيها: في الحديث دليل على استحباب السحور وتأخيره إلى قبل طلوع الفجر الثاني. فإن الظاهر أن المراد بالأذان هنا الآذان الثاني، إذ لو فرض الأول لما كان بينهما زمن طويل، كما تقدم في باب الأذان من حديث ابن عمر مرفوعاً: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (¬1)، وثبت [في] (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري (617، 622، 1918، 2656)، ومسلم (1092)، والبيهقي (1/ 380، 382) (4/ 218)، وأحمد (2/ 57)، والدارمي (1/ 269، 270)، وابن خزيمة (401). (¬2) في ن د ساقطة.

الصحيح (¬1) أنه لم يكن بين أذانيهما في الصوم إلَّا أن ينزل هذا ويصعد هذا، ومعلوم أن الصعود والنزول زمنه يسير. ثالثها: إنما أخر السحور لأنه أقرب إلى حصول المقصود من التقوى، وأبلغ في مخالفة أهل الكتاب. وادعى بعض الصوفية: أن معنى الصوم وحكمه: إنما هو كسر شهوة البطن والفرج، فمن لم تتغير عليه عادته في مقدار أكله لا يحصل له بالسحور المقصود من الصوم، وهو كسر الشهوتين فلا يفعل، وهذا غلط ظاهر. والصواب: اختلاف ذلك باختلاف أحوال الناس ومقاصدهم، ومقدار ما يستعملوه من السحور، فما زاد في المقدار على مقصود الشرع وحكمته كعادة [المترفهين] (¬2) في المآكل فلا يستحب، بل ربما يؤدي إلى تخمة وجشاً منتن وكسل، وما لا يزيد فيه عليهما فهو مستحب. رابعها: فيه حسن الأدب في العبادة، وذلك قوله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعطي التبعية، والكون معه بخلاف لو قال: تسحرنا نحن ورسول الله ونحوه. خامسها: فيه أيضاً الحرص على طلب العلم، وتحرير المسائل وتتبع السنن, ومعرفة أوقاتها، والمحافظة عليها, لقول أنس: "كم ¬

_ (¬1) انظر: مسلم بشرح النووي (7/ 203). (¬2) في ن ب د (المترفين).

كان بين السحور والأذان"؟ وقول زيد: "قدر خمسين آية", أي قدر قراءتها (¬1). سادسها: فيه أيضاً استحباب الاجتماع على السحور, فإن فعله -عليه الصلاة والسلام- سنن عامة كأقواله, وقد تختلف باختلاف الحال. ... ¬

_ (¬1) أقول فيه فائدة: جواز ضبط الوقت بمقدار محدد من العبادة كقراءة القرآن أو ذكر الله ونحو ذلك فإن زيداً لما سأله أنس -رضي الله عنهما- بقوله: "كم كان بين السحور والإِقامة" قال: "قدر خمسين آية" ولهذا السلف -رضي الله عنهم- كانوا يحددون المسافات بين البلدان والأماكن بمقدار معين من العبادات. وهذا فيه استغلال الإِنسان للوقت فيما يعود عليه نفعه في الدنيا والآخرة وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

الحديث الخامس والسادس

الحديث الخامس والسادس 182، 183/ 5، 6/ 35 - عن عائشة، وأم سلمة -رضي الله عنهما-، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُدْرِكهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلِهِ ثمَّ يَغْتَسِل وَيَصومُ" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه: أما التعريف بعائشة: فسلف في الطهارة. وأما التعريف بأم سلمة: فسلف في باب الجنابة. [الوجه] (¬2) الثاني: أجمع العلماء على صحة صوم من أصبح جنباً من احتلام، كما نقله الماوردي (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (1925، 1930، 1931 - 1926، 1932)، ومسلم (1109)، والنسائي في الكبرى (2/ 183، 184)، ومالك في الموطأ (1/ 290)، وعبد الرزاق (7398)، والبيهقي (4/ 214)، ومعرفة السنن (6/ 8634)، وأحمد (6/ 289)، والترمذي (779)، وابن حبان (3486، 3487)، وابن أبي شيبة (3/ 81)، النسائي (4/ 143). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) (3/ 264).

لكن في النسائي (¬1) من حديث الزهري قال: أخبرني [عبد الله بن] (¬2) عبد الله بن عمر "أنه احتلم ليلاً في رمضان، فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر، ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح، فلقى أبا هريرة فاستفتاه في ذلك, فقال: أفطر. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالفطر إذا أصبح الرجل جنباً. قال عبد الله بن عبد الله بن عمر: فجئت عبد الله بن عمر فذكرت له الذي أفتاني به أبو هريرة، فقال: أقسم بالله! لإِن أفطرت لأوجعن متنيك، صم، فإن بدا لك أن تصوم يوماً آخر فافعل". واختلفوا فيمن أصبح جنباً من جماع: فالجمهور من الصحابة والتابعين: على صحة صومه. لهذا الحديث الذي ذكره المصنف، ولقوله -تعالى-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬3)، فإنه يقتضي جواز الوطء ما دام الليل إلى آخر جزء منه، ومن ضرورة من وطأ إلى آخر جزء منه أن يصبح جنباً (¬4). وفيه قول ثان: أنه لا يصح صومه، وإليه ذهب أبو هريرة، ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (2/ 176، 177). انظر: التمهيد (17/ 422)، والاستذكار (10/ 45)، والمحلى (6/ 218). قال ابن عبد في الاستذكار: واختلف في اسم ابن عبد الله بن عمر هذا؛ فقيل: عبد الله، وقيل: عبيد الله. وكان ما يروى كلاهما ثقة ثبت. اهـ. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) سورة البقرة: آية 87. (¬4) ينقل المناظرة التي في السنن والمعرفة (6/ 253).

ورواه عن الفضل ابن عباس، وأسامة بن زيد مرفوعاً: "من أدركه الفجر جنباً فلا يصم"، والأول أخرجه مسلم (¬1)، والثاني النسائي (¬2)، وفي رواية مالك (¬3) "أفطر"، وفي النسائي (¬4) عن أبي هريرة أنه قال: "لا ورب هذا البيت! ما أنا قلت: من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم، محمد ورب الكعبة! قاله"، لكن لما بلغه حديث عائشة وأم سلمة رجع إليه، وترك حديث الفضل وأسامة (¬5)، ورآه منسوخاً، لأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع محرماً في الليل بعد النوم، كما كان الطعام والشراب محرماً، كما جاء في البخاري (¬6) من حديث البراء بن عازب، في قصة قيس بن صرمة، ثم نسخ ذلك ولم يعلمه أبو هريرة فكان يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه، وهذا أحسن ما قيل فيه. وكذلك ما يقال جواباً عمن قال به بعده: أنه بلغهم ورجعوا، ¬

_ (¬1) انظر: حديث الباب والسنن الكبرى للنسائي (2/ 180). (¬2) السنن الكبرى للنسائي (2/ 179). (¬3) الموطأ (1/ 290)، ولفظه: "من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم". (¬4) النسائي في الكبرى (2/ 176)، والاستذكار (10/ 45). (¬5) مسلم (1109)، والبيهقي (4/ 215)، وفتح الباري (4/ 146، 147). (¬6) البخاري (1915)، والترمذي (2968)،والنسائي (4/ 147، 148)، وأبو داود (2314) في الصيام، باب: مبدأ فرض الصيام، وأحمد (4/ 295)، وابن حبان (3460)، والطبري (2939)، والبيهقي (4/ 201)، والسنن الكبرى للنسائي (2/ 80)، وإلى هذا ذهب أبو بكر بن المنذر إلى النسخ كما نقله البيهقي في المعرفة (6/ 254).

وأبعد من قال بعدم رجوع أبي هريرة عن ذلك، ففي صحيح مسلم (¬1) رجوعه عنه صريحاً. وعنه جواب ثان: وهو حمله على من طلع الفجر وهو مجامع فاستدام، وفيه بعد من حيث تسمية المجامع حال جماعه عرفاً جنباً. وجواب ثالث: أنه إرشاد إلى الأفضل، وهو الاغتسال قبل الفجر، وتركه -عليه الصلاة والسلام- هذا الأفضل في حديث عائشة وأم سلمة لبيان الجواز، مع أن فعله -عليه الصلاة والسلام-[الشيء] (¬2) بياناً لجوازه أفضل في حقه من حيث إنه مأمور، كما توضأ مرة مرة، وطاف على البعير مع أن الوضوء ثلاثاً والطواف ماشياً أفضل، لأنه المتكرر من فعله، ونظائر ذلك كثيرة. وهذا الكلام يرجع إلى مسألة أصولية [وهو] (¬3) أن الوجوب إذا نسخ هل يبقى الاستحباب؟ والصحيح بقاؤه، فالاغتسال قبل الفجر في الصوم للجنب كان واجباً، فلما نسخ بقي استحبابه. وفي المسألة قول ثالث: أنه إن علم بجنابته لم يصح، وإلاَّ فيصح (¬4). قاله طاوس وعروة والنخعي، وحُكِيَ عن أبي هريرة أيضاً. ¬

_ (¬1) مسلم (1109). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب د (وهي). (¬4) انظر: الاستذكار (10/ 47)، وطرح التثريب (4/ 123).

وقول رابع: أنه يحرم في صوم التطوع دون الفرض، قاله الحسن البصري، وحكي عن النخعي أيضاً (¬1). وقول خامس: أنه يصومه ويقضيه (¬2) حُكِيَ عن سالم بن عبد الله، والحسن البصري، وحكي عن الحسن البصري كقول أبي هريرة، ثم ارتفع الخلاف، ووقع الإِجماع بعد هؤلاء على صحة صومه. وفي صحة الإِجماع بعد الخلاف خلاف مشهور لأهل الأصول، وحديث عائشة وأم سلمة حجة على كل مخالف. وصح أيضاً أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر بذلك عن نفسه (¬3). ووقع في شرح الفاكهي حكاية عن عروة والحسن وطاوس ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرطبي (2/ 326)، والاعتبار للحازمي (344)، والاستذكار (10/ 47)، والمغني (3/ 138). (¬2) انظر: الاستذكار (10/ 47). (¬3) ولفظه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! يدركني الصبح وأنا جنب، فأصوم يومي ذلك؟ فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ربما أدركني الصبح وأنا جنب، فأقوم وأغتسل وأصلي الصبح، وأصوم يومي ذلك". انظر: مسلم (1110)، والنسائي في الكبرى (2/ 195)، وابن خزيمة (2014)، وأبو داود (2389) في الصيام، باب: فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان، ومالك في الموطأ (1/ 289)، والبيهقي (4/ 213)، وأحمد (6/ 67، 156، 245)، والطحاوي (2/ 106).

وعطاء وسالم: أن صوم الجنب باطل، وأنه إذا علم بجنابته ثم لم يغتسل حتى أصبح وجب عليه صوم ذلك اليوم، وقضاء يوم مكانه، ثم حكي عن النخعي صحة صوم التطوع من غير قضاء، ويتم الفرض ويقضيه إلَّا إذا كان غير متعمد فلا قضاء عليه، وفيه مخالفة لما أسلفناه عنهم، والذي قدمنا حكايته هو ما ذكره النووي في شرحه لمسلم (¬1). فرع: [في معنى هذه المسألة] (¬2) الحائض يدركها الفجر قبل الغسل ثم تتركه حتى تصبح. والجمهور على أنه لا قضاء عليها، سواء تركته عمداً أو سهواً (¬3). وشذ محمد بن مسلمة فقال: لا يجزئها، وعليها الكفارة والقضاء، وهذا في المفرطة والمتوانية، فأما التي رأت الطهر فبادرت وطلع الفجر قبل تمامه، فقد قال مالك: هي كمن طلع عليها وهي حائض، يومها يوم فطر. وقاله عبد الملك. قال القرطبي في "مفهمه": وقد ذكر بعضهم قول عبد الملك هذا في المتوانية وهو [أبعد] (¬4) من قول ابن مسلمة. قلت: وعليه اقتصر الفاكهي في حكايته عنه. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (7/ 222). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 48). (¬4) زيادة من ن ب د.

وعبارة الشيخ تقي الدين في شرحه (¬1): إذا طهرت وطلع عليها الفجر قبل أن تغتسل، ففي مذهب مالك في وجوب القضاء قولان. وقال النووي (¬2): مذهبنا ومذهب العلماء كافة أنه إذا انقطع دم الحائض والنفساء ليلاً ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما صح صومهما، ووجب عليهما إتمامه، سواء تركت الغسل عمداً أو سهواً بعذر أم بغير عذر: كالجنب إلَّا ما حكي عن بعض السلف مما لا يعلم صح عنه أم لا. الوجه الثالث: قولها: "من أهله" أي جماع أهله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وفي رواية: "من جماع غير احتلام"، وفيه دلالة لمن يقول بجواز الاحتلام على الأنبياء، وفيه خلاف، والأشهر امتناعه لأنه من تلاعب الشيطان، وهم منزهون [عن ذلك] (¬3)، ويتأولون هذا الحديث على أن المراد يصبح جنباً من جماع، ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه، ويكون قريباً من معنى قوله -تعالى-: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (¬4) ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق. ... ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 338). (¬2) انظر: شرح مسلم (7/ 222)، وما بين القوسين ليس في الشرح الموجود نسخته بين يديّ. (¬3) في ن ب د (عنه). (¬4) سورة البقرة: آية 61.

الحديث السابع

الحديث السابع 184/ 7/ 35 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ نَسِي وَهُوَ صائِمٌ، فأَكلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فإنَّما أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقاهُ" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: الواو [في] (¬2) "وهو صائم" واو الحال أي نسي في حال صومه فأكل أو شرب. وقوله: "فأكل أو شرب" عند البخاري إسقاط الألف في أو شرب والمراد الإِثبات. الثاني: خص الأكل والشرب من بين سائر المفطرات لأنهما ¬

_ (¬1) البخاري (1933، 6669)، ومسلم (1155)، وأبو داود (2398) في الصيام، باب: من أكل ناسياً، والترمذي (721، 722)، وابن ماجه (1673)، وابن الجارود (389)، وابن خزيمة (1989)، والدارمي (2/ 13)، وابن حبان (3519)، وأحمد (2/ 180، 42، 491)، وعبد الرزاق (7372)، والدارقطني (2/ 178). (¬2) زيادة من ن ب د.

أغلبها وقوعاً، وإنهما لا يستغنى عنهما بخلاف غيرهما, ولكن نسيان الجماع نادر بالنسبة إلى ذلك. والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهوماً فلا يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه، أو لأنه من باب تعليق الحكم باللقب، ولم يقل به إلَّا الدقاق (¬1). الثالث: ظاهر الحديث عدم القضاء على من أكل ناسياً في صومه، وهو صريح رواية ابن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه، وقال: إسنادها صحيح، وكلهم ثقات "إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه" وفي رواية لهما وللحاكم في مستدركه على الصحيحين: "من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" (¬2). قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم. وقال الدارقطني: تفرد به محمد بن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري. قلت: قد تابعه أبو حاتم محمد بن إدريس، كما رواه البيهقي (¬3). ¬

_ (¬1) هو محمد بن محمد بن جعفر الدقاق ولد في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثمائة، وتوفي في رمضان سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. ومن اختياراته أن مفهوم اللقب حجة. انظر: طبقات ابن شهبة (1/ 167)، والإِسنوي (1/ 523). وقد سبق هذا المبحث في الجزء الثاني. (¬2) ابن حبان (3521)، والدارقطني (2/ 178)، والحاكم (1/ 430)، وابن خزيمة (1990). (¬3) البيهقي (4/ 229).

وبعدم وجوب القضاء قال به جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم منهم: الشافعي وأبو حنيفة وداود و [نقله] (¬1) النووي في شرح مسلم (¬2) عن الأكثرين، سواء كان [الصوم] (¬3) فرضاً أو تطوعاً، وسواء كان الفطر بأكل أو شرب أو جماع، وعمدتهم الروايات المذكورة، وسمي الذي يتمه صوماً، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية، دون [اللغوية] (¬4) وهي صورة الصوم. والحمل على الأول أولى، إلَّا أن يكون ثم دليل خارج يقوي به اللغوي، فبعمل به ويتعين هنا حمله على الشرعي لصريح ما أسلفناه وإذا حمل عليه وقع مُجْزياً، ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء، وهو صريح الروايتين السالفتين. وقوله: "فإنما أطعمه الله وسقاه" ظاهره إقامة عذر الناس لإِضافته إلى الله، وأنه فعله، ولهذا قال في الرواية السالفة: "فإنما هو رزف ساقه الله إليه". إذ الإِفساد يناسبه إضافة الفعل إلى المكلف، وذهب ربيعة ومالك إلى أنه لا بد من القضاء في الصوم المفروض. قال الشيخ تقي الدين (¬5): وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه -يعني به الإِمساك- وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر فيها. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) شرح مسلم (8/ 35). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) ما أثبت من ن د، وفي الأصل ون ب (اللغة). (¬5) إحكام الأحكام (3/ 339).

قلت: وهذا القياس هدمه النص السالف الصريح الصحيح في أنه لا قضاء عليه. قال الفاكهي: وكأن أصحابنا حملوا الإِضافة في قوله: "فإنما أطعمه الله وسقاه" على الإِخبار بعدم المؤاخذة لعلة النسيان، لا أنه يدل على صحة الصيام. قلت: هذا حمل بعيد، ويرده أيضاً ما أسلفناه، ولما ذكر القرطبي في "مفهمه" رواية "ولا قضاء عليه" ونقل عن الدارقطني أن إسنادها، صحيح ورجاله كلهم ثقات. وذكر الرواية الثانية التي فيها عدم القضاء والكفارة أيضاً، قال: هي صحيحة أيضاً، قال: وهذه نصوص لا تقبل احتمال سقوط المؤاخذة فقط، قال: والشأن في صحتها، فان صحت وجب الأخذ وحكم بسقوط القضاء، وهذا عجيب منه، فإنه نقل عن الدارقطني أنه قال في الأولى: إسنادها صحيح، ثم قال في الرواية الثانية: هي صحيحة أيضاً، فكيف يقول بعد ذلك: الشأن في صحتها (¬1)!!. الرابع: اتفق أصحابنا على أن الأكل والشرب القليل ناسياً لا يفطر، واختلفوا في الكثير على وجهين: أصحها: عند الأكثرين منهم لا يفطر؛ لإِطلاق الحديث. وصحح الرافعي أنه يفطر، كما في كلام الناسي في الصلاة إذا كثر، لأن النسيان في الكثير نادر. والأول: فرّق بينهما بأن الصلاة ينقطع نظمها بذلك بخلاف الصوم. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (4/ 157).

الخامس: الجماع في الصوم ناسياً: كالأكل فيه ناسياً، على ما سلف، وهو ما صححه أصحابنا، ويدل له الرواية السالفة "من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة". فإن قلنا: بصحة صومه فلا كفارة عليه. وكذا إن قلنا: بعدم صحته على الأصح، لأنها تتبع الإِثم. وقال عطاء والأوزاعي والليث (¬1): يجب القضاء في الجماع دون الأكل. وقال أحمد (¬2): يجب في الجماع القضاء (¬3) [دون] (¬4) الأكل والشرب. ومدار الكل على قصور حالة المجامع ناسياً عن حالة الأكل ناسياً، فيما يتعلق بالعذر والنسيان ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس، [والقياس] (¬5) مع الفارق متعذر، إلَّا إذا بين القائس أن الوصف الفارق ملغى، كذا قال الشيخ (¬6) تقي الدين. ولك أن تقول: لا نأخذه من القياس، بل من قوله: "من أفطر ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (10/ 111). (¬2) انظر: المرجع السابق. (¬3) في ن ب د زيادة (والكفارة). (¬4) في ن ب د (ولا يجب في). (¬5) في ن ب ساقطة. (¬6) انظر: إحكام الأحكام (3/ 342).

في شهر رمضان" (¬1) الحديث الذي أسلفناه عن رواية الدارقطني والحاكم. فائدة: [الحدث] (¬2) يستوي عمده وسهوه في النقض، بخلاف الأكل في الصوم. وفرّق القفال بينهما بأوجه، ومن "فتاويه" نقلت. أحدها: [الحدث] (¬3) من ضرورات الإِنسان. والأصول مبناها على أن الضرورات تلحق بالنسيان، والنسيان لا يبطل بخلافه. ثانيها: أن الطهر ينتقض بالغلبة من نوم أو إغماء بخلافه. [ثالثها: أن الوضوء أغلظ بدليل بطلانه بخروج الريح بخلافه] (¬4). رابعها: أن الحدث ليس بمنهي عنه، بخلاف الأكل، فلهذا فرّق فيه، وهذا أصحها. ... ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (4/ 156): وأجاب بعض الشافعية بأن عدم وجوب القضاء عن المجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث: "من أفطر في شهر رمضان"، لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعاً ولعدم الاستغناء عليه غالباً. اهـ. وانظر: حاشية الصنعاني (3/ 342). (¬2) في ن ب (الحديث). (¬3) في ن ب (الحديث). (¬4) في ن ب ساقطة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 185/ 8/ 35 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحنُ جُلوسٌ عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، هَلَكْتُ، قالَ: "مالك؟ " قالَ: وَقَعْتُ عَلَى اَمْرأَتِي، وَأَنا صائِمٌ -وفي رواية: أصَبْتُ أهْلِي في رَمَضانَ- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تجِدُ رَقَبةً تُعْتِقُها؟ " قال: لا، قال: فَهَلْ تَسْتَطيع أنْ تَصُومَ شهرَيْنِ مُتَتابِعيْنِ؟ قال: لا، قال: "فَهَلْ تَجِدُ إطْعامَ سِتِّينَ مسْكِيناً؟ " قال: لا، قال: فَمَكَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينا نحنُ عَلَى ذلِكَ أُتِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، وَالعَرَقُ: المِكْتَلُ- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيْنَ السَّائِلُ؟ " قال: أنا، قال: "خُذْ هذا، فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فقال الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِني يا رسول اللهِ؟ فَوَاللهِ ما بَيْنَ لابَتَيْها -يُرِيدُ الحَرَّتين- أهْلَ بَيْتٍ أفْقَرُ مِنْ أهل بيْتِي، فَضَحكَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، حَتّى بَدَتْ أَنْيابهُ، ثمَّ قال: "أطْعِمْهُ أهْلَكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (1936)، ومسلم (1111)، وأبو داود (2392) في الصيام، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والنسائي في الكبرى (2/ 211)، والدارمي (2/ 11)، والترمذي (724)، والموطأ (1/ 296)، وأحمد (2/ 208)، والبيهقي (4/ 226)، وابن حبان =

قال المصنف: "الحَرَّة" أرْضٌ ترْكَبُها حِجارَةٌ سُودٌ. الكلام عليه من خمسة وثلاثين وجهاً، وبعضهم أفرده بالتصنيف في مجلد ضخم (¬1): الأول: قوله: "بينما" اعلم أن بينما تتلقى تارة "بإذ" وتارة "بإذا" اللتين للمفاجأة (¬2)، قال الشاعر: فبينما العسر إذ دارت مياسير وقوله: بينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس يعلوه الأعاصير وأما بينا (¬3): فلا تتلقا بواحدة منهما، بل وجه الكلام أن يقال: ¬

_ = (3523) بألفاظ مختلفة، وابن خزيمة (1949)، وعبد الرزاق (7457)، وابن الجارود (384)، والبغوي (1752)، والدارقطني (2/ 190). (¬1) هو الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، استخرج منه ألف مسألة ومسألة حكى ذلك عن نفسه. (¬2) قال أحمد شاكر في المسند (11/ 147): قوله: "بينما"، قال الحافظ في الفتح: "أصلها: بين" وقد ترد بغير "ما" فتشبع الفتحة، [يريد أنها تكون: بينا]، ومن خاصة "بينما" أنها تتلقى بإذ، وبإذا، حيث تجيء للمفاجاة، بخلاف "بينا" فلا تتلقى بواحدة منهما" وهذا الذي قاله الحافظ باطل، ترده الشواهد الصحيحة , واللغة الفصيحة، وقد أطال صاحب اللسان (16/ 212، 213) في إيراد الشواهد على مجيء "إذ" و"إذا" بعد بينا. اهـ. (¬3) انظر التعليق السابق.

"بينا زيد قائم جاء عمرو" ونحو ذلك، لأن المعنى فيه بين أثناء الزمان "جاء عمرو" وقد جاءتا أعني "بينما" و"بينا" في هذا الحديث على هذه القاعدة قال: "فبينا نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل" فتلقى بينما بإذ، وقال: "فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل: إذ أتي. الثاني: هذا الرجل هو سلمة. ويقال: سلمان بن صخر البياضي. وسلمة: أصح وأشهر (¬1). ¬

_ (¬1) وهكذا قواه ابن حجر في الإِصابة (3/ 117)، ويقال: اسمه سلمان وسلمة أصح. اهـ. وقد اختلفت الروايات في ذكر اسم هذا المبهم على أقوال: وكلها تدور على هذين الاسمين؛ ففي سنن أبي داود (2126) كتاب الظهار وهي رواية صريحة في تسمية المبهم "بسلمة بن صخر البياضي"، وقد ذكره في الإِبهام في كتاب الصيام، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان ح (2285)، أما في الترمذي فرواه مصرحاً باسمه في موضعين: أحدهما: في باب: ما جاء في كفارة الظهار (1200) وسماه "سلمان بن صخر"، ثم قال: ويقال: "سلمان بن صخر"، ويقال: "سلمة بن صخر". والثاني: في تفسير سورة المجادلة (3299) وسماه: "سلمة بن صخر"، ثم قال: "ويقال سلمة بن صخر، وسليمان بن صخر". أما في مصنف عبد الرزاق فأبهمه في (4/ 196) وصرح باسمه "سلمان بن صخر" في (6/ 431)، وفي سنن الدارقطني ساقه بالإِبهام (2/ 190)، وفي (3/ 3176) في روايات متعددة سماه "سلمة بن صخر"، وهي أيضاً كذلك في سنن ابن ماجه (2062)، وأيضاً في إِيضاح الإِشكال (104)، =

وقال أبو عمر (¬1): سلمان وهم وليس في الصحابة سلمان إلَّا سلمان الفارسي، وسلمان بن عامر الضبي، قال: وقيل: إن سلمة بن صخر، يقال له: سلمان. قلت: وسلمة هذا هو المظاهر من امرأته أنه لا يطأها في رمضان حتى ينسلخ فواطئها فيه، ذكره عبد الغني بن سعيد الحافظ، والظاهر اختلاف الواقعتين إن كانتا لسلمة بن صخر، لأن في حديث الوقاع في الصحيح: إن ذلك كان نهاراً. وفي الظهار كان ليلاً في الترمذي (¬2) وغيره. وقد يجمع بينهما بأنه وطأ ليلاً إلى أن أصبح، لأنه كان امرأً يصيب من النساء ما لا يصيب غيره. فلما دخل رمضان خاف إن أصاب منها شيئاً يتابع به حتى الصباح، فظاهر منها حتى ¬

_ = وفي غوامض الأسماء المبهمة سماه سلمة، وسلمان (1/ 211). قال ابن حجر (4/ 164): لم أقف على تسميته إلَّا أن عبد الغني في المبهمات وتبعه ابن بشكوال جازماً بأنه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي واستندا إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره -وقد سقت لك مواضع في كتب الحديث- والظاهر أنهما واقتعان فإن في قصة المجامع في حديث الباب أنه كان صائماً وفي قصة سلمة بن صخر أن ذلك كان ليلاً فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما في كونهما من بني بياضة. وفي صفة الكفارة وكونها مرتبة، وفي كون كل منهما لا يقدر على شيء من خصالها اتحاد القصتين، وسنذكر ما يؤيد المغايرة ... إلخ. وقال في موضع آخر (4/ 162): على قوله: "إن رجلاً" قيل هو سلمة بن صخر البياضي ولا يصح في ذلك. اهـ. (¬1) التمهيد (21/ 11)، والاستذكار (10/ 115). (¬2) الترمذي (1200).

ينسلخ رمضان، فبينما هي تخدمه ذات ليلة إذ تكشف له منها شيء، فما لبث أن نزا عليها، فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، الحديث بطوله خرجه أبو داود (¬1) وغيره. الثالث: معنى: "هلكت" وقعت في الإِثم بفعل ما حرم عليَّ فعله في الصوم، وهو الجماع فيه. وفي رواية لمسلم من حديث عائشة (¬2) "احترقت" قال: "ولِمَ؟ ". قال: وطأت أهلي في رمضان نهاراً". وفي رواية مرسلة في الموطأ (¬3) "جاء أعرابي يضرب فخذه وينتف شعره يقول: هلك الأبعد". وفي رواية "هلكت وأهلكت" (¬4). ¬

_ (¬1) أبو داود (1126) كتاب الطلاق، باب: في الظهار، والترمذي (1200) كتاب الطلاق، باب: ما جاء في كفارة الظهار، وابن ماجه (2062)، وانظر التعليق (1) , (210). (¬2) مسلم (1112). (¬3) الموطأ (1/ 297)، والبيهقي (4/ 225). قال: وروي من وجه آخر عن سعيد بن المسيب، واختلف عليه في لفظ الحديث، والاعتماد على الأحاديث الموصولة. (¬4) قال الخطابي في معالم السنن (3/ 271): "هلكت وأهلكت"، هذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله: "هلكلت" حسب، غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلّى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان، فذكر هذا الحرف فيه، وهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك في الحفظ والإِتقان. اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 268): "هلكت وأهلكت"، واستبعد المنذري وهم إنما هو الخطابي -رحمنا الله وإياهم- هذه اللفظة، ثم قال البيهقي: قوله: "أهلكت" ليس بمحفوظ. السنن الكبرى (4/ 227) -وضعفها شيخنا أبو عبد الله الحافظ، وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني، قال: فإن أبا علي الحافظ رواه عن محمد بن المسيب فلم يذكرها، والعباس بن الوليد رواه من عقبة بن علقمة دونها، ودحيم وغيرهم رووه عن الوليد بن مسلم دونها، وكافة أصحاب الأوزاعي رووه عنه دونها, ولم يذكرها أحد عن أصحاب الزهري عن الزهري، إلَّا ما روى عن أبي ثور، عن معلى بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: وكان أبو عبد الله أيضاً يستدل على كونها، في تلك الرواية خطأ بأنه نظر في كتاب الصوم تصنيف معلى بن منصور بخط مشهور، فوجد فيه هذا الحديث دون هذه اللفظة، وبأن كافة أصحاب سفيان رووه عنه دونها. اهـ. أما ابن التركماني في كتابه الجوهر النقي (4/ 227) فيرى إثبات هذه اللفظة: مستدلاًّ على أن ابن خزيمة قد رواها بلفظ: "أهلكت"، نقلاً عن البيهقي في الخلافيات. اهـ. وانظر: العلل للدارقطني (10/ 232). قال ابن حجر في الفتح (4/ 170): واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث: "هلكت وأهلكت"، وهي زيادة فيها مقال. قال ابن الجوزي -رحمنا الله وإياه- في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 85): فإن قالوا: قد قال أبو سليمان الخطابي: المعلى بن منصور ليس بذاك، قلنا: ما عرفنا أحداً طعن في المعلى، ثم قد روي لنا من طريق آخر وساقه بإسناده وفيه "فقال: هلكت وأهلكت" فذكر الحديث إلَّا أن سلامة فيه ضعف. اهـ. =

واستدل بها بعضهم: على مشاركة المرأة إياه في [الجناية] (¬1) وهي زيادة قال فيها الدارقطني (¬2): تفرد بها أبو ثور، عن معلي بن منصور، عن ابن عيينة، وكلهم ثقات. وأما البيهقي (¬3) فقال: هذه زيادة لا يرضاها أصحاب الحديث. وضعفها الحاكم: وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني. فقد رواه جماعات بدونها. الرابع: قوله: "وقعت على أهلي وأنا صائم" أي في رمضان، كما جاء في الرواية الثانية. وقوله: "ما لك" جاء في الصحيح "ما أهلكك"، وفي رواية "ويحك"، وفي أخرى "ويلك" (¬4). الخامس والسادس: فيه وجوب السؤال عن علم ما يفعله ¬

_ = أقول: وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد: بحثت هذه اللفظة في سنن الدراقطني فلم أجده، وكتاب العلل له فوجدته بإسناده (10/ 237) ولكن بدون زيادة "وأهلكت" وذكرت هذين الكتابين لأنه ساقه من رواية الدارقطني. (¬1) ما أثبت من ن د (الجناية)، والمعالم للخطابي (3/ 371)، أما في الأصل ون ب والفتح الرباني (10/ 97) (الجنابة). (¬2) انظر: العلل (10/ 232). (¬3) السنن الكبرى (4/ 227). (¬4) قال البخاري في صحيحه (10/ 552) باب: ما جاء في قول الرجل: ويلك.

الإنسان مخالفاً للشريعة، والخوف من سوء عاقبته. السابع: فيه جواز إظهار المعصية لمن يرجو منه تخليصه من إثمها وعاقبتها. الثامن: فيه عدم تعزيره عليه مع وجوب الكفارة عليها إذا فعلها جاهلاً، وكانت لا حد فيها خصوصاً إذا جاء مستفتياً، فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، لكنه باعترافه بها يقتضي أن يكون فعله إياها كان وهو عالم بأنها معصية، لا جاهل. فإن مجيئه مستفتياً معترفاً بالهلاك يقتضي العلم: والندم، والتوبة، والتعزير استصلاح، ولا استصلاح مع الصلاح. فإنا لو عزرنا كل من جاء يستفتي عن مخالفة أدى ذلك إلى ترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في المخالفات والخروج منها. وذلك مفسدة عظيمة، يجب دفعها، كيف والمفتي في زمننا لم يكن إليه إقامة التعزيرات، مع أنه -عليه الصلاة والسلام- كان هو الحاكم والإِمام والمفتي والمشرع، ولم يقم عليه التعزير بقول ولا فعل (¬1). لكن نقل البغوي في "شرح السنة" (¬2): في باب: كفارة الجماع في نهار رمضان: إجماع الأمة على أن من جامع متعمداً في نهار رمضان يفسد صومه وعليه القضاء، ويعزر على سوء صنيعه، قال: والحديث يدل على أن من ارتكب ما يوجب تعزيراً يجوز تركه للإِمام، لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأمر بتعزير الأعرابي. ¬

_ (¬1) ساقه من إحكام الأحكام بتصرف (3/ 345). (¬2) شرح السنَّة (6/ 284).

وجزم ابن يونس (¬1) في "شرح التعجيز": بأنه يعزر أيضاً. ونقل ابن العطار (¬2) في "شرحه": عن بعض أصحابنا أن من جامع امرأته حائضاً وقلنا يُكفر عُزّر بلا خلاف. قال: وذكر بعض أصحابنا فيما يجب التعزير فيه مع وجوب الكفارة في المجامع في رمضان وفي الظهار والقتل وجهان: أحدهما: لا يجب لما ذكرنا. وأرجحهما: عندهم الوجوب. قالوا: لأن الكفارة إنما وجبت لانتهاك حرمة الوقت ولقول الزور، وفوات الروح، والتعزير يجب لحق الله -تعالى- في الزجر والمخالفة. وأجرى اللخمي من المالكية: الخلاف في إيجاب العقوبة ¬

_ (¬1) هو أحمد بن موسي بن يونس، الإِمام شرف الدين أبو الفضل ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وستمائة، البداية والنهاية (13/ 111)، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 72)، والأعلام (1/ 246)، وقد طبع جزء من الكتاب "كتاب الطهارة". (¬2) هو علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان أبو الحسن بن العطار ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة، وتوفي بدمشق في ذي الحجة، سنة أربع وعشرين وسبعمائة. انظر: الدرر الكامنة (3/ 5)، والنجوم الزاهرة (9/ 261)، وهدية العارفين (1/ 717)، ومعجم المؤلفين (7/ 5)، وطبقات الشافعية للسبكي (6/ 143).

على المجامع على الخلاف في شاهد الزور يجيء ثانياً، وفي عقوبته قولان، وقد يفرق بينهما بأن شاهد الزور أعظم جناية لتعلق حق الغير بها، بخلاف جناية المجامع، فإنه قد لا يتعلق، كما إذا كان الغير مفطراً أو معذوراً. التاسع: فيه استعمال الكنايات فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه: كالمواقعة والإِصابة ونحوهما عن النكاح ونحوه. العاشر (¬1): فيه وجوب الكفارة بإفطار المجامع عامداً، وهو مذهب جميع العلماء، سوى من شذ منهم، وقال: لا تجب وهو محكي عن الشعبي وآخرين، وقاسوه على الصلاة؛ فإنه لا كفارة بإفسادها. وهذا قياس مع وجود النص، والفرق لائح، فإنه لا مدخل للمال في جبرانها، بخلاف الصوم بدليل الشيخ الهِمُّ وغيره. واحتج له أيضاً: بأنها لو وجبت لما سقطت بالإِعسار، وهو عجيب، فإن السقوط بالإِعسار، يقتضي تقدم وجوب، حتى يقتضي السقوط، وإلاَّ لما صح السقوط الذي هو بمعنى الخروج، كيف والأصل والقياس الوجوب، والمسبب لا يبطل السبب. فإن الإِعسار مسبب، والوطء في رمضان سبب، والوجوب إنما يسقط للاستحالة أو للمثسقة، ولا استحالة ولا مشقة، فإن المطالبة بالكفارة إنما تكون عند القدرة، ومع الإِعسار لا قدرة فحينئذ لا يرفع الإِعسار الوجوب من غير معارض سائغ. ¬

_ (¬1) هذه المسألة ساقها من إحكام الأحكام (3/ 345، 348) بتصرف.

فإن قيل: يرفع بمقارنة الإِعسار لأنها [لو] (¬1) لم [ترد] (¬2). ولا أعلم الشارع ببقائها في الذمة، فإنها لو بقيت لأُعلم به، كيف والبيان واجب عليه. فالجواب: أن الحديث دل على استقرار الكفارة بدليل إخبار السائل بالعجز عن العتق والصيام والإِطعام. ومجيء العرق وإعطاؤه إياه، ليخرجه كفارة، فلو لم تجب لما أمره بإِخراجها, ولو سقطت بالعجز لم يكن عليه شيء، فدل على ثبوتها في ذمته، وإذنه له بإطعام عياله للاضطرار، وإزالته يجب على الفور. والكفارة لا تجب على الفور، بل على التراخي، كما جزم به النووي في شرح مسلم (¬3)، خصوصاً في هذا الحال، وهي صدقة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" (¬4) فلم يكن له أن يتصدق على غيره (¬5)، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين. واعلم: أنه وقع في "شرح هذا الكتاب لابن العطار" لما ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب د (يود). (¬3) شرح مسلم (7/ 225). (¬4) البخاري (5355، 1426، 5356)، والنسائي (5/ 69)، وأحمد (2/ 476، 524)، وابن حبان (3363)، والبيهقي (4/ 180، 470) (7/ 466، 470)، والدارقطني (3/ 297)، وابن أبي شيبة (3/ 212). (¬5) أي لحاجته حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ولم يكن محتاجاً إليها.

حكى القول الشاذ: أنه لا كفارة. قال: إنه قول ضعيف للشافعي وهو غريب لا نعرفه للشافعي إلَّا في حالة العجز عن جميع الخصال. الحادي عشر (¬1): لو جامع ناسياً هل يفطر وتجب عليه الكفارة أم لا يجبان أو يجب القضاء دونها؟ فيه ثلاثة مذاهب، أسلفناها في الحديث قبله. والصحيح عندنا (¬2): أنهما لا تجبان كما سلف، ومشهور مذهب مالك (¬3): أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه. وذهب أحمد وبعض الظاهرية والمالكية (¬4): على إيجابها عليه. وروي ذلك (¬5) عن عطاء ومالك. واحتج من قال بالوجوب: بأنه حكم ورد على جواب سؤال من غير استفصال عن عمد أو نسيان، فنُزّل منزلة العموم، لأن الحكم من الشارع إذا ورد عقب ذكر واقعة محتملة لأحوال مختلفة الحكم، كان حمله على العموم أولى حملاً على الفوائد المتكثرة. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 348) فإنه ساقها بمعناه بتصرف. (¬2) انظر: الأم (2/ 99)، والاستذكار (10/ 111). (¬3) الاستذكار (10/ 111). (¬4) وحجتهم إن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق بين الناسي والعامد. وقال أحمد: وظاهر قول الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "وقعت على امرأتي" النسيان والجهالة، فلم يسأله أنسيت أم تعمدت، وأفتاه على ظاهر الفعل. اهـ، من الاستذكار (10/ 111). (¬5) انظر: المرجع السابق.

والجواب: عن ذلك بأن حالة النسيان في حق هذا السائل بعيدة جدّاً بالنسبة إلى الجماع، ومحاولة مقدماته، وطول زمانه، وعدم اعتياده في كل وقت، فلم يحتج إلى الاستفصال بناء على الظاهر, كيف وقد قال: "هلكت" فإنه يشعر بتعمده ظاهراً ومعرفته بالتحريم. الثاني عشر: فيه جريان وجوب العتق ثم الصوم ثم الإِطعام مرتباً لا مخيراً. وهو قول جميع العلماء، خلافاً لما في المدونة؛ فإن فيها [لا يعرف مالك] (¬1) غير الطعام، لا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام. قال الشيخ تقي الدين: وعدم جريان العتق والصوم في ذلك -معضلة ربَّاء ذاتُ وَبَر. لا يُهتدي إلى توجيهها، مع مصادمتها الحديث، [غير] (¬2) أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ، وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال. وذكروا وجوهاً في ترجيح الطعام على غيره. منها: أن الله -تعالى- ذكره في القرآن رخصة للقادر، يعني في قوله -تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ونسخُ هذا الحكم لا يلزم منه نسخ الفضيلة بالذكر والتعيين للإِطعام، لاختيار الله -تعالى- له في حق المفطر للعذر، كالكبر والحمل والإِرضاع. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د وإحكام الأحكام (3/ 349). (¬2) زيادة من ن ب د وإحكام الأحكام (3/ 349).

ومنها: جريان حكمه في حق من [أخره] (¬1) قضاء رمضان، حتى دخل رمضان ثان (¬2). ومنها: مناسبة إيجاب الإِطعام لجبر فوات الصوم، الذي هو إمساك عن الطعام والشراب. ومنها: شمول نفعه في المساكين. وهذه الوجوه لا تقاوم ما دل عليه الحديث من البدأة بالعتق، ثم بالصوم، ثم بالإِطعام، فإن هذه البدأة إن لم تقتضِ وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه، وقد وافق بعض أصحاب مالك على استحباب الترتيب على ما جاء في الحديث، وبعضهم قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات ففي وقت الشدائد يكون بالإِطعام [وبعضهم فرق بين الإِفطار بالجماع، والإِفطار بغيره فجعل الإِفطار] (¬3) بغيره يكفر بالإِطعام لا غير، وهذا أقرب في مخالفة ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 350): قوله: "حتى دخل رمضان ثان"، أقول: وذلك لما أخرجه الدارقطني من طريق عمران بن موسي بن وجيه -وهو ضعيف جدّاً- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً بلفظ: "من لم يقض رمضان حتى دخل رمضان آخر صام الذي أدركه، ثم يقضي ما عليه، ثم يطعم عن كل يوم مسكيناً" وفيه راو آخر ضعيف، إلَّا أنه راوه من طريق أخرى موقوفاً وصححه. انظر: سنن الدارقطني (2/ 197). وصح عن ابن عباس وابن عمر من قولهما في الجمع بن الفدية والقضاء خلاف، فابن عمر يقول: إنه لا يقضي، بناء على أن الكفارة بدل عن القضاء، وقيل: إنه يقضي ويكفر للتراخي. اهـ. (¬3) في ن ب د ساقطة.

النص من الأول. قلت: والحديث رواه مالك في "موطئه" (¬1) من طريقين: الأول: من حديث أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً. فقال: لا أجد. ثم ذكر باقي الحديث، فهذه حجة عليه، حيث لا يعرف غير الإِطعام. قال ابن حبان (¬2) في صحيحه بعد ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 296)، ورواه عنه أحمد (2/ 273)، ومسلم (1111)، والطحاوي (2/ 60). والسبب أن مالكاً يختار الإِطعام، لأنه يشبه البدل من الصيام، ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط في رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر واحد منهم بعتق ولا صيام مع القضاء، وإنما يؤمر بالإِطعام، فالإِطعام له مدخل من الصيام ونظائر من الأصول. قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 95): لم يختلف رواة "الموطأ" عن مالك في حديث ابن شهاب في هذا الباب أنه رواه بلفظ التخيير في العتق، والصوم، والإِطعام ولم يذكر الفطر بأي شيء كان، بجماع أو بأكل. وقال أيضاً (10/ 96): وذهب مالك في الموطأ، إلى أن المفطر في رمضان بأكل أو شرب، أو جماع أن عليه الكفارة المذكورة في هذا الحديث على ظاهره، لأنه ليس في روايته فطر مخصوص بشيء دون شيء، فكل ما وقع عليه اسم فطرٍ متعمداً فالكفارة لازمة لفاعله على ظاهر الحديث. وقال: والصحيح عن مالك ما في الموطأ أي عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً. (¬2) ابن حبان (8/ 292). قال المحقق: وكذلك رواه بلفظ التخيير فليح بن سلمان، وعمرو بن عثمان المخزومي، ورواه جماعة من أصحاب الزهري =

أن أخرج الحديث من هذا الوجه: لم يقل أحد في هذا الخبر عن الزهري "أو صوم شهرين أو إطعام ستين مسكيناً" إلَّا مالك وابن جريح. الطريق الثاني (¬1): من حديث عطاء بن عبد الله الخراساني عن ¬

_ = على ترتيب كفارة الظهار: "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: لا، قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا، قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ " قال: لا. الحديث، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في طائفة، فقالوا: لا ينتقل عن العتق إلَّا عند العجز عنه، ولا عن الصوم كذلك، وقال مالك وجماعة: هي على التخيير فظاهر حديث الباب، وقد رجح الجمهور رواية الترتيب لأنه رواها عن الزهري تمام ثلاثين نفساً أو أزيد، كما قال الحافظ، ولأن راويها حكى لفظ القصة على وجهها، فمعه زيادة علم في صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة إما لقصد الاختصار، أو لغير ذلك. وذكر الإِمام الطحاوي أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير أن الزهري راوي الحديث قال في آخر حديثه: فصارت الكفارة إلى عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو الإِطعام، قال: فرواه بعضهم مختصراً، مقصراً على ما ذكر الزهري أنه آل إليه الأمر، قال: وقد قص عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري القصة على وجهها، ثم ساقه من طريقه إلى قول "أطعمه أهلك" قال: فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، قال الحافظ في الفتح (4/ 168)، وكذلك رواه الدارقطني في العلل. اهـ، من العلل (10/ 223)، وانظر: الاستذكار (10/ 95، 100). (¬1) الموطأ (1/ 297)، ومسند أحمد (11/ 146). قال أحمد شاكر: هو =

سعيد بن المسيب مرسلاً، وفيه ذكر العتق "ثم أهد بدنة". وسيأتي الكلام على هذه الرواية" نعم ......................... ¬

_ = بإسنادين: أحدهما مرسل ضعيف، والآخر متصل صحيح. قال ابن حجر في الفتح (4/ 167): وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد الصيام بإفساد الحج، وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك "في الموطأ" عن عطاء الخرساني عنه، وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب وكذب من نقله عنه، كما روى سعيد بن منصور عن ابن علية عن خالد الحذاء عن القاسم بن عاصم "قلت لسعيد بن المسيب: ما حديث حدثناه عطاء الخرساني عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يعتق رقبة أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب" فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث عن عمرو بن الحارث عن أيوب، عن القاسم بن عاصم، وتابعه همام، عن قتادة، عن سعيد، وذكر ابن عبد البر: أن عطاء لم ينفرد بذلك فقد ورد من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولاً ثم ساقه بإسناده لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف وقد اضطرب في روايته سنداً ومتناً فلا حجة فيه. اهـ. وقال أيضاً: الموطأ (1/ 297): هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة الموطأ مرسلاً، وهو متصل بمعناه من وجوه صحاح إلَّا قوله "أن تهدي بدنه" تفسير محفوظ. أقول وبالله التوفيق: قد تابع عطاء داود عن سعيد بن المسيب كما في العلل للدارقطني (10/ 245) وساقه أيضاً مسنداً من حديث أبي هريرة (10/ 247). أما رواية عمر بن شعيب عن أبيه عن جده فقد سألت عنها الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: شاذة.

[قد] (¬1) يستدل له برواية الصحيحين من حديث عائشة (¬2): أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "تصدق" فتصدق ولم يذكر فيه غير ذلك، ويجاب بأنها رواية مختصرة. أما ترتيب هذه الخصال والتخيير فيها فقد اختلف فيه مالك والشافعي. فقال مالك في المشهور من (¬3) مذهبه: هي على التخيير. وقال الشافعي (¬4)، هي على الترتيب، وبه قال أصحاب مالك: واستدل على الترتيب في الوجوب بالترتيب في السؤال، وقوله أولاً: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " ثم رتب الصوم بعد العتق ثم الإِطعام بعده ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) مسلم (1112)، والبخاري (1935) (6822) تعليقاً، وأبو داود (2394) في الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والنسائي في الكبرى (2/ 210)، والبخاري في التاريح الصغير (1/ 289)، وابن خزيمة (1946)، وأحمد (6/ 276)، وابن حبان (3528)، والبيهقي (4/ 223، 224)، والدارمي (2/ 11)، والطحاوي (2/ 59، 60). انظر: فتح الباري (4/ 162). قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (6/ 267): وقد روت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القصة ذكرت في حديثها أن فطره كان بوطئه امرأته في رمضان نهاراً، ثم إن بعض الرواة حفظ فيها التصدق فقط، وبعضهم حفظ العتق, ثم إطعام ستين مسكيناً، ولم يحفظ الصيام، وقد حفظ في حديث أبي هريرة فهو أولى. اهـ. (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 95). (¬4) انظر: الاستذكار (10/ 98)، ومعرفة السنن (6/ 266).

[وعطف الجمل بالفاء المرتبة المعقبة] (¬1). ونازع القاضي عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال على ذلك، وقال: مثل هذا قد يستعمل في التخيير (¬2) أي كما في حديث كعب بن عجرة. وقوله -عليه الصلاة والسلام- له: "أتجد شاة؟ قال: لا. قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين" (¬3)، ولا ترتيب بين الشاة والصوم والإِطعام، والتخيير في الفدية ثابت بنص القرآن قال: فيدل في الأولوية مع التخيير وهو غير مسلم. فإن ذكر هذه الأشياء الثلاث مرتبة في معرض البيان والسؤال بمنزلة الشرط للحكم، ومقتضى ذلك الترتيب لا التخيير. ورواية مسلم (¬4): "أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً" "فأو" هنا [للتقسيم] (¬5) لا للتخيير، تقديره يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما، ويبينه باقي الروايات ودعوى القرطبي ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) انظر: فتح الباري (4/ 167)، وتقريره على هذه المسألة. (¬3) البخاري أطرافه (1814)، ومسلم (1201)، وابن ماجه (3089)، والطيالسي (1062)، والبيهقي (5/ 55)، والترمذي (2973)، وابن حبان (3985)، والطبري في التفسير (3338) وما بعده، وأحمد (4/ 242, 243). (¬4) مسلم (1112) (84). انظر كلام ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 272). (¬5) في ن ب د (للتفسير).

أن هذه قضية أخرى بعيدة ثم [حمله] (¬1) "أو" على التخيير: ليس يجيد لما قدمناه. الثالث عشر: قوله: "هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا" في أبي داود (¬2) في قصة سلمة البياضي أنه قال: "والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها. وضرب صفحة عنقه" يستدل به على جواز إعتاق الرقبة الكافرة، في الكفارة، وهو قول أبي حنيفة وغيره. وقال الشافعي: لا يجوز إلَّا رقبة مؤمنة، حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل. وأبو حنيفة: يحمل المقيد على المطلق، وهذا مبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد، فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه. قال الشيخ تقي الدين: والأقرب أنه إن قيد فبالقياس (¬3). قلت: ويقوي مذهب الشافعي بقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث السوداء: "أعتقها فإنها مؤمنة" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن ب د ساقطة. (¬2) أبو داود (2126) في الطلاق، باب: في الظهار. (¬3) حاشية الصنعاني (3/ 353)، وفتح الباري (4/ 165). وقوله: "فبالقياس"، أي على اشتراط الإِيمان كما في كفارة القتل. (¬4) من حديث الشريد بن سويد، أحمد (4/ 222، 388)، والنسائي (6/ 252)، والبيهقي (7/ 388، 389)، والطبراني (7257)، وإسناده حسن وهو غير حديث معاوية بن الحكم، فإنه أخرجه مسلم (537) وغيره.

فائدة: شرط الرقبة [أيضاً] (¬1) أن تكون سليمة من العيوب، خلافاً لداود، وضابط العيب في الكفارة ما أضر بالعمل إضراراً بيناً وبيان ذلك محله كتب الفروع. الرابع عشر: فيه أيضاً دلالة على أنه لا يجب في الجماع على الرجل والمرأة إلَّا كفارة واحدة، إذ لم يذكر له ما على المرأة وهو الأصح عند الشافعي (¬2) ومذهب داود وأهل الظاهر. وذهب مالك (¬3) وأبو ثور وأصحاب الرأي (¬4) وأحمد في أصح الروايتين والشافعي في أحد قوليه: إلى وجوبها على المرأة إن طاوعته. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب. (¬2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 109): قال الشافعي: الصيام والعتق والإِطعام سواء، ليس عليهما إلاَّ كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يسأله طاوعته امرأته أو أكرهها, ولو كان الحكم مختلفاً لما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - تبيين ذلك. وهو قول داود وأهل الظاهر. اهـ. (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 108)، وقال: إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة. إذا أكرهها فعليه كفارتان عنه وعنها، وكذلك إذا وطىء أمته كفر كفارتين. اهـ. (¬4) قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 110): قال أبو حنيفة وأصحابه: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة ولا شيء عليها ومن حجة من رأى الكفارة لازمة عليها إن طاوعته القياس على قضاه ذلك اليوم، فوجب عليها قضاء ذلك اليوم وجبت عليها الكفارة. اهـ.

ويتأولون هذا الحديث: على أن المرأة لعلها كانت مكرهة أو ناسية لصومها أو ممن يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر السفر أو المرض أو الطهر عن الحيض. وسوّى الأوزاعي (¬1): بين المكرهة والطائعة على مذهبه. وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة: إنّ مكرهها يكفَّر عنها بغير الصوم، لأنه هتك صومين بالنسبة إليها وإليه [فكأنه] (¬2) هتك يومين. وقال سحنون: لا شيء عليه لها ولا عليها. وبهذا قال أبو ثور، وابن المنذر. وقال الفاكهي: ولم يختلف مذهب مالك في قضاء المكرهة والنائمة، إلَّا ما ذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك أنه لا غسل على الموطوءة نائمة، ولا مكرهة، ولا شيء عليها [إلَّا] (¬3) إن تلتذ. قال ابن القصار: فتبين من هذا أنها غير مفطرة، فظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلاَّ أن تلتذ، ولا على النائمة لأنها كالمحتلمة، وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرهة. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 109): وقال الأوزاعي: سواء طاوعته امرأته أو أكرهها فليس عليه إلَّا كفارة واحدة إن كفَّر بالعتق أو الإِطعام، فإن كفَّر بالصيام فعلى كل واحد منهما صيام شهرين متتابعين. اهـ. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) زيادة من د ب.

واختلف في وجوب الكفارة على [المكرهة] (¬1) على الوطءِ لغيره على هذا. وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم المكرَه كفارة عن نفسِهِ ولا من أكره. الخامس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" معنى: تستطيع تقدر وتطيق وتقوى. يقال: استطاع يستطيع، واستتاع يستتيع، واسطاع [يسطيع] (¬2). وقد ضمنوا حروف المضارعة من هذا الأخير، وإن كان زائداً على أربعة أحرف، ومثله: إهراق يهريق. واعتذر عنهما سيبويه: بأن السين في استطاع والهاء في إهراق زائدتان للعوض. واعترض عنهما: بأنه لم يحذف منهما شيء فيحتاجا إلى عوض. وأجاب السيرافي: عن ذلك بأن قال: العوض إنما هو من نقل الحركة، إذ الأصل في اسطاع أطوع، وفي إهراق أروق. فلما نقلت فتحة الواو إلى ما قبلها في الموضعين قلبت ألفاً لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن فكانت الزيادة عوضاً من ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) في ن د (المكره). (¬2) في ن ب د (يستطيع). (¬3) انظر: التفصيل في هذه المسألة مبسوطاً في فتح الباري (4/ 169، 170)، والفتح الرباني (10/ 96)، وحاشية الصنعاني (3/ 361).

السادس عشر: التتابع التوالي وهو حجة للجمهور على ابن أبي ليلى إذ لم يشترطه (¬1). السابع عشر: فيه الانتقال من الصوم إلى الإِطعام عند عدم استطاعته وفي بعض الروايات في قصة سلمة في الظهار "وهل أصبت الذي أصبت إلَّا من الصيام" ومقتضاها عدم استطاعته لشدة الشبق، وعدم الصبر في الصوم عن الوقاع، فنشأ لأصحابنا -رحمهم الله- في أن هذا هل يكون عذراً مرخصاً في الانتقال إلى الإِطعام في حق من هو كذلك -أعني شديد الشبق- فقال به بعضهم (¬2): كذا قال الشيخ تقي الدين؟ قلت: بل هو الأصح عندهم. ¬

_ (¬1) قال في الفتح الرباني (10/ 98): وفي أحاديث الباب دلالة على اشتراط التتابع في صيام كفارة رمضان، وإليه ذهب كافة العلماء إلَّا ابن أبي ليلى فقد ذهب إلى جواز تفريقه مستدلاًّ بحديث أبي هريرة الثاني من أحاديث الباب لأنه لم يذكر فيه تتابعاً، وحجة الجمهور حديث أبي هريرة الأول من أحاديث الباب، وهو مقيد بالتتابع فيحمل المطلق عليه، واشترط الجمهور أن لا يكون في الشهرين شهر رمضان، وأن لا يكون فيهما أيام منهي عن صومهما كيومي الفطر والأضحى وأيام التشريق. (¬2) قال الصنعاني في الحاشية مع إحكام الأحكام (3/ 354): على قوله: "وقال بذلك بعضهم"، قال النووي في المنهاج: والأصح أن العدول عن الصوم إلى الإِطعام لشدة العلة وهي الحاجة إلى النكاح، لأن حرارة الصوم، مع شدة العلة قد تقضيان به إلى الوقاع ولو في واحدة من الشهرين وذلك حرج، والقول الثاني لا، لأنه قادر فلم يجز له العدول عنه كصيام رمضان. اهـ. وانظر: فتح الباري (4/ 166).

الثامن عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً" هو صريح في الدلالة على استيعاب هذا العدد، وبه قال عامة الفقهاء (¬1)، خلافاً لما روي عن الحسن: أنه يطعم أربعين مسكيناً عشرين صاعاً. وصريح أيضاً في الرد على من قال: يطعم عشرين مسكيناً ثلاثة أيام. وصريح أيضاً في الرد على أبي حنيفة حيث جوز إطعام ذلك لمسكين واحد، كما نقله القرطبي عنه حجة الجمهور من وجهين. أحدهما: أنه أضاف "الإِطعام" الذي هو مصدر "أطعم" إلى ستين، ولا يكون ذلك موجوداً في حق من أطعم عشرين مسكيناً ثلاثة أيام. الثاني: أن القول بإجزاء ذلك عمل بعلة مستنبطة تعود على ظاهر النص بالبطلان. وقد علم ما في ذلك في الأصول (¬2). التاسع عشر: جمهور المشترطين ستين. قالوا: لكل مسكين مد، وهو ربع صاع. وقال أبو حنيفة (¬3) والثوري: لكل مسكين نصف صاع. العشرون: قوله: "فمكث" هو بفتح الكاف وضمها، كما تقدم واضحاً في الحديث الثامن من باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -, وجاء في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال للأعرابي: "اجلس" وسببه انتظار الوحي فيه، أو ليجتهد في خلاصه مما وقع فيه. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (10/ 105). (¬2) انظر: الحاشية (3/ 355)، والفتح (4/ 166). (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 105).

الحادي والعشرون: "العَرَق" بفتح العين والراء على المشهور في الرواية واللغة، وحكاه القاضي عياض (¬1) عن الجمهور. وروي بإسكان الراء والصواب: الأول. فإن العَرْق (¬2): بإسكان الراء العظم الذي [فيه] (¬3) اللحم والفَرَق: -بتحريك الفاء وتحريك الراء وإسكانها- ستة عشر رطلاً. وقد فسر العرق: بالمكتل بكسر الميم وفتح المثناة فوق وهو من الخوص، وفُسَّر مرة أخرى: بأنه المكتل الضخم. ويقال: للعرق: أيضاً الزبيل بفتح الزاي من غير نون كالرغيف والزنبيل بكسر الزاي وزيادة نون كالقنديل، كذا في "شرح مسلم" (¬4) للنووي. وقال القرطبي: هو الزنبيل بكسر الزاي على رواية الطبري وبفتح الزاي لغيره، وهما صحيحان، وسمي بذلك لأنه تحمل فيه الزبل، ذكره ابن دريد (¬5). وسمي عرقاً: لأنه جمع عَرَقَةَ وهي الضفيرة من الخوص ومن سماه عرق فلأنه منها. ¬

_ (¬1) انظر: مشارق الأنوار (2/ 76). (¬2) انظر: مشارق الأنوار (2/ 76). (¬3) في ن ب د (عليه). (¬4) انظر: شرح مسلم (7/ 225). (¬5) انظر: شرح مسلم (7/ 225).

ويجمع أيضاً: على عرقات. ومن أسمائه أيضاً: القفة، -والسفيفه- بفتح السين المهملة وبالفائين. والعَرَق: عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعاً، وذلك ستون مدًّا لكل مسكين مد، لأن الصاع أربعة أمداد، وإذا ضربناها في خمسة عشر [كانت ستين وجاء في رواية لأبي داود "فأُتي بعرق فيه عشرون] (¬1) صاعاً" قال البيهقي وروايته الأخرى: "أنه أُتي بعرق فيه تمر قدر خمسة [عشر] (¬2) صاعاً" أصح وفي رواية لمسلم "فجاء، عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به"، ويجاب عنها بأن العرق قد يُصغر وقد يكبّر، وبذلك يجمع بين الروايات (¬3). ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) قال الحافظ في الفتح (4/ 169): لم يعين في هذه الرواية مقدار المكتل من التمر بل ولا في شيء من طريق الصحيحين في حديث أبي هريرة -ثم ساق الروايات- ثم قال: ويجمع بين الروايات، فمن قال إنه كان عشرين أراد أجل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشراً أراد قدر ما تقع به الكفارة، ويبين ذلك حديث علي عند الدارقطني: "تطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد" وفيه: "فأتي بخمسة عشر صاعاً فقال: أطعمه ستين مسكيناً" -وقال قبله بأسطر- ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم: "فجاءه عرقان فيهما طعام". اهـ. والمشهور في غيرها عرق ورجحه البيهقي، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة، وهو جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث والأصل عدم التعدد، والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق، لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل =

الثاني والعشرون: "اللابتان" الحرتان. والمدينة بين [الحرتين] (¬1): شرقية وغربية. قال ابن حبيب: ولها حرتان آخرتان: حرة بالقبلة وحرة بالجرف ويرجع كلتاهما إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما. والحرة: أرض تركبها حجارة سود، كما سبق من كلام المصنف. وعبارة الشيخ تقي الدين (¬2): الحرة: حجارة سود. وعبارة النووي (¬3): الحرة: الأرض الملبسة حجارة سود -زاد غيره: إذا كانت بين جبلين-. ويقال: لابه ولوبة ونوبة بالنون، حكاهن أبو عبيد والجوهري (¬4) وخلائق. ومنه قيل: للأسود لوبى ونوبى باللام والنون وقالوا: وجمع اللابة لوب ولاب [ولابات وهي غير مهموزة] (¬5). ¬

_ = في الحمل، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال: عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال: عرق أراد ما آل إليه الأمر. اهـ. (¬1) في ن ب د (حرتين). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 357). (¬3) انظر: شرح مسلم (7/ 226). (¬4) مختار الصحاح (254). (¬5) في ن ب ساقطة, وموجودة في شرح مسلم.

الثالث والعشرون: قوله: "على أفقر مني" أي ومن يتصدق عليه أفقر مني هكذا وقع في نسخ هذا الكتاب وهو رواية البخاري وفي إحدى روايتي مسلم "على أفقر منا" كما ذكره القرطبي قال: وهو محذوف همزة الاستفهام تقديره: أعلى أفقر منا. والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أنتصدق به على أحد أفقر منا. والرواية الأخرى: "أفقر منا" بحذف "على" والرواية فيه حينئذٍ بالنصب على إضمار الفعل تقديره: "أتجد أففر منا" وقد يجوز رفعه على خبر المبتدأ أي "أحداً أفقر منا" ورواية مالك: "ما أجد أحداً [أفقر] (¬1) مني". الرابع والعشرون: قوله: "أهل بيت أفقر من أهل بيتي" مرفوع لأهل بيت. الخامس والعشرون: قوله: "فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه" سبب ضحكه -عليه الصلاة والسلام- يحتمل التعجب من حال السائل وتباينه حيث كان أولاً محترقاً هالكاً متلهفاً حاكماً على نفسه بذلك، ثم انتقل إلى طلب الطعام لنفسه وعياله. ويحتمل أنه من رحمته -عليه الصلاة والسلام- به وشفقته عليه وإطعامه هذا الطعام بعد أن أمره بإخراجه وإحلاله. السادس والعشرون: "الأنياب" (¬2) جمع ناب، وهي الأسنان الملاصقة للثنايا، وهي أربعة أنياب، وأربعة ضواحك، واثني عشر ¬

_ (¬1) في ن ب د (أحوج)، هكذا هنا، والذي في الموطأ (ما أحد أحوج مني). (¬2) انظر: المخصص (1/ 146).

[رحا] (¬1) ثلاثة في كل شق، وأربعة نواجذ، وهي أقصاها، ويلي الثنايا أربع رباعيات، فذلك اثنان وثلاثون، قاله أبو زيد فيما نقله ابن قتيبة عنه. وقال الأصمعي: مثله إلَّا أنه قال: الأَرْحا ثمانية فينقص أربعة. وجاء في رواية: "حتى بدت نواجذه" وهي الأنياب هنا جمعاً بين الروايتين، وجاء في حديث آخر في قصة أخرى: "فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه". وأجاب بعضهم: أنه حيث ضحك [متبسماً] (¬2) إنما كان لأمر يتعلق بالدنيا وحيث ضحك حتى بدت نواجذه إنما كان لأمر يتعلق بالآخرة، ويعكر على هذا رواية: "حتى بدت نواجذه" هنا. السابع والعشرون: فيه جواز الضحك وهو [غير] (¬3) التبسم، كما جاء من أنه -عليه الصلاة والسلام- كان ضحكه تبسماً، فيجوز أن يكون الغالب من ضحكه، لا كله. وأما قوله -تعالى-: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (¬4) فضاحكاً حال مقدرة أي تبسم بقدر الضحك، لأن الضحك يستغرق التبسم. قال الفاكهي: هذا هو الصحيح عندي وقد جعله ابن ¬

_ (¬1) في ن د (رحي). (¬2) في ن ب د (تبسما). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) سورة النمل: آية 19.

عصفور (¬1): حالة مؤكدة، وهو بعيد أو وهم. فقد علمت بذلك أن التبسم غير الضحك، ويقال منه: ضحِكَ يضحَك ضَحْكاً (¬2) وضِحِكاً (¬3) [وضِحِكاً] (¬4) لغات والضَّحْكةُ المرة الواحدة (¬5). الثامن والعشرون: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اذهب فأطعمه أهلك" فيه أقوال (¬6). أحدها: أن هذا خاص بهذا الرجل وحده، قاله الزهري (¬7) يعني أنه يجزيه أن يأكل من صدقة نفسِهِ لسقوط الكفارة عنه، فسوغها له النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي: "كله وأطعمه أهلك". ¬

_ (¬1) ابن عصفور هو علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وتوفي سنة تسع وستين وستمائة. انظر: فوات الوفيات (2/ 185)، والأعلام (5/ 179). (¬2) بوزن (فَهْمٍ). (¬3) بوزن (عِلْمٍ) من مختار الصحاح (161). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) قال أبو منصور الجبان في شرح الفصيح (211): واصل الضَّحِكِ: التفتح، ولهذا يقال: للطَّلْع المتفتح: ضَحْكَ وكذلك تفتح الشجر والنبَات: ضَحْكَ ولهذا قال الشاعر: كلُّ يومٍ بأقحوانٍ جديدٍ ... تضحك الأرض من بكاء السماء (¬6) انظر كلام ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 106): نقلاً عن الشافعي في معناها. (¬7) رواه عبد الرزاق في المصنف (4/ 194)، والاستذكار (10/ 105)، وانظر: تخريج رواية أبي داود، والبغوي في شرح السنة (6/ 287). قال الحافظ: وإلى هذا نحا إمام الحرمين، ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. انظر: الفتح (4/ 171).

ثانيها: أنه منسوخ وهما ضعيفان (¬1). ثالثها: يحتمل أنه أعطاه إياه لكفارته، وأنه يجزيه عن من لا تلزمه نفقته من أهله. رابعها: أنه لما كان عاجزاً عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم وقد جوز ذلك بعض أصحابنا حكاه الشيخ تقي الدين. خامسها: لما ملكها، وهو محتاج جاز له أكلها هو وأهله لحاجتهم. قال بعضهم: ولأن في أكله منها إذا كان محتاجاً. إجبار معه، فجاز له، وفيه نظر. سادسها: وهو أقربها، كما قال الشيخ تقي الدين: أنه أطعمه لفقره، وأبقى الكفارة عليه متى أيسر. وهذا هو الصحيح عندنا. وهو مذهب مالك. وذهب الأوزاعي (¬2) [وأحمد (¬3)] (¬4) إلى أن حكم من لم يجد الكفارة ممن (¬5) لزمته من سائر الناس سقوطها عنه مثل هذا الرجل وهو قول عندنا كزكاة الفطر. ¬

_ (¬1) انظر: له ولما قبله شرح السنة للبغوي (6/ 287). (¬2) انظر: الاستذكار (10/ 106). (¬3) المرجع السابق. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) في الأصل (لم)، وفي ن ب د غير موجودة.

ووجه عدم السقوط القياس على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره، وليس في الحديث سقوطها بل قوله -عليه الصلاة والسلام- لما أتى بالعرق له: "خذ هذا فتصدق به" دليل على بقائها, وإنما أذن له في صرفه لعياله لحاجته كما سيأتي (¬1)، فإن الكفارة تجب على التراخي لا على الفور، كما سلف ¬

_ (¬1) قال ابن العربي -رحمنا الله وإياه- في القبس (2/ 500): "وهم وتنبيه": لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي "كُلْهُ" ظنَّت طائفة أن الكفارة ساقطة عنه، وقالوا بأن ذلك مخصوص به -تقدم في القول الأول وتخريجه- ولم يتنبهوا لفقه عظيم، وهو أن هذا رجل ازدحمت عليه جهة الحاجة وجهة الكفارة فقدم الأهم، وهو الاقتيات، وبقيت الكفارة في ذمته إلى حين القدرة، حسب ما أوجبها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, قال علماؤنا: ولم يذكر القضاء لعلمه به. اهـ. وهذا اختيار ابن دقيق العيد، كما نقله عنه ابن حجر في الفتح (4/ 172)، والبغوي في شرح السنَّة (6/ 287). قال ابن القاسم -رحمنا الله وإياه- في حاشية الروض (3/ 420): قال ابن الوزير: أجمعوا على أنه إذا عجز عن كفارة الوطء، حين الوجوب سقطت، إلا الشافعي، في أحد قوليه. اهـ. وانظر: الفتح الرباني (10/ 99). قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 107): إن احتج محتج في إسقاط الكفارة عن المعسر بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "كله أنت وعيالك" ولم يقل له: تؤديها إذا أيسرت، ولو كانت واجبة عليه لم تسقط عنه حتى يبين ذلك له قيل له: ولا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها ساقطة عنك لعسرتك بعد أن أخبره بوجوبها عليه، وكل ما وجب أداؤه في اليسار لزم الذمة إلى الميسرة، والله أعلم. نقله في تلخيص الحبير (2/ 208). انظر: التحقيق =

في الوجه العاشر. وجاء في رواية غريبة من حديث علي في الدارقطني (¬1) أنه -عليه الصلاة والسلام-: "قال له انطلق فكله أنت وعيالك. فقد كفر الله عنك". وفي إسنادها ابن عقدة وقد ضعفوه. ومن تراجم البخاري على هذا الحديث "إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر" (¬2). وترجم عليه [أيضاً المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج] (¬3) "؟ وترجم عليه في باب (¬4): "النفقات" نفقة المعسر على أهله! التاسع والعشرون: "الأهل": هو كل من تلزمه نفقته ذكره الرافعي في كتاب الحج. ¬

_ = في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/ 83)، فإنه بسط أدلة الفريقين بسطاً موسعاً. (¬1) السنن للدارقطني (2/ 208)، وضعفه الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف (254)، وابن حجر في الفتح (4/ 172) قال: ولكنه حديث ضعيف لا يحتج بما انفرد به -فلم يسمِ أحد- ونقله الصنعاني في الحاشية (3/ 359)، وضعفه ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 208). (¬2) الفتح (4/ 163). (¬3) الفتح (4/ 173). (¬4) الفتح (9/ 513)، ومجموع ما ترجم عليه البخاري مفرداً ومشتركاً ثلاثة عشر باباً، وانظر: أطرافه (4/ 163) الفتح.

وقال الفاكهي: ظاهر الحديث دخول ذوي القربى والزوجة فيه، يقال: أهل الزوجة، وأهل الدار، وكذلك الأَهْلاتٌ وأهَلات بإسكان الهاء وفتحها وأهَالٍ زادوا فيه التاء على غير قياس، كما جمعوا ليلاً على ليالٍ وقد جاء في [الشعر] (¬1)، آهَالٌ مثل فرح وأفراح ووتد وأوتاد (¬2). الثلاثون: جمهور الأمة على وجوب القضاء على مفسد الصوم بالجماع، وهو الأصح عندنا، إذ الصوم المطلوب منه لم يفعله، وهو باق عليه كالصلوات وغيرها إذا لم تفعل بشروطها. وقيل: لا يجب, وبه قالت طائفة من أهل العلم، لأن الخلل الحاصل قد انجبر بالكفارة، ولسكوته -عليه الصلاة والسلام- عنه في الصحيح. وفي وجه ثالث: إن كفر بالصوم دخل فيه القضاء وإلاَّ فلا، لاختلاف الجنس، وبه قال الأوزاعي (¬3). والصحيح عندنا الأول: وقد روى أبو داود والدارقطني (¬4) أنه ¬

_ (¬1) في ن ب (العشر)، وما أثبت يوافق مختار الصحاح (20). (¬2) انظر: مختار الصحاح (20). (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 98). (¬4) أبو داود (2287) في الصيام، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والدارقطني (2/ 190)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 226)، والموطأ (1/ 297)، وانظر ت (2)، (222)، وأبو داود في المراسيل (94). انظر: تلخيص الحبير (2/ 207)، فقد ساق طرقه كاملة، ومنها رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند أحمد (11/ 146). قال الهيثمي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في مجمع الزوائد (3/ 168): رواه أحمد وفيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام. وسأنقل لك كلام ابن عبد البر في آخر التعليق. قال ابن القيم في تهذيب السنن (2287): هذه الزيادة، وهي الأمر بالصوم، قد طعن فيها غير واحد من الحفاظ، قال عبد الحق: وطريق حديث مسلم أصح وأشهر، وليس فيها "صم يوماً" ولا تكميله التمر، ولا الاستغفار، وإنما يصح حديث القضاء مرسلاً، وكذلك مالك في الموطأ، وهو من مراسيل سعيد بن المسيب، رواه مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني عن سعيد بن المسيب بالقصة، وقال: "كله، وصم يوماً مكان ما أصبت", والذي أنكره الحفاظ ذكر هذا اللفظ في حديث الزهري، فإن أصحابه الأثبات الثقات، كيونس وعقيل ومالك والليث بن سعد وشعيب ومعمر وعبد الرحمن بن خالد، لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة وإنما ذكرها الضعفاء عنه، كهشام بن سعد، -وقد خالف الحفاظ في موضعين "أحدهما" أنه جعله عن أبي سلمة، وإنما هو عن حميد. "الآخر" أنه زاد ذكر الصوم، قال فيه: "كله أنت وأهل بيتك وصوم يوماً مكانه ... " الحديث. أخرجه أبو داود (2393)، وسكت عنه الدارقطني (2/ 190)، والبيهقي (4/ 226، 227). انظر: الفتح (4/ 163، 172)، وعمدة القارىء (11/ 29)، وصالح بن أبي الأخضر وأضرابهما, وقال الدارقطني رواتها ثقات، رواه ابن أبي أويس عند الزهري، وتابعه عبد الجبار بن عمر عنه، وتابعه أيضاً هشام بن سعد عنه، قال: وكلهم ثقات، وهذا لا يقيد صحة هذه اللفظة، هؤلاء إنما هم أربعة، وقد خالفهم من هو أوثق منهم وأكثر عدداً، وهم أربعون نفساً، لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة، ولا ريب أن التعليل بدون هذا مؤثر في صحتها, ولو انفرد بهذه اللفظة من هو أحفظ منهم وأوثق، وخالفهم هذا العدد الكثير، لوجب التوقف فيها، وثقه الراوي شرط في صحة الحديث لا موجبه، بل =

-عليه الصلاة والسلام- أمره بالقضاء وأعلها ابن حزم (¬1)، بمن ¬

_ = لا بد من انتفاء العلة والشذوذ، وهما غير منتقين في هذه اللفظة، -قال أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه-، على قوله بل لا بد ... إلخ هذه اللفظة: وأين ما اتفقوا عليه ورجحوا: إن زيادة الثقة مقبولة. اهـ. ثم ساق الخلاف في الصيام وعدمه. وقال في مسند أحمد (11/ 149): وقد استدركت على ابن القيم -رحمنا الله وإياه- هناك -أي في تهذيب السنن- فقلت: "وأين ما اتفقوا عليه أو رجحوا: إن زيادة الثقة مقبولة؟ " ولم أكن مستحضراً هناك رواية عمرو بن شعيب هذه، فإنها تزيد زيادة الثقة رجحاناً وقبولاً. والحمد لله على التوفيق. اهـ. قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 99): ومن حجة من لم يرَ مع الكفارة قضاء أنه ليس في خبر أبي هريرة، ولا خبر عائشة، ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء وإنما فيهما الكفارة فقط، ولو كان القضاء واجباً لذكره مع الكفارة. ومن حجة من رأى القضاء مع الكفارة: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن أعرابياً جاء بنتف شعره، فقال: يا رسول الله: وقعت على امرأتي في رمضان ... " فذكر مثل حديث أبي هريرة وزاد وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي يوماً مكانه. قال ابن حجر في الفتح (4/ 172): بعد سياقه روايات هذه الزيادة والخلاف في الصيام: وبمجموع هذه الطرق أن لهذه الزيادة أصلاً. اهـ. وانظر: تلخيص الحبير. وقد نقل الشوكاني هذا في نيل الأوطار (4/ 243)، والحاشية للصنعاني (3/ 360). (¬1) أي بهشام بن سعد. انظر: المحلى (3/ 173) (7/ 365، 372) (8/ 15، 29) (9/ 141).

احتج به في الصحيح كعادته في التعنت. ووقع في الوسيط للغزالي أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأمر الأعرابي بالقضاء، وليس بجيد منه، وهذا الخلاف في حق الرجل. أما المرأة فيجب عليها القضاء قطعاً إذا لم تلزمها الكفارة، ولا يتحمل الزوج فإن الكفارة إذا [(¬1)] كانت صوماً لم يتحمل، فما ظنك بالقضاء. قال الفاكهي: ولا أعلم خلافاً في وجوب القضاء عليهما عندنا إلَّا ما تقدم من احتمال كلام ابن القصار مكرهة كانت أو طائعة. الحادى والثلاثون: اختلفوا في وجوب الكفارة على المرأة إذا مكنت طائعة فوطأها الزوج كما سلف في [الوجه] (¬2) الرابع عشر، ومشهور مذهب مالك أنها إن كانت طائعة يجب عليها كفارة أخرى عن نفسها مع القضاء، وإن كانت [مكرهة] (¬3) فالقضاء عليها وعلى زوجها كفارة عنها فيكون عنه كفارتان. عنه وعنها كذا فصل الفاكهي. وقال القرطبي: مذهب مالك والجمهور أن الكفارة على الجاني وحده. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (لم)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) في ن ب (الزوجة). (¬3) في ن ب (مكروهة)، وهي خطأ.

ومذهب الشافعي وأهل الظاهر أنها عنه وعن موطوئته. قلت: هذا قول عنه فإنّ عنْهُ أقوال: [أصحها] (¬1): يجب كفارة واحدة على الزوج. ثانيها: عنه وعنها. ثالثها: [عليها] (¬2) كفارة أخرى. وحكى الدارمي وغيره وجهاً أنه يجب على الزوج في ماله كفارتان: كفارة عنه، وكفارة عنها، وهو مصادم للحديث. والكلام على هذه الأقوال وما يتعلق بها محله كتب الفروع. ثم قال القرطبي: ومشهور مذهب مالك في المكرهة أن مكرهها يكفر عنها. قلت: وبالأول من أقوال الشافعي قال داود وأهل الظاهر. وبقول مالك: قال أبو ثور: وأهل الرأي أعني وجوب الكفارة على المرأة إن طاوعت كما أسلفناه في الوجه الرابع عشر ونقله البغوي في شرح السنة (¬3) عن أكثر العلماء. واحتج لعدم الوجوب عليها: أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها مع الحاجة إلى الإِعلام ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقد أمر -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) في ن ب (أحدها). (¬2) في ن ب (عليه). (¬3) شرح السنة (6/ 288).

والسلام- أُنيساً أن يغدر على امرأة العسيف، فإن اعترفت رجمها، فلو وجبت عليها لأعلمها بذلك، كما في حديث أنيس. ومن أوجبها عليها أجاب بوجوه (¬1): أحدها: أنّا لا نسلم الحاجة إلى إعلامها، فإنها لم تعترف بسبب الكفارة، وإقرار الرجل عليها لا يوجب عليها حكماً وإنما تمس الحاجة إلى إعلامها إذا ثبت الوجوب في حقها, ولم يثبت على ما بيناه. ثانيها: أنها قضية حال، يتطرق إليها الاحتمال، ولا عموم لها، وهذه المرأة يجوز أن لا تكون ممن يجب عليها الكفارة بهذا الوطء: إما لصغرها، أو جنونها، أو كفرها، أو حيضها، أو طهارتها من الحيض في أثناء النهار. واعترض على هذا بأنّ علمه -عليه الصلاة والسلام- بحيضها وعدمه عسر ولو كان علمُه ولم يخبره به الأعرابي ولم يسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستحيلاً. وأما باقي الأعذار المذكورة من الصغر والجنون وغيرها (¬2) فكلها أعذار تنافي التحريم على المرأة، وينافيها قوله في الرواية السالفة: "هلكت وأهلكت" (¬3) وجودة هذا الاعتراض ¬

_ (¬1) انظر كلام الخطابي في معالم السنن (3/ 270). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 363)، حيث اختلاف العبارات. (¬3) قال ابن حجر في فتح الباري (4/ 170): واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث: "هلكت وأهلكت" وهي زيادة فيها مقال. انظر: التعليق (4)، (212). =

موقوفة على صحة هذه الرواية (¬1). وقد علمت ما فيها فيما مضى. وثالثها: أنّا لا نسلم عدم بيان الحكم، فإن بيانه في حق الرجل بيان له في حق المرأة، لاستوائهما في تحريم الفطر، وانتهاك ¬

_ = وقد قال ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 85): وفي قوله: "وأهلكت" تنبيه على أنه أكرهها, ولولا ذلك لم يكن مهلكاً لها، والمكرهة لا كفارة عليها. اهـ. قلت: -أي ابن حجر- ولا يلزم من ذلك تعدد الكفارة، بل لا يلزم من قوله: "وأهلكت" إيجاب الكفارة عليها، بل يحتمل أن يكون قوله: "هلكت" أي أثمت "وأهلكت" أي كنت سبباً في تأثيم من طاوعتني إذ واقعتها, ولا ريب في حصول الإِثم على المطاوعة، ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها، وأهلكت أي نفسي بفعلي الذي جر عليّ الإِثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة. قال الصنعاني في حاشية الأحكام (3/ 364) معلقاً على هذا: ولا يعزب عنك أن الذي جعله احتمالاً متعين، وليس المراد سواه، فإن الأعرابي جاء مستفتياً وقال: "هلكلت وأهلكت" لم يكن عنده علم بما يلزمه من الكفارة قطعاً, ولذا جاء يستفتي، ولا علم بالكفارة إلَّا من جوابه - صلى الله عليه وسلم - عن سؤاله انما قد علم إثم إتيانه أهله في نهار رمضان عمداً لعلمه بأن الجماع محرم مفطر في نهار رمضان. اهـ. (¬1) قال الصنعاني في حاشية إحكام الأحكام (3/ 364): قال: بل لا جودة له على تقدير صحتها: "فإن مراده أهلكت بتأثيم من واقعتها لا بإيجاب الكفارة عليها. إذ لا علم له بوجوبها كما قررناه آنفاً. أما صحة هذه الرواية, فقد قال ابن حجر في الفتح (4/ 170): قال البيهقي إنه ألف الحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء. اهـ. وأطال ابن حجر الاستدلال على بطلانها.

الحرمة، مع العلم بأن إيجاب الكفارة هو ذاك، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، وهذا كما أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يذكر إيجاب الكفارة على سائر الناس غير الأعرابي، لعلمه بالاستواء في الحكم وهذا وجه قوي كما قال الشيخ تقي الدين: وإنما حاولوا التعليل عليه بأن بينوا في المرأة معنى يمكن أن يظن به اختلاف [حكمها مع حكم الرجل، بخلاف غير الأعرابي من الناس، فإنه لا معنى يوجب اختلاف] (¬1) حكمهم مع حكمه وذلك المعنى الذي أبدوه في حق المرأة هو أن مؤن النكاح لازمة على الزوج كالمهر وثمن ماء الغسل عن جِمَاعِهِ، فيمكن أن يكون [هذا] (¬2) منه. وأيضاً: فجعلوا الزوج في باب الوطء هو الفاعل المنسوب إليه الفعل، والمرأة محل، فيمكن أن يقال: الحكم مضاف إلى من [نسب] (¬3) إليه الفعل، فيقال واطءٍ ومواقع. ولا يقال للمرأة ذلك، قال الشيخ: وليس [هذا بقوي] (¬4)، فإن المرأة يحرم عليها التمكين. [وهي آثمة به مرتكبة كبيرة، كا] (¬5) لرجل. وقد أضيف اسم الزنا إليهما في كتاب الله -تعالى-. ومدار الوجوب على هذا ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في إحكام الأحكام. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 365) (ينسب). (¬4) في إحكام الأحكام (3/ 365) (هذان بقويين). (¬5) في إحكام الأحكام (3/ 365) (وتأثم به إثم مرتكب الكبائر كما).

المعنى (¬1). الثاني والثلاثون: دل الحديث (¬2) [دلالة ظاهرة] (¬3) على أنه لا مدخل لغير الخصال الثلاثة في الكفارة (¬4) ونقل عن الحسن البصري وعطاء أن المكفر إن لم يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة قال عطاء: أو بقرة. حكاه القرطبي ورواه مالك في الموطأ من مراسيل سعيد بن المسيب من رواية عطاء بن عبد الله الخراساني عنه، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "فهل تستطيع أن تهدي بدنة" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (4/ 169، 170)، ومعالم السنن للخطابي (3/ 270)، والفتح الرباني (10/ 96). (¬2) في ن ب (على هذا). (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 365). (¬4) إلى هنا في هذه المسألة ينتهي نقله من إحكام الأحكام. (¬5) قال أحمد شاكر في المسند (11/ 148): وذكر إهداء البدنة في الكفارة ثابت هنا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي مرسل عطاء بن أبي رباح أيضاً، كما هو بين. وقد ثبت أيضاً في حديث مرسل، رواه مالك في الموطأ -وقد سبق تخريجه- عن عطاء بن عبد الله الخرساني عن سعيد بن المسيب: "جاء أعرابي ... " إلخ، إلى أن قال: "هل تستطيع أن تهدي بدنة؟ قال: لا". وهذا المرسل رواه البيهقي (4/ 227) من طريق الشافعي عن مالك. وبالضرورة ليس هذا المرسل هو مرسل عطاء المروي هنا, لأنه "عن عطاء عن سعيد بن المسيب" فلا يراد إذا أطلق "مرسل عطاء"، بل يقال له: "مرسل سعيد بن المسيب" بداهة، ولذلك حين أشار إليه الحافظ "في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الفتح (4/ 167)، قال: "وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في الموطأ، عن عطاء الخراساني عنه" ثم أشار الحافظ إلى عطاء [يعني الخرساني] لم ينفرد بذلك، وذكر رواية مجاهد عن أبي هريرة، التي رواها ليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن ابن عبد البر بإسناده وقد أشرنا إليها آنفاً، ففاته أن ذلك ثابت أيضاً في رواية عطاء بن أبي رباح المرسلة، وفي رواية عمرو بن شعيب الموصولة، الليثي رواهما الإِمام أحمد هنا. اهـ. انظر: المعجم الأوسط (2/ 467)، من رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة، ومجمع الزوائد (3/ 168)، وقال: وفيه ليث بن أبي سليم -وهو ثقة- لكنه مدلس. مجمع البحرين (3/ 116)، وقد أسند البخاري في التاريخ الكبير (6/ 475)، ذكر البدنة من رواية غير عطاء الخراساني, فرواه عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعاً: "أعتق رقبة ثم قال: "انحر بدنة". وقال في الفتح الرباني (10/ 92): في رد رواية تكذيب سعيد بن المسيب عطاء في نحو البدنة: ونقل القاسم بن عاصم عن سعيد بن المسيب أنه قال كذب عطاء الخراساني، ما حدثته إنما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له تصدق. انظر: التاريخ الصغير (2/ 35)، والضعفاء للبخاري (90)، وميزان الاعتدال (3/ 74)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 406) -مع ما سبق من المصادر- وقد اضطرب في ذلك على القاسم. ولا يجرح بمثله عطاء فإنه فوقه في الشهرة بحمل العلم. وشهرته فيه الخبر أكثر من شهرة القاسم بن عاصم وإن كان البخاري ذكر عطاءٌ الخراساني بهذا الخبر في كتاب "الضعفاء" له ولم يتابعه أحد على ذلك. وعطاء مشهور بالفضل، وقد روى عنه الأئمة وله فضائل جمة، وقد أسند البخاري في التاريخ ذكر البدنة من رواية غير الخراساني، فرواه عن عطاء مجاهد عن أبي هريرة مرفوعاً: "أعتق رقبة ثم قال انحر بدنة"، قال البخاري: لا يتابع عليه. =

قلت: وقد اختلف في عطاء هذا على قولين: أحدهما: أنه ابن عبد الله. الثاني: أنه ابن ميسرة مولى المهلب ابن أبي صفرة، وأدخله البخاري في الضعفاء والمتروكين لتكذيب ابن المسيب له حين سئل عنه أنه حدثه بحديث الأعرابي كذب ما حدثته. قال القاضي عياض: أنكر سعيد على عطاء روايته عنه البدنة. وقال ابن طاهر: في تذكرته (¬1) قوله: "اهد بدنة" باطل. (¬2) قال ابن بزيزة: ووهم البخاري في إدخال عطاء في الضعفاء فإنه كان عالماً فاضلاً مجيداً للقرآن ولعلم القرآن من التفسير وغيره وروي عنه مالك ومعمر والأوزاعي (¬3). ¬

_ = وكذا أسنده قاسم بن أصبغ عن مجاهد مرسلاً إلَّا أن جمهور العلماء لم يروا نحر البدنة عملاً. بحديث ابن شهاب. اهـ. وانظر: الكلام على هذه الروايات مفصلاً في الاستذكار (10/ 114). ثم قال ابن عبد البر: قد وجدنا ذكر البدنة في هذا الحديث من غير رواية عطاء الخراساني، فلا وجه لإِنكار من أنكر ذلك عليه، والله أعلم إلَّا أن العمل عند أهل العلم بالحجاز والعراق الذين تدور عليهم الفتوى على ما في حديث ابن شهاب عن حميد، عن أبي هريرة المذكور عنه في هذا الباب ليس فيه نحر البدنة. (¬1) تذكرة الحفاظ (119، 120). (¬2) في ن ب د زيادة (واو). (¬3) للوقوف على ما قيل فيه، انظر: التاريخ الصغير للبخاري (2/ 35)، والضعفاء له (90)، والتاريخ الكبير (6/ 474)، وميزان الاعتدال (3/ 74)، وطبقات ابن سعد (7/ 379)، وتاريخ خليفة (410)، =

الثالث والثلاثون: يستنبط من الحديث أن من ادعى عذراً يسقط عنه شيئاً أو يفتح له أخذ شيء يقبل قوله ولا يكلف إقامة البينة على ذلك. فإن هذا الرجل ادعى الفقر وادعى أنه ما أصيب إلَّا من الصوم [كما مضى. الرابع والثلاثون: قوله له] (¬1) "خذ هذا فتصدق به" يلزم منه أن [يكون ملّكه إياه ليتصدق به عن كفارته ويكون] (¬2) هذا كقول القائل أعتقت عبدي عن فلان فإنه يتضمن سبقيه الملك عند قوم. قال القرطبي: وأباه أصحابنا مع الاتفاق على أن الولاء للمعتق عنه، وأن الكفارة تسقط بذلك. الخامس والثلاثون: جاء في رواية في الصحيح "أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر بعتق رقبة" وذكر الحديث ويتمسك بهذه الرواية لمذهب مالك وجماعة أن من هتك صوم رمضان بأي وجه كان من أكل أو شرب أو غيرهما تجب عليه الكفارة لكن للمخالف أن يحمل الإِفطار على الموافقة جمعاً بين الروايات ويبعد كل البعد تعدد الواقعة. ¬

_ = وطبقات خليفة (313)، والجرح والتعديل (6/ 334، 335). علماً أن أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- قال: وأما مرسل عطاء: فإني رجحت أنه عطاء بن أبي رباح لأن الحجاج بن أرطأة يروي عنه ... إلخ، المسند (11/ 148)، وانظر التعليق السابق وما ذكره الساعاتي -رحمنا الله وإياه-. (¬1) في الأصل بياض. (¬2) في الأصل بياض.

وإن ادعى القرطبي: أن التعدد هو الظاهر لأجل مذهبه في ذلك (¬1). السادس والثلاثون: ترجم البخاري على هذا الحديث في كتاب الهبة (¬2) من صحيحه باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل: قبلت. وترجم عليه في النفقات: باب نفقة المعسر على أهله (¬3). كما تقدم. ... ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (10/ 101). (¬2) البخاري مع الفتح (5/ 223). (¬3) البخاري مع الفتح (9/ 513، 514).

36 - باب الصوم في السفر [وغيره]

36 - باب الصوم في السفر [وغيره] (¬1) ذكر فيه -رحمه الله- أحد عشر حديثاً: الحديث الأول 186/ 1/ 36 - عن عائشة -رضي الله عنها-: أن حمزه بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أأصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال (¬2): "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: حمزة هذا مدني كنيته أبو صالح (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في بعض كتب الحديث: أنت بالخيار. (¬3) البخاري (1942، 1943)، ومسلم (1121)، وأبو داود (2402) في الصيام، باب: الصوم في السفر، والترمذي (711) , والنسائي (4/ 187، 188)، وابن ماجه (1662)، وابن خزيمة (2028)، وابن الجارود (397)، وأحمد (6/ 46، 193، 202)، وابن حبان (3560)، والدارمي (2/ 8)، وابن أبي شيبة (3/ 16)، ومالك (1/ 295)، والفريابي في الصيام (105، 106، 107، 108، 109). (¬4) في الثقات لابن حبان (3/ 70).

ويقال: أبو محمد. وكان البشير بوقعة أجنادين إلى أبي بكر. وقيل: هو الذي بشر كعب بن مالك بتوبته فكساه ثوبيه. وروى البخاري [في تاريخه] (¬1) عنه قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فتفرقنا في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى حملوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعي لتنير". روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أحاديث روى له مسلم حديثاً واحداً من حديث أبي [مراوح] (¬2) عنه وقد أخرجا ذكره في هذا الحديث. مات سنة إحدى وستين. قال ابن حبان في "ثقاته" (¬3): في ولاية يزيد بن معاوية وهو ابن إحدى وسبعين سنة. فائدة: في الصحابة أيضاً حمزة غير هذا: حمزة بن عبد المطلب، وحمزة بن الحمير حليف لبني عبيد بن عدي الأنصاري (¬4). ¬

_ (¬1) التاريخ الكبير (3/ 46)، والمعجم الكبير للطبراني (3/ 159). قال في المجمع (9/ 411): ورجاله ثقات، وفي كثير بن زيد اختلاف، وتاريخه ساقطة من الأصل. (¬2) في ن ب (مرواح)، وهو تصحيف. (¬3) الثقات (3/ 70). (¬4) قد ذكره ابن الأثير في أسد الغابة (2/ 50، 52).

ثانيها: الأسلَمي -بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح اللام وكسر الميم- نسبة إلى أسلم بن أفصى -بالفاء- ويشتبه هذا بالأسلُمي بضم اللام نسبة إلى أسلُم بن الجاف بن [بضاعة] (¬1). ثالثها: في الحديث دليل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، وليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان، وربما استدل به من يجيز صوم رمضان في السفر، فمنعوا الدلالة من حيث ما ذكرناه، من عدم الدلالة على كونه صوم رمضان. كذا قاله الشيخ تقي الدين (¬2) وكأنه استند في ذلك إلى قول ابن حزم (¬3)، إنما سأله عن التطوع وهو عجيب ففي سنن أبي داود (¬4) من حديث حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه عن جده ما هو صريح، أنه سأله عن شهر رمضان، لكن ابن حزم اختصرها (¬5) وأعلها بضعف حمزة (¬6) وأبيه. فأما حمزة: فمجهول، وأما أبوه: فعَنْهُ جماعة، وذكره ابن حبان في "ثقاته" (¬7)، وقد روى الحديث الحاكم (¬8) في مستدركه عليه. ¬

_ (¬1) وفي توضيح النسبة (1/ 228): قضاعة. قال بعده: قلت: وإلى أسلم بن القِيَاتة بن الغافِق بن الشاهد بن عَكّ، وإلى أسلُم بن تدُول بن تيم اللات بن رُفَيدة بن ثور بن الكلب ... إلخ. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 366). (¬3) المحلى (6/ 253). (¬4) أبو داود (2296) في الصيام، باب: الصوم في السفر. (¬5) المحلى (6/ 248). (¬6) المرجع السابق (6/ 250). (¬7) الثقات لابن حبان (5/ 357). (¬8) المستدرك للحاكم (1/ 433).

ووهم ابن العطار في"شرحه" فعزاه باللفظ الذي سقناه إلى مسلم فاجتنبه. ويؤيد هذه الرواية التي ذكرناها قوله -عليه الصلاة والسلام- لحمزة بن عمرو في رواية أخرى لمسلم (¬1): "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" ولا يقال في التطوع مثل هذا، فظهر بهذا أن المراد بقوله: "أأصوم في السفر" أنه صوم رمضان لا صوم التطوع. وكذا قوله في الصحيح: "إني أسرد الصوم" [فالمراد سرد] (¬2) رمضان لا سرد صوم التطوع جمعاً بين الروايات وإن كان ظاهر هذه [الرواية] (¬3) [أنه] (¬4) التطوع وقوله أيضاً "كان كثير الصيام" يشعر به وعلى هذا الظاهر جرى النووي في "شرح مسلم" (¬5)، حيث [قال] (¬6): فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضرراً، ولا يفوّت به حقّاً بشرط فطر يوميّ العيد وأيام التشريق، قال: لأنه أخبر، بسرده، ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى، قال: وهذا محمول على أن حمزة كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق، كما قال في ¬

_ (¬1) مسلم (1121)، والنسائي (4/ 186، 187)، والحاكم (1/ 433)، وابن خزيمة (2026)، والبيهقي (4/ 243)، وابن حبان (3567). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في ن ب (له). (¬5) انظر: (7/ 237). (¬6) في ن ب (قاله).

الرواية الأخرى "أجد بي قوة على الصيام" ثم شرع يجمع بين حديث حمزة هذا وحديث (¬1) عمرو بن العاص في النهي عنه. ثم اعلم بعد ذلك أن جمهور العلماء على أن المسافر سفراً طويلاً مباحاً إن صام في سفره، أجزأه. وذهبت الشيعة: إلى أنه لا يصح وعليه القضاء. واختلف أصحاب داود الظاهري (¬2): فذهب بعضهم: إلى أنه ينعقد صومه. وذهب بعضهم: إلى أنه لا يجزئه ولا ينعقد، وعليه القضاء. وحكي عن ابن عمر أنه قال: من صام في السفر قضى في الحضر (¬3). وحكي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" (¬4) قال البيهقي: وهو موقوف منقطع. قال: وروي مرفوعاً وإسناده ضعيف. ¬

_ (¬1) هكذا هنا، والصحيح أنه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال النووي في مسلم (7/ 227): وأما إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمرو بن العاص ... إلخ. (¬2) انظر: الاستذكار (10/ 72). (¬3) روى معني ذلك استنتاجاً من قوله: "من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإِثم مثل جبل عرفة". انظر: فتح الباري (4/ 183). (¬4) النسائي (4/ 183)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 14)، والبيهقي (4/ 244)، وقال: وهو موقوف وفي إسناده انفطاع، وروي مرفوعاً وإسناده ضعيف. انظر: الاعتبار للحازمي (358)، وابن ماجه (1666). وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده انقطاع، أسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً. قاله ابن معين والبخاري، والفريابي في كتاب الصيام (140).

وحكى أصحابنا بطلانه عن أبي هريرة (¬1)، وحكى أنه مذهب عمر (¬2)، ومتمسك هؤلاء قوله -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) أي فعليه عدة، أو فالواجب عدة، والحديث الآتي "ليس من البر الصوم في السفر" (¬4) والحديث الآخر "أولئك العصاة" (¬5) وتأول الجمهور أن في الآية حذف التقدير "فأفطروا". واستدلوا على صحته بالأحاديث الصحيحة في صومه -عليه الصلاة والسلام- فيه (¬6)، وتخييره بينه وبين الإِفطار (¬7) فدل ذلك ¬

_ (¬1) الفريابي في الصيام (141)، وساق بسنده: عن محرر بن أبي هريرة قال: كنت في سفر فصمت رمضان، فلما رجع، قال له أبو هريرة: اقضه فقضاه. (¬2) الفريابي في الصيام (139)، وساق بسنده: عن عمرو بن دينار، عن رجل، عن أبيه؛ أنه سأل عمر بن الخطاب عن رجل صام رمضان في السَّفر؟ فأمره عمر أن يبدل. (¬3) سورة البقرة: آية 184. (¬4) سيأتي تخريجه إن شاء الله. (¬5) مسلم (1114)، والحميدي (1289)، والترمذي (710)، والنسائي (4/ 177)، والطيالسي (1667). (¬6) ورد من رواية جابر وانظر ما قبله، ومن رواية ابن عباس عند البخاري (2954، 4275)، ومسلم (1113)، والنسائي (4/ 189)، وابن خزيمة (2035)، والحميدي (514)، وأحمد (1/ 219، 334) , وأبي سعيد عند أحمد (3/ 21). (¬7) أقول: وهذا في حديث الباب، وهو قوله: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

على أن المعنى على ما قدروه من الحذف، وأن القضاء على من أفطر فقط. ويقوي قولهم أيضاً الرواية السالفة: "هي رخصة من الله" ثم اختلفوا في الأفضل على أقوال. أحدها: أن الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر. فإن تضرر به فالفطر أفضل، وبه قال أنس (¬1) بن مالك، ومالك في المشهور عنه، كما قال القرطبي (¬2) وأبو حنيفة (¬3) وحكاه الخطابي (¬4) عن عمر بن عبد العزيز وقتادة ومجاهد، وحكاه النووي في "شرح مسلم" (¬5) عن الأكثرين مبادرة إلى تخليص الذمم ومسابقة إلى الخيرات، ولأنه -عليه الصلاة والسلام- وعبد الله بن رواحة صاموا كما سيأتي، وقد قال -تعالى-: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6). ثانيها: أن الفطر أفضل، وإليه ذهب ابن عباس، فقال: "عسر ويسر خذ يسر الله" (¬7) وابن عمر وكان يقول "رخصة ربي أحب إليّ" ¬

_ (¬1) الاستذكار (10/ 79). (¬2) "قال: قال مالك: وذلك واسع وأحب ذلك إليّ الصيام في السفر لمن قوي عليه". انظر: الصيام للفريابي (112)، والمغني لابن قدامة (3/ 150). (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 79). (¬4) انظر: معالم السنن (3/ 283). (¬5) (7/ 229). (¬6) سورة البقرة: آية 184. (¬7) الاستذكار (10/ 79)، والمحلى لابن حزم (6/ 247)، واختلفت الرواية =

مع أنه كان من أهل التشديد على نفسه والأخذ بالأشد، وقال: "أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ألا تغضب" (¬1) وذهب إليه أيضاً سعيد بن المسيب (¬2)، والأوزاعي (¬3) وأحمد وإسحاق وغيرهم، وحكاه بعض (¬4) أصحابنا قولاً للشافعي. واحتجوا بما سلف لأهل الظاهر وبحديث "هي رخصة من الله" السالف وظاهره ترجيح الفطر، وبالحديث الآتي: "ليس من البر الصيام في السفر" (¬5). وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضرراً أو يجد ¬

_ = عنه في جواز الصيام في السفر ففي رواية عنه أنه لا يجزىء المسافر أن يصوم، ورواية ثانية أن الصيام في السفر جائز وروى ابن حزم في المحلى عن ابن عباس أن الصوم للمسافر هو الأفضل. وروى عنه أنه قال: "إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - برخصة الإِفطار في السفر تيسيراً عليكم، فمن يُسّر عليه الصوم فليصم ومن يُسّر عليه الفطر فليفطر". انظر: عبد الرزاق (2/ 570، 569)، وابن جرير في التفسير (2/ 156). (¬1) انظر: كتاب الصيام للفريابي (103)، مع اختلاف في الألفاظ، وانظر: الاستذكار (10/ 79). (¬2) قال البيهقي في المعرفة (6/ 298): قال سعيد بن المسيب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خياركم الذين إذا سافروا أفطروا وقصروا الصلاة". انظر: الاستذكار (10/ 79). (¬3) الصيام للفريابي (114)، والاستذكار (10/ 79). (¬4) انظر: الاستذكار (10/ 79). (¬5) انظر: إيضاح معنى هذا الحديث بالتفصيل في الاستذكار (10/ 81، 82)، وما يأتي في التعليق (22).

مشقة، كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري الثابت في الصحيح (¬1): "كنا نغزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن. ويرون أن من وجد ضعفاً فافطر فإن ذلك حسن. وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (1116، 1117)، والترمذي (712، 713)، وأبو داود (2406) في الصيام، باب: الصوم في السفر، والنسائي (4/ 188، 189)، وابن خزيمة (2030، 2038)، وابن حبان (3558)، والبيهقي (4/ 245)، وأحمد (3/ 50). (¬2) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 284): وقد احتج به -أي حديث (2300) - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأى رجلاً يظلَّلُ عليه، والزحام عليه. فقال: "ليس من البِرِ الصيام في السفر" واحتجوا بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واحتجوا أيضاً بحديث دحية بن خليفة الكلبي: "أنه لما سافر من قريته في رمضان، وذلك ثلاثة أميال أفطر، فأفطر معه الناس، وكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت أمراً ما كنت أظن أني أراه، إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا. ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك". رواه أبو داود وغيره. واحتجوا أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقبول رخصة الفطر. فروى النسائي من حديث جابر، يرفعه: "ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = واحتجوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذين صاموا: "أولئك العصاة" رواه النسائي في قصة فطره عام الفتح. واحتجوا أيضاً بقول عبد الرحمن بن عوف: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". رواه النسائي. ولا يصح رفعه، وإنما هو موقوف. واحتجوا أيضاً بأن الله -تعالى- إنما أمر المسافر بالعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي أمر به، فلا يجوز غيره. وحكى ذلك عن غير واحد من الصحابة. وأجاب الأكثرون عن هذا بأنه ليس فيه ما يدل على تحريم الصوم في السفر على الإِطلاق، وقد أخبر أبو سعيد "أنه صام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح في السفر". قالوا: وأما قوله: "ليس من البر الصيام في السفر"، فهذا خرج على شخص معين، رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ظلل عليه، وجهده الصوم، فقال هذا القول، أي ليس البر أن يجهد الإِنسان نفسه حتى يبلغ بها هذا المبلغ، وقد فسح الله له في الفطر. فالأخذ إنما يكون بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر. وأيضاً فقوله: "ليس من البر"، أي ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإِفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوى عليه. وقد يكون الفطر في السفر المباح برّاً، لأن الله -تعالى- أباحه ورخص فيه، وهو -سبحانه- يحب أن يؤخذ برخصه، وما يحبه الله فهو بر، فلم ينحصر البر في الصيام في السفر. وتكون "من" على هذا زائدة، ويكون كقوله -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية، وكقولك: ما جاءني من أحد، وفي هذا نظر. وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة، بل هي على حالها، والمعنى: أن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وتتنافسون عليه. فإنهم ظنوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه، وأنه وحده البر الذي لا أبر منه، فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه، فإنه قد يكون الفطر أحب إلى الله منه، فيكون هو البر. قالوا: وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمراد به واقعة معينة، وهي غزاة الفتح، فإنه صام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، فكان فطره آخر أمريه، لا أنه حرم الصوم، ونظير هذا قول جابر: "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسته النار" إنما هو في واقعة معينة، دُعي لطعام وأكل منه، ثم توضأ وقام إلى الصلاة، ثم أكل منه وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار. وجابر هو الذي روى هذا وهذا، فاختصر بعض الرواة والأمر منه على آخره. ولم يذكر جابر لفظاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا آخر الأمرين منه وكذلك قصة الصيام، وإنما حكوا ما شاهدوه أنه فعل هذا وهذا، وآخرهما منه الفطر، ترك الوضوء، وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها. وأما قصة دحية بن خليفة الكلبي، فإنما أنكر فيها على من صام رغبة عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وظنَّاً أنه لا يسوغ الفطر. ولا ريب أن مثل هذا قد ارتكب منكراً، وهو عاص بصومه. والذين أمرهم الصحابة بالقضاء وأخبروا أن صومهم لا يجزيهم، هم هؤلاء، فإنهم صاموا صوماً لم يشرعه الله، وهو أنهم ظنوا أنه حتم عليهم كالمقيم. ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله، فلم يمتثلوا ما أمروا به من الصوم، فأمرهم الصحابة بالقضاء. هذا أحسن ما حمل عليه قول من أفتى بذلك من الصحابة، وعليه يحمل قول من قال منهم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" وهذا من كمال فقههم، ودقة نظرهم -رضي الله عنهم-. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها" فهذا يدل على أن قبول المكلف لرخصة الله واجب، وهذا حق، فإنه متى لم يقبل الرخصة ردها ولم يرها رخصة، وهذا عدوان منه ومعصية، ولكن إذا قبلها، فإن شاء أخذ بها، وإن شاء أخذ بالعزيمة. هذا مع أن سياق الحديث يدل على أن الأمر بالرخصة لمن جهده الصوم وخاف على نفسه، ومثل هذا يؤمر بالفطر. فعن جابر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء. قال: ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: يا رسول الله صائم. قال: "إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها" رواه النسائي. قالوا: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك العصاة" فذاك في واقعة معينة، أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم، فقال هذا: ففي النسائي عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس معه، فبلغه أن الناس شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب، والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض. فبلغه أن ناساً صاموا. فقال: "أولئك العصاة" فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أفطر بعد العصر ليقتدوا به، فلما لم يقتد به بعضهم قال: "أولئك العصاة"، ولم يرد بذلك تحريم الصيام مطلقاً على المسافر. والدليل عليه: ما روى النسائي أيضاً عن أبي هريرة قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران، فقال لأبي بكر وعمر: "ادنيا، فكلا". فقالا: إنا صائمان. فقال: "ارحلوا لصاحبكم. اعملوا لصاحبكم"، وأعله بالإِرسال. ومر الظهران: أدنى إلى مكة من كراع الغميم، فإن كراع الغميم بين يدي عسفان بنحو ثمانية أميال، وبين مكة وعسفان ستة وثلاثون ميلاً. قالوا: وأما احتجاجكم بالآية، وأن الله أمر المسافر بعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي لا يجوز غيره، فاستدلال باطل فطعاً. فإن الذي أنزلت =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عليه هذه الآية، وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها، قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر، ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم، ولا يعتقده مسلم، فعلم أن المراد بها غير ما ذكرتم. فإما أن يكون المعنى: فأفطر، فعدة من أيام أخر، كما قال الأكثرون، أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزىء عنه، وتقبل منه, ونحو ذلك. فما الذي أوجب تعيين التقدير بأن عليه عدة من أيام أخر، أو ففرضه، ونحو ذلك؟ وبالجملة: ففعل من أنزلت عليه تفسيرها، وتبيين المراد منها، وبالله التوفيق. وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم، يحتجون بعموم نص على حكم، ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده، ومن تدبر هذا علم به مراد النصوص، وفهم معانيها. وكان يدور بيني وبين المكيين كلام في الاعتمار من مكة في رمضان وغيره، فأقول لهم: كثرة الطواف أفضل منها، فيذكرون قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عمرة في رمضان تعدل حجة"، فقلت لهم في أثناء ذلك: محال أن يكون مراد صاحب الشرع العمرة التي يخرج إليها من مكة إلى أدنى الحل، وأنها تعدل حجة، ثم لا يفعلها هو مدة مقامه بمكة أصلاً، لا قبل الفتح ولا بعده، ولا أحد من أصحابه، مع أنهم كانوا أحرص الأمة على الخير، وأعلمهم بمراد الرسول، وأقدرهم على العمل به. ثم مع ذلك يرغبون عن هذا العمل اليسير والأجر العظيم؟ يقدر أن يحج أحدهم في رمضان ثلاثين حجة أو أكثر، ثم لا يأتي منها بحجة واحدة، وتختصون أنتم عنهم بهذا الفضل والثواب، حتى يحصل لأحدكم ستون حجة أو أكثر؟ هذا ما لا يظنه من له مسكة عقل. وإنما خرج كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمرة المعتادة التي فعلها هو وأصحابه، هي التي أنشأوا السفر لها من أوطانهم، وبها أمر أم معقل، وقال لها: "عمرة في رمضان تعدل حجة" ولم يقل =

ثالثها: أن الصوم والفطر سواء، لتعادل الأحاديث، قال القرطبي: وعليه جل أهل المذهب، ثم ادعى أن الأحاديث دالة له، وليس كما قال، بل هي دالة للأول. رابعها: إن من لا يتضرر بالصوم في الحال ولكن يخاف الضعف لو صام وكان سفر حج أو غزوة (¬1) فالفطر أولى. حكاه الرافعي في كتاب الصوم عن "التتمة" وحكى الجيلي وجهان: أن من خاف ضرراً لا يصح صومه وهو غريب. الرابع: في الحديث دليل على السؤال عن العلم في كل ما يعرض للإِنسان من جوازه وأفضليته. الخامس: فيه دليل أيضاً على [أن] (¬2) المستفتي يذكر للمفتي حاله وما يعرض له ولا يكتمه شيئاً مما يتعلق بسؤاله. [السادس] (¬3): جمهور العلماء على أنه يشترط في جواز الفطر كون السفر طويلاً، كما جزمت به فيما مضى، وهو عند [أهل] (¬4) العراق ثلاثة أيام. ¬

_ = لأهل مكة: اخرجوا إلى أدنى الحل فأكثروا من الاعتمار، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة، ولا فهم هذا أحد منهم. وبالله التوفيق. اهـ. (¬1) فائدة: في الأعذار التي يباح للصائم الفطر: وعوارض الصوم التي قد يغتفر ... للمرء فيها الفطر تسع تستطر حبل وإرضاع وإكراه سفر ... مرض جهاد جَوْعة عطش كبر (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) في ن ب د (خاتمة). (¬4) زيادة من ن ب د.

وعند أكثر أهل الحجاز يوم وليلة، [وقد كان ابن عمر وابن عباس لا يريان القصر والإِفطار في أقل من أربعة برد]. وادعى ابن بزيزة أن الصحيح: أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يخص سفراً من سفر، وأنه ظاهر الآية (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 292): قال المجوزون للفطر في مطلق السفر: هب أن حديث دحية لم يثبت. فقد أطلق الله -تعالى- السفر، ولم يقيده بحد، كما أطلقه في آية التيمم , فلا يجوز حده إلَّا بنص من الشارع، أو إجماع من الأمة، وكلاهما مما لا سبيل إليه، كيف وقد فصر أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة، ولا تأثير للنسك في القصر بحال؟ فإن الشارع إنما علل القصر بالسفر، فهو بالوصف المؤثر فيه وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى مسيرة البريد سفراً، في قوله: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر بريداً إلَّا مع ذي محرم"، وقال -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، وهذا يدخل فيه كل سفر، طويل أو قصير، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإِبل حقها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب بادروا بها نقبها"، وهذا يعم كل سفر، ولم يفهم منه أحد اختصاصه باليومين فما زاد، ونهى "أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو"، ونهى "أن يسافر الرجل وحده"، وأخبر "أن دعوة المسافر مستجابة"، وكان "يتعوذ من وعثاء السفر"، وكان "إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه"، ومعلوم أن شيئاً من هذه الأسفار لا يختص بالطويل، ولا أنه لو سافر دون اليوم لم يقرع بين نسائه، ولم يقض للمقيمات، فما الذي أوجب تخصيص اسم السفر بالطويل بالنسبة إلى القصر والفطر دون غيرها؟ قالوا: وأين معناه في الشريعة تقسيم الشارع السفر إلى طويل وقصير، =

وقال قوم: يجوز في كل سفر وإن قصر، قال الخطابي (¬1): وأظنه مذهب داود وأهل الظاهر. قلت: ولا بد أيضاً من اشتراط كونه حلالاً. فالعاصي بسفره لا يفطر. ... ¬

_ = واختصاص أحدهما بأحكام لا يشاركه فيها الآخر؟ ومعلوم أن إطلاق السفر لا يدل على اختصاصه بالطويل، ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مقداره. وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، فسكوته عن تحديده من أظهر الأدلة على أنه غير محدود شرعاً، قالوا: والذين حددوه -مع كثرة اختلافهم وانتشار أقوالهم- ليس معهم نص بذلك، وليس حد بأولى من حد، ولا إجماع في المسألة، فلا وجه للتحديد، وبالله التوفيق. اهـ. (¬1) انظر: معالم السنن (3/ 292).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 187/ 2/ 36 - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: ظاهر هذا الحديث أن هذا كان في صوم رمضان لقرينة عدم العيب، إذ الصوم المرسل لا يعاب. فإن قلت: بل ظاهره أنه كان في غير رمضان، لقول أنس: "كنا" و"كان" تقتضي الدوام، ولم يكن أسفاره -عليه الصلاة والسلام- الغالبة في رمضان. فالجواب: أن "كان" بوضعها لا تقتضي الدوام، وإنما تقتضي الوقوع مرة، اللهم إلَّا أن يدل عليه دليل. وقد استعملت عائشة -رضي الله عنها- كان في المرة الواحدة، فقالت: "كنت أطيب ¬

_ (¬1) البخاري (1947)، ومسلم (1118)، وأبو داود (2405) في الصيام، باب: الصوم في السفر، ومالك (1/ 295)، والبغوي (1761)، والبيهقي (4/ 244)، ومعرفة السنن (6/ 294)، ومعاني الآثار (2/ 68).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت"، ومعلوم أن عائشة لم تحج معه إلَّا حجة الوداع، ولا يقال: إن ذلك كان في العمرة، فإن العمرة لا يجوز فيها الطيب قبل الطواف. ثانيها: هذا الحديث مرفوع من غير شك، وهو راد على من منع الصوم في السفر، وعلى من زعم أنه إذا أنشأ السفر في رمضان لم يجز له أن يفطر (¬1). ثالثها: فيه دلالة على أن الأشياء من الأحكام وغيرها لم تتغير عن وضعها بنظر ولا اجتهاد. وأن من اختص بحال في نفسه لا يلزم في أحكام الشرع عموم الناس. رابعها: قد يستدل به من يقول: الصوم والفطر سواء، لانقسام ذلك بين الصحابة من غير نكير. ... ¬

_ (¬1) وهو مروي عن علي بن أبي طالب. انظر: مصنف عبد الرزاق (4/ 269)، والمحلى (6/ 247)، وابن أبي شيبة (3/ 18)، والاستذكار (10/ 72)، وفيه عن عبيدة، وسويد بن غفلة، وأبو مجلز.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 188/ 3/ 36 - عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في شهر رمضان، في حر شديد، حتى إنْ كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الله بن رواحة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه واسمه عويمر، وقيل: عامر، أنصاري خزرجي، تأخر إسلامه قليلاً، فأسلم يوم بدر، وكان آخر أهل داره إسلاماً، وحسن إسلامه وآخا النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان، وكان فقيهاً عاقلاً حكيماً، وهو أحد من جمع القرآن، شهد ما بعد أحد من المشاهد، واختلف في شهوده أحداً، وولي قضاء دمشق في خلافة عثمان، وهو أول من قضاها، وكان القاضي خليفة الأمير إذا غاب. روي له مائة حديث وتسعة وسبعون حديثاً اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثمانية، روى عنه: ابنه بلال القاضي وزوجته أم الدرداء وخلق. مات بالشام سنة إحدى وثلاثين، ¬

_ (¬1) البخاري (1945)، ومسلم (1122)، وأبو داود (2409) في الصيام، باب: فيمن اختار الصيام، وابن ماجه (1663)، والبيهقي (4/ 245).

قاله جماعة. وقبره وقبر زوجته بدمشق، وترجمته مبسوطة فيما أفردته في أسماء الرجال الواقعة في هذا الكتاب، فراجعه منه تجد ما يشفي العليل (¬1). فائدة: جماعة من الرواة اشتركوا مع عويمر هذا في الاسم ذكرتهم في الكتاب المشار إليه. فائدة ثانية: أبو الدرداء (¬2) ممن [وافقت] (¬3) كنيته كنية زوجته وهم جماعة أفردهم [بعض] (¬4) الحفاظ في جزء. ثانيها: عبد الله بن رواحة المذكور في المتن أوضحت ترجمته في الكتاب المشار إليه أيضاً، وهو أنصاري خزرجي، أحد النقباء ليلة العقبة، وقتل بمؤتة سنة ثمان، وهو أحد الشعراء المحسنين، الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثالثها: هذا الصوم الظاهر أنه كان في غزوة بدر، لأن أسفاره -عليه الصلاة والسلام- فيما بين بدر ومؤتة لم يكن شيء منها في رمضان غير بدر (¬5)، فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يسافر إلَّا في ¬

_ (¬1) انظر: أسد الغابة (6/ 97) , وطبقات ابن سعد (7/ 391)، والجرح والتعديل (7/ 26، 28)، وسير أعلام النبلاء (2/ 335). (¬2) انظر: كتاب من وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة (51)، لأبي الحسن محمد بن عبد الله بن حَيَّوَيْه. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) قال ابن حجر في الفتح (4/ 183): ولا يصح حمله أيضاً على بدر، لأن أبا الدرداء لم يكن حينئذٍ أسلم.

غزو أو حج بعد هجرته إلى المدينة. رابعها: قوله: "حتى إن" "إنْ" هذه مخففة من الثقيلة عند البصريين، والأصل عندهم: أنه كان أحدنا ليضع. وهي عند الكوفيين بمعنى ["ما" و"اللام" بمعنى] (¬1) "إلَّا" والتقدير ما كان أحدنا إلَّا ليضع (¬2). خامسها: في الحديث رد على من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر، كما تقدم. فإن الحديث مصرح بأن هذا الصوم وقع في رمضان في السفر، وأنه صحيح جائز. سادسها: فيه دلالة على الاقتداء به -عليه أفضل الصلاة والسلام- في [أفعاله وأحواله] (¬3). سابعها: فيه دلالة أيضاً على شرعية حكاية الحال. ... ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) انظر: حروف المعاني للزجاجي (62). (¬3) في ن ب د تقديم وتأخير.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 189/ 4/ 36 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال: "ليس من البر الصوم في السفر (¬1) " (¬2). ولمسلم: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (1946)، ومسلم (1115)، وأبو داود (2407) في الصيام، باب: اختيار الفطر، والنسائي (4/ 177)، والبغوي (1764)، وأحمد (3/ 299، 319)، وابن خزيمة (2017)، والبيهقي (4/ 242، 243)، وابن الجارود (399). (¬2) في ن والعمدة (وفي لفظ المسلم). (¬3) مسلم (1115)، والنسائي (4/ 176)، والطحاوي (1/ 329، 330)، والفريابي في الصيام (77). قال ابن حجر في الفتح (4/ 186): تنبيه: أوهم كلام صاحب العمدة أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك، وإنما هي بقية في الحديث لم يوصل إسنادها كما تقدم بيانه، نعم وقعت عند النسائي موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده، وعند الطبراني من حديث كعب بن عاصم الأشعري كما تقدم. اهـ. =

الكلام عليه من وجوه: الأول: [هذا] (¬1) الرجل المبهم الذي ظلل عليه لم أره بعد التتبع فليبحث عنه. وهذه [السفرة] (¬2) كانت في غزوة تبوك، وهذه ¬

_ = قال الألباني في الإِرواء (4/ 56): قلت: وفي هذا الكلام ملاحظتان: الأولى: أن الذي أخذه الحافظ على "صاحب العمدة"، قد وقع فيه الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 461) فقال: عقب الحديث: "وزاد مسلم في لفظه، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم". وليس هذا فقط، بل تابعه على ذلك الحافظ نفسه في الدراية (177). والأخرى: قوله: "وعند الطبراني ... "، فإني أظنه خطأ مطبعيّاً، فإنه قال قبل صحيفة الفتح (4/ 184): "قال الطبري: بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعري ولفظه: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم، قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لصاحبكم؟ أي وجع به؟ " فقالوا: ليس به وجع، ولكنه صائم، وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ: "ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم"، فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال. قلت: فهذا الحديث لم أجده في تفسير الطبري مع أنه قد ذكر فيه (3/ 475)، نحو هذا الكلام، ولكن عقب حديث جابر هذا, وليس فيه حديث كعب هذا، فلعله في بعض كتبه الأخرى "كالتهذيب" مثلاً والله أعلم. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب ساقطة.

الواقعة كانت بعدما أضحى النهار، كما رواه الشافعي (¬1). الثاني: قوله: "ليس من البر" روي في بعض الروايات بإسقاط "من" و"من" هذه هي الزائدة المزادة لتأكيد النفي. قال القرطبي: وقد ذهب بعض الناس إلى أنها مُبِعِضَة هنا وليس بشيء. قال: وروى أهل الأدب: "ليس من أم بر أم صيام في أم سفر"، فأبدلوا من اللام ميماً، وهي لغة قوم من العرب وهي قليلة. قلت: رواه بهذا اللفظ أحمد (¬2) في مسنده من حديث [(¬3)]. [الثالث] (¬4): في الحديث تفقد الإِمام أحوال رعاياه، وعدم إهمالهم وسؤاله عن حقيقة الأمر والسبب المقتضي لتغير الحال المعهودة. [الرابع] (¬5): أُخذ من هذا الحديث أن كراهة الصوم في السفر ¬

_ (¬1) معرفة السنن (6/ 291)، والبيهقي (4/ 242، 243)، وابن حبان (3553). (¬2) من حديث كعب بن عاصم الأشعري (5/ 434)، وانظر: توجيه هذه الرواية في تلخيص الحبير (2/ 205)، والإِرواء (4/ 56). (¬3) بياض في الأصل وباقي النسخ بمقدار كلمة، والكلمات الساقطة كما في كتب الحديث (كعب بن عاصم الأشعري). (¬4) بياض في الأصل. (¬5) بياض في الأصل.

لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات، ويكون قوله: "ليس من البر الصوم في السفر" منزلاً على مثل هذه الحالة. لكن المانعون من الصوم في السفر يقولون: اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويرد عليهم فعله -عليه الصلاة والسلام- فيه ولا عذر لهم عنه ولا تأويل. قال الشيخ (¬1) تقي الدين: ويجب أن تتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم, وبين مجرد ورود العام على سبب [ولا تجرهما] (¬2) مجرى واحداً، فإن مجرد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص كقوله -تعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬3)، فإنها نزلت بسبب سرقة رداء صفوان [و] (¬4) لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإِجماع [و] (¬5)، أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه. وهي المرشدة إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات، فاضبط هذه القاعدة، فإنها مفيدة في مواضع ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 371). (¬2) في إحكام الأحكام (3/ 371) (ولا تجريهما). (¬3) سورة المائدة: آية 38. (¬4) في إحكام الأحكام (3/ 371) (وأنه). (¬5) هذه غير موجودة في إحكام الأحكام (3/ 372).

لا تحصى، وانظر في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس من البر الصوم في السفر"، مع حكاية حال الرجل المظلل عليه من أي [القبيلين] (¬1) هو؟ فنزله عليه. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم"، فيه دلالة على استحباب التمسك بالرخصة والعمل بها إذا دعت الحاجة إليها, ولا تترك على وجه التشديد على النفس والتنطع، والتعمق وقد جاء: "هلك المتنطعون" (¬2)، وجاء أيضاً: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" (¬3)، وجاء أيضاً: "من يشاد هذا الدين يغلبه" (¬4)، وفي صحيح ابن حبان من حديث ابن ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (القبيلتين)، وهو تصحيف. (¬2) مسلم عن ابن مسعود (2670)، وأبي داود (4608) كتاب السنَّة، باب: في لزوم السنة، وأحمد في المسند (1/ 386). (¬3) رواه البزار (1/ 74) كتاب الإِيمان، باب: التيسير من حديث جابر مرفوعاً. قال الحافظ في الفتح (11/ 297): وصوب إرساله. قال الهيثمي (1/ 62): فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل، وهو كذاب. قال الحافظ في الفتح (11/ 297): وله شاهد في الزهد عند ابن المبارك. اهـ. وهو برقم (1334)، وقد جاءت الجملة الأولى من رواية أنس مرفوعاً عند الإِمام أحمد (3/ 199). قال الهيثمي (1/ 62): رجاله ثقات إلَّا أن خلف بن مهران لم يدرك أنساً ويمكن بهذه الشواهد أن يتقوى الحديث، وقد حسَّن الألباني في الجامع الصغير الجملة الأولى منه (2442). (¬4) البخاري (39)، والنسائي (8/ 121).

عباس (¬1) وابن عمر (¬2) مرفوعاً: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". ... ¬

_ (¬1) البزار (990)، والطبراني في الكبير (11880). قال الهيثمي في المجمع (3/ 162): ورجال البزار ثقات، وكذلك رجال الطبراني، وعبد الرزاق (20569). (¬2) البزار (988، 989)، ومسند الشهاب للقضاعي (1078)، والطبراني في الأوسط, وابن الأعرابي في معجمه (1/ 223)، وأحمد في مسنده (2/ 108)، وابن حبان (2742)، والخطيب (10/ 347).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 190/ 5/ 36 - " عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر: فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: "الأبنية" جمع بناء، وهي البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء: كالخباء والقبة والمضرب وقد تكرر ذكره مفرداً أو مجموعاً. الثاني: "الركاب" الإِبل وجمعه ركائب. الثالث: قوله: "وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء" يعني أنه لم يكن فساطيط ولا أخبية، وأن أكثرهم ظلاًّ من له كساء يلقيه على رأسه ¬

_ (¬1) البخاري (2890)، ومسلم (1119)، والنسائي (4/ 182)، وابن خزيمة (2032، 2033)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 68).

اتقاءً لحر الشمس، ففيه دلالة على عدم احتفالهم بآلات السفر كالخيم، ونحوها، بل كان جل احتفالهم بآلة الحرب، بخلاف حال الزمان اليوم. ومعنى: "يتقي الشمس بيده" يستتر بها. الرابع: فيه رد على من يقول: بعدم جواز الصوم في السفر، وانعقاده فيه لتقرير الصائمين على صومهم، ودلالة على ترجيح الفطر فيه. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر"، أي بأجر يزيد على أجر الصائمين، فإن عملهم كان متعدياً، وعمل الصائمين كان قاصراً، ويحتمل كما قاله الشيخ تقي الدين (¬1): أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصائمين مبلغاً ينغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك، ويجعل كأن الأجر كله للمفطر، ويقرب من هذا قول بعضهم في إحباط الأعمال الصالحة ببعض الكبائر، وأن ثواب ذلك العمل يكون مغموراً جدًّا بالنسبة إلى ما يحصل من عقاب الكبيرة، فكأنه كالمعدوم المحبط، وإن كان الصوم هنا ليس من المحبطات، لكن المقصود المبالغة في أن الثواب وإن قل جداً قد يجعل كالمعدوم مبالغة، وهذا قد يوجد مثله في التصرفات الوجودية، وأعمال الناس في مقابلتهم حسنات من يفعل منهم منها شيئاً بسيئاته، فإنهم يجعلون اليسير جدًّا كالمعدوم بالنسبة إلى الإِحسان والإِساءة، كحجامة الأب لولده، وإيجار الأم لولدها الوجور الكريه لدفع الأمر الأعظم عنه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 374).

كالمرض وغيره، فإن كلاًّ منهما يعد محسناً مطلقاً، ولا يعد مسيئاً بالنسبة إلى الإِيلام بالحجامة، والمرارة ليسارة ذلك الألم بالنسبة إلى دفع الأمر الشديد من المرض وغيره. السادس: في الحديث دلالة على أنه إذا تعارضت المصالح قدم أولاها وأقواها، فإن الصوم مصلحة، والفطر أيضاً، والحالة هذه مصلحة، ولكن مصلحة الفطر حينئذ أولى لتعديها، وقصور مصلحة الصيام كما تقدم. السابع: فيه دلالة أيضاً على ما كانت الصحابة عليه من الزهادة في الدنيا والصبر على المؤلمات في طاعة الله تعالى. الثامن: منه أيضاً جواز حكاية مثل ذلك للقدوة والتأسي. التاسع: فيه أيضاً جواز اتخاذ الأبنية ونحوها للاستظلال. العاشر: فيه أيضاً جواز اتقاء الشمس وحرها عن البصر والبدن باليد ونحوها. الحادي عشر: فيه أيضاً القيام بمصالح الدواب من الإِبل وغيرها بالسقي وغيره وهو واجب. الثاني عشر: فيه أيضاً أن اطلاعه -عليه الصلاة والسلام- على الشيء وتقريره إياه من غير نكير شرع، فإنه أقرهم على الصوم والفطر. ***

الحديث السادس

الحديث السادس 191/ 6/ 36 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن [أقضي] (¬1) إلاَّ في شعبان" (¬2). الكلام عليه من وجوه: [الأول] (¬3): سبب تأخيرها -رضي الله عنها- الصوم من رمضان إلى شعبان الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم (¬4) عنها، ففيه دلالة على شدة احتفالها بأمره، وإرصاد نفسها لاستمتاعه، ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، ويكون له حاجة فيها فتفوتها عليه، وهذا من الأدب. ¬

_ (¬1) في حاشية الأصل ون د (اقضيه). (¬2) البخاري (1950)، ومسلم (1146)، وأبو داود (2399) في الصوم, باب: تأخير قضاء رمضان، والنسائي (4/ 150، 151، 191)، والترمذي (783)، ومالك (1/ 308)، وعبد الرزاق (7676)، وابن أبي شيبة (3/ 98)، وأحمد (6/ 124)، وابن خزيمة (2050,2049) , وابن الجارود (400). (¬3) في ن ب د (أحدها). (¬4) الرواية السابقة.

[الثاني] (¬1): من الحديث [دليل] (¬2) على جواز تأخير قضاء رمضان في الجملة، وأنه موسع الوقت، وانفرد داود فأوجب المبادرة في ثاني شوال، وإن لم يفعل ذلك فهو آثم، وهذا الحديث يرد عليه، وكذا قوله -تعالى-: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) حيث لم يعينها ولا قيدها بقيد فمن عينها فقد تحكم بغير دليل. وحديث عائشة، وإن لم تصرح برفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يُعلم أنه لا يخفى مثله عنه، ولا أن أزواجه ينفردن بأرائهن في مثل هذا الأمر المهم الضروري، فالظاهر أن ذلك عن إذن منه - صلى الله عليه وسلم - وتسويغه لهن ذلك. واعلم أن بعضهم ادعى أن ذكر [(¬4)] الشغل في الرواية التي أسلفناها إنما هو من قول يحيى بن سعيد لا من قول عائشة: وقد أسنده البخاري في صحيحه (¬5) إليه، فذهب هذا القائِل إلى أن عائشة ¬

_ (¬1) في ن ب د (ثانيها) ... إلخ الأوجه. (¬2) في ن ب د (دلالة). (¬3) سورة البقرة: آية 184. (¬4) في الأصل زيادة (بعضهم)، والتصحيح من ن ب د. (¬5) ابن حجر في الفتح (4/ 191). قال يحيى: هذا تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها، ووقع في رواية مسلم المذكورة مدرجاً لم يقل فيه. قال يحيى: فصار كأنه من كلام عائشة، أو من روى عنها، وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر عن زهير، وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال يحيى مدرجاً أيضاً ولفظه: "وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه، ولفظه: "فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" يحيى بقوله، وأخرجه أبو داود من طريق مالك، والنسائي من طريق يحيى القطان، وسعيد بن منصور عن ابن =

إنما أخرته للرخصة لا للشغل، لأنه لو كان للشغل لم يؤخذ منه التأخير لغير عذر. وتنبه إلى رواية مسلم الأخرى: إن كانت إحدانا لتفطر في رمضان (¬1) فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان. فإنها صريحة لا تحتمل التأويل. ثالثها: قد يؤخذ من الحديث أنه لا يؤخر عن شعبان حتى يدخل رمضان ثان، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف القائلين بأن القضاء على التراخي، وأنه لا يشترط المبادرة به في أول الإِمكان، لأنه يؤخره حينئذ إلى زمن لا يقبله وهو رمضان الآتي، فصار كمن أخره إلى الموت، فإن أخره عنه فعليه مد عند الشافعي ومالك [] (¬2)، خلافاً لأبي حنيفة وداود. رابعها: إنما كانت تصومه في شعبان، لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يصوم معظمه فلا حاجة له في النساء. في النهار، ولأنه في شعبان [يتضيق] (¬3) قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره عنه. ¬

_ = شهاب وسفيان، والإِسماعيلي من طريق أبي خالد كلام عن يحيى بدون الزيادة، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بدون الزيادة، لكن فيه ما يشعر بها، فإنه قال فيها ما معناه: فما أستطيع قضاءها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون المراد بالمعية الزمان أعد أن ذلك كان خاصّاً بزمانه ... إلخ. (¬1) في الأصل زيادة (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وهي خطأ. (¬2) في الأصل زيادة (والمعظم). (¬3) في ن ب (يتصدق).

فإن قلت: كيف لا تستطيع على الصوم لحقه فيها وقد كان له تسع نسوة, وكان يقسم بينهن فلا تصل النوبة لأحداهن إلاَّ بعد ثمان، فكان يمكنها أن تصوم في هذه الأيام التي يكون فيها عند غيرها. فالجواب: أن القسم لم يكن عليه واجباً [(¬1)]، وإنما كان يفعله تطييباً لقلوبهن، ودفعاً لما يتوقع من فساد قلوبهن، ألا ترى قوله -تعالى-: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} (¬2) الآية. فلما علم نساؤه هذا أو من سألته منهم كن يتهيأن له دائماً ويتوقعن حاجته إليهن في أكثر الأوقات، كذا أجاب بهذا القرطبي (¬3)، وتبعه ابن العطار في شرحه. لكن الأصح عند الشافعية: وجوب القسم عليه - صلى الله عليه وسلم -. خامسها: يستفاد من هذا الحديث أن المرأة لا تصوم القضاء، وزوجها شاهد إلَّا بإذنه إلَّا أن تخاف الفوات فيتعين، [وترتفع] (¬4) التوسعة، وهو مذهب الشافعي -رضي الله عنه- أنه يمنعها من القضاء الذي لا يتضيق دون غيره، فإن حق الزوج على الفور. قال القرطبي: وقال بعض شيوخنا [لها] (¬5) أن تصومه بغير ¬

_ (¬1) في ن ب د زيادة (لهن). (¬2) سورة الأحزاب: آية 51. (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 229). (¬4) في الأصل (ونرفع)، وما أثبت من ن ب د. (¬5) في الأصل (لهذا)، وما أثبت من ن ب د.

إذنه، لأنه واجب، والحديث الوارد بنهيها محمول على التطوع (¬1). تنبيهات: أحدها: اتفق العلماء على أن المرأة لا يحل لها صوم التطوع وزوجها حاضر إلَّا بإذنه للحديث الصحيح في ذلك عن أبي هريرة، كذا ادعى الاتفاق النووي في "شرح مسلم" (¬2) وتبعه الفاكهي وابن العطار في شرحيهما، وهو غريب منه، فقد قال: هو في "شرحه للمهذب" (¬3): إن جماعة من أصحابنا قالوا بالكراهة. ثانيها: من أفطر بغير عذر وجب عليه القضاء على الفور لا محالة، ومن أفطر بعذر سفر أو مرض، أو حيض فيه الخلاف الذي قدمناه، والجمهور على استحباب المبادرة للاحتياط فيه، فإن أخره. فالصحيح عند المحققين من الفقهاء والأصوليين أنه يجب العزم على فعله، وكذلك القول في كل واجب موسع، إنما يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله حتى لو أخره بلا عزم عصى. ثالثها: أجمع العلماء على أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركته عن كل يوم مد من طعام، وهذا إذا تمكن من ¬

_ (¬1) من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, أنه قال: "لا تصوم امرأة وزوجها شاهد من غير شهر رمضان إلَّا بإذنه". انظر: البخاري أطرافه (2066)، ومسلم (1026)، وأبو داود في الزكاة (1687)، وفي الصوم (2458)، وأحمد (2/ 316)، وعبد الرزاق (7886)، والبيهقي في السنن (4/ 192، 203). (¬2) (8/ 22) (¬3) المجموع (6/ 392).

القضاء، فلم يقض، فأما من أفطر بعذر، ثم اتصل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات فلا صوم عليه ولا يطعم عنه، ولا يصام عنه، وفيه وجه بعيد أنه يطعم عنه، حكاه القاضي حسين ووهاه. رابعها: قضاء رمضان يندب ترتيبه وموالاته، فإن خالف جاز عند الشافعي والجمهور، لأن اسم الصوم يقع على الجميع. وقال جماعة من الصحابة والتابعين وأهل الظاهر: يجب متابعته ليحكي القضاء الأداء، ولا حجة في قراءة عبد الله "متتابعات" إذ ليست متواترة ولا مرفوعة، فلا يعمل بها، وهي محمولة على أنها من تفسير ابن مسعود لرأي (¬1) رأه. الوجه السادس: في الحديث دلالة على ما قدمناه في الباب قبله من أنه يقال: رمضان من غير ذكر الشهر مع القرينة، وقد سلف الخلاف فيه. ... ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (10/ 180 - 189، 191).

الحديث السابع

الحديث السابع 192/ 7/ 36 - عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬1)، وأخرجه أبو داود وقال: هذا في النذر، وهو قول أحمد بن حنبل. الكلام عليه من وجوه: [الأول] (¬2): وقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬3) أمر غريب لا يليق بجلالته وهو أنه قال: ليس هذا الحديث مما اتفق الشيخان على إخراجه (¬4)، وتبعه على ذلك الفاكهي فقال: هذا الحديث ليس من شرط المصنف، إذ لم يتفق الشيخان على إخراجه، وإنما أخرجه مسلم، وأوقعه في ذلك كلام الشيخ المتقدم. والعجب أن البخاري ¬

_ (¬1) البخاري (1952)، ومسلم (1147)، وأبو داود (2400) في الصوم، باب: فيمن مات وعليه صيام، وفي الأيمان والنذور (3311)، والبغوي (1773)، وأحمد (6/ 69)، والدارقطني (2/ 195)، والبيهقي (4/ 255)، والنسائي في الكبرى (2/ 175). (¬2) في ن ب د (أحدها). (¬3) في ن د (حاشية كنى عنه الشيخ تقي الدين ببعض الفضلاء المتأخرين). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 377).

أخرجه في الباب المذكور باللفظ، وترجم عليه "باب من مات وعليه صيام" (¬1)، والظاهر أن هذا الوهم من الناقل عن الشيخ [فقد قال: هو في إلمامه، وقد أخرجه بلفظ: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، متفق عليه, واللفظ للبخاري. والذي رأيته في البخاري "صيام" بدل "صوم"] (¬2). الثاني: الولي: أصله من الوَلْي بسكون اللام وهو القرب والمختار أن المراد به هنا كل قريب. وقيل: الوارث. قال الرافعي: وهو الأشبه. وقيل: العاصب ويبطله الحديث الآتي: "صومي عن أمك" (¬3) وهو يبطل احتمال ولاية المال أيضاً. الثالث: أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة منهم إسحاق، وأبو ثور (¬4)، وأهل الظاهر (¬5)، وحُكِيَ عن الحسن وطاوس والزهري وقتادة أيضاً، وهو أحد [قولي] (¬6) ............ ¬

_ (¬1) فتح الباري (4/ 192)، وانظر أيضاً: حاشية العمدة للصنعاني (3/ 377)، وتصحيح العمدة للزركشي (103)، من مجلة الجامعة الإِسلامية عدد (75، 76). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) سيأتي تخريجه. (¬4) انظر: فقه الإِمام أبي ثور (332). (¬5) المحلى (6/ 413). (¬6) في ن ب (قول).

الشافعي (¬1)، وحمله على النذر أحمد (¬2)، والليث، وأبو عبيد وإسحاق في رواية عنه، والمشهور من قولي الشافعي، وإليه ذهب الجمهور كما حكاه القاضي وغيره أنه لا [يصام] (¬3) عن ميت لا نذر ولا غيره وهو الجديد من مذهبه، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر, وابن عباس وعائشة ورواية عن الحسن والزهري، وبه قال مالك وأبو حنيفة (¬4). ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 428). (¬2) المغني (3/ 143) للاطلاع على رأي ابن عباس -رضي الله عنه- وأحمد والليث وأبو عبيد وإسحاق. (¬3) في ن ب (يصوم). (¬4) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 279): وعن ابن عباس قال: "إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصح، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء. وإن نذر قضى عنه وليه". وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: أرأيت لو كان على أمك دين قضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك"، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري نحوه. وفي الصحيحين عنه أيضاً: "أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله, إن أختي ماتت وعليها صيام شهرين متتابعين"، وذكر الحديث بنحوه. وفي صحيح مسلم عن بريدة قال: "كنت جالساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتته امرأة، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت: قال: وجب أجرك، وردها عيك الميراث. قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر. أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال البيهقي: فثبت بهذه الأحاديث جواز الصوم عن الميت. وقال الشافعي في القديم: قد ورد في الصوم عن الميت شيء، فإن كان ثابتاً صم عنه، كما يحج عنه. وقال في الجديد: فإن قيل: فهل روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحداً أن يصوم عن أحد؟ قيل: نعم، روي عن ابن عباس. فإن قيل: لم لا تأخذ به؟ قيل: حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نذر نذراً"، ولم يسمه، مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس، فلما جاء غيره: عن رجل عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظاً. وأراد الشافعي ما روى مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله: "أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال إن أمي ماتت وعليها نذر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقضه عنها"، وهذا حديث متفق عليه من حديث مالك وغيره عن الزهري، إلَّا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: "أن امرأة سألت"، وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عباس، وفي رواية عن مجاهد، وعطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس: "أن امرأة سألت"، ورواه عكرمة عن ابن عباس. ثم رواه بريدة بن حصيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالأشبه أن تكون هذه القصة التي وقع فيها السؤال نصًّا غير قصة سعد بن عبادة التي وقع السؤال فيها عن النذر مطلقاً، كيف؟ وقد روي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح: النص على جواز الصوم عن الميت، قال: وقد رأيت بعض أصحابنا يضعف حديث ابن عباس، لما روي عن يزيد بن زريع عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ويطعم"، وما روي عنه في الإِطعام عمن مات، وعليه صيام شهر رمضان، وصيام شهر النذر. وضعف حديث عائشة بما روي عنها في امرأة ماتت وعليها الصوم. قالت: "يطعم عنها"، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي رواية عنها: "لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم" قال: وليس فيما ذكروا ما يوجد للحديث ضعفاً: فمن يجوز الصيام عن الميت يجوز الإِطعام عنه. وفيما روي عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر، والأحاديث المرفوعة أصح إسناداً، وأشهر رجالاً. وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما, ولو وقف الشافعي على جميع طرقها وتظاهرها, لم يخالفها إن شاء الله. وممن رأى جواز الصيام عن الميت: طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة. آخر كلام البيهقي. وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يقضي عنه على ثلاثة أقوال: أحدها: لا يقضي عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب الأصلي. وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه. الثاني: أنه يصام عنه فيهما. وهذا قول أبي ثور، وأحد قولي الشافعي. الثالث: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي. وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد والليث بن سعد، وهو المنصوص عن ابن عباس. روى الأثرم عنه أنه: "سئل عنها"، إنما هو في الفرض لا في النذر، لأن الثابت عن عائشة فيمن مات، وعليه صيام رمضان: "أنه يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام"، فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارض بين رأيها وروايتها. وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجباً بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدين الذي استدانه، ولهذا شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين في حديث ابن عباس. والمسؤول عنه فيه: أنه كان صوم نذر، والدين تدخله =

وأجاب: المانعون عن الحديث بأوجه: أحدها: أن مالكاً لم يجد عمل المدينة عليه، وهذا خاص بقاعدة مالك في ذلك. ثانيها: أنه اختلف في إسناده واضطرب. قاله القرطبي والقاضي عياض: (¬1) إنما قاله في حديث ابن عباس الآتي وهو عذر ¬

_ = النيابة. وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإِسلام. فلا يدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين. فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها وأمر بها. وهذا لا يؤديه عنه غيره، كما لا يسلم عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره. وهكذا من ترك الحج عمداً مع القدرة عليه حتى مات، أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات. فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع: أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبرىء ذمته. ولا يقبل منه. والحق أحق أن يتبع. وسر الفرق: أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته، لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكماً مما جعله الشارع حقّاً له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه والمعجوز عنه. ولهذا تقبل أن يشغلها المكلف بما لا قدر له عليه، بخلاف واجبات الشرع. فإنها على قدره طاقة البدن، لا تجب على عاجز. فواجب الذمة أوسع من واجب الشرع الأصلي، لأن المكلف متمكن من إيجاب واجبات كثيرة على نفسه لم يوجبها عليه الشارع، والذمة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرع، فلا يلزم من دخول النيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع. وهذا يبين أن الصحابة أفقه الخلق، وأعمقهم علماً، وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه، وبالله التوفيق. (¬1) في ن ب زيادة (من).

باطل، كما سيأتي في الحديث بعده، وليس في الحديث اضطراب، وإنما فيه اختلاف يجمع بينه كما سيأتي. ثالثها: أن البزار (¬1) رواه، وقال في آخره: "لمن شاء"، وهذا يدفع الوجوب الذي قالوا. قاله القرطبي: وقد نقل البغوي (¬2) والجويني من أصحابنا الاتفاق على عدم الوجوب، وإنما الخلاف في الجواز. قال الشيخ تقي الدين (¬3): وفي هذا بحث، وهو أن الصيغة صيغة [خبر] (¬4)، أعني "صام" فيمتنع الحمل على ظاهره، فينصرف إلى الأمر، ويبقى النظر في أن الوجوب متوقف على صيغة الأمر المعينة، وهي: "أفعل" مثلاً، أو يعمها مع ما يقوم مقامها، واعترض الفاكهي على القرطبي أيضاً فقال: إنما يعد هذا عذراً لمالك لو كان يجيز ذلك أعني الصوم عن الغير، وهو لا يصح عنده فلا ينبغي عده. رابعها: أنه معارض قوله -تعالى-: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬5)، وبقوله -تعالى-: {وَأَنْ لَيْسَ ¬

_ (¬1) كشف الاستار عن زوائد البزار (1/ 481). قال الهيثمي في الزوائد (3/ 179): هو في الصحيح خلا قوله: "إن شاء"، رواه البزار وإسناده حسن، والمؤلف قال: "لمن شاء"، ولفظه: "إن شاء". (¬2) انظر: شرح السنة (6/ 327). (¬3) انظر: إحكام الأحكام (3/). (¬4) في ن ب (غير)، وهو تصحيف. (¬5) سورة الأنعام: آية 164.

لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (¬1) وفي هذه الآية أقوال من جملتها أنها منسوخة. وخامسها: أنه معارض لحديث النسائي (¬2) عن ابن عباس مرفوعاً: "لا يصلِّ أحدٌ عن أحدٍ ولا يصوم أحدٌ عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدًّا من حنطة"، وينظر في صحته. وسادسها: أنه معارض للقياس الجلي، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا يفعل عن من [وجب] (¬3) عليه كالصلاة، ولا ينقض هذا بالحج لأن للمال فيه مدخلاً. ¬

_ (¬1) سورة النجم: آية 39. (¬2) النسائي في الكبرى (2/ 175)، وذكره البيهقي في سننه (4/ 257) تعليقاً بقوله: وقد رأيت بعض أصحابنا يضعف حديث ابن عباس ... إلخ. وقال صاحب الجوهر النقي في نفس الصفحة من السنن: إسناده على شرط الشيخين، إلَّا محمد بن عبد الأعلى فإنه على شرط مسلم. اهـ. وقال الزيلعي في نصب الراية (2/ 463) بعد سياقه للحديث: قلت: غريب مرفوعاً، وروي موقوفاً على ابن عباس وابن عمر، ثم ساق المتن والإِسناد لكل واحد منهما. قال ابن حجر في الفتح (4/ 194) بعد سياقه: إلَّا أن الآثار المذكورة عن عائشة وابن عباس فيها مقال. اهـ. وقال أيضاً (11/ 584): أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفاً ثم قال: والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. اهـ. وقال في تلخيص الحبير (2/ 209) بعد ما ذكر حديث ابن عباس: والحديث الصحيح أولى بالاتباع. اهـ. (¬3) في ن ب د (وجبت).

وسابعها: أنه مؤول على معنى إطعام الحي عن وليه إذا مات, وقد فرط في [الصوم، فيكون الإِطعام قائماً مقام الصيام، وهذا تأويل الماوردي (¬1) من أصحابنا] (¬2) أن المراد "بالصيام" "الإِطعام"، وقد جاء مثل ذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الصعيد الطيب وضوء المسلم" (¬3)، فسمي التراب وهو بدل باسم مبدله وهو الوضوء، ولا يخفى ما في ذلك، والأحاديث مصرحة بصيام الولي عنه, والحديث الوارد بالإِطعام عنه ضعيف (¬4)، فتعين القول بالصيام عنه (¬5)، ¬

_ (¬1) الحاوي (40/ 314, 315). قال النووي -رحمنا الله وإياه- في المجموع (6/ 371)، وأما تأويل "الصيام" "بالأطعام" فتأويل باطل يرده باقي الحديث. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) سبق تخريجه في التيمم. (¬4) جاء من رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- ولفظه: "من مات وعليه صوم رمضان، فليطعم عن كل يوم مسكيناً". أخرجه الترمذي (718)، وقال: حديث ابن عمر لا نعرفه مرفرعاً إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر أنه موقوف. البيهقي (4/ 254)، وقال: هذا هو الصحيح أنه موقوف على ابن عمر، وابن ماجه (1757)، والدارقطني (2/ 196)، والنووي في المجموع (6/ 367). قال: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر. وأيضاً: جاء من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه". وقد ضعفه النووي في المجموع (6/ 370)، ونقل تضعيف البيهقي له (4/ 257). (¬5) وهو قول البيهقي في السنن (4/ 257)، والنووي في المجموع (6/ 370).

وقد قال الشافعي: إن صح الحديث بالصوم قلت به، وقد صح كما بسطه البيهقي ولله الحمد، فلا محيد عنه. وهي لا تقتضي التخصيص بالنذر، كما قاله أحمد وغيره، بل هي عامة في كل صوم قضاءً وأداءً ونذراً، وقد ورد في بعض الروايات ما يقتضي الأذن عن من مات وعليه نذر يصوم، وليس ذلك بمقتضى للتخصيص بصورة النذر، وعلى تقدير ثبوت الإِطعام عنه فلا تنافي بينه وبين الأمر بالصوم، لأن من يقول به يجوّز الآخر. فالولي مخير بينهما. الرابع: قد يؤخذ من الحديث أنه لا يصوم عنه الأجنبي، إما لأجل التخصيص في مناسبة الولاية لذلك أو لأن أصل عدم جواز النيابة في الصوم لكونه عبادة بدنية لا يدخلها النيابة في الحياة، فلا يدخلها بعد الموت كالصلاة، وإذا كان الأصل عدم [جواز] (¬1) النيابة وجب أن يقتصر فيه على ما ورد في الحديث، ويجري في الباقي على العباس، وقد قال أصحاب الشافعي: لو أمر الولي أجنبيّاً بأن يصوم عنه بأجرة أو بغيرها جاز، كما في الحج فلو استقل به الأجنبي فالأصح المنع (¬2). خاتمة: نقل القاضي عياض وغيره الإِجماع على أنه لا يصلى ¬

_ (¬1) في ن ب (الجواز). (¬2) البخاري. الفتح (4/ 192): ذكر عن الحسن البصري أنه يجزئه. المجموع (6/ 371).

[عن] (¬1) الميت، وأنه لا يصام عن الحي، وإنما الخلاف في الميت (¬2). قلت: وفي الصلاة وجه غريب حكاه الجيلي، نعم في البخاري (¬3): "من مات وعليه نذر": "أن ابن عمر أمر من ماتت أمها وعليها صلاة أن تصلي [عنها] (¬4) " (¬5). ¬

_ (¬1) في ن ب (على). (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 262)، والمجموع (6/ 371). (¬3) البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب: من مات وعليه نذر (11/ 583). (¬4) في الأصل (عليها)، وما أثبت من ن ب د. (¬5) ومن رواية ابن عباس أيضاً وصله مالك في الموطأ (2/ 472). قال ابن حجر في الفتح (11/ 584). تنبيه: ذكر الكرماني أنه وقع في بعض النسخ: "قال صلِّ عليها"، ووجه بأن "على" بمعنى "عن" على رأي قال: أو الضمير راجع إلى قباء. سئل شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- (25/ 269): عن الميت في أيام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصيام، وتوفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدة مرضه، ووالديه بالحياة، فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا؟ إذا أوصى، أو لم يوص؟ فأجاب: إذا اتصل به المرض، ولم يمكنه القضاء، فليس على ورثته إلَّا الإِطعام عنه. وأما الصلاة المكتوبة، فلا يصلَّ أحد عن أحد، ولكن إذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعاً، وأهداه له، أو صام عنه تطوعاً وأهداه له، نفعه ذلك، والله أعلم.

وقال ابن أبي عصرون (¬1): ليس في الحديث ما يدل على أن ثوابها لا يصل إليه، ولا في القياس ما يمنع منه. وروي في الصلاة عن الوالدين أخبار لم تشتهر. ... ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن محمد بن هبة الله أبو سعيد التميمي الموصلي وكان مولده في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وتوفي في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، الروضتين (2/ 673)، والكامل (12/ 42)، والدارس (1/ 399، 403).

الحديث الثامن

الحديث الثامن 193/ 8/ 36 - عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن أُمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟! فقال: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه [عنها؟] (¬1) "، قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى (¬2) ". وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أُمي ماتت، وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: "أرأيت لو كان على أمكِ دين فقضيتيه، أكان ذلك يؤدي عنها"؟ قالت: نعم، قال: "فصومي عن أُمكِ" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب. (¬2) البخاري (1953)، ومسلم (1148) تعليقاً. (¬3) البخاري (1953)، ومسلم (1148)، والترمذي (717)، وابن ماجه (1758)، والبغوي (1774)، والدارقطني (2/ 195)، والبيهقي (4/ 255)، وأحمد (1/ 224، 227، 258، 362)، وأبو داود (3310)، في الإِيمان, باب: ما جاء فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه، والنسائي (7/ 20)، بألفاظ متقاربة.

الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه سلف في باب الاستطابة: الأول: الرجل المذكور وأمه وكذا أم المرأة لا أعلم أسماءهم بعد البحث الشديد عن ذلك. وأما المرأة فقال ابن طاهر في إيضاحه: [هي] (¬1) غايثة أو غاثية (¬2) يعني بتقديم المثناة أو المثلثة. وقال ابن منده في مستخرجه: سهل بن عبادة كان مستفتياً ورجل وامرأة كانا مستفتيين. الثاني: مقتضى الرواية الأولى عدم تخصيص جواز النيابة بصوم النذر. فإن فيه إطلاق القول بموت أمه وعليها صوم شهر من غير تقييد بنذر، وهو أحد [قولي] (¬3) الشافعي كما سلف في الحديث قبله، خلافاً لما قاله أحمد من الصوم عنه في النذر والإِطعام عنه في قضاء رمضان، ووجه الدلالة من وجهين. أحدهما: أنه -عليه الصلاة والسلام- ذكر الحكم غير مقيد بعد سؤال السائل مطلقاً عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر, ويحتمل أن تكون عن غيره فيرجع ذلك إلى القاعدة الأصولية وهي أنه -عليه الصلاة والسلام- إذا أجاب بلفظ غير مقيد ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) هكذا في المخطوط: والذي في إيضاح المشكل لابن طاهر (140)، غاثنة أو غاينة. انظر: فتح الباري (4/ 65)، وأسد الغابة (7/ 211)، والإِصابة (8/ 44). (¬3) في ن ب (قول).

عن سؤال وقع، عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفاً، أنه يكون الحكم فيها شاملاً للصور كلها، وهو الذي قال فيه الشافعي وغيره ترك الاستفصال [في] (¬1) قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال. وقد استدل الشافعي بمثل هذا، وجعله كالعموم. الثاني: أنه -عليه الصلاة والسلام- علل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره وبينه بالقياس على الدين، وذلك لا يختص بالنذر في كونه حقًّا واجباً. والحكم يعم بعموم علته. وقد استدل القائلون بالقياس في الشريعة بهذا الحديث من حيث إنه -عليه الصلاة والسلام- قاس وجوب أداء حق الله -تعالى- على وجوب أداء حق العباد. وجعله من طريق الأحق, فيجوز لغيره القياس، لقوله -تعالى-: {فَاتَّبِعُوهُ} (¬2) لا سيما وقوله -عليه الصلاة والسلام- "أرأيت" إرشاد وتنبيه على العلة التي هي كشيء مستقر في نفس المخاطب. وأما الرواية الثانية: ففيها ما في الأولى من دخول النيابة في الصوم، والقياس على حقوق الآدميين، إلَّا أنه ورد التخصيص فيها بالنذر. وقد يتمسك بها من يرى التخصيص بصوم النذر. إما بأن يدل دليل على أن الحديث واحد فيتبين من بعض الروايات أن الواقعة المسؤول عنها واقعة واحدة، وهي النذر فيسقط الوجه الأول ¬

_ (¬1) في ن ب د (عن). (¬2) سورة الأنعام: آية 153.

السالف: وهو الاستدلال بعدم الاستفصال، إذا تبين عين الواقعة، إلَّا أنه قد يبعد هذا التباين بين الروايتين. فإن في إحداهما: أن السائل رجل، وفي الثانية امرأة. وقد تقرر في علم الحديث أنه يعرف كون الحديث واحداً باتحاد سنده ومخرجه وتقارب ألفاظه. وعلى كل حال فيبقي الوجه الثاني: وهو الاستدلال بعموم العلة على عموم الحكم، كيف ومعنا عموم آخر، وهو الحديث السالف: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر مع ذلك العموم راجعة إلى مسألة أصولية. وهي: أن التنصيص على بعض صور العام لا يقتضي التخصيص، وهو المختار في علم الأصول. الثالث: [شبه] (¬1) بعض الشافعية المتأخرين بأن نقيس الاعتكاف والصلاة على الصوم في النيابة. وحكاه بعضهم وجهاً في الصلاة، كما أسلفناه في الحديث قبله. فإن صح ذلك فقد يستدل بعموم التعليل. الرابع: في الحديث قضاء الدين عن الميت، وهو إِجماع، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارثه أو غيره، فيبرأ به قطعاً قال القرطبي والحديث مشعر بأن القضاء على الندب لمن طاعت به نفسه، لأنه لا يجب على ولي الميت أن يؤدي [من] (¬2) ماله عن الميت ديناً بالاتفاق، لكن من تبرع به انتفع به الميت وبرئت ذمته. قال: ويمكن أن يقال: إن مقصود الشرع إن ولي الميت إذا عمل العمل ¬

_ (¬1) في جميع النسخ (شبب)، ولعلها ما أثبت. (¬2) في ن ب ساقطة.

بنفسه من صوم أو حج أو غيره فصيره للميت انتفع به الميت، ووصل إليه ثوابه ويعتقد ذلك بشبهة قضاء الصوم عنه بقضاء الدين. والدين إنما يقضيه الإِنسان عن غيره مما [حصله] (¬1) لنفسه، ثم بعد ذلك يقضيه عن غيره أو يهبه له. الخامس: فيه أيضاً تقديم دين الله -تعالى- على دين الآدمي إذا تزاحما: كدين الزكاة ودين الآدمي، ولم يمكن الجمع بينهما، لضيق التركة عن الوفاء لكل منهما. وقد يستدل لتقديم الزكاة بقوله: "فدين الله أحق أن يقضى" وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعي. أصحها: تقديم دين الله -تعالى-. والثاني: تقديم دين الآدمي، لأنه مبني على الشح والمضايقة. والثالث: هما سواء فيقسم بينهما. السادس: فيه أيضاً جواز سماع كلام الأجنبية في الاستفتاء ونحوه من مواضع الحاجة. السابع: فيه أيضاً صحة القياس وقد أسلفناه. الثامن: فيه أيضاً جواز صوم القريب عن الميت، وقد أسلفناه، واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن الميت والحج بأنها مضطرية، حيث رُوِيَ تارة أن السائل رجل وتارة امرأة، وتارة صوم شهر وتارة صوم شهرين. وهذا عذر باطل، كما قاله النووي في "شرح مسلم". قال: وليس في الحديث اضطراب، بل يحمل على أن السائل تارة رجل وتارة امرأة، وتارة ¬

_ (¬1) في الأصل (جعله)، وما أثبت من ن ب د.

عن شهر وتارة عن شهرين. قال: ويكفينا في صحته احتجاج مسلم به في صحيحه. قلت: وكذا البخاري أيضاً [وإن كان النووي أقر القاضي على هذه المقالة في كتاب النذر] (¬1) وروي رواية أخرى أن عليها صوم خمسة عشر يوماً. التاسع: فيه أيضاً أنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل إذا كان مختصراً واضحاً وبالسائل إليه حاجة أو يترتب عليه مصلحة لأنه -عليه الصلاة والسلام- قاس على دين الآدمي تنبيهاً على وجه الدليل، وهو أشرح لصدر المستفتي، وأطيب لنفسه، وأدعى لإِذعانه للأحكام من غير وجود حرج في نفسه. العاشر: فيه أيضاً الجواب بنعم إذا كان حقًّا. الحادي عشر: فيه تقريب العلم إلى أذهان السائلين بعبارة مفهومة عندهم، ليكون أقرب إلى سرعة فهمهم للمسؤول عنه. ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 194/ 9/ 36 - عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" (¬1). الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه سلف في الجمعة: الأول: تعجيل الفطر والحض عليه لأمور. أحدها: منصوص عليه، وهو ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون" (¬2). قال الحاكم (¬3): صحيح على شرط مسلم، وصححه ¬

_ (¬1) البخاري (1957)، ومسلم (1098)، ومالك في الموطأ (1/ 289)، والترمذي (699)، وابن ماجه (1697)، والبغوي (1730)، والبيهقي (4/ 237)، والدارمي (2/ 7)، وأحمد (5/ 330، 334، 336، 337، 339) , والطبراني (5981، 5995). (¬2) أبو داود (2353) في الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الفطر، وابن ماجه (1698)، وأحمد (2/ 450)، والبيهقي (4/ 237)، وابن أبي شيبة (3/ 11)، وابن خزيمة (2060)، والنسائي في الكبرى (2/ 252). (¬3) الحاكم (1/ 431).

ابن حبان (¬1) أيضاً، فجعل - صلى الله عليه وسلم - العلة في التعجيل مخالفة أهل الكتاب في التأخير. ثانيها: مستنبط، وهو أنه -عليه الصلاة والسلام-، إنما حض على التعجيل للفطر لئلا يزاد في النهار من الليل، فيكون زيادة في الفرض. ثالثها: أن ذلك أرفق للصائم. الثاني: كون الناس تفعله بخير، وأن الدين لم يزل ظاهراً بتعجيله في الرواية التي ذكرناها لما فيه من إظهار السنَّة، فإن الخير كله في متابعتها، والشر كله في مخالفتها، وكانت الصحابة -رضي الله عنهم- إذا خذلوا في أمر فتشوا على ما تركوا من السنَّة، فإذا وجدوه علموا أن الخذلان إنما وقع بترك تلك السنَّة، فلا يزال أمر الأمة منتظماً وهم بخير ما حافظوا على سنَّة تعجيل الفطر، وإذا أخروه كان علامة على فساد يقعون فيه. الثالث: "ما" من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما عجلوا الفطر" مصدرية ظرفية والتقدير مدة تعجيلهم الفطر. الرابع: في الحديث دلالة واضحة على استحباب تعجيل الفطر بعد تحقق الغروب، وقد اتفق العلماء عليه، وفيه الرد على الشيعة الذين يؤخرون الفطر إلى ظهور النجم، ولعل المراد بالحديث الرد عليهم، ويؤيده أن في صحيحي الحاكم وابن حبان من حديث سهل بن سعد أيضاً مرفوعاً: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر ¬

_ (¬1) ابن حبان (3503).

بفطرها النجوم" (¬1). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، والمراد: بتعجيل الفطر تناول المأكول والمشروب، وإلاَّ فهو قد أفطر بالغروب. قال القاضي أبو الطيب: الفطر يحصل بالغروب أكل أو لم يأكل. قال الشافعي: في الأم (¬2)، ولو أخر بعد الغروب فإن كان يرى الفضل من ذلك كرهت ذلك له لمخالفة الأحاديث، وإلاَّ فلا بأس، لأن الصوم لا يصلح في الليل. الخامس: يؤخذ من الحديث كراهة الوصال، وسيأتي قريباً ما فيه. السادس: يؤخذ منه أيضاً تقديم الفطر على الصلاة، لأنه أبلغ في التعجيل (¬3). السابع: فيه أيضاً الحث على اتباع السنَّه وترك مخالفتها وأن فساد الأمور [بتركها] (¬4). ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 434)، وابن حبان (3510)، وابن خزيمة (2061)، وصححه الألباني فيه. (¬2) انظر: مختصر المزني (75)، والمجموع (6/ 359). (¬3) وقد ورد فيه حديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط صلى صلاة المغرب حتى يفطر ولو على شربة من ماء". أخرجه ابن خزيمة (2063)، والبزار (984)، والحاكم (1/ 432)، والبيهقي (4/ 239). (¬4) في الأصل بياض.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 195/ 10/ 36 - عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم" (¬1). الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه [سلف] (¬2) في أول الكتاب: الأول: الإِشارة في الأول إلى جهة المشرق وفي الآخر إلى جهة المغرب، وهما متلازمان في الوجود: إذ لا يقبل الليل إلَّا إذا أدبر النهار، وقد ينفكان في الحس في بعض المواضع، بأن يكون في جهة المغرب ما يستر البصر عن الغروب، ويكون المشرق بارزاً بأن يكون في واد بحيث لا يشاهد الغروب. فيعتمد إقبال الظلام وإدبار ¬

_ (¬1) البخاري (1954)، ومسلم (1100)، والترمذي (698)، وأبو داود (2351) في الصيام، باب: متى يحل فطر الصائم، والنسائي في الكبرى (2/ 252)، وابن الجارود (393)، والبغوي في السنَّة (1735)، والبيهقي (4/ 216)، وابن خزيمة (2058)، وأحمد (1/ 28، 35)، والحميدي (20). (¬2) في ن ب (السلف).

الضياء، وجاء في رواية في هذا الحديث [وغابت الشمس] (¬1) وهي ملازمة للإِقبال والإِدبار، لكنها تخرجه [عما] (¬2) ذكرنا فيهما. الثاني: "اللام" في " [الصائم] (¬3) " للجنس قطعاً، وهذا يرد قول من يقول: إن الاسم المشتق لا يكون جنساً عامًّا. الثالث: الإِفطار هنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى فقد حل له الإِفطار حينئذ بعد أن كان حراماً، وصار في حكم المفطر، وإن لم يأكل ويؤيده أنه جاء في صحيح أبي عوانة: "فقد حل الفطر". والغروب على هذا علم على حل الإِفطار. الثاني: أنه بالغروب صار مفطراً حكماً لاحساً: كالعيد والتشريق. [وعبارة] (¬4) الراغب في "مفرداته" (¬5): الفطر: ترك الصوم. فالمعنى دخل في الفطر كما يقال: أصبح إذا دخل [(¬6)] وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك. وتكون الفائدة فيه أن الليل غير قابل للصوم، وأنه بنفس دخوله خرج الصائم من الصوم، ويكون فيه بيان امتناع ¬

_ (¬1) موجودة في صحيح البخاري (4/ 196). (¬2) في ن ب د (على ما). (¬3) في ن ب (الصيام). (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (382). (¬6) في الأصل زيادة (في)، والتصحيح من ن ب د.

الوصال بمعنى الصوم الشرعي، فلا يكون من أمسك حسّاً صائم شرعاً، بل [هو] (¬1) مفطر شرعاً، وفي ضمن ذلك إبطال فائدة الوصال شرعاً، إذ لا يحصل به ثواب الصوم، بل قال بعضهم: لا يجوز الإِمساك بعد الغروب , وهو كإِمساك يوم الفطر ويوم النحر. وقال بعضهم: هو جائز، وله أجر الصائم، واحتجوا بأن الأحاديث الواردة في الوصال فيها ما يدل على أن النهي عن الوصال تخفيف ورفق، وفي بعضها: نهاهم عن الوصال رحمة لهم، كما سيأتي. فروع: تتعلق بما نحن فيه: وقع ببغداد أن رجلاً قال لامرأته: أنت طالق، إن أفطرت على حار أو بارد. فاستفتى فيها [ابن الصباغ فقال: يحنث لأنه لا بد له من فطره على أحدهما واستفتى] (¬2) فيها الشيخ أبو إسحاق فقال: لا يحنث لأنه يصير مفطراً بدخول الليل للحديث المذكور. قال ابن العربي في "القبس" (¬3): وهذا صريح مذهب الشافعي، لأنه يعلق الأيمان بالألفاظ دون المقاصد، والأول مقتضى مذهب مالك، لأنه يعلقها بالمقاصد. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) القبس شرح موطأ مالك بن أنس لابن العربي (2/ 279)، مع اختلاف يسير بالألفاظ، طبقات الشافعية للسبكي (5/ 126)، نقلاً عن ابن العربي وإلى تعليق السبكي عليها.

وقال ابن أبي جمرة: في "أقليد التقليد": والقولان قائمان من المدونة. والثاني: وهو اعتبار المقاصد عليه أكثر مسائلها، وفي الرافعي في الطلاق [أنه] (¬1) لو قال لامرأته: أنت طالق إن أفطرت بالكوفة. وكان يوم الفطر بها لكنه لم يأكل في يومه، ولم يشرب، فقياس قولنا: إنه لا يحنث، لأن الإِفطار عبارة عن تناول المأكول والمشروب، وأنه ممسك عنه. وإنه لو حلف لا يُعَيَّدَ بالكوفة، فأقام بها يوم العيد، ولم يخرج إلى العيد يحنث، ويحتمل أن لا يحنث. وفي "فتاوى الغزالي": أنه لو حلف لا يفطر، فمطلق هذا [ينطلق] (¬2) إلى الأكل والوقاع ونحوها, ولا يحنث بالردة والجنون والحيض ودخول الليل. وفي "شرح العجلي" أنه رأى في بعض التصانيف: لو حلف بالطلاق أن يصوم يوم النحر لم يصح، وطلقت المرأة ولزم الحنث إن أمسك، وفي وقته وجهان: أحدهما: إلى أن يمضي اليوم كله. والثاني: في الحال. الرابع: يستفاد من الحديث بيان وقت الصوم، وتحديده، والرد على أهل الكتاب وغيرهم من الشيعة الذين قالوا: لا يفطر ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب د (ينصرف).

حتى تظهر النجوم، وأن الأمر الشرعي أبلغ من الحسي، وأن العقل لا يقضي على الشرع، بل هو قاضٍ عليه حيث جعل دخول الليل فطراً شرعاً، والبيان يذكر اللازم والملزوم جميعاً. فإن اللازم يلزم منه وجود الملزوم، ولا ينعكس فإنه -عليه الصلاة والسلام- ذكر إقبال الليل وهو لازم، وإدبار النهار وهو ملزوم الفطر للإِيضاح والبيان. ***

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 196/ 11/ 36 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقى" (¬1). رواه أبو هريرة (¬2) وعائشة (¬3) وأنس (¬4) ولمسلم عن أبي سعيد ¬

_ (¬1) البخاري (1962)، ومسلم (1102)، ومالك (1/ 300)، وأبو داود (2360). (¬2) البخاري (1965، 1966، 6851، 7242، 7299)، ومسلم (1103)، وأحمد (2/ 231، 244، 253)، والدارمي (2/ 8)، والبغوي (1736)، وابن خزيمة (2068)، وابن أبي شيبة (3/ 82)، والبيهقي (4/ 282). (¬3) البخاري (1994)، ومسلم (1105)، وأحمد (6/ 89، 93، 126، 242، 258)، وأبو يعلى (4367، 4378، 4513)، والمقصد العلي (505)، وذكره ابن حجر في المطالب العالية (944)، ومجمع الزوائد (3/ 154). (¬4) البخاري (1961، 7241، 7299) ومسلم (1104)، والترمذي (778)، والبغوي (1739)، وأحمد (3/ 170، 235، 218، 124، 200)، وابن خزيمة (2070)، وأبو يعلى (2874، 2972، 3052، 3099، 3215، 3282)، والبيهقي (4/ 282)، والدارمي (2/ 8)، وابن =

الخدري (¬1): "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر". الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه ومن ذكر بعده سلف معرفاً: فالأول: في باب الاستطابة، والرابم فيها أيضاً، والثاني، والثالت في الطهارة، والخامس في الصلاة، وحديث أبي هريرة وعائشة وأنس. اتفق الشيخان على إخراج حديثهم، ولعله ذكر رواية هؤلاء بعد حديث ابن عمر لتقرير النهي وتأكيده حيث إن كلاًّ منهم متأخر التحمل عنه - صلى الله عليه وسلم - والرواية, وذلك دليل على استقرار حكم النهي وعمومه، وأما عزوه الزيادة الأخيرة إلى رواية مسلم فهو سبق قلم، فإني لم أرها فيه، وعبد الحق عزاها إلى أفراد البخاري، وكذا صاحب "المنتقى" في أحكامه (¬2)، وكذا المصنف في عمدته الكبرى عزاها إلى البخاري فقط (¬3). الوجه الأول: حقيقة الوصال أن يتَّصل صوم اليوم الأول باليوم الثاني من غير فطر بينهما، فلا يتناول ذلك الفطر وقت ¬

_ = أبي شيبة (3/ 82). (¬1) البخاري (1967)، ومالك في الموطأ (1/ 301)، والدارمي (2/ 7، 8)، والحميدي (1009) وابن خزيمة (2073)، والبغوي (1737)، وأحمد (2/ 237، 244، 257, 418)، وأبو داود (2361)، وعبد الرزاق (7755). (¬2) المنتقى (2/ 179). (¬3) انظر: كتاب تصحيح العمدة للزركشي، عدد (75، 76 ص 105)، تحقيق د. الزهراني، في مجلة الجامعة الإِسلامية.

السحر، ولا يكون ذلك وصالاً، لكنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، وذلك يقتضي تسميته وصالاً، فيكون صورة لا معنى، فيحمل على مواصلة ترك الفطر وعدم تعجيله لا على من مواصلة الصوم المنهى عنه، فإن الليل غير قابل للصوم إجماعاً، وهذه الإِباحة مشروطة بأن لا يفوت بها حقاً ولا واجباً. قال ابن الصلاح: ويزول الوصال بما يزيل به [صور] (¬1) الصوم من ماء وغيره، هذا هو المعروف، ولا يتوقف على الأكل كما وقع في الوسيط. الثاني: الحكمة في النهي عنه الملل [المترتب] (¬2) عليه والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة، ووظائفها وغيرها من وظائف العبادات المشروعة في ليله ونهاره، أو ترك الصوم بالكلية أو إبطاله، ولهذا المعنى نهى في الصوم عن الفصد والحجامة، ومنع من القبلة ونحوها فيه، من حيث إن ذلك يؤدي إلى إبطاله وإفساده، وما أدى إلى الفساد فهو فاسد، وإبطال العبادة: إما ممنوع على مذهب بعض الفقهاء وهو من يوجب إتمام المندوب. وإما مكروه، وكيف ما كان [فَعِلة] (¬3) الكراهة موجودة إلَّا أنه تختلف رتبها، فإن أجزنا الإِفطار كان رتبة هذه الكراهة أخف من رتبة الكراهة في الصوم الواجب [قطعاً، وإن منعناه فيحتمل ¬

_ (¬1) في ن ب د (ضرر). (¬2) في الأصل ون د (المترتب)، وما أثبت من ن ب. (¬3) في الأصل ون ب (فعله)، وما أثبت من ن د.

استواؤهما] (¬1) في الكراهة لاستوائهما في الوجوب، ويحتمل افتراقهما لاختلافهما في الإِيجاب بأصل الشرع، وبإِيجاب الشخص دون الشرع، ويؤيده صحة النهي عن النذر مع وجوب الوفاء بالمنذور، فلو كان مطلق الوجوب مما يقتضي مساواة المنذور بغيره من الواجبات، لكان فعل الطاعة بعد النذر أفضل من فعلها قبله، لأنه حينئذ يدخل تحت قوله -تعالى- فيما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عن ربه -تعالى (¬2) -: "وما تقرب عبدي إليَّ بمثل أداء ما افترضته عليه"، ويحمل (¬3) على أداء ما افترض بأصل الشرع، لأنه لو حمل على العموم لكان النذر وسيلة إلى تحصيل الأفضل، فكان يجب أن يكون مستحبّاً، وهذا على إجراء النهي عن النذر على عمومه. قال ابن العطار في شرحه: ولم يقل أحد باستحباب النذر، بل اتفقوا على كراهته، وهو عجيب. فقد جزم القاضي حسين والمتولي والغزالي والرافعي: بأنه قربة. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إني لست كهيئتكم" أي مثلكم، كما جاء مفسراً في الرواية الأخرى "إني لست مثلكم". ويقال: فلان حسن الهيئة بفتح الهاء وكسرها. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إني أطعم وأسقى"، فيه أقوال: ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) من رواية أبي هريرة عند البخاري (6502). (¬3) في ن ب زيادة (ما).

أصحها: إني أعطى قوة الطاعم والشارب، لأنه لو كان حقيقة لم يكن مواصلاً، ويؤيده قوله في حديث أنس: "إني أظل يطعمني ربي ويسقيني"، ولا يقال: ظلَّ، إلَّا في النهار، فدل على أن المراد الكناية عن القوة الحاصلة له. [نعم] (¬1) في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "إني أبيت" بدل أظل، ويقال: بات يفعل كذا، إذا فعله ليلاً (¬2). ثانيها: أنه يطعم ويسقى حقيقة من طعام الجنة وشرابها كرامة له، لا تشاركه في ذلك الأمة (¬3). ثالثها: أن معناه أن محبة الله -تعالى- تشغنلي عن الطعام والشراب، والحب البالغ يشغل عنهما. واستبعد القرطبي قول من قال: إنه -تعالى- يخلق فيه شبعاً وريّاً ما يخلقه فيمن أكل وشرب. فقال: هذا القول يبعده النظر إلى حاله -عليه الصلاة والسلام-، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط على بطنه الحجارة من الجوع، وكان يقول: "الجوع حرفتي" على ما روي عنه. ¬

_ (¬1) في الأصل (دونهم)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) قال الصنعاني في حاشية العمدة (3/ 398). (¬3) في حاشية ن د (حاشية: قال الفاكهي: كنت يوماً مع شيخنا المكين الأسمر مع جماعة من أصحابنا فحضر الطعام، وكنت صائماً فلم آكل. فقال الشيخ: أنا آكل عنه. فوجدت من الشبع والري ما يجده الطاعم الشارب، وظللت بقية يومي متغذياً بذلك).

ويبعده أيضاً النظر إلى المعنى، وذلك أنه لو خلق فيه الشبع والري لما وجد لعبادة الصوم روحها الذي هو الجوع والمشقة، وحينئذ كان يكون ترك الوصال أولى (¬1). وقال ابن حبان في صحيحه: في هذا الخبر دليل على أن الأخبار التي فيها ذكر وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر على بطنه كلها بواطيل، وإنما معناها الحُجَر: وهو طرف الإِزار لا الحجر، إذ الله -جل وعلا- كان يطعم رسوله ويسقيه إذا واصل، فكيف يتركه جائعاً مع عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد حجر على بطنه، وما يغني الحجر من الجوع (¬2). قلت: قد أخرج هو في صحيحه من حديث ابن عباس (¬3) خرج أبو بكر بالهاجرة إلى المسجد فسمع بذلك عمر، فقال: يا أبا بكر ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: ما أخرجني إلاَّ ما أجد من الجوع, قال: وأنا والله ما أخرجني غيره. فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما أخرجكما هذه الساعة؟ " قالا: والله ما أخرجنا إلاَّ ما نجد في بطوننا من الجوع، قال: "وأنا والذي نفسي ¬

_ (¬1) انظر كلام ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (2/ 33، 38)، ومدارج السالكين (3/ 88) , ومفتاح دار السعادة (36). (¬2) انظر: فتح الباري (4/ 208). (¬3) ابن حبان (5216)، والطبراني في الصغير (1/ 67)، وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 317, 318). قال ابن علان في شرح الأذكار (5/ 231)، نقلاً عن ابن حجر في نتائج الأفكار: هذا حديث حسن , فيه غرابة من وجهين، أحدهما: ذكر أبي أيوب، وقصة فاطمة.

بيده ما أخرجني غيره فقوموا فانطلقوا (¬1) حتى أتوا باب أبي أيوب، ذكر الخبر بطوله. وهو في مسلم بنحوه من حديث أبي هريرة (¬2). وفي "صحيح البخاري" من حديث جابر (¬3) قال: إنا يوم الخندق نحفر. فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم قام يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً" الحديث بطوله. وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس (¬4) جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في ن ب زيادة (فانطلقوا). (¬2) مسلم (2038)، والترمذي (2822، 2369، 2370)، والنسائي في الكبرى في التفسير (6/ 521)، وفي الوليمة كما في التحفة (10/ 467)، وأبو داود (4965)، كتاب الأدب، باب: في المشورة، وابن ماجه (3745)، وانظر إلى الحديث كاملاً في سنن الترمذي. (¬3) البخارى (4101)، ومسلم (2039). (¬4) البخاري (422، 3578، 3581، 5451، 6688)، ومسلم (2040)، والترمذي (3634)، وأبو يعلى (1426)، وأحمد (3/ 147)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (322)، والنسائي في الكبرى (4/ 142)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 306). وورد أيضاً عن عمر عند أبي يعلى (250)، والبزار (3681). قال البزار: لا نعلمه يروى عن عمر إلَّا بهذا الإِسناد، والبيهقي في الدلائل (1/ 362). وعن أبي بكر عند المروزي في "مسنده لأبي بكر" (55)، وعند أبي يعلى (78). وعن ابن مسعود في الطبراني الكبير (10496)، قال في مجمع الزوائد (10/ 319): وفيه محمد بن السائب الكلبي وهو كذاب. =

يوماً فوجدته جالساً مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه بعصابة -قال أسامةُ: وَأنَا أَشُكُ- على حجر فقلت: لبعض أصحابه لِمَ عصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه؟ فقالوا: من الجوع، ثم ذكر الحديث. وفي "جامع الترمذي" (¬1) بإسناد صحيح عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: "شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر. ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجرين". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، فهذه أحاديث رادة على ما ادعاه ابن حبان. الخامس: في الحديث المنع من [الوصال] (¬2) لغيره - صلى الله عليه وسلم - وهو ¬

_ = وعن ابن عمر عند الطبراني ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 319)، قال الهيثمي: فيه بكار بن محمد السيريني وقد ضعفه الجمهور، ووثقه ابن معين، وبقية رجاله ثقات. قال المنذري (8/ 28): وأخرجه الترمذي من حديث أم سلمة. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج بحديثه -إلى أن قال-: وقد رواه أيضاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وأبي الهيثم بن التيهان، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب، وعمرو بن عوف، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وعبيد بن صخر، وفي طرقها كلها مقال. اهـ. ورواية أبي الهيثم بن التيهان في دلائل النبوة للبيهقي (1/ 360)، ورواية عن أبي الهيثم مجهول. (¬1) سنن الترمذي (2371). (¬2) في ن ب (الواصل).

مباح في حقه [وقال إِمام الحرمين (¬1): بل قربة] (¬2) خص بذلك من بين أمته، إكراماً وتخفيفاً في حقه، لا تشديداً عليه. وقد اختلف السلف من الصحابة فمن بعدهم فيه على أقوال. أحدها: أنه لا حرج فيه للقادر عليه، لحديث عائشة قالت: "نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم. قالوا: إنك تواصل". الحديث متفق عليه, وهذا لا يمنع النهي عنه، وكونه مرجوحاً فعله من حيث إن الشرع سد [باب] (¬3) الذرائع، ولما كان الوصال يؤدي غالباً إلى المشقة، وترك الواجب منع منه لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "إني لست مثلكم"، وبهذا جزم أبو عوانة في "صحيحه" (¬4) حيث قال: إنه مباح لمن أطاقه والنهي عنه للرفق. وقال الفارقي (¬5) من أصحابنا أيضاً حيث قال: هو حرام إن خشي الضعف، وإلاَّ فلا قال، وهذا لأن الصحابة كانوا قليلي العيش والطعام، فنهاهم لذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: المجموع (6/ 358) بل عده من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) القسم المفقود من مسند أبي عوانة (120). (¬5) هو عمر بن إسماعيل بن مسعود أبو حفص الربعي الفارقي ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وتوفي مخنوقاً بالظاهرية في رابع محرم سنة تسع وثمانين وستمائة طبقات الإِسنوي (2/ 286)، وابن قاضي شهبة (2/ 242). (¬6) انظر: الاستذكار (10/ 151).

ثانيها: جوازه، وقد فعله من الصحابة عن عبد الله بن الزبير [وابنه عامر بن عبد الله] (¬1) حتى روي أن عبد الله بن الزبير كان يواصل سبعة أيام حتى تتبين أمعاؤه، فإذا كان اليوم السابع أتى بصبر وسمن فتحساه حتى [تلين] (¬2) الأمعاء مخافة أن تنشق بدخول الطعام فجأة فيها (¬3). ونقل ابن يونس في "شرح التعجيز": أنه فعله سبعة عشر يوماً ثم أفطر بسمن ولبن وصبر. قال الماوردي (¬4): وتأول في السمن أنه يلين الأمعاء، وفي اللبن أنه ألطف غذاء، وفي الصبر أنه يقوي الأعضاء. وقال أبو عمر (¬5): قال مالك: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل في شهر رمضان ثلاثاً قيل له ثلاثة أيام. قال: لا ومن يقوى يواصل ثلاثة أيام يومين وليلة. ثالثها: حرمته وهو قول الجمهور، ونص عليه الشافعي وأصحابه، ولهم في المنع وجهان: أحدهما: منع كراهة رفقاً بهم ورحمة لهم كما سلف. ولهذا لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يومان. ثم رأوا ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (تلتق)، وما أثبت في ن ب د. (¬3) انظر: معجم فقه السلف (3/ 106). (¬4) في الحاوي الكبير (3/ 471)، والمجموع (6/ 358). (¬5) التمهيد (14/ 361) والاستذكار (10/ 151).

الهلال فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم: كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه (¬1) من حديث أبي هريرة. وفي رواية للبخاري: "كالمنكر لهم" بالراء بدل اللام، وفي رواية لهما من حديث أنس: "لو تمادى في الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم" (¬2). وأصحهما: عندهم منع تحريم، لأنه لا معنى للنهي إلاَّ التحريم مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم". فأي وصال بقي. رابعها: أنه يواصل إلى السحر، وبه قال ابن وهب وأحمد وإسحاق (¬3)، واختاره اللخمي من المالكية لأن أكلة السحر يؤمن معها الضعف والمشقة التي لأجلها كره الوصال. وتمسك هؤلاء بالرواية السالفة، وقد تقدم الكلام عليها، والمراد منها. وقال المتولي (¬4) والروياني (¬5) في "الحلية"، وابن يونس في ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 151). (¬4) هو عبد الرحمن بن مأمون بن علي بن إبراهيم النيسابوري المتولي المولود سنة (426)، والمتوفي سنة (478) كان بارعاً في الفقه والأصول والخلاف، والإِسنوي (1/ 305)، وابن هداية الله (177,176). (¬5) عبد الواحد بن إسماعبل بن أحمد بن محمد الإِمام الجليل المولود سنة (415)، والمتوفي سنة (502)، صاحب البحر. أحد رؤوس الأئمة والأفاضل لساناً وبياناً لخ الجاه العريض والمقبول التام. السبكي (7/ 193، 203)، وابن هداية الله (190، 191).

"شرح التعجيز" من الشافعية: إن قصد بالإِمساك الوصال حرم، وإلاَّ فلا. قال الروياني: وعلى كلا الوجهين في أن الكراهة للتحريم أو للتنزيه لو خالف، وفعل لم يكن صائماً، بل يكون مفطراً ممسكاً, لأن الفطر يحصل بدخول الليل نوى الإِفطار أو لم ينوه (¬1). تنبيه: لا يفسد الصوم بالوصال قطعاً، لأن النهي لا يعود إلى الصوم. [الخامس] (¬2): قولهم: "إنك تواصل" فيه معارضة المفتي إذا أفتى بخلاف حاله، ولم يعلم المستفتي بسر المخالفة، فيؤخذ منه أن الأتباع إذا رأوا من متبوعهم شيئاً مخالفاً لما أمرهم به أو نهاهم عنه سألوه عنها، وأن المتبوع يبينه لهم، ويذكر لهم علته. سادسها: في الحديث ما خص الله -تعالى- به نبيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- من الأحكام دون غيره تكريماً له، وتشريفاً ولطفاً وتعريفاً لقدره وتبيناً لعظيم رتبته عند ربه -تعالى- فإن الوصال من خصائصه كما أسلفناه، ولا خلاف فيه في حقه. سابعها: فيه أيضاً بيان قدرة الله على اتخاذ المسببات العاديات من غير سبب ظاهر للخلق، وإن كان له سبب خفي لا يعلمه إلاَّ الخواص؛ لأنه لو كان السبب في وصاله -عليه الصلاة والسلام- ظاهراً لما سألوه [عنه] (¬3) ولما احتاج إلى البيان لهم. ¬

_ (¬1) انظر: المجموع (6/ 358). (¬2) في ن ب د (السادس) ... إلخ الأوجه. (¬3) في ن ب ساقطة.

37 - باب فضل الصيام وغيره

37 - باب فضل الصيام وغيره ذكر فيه -رحمه الله- ثمانية أحاديث: الحديث الأول 197/ 1/ 37 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ما عشت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت الذي [تقول] (¬1) ذلك؟ " فقلت له: قد قلته، بأبي أنت وأمي [(¬2)]، قال: "فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر". قلت: [إني] (¬3) [أطيق] (¬4) أفضل من ذلك، قال: "فصم يوماً وأفطر يومين"، قلت: [إني] (¬5) [أطيق] (¬6) أفضل من ذلك، ¬

_ (¬1) في ن (حاشية العمدة)، وفي المتن (قلت). (¬2) في ن ومتن العمدة زيادة (يا رسول الله). (¬3) في حاشية العمدة (فإني). (¬4) في المتن (لأطيق). (¬5) ساقطة من الحاشية والمتن. (¬6) في المتن (لأطيق).

قال: "فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود، [- صلى الله عليه وسلم -] (¬1) وهو أفضل الصيام"، قلت: إني [أطيق] (¬2) أفضل من ذلك، [فقال: "لا أفضل من ذلك (¬3) "] (¬4)، وفي رواية: [قال] "لا صوم فوق صوم [أخي] (¬5) داود عليه السلام (¬6) -شطر الدهر- صم يوماً وأفطر يوماً" (¬7). الكلام عليه من عشرين وجهاً، والتعريف براويه سلف في الطهارة: الأول: فيه [الإِخبار] (¬8) بمحاسن الأعمال إذا لم يقصد بذلك التسميع والرياء. وربما كان ذلك داعية لغيره إلى مثله اقتداء به فيه. الثاني: فيه جواز الحلف من غير استحلاف. الثالث: فيه الحلف على فعل الطاعات وهو سائغ إجماعاً. الرابع: فيه أن الكبير العالم إذا بلغه عن بعض أصحابه أمراً يخالف الأولى في حقه أو مطلقاً أن [ينبهه] (¬9) ويبينه له. ¬

_ (¬1) في الحاشية ساقطة، وفي المتن (عليه السلام). (¬2) في المتن (لأطيق). (¬3) البخاري (1976)، ومسلم (1159)، وأحمد (2/ 194). (¬4) ساقطة من المخطوط، ومثبتة في الحاشية والمتن بفرق بسيط، وهو أن في الحاشية (قال)، وما أثبت من المتن. (¬5) ساقطة من المخطوطة. (¬6) زيادة من المتن. (¬7) البخاري (7277)، ومسلم (1159)، والطحاوي (2/ 82). (¬8) في ن ب (أخبار). (¬9) في ن ب ساقطة.

الخامس: [فيه] (¬1) إن التزام الطاعة الشاقة التي لا يستطيع القيام بها [و] (¬2) الدوام عليها غير لازمة. نعم يثاب على نية ذلك. السادس: فيه أن الإِنسان إذا سئل عما نقل [عنه] (¬3) يجيب بالواقع، ولا يوري خصوصاً فيما تعلق بالعبادات. السابع: فيه التفدية بالأباء والأمهات لكبار العلماء وصدقهم وجوابهم بأحسن العبارات. الثامن: "ما" من قوله "ما عشت" مصدرية ظرفية أي مدة حياتي. التاسع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنك لا تستطيع ذلك" عدم الاستطاعة يطلق تارة على المتعذر أصلاً (¬4)، وتارة على ما يشق فعله، وإن لم يكن متعذراً (¬5) والحديث محمول على الثاني وحمل بعضهم على الأول، قوله -تعالى-: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬6) وأخذ منه جواز تكليف المحال، وحمله بعضهم على الثاني، وهو الأقرب. قال الشيخ تقي الدين (¬7): [ويمكن] (¬8) أن ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في ن ب د (أو). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) انظر: حاشية الصنعاني (3/ 405) , وما يأتي بعده. (¬5) في ن ب زيادة (معه ذلك). (¬6) سورة البقرة: آية 286. (¬7) انظر: إحكام الأحكام (3/ 407). (¬8) زيادة من إحكام الأحكام (3/ 408)، مع الرجوع إليه ليظهر الفرق.

يحمل الحديث على الممتنع: إما على تقدير أن يبلغ من العمر ما يتعذر من ذلك، وعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق [الرفق] (¬1) وإما لاستحقاق الزمن الذي التزم فيه ما التزمه أموراً يتعذر فعل ذلك فيها من حيث إنه -عليه الصلاة والسلام- علم أنه لا يستطيع ذلك مع القيام ببقية المصالح المرعية شرعاً. العاشر: فيه جواز صوم الدهر غير الأيام الخمسة المنهي عنها، وهو مذهب الجمهور. وقد سرد الصوم عمر بن الخطاب قبل موته بسنتين (¬2) وسرده أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي وعبد الله ابن عمرو (¬3)، وحمزة بن عمرو، وعائشة (¬4)، وأم سلمة، وأسماء بنت الصديق وجماعة من التابعين. وقال الشافعي: إن قوي فحسن. ومنع أهل الظاهر منه لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا صام من صام الأبد" أو "ما صام ولا أفطر" (¬5) وغير ذلك من الأحاديث. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) ابن أبي شيبة (3/ 79)، والبيهقي (4/ 301)، والفريابي في الصيام (121). (¬3) عبد الله ابن عمر، روى أنه سرد الصيام. الفريابي في الصيام (134)، وعبد الله بن عمرو مشهور حديثه في سرد الصيام. (¬4) الصيام للفريابي (129، 132). (¬5) البخاري (1977)، ومسلم (1159)، والنسائي (4/ 206)، وابن ماجه (1706)، وأحمد (2/ 198)، وعبد الرزاق (7863)، وابن أبي شيبة (3/ 78). انظر: الحاشية للصنعاني (3/ 400).

[وتأولها الجمهور] (¬1) على من صام الدهر، [(¬2)] بالأيام المنهى [عنها] (¬3). وممن أجاب به عائشة -رضي الله عنها-: وهو حقيقة صوم الأبد، فإن من صام هذه الأيام مع غيرها [فهو صائم الأبد، ومن أفطرها] (¬4) لم يصم الأبد، إلاَّ أن في هذا خروجاً عن الحقيقة الشرعية في مدلول لفظة "صام" [من حيث أنها] (¬5) غير قابلة للصوم شرعاً، [(¬6)] فإن وقعت المحافظة على حقيقة [(¬7)] "الأبد" فقد وقع الإخلال بحقيقة لفظة "صام" "الأبد" شرعاً، فيجب أن يحمل ذلك على الصوم اللغوي [وإذا دار اللفظ بين حمله على] (¬8) مدلول اللغة [(¬9)] والشرع في [ألفاظ] (¬10) صاحب ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (3/ 401)، (وتأول مخالفوهم هذا مع مراجعة الحاشية هنا)، و (411) للاطلاع على تقريره. (¬2) في إحكام الأحكام (3/ 402) زيادة (وادخل فيه). (¬3) في المرجع السابق (عن صومها كيومي العيدين وأيام التشريق)، وكأن هذا محافظة. (¬4) في المرجع السابق (هو صائم للأبد ومن أفطر فيها). (¬5) في المرجع السابق (فإن هذه الأيام). (¬6) في المرجع السابق زيادة! إذا لا يتصور فيها حقيقة الصوم، فلا يحصل حقيقة "صائم" شرعاً لمن أمسك في هذه الأيام. (¬7) في المرجع السابق زيادة (لفظ). (¬8) في المرجع السابق (وإذا تعارض). (¬9) في المرجع السابق زيادة (ومدلول). (¬10) في ن ب (الألفاظ).

[الشرع] (¬1) حُمل على [الشرع مع] (¬2) أن تعليق الحكم بصوم الأبد يقتضي ظاهره أن "الأبد" متعلق الحكم من حيث هو "أبد" وإذا وقع الصوم في هذه الأيام، فَعِلَّتُهُ [وقوعه] (¬3) في الوقت المنهي عنه، وعليه ترتب الحكم. ويبقى ترتيبه على مسمى "الأبد" غير واقع، فإنه إذا صام هذه الأيام تعلق به [النهي] (¬4) سواء صام غيرها أو أفطر، فلا يبقى متعلق [النهي] (¬5) [وعِلته] (¬6) صوم الأبد، بل [هو] (¬7) صوم هذه الأيام، إلاَّ أنه لما كان صوم الأبد يلزم منه صوم هذه الأيام تعلق به [النهي] (¬8) [لكونه ملزوماً] (¬9) للمنهي عنه. فمن هنا نظر المتأولون [لهذا] (¬10) التأويل [وتركوا] (¬11) التعليل بخصوص صوم الأبد، أثار ذلك كله الشيخ تقي الدين [رحمه الله] (¬12). ومنهم من أوَّل النهي على من تضرر به أو فوّت حقّاً. ¬

_ (¬1) في ن ب (له الشرع). (¬2) في المرجع السابق (الحقيقة الشرعية ووجه آخر: وهو). (¬3) في المرجع السابق (وقوع الصوم) وفي ن ب (وقوع). (¬4) في المرجع السابق (الذم). (¬5) المصدر السابق. (¬6) في المرجع السابق (عليه). (¬7) في المرجع السابق زيادة (هو). (¬8) في المرجع السابق (الذم). (¬9) في المرجع السابق (لتعلقه بلازمه الذي لا ينفك عنه). (¬10) في المرجع السابق (بهذا). (¬11) في المرجع السابق (فتركوا). (¬12) في ن ب د ساقطة.

قال [المازري] (¬1) والقاضي عياض: وهو الأشبه ألاَّ ترى أنه قال له في رواية لمسلم: "فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين" أي غارت "ونهكت [نفسك"] (¬2) أي ضعفت، وبلغ بك الجهد منتهاه. ومنهم من أوّل قوله (¬3) "لا صام من صام الأبد" بأن معناه أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره ممن صام وأفطر، فيكون من صام الأبد خبراً لا دعاءً فيكون [معنى] (¬4) "لا" بمعنى "لم" كقوله -تعالى-: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} (¬5) مع أن نهي عبد الله بن عمرو وخطابه بذلك كان لِعلمه -عليه الصلاة والسلام- بعجزه آخر عمره كما سلف. وقد وقع ذلك فعجز وندم على كونه لم يقبل الرخصة، بخلاف حال حمزة بن عمرو، فإنه أقره عليه لعلمه بقدرته بلا ضرر (¬6). الحادي عشر: اختلف الفقهاء في الأفضل من صوم يوم وإفطار يوم، ومن صوم الدهر غير الأيام المنهى عنها، مع اتفاقهم على جواز الأمرين، إذا لم يتضرر بواحد منهما, ولم يفوّت به حقّاً. فاستدل من قال بأفضلية الأول بهذا الحديث، والحديث الثاني ¬

_ (¬1) الأصل (الماوردي)، وما أثبت من ن ب د، وانظر المعلم (2/ 64). (¬2) في ن ب د ساقطة، وانظر: شرح مسلم للنووي (8/ 45). (¬3) انظر: المعلم (2/ 64). (¬4) في ن ب د ساقطة. (¬5) سورة القيامة: آية 31. (¬6) انظر: النووي في شرحه لمسلم (8/ 40)، وانظر: الحاشية (3/ 400، 401).

في الكتاب وهو قوي في ذلك، وهو ما صرح به المتولي من أصحابنا. ونقله صاحب "البحر" عن بعض الأصحاب. وخالف الغزالي فقال في "الإِحياء": بعد أن قرر استحباب صوم الدهر ودونه مرتبة أخرى، وهي صوم نصفه بأن يصوم يوماً، ويفطر يوماً وهو أشد على النفس. واستدل من قال بأفضلية صوم الدهر بالشرط السالف: بأن العمل كلما كان أكثر كان الأجر أوفر، وهذا هو الأصل، فيحتاج فيه إلى تأويل أنه أفضل الصيام. فقيل: إنه أفضل بالنسبة إلى حال من حاله مثل عبد الله بن عمرو ممن يتعذر عليه الجمع بين الصوم الأكثر وبين القيام بالحقوق. وقال الشيخ تقي الدين: والأقرب عندي أن يجري على ظاهر الحديث من تفضيل صيام داود -عليه السلام- والسبب فيه أن الأفعال متعارضة المصالح والمفاسد. وليس كل ذلك معلوماً لنا [ولا منحصراً] (¬1) وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار كل واحد منهما في الحث [و] (¬2) المنع غير محقق لنا، فالطريق حينئذ أن نفوض الحكم [إلى] (¬3) صاحب الشرع، ويجري ما دل عليه ظاهر ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (3/ 412) (ولا مستحضراً). (¬2) وفي ن ب (أو)، وما أثبت يوافق ما في الأحكام. (¬3) زيادة من ن ب د.

اللفظ مع قوة الظاهر [هنا] (¬1)، وأما زيادة العمل واقتضاء القاعدة لزيادة الأجر بسببه، فيعارضه اقتضاء العادة والجبلَّة للتقصير في حقوق يعارضها الصوم الدائم، ومقادير ذلك الفائت مع مقادير الحاصل من الصوم غير معلوم لنا. وقوله "لا صوم فوق صوم داود" (¬2) يحمل على أنه لا فوق في الفضيلة المسؤول عنها (¬3). واعترض عليه ابن العطار، فقال: الذي تقتضيه الأدلة كلها وفعل الصحابة وغيرهم وتقرير حمزة وغيره. وأمره -عليه الصلاة والسلام- بإكثار الصوم لمن لا يستطيع التزوج وسرده -عليه الصلاة والسلام - الصوم في بعض الشهور، والإِفطار في بعضها، وتخفيف المشقة في الصوم سرداً والمشقة في تفريقه يوماً يوماً [(¬4)] أن الأفضلية تختلف باختلاف الأشخاص على حسب حاجتهم إليه والقيام بحقوق الله -تعالى- وفي غيره لا يتقدر بصوم يوم ويوم، ولا بالسرد جمعاً بين الأدلة والثواب وكثرته وقلته، راجع إلى ما ذكرته، لا إلى كثرة العمل وقلته، بل إلى الإِخلاص فيه والمقاصد، ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (ههنا). (¬2) في حاشية ن د (أنه أعدل الصيام). (¬3) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 413): قوله "المسؤول عنها" أي المطلوبة لابن عمرو، لأنه لم يرد بما عزم عليه من الأفعال الصالحة إلاَّ طلب الأفضل عند الله, فلا يتوهم أنه سأل عن الأفضل بل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ابتدأه بذلك كما عرفت. (¬4) في الأصل ون زيادة (يوماً).

فرب عمل قليل أفضل من كثير، والذي ذكر من الترجيحات إنما هو بالنسبة إلى الظاهر. الثاني عشر: فيه استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقد اختلف العلماء في تعيينها اختلافاً كثيراً كما سيأتي في الحديث الثالث، وهو اختلاف في تعيين الأحسن والأفضل لا غير، وليس في هذا الحديث ما يدل على تعيين شيء منها، بل فيه تعليله بأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر [ولا] (¬1) يبالي من أي الشهر كان يصوم، وقد أمر -عليه الصلاة والسلام- بالصوم من سُرة الشهر ومن سرره، ولا شك أن سرة الشهر وسطه فيكون المراد بالثلاثة الأيام البيض، وهي الثالث عشر وتالياه على الأصح. وجاءت مبينة في حديث في النسائي من حديث أبي ذر (¬2) -رضي الله عنه- ولعلمه -عليه [السلام] (¬3) - نبه بسُرة الشهر، وبحديث أبي ذر هذا على أفضليتها لا على كونها ثلاثاً من كل شهر، كما نبه على صوم الاثنين ¬

_ (¬1) في ن ب د (ولم). (¬2) النسائي (4/ 222)، والترمذي (761)، وأحمد (5/ 152)، والبيهقي (4/ 294)، والبغوي (1800)، وعبد الرزاق (7873)، ولفظه: عن أبي ذر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بصوم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وفي لفظ آخر: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة". النسائي (4/ 222). (¬3) زيادة من ن ب د.

والخميس (¬1) وسرر الشهر أوله. وقيل: آخره، وقيل: وسطه. وقد وقع الأمر بصوم الثلاث أول الشهر (¬2) ووقع آخره (¬3). وكل ذلك يبين أنه لا حرج في ذلك، وأن الاختلاف إنما هو في الأفضل الأحسن. الثاث عشر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن الحسنة بعشر أمثالها" كأن المراد بالحسنة الفعلة الحسنة شرعاً، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وحذفت التاء هنا، وفي الآية (¬4) وإن كانت القاعدة إثبات التاء من الثلاثة إلى العشرة في عدد المذكر، وحذفها مع المؤنث، "والمثل" مذكر لأن التقدير فله عشر حسنات أمثالها ¬

_ (¬1) مسلم (1162)، وابن ماجه مفرقاً في الصيام (1649، 1739)، وأحمد (2/ 268، 329، 484)، (6/ 80، 89، 106)، والموطأ (2/ 908)، والدارمي (2/ 20)، والبخاري في الأدب المفرد (61)، والنسائي (4/ 653)، وأبو داود (2436)، والترمذي (745). (¬2) لحديث ابن مسعود "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر". أبو داود (2450) في الصيام، باب: في صوم الثلاثة من كل شهر، والطيالسي (360)، والترمذي (742)، والنسائي (4/ 204)، وابن خزيمة (2129)، والبغوي (1803). (¬3) ومنه حديث الأمر بصيام السرر من الشهر، وهي الآخر على رأي بعضهم في حديث عمران بن حصين. البخاري (1983)، ومسلم (1161)، وأبو داود (2328) في الصيام، باب: في المتقدم، وأحمد (4/ 443). (¬4) سورة الأنعام: آية 160، وهي قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}.

فحذفت لأن الأمثال في المعنى مؤنثة، لأن مثل الحسنة حسنة. وجواب ثان: أنه أنث لإِضافته إلى مؤنث، وهو الهاء والألف التي هي ضمير مؤنث، فكان من باب سقطت بعض أصابعه وشبهه. فائدة: نبه القرافي -رحمه الله- على أن تضعيف الحسنات من خصائص هذه الأمة. فقال في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من صام رمضان ثم اتبعه ستّاً من شوال فكان كصيام الدهر" (¬1) وهو تشبيه بصائم رمضان وست من شوال من هذه الأمة بصيام الدهر من غيرها, لأن تضعيف الحسنات من خصائصها. الرابع عشر: فيه كراهة قيام كل الليل دائماً، لرده -عليه الصلاة والسلام- ذلك عليه، ولما يتعلق بفعله من الإِجحاف بوظائف من الدين وغيره عديدة. وقد صرح بالكراهة جماعة [وفرق أصحابنا] (¬2) بينه وبين صوم الدهر في حق من لا يتضرر به، ولا يفوّت حقّاً بأن صلاة الليل كله لا بد فيها من الإِضرار بنفسه وتفويت بعض الحقوق، لأنه إن لم ينم بالنهار فهو ضرر ظاهر، وإن نامه فوت بعض الحقوق بخلاف من يصلي بعض الليل. فإنه يستغني بنوم باقيه، وإن نام معه شيئاً في النهار كان يسيراً لا يفوّت به حق، وكذا من قام ليلة كاملة كليلة العيدين أو غيرهما فإنه لا كراهة في ذلك، لانتفاء الضرر فيه، وتأول جماعة من المتعبدين من السلف وغيرهم رده -عليه الصلاة والسلام- قيام كل الليل، والنهي عنه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في ن ب د (وقال ذلك أصحابنا وفرقوا).

على الرفق بالمكلف فقط، لا على الكراهة الشرعية. ثم الاستدلال على الكراهة بالرد المذكور، عليه سؤال، وهو أن يقال: إن الرد لمجموع الأمرين وهو صيام النهار، وقيام الليل، فلا يلزم ترتبه على أحدهما. نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬1). الخامس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وذلك مثل صيام الدهر" قيل: إنه مؤول عندهم على أنه مثل أصل صيام الدهر من غير تضعيف [(¬2)] فإن [(¬3)] التضعيف مرتب على الفعل الحسي الواقع [في] (¬4) الخارج، والحامل على هذا التأويل أن القواعد تقتضي أن المقدر لا يكون كالمحقق، وأن الأجور تتفاوت [(¬5)] [بتفاوت] (¬6) المصالح، أو المشقة في [الفعل] (¬7) فكيف يستوي من ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 404). (¬2) في إحكام الأحكام (3/ 409) زيادة (للحسنات)، وقال الصنعاني فيه: قوله "من غير تضعيف للحسنات"، لأنه لو اعتبر التضعيف لكان صوم الستة بثلاثة الآف حسنة وستمائة حسنة لأن الحسنة بعشر أمثالها، وعلى تقدير تحريم صومه لا حسنة لصائم أصلاً، والأقرب عندي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد التشبيه. الآيتان بقدر عدد الحسنات الحاصلة لمن صام الثلاثة البيض أو رمضان؟ وستّاً من شوال بأنه يحصل له من الحسنات هذا العدد، ولا دليل فيه على صوم الدهر ولا نفيه. فتأمل. اهـ. (¬3) في المرجع السابق زيادة (ذلك). (¬4) في الأصل (على)، وما أثبت من ن ب د. (¬5) زيادة في ن ب د وإحكام الأحكام (بحسب). (¬6) في ن ب د (تفاوت). (¬7) في المرجع السابق (العمل).

فعل الشيء بمن قُدر فعله له، فلأجل ذلك قيل: إن المراد أصل الفعل في التقدير، لا الفعل المرتب عليه التضعيف في التحقيق، وهذا البحث يأتي في مواضع، ولا يختص بهذا [الفعل] (¬1)، ومن هنا يمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذا اللفظ، وشبهه على جواز صوم الدهر (¬2)، من حيث إنه ذكر الترغيب في فعل هذا الصوم، ووجه الترغيب أنه مَثَّل بصوم الدهر، ولا يجوز أن تكون جهة الترغيب عن جهة [النهي] (¬3). قال الشيخ تقي الدين (¬4): وسبيل الجواب أن [النهي] (¬5) -عند من قال به- متعلق بالفعل الحقيقي [وجهة] (¬6) الترغيب هنا حصول الثواب على الوجه التقديري، فاختلفت جهة الترغيب وجهة ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (الموضع). (¬2) قال الصنعاني في الحاشية (3/ 410): قوله: "على جواز صوم الدهر"، بل على أفضليته، ووجه الدلالة أنه لما قال - صلى الله عليه وسلم - "فكأنما صام الدهر" دل على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به، وأنه أمر مطلوب. قال الحافظ في الفتح (4/ 223): وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه فضلاً عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوماً، ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه من كل وجه. اهـ. (¬3) في المرجع السابق (الذم). (¬4) انظر: إحكام الأحكام (3/ 411). (¬5) في المرجع السابق (الذم). (¬6) في المرجع السابق (ووجه).

[النهي] (¬1). وإن كان هذا الاستنباط الذي ذُكر لا بأس به، ولكن [الدليل الدال] (¬2) على كراهة صوم الدهر أقوى منه دلالة، والعمل [بالأقوى] (¬3) واجب، والذين أجازوا صومه حملوا النهي على [من عجز عنه أو اقترن به] (¬4) لزوم تعطيل مصالح راجحة [عليه] (¬5) أو متعلقة بحق الغير كالزوجة مثلاً. السادس عشر: يؤخذ من الحديث أن الشخص لا يعمل إلاَّ ما يستطيع الدوام عليه، ويراعي في ذلك حق الله -تعالى- وحق نفسه وحق غيره، ويؤخذ منه أيضاً بذل الوسع في الاجتهاد في العبادات على حسب الطاقة، وأداء غيرها من الحقوق ومراعاة تحصيل الحسنات. السابع عشر: يوخذ منه استدراج الشيخ المربي أتباعه في عبادات الصوم والصلاة وغيرها من الأخف إلى الأثقل، ولتتمرن نفوسهم عليها، من غير كراهة ولا ملل يؤدي إلى الترك بالكلية، وهذه سنَّة الله -عز وجل- في وحيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. الثامن عشر: يؤخذ منه مراعاته للأنبياء -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام- في الاتباع حيث ذكرهم الله -تعالى- في كتابه ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (الذم). (¬2) في المرجع السابق (الدلائل الدالة). (¬3) في المرجع السابق (بأقوى الدليلين). (¬4) في المرجع السابق (ذي عجز أو مشقة، أو ما يقرب من ذلك من). (¬5) في المرجع السابق (على الصوم).

وأمره بالاقتداء بهم في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1) الذين من جملتهم في الذكر داود - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية مسلم: "فصم صوم داود نبي الله، فإنه كان أعبد الناس" وفي رواية له "كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى". التاسع عشر: فيه بيان كرم الله تعالى في تضعيف الحسنة بعشر أمثالها. وأما السيئات فلا تضاعف، بل جزاء السيئة مثلها إن لم يقترن بفعلها انتهاك حرمة شخص أو مكان أو زمان، فإن اقترن بفعلها شيء من ذلك كانت مضاعفة: كالمعاصي من أقارب الأولياء والعلماء أو فيهم وفي الأشهر الحرم وفي الأزمنة الفاضلة والمواضع الشريفة وبجوار الأولياء والصالحين. العشرون: فيه الشفقة على الأتباع والتخفيف عنهم، وأمرهم بإعطاء النفس حقها من الراحة، وغيرها الأكل والنوم خصوصاً إذا نوى بذلك امتثال الأمر، فإن جميعه يكون طاعة وعبادة من الآمر والمأمور. ... ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 90.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 198/ 2/ 37 - وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أولها: معنى أحب إلى الله أكثره ثواباً، وأعظمه أجراً وتقديره بما ذكر (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (1131)، وأطرافه في الفتح (3/ 16)، ومسلم (1159)، وأبو داود (2448) في الصوم، باب: في صوم يوم وفطر يوم، وابن ماجه (1712)، والنسائي (4/ 198)، وله في الكبرى (2/ 118)، والبيهقي في مشكل الآثار (2/ 100)، وفي شرح المعاني (1/ 342)، والدارمي (2/ 20)، وأحمد في المسند (2/ 160)، وانظر أيضاً: تحقيق أحمد شاكر، حيث أحال على جميع مواضعه في المسند (6477) (9/ 188). (¬2) الحب صفة لله سبحانه فهو يحب الطاعات وأهلها "إن الله يحب الصابرين"، وأيضاً يحب المتقين، وما أشبه ذلك. فهي صفة يجب إثباتها لله -عز وجل- على ما يليق بجلاله من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه =

ثانيها: تقدم الكلام على الصوم في الحديث قبله واضحاً فأغنى عن إعادته. ثالثها: تقدم الكلام على قيام كل الليل أيضاً فيه، وأما قيام بعضه فسنَّة ثابتة، وأفضل قيامه في النصف الأخير، وأي وقت قام منه كان آتياً بالسنَّة، وكان فاعله ممن يجافي جنبه عن المضاجع، حتى ورد ذلك في حق من قام بين المغرب والعشاء لكن القيام بين المغرب والعشاء لا يسمى تهجداً، بل التهجد في عرف الشرع من قام بين فعل العشاء ونومه وطلوع الفجر. ووسط الليل أفضل من الأول والأخير، وإن كانت الصلاة آخر الليل مشهودة، لأن الغفلة فيه أكثر وأفضل من هذا السدس. الرابع الخامس: كما كان داود - صلى الله عليه وسلم - يفعله، ومن أطلق من أصحابنا أن الثلث الأوسط أفضل، فمراده هذا الثلث ووجه كونه أفضل ما في نومه من السدس الأخير من مصلحة الإِبقاء على النفس واستقبال صلاة الصبح وأذكار النهار بنشاط، والذي تقدم في الصوم من المعارض وارد هنا من أن زيادة العمل تقتضي زيادة الفضيلة، والكلام فيه كالكلام في الصوم من تفويض مقابلة المصالح والمفاسد إلى صاحب الشرع، ومن مصالح القيام على ما في هذا الحديث أنه أقرب إلى عدم الرياء في العمل، فإن من نام السدس الأخير فإن نفسه تكون مجموعة غير منهوكة القوى، لا يظهر عليها أثر العمل عند من يراه، وقد قيل: إن عدم النوم في السحر يصفر ¬

_ = ولا تعطيل على ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الوجه، ومن يخالف هذا يجعل قوله -عليه الصلاة والسلام- مخصوصاً بحالة أو فاعلٍ. واعلم أن بعض من تكلم [على] (¬1) هذا [الحديث] (¬2) ادعى أن قوله: "وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه". يحتمل وجهين بناء على أن "الواو" لا ترتب أن ينام النصف الأول، ثم يقوم السدس الرابع والخامس. ثم ينام الأخير، وأن يكون العكس، ثم نقل الأول عن مذهب الفاروق، والثاني عن مذهب الصديق، ولا نسلم له ذلك، والاحتمال الأول متعين، والثاني هفوة. ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في ن ب د (الكتاب).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 199/ 3/ 37 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلات: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: قوله صيام هو مخفوض، وكذا ما بعده على البدل من ثلاث، ويجوز الرفع على إضمار المبتدأ، والأول أولى. ثانيها: قوله: "أوصاني خليلي" هو إضافة تشريف، وقد سلف الكلام عليها في آخر كتاب الطهارة فراجعه. ثالثها: فيه الحث على هذه الخصال الثلاث لقرينة الإِيصاء ¬

_ (¬1) البخاري (1178، 1981)، ومسلم (721)، والطيالسي (2392)، والبيهقي (3/ 36، 47) (4/ 293)، وابن خزيمة (1222، 1223)، وأحمد (2/ 459)، والدارمي (2/ 18)، والنسائي (3/ 229) (4/ 218)، ووقع فيها رواية شاذة، وهي في طريق الحسن البصري "غسل الجمعة بدل صلاة الضحى". انظر: إرواء الغليل (4/ 101)، وأبو داود (1432) في الصلاة، باب: الوتر قبل النوم.

بها، وفي البخاري: "لا أدعهن"، ووصى -عليه الصلاة والسلام-[بها] (¬1) أيضاً أبا الدرداء، كما أخرجه مسلم (¬2)، وأبا ذر، كما أخرجه النسائي (¬3)، وفي المحافظة عليها التمرين للنفس على النوافل المعينة من الصوم والصلاة، لكي يدخل في الواجب [منها] (¬4) بانشراح واسترواح، ولينجبر بها ما يقع فيه من نقص. وفيه أيضاً إذهاب السيئات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وتضعيف الحسنات كما نبه عليه في الحديث السابق. فكأن صومها يعدل صيام [الدهر] (¬5)، ولعل الحكمة فيه تحصيل العلم بالفرق بين أن يصوم الشهر تقديراً وتحقيقاً. رابعها: اختلف في تعيين هذه الأيام الثلاثة، ففسره جماعة من الصحابة والتابعين بأيام البيض، منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبو ذر، وبه قال أصحاب الشافعي، كما حكاه عنهم النووي في "شرح مسلم" (¬6). لكن قال الروياني في "البحر": وإن صام ثلاثة غير أيام البيض فمستحب أيضاً، وهو كما قال. واختار النخعي: آخر الشهر. ¬

_ (¬1) في ن ب (بهذا). (¬2) مسلم (722). (¬3) النسائي (4/ 218)، وأحمد (5/ 173). (¬4) في ن ب د (منهما). (¬5) في ن ب د (الشهر). (¬6) شرح مسلم (8/ 52).

واختار آخرون: ثلاثة أيام من أوله منهم الحسن، و [اختارت] (¬1) عائشة وآخرون: صيام السبت والأحد والأثنين من شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء، والخميس من الشهر الذي بعده. واختار آخرون: الاثنين والخميس وفي حديث رفعه ابن عمر أول اثنين في الشهر وخميسان [بعده] (¬2)، وعن أم سلمة أول خميس، والاثنان بعده ثم الاثنان. وقيل: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرون, وبه عمل أبو داود، وروي أنه صيام مالك بن أنس. وروي عنه: كراهة صوم أيام البيض. وقال ابن شعبان: أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون. خامسها: قوله "وركعتي الضحى" (¬3) فيه دلالة على استحبابها، ¬

_ (¬1) في ن ب (واختار). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) إنها تجزىء عن الصدقة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة إلى أن قال: ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". وأيضاً أنها من الغنائم الباردة وأن وقت فعلها غالباً ما يكون الناس في غفلة عن العبادة ولذا فإن فاعلها ينتصر على نفسه وشيطانه ويفوز برضى ربه. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدث الناس بقرب مغزاهم، وكثرة غنيمتهم، وسرعة رجعتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى، =

وهو إجماع، وإنما نقل التوقف فيها عن ابن مسعود (¬1)، وابن عمر (¬2)، وقد جاء في الحث عليها أحاديث كثيرة قد أفردها ¬

_ = فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة". أخرجه أحمد (2/ 175)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 277). إنها سبب لكفَّية الله لعبده، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: "إن الله -عز وجل- يقول: يا ابن آدم اكفني أول النهار بأربع ركعات اكفك بهن آخر يومك". أخرجه أحمد من رواية عقبة بن عامر (4/ 153)، وصححه الألباني في الترغيب (1/ 278)، أن بصلاتها مع انتظار طلوع الشمس في المسجد يدرك الإِنسان فضل حجة وعمرة تامة تامة، كما وردت بذلك الأحاديث. (¬1) روى عبد الرزاق في مصنفه (3/ 80)، أن عبد الله بن مسعود كان لا يصلي الضحى، فعن قيس بن عبد قال: "اختلفت إلى ابن مسعود سنة فما رأيته مصلياً صلاة الضحى". وحكى الإِمام في المجموع (3/ 531)، عنه: أنه كان يرى صلاة الضحى بدعة -وهذا يخالف ما رواه ابن أبي شيبة عنه، أنه رأى قوماً يصلونها فأنكر عليهم، وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم- فهو بهذا أجازها, ولكن على صفة تخالف ماشاهده هو، وأنكر عليهم بسببه. إما لكونهم يصلونها جماعة، أو غير ذلك. كما سيأتي في التعليق بعده. (¬2) كان ابن عمر إذا سئل عن سبحة الضحى قال: لا آمر بها, ولا أنهي عنها، ولقد أصيب عثمان وما أدري أحداً يصليها، وإنها لمن أحب ما أحدث الناس إليَّ. أخرجه عبد الرزاق (8/ 4868، 4869)، وصححه الحافظ في الفتح (3/ 52). وأخرج البخاري (1175) عن مورق العجلي، قال: قلت لابن عمر -رضي الله عنهما-: أتصلي الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ =

بالتصنيف الحاكم أبو عبد الله الحافظ، وقد قيل: إنها الصلاة الوسطى، كما ذكرته في الحديث الخامس من باب المواقيت، وروى ابن أبي شيبة (¬1) في هذا الحديث: "وأن أصلي الضحى فإنها صلاة الأوابين"، وقد [ذكرت] (¬2) حديثين في تعيين ما يقرأ فيها من الشرح الصغير لمنهاج النووي فراجعه منه (¬3). ¬

_ = قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي؟ قال: لا أخاله. قال ابن حجر في الفتح (3/ 53): وفي الجملة ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى، لأن نفيه محمول على عدم رؤيته, لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة كما سيأتي نحوه في الكلام على حديث عائشة، قال عياض وغيره: إنما أنكر ابن عمر ملازمتها وإظهارها في المساجد وصلاتها جماعة، لا أنها مخالفة للسنة. (¬1) ابن أبي شيبة (2/ 408). وورد بلفظ آخر عنه: "لا يحافظ على صلاة الضحى إلاَّ أواب. قال: وهي صلاة الأوابين". أخرجه ابن خزيمة (2/ 228)، والحاكم (1/ 314) في صحيحهما، ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 239)، وابن عدي في الكامل (6/ 3205)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 366)، وحسنه المنذري في الترغيب (1/ 466)، والألباني في ابن خزيمة وفي صحيح الجامع (6/ 217)، وورد من رواية علي عند ابن أبي شيبة (2/ 408). (¬2) في ن ب (ذكر). (¬3) قال البيهقي في السنن الصغرى (1/ 488): وفي حديث ابن لهيعة بإسناده عن عقبة بن عامر قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما، بالشمس وضحاها، والضحى". شعب الإِيمان والدر المنثور (6/ 527)، وفتح الباري (3/ 55)، ذكره وسكت عنه.

وصح أنهما أعني ركعتي الضحى تجزىء عن الصدقات التي تصبح في كل يوم على مفاصل ابن آدم، وهو ثلاثمائة مفصل وستون كما أخرجه مسلم (¬1)، ولا شك أن عدد ركعات صلاة الضحى له أكثر؟ وأقل وأوسط وأكثره ثمان، وقيل: اثني عشر ركعة (¬2) , وبه جزم في "المنهاج" تبعاً "للمحرر"، وهذا الحديث بيان لأقلها، وهو ركعتان والوسط ما بينهما, وله [درجات] (¬3) منها أربع. ولا شك في سنية صلاة الضحى كما قررناه، وعدم مواظبته -عليه الصلاة والسلام- لا يدل على عدم استحبابها، فإن الاستحباب بقوم بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أن تتضافر عليه الأدلة، بل ما واظب - صلى الله عليه وسلم - عليه تترجح مرتبته على هذا وعلى ما لم يواظب عليه ظاهر. نعم قال الماوردي من الشافعية (¬4): أنه لما صلاها يوم الفتح ثمان ركعات أنه آخر [مما] (¬5) روي عنه من فعلها، وأنه واظب على ¬

_ (¬1) مسلم في صلاة المسافرين (722)، وأبو داود في الصلاة، باب: صلاة الضحى (2/ 26، 27) (4/ 362)، وأحمد في المسند (5/ 167، 168). (¬2) انظر: كتاب الصلاة والتهجد لابن الخراط (248)، وتحفة المنهاج إلى أدلة المنهاج لابن الملقن (1/ 411)، والسنن الصغرى (1/ 488)، وفتح الباري (3/ 54). (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) الماوردي في الحاوي الكبير (2/ 286). (¬5) في ن ب د (ما).

ذلك إلى أن مات، وفيما قاله نظر، لأن أبا داود (¬1) روى عن ¬

_ (¬1) مسلم (719)، وأبو داود (1242) في الصلاة، باب: صلاة الضحى، والترمذي (474)، وأخرج أيضاً الحديث (1579، 2734)، وفي الشمائل (156)، وابن ماجه (1379) من رواية عبد الله بن الحارث. انظر: فتح الباري (3/ 56). وجمع ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (1/ 336) الأقوال في صلاة الضحى فبلغت ستة: الأول: مستبحة، واختلف في عددها، فقل: أقلها ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة، وقيل أكثرها ثمان، وقيل كالأول، لكن لا تشرع ستًّا ولا عشرة، وقيل كالثاني لكن لا تشرع ستًّا، وقيل ركعتان فقط، وقيل أربعاً فقط، وقيل لا حد لأكثرها. القول الثاني: لا تشرع إلاَّ لسبب، واحتجوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها إلاَّ بسبب، واتفق وقوعها وقت الضحى، وتعددت الأسباب: فحديث أم هانىء في صلاته يوم الفتح كان بسبب الفتح، وأن سنَّة الفتح أن يصلي ثمان ركعات، ونقله الطبري من فعل خالد بن الوليد، لما فتح الحيرة، وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الضحى حين بشر برأس أبي جهل، وهذه صلاة شكر كصلاته يوم الفتح، وصلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته مكاناً يتخذه مصلى، فاتفق أن جاءه وقت الضحى، فاختصره الراوي فقال: "صلَّى في بيته الضحى"، وكذلك حديث بنحو قصة عتبان مختصراً. قال أنس: "ما رأيته صلَّى الضحى إلاَّ يومئذ"، وحديث عائشة: "لم يكن يصلي الضحى إلاَّ أن يجيء من مغيبه"، لأنه كان ينهي عن الطروق ليلاً فيقدم أول النهار فيبدأ بالسجد فيصلي وقت الضحى. القول الثالث: لا تستحب أصلاً، وصح عن عبد الرحمن بن عوف أنه لم يصلها وكذلك ابن مسعود. =

عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أخبرنا أحد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الضحى غير أم هانىء، فإنها أخبرت بها يوم فتح مكة، ولم يره أحد صلاهن بعد. سادسها: النوم على الوتر تقدم الكلام عليه في الحديث الثاني من باب الوتر، [وهل] (¬1) يقدمه أو يؤخره؟ وقد صح من حديث جابر الفرق بين من يثق من نفسه القيام آخر الليل فيؤخره وبين من لم يثق فيقدمه، كما أخرجه مسلم في صحيحه، فعلى هذا تكون وصيته -عليه الصلاة والسلام- هذه مخصوصة بمن حاله كحال ¬

_ = القول الرابع: يستحب فعلها تارة وتركها تارة بحيث لا يواظب عليها، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، والحجة فيه حديث أبي سعيد: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى حتى لا نقول يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها" أخرجه الحاكم، وعن عكرمة: "كان ابن عباس يصليها عشراً ويدعها عشراً"، وقال الثوري عن منصور: "كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة"، وعن سعيد بن جبير: إني لأدعها وأنا أحبها مخافة أن أراها حتماً عليَّ. القول الخامس: تستحب صلاتها والمواظبة عليها في البيوت, أي للأمن من الخشية المذكورة. القول السادس: أنها بدعة صح ذلك من رواية عروة عن ابن عمر, وسئل أنس عن صلاة الضحى فقال: "الصلوات خمس"، وعن أبي بكرة أنه رأى أناساً يصلون الضحى فقال: "ما صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عامة أصحابه". انظر أيضاً: فتح الباري (3/ 54، 55)، والفتح الرباني (5/ 19، 40). (¬1) في ن ب (وهو).

أبي هريرة ومن وافقه. سابعها: يؤخذ من الحديث استحباب وصية العالم أصحابه بالمندوبات وفعلها. ثامنها: فيه شرعية الوتر، وقد سلف في بابه الخلاف في وجوبه، والكلام عليه واضحاً. ***

الحديث الرابع

الحديث الرابع 200/ 4/ 37 - عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم" (¬1). زاد مسلم: "ورب الكعبة". الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الجنابة، والراوي عنه هو: محمد بن عباد تابعي قرشي مخزومي مكي ثقة قليل الحديث. وقوله: زاد مسلم (¬2) "ورب الكعبة" الذي في مسلم "ورب هذا البيت" فكأنه نقله بالمعنى. ¬

_ (¬1) البخاري في الصوم (1984)، ومسلم (1143)، وابن ماجه (1724)، والدارمي (2/ 19)، والبيهقي (4/ 301)، والحميدي (1226)، وأحمد (3/ 296، 312)، وعبد الرزاق (8708)، وأبو يعلى (2206)، وعنده عن ابن عمر (5709)، وأبي هريرة (6433)، والنسائي في الكبرى (2/ 140) مع الزيادة. (¬2) وأيضاً في النسائي. أما عزوه إلى مسلم "ورب الكعبة"، فوهم منه -رحمنا الله وإياه- بل في النسائي.

الثاني: المراد بالنهي إفراده بالصوم كما سيأتي في الحديث الذي بعده مبيناً، وفي رواية للبخاري "يعني أن ينفرد بصومه" وبه قال من الصحابة أبو هريرة وسلمان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه، وروى المزني في جامعه الكبير عنه قولاً أنه لا يكره إلاَّ لمن [(¬1)] إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطراً لفعلها. وقال ابن الصباغ (¬2): حمل الشافعي أحاديث النهي على من كان الصوم يضعفه ويمنعه من الطاعة. وقال الماوردي (¬3): مذهب الشافعي أن معنى نهي الصوم فيه أنه يضعف عن حضور الجمعة والدعاء فيها، فكل من أضعفه الصوم عن حضورها كان مكروهاً، وإلاَّ فلا بأس. وقد داوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صوم شعبان، ومعلوم أن فيه جمعات كان يصومها، وكذلك رمضان. قال: فعلم أن معنى نهي الصوم فيه ما ذكرناه. وقال الغزالي في "الأحياء": يستحب الصوم في الأيام الفاضلة الأسبوع ثم ذكر الاثنين والخميس والجمعة. ولعله أراد الجمعة مع الخميس. ¬

_ (¬1) في ن ب د زيادة (كان). (¬2) هو أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد، فاضل جليل، قال فيه ابن العربي: ثقة, فقيه، حافظ، ذاكر. توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وأربعمائة. المنتظم (9/ 125)، وكشف الظنون (1811)، وطبقات ابن الصلاح (1/ 401). (¬3) الحاوي الكبير (3/ 349).

وقال مالك (¬1): لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومن يقتدي به ينهي عن صومه، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم [بصومه] (¬2) وأراه كان يتحراه. وقد قيل: إن الذي [كان] (¬3) يتحرى صومه محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم، حكاها أبو عمرو (¬4). وهذا رأي من مالك خالفه فيه غيره، والسنة قاضية على من خالفها -والنهي ثابت من غير نسخ له، فتعين القول به-. قال الداودي من أصحابهم: ولم يبلغ مالك هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه. أي فإنه يقول: كلٌّ مأخوذ من قوله ومتروك، إلاَّ صاحب هذا القبر. يشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الفاكهي منهم فقال: في هذا العذر عندي بعد شهرة هذا الحديث وانتشاره. وقال القاضي عياض: أخذ بظاهر هذا الحديث الشافعي ولعل قول مالك إليه يرجع، لأنه إنما قال: وصومه حسن. ومذهبه معلوم في كراهة تخصيص يوم بالصوم. وهذا محتمل من معنى [ما] (¬5) جاء في الحديث الآخر: لا تخصوه بصيام. عند ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 311). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (لا). (¬4) انظر: الاستذكار (10/ 260، 261). (¬5) في ن ب ساقطة.

بعضهم [وإنما] (¬1) حكى مالك عن من حكى صومه، وظن أنه كان يتحراه، ولم يقل مالك: إني أرى هذا, ولا أحبه، أعني تحريه. فيحمل أنه مذهبه. وهذا تأويل بعيد. وقد انصف الفاكهي منهم فقال: إنه قريب من التعسف. وظاهر قول مالك أو نصه وقوة سياقه يقتضي عدم كراهة صومه منفرداً بلا إشكال. و [قد] (¬2) أشار الباجي منهم إلى أن مذهب مالك يحتمل قولة أخرى له في صيام يوم الجمعة. فوافق الحديث. وهذا ليس ببعيد، كما قال الفاكهي. وقال الداودي في كتاب "النصيحة" ما معناه: إن النهي إنما هو عن تحريه واختصاصه دون غيره. وأنه متى صام معه يوماً آخر [وقد] (¬3) خرج عن النهي. وقد يرجح ما قاله قوله في الحديث السالف: "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" (¬4). وقد اختلف العلماء في علة النهي على أقوال: أحدها: [أنه يوم عيد] (¬5) فلا ينبغي صيامه. وروى الحاكم في ¬

_ (¬1) في ن ب (وإني). (¬2) في ن ب ساقطة. (¬3) في ن ب (فقد). (¬4) مسلم (1144)، والبيهقي (4/ 302)، وابن خزيمة (1176)، والحاكم (1/ 311)، والنسائي في الكبرى (2/ 141)، من رواية أبي هريرة، ورُري عن أبي الدرداء عند أحمد (6/ 444)، والنسائي في الكبرى (2/ 142). (¬5) في الأصل بياض.

مستدركه من حديث أبي هريرة مرفوعاً "يوم الجمعة عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلاَّ أن تصوموا قبله أو بعده" (¬1) ثم قال: هذا حديث صحيح الإِسناد إلاَّ أن أبا بشر الذي في إسناده لم أقف على اسمه. ثانيها: [أنه] (¬2) يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها لقوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (¬3) وغير ذلك من العبادات في ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 437)، وأحمد (2/ 303)، وابن خزيمة (2161)، وورد بصيام يوم قبله أو بعده عند أحمد (2/ 365, 422، 458، 526)، وابن الجعد (533)، وعبد الرزاق (7806)، وابن أبي شيبة (3/ 45)، والنسائي في الكبرى (2/ 142). (¬2) في ن ب د (لأنه). (¬3) سورة الأحزاب: آية 41. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 296): حديث عبد الله بن بشر -هذا- رواه جماعة عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء. ورواه النسائي عن عبد الله بن بسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه أيضاً عن الصماء، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذه ثلاثة أوجه: وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديماً وحديثاً. فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به؟ فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به: فقد جاء فيه ذلك الحديث: حديث الصماء, يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصوموا يوم السبت إلاَّ فيما افترض عليكم" قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم. قال الأثرم: حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها: حديث أم سلمة، حين سئلت: "أي الأيام كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر صياماً لها؟ فقالت: السبت والأحد، ومنها حديث جويرية: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها يوم الجمعة: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غداً؟ " فالغد: هو يوم السبت. وحديث أبي هريرة: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة، إلاَّ مقروناً بيوم قبله، أو يوم بعده"، فاليوم الذي بعده: هو يوم السبت، وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال" وقد يكون فيها السبت، وأمر بصيام الأيام البيض، وقد يكون فيها السبت، ومثل هذا كثير. فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة. وذكر أن الإِمام علل حديث يحيى بن سعيد، وكان ينفيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث. واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده. وعلى هذا تتفق النصوص. وهذه طريقة جيدة، لولا أن قوله في الحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلاَّ فيما افترض عليكم" دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفرداً أو مضافاً، لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه، إلاَّ صورة الفرض. ولو كان إنما يتناول صورة الإِفراد، لقال: لا تصوموا يوم السبت إلاَّ أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجمعة. فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قبلها. وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الأحاديث وغيرها. كقوله في يوم الجمعة: "إلاَّ أن تصوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده" فدل على أن الحديث غير محفوظ، وأنه شاذ. وقد قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب. وذكر بإسناده عن الزهري: أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت، يقول: هذا حديث حمصي. وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتماً له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا. وقالت طائفة، منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ. وقالت طائفة، وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه. قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه؟ فأجاب بالحديث. وقاعدة مذهبه: أنه سأل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به، لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معاً. قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد: فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث. قالوا: وإسناده صحيح. ورواته غير مجروحين ولا متهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه، لأنها تدل على صومه مضافاً، فيحمل النهي على صومه مفرداً، كما ثبت في يوم الجمعة. ونظير هذا الحكم أيضاً: كراهية إفراد رجب بالصوم، وعدم كراهيته موصولاً بما قبله أو بعده. ونظيره أيضاً: ما حمل الإِمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان: أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه. وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول، فلا يكره. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قالوا: وقد جاء هذا مصرحاً به في صوم يوم السبت. ففي مسند الإِمام أحمد من حديث ابن لهيعة: حدثنا موسي بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي, يعني الصماء: "أنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت، وهو يتغدى. فقال: تعالي تغدي. فقالت: إني صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: كلي، فإن صيام يوم السبت لا لك، ولا عليك" وهذا -وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد- لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث. وعلى هذا: فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصوموا يوم السبت" أي لا تقصدوا صومه بعينه إلاَّ في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلاَّ صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلاَّ يوم السبت، فإنه يصومه وحده. وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره. ولا تزول الكراهة إلاَّ بضم غيره إليه، أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضاً، لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة، ونحو ذلك. قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول -إلى آخره- فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي. فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم، فكلا الصورتين مخرج، أما للفرض: فبالمخرج المتصل. وأما صومه مضافاً: فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإِفراد، واللفظ متناول لها, ولا مخرج لها من عمومه، فيتعين حمله عليها. ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة، فعللها ابن عقيل: بأنه يوم يمسك فيه اليهود، ويخصونه بالإِمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبهاً بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره، ومع هذا فإنه لا يكره، لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصداً تخصيصه المقتضى للتشبه، وشاهده: استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه، لتنتفي صورة الموافقة. وعلله طائفة أخرى: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه، فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيماً له، فكره ذلك، كما كره إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم، لما عظمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضاً لما عظمه المشركون. وهذا التعليل قد تعارض بيوم الأحد، فإنه يوم عيد للنصارى، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اليوم لنا، وغداً ليهود، وبعد غد للنصارى" ومع ذلك فلا يكره صومه. وأيضاً فإذا كان يوم عيد، فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة، ويدل على ذلك: ما رواه الإِمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال: "أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرها صياماً، فقلت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم"، وصححه بعض الحفاظ. فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم، فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيداً لهم؟ وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من الشهر السبت، والأحد, والاثنين. ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء, والخميس", قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه. وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم. وعلله طائفة: بأنهم يتركون العمل فيه، والصوم مظنة ذلك، فإنه إذا ضم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إليه الأحد زال الإِفراد المكروه، وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم، وزال عنها صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم، فاتفقت بحمد الله الأحاديث، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وتبين تصديق بعضها بعضاً. فإن قيل: فما تقولون في صوم يوم النيروز والمهرجان، ونحوهما من أعياد المشركين؟ قيل: قد كرهه كثير من العلماء، وأكثر أصحاب أحمد على الكراهة. قال أحمد، في رواية ابنه عبد الله: حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن: أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان، قال عبد الله: قال أبي: الرجل: أبان بن أبي عياش. فلما أجاب أحمد بهذا الجواب لمن سأله عن صيام هذين اليومين، دل ذلك على أنه اختاره. وهذه إحدى الطريقتين لأصحابه في مثل ذلك. وقيل: لا يكون هذا اختياراً له، ولا ينسب إليه القول الذي حكاه، وأكثر الأصحاب على الكراهة، وعللوا ذلك بأنهما يومان يعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكره كيوم السبت. قال صاحب المغني: وعلى قياس هذا: كل عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم. قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية -قدس الله روحه-: وقد يقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب، بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد، لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية، كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها، وإظهار حالها، بخلاف السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين، فليس في صومهما مفسدة. فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإِسلامي، مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي. توفيقاً بين الآثار، والله أعلم.

يومها، فاستحب الفطر فيه ليكون أعون له على هذه الوظائف، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة. وهو نظير صوم [يوم] (¬1) عرفة للحاج. فإن السنة فيه الفطر، لهذه الحكمة، وإن كانت دعوة الصائم لا ترد. فاعتنى في هذا اليوم بالصلاة دون الصوم، كما جاء في ذكر الساعة التي هي فيه: أنه لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلاَّ أعطاه إياه. فإن قلت: لو كان الأمر على ما ذكرتم من العلة والحكمة [لم] (¬2) يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى. فالجواب: ما ذكره النووي في "شرح مسلم" (¬3): أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه. قال: وهذا هو المعتمد في النهي عن إفراده. وقال الفاكهي: هذا تعليل يتبادر إلى الذهن جودته. وإذا تُؤمل ضعف لزوال الكراهة بصوم [يوم] (¬4) قبله أو بعده. قال: والجواب المذكور ضعيف أيضاً لأن الجابر كذلك أعم من كونه ذكراً أو صوماً أو صدقة أو غير ذلك. فلم حصرته في الصيام دون غيره؟ قال: ثم نقول لهذا القائل: ما تقول لو أعتق ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) (8/ 19). (¬4) زيادة من ن ب د.

المكلف رقبة أو تصدق بمال كثير ونحو ذلك، ثم أفرد يوم الجمعة بصيام هل تبقى الكراهة والحالة هذه، ويكون ذلك جابراً كما قلت. فإن قال بزوالها فقد خرق الإِجماع فيما علمت، وإن قال: لا أنتقض التعليل. قلت: وإذا عللنا بأنه يجبر ما يحصل من الفترة فقط، فهو ظاهر فيما إذا قدم عليه يوماً دون ما إذا أخر. ثالثها: إن سبب النهي خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن بيوم السبت. وهذا منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور، من وظائفها وتعظيمه. رابعها: إن سبب النهي خوف اعتقاد وجوبه، وهو منقوض أيضاً بصوم الأيام التي حض الشرع على صيامها، فإنها مشروعة للصيام والمواظبة عليها من غير كراهة ولم تترك لخوف اعتقاد وجوبها، كي ولم يبين -عليه الصلاة والسلام- هذا المعنى هنا كما بينه في قيام رمضان. خامسها: خشية أن تعظم بالصوم كما عظمت اليهود والنصارى السبت والأحد من ترك العمل، وهو باطل. فإن تعظيم يوم الجمعة ثابت مبين في الكتاب والسنة بأمور كثيرة، ولا يلزم من تعظيمه بالصوم لو كان مشروعاً التشبه بالسبتية والأحدية. فإنهم لا يعظمونه بذلك، ولو عظموه بذلك [بل] (¬1) لم يكن نهيه عن صومه ملزوماً للتشبه بهم ولا لازماً. بل لأمر اطلع عليه الشارع كيف وهم يعظمون ¬

_ (¬1) في ن ب د (لم).

سبتهم وأحدهم بالأكل والشرب. وقد روى النسائي وابن حبان والحاكم في صحيحهما (¬1) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، وكان يقول: أنهما يوما عيد للمشركين فأحببت أن أخالفهم" ومعلوم أن يوم العيد يوم أكل وشرب، ويترك العمل والسعي في مصالحهم. وقد كانوا أمروا بيوم الجمعة كما أمرنا به فخالفوا وبدلوا، فجُعل عليهم غضباً وتغليظاً، وتعظيم يوم الجمعة معروف عندهم، لكنهم غيروا وبدلوا، والذي يقع [التشبه] بهم [فيه] (¬2) ترك العمل (¬3). ¬

_ (¬1) النسائي في الكبرى (2/ 146)، وابن حبان (3616، 3646)، وصححه الحاكم (1/ 436)، ووافقه الذهبي وابن خزيمة (2167)، وأحمد (6/ 323)، والطبراني في الكبير (23/ 616، 964)، والبيهقي (4/ 303)، وابن خزيمة (2167)، وحسنه الألباني فيه. انظر: إرواء الغليل (4/ 118، 125)، وانظر التعليق (5) حيث نقل ابن القيم تصحيح بعض الحفاظ له. (¬2) في ن ب (في). (¬3) قال السيوطي-رحمنا الله وإياه- في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" (144): أو قصد الاغتسال في يوم السبت، الذي يسمونه "سبت النور" أو الانغماس في ماء، فإن أصل ذلك ماء المعمودية. ومن ذلك: ترك الوظائف الراتبة: من الصنائع والتجارات، وغلق الحوانيت واتخاذه يوم راحة وفرح ولعب، واللعب فيه على الخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام، كل ذلك منكر وبدعة، وهو شعار النصارى فيه، فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن لا يُحدث في هذا اليوم شيئاً أصلاً، بل يجعله يوماً كسائر الأيام. اهـ. =

سادسها: أنه يوم يجب صومه على النصارى ففي صومه تشبه بهم. نقله القاضي نجم الدين القمولي عن بعض فضلاء العصر. تتمتان: الأولى: لو أراد اعتكاف يوم الجمعة فهل يستحب له صومه ليصح اعتكافه بالإجماع أو يكره لكونه أفرده بالصوم. فيه نظر. واحتمال الثانية لا يكره إفراد يوم الجمعة فيما إذا وافق عادة له، بأن نذر [صوم] (1) يوم شفاء مريضه أو قدوم زيد أبدًا، فوافق الجمعة، صرح به النووي في "شرح المهذب". الوجه الثالث: قوله: "ورب الكعبة" فيه الحلف من غير استحلاف لتحقيق الأمر. الرابع: فيه إضافة الربوبية إلى المخلوقات المعظمة تشريفًا لها وتفخيمًا. الخامس: فيه السؤال عن العلم للعلماء. السادس: فيه جواب المفتي بنعم. ...

_ = قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (3/ 37): جاء ترك التحلق يوم الجمعة للعلم وغيره، لأجل أنه يعوقه عن الصلاة، أما أن يترك العمل كل يوم جمعة فهذا من مشابهة أهل الكتاب. اهـ. (1) زيادة من ن ب د.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 201/ 5/ 37 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعه، إلَّا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده" (1). الكلام عليه قد تقدم في الحديث قبله وهو مبين المطلق فيه أيضًا وقدمنا أن الحكمة في زوال الكراهة بصوم يوم قبله أو بعده بأنه خبر لما قد يحصل فيه من فتور ونحوه. وذكر بعضهم: أن الحكمة في زوالها بصوم يوم قبله تمرنه به فيخفف عليه مشقته لو كان مفردًا، وهذا لا يأتي في صوم يوم بعده. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلَّا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده" لا يقتضي لغة اتباعهما ليوم الجمعة وإن اقتضاه عرفًا.

_ (1) أخرجه البخاري (5/ 1985)، ومسلم (1144)، وأبو داود (2420) في الصوم، باب: النهي عن أن يخص يوم الجمعه بصوم، والترمذي (743)، وابن ماجه (1723)، والنسائي في الكبرى (2/ 142)، ومسند ابن الجعد (533)، والبغوي (1804)، وابن خزيمة (2158، 2159)، والبيهقي (4/ 302)، وأحمد (2/ 495)، وعبد الرزاق (7805).

فإن القبلية والبعدية تصدق وإن لم يكونا تباعاً له، خصوصاً على الحكمة في كونهما جبراً لما وقع من التقصير. أما من علل بتخفيف المشقة فلا يتأتى له ذلك. فرع: يكره له إفراد السبت أيضاً لحديث صحيح (¬1) فيه وادعى أبو داود نسخه، ولعل نسخه عنده بالحديث السالف في صوم [يوم] (¬2) السبت والأحد, لكونهما عيدين للمشركين والمدعى إفراده بالصوم، فإذا صامهما زالت الكراهة فيهما. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 189، 368)، والترمذي (744)، وأبو داود (2421)، وابن ماجه (1726). قال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وقال أيضاً وعن ابن شهاب، أنه كان إذا ذكر له: "أنه نهى عن صيام يوم السبت" يقول ابن شهاب: هذا حديث حمصي. وقال الأوزاعي: ما زلت كاتماً، حتى رأيته انتشر -يعني حديث ابن بسر هذا في صوم يوم السبت، قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب. قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 572): ولا يقال: يحمل النهي على إفراده، لأن لفظة: "لا تصوموا يوم السبت إلاَّ فيما افترض عليكم" والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضي أن الحديث عمّ صومه على كل وجه، وإلاَّ لو أريد إفراده فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بيّن أنه إنما نهى عن إفراده. وانظر كلام ابن القيم -رحمنا الله وإياه- على هذه المسألة في الحديث قبله التعليق (3)، (361)، وزاد المعاد. ونقل ابن مفلح في الفروع (3/ 123) كلاماً للإِمام أحمد وشيخ الإِسلام -رحمهم الله جميعاً-. (¬2) زيادة من ن ب د.

الحديث السادس

الحديث السادس 202/ 6/ 37 - عن أبي عبيد مولى ابن أزهر -واسمه- سعد بن عبيد، قال: "شهدت العيد مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدهما: أبو عبيد هذا تابعي مدني ثقة مات بالمدينة سنة، ثمان وتسعين، وابن أزهر هو عبد الرحمن بن أزهر بن عبد عوف ويقال لأبي عبيد هذا مولى عبد الرحمن بن عوف أيضاً، وهو ابن عمه، فإن أزهر وعوفاً أخوان، وهما ابنا عبد عوف (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (1990، 5571)، ومسلم (1137)، والترمذي (771)، وابن ماجه (1722)، وأبو داود (2416) في الصيام، باب: في صوم يوم العيدين، والنسائي في الكبرى (2/ 149)، وابن الجارود (401)، والبيهقي (4/ 297)، والموطأ (1/ 178)، والبغوي (1795). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الإِصابة (4/ 150): عبد الرحمن بن أزهر بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة .. إلى أن قال: كذا ذكره البخاري ومسلم وابن الكلبي ... إلخ.

ثانيها: قوله: "هذان يومان" [هو] (¬1) من باب تغليب الحاضر على الغائب، كما يقال: هذان الرجلان، وأحدهما غائب. ثالثها: قوله: "يوم فطركم" هو مرفوع إما على أنه بدل من يومان، وإما على أنه خبر مبتدأ تقديره أحدهما. [رابعها] (¬2): وصفهما بالفطر والنسك ليبين العلة لفطرهما، وهو الفصل من الصوم واشتهار تمامه وحده بفطر ما بعده. والآخر لأجل النسك المتقرب به فيه، ليؤكل منه، ولو كان يوم صوم لم يؤكل منه ذلك اليوم، ولم يكن لنحره فيه معنى. وفيه إجابة دعوة الله التي دعا عباده إليها من تضييفه وإكرامه لأهل منى وغيرهم، بما شرع لهم من ذبح النسك، والأكل منها، [فمن] (¬3) صام هذا اليوم فكأنه رد هذه الكرامة. وعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك، ولم يعبر بأنه يوم النحر، لأنه يستلزمه، ويزيد فائدة التنبيه على التعليل. وقيل: إن فطرهما شرع غير معلل. ونقله القرطبي عن الجمهور، وأشار أبو حنيفة (¬4) بأنه معلل بما سبق. والنسك: هنا عبارة عن الذبيحة المتقرب بها إلى الله -تعالى-. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) في الأصل (عاشرها)، وما أثبت من ن ب د. (¬3) في الأصل (لمن)، والتصحيح من ن ب د. (¬4) في ن ب د زيادة (إلى).

تنبيه: قد يستنبط من علة النهي عن صوم [يوم] (¬1) الفطر وجوب السلام من [الصلاة] (¬2)، لأنه بيان لتمام العبادة، وفصل بين حالة يحرم فيها الكلام وحالة لا يحرم، فتأمله. الخامس: في الحديث دليل على تحريم صوم يومي العيد بكل حال، سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك من قضاء فرض أو تمتع، وهذا كله إجماع. ولو نذر صوم يوم بعينه فوافق ذلك يوم فطر أو أضحى فلا يصومهما إجماعاً. وهل يلزمه قضاؤهما؟ فيه قولان للعلماء أصحهما: المنع لأن النهي يقتضي التحريم، والتحريم العائد على الوصف للشيء وذاته يقتضي الفساد، وإذا اقتضى ذلك لم يقتض القضاء إذ القضاء؛ لا يجب إلاَّ بأمر جديد على الراجح في الأصول. وقال الأوزاعي (¬3): مرة يقضي إلاَّ أن ينوي عدمه. وحكاه أبو عمر (¬4): عن مالك وحكى عنه رواية أخرى أنه لا يقضي إلاَّ إذا نوى القضاء. واستحبها ابن القاسم. قال أبو عمر (¬5): لأن ........................ ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في الأصل (العبادة)، والتصحيح من ن ب د. (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 144). (¬4) انظر: الاستذكار (10/ 144). (¬5) انظر: الاستذكار (10/ 145).

[من] (¬1) قصد إدخالهما نذره باطل، لأنه معصية، وإن لم يدخلهما في نذره فذلك أبعد من أن يجب عليه قضاؤهما. وقال الليث (¬2): من نذر صيام سنة صام ثلاثة عشر شهراً ويومين. شهراً لمكان رمضان، ويومين لمكان العيدين، ويصوم أيام التشريق، وتقضي المرأة حيضها. أما إذا نذر صومهما متعمداً لعينهما، فقال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا قضاء عليه (¬3). وانفرد أبو حنيفة (¬4) فقال: ينعقد ويلزمه قضاؤهما، قال: فإن صامهما أجزأه، وأيام التشريق عنده كذلك، ووافق أنه لا يصح صومها عن نذر مطلق. وحكى ابن الجوزي عن [أحمد في كشف المشكل] (¬5) ثلاث روايات. إحداها: ينعقد، فإن صامه صح صومه. ثانيها: ينعقد، ولا يصح صومه، ويقضي، ويكفر كفارة يمين. ثالثها: يقضي، ولا يكفر. وحجة الحنفية: أن الصوم له جهة عموم وجهة خصوص، فهو ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) انظر: الاستذكار (10/ 145). (¬3) انظر: الاستذكار (10/ 143). (¬4) انظر: الاستذكار (10/ 144). (¬5) في ن ب تقديم وتأخير.

من [حيث] (¬1) إنه صوم يقع الامتثال به، ومن حيث إنه صوم عيد يتعلق به النهي والخروج عن [العهدة] (¬2) يحصل بجهة كونه صوماً، والذي يُدَّعى من الجهتين بينهما تلازم ها هنا. ولا انفكاك. فيتمكن النهي [من] (¬3) هذا الصوم. فلا يصح أن يكون قربة، فلا يصح، نذره: [فيتعلق] (¬4) النهي [عن صومه بيوم] (¬5) العيد، [فلا يصح مطلقاً] (¬6) وهذا: بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة، عند من يقول بصحتها، [فإن إيقاعها في مكان مغصوب ليس مأموراً به في الشريعة. والأمر فيها وجه إلى مطلق الصلاة] (¬7) والنهي إلى مطلق الغصب، وتلازمهما واجتماعهما إنما هو في فعل المكلف، [المتعلق بالأمر والنهي الشرعي] (¬8) فلم يتعلق النهي شرعاً، [بخصوص الصلاة فيها] (¬9) بخلاف صوم العيد فإن النهي ورد عن ¬

_ (¬1) في ن ب (باب). (¬2) في ن ب (العهد). (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 423) (عن). (¬4) في المرجع السابق (بيانه: أن). (¬5) في المرجع السابق (ورد عن صومه يوم). (¬6) العبارة في المرجع السابق (والناذر له معلِّق لنذره بما تعلق به النهي). (¬7) العبارة في المرجع السابق (فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم أعني كونها صلاة، وبين جهة الخصوص أعني كونها حصولاً في مكان مغصوب، وأعني بعدم التلازم ههنا عدمه في الشريعة، فإن الشرع وجه الأمر إلى مطلق الصلاة). (¬8) في العبارة في المرجع السابق (لا في الشريعة). (¬9) في العبارة في المرجع السابق (بهذا الخصوص).

خصوصه، فتلازمت [فيه] (¬1) جهة العموم (¬2) والخصوص في الشريعة، وتعلق النهي بعين ما وقع به النذر، فلا يكون قربة، وتكلم الأصوليون في قاعدة تقتضي النظر في هذه المسألة، [وهي] (¬3): أن النهي عند الأكثرين لا يدل على صحة المنهي عنه، وقد نقل عن محمد بن الحسن أنه يدل عليه، لأن النهي لا بد فيه من إمكان المنهي عنه، إذ لا يقال للأعمى لا تبصر (¬4) فإذاً هذا المنهي عنه -أعني صوم يوم العيد- ممكن، وإذا أمكن ثبتت الصحة، وهو ضعيف، لأن الصحة [المعتبر فيها التصور الشرعي وهو ممتنع لا التصور العقلي والعادي] (¬5) وكأن محمد بن الحسن يصرف اللفظ في المنهي عنه إلى المعنى الشرعي. سادسها: فيه دلالة أيضاً على أن الخطيب يذكر في خطبته [ما يتعلق بوقته من الأحكام. فإن عمر -رضي الله عنه- ذكر في خطبته] (¬6) نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومي العيد لمسيس حاجة الناس إلى ذلك. سابعها: فيه أيضاً الإِيماء والتنبيه على علل الأحكام: إما ¬

_ (¬1) في المرجع السابق غير موجودة. (¬2) في المرجع السابق زيادة (وجهة). (¬3) في المرجع السابق (هو). (¬4) في المرجع السابق زيادة (ولا للإِنسان لا تَطِرْ). (¬5) العبارة في المرجع السابق (إنما تعتمد التصور، والإِمكان العقلي أو العادي، والنهي يمنع التصور الشرعي، فلا يتعارضان). (¬6) في ن ب ساقطة.

بالتسمية اللازمة للوصف الشرعي وإما بما يلازمه من فعل أو حال. ثامنها: فيه دلالة أيضاً على جواز الأكل من النسك. وقد فرق بعض الفقهاء بين الهدي والنسك. وأجاز الأكل إلاَّ من فدية [الأذى] (¬1) ونذر المساكين وهدي التطوع إذا عطب قبل محله، وجعل الهدي جزاء الصيد وما وجب لنقص في حج أو عمرة. تاسعها: فيه دلالة أيضاً على أن من سمع علماً يجوز له روايته. وإن لم يأذن له المسموع منه في ذلك. خاتمة: لم يذكر في هذا الحديث أيام التشريق، فاستدل به بعضهم، كما قال القاضي (¬2) على عدم تحريم صومها. وأصح القولين عند الشافعية: تحريم صومها للمتمتع وغيره. وبه قال أبو حنيفة وأحمد وفي قول قديم: أنه يجوز صومها لعادم الهدي، بدلاً عن الثلاثة الواجبة في الحج، وهو من مذهب مالك، وهو أقوى دليلاً. وقال الفاكهي: في أوائل الصيام يحرم اليومان بعد العيد على المشهور، والرابع مكروه. فرع: لو حلف ليصومن العيد حنث، ولو أمسك فيه، قاله أصحابنا، وعن القفال: إنه لا بد أن يأتي بمناف للصوم في الأوقات المنهى عنها. قال الإِمام: وما أظن الأصحاب يوافقون عليه. ¬

_ (¬1) في الأصل (الآدمي)، والتصحيح من ن ب د. (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 256).

الحديث السابع

الحديث السابع 203/ 7/ 37 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومين: الفطر، والنحر، وعن [اشتمال] (¬1) الصماء، وأن يحتبي الرجل في [ثوب واحد] (¬2)، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر" (¬3). أخرجه مسلم بتمامه. وأخرج البخاري الصوم فقط. الكلام عليه من وجوه: أحدها: قول المصنف: وأخرج البخاري الصوم فقط، غريب منه، فقد أخرجه البخاري بهذه السياقة كلها في هذا الباب من صحيحه وترجم عليه "باب صوم [يوم] (¬4) الفطر"، ثم قال عقبه: ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) في إحكام الأحكام (الثوب الواحد). (¬3) البخاري (367)، وانظر: أطراف الفتح (1/ 476)، ومسلم (827)، والترمذي (772)، وأبو داود (2417) في الصيام، باب: في صوم يوم العيدين، وابن ماجه (1721)، والحميدي (750)، والنسائي في الكبرى (2/ 150) مختصراً، والطيالسي (2238، 2242)، وأحمد (3/ 7، 34، 51، 45، 96) , وغيرها البيهقي (4/ 297). (¬4) في ن ب ساقطة.

"باب [الصوم] (¬1) يوم النحر"، وذكر أيضاً لكن بدون "الصماء"، و "الاحتباء"، وأخرجه أيضاً في "باب ستر العورة" من كتاب الصلاة مختصراً بدون "الصوم" و"الصلاة" ولفظه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتمال الصماء، وأن يحتبى الرجل في ثوب، ليس على فرجه منه شيء" (¬2). فاستفد ذلك، ومن العجائب أن الشيخ تقي الدين فمن بعده من الشراح لم ينبهوا على ذلك (¬3). [الثاني] (¬4): في الحديث دلالة على تحريم صوم يوم الفطر والأضحى، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الحديث قبله. الثالث: قوله: "وعن الصماء" هو ممدود. والمراد به اشتمال الصماء على حذف مضاف، كما ثبت في رواية أخرى وهو الالتفاف في ثوب واحد من رأسه إلى قدميه، يخلل به جسده، وتسمى الشملة الصماء أيضاً. سميت بذلك: لشدها وضمها جميع الجسد كالصخرة الصماء، ليس فيها خرق ولا صدع، ومنه صمام القارورة. ¬

_ (¬1) في الفتح (4/ 240)، باب: صوم يوم النحر. (¬2) البخاري (367). (¬3) انظر: تصحيح العمدة للزركشي، تحقيق د. الزهراني في مجلة الجامعة الإِسلامية، عدد (75، 76، ص 105)، وانظر أيضاً: حاشية العمدة للصنعاني (3/ 428). (¬4) في ن ب د (ثانيها) ... إلخ الأوجه.

وقال صاحب المطالع (¬1): هذا قول أهل اللغة، فأما مالك وجماعة من الفقهاء فهو عندهم الإِلتحاف بثوب واحد، ويرفع جانبه على كتفه، وهو بغير إزار فيفضي ذلك إلى كشف عورته، ونقله الفارسي في مجمعه عن تفسير الفقهاء، ثم قال: وهذا التفسير لا يشعر به لفظ الصماء، واللفظ مطابق للأول. وجاء في رواية أبي داود (¬2) من حديث ابن عمر: "ولا يشتمل اشتمال اليهود"، وفسره الخطابي: بأن يجلل بدنه بالثوب، ويسيله من غير أن [يرفع] (¬3) طرفه [(¬4)] قال: فإن رفع طرفه على عاتقه ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم الحمزي الوهراني المعروف بقرقول ولد بالمرية إحدى مدائن الأندلس وكان رحالة في العلم. وكتابه اسمه مطالع الأنوار مختصر مشارق الأنوار. واستدرك عليه وأصلح فيه أوهاماً يقول عنه الذهبي: أنه غزير الفوائد توفي في شعبان 569 هجري. انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 520). (¬2) أبو داود (607) في الصلاة، ومعه معالم السنن للخطابي (1/ 323). (¬3) في المرجع السابق (يشيل). (¬4) العبارة في المرجع السابق. فأما اشتمال الصماء الذي جاء في الحديث، فهو أن يجلل بدنه الثوب، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، "هكذا يفسر في الحديث". اهـ. ولعل المؤلف نقله من نسخة أخرى أو أتى بالمعني. وانظر أيضاً: شرح السنَّة للبغوي (2/ 424). وقوله: "هكذا يفسر في الحديث". وفي البغوي عنه: "وقد جاء هذا التفسير في الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 235) في اللباس، باب: اشتمال الصماء، من حديث أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين، واللبستان اشتمال الصماء، والصماء: أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، =

الأيسر كان اشتمال الصماء. قال البغوي (¬1): وإلى هذا ذهب الفقهاء قال: وقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن الصماء: [الصماء] (¬2)، اشتمال اليهود، فجعلهما شيئاً واحداً. قال صاحب المطالع: ونهى عن اشتمال الصماء لأنه إذا أتاه ما يتوقاه، لم يمكنه إخراج يده بسرعة، ولأنه إذا أخرج يده انكشفت عورته. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): النهي يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يخاف منه أن يدفع إلى حالة سادة لمتنفسه، فيهلك غمَّا تحته، إذا لم تكن فيه فرجة. ¬

_ = فيبدوا أحد شقيه ليس عليه ثوب، واللبسة الأخرى: احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء. قال الحافظ في الفتح (1/ 477): ظاهر سياق البخاري أن التفسير المذكور فيها مرفوع، وهو موافق لما قاله الفقهاء، وعلى تقدير أن يكون موقوفاً، فهو حجة على الصحيح، لأنه تفسير من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر. اهـ. قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهاً لئلا يعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم لأجل انكشاف العورة. (¬1) شرح السنة للبغوي (2/ 424). (¬2) الزيادة من المرجع السابق. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (3/ 428).

والآخر: أنه [(¬1)] إن أصابه شيء أو نابه مؤذ [(¬2)] لا يمكنه أن يتقيه بيديه، لإِدخالهما إياه تحت الثوب الذي اشتمل به. وهذا هو المعنى الأول الذي أبداه صاحب المطالع. رابعها: قوله: "وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد"، الاحتباء بالحاء المهملة هو أن يقعد الإِنسان على إليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما بثوب أو نحوه أو بيده، ونهى عنه لأنه إذا لم يكن عليه إلاَّ ثوب واحد ربما تحرك أو زال الثوب فتبدوا عورته، ومنه: "الاحتباء حيطان العرب" (¬3)، أي ليس في البوادي حيطان فإذا أرادوا أن يستندوا احتبوا، لأن الاحتباء يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار (¬4). ويقال: [احتباء] (¬5)، يحتبي احتباءً. والأسم: الحِبْوةُ [والحُبْوَة] (¬6)، والحِبْيَةُ، بالواو والياء وتضم الحاء وتكسر والجمع [حُبا وحِبا] (¬7). ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (3/ 428) زيادة (إذا تجلل به فلا يتمكن من الاحتراس والاحتراز). (¬2) في المرجع السابق زيادة (و). (¬3) كنز العمال (41146)، وتذكرة الموضوعات للذهبي (155)، والنهاية (1/ 335). (¬4) انظر: النهاية (1/ 335)، ولسان العرب (3/ 35). (¬5) في لسان العرب (احْتبَى). (¬6) زيادة من لسان العرب. (¬7) في لسان العرب (وحِبىّ، وحُبى).

خامسها: في الحديث كراهة اشتمال الصماء، وقد أسلفناه. سادسها: فيه أيضاً كراهة الاحتباء في ثوب واحد، كما قررناه أيضاً، وأما الاحتباء بنصب الساقين وانضمامهما بالإِليتين ووضع يده اليمنى على اليسرى عوضاً عن الثوب المشدود، فهو جائز بل مستحب، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يجلس محتبياً (¬1)، وأما الجلوس كذلك، ووضح اليدين على الأرض فهو منهي عنه لما فيه من التشبه بالكلاب (¬2)، وأما نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن ¬

_ (¬1) ومنه حديث ابن عمر عند البخاري (6272)، قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة محتبياً بيده هكذا"، ومن حديث أبي سعيد عند أبي داود (4846)، والترمذي في الشمائل (103)، والبيهقي في السنن: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المسجد احتبى يديه"، وحسنه الألباني في الشمائل، زاد البزار (2021) "ونصب ركبتيه"، وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 60). وأيضاً من رواية أبي هريرة عند البزار (2020): ومن حديث قبله عند أبي داود (4847)، والترمذي (2815)، وفي الشمائل (101)، وفي الأدب المفرد (1178)، وأبو الشيخ ص (247)، وانظر: فتح الباري (11/ 65)، وقال فيه أيضاً: ويستثنى من الاحتباء باليدين ما إذا كان في المسجد ينتظر الصلاة فاحتبى بيديه، فينبغي أن يمسك إحداهما بالأخرى، كما وقعت الإِشارة إليه في هذا الحديث من وضع إحداهما على رسغ الأخرى، ولا يشبك بين أصابعه في هذه الحالة. فقد ورد النبي عن ذلك عند أحمد من حديث أبي سعيد بسند لا بأس به، والله أعلم. اهـ. (¬2) لحديث أخرجه أبو داود بإسناد صحيح (954، 955)، وفيه الوصف =

الاحتباء يوم الجمعة، والإِمام يخطب: فلأن الاحتباء يجلب النوم فلا يسمع الخطبة (¬1)، ويعرض طهارته للانتقاض. سابعها: قوله: "وعن الصلاة بعد الصبح والعصر"، المراد صلاة لا سبب لها كما تقدم بسط الكلام عليه في باب المواقيت. ... ¬

_ = بأنها: صلاة المغضوب عليهم، وأيضاً بأنها جلسة الذين يعذبون. أما وضع اليد اليسرى خلف الظهر والاتكاء على ألية اليد فهي قعدة المغضوب عليهم. (¬1) لحديث معاذ بن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإِمام يخطب. انظر: أبو داود في الصلاة (1110)، وأحمد (3/ 439)، والبيهقي (3/ 235)، وأبو يعلى (1492، 1496)، والترمذي (514)، وقال: حديث حسن: وقد كره قوم من أهل العلم الحبوة يوم الجمعة، والإِمام يخطب، ورخص في ذلك بعضهم منهم عبد الله بن عمر. وبه يقول أحمد وإسحاق: لا يريان بالحُبوة والإِمام يخطب بأساً.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 204/ 8/ 37 - عن أبي سعيد الخدري أيضاً -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام يوماً في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "سبيل الله" الأكثر في [الشرع] (¬2) [والعرف] (¬3) استعماله في الجهاد، فإذا حمل عليه كانت الفضيلة فيه لاجتماع العبادتين -أعني [فضيلة] (¬4) الصوم والجهاد- ويحتمل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه وبه جزم القرطبي. ¬

_ (¬1) البخاري (2840)، ومسلم (1153)، والترمذي (1623)، والنسائي (4/ 173)، وابن ماجه (1717)، وأحمد (3/ 26، 245، 59، 83)، والطيالسي (2186)، والبغوي (1811)، والدارمي (2/ 203)، والبيهقي (4/ 296). (¬2) في إحكام الأحكام (3/ 449) (العرف). (¬3) الزيادة من ن ب د. (¬4) في المرجع السابق (عبادة).

قال الشيخ تقي الدين: والأول أقرب إلى العرف، وإن كان ورد في بعض الأحاديث جعل الحج وسفره من سبيل الله وفي الكتاب العزيز: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، فهو استعمال وضعي. ثانيها: قوله: "يوماً" [إن] (¬2) أريد به واحد الأيام كان دليلاً على استحباب صومه سواء أردنا سبيل الله الجهاد أو الطاعة، حيث لا يحصل به ضعف المجاهد عن جهاده ولا طاعته، وإن أريد به جنس الصوم، وإنه لا يتقيد بعدد فينبغي أن يكون بحيث لا يضعف به عن مقصود عمله جهاد أو طاعة. ثالثها: يؤخذ منه الحث على الصوم المطلق في كل موطن حتى في الجهاد وغيره، على ما بيناه بشرط عدم التضرر به، وتفويت حق، وعدم اختلال أمر قتاله وغيره من مهمات غزوه. رابعها: فيه أيضاً الحث على اجتماع الفضل في الطاعات، وأنه إذا أمكن الجمع فيها كان أفضل تكثيراً للأجور. خامسها: معنى المباعدة من النار المعافاة منها، فلا يحس بها ولا يجد ألماً -عافانا الله منها-. والمراد بالوجه: جملة الشخص. وعبر به عنها: لأنه أشرف ما فيه، فيؤخذ منه التعبير عن الكل بالجزء إذا كان له وجه فضيلة وشرف. سادسها: معنى سبعين خريفاً سبعون عاماً أي مسيرة سبعين ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 100. (¬2) زيادة من ن ب د.

عاماً، قاله النووي وغيره، وهو مبالغة في البعد عنها, والمعافاة منها. قال القرطبي: وكثيراً ما يجيء السبعون عبارة عن التكثير. كما قال -تعالي-: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (¬1). قلت: وفي النسائي (¬2) من حديث عقبة [بن عامر] (¬3): "مسيرة مائة عام. قال الشيخ تقي الدين: وإنما عبر "بالخريف" عن السنَّة: من جهة أن السنَّة لا يكون فيها إلاَّ خريف واحد، فإذا مر الخريف [مرت] (¬4) السنة كلها، وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام، كان سائغاً لهذا المعنى إذ ليس في السنة إلاَّ ربيع [واحد] (¬5) [ومصيف] (¬6)، واحد. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 80. (¬2) النسائي (4/ 174). قال المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 86): ورواه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد لا بأس به من حديث عمرو بن عبسة. وورد أيضاً من حديث أبي أمامة الباهلي عند الترمذي في فضائل الجهاد (1624). ومن حديث معاذ بن أنس عند أبي يعلى (1486)، ذكره في مجمع الزوائد (3/ 194)، وقال: "رواه أبو يعلى، وفيه زبان بن فايد، وفيه كلام كثير، وقد وثق". ومن حديث سلمة بن قيصر عند أبي يعلى (921). (¬3) في ن ب: ساقطة. (¬4) في إحكام الأحكام (مضت). (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) في إحكام الأحكام (وصيف).

قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك، لأنه الفصل الذي يحصل به نهاية ما بدأ من سائر الفصول، لأن الأزهار تبدو في الربيع والثمار [تتكمل] (¬1) صورها في [الصيف] (¬2)، وفيه يبدوا نضجها، ووقت الانتفاع بها أكلاً وتحصيلاً وادخاراً في الخريف، وهو المقصود منها، فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره، أي وإن كان الأصل التعبير بالشيء لا بملازمة. وأبدى الفاكهي سراً آخر، وهو: أن السامع إذا سمع الخريف تصور أن في كل سنة فصولاً أربعة، ولا كذلك إذا عبر بالسنة، إذ ربما ذهل عن تصور ذلك، والحديث إنما أتى به في سياق الترغيب فكان ذكر الخريف أنسب لذلك، قال: ويجوز أيضاً أن يكون -عليه الصلاة والسلام- عبر بذلك لما كان الخريف نصفه الأول فيه الحر، إذ هو معاقب لفصل الصيف، ونصفه الآخر فيه البرد إذ كان يلي فصل الشتاء فيتذكر العبد بذلك حر النار وزمهريرها. فائدة: الخريف [فعيل] (¬3) بمعنى مفتعل أي مخترف، وهو الزمان الذي تخترف فيه الثمار. ... ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (تتشكل). (¬2) في المرجع السابق (الصيف). (¬3) في ن ب (فعل).

38 - باب ليلة القدر

38 - باب ليلة القدر ذكر فيه -رحمه الله- ثلاثة أحاديث: الحديث الأول 205/ 1/ 38 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان [منكم] متحريها فليتحرها في السبع الأواخر" (¬1). الكلام عليه من وجوه عشر: الأول: اختلف العلماء لِمَ سميت ليلة القدر؟ على قولين: أحدهما: لعظم قدرها وشرفها لنزول القرآن جملة فيها إلى ¬

_ (¬1) البخاري (1158، 2015، 6991)، ومسلم (1165)، ومالك في الموطأ (1/ 321)، وابن خزيمة (2182، 2222)، والبيهقي (4/ 310، 311)، وأحمد (2/ 8، 17، 36، 37)، والبغوي (1823)، والدارمي (2/ 28)، وعبد الرزاق (7688)، والنسائي في الكبرى (2/ 271، 272).

سماء الدنيا، وهي ليلة مباركة، كما نطق به القرآن العظيم أيضاً. الثاني: لأنها ليلة يكتب الله -تعالى- فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال لمن تكون في تلك السنة. قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} (¬1). وقيل: المراد بهذه الآية ليلة النصف من شعبان (¬2)، والصحيح الأول. وقال -تعالي-: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} (¬3) ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم. وكل ذلك مما سبق علم الله -تعالى- به. وتقديره له. وفيه قول ثالث: أنها سميت بذلك، لأنه [ينزل] (¬4) فيها من فضل الله وخزائن مننه ما لا يقدر قدره. وعبارة بعضهم: سميت بذلك: لأن للطاعات فيها قدراً جزيلاً، أو لأن من لم يكن له قدر وخطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها، أو لأن الله أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر على أمة ذات قدر. أو لأنه ينزل فيها ملائكة ذو قدر وخطر ولأن الله ¬

_ (¬1) سورة الدخان: آية 4. (¬2) قال ابن كثير -رحمنا الله وإياه- في تفسير سورة الدخان: من قال إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان. اهـ. (¬3) سورة القدر: آية 4. (¬4) في ن د (يتنزل).

-تعالى- قدّر فيها الرحمة على المؤمنين، أو لأن الأرض تضيق بالملائكة، لقوله: "ومن قدر عليه رزقه" أي ضيق. الثاني: نطق القرآن العظيم بأن هذه [الليلة] (¬1) خير من الف شهر. فاختلف في سر تخصيصها بهذه المدة. فقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رجلاً من بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون من ذلك، وتقاصرت إليه أعمالهم. فأعطوا الليلة هي خير من مدة ذلك المغازي (¬2). وقيل: إن الرجل كان فيما مضى ما كان يقال له: عابد. حتى يعبد الله ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وروى مالك في موطئه أنه -عليه الصلاة والسلام-: أُري [أعمار] (¬3) الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألاَّ يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم من طول العمر. فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من الف شهر (¬4)، وهذا أحد الأحاديث ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) تفسير مجاهد (773)، وذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 562) في تفسير سورة القدر. (¬3) في ن ب د (أعمال). (¬4) قال ابن كثير في تفسيره (4/ 564): بعد سياقه له: وقد أسند من وجه آخر، وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر، وقد نقله صاحب العدة أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء فالله أعلم، وحكى الخطابي عليه الإِجماع. ونقله الراضي جازماً به عن المذهب، والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضيين كما هي في أمتنا. اهـ. =

الأربعة الواقعة في الموطأ. والمطعون فيها، كما قدمنا ذلك عن ابن بزيزة في باب سجود السهو. وروى الترمذي (¬1) في جامعه من حديث الحسن بن علي أنه ¬

_ = قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (24/ 373): بعد ذكره هذا: لا أعلم هذا الحديث يروي مسنداً من وجه من الوجوه، ولا أعرفه في غير الموطأ مرسلاً ولا مسنداً، وهذا أحد الأحاديث التي انفرد بها مالك، ولكنها رغائب وفضائل وليست أحكاماً، ولا بني عليها في كتابه ولا في موطئه حكماً. اهـ. وقال ابن الصلاح في رسالته التي وصل فيها البلاغات التي في الموطأ بعد أن أخرجه بسنده متصلاً، قال: هو غريب المتن جدّاً، ضعيف الإِسناد جدّاً، ذكره عن الحافظ ابن منده بإسناده، وقال: إنه ليس بمحفوظ. اهـ. (¬1) الترمذي (3350)، والحاكم (3/ 170)، والطبري في تفسيره. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة وثقه يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، قال: وشيخه يوسف بن سعد ويقال يوسف بن مازن رجل مجهول، ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلاَّ من هذا الوجه، وأخرجه أيضاً الحاكم من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن به. قال ابن كثير في تفسيره (4/ 562). وقول الترمذي: إن يوسف هذا مجهول فيه نظر، فإنه قد روى عنه جماعة منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد، وقال فيه يحيى بن معين: هو مشهور، وفي رواية عن يحيى بن معين قال: هو ثقة. رواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن كذا قال: وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث، والله أعلم. ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدّاً، قال شيخنا الإِمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هو حديث منكر. قلت: وقول القاسم بن الفضل الحداني أنه حسب مدة بني أمية فوجدها الف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص ليس بصحيح، فإن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- استقل بالملك حين سلم إليه الحسن بن علي الإِمرة سنة أربعين واجتمعت البيعة لمعاوية وسمى ذلك عام الجماعة، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها لم تخرج عنهم إلاَّ مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريباً من تسع سنين، ولكن لم تزل يدهم عن الإِمرة بالكلية، بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة، وذلك أزيد من ألف شهر فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وكان القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير على هذا فيقارب ما قاله الصحة في الحساب، والله أعلم. ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم دولة بني أمية، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم أيامهم، فإن ليلة القدر شريفة جدَّا، والسورة الكريمة إنما جاءت مدح ليلة القدر، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث، وهل هذا إلاَّ كما قال القائل: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا وقال آخر: إذا أنت فضلت امرءاً ذا براعة ... على ناقص كان المديح من النقص ثم الذي يفهم من الآية أن الألف شهر المذكورة في الآية هي آيام بني أمية، والسورة مكية، فكيف يحال على الف شهر هي دولة بني أمية، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها، والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من =

-عليه الصلاة والسلام- أري بني أمية على منبره فساءه فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} يا محمد يعني نهراً في الجنة ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} إلى قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل أحد رواته: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص [يوماً] (¬1). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ ن هذا الوجه، ويوسف بن سعد الذي في إسناده: مجهول. وقال ابن العربي (¬2) في القبس: حديث لا يصح. قال وما رواه مالك أصح وأولى. فائدة: عظم الله -تعالى- القرآن فيها بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} من ثلاثة أوجه نبه عليها الزمخشري (¬3). أحدها: إنه أحال تنزيله إليه تعالى خصوصاً. ثانيها: أنه أتى به مضمراً لا مظهراً، تنبيهاً على أنه أنبه وقدره أعظم من أن يقتصر إلى إظهاره. ¬

_ = الهجرة؟ فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته، والله أعلم. اهـ. (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) القبس (2/ 538) مع تضعيفه للحديث، وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية (16/ 341). (¬3) الزمخشري (4/ 225)، مع اختلاف يسير في الألفاظ، فليراجع منه.

ثالثها: أنه [رفع] (¬1) من مقداره الوقت الذي أُنزل فيه بسبب كونه ظرفاً لنزوله. الوجه الثالث: أجمع من يعتد به من العلماء على دوام ليلة القدر ووجودها إلى آخر الدهر وشذ قوم فقالوا: كانت خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رفعت. وعزاه الفاكهي إلى أبي حنيفة، وهو غريب، وإنما هو معزى إلى الروافض واستدلوا بقوله -عليه الصلاة والسلام- حين تلاحى الرجلان "فرفعت" وهو غلط، فإن آخر الحديث يرد عليهم فإنه قال -عليه الصلاة والسلام- بعد قوله: "فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم التمسوها في السبع والتسع والخمس" (¬2) كذا هو في أوائل صحيح ¬

_ (¬1) في ن ب (أرفع)، وفي المرجع السابق (الرفع من المقداد). (¬2) قال ابن كثير -رحمنا الله وإياه- في تفسيره (4/ 564): بعد سياقه لهذا الحديث: وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعد من قوله -عليه السلام-: "فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم" لأن المراد رفع علم وقتها عيناً. اهـ، المقصود منه. وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (2/ 200): في حديث مالك "فرفعت" وليس في هذا "فرفعت"، وهي لفظة محفوظة عند الحفاظ في حديث حميد هذا، والله أعلم بمعنى ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله ذلك، والأظهر من معانيه أنه رفع علم تلك الليلة عنه فأنسيها بعد أن كان علمها ولم ترفع رفعاً لا تعود بعده، لأن في حديث أبي ذر أنها في كل رمضان، وأنها إلى يوم القيامة، ويدل على ذلك من هذا الحديث قوله: "فالتمسوها" إلا أنه يحتمل أن يكون معنى قوله "فالتمسوها" في سائر =

البخاري (¬1) في باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ورواه هنا أيضاً إلاَّ أن لفظة "فالتمسوها" في التاسعة والسابعة والخامسة وهو صريح في أن المراد برفعها بيان علم عينها. ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها، وقريب من هذا قول بعضهم أنها مخصوصة برمضان بعينه. كان ذلك الزمن، حكاه الفاكهي ثم قال: هو باطل لا أصل له. ثم اختلف العلماء بعد ذلك في انتقالها على قولين: أحدهما: أنها تعم فتكون في سنة في ليلة، وفي أخرى، في ليلة أخرى، وهكذا أبداً. قالوا: فإنما ينتقل في شهر رمضان وجمهورهم قالوا: إنها تنتقل من العشر الأخير خاصة. وبهذا يجمع بين الأحاديث. ويقال في كل حديث أنه جاء في أحد أوقاتها ولا تعارض فيها. وفيه أيضاً الحث على إحياء جميع تلك الليالي، وهذا نحو قول مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وغيرهم. وقال به أيضاً المزني وابن خزيمة: وهو قوي. والثاني: أنها معينة لا تنتقل أبداً، بل هي ليلة معينة في جميع السنين، لا تفارقها، وهو مشهور مذهب الشافعي -رحمه الله-. ¬

_ = الأعوام أو في العام المقبل، فإنها رفعت في هذا العام، ويحتمل أن يكون رفعت في تلك الليلة من ذلك الشهر ثم تعود فيه في غيرها، وفي ذلك دليل على أنها ليس لها ليلة معينة لا تعدوها، والله أعلم. اهـ. (¬1) البخاري مع الفتح (1/ 109).

ثم اختلف هؤلاء على أقوال كثيرة: أحدها: أنها في السنة كلها. وممن قال به ابن مسعود (¬1) وأبو حنيفة وصاحباه. وقريب منه: أنها ليلة النصف من شعبان، حكاه القرطبي. ثانيها: أنها من شهر رمضان كله. وهو قول ابن عمر وجماعة من الصحابة وروي مرفوعاً أيضاً. قال -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬2) فجعله [محلاًّ عامًّا في لياليه وأيامه لنزول القرآن، ثم قال -تعالي-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} (¬3) فجعله خاصًّا بليلة القدر منه. ثالثها: أنها في العشر الوسط والأواخر. ¬

_ (¬1) مسلم (762، 1169)، وأبو داود (1332) كتاب الصلاة، باب: في ليلة القدر، والترمذي (793، 3351)، وفي المسند أيضاً. وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (2/ 208): وذكر الجوزجاني عن أبي حنيفة وصاحباه أنهم قالوا: ليلة القدر في السنة كلها، كأنهم ذهبوا إلى قول ابن مسعود: من يقم الحول يصبها. اهـ. (¬2) أبو داود (1341). قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (2/ 208): وروى سفيان وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه سئل عن ليلة القدر فقال: هي في كل رمضان. ورواه موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً وقد قال بعض رواة أبي إسحاق في حديث ابن عمر هذا هي في رمضان كله". اهـ. سورة البقرة: آية 185، وسورة القدر: آية1. (¬3) زيادة من ن ب د (2/ 534) (والقبس).

رابعها: أنها في العشر الأواخر. وادعى الماوردي الاتفاق عليه (¬1). خامسها: أنها خاصة بأوتاره. سادسها: أنها في أشفاعه (¬2) وادعت ذلك الأنصار في تفسير قوله -عليه الصلاة والسلام- "من تاسعة تبقى" قالوا هي ليلة عشرين قالوا: "ونحن أعلم بالعدد منكم". سابعها: أنها في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين. وهو قول ابن عباس (¬3). ثامنها: أنها تطلب ليلة سبعة عشرة (¬4) أو إحدى وعشرين ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير للماوردي (3/ 483). (¬2) مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (1167)، وقد يصح تفسيره بالأوتار وهم الكثيرون. (¬3) انظر: عون المعبود (4/ 264)، والترمذي (793)، والتمهيد (2/ 206, 208). (¬4) لرواية أبي داود عون (4/ 263): اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان وليلة إحدى عشرين وليلة ثلاث وعشرين، ثم سكت. قال المنذري: في إسناده حكيم بن سيف وفيه فقال: وقاله الحافظ في الفتح (4/ 265)، فيه فقال بإسناد. اهـ. ولحديت أبي سعيد الخدري عند البخاري (2018)، ومسلم (1167)، وهي ليلة إحدى وعشرين وفي ليلة ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس الجهني عند مسلم (1168). والذين وجهوا ليلة القدر بأنها ليلة سبع عشرة من رمضان لأن في صبيحتها وقعة بدر وهو اليوم الذي قال الله فيه: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}، ورواه ابن مسعود =

أو ثلاث وعشرين، وحُكِي عن علي وابن مسعود وروي مرفوعاً. تاسعها: أنها ليلة ثلاث وعشرين وهو قول كثير من الصحابة وغيرهم. عاشرها: أنها ليلة أربع وعشرين، وهو محكي عن بلال وابن عباس والحسن وقتادة (¬1). الحادي عشر: أنها ليلة سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة منهم أُبي (¬2) وقال: أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية: أن الشمس تطلع من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها كأن الأنوار المفاضة في الخلق ¬

_ = عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أبي داود، والبيهقي في السنن (4/ 310)، وقال النووي في المجموع (6/ 472): حسن لغيره لوجود حكيم بن سيف وباقي الإِسناد صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 265): أخرجه سعيد بن منصور في سننه من رواية أنس بإسناد ضعيف. اهـ. (¬1) البخاري عن ابن عباس (2022)، وانظر: تغليق التعليق (3/ 205)، ومن حديث بلال عند أحمد (6/ 12)، وانظر: فتح الباري (4/ 264)، وفي المسند المعتلى (1305). قال ابن حجر فيه: قلت: خالفه عمرو بن الحارث، فرواه عن يزيد بهذا الإِسناد موقوفاً على بلال، ولفظة: ليلة القدر في السبع من العشر الأواخر أخرجه البخاري في آخر المغازي (8/ 153)، وقال ابن كثير فيه: فهذا الموقوف أصح، والله أعلم (4/ 565)، وقد أوردهما جميعاً، وعن أبي سعيد عند الطيالسي (2167). (¬2) مسلم (762، 1169)، وأبو داود (1332) في كتاب الصلاة، باب: في ليلة القدر، والترمذي (793، 3351). انظر: الفتح الرباني (10/ 284)، والبيهقي في السنن (4/ 312)، والبغوي (6/ 387).

تلك الليلة تغلبها. وكان ابن عباس (¬1) يحلف أنها ليلة سبع وعشرين، وينزع في ذلك بإِشارة عليها بني الصوفية عقدهم في كثير من الأدلة، فنقول: إذا عددت حروف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} فقولك: "هي" هو الحرف السابع والعشرون (¬2)، ووافقه على هذا الاستنباط أُبي بن كعب ¬

_ (¬1) التمهيد (2/ 209، 211)، والطبراني، كما ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 565). (¬2) نقل هذا القول عنه ابن قدامة في المغني (4/ 450)، وقال ابن حجر في الفتح (4/ 265): ونقله ابن حزم عن بعض المالكية وبالغ في إنكاره، ونقله ابن عطية في تفسيره وقال: إنه من ملح التفاسير وليس من متين العلم. اهـ. أيضاً ذكره النووي في المجموع (6/ 460)، والهيثمي في خصوصيات الصيام (230): قال القرطبي في تفسيره (20/ 136): قال أبو بكر الوراق: إن الله -تعالى- قسّم ليالي هذا الشهر، شهر رمضان، على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: "هي" وأيضاً فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات وهي تسعة أحرف فتجيء سبعاً وعشرين. اهـ. قلت: وهذا الاستنباط لا يكون نصّاً في هذه المسألة ولا ينبغي أن يستند إليه. اهـ. وقال الهيثمي في خصوصيات الصيام (230): فهذا الاستنباط لا يفيدهم شيئاً في محل النزاع، سيما مع النصوص الصريحة المرجحة لليلة ثلاث وعشرين وإحدى وعشرين، ثم قال -قال بعض الحفاظ: وهو كما قال أي لأن فيه نوع مناسبة لطيفة يمكن أن تكون مقصودة، وإلاَّ فهو مما يستملح ويستطرف، لا أنه مما يبرهن به على المطلوب، إذ لا يصلح للدلالة عليه. اهـ.

أيضاً. وزاد بأن لفظة ليلة القدر تكررت في السورة ثلاث مرات وهي تسعة أحرف. وتسعة في ثلاثة: سبعة وعشرون. وروي هذا أيضاً عن ابن عباس، وحكى هذا القول الروياني في الحلية عن أكثر العلماء. الثاني عشر: أنها ليلة سبع عشرة وهو محكي عن زيد بن أرقم وابن مسعود (¬1) أيضاً ورواه مرفوعاً. وقاله ابن الزبير (¬2) أيضاً وإلى ذلك إشارة من كتاب الله -تعالى- وهو قوله -تعالى-: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان. قاله ابن العربي (¬3). الثالث عشر: أنها ليلة تسع عشرة. وحُكِي [عن] (¬4) ابن مسعود وعليَّ أيضاً (¬5). الرابع عشر: أنها آخر ليلة من الشهر (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 110)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 310). قال النووي في المجموع (6/ 472) إسناده صحيح. اهـ. (¬2) عزاه ابن حجر في الفتح (4/ 265) ,للحارث بن أبي أسامة من حديث ابن الزبير. انظر التعليق (21). سورة الأنفال: آية 41. (¬3) القبس (535). (¬4) في ن ب ساقطة. (¬5) انظر التمهيد (2/ 206)، وابن كثير (4/ 564). وقال الحافظ في الفتح (4/ 265): ورواه أبو داود عن ابن مسعود بإسناد فيه مقال. وعبد الرزاق من حديث علي بإسناد منقطع. وسعيد بن منصور من حديث عائشة بإسناد منقطع. (¬6) قال ابن حجر في الفتح (4/ 266): إنها في أول ليلة أو آخر ليلة أو الوتر =

الخامس عشر: أنها ليلة النصف (¬1). السادس عشر: أنها معينة عند الله، غير معينة عندنا، حكاهما القرطبي. ورأيت من نقل عن ابن عباس أنه قال: لا تكون إلاَّ في ليلة جمعة في وتر. وسمعت من يعزي إلى بعض الصلحاء أنها تكون فيه أرجى. وأرجاها عند الشافعي ليلة الحادي والعشرين لحديث أبي سعيد الآتي. أو الثالث والعشرين لحديث عبد الله بن أنيس في ¬

_ = من الليل. أخرجه أبو داود في المراسيل (129)، عن مسلم بن إبراهيم، عن أبي خلدة عن أبي العالية: "أن أعرابيّاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلى فقال: متي ليلة القدر؟ قال اطلبوها في أول ليلة وآخر ليلة والوتر من الليل"، وهذا مرسل رجاله ثقات. وقال أيضاً (4/ 265) بعد ذكره "أو آخر ليلة": رواه ابن مردويه في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف. (¬1) قال ابن حجر في الفتح (4/ 263): أنها ليلة النصف من رمضان. حكاه شيخنا سراج الدين بن الملقن في شرح العمدة، والذي رأيت في المفهم للقرطبي حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان، وكذا نقله السروجي عن صاحب "الطراز". اهـ. قال ابن العربي في القبس (2/ 533): قيل ليلة النصف من شعبان. اهـ. وهذا القول عزاه القرطبي إلى عكرمة وقال: والأول أصح، أي قول من قال إنها ليلة القدر. اهـ، من تفسير القرطبي (16/ 126). وقال أيضاً (2/ 297): في سورة البقرة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله -عز وجل-: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)}، يعني ليلة القدر, ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}، وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. اهـ.

صحيح مسلم، وقال الشافعي في القديم: إحدى أو ثلاث وعشرين ثم سبع وعشرين. وقال القاضي: ما في ليلة من ليالي العشر إلاَّ وقد روي أنها هي، لكن ليالي الوتر أرجاها. تتمات: الأولى: المعروف أن هذه الليلة ترى حقيقة. وقول المهلب بن أبي صفرة من المالكية أنه لا يمكن [رؤيتها] (¬1) حقيقة غلط. الثانية: روى البيهقي (¬2) في كتابه فضائل الأوقات عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة قال: "ذقت ماء البحر ليلة سبع وعشرين من رمضان، فإذا هو عذب". وذكر ابن عبد البر (¬3) أن زهرة بن معبد قال: أصابني احتلام في أرض العدو وأنا في البحر ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، فذهبت، فسقطت في الماء، فإذا هو عذب. فأعلمت أصحابي أني في ماء عذب. وحكى أهل الزهد أيضاً أن جماعة منهم سافروا في البحر [في رمضان فلما كانت ليلة ثلاث وعشرين سقط أحدهم من السفينة في البحر] (¬4) فجرجر الماء في حلقه. فإذا به حلو. وكأن ما ينزل من السماء في تلك الليلة من البركة والرحمة يقلب الإِجاج الملح عذباً، فما ظنك بها إذا وجدت ذنباً. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) فضائل الأوقات (248). (¬3) التمهيد لابن عبد البر (21/ 215). (¬4) في الأصل ساقطة، والزيادة من ن ب د.

الثالثة: قال البيهقي في الكتاب (¬1) المذكور: روي في حديثين ضعيفين صفة الهواء ليلة القدر في أحدهما أنها ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح شمسها ضعيفة حمراء. وفي الحديث الآخر معناه. وقال ابن عبد البر (¬2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [إن] (¬3) أمارة ليلة القدر أنها صافية [بلجة] (¬4) كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة [ساجية] (¬5)، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل كوكب أن يرمى به فيها ¬

_ (¬1) فضائل الأوقات (240)، وما في معناه حديث واثلة عند الطبراني (22/ 59)، قال في المجمع (3/ 179): ويه بشر بن عون عن بكار بن تميم وكلاهما ضعيف. مسند الشاميين (3384)، والحديث المذكور هنا عن ابن عباس عند الطيالسي (2681)، وابن خزيمة (3/ 331)، وكشف الأستار (1/ 486) , وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 177)، وقال: رواه البزار وفيه سلمة بن وهرام وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام. ما ذكره الذهبي في الميزان (2/ 194)، والبيهقي في شعب الإِيمان (7/ 292)، وفضائل الأوقات (240)، ومحمد بن نصر في قيام الليل (186)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5351). (¬2) في مسند أحمد (5/ 324)، والتمهيد (24/ 373)، ومحمد بن نصر في قيام الليل (186)، والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 386)، والشعب (7/ 293) , وفيه خالد بن معدان لم يصح سماعه من عبادة. وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم (49). (¬3) زيادة من المسند. (¬4) في التمهيد (بلجاء). (¬5) زيادة من المسند.

حتى يصبح، وأن أمارة الشمس أن تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يطلع معها يومئذ". قال أبو عمر: وهو حديث حسن غريب. الرابعة: الحكمة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في طلبها رجاء إصابتها، فهي كالساعة في يوم الجمعة، وكالساعة في الليل، وكالصلاة الوسطى، وكالاسم الأعظم على القول بذلك. وكما أخفى تعالى رضاه في طاعته وغضبه في معصيته ووليه في خلقه كما في الحديث. الخامسة: هذه الليلة أفضل ليالي السنة (¬1)، وهي مختصة بهذه ¬

_ (¬1) قال الهيثمي -رحمنا الله وإياه- في خصوصيات الصيام (235): قال في "الخادم": وحكى بعضهم الإِجماع على أنها أفضل ليالي السنَّة، ولكن في شامل ابن الصباغ عن أحمد أن ليلة الجمعة أفضل منها، الخبر: "خير يوم طلعت فيه الشمس ليلة الجمعة" لكن قال بعض الحفاظ من الحنابلة: لم يصح في ذلك عن أحمد شيء، وإنما قاله طوائف من أصحابه، واحتج الجمهور بقوله تعالى: "خير من ألف شهر" أي فيها منه في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وإلاَّ لزم، تفضيل الشيء على نفسه بمراتب كما مر، وبه يندفع قول القاضي أبي يعلى من الحنابلة، إنهم يقدرون خير من ألف شهر ليس فيها ليلة الجمعة، إذ لا دليل على هذا التقدير، على أنه يلزم من التعبير بالشهر اشتماله على جمع، فتفضيلها على الجمع صريح الآية حينئذٍ، ولا يلزم من الشهر ليلة القدر. اهـ. وسئل شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (25/ 286):عن ليلة القدر، وليلة الإِسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن ليلة الإِسراء أفضل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من =

الأمة. ولم تكن لمن [قبلنا] (¬1). قال صاحب "العدة": من أصحابنا وهو الاصح فأشعر بحكاية خلاف في الاختصاص (¬2). ¬

_ = حظهم من ليلة المعراج. وسئل أيضاً: عن عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر من ذي الحجة. وسئل: عن يوم الجمعة، ويوم النحر، أيهما أفضل؟ فأجاب: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام. اهـ. باختصار الإِجابة، وانظر: بدائع الفوائد (3/ 162)، وزاد المعاد (1/ 54، 57). (¬1) في ن ب (قبلها). (¬2) قد ورد حديث من رواية أبي ذر يفيد عدم الخصوصية وفيه "قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: "بل إلى يوم القيامة". أخرجه أحمد (5/ 171)، والنسائي في الكبرى (2/ 278)، وابن خزيمة (2170)، وقال الألباني: إسناده ضعيف، والبزار (1035) (1036). قال في المجمع (3/ 177): رواه البزار، ومرثد هذا لم يرو عنه غير ابنه مالك، وبقية رجاله ثقات، والحاكم (1/ 437)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي (4/ 307)، وابن أبي شيبة (3/ 74). وقد ورد حديث موضوع من رواية أنس: "إن الله -عز وجل- وهب لأمتي ليلة القدر، ولم يعطها من كان قبلكم". فردوس الأخبار (1/ 209). قال ابن حجر في تسديد القوس: "أسنده عن أنس". انظر: فيض القدير (2/ 269)، والألباني قال في ضعيف الجامع (2/ 106): =

السادسة: قال الشافعي في القديم: ويجتهد في يومها كليلتها. قال الماوردي (¬1): ويسن لمن رآها كتمها. السابعة: قال مالك بلغني أن سعيد بن المسيب كان يقول: "من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها" قال ابن عبد البر: وهذا من سعيد لا يكون إلاَّ توقيفاً. ومراسيل سعيد أصح المراسيل (¬2). الثامنة: يستحب أن يكثر فيها من قول: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" للحديث الصحيح (¬3) فيه، قال ¬

_ = موضوع. اهـ. وانظر: خصوصيات الصيام للهيثمي (234). وجمعه بين الحديثين فإنه بالنسبة للأنبياء فهي لهم دون أممهم. وأما في هذه الأمة فهي من خصوصياتهم: باختصار. (¬1) الحاوي (3/ 356). (¬2) الموطأ (1/ 321) بلاغاً، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 515)، والبيهقي في الشعب (7/ 301)، وفضائل الأوقات له (262)، والدر المنثور (7/ 377) تفسير سورة القدر، وإسناده إلى مالك صحيح. وقد ورد من حديث أبي هريرة بلفظ: "من صلَّى العشاء الآخرة في جماعة فقد أدرك ليلة القدر". ابن خزيمة (3/ 333)، وضعفه الألباني فيه شعب الإِيمان (7/ 302)، وفضائل الأوقات (261)، وذكره السيوطي في الدر (7/ 377)، وكنز العمال (8/ 545)، الذهبي في الميزان (3/ 85). ومن رواية أنس عند الخطيب في تاريخه (5/ 332)، والشعب (7/ 303)، وفضائل الأوقات (260)، وذكره في الدر المنثور (7/ 377) تفسير سورة القدر. (¬3) الترمذي (3513) , وابن ماجه (3850)، وأحمد (6/ 171، 182، =

البيهقي (¬1) في كتابه السالف: طلب العفو من الله -تعالى- مستحب في جميع الأوقات، وخاصة في هذه الليلة، ثم روي بإسناده إلى ابن عمرو بن أبي جعفر (¬2) قال: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل (¬3) كثيراً يقول في مجلسه وفي غير المجلس: عفوك، ثم يقول: عفوك يا عفو، عفوك في المحيا، عفوك في [الممات، وفي القبور عفوك، وعند النشور عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك] (¬4)، وفي القيامة عفوك وفي مناقشة الحساب عفوك، [وعند ممر الصراط عفوك، وعند الميزان عفوك، وفي جميع الأحوال عفوك، يا عفو عفوك] (¬5)، قال أبو عمرو: فرأى أبا عثمان ¬

_ = 183، 208)، وعمل اليوم والليلة للنسائي (872)، والحاكم (1/ 530). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. الشعب (7/ 299، 300)، وفضائل الأوقات (257). (¬1) فضائل الأوقات (258)، وشعب (7/ 431). (¬2) هو محمد بن أحمد بن حمدان. قال السمعاني في الأنساب (4/ 288): من الثقات الأثبات. وقال ابن العماد في شذرات الذهب (3/ 87)، ومسند خراسان التعليق (346). (¬3) بن سعيد بن منصور النيسابوري. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 62): الشيخ الإِمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإِسلام. التعليق (298). (¬4) ما بين القوسين زيادة من المراجع السابقة: فضائل الأوقات، شعب الإِيمان. (¬5) ما بين القوسين زيادة من المراجع السابقة: فضائل الأوقات، شعب الإِيمان.

في المنام بعد وفاته بأيام، قيل له: بماذا انتفعت من أعمالك [في الدنيا؟] (¬1)، فقال: بقولي، عفوك عفوك. الوجه الرابع: معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تواطأت"، توافقت وهو مهموز. قال -تعالى-: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)} (¬2) وينبغي كتابة تواطأت بألف بين الطاء والتاء صورة للهمزة، وإن كان في كل النسخ بحذفها، نبه عليه النووي في "شرح مسلم" (¬3). الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"، "التحري" الاجتهاد، ومعناه فليجتهد في طلبها حينها وزمانها. السادس: في الحديث دلالة على عظم الرؤيا والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات، وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها، فلو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وأمره بأمر هل يلزمه ذلك؟ فقيل: إما أن يكون مخالفاً لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام في اليقظة أو لا، فإن كان مخالفاً عُمل بما ثبت في اليقظة، لأنا -وإن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين زيادة من المراجع السابقة: فضائل الاوقات، شعب الإِيمان. (¬2) سورة التوبة: آية 37. (¬3) النووي (8/ 58).

قلنا بأن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المنقول من صفته فرؤياه حق- فهذا من باب تعارض الدليلين، والعمل بأرجحهما. وما ثبت من اليقظة فهو أرجح، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة ففيه خلاف، نقل ذلك كله الشيخ تقي الدين عن الفقهاء (¬1). واعترض الفاكهي على ما ذكره من كون هذا من باب تَعَارُضِ الدليلين. فقال لقائل، أن يقول ليس هذا منه إذ النسخ لا يتصور بعده -عليه الصلاة والسلام- في منام ولا يقظة، وإنما يقال: تَعَارُضَ الدليلان إذا تساويا في الأصل، ولا مساواة ها هنا لما ذكرناه، قال: وحكاية الخلاف في الثاني لا أدري كيف يتصوره مع عدم المخالفة ألا ترى أنه لو قال له -عليه الصلاة والسلام- في منامه حافظ على الصلوات، وأداء الزكاة ونحو ذلك مما تقرر في الشريعة هل يتصور الخلاف فيه أو يعقل إلاَّ أن يراد أنه -عليه الصلاة والسلام- أمره بشيء لم يتقرر له حكم في الشرع، فهذا محتمل. قال الشيخ تقي الدين: والاستناد إلى الرؤيا هنا أمر ثبت استحبابه مطلقاً، في طلب ليلة القدر، وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب أمر شرعي مخصوص بالتأكيد، بالنسبة إلى هذه الليالي، مع كونه غير منافٍ للقاعدة الكلية الثابتة، من استحباب طلب ليلة القدر، وقالوا: يستحب في جميع الشهر. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 431).

السابع: في الحديث دلالة على أن "ليلة القدر" في شهر رمضان، وهو مذهب الجمهور. وقيل: إنها في جميع السنَّة، كما تقدم ويلزمه أنه لو قال في رمضان لزوجته: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق، حتى يأتي عليها سنة، لأن كونها مخصوصة برمضان مظنون، وصحة النكاح معلومة، فلا تزال إلاَّ بيقين، وهو مضي سنة. قال الشيخ تقي الدين: وفي هذا نظر، لأنه إذا دلت الأحاديث على اختصاصها بالعشر الأواخر، كان إزالة النكاح بناء على مستند شرعي، وهو الأحاديث الدالة على ذلك، والأحكام المقتضية لموضوع الطلاق يجوز أن تبنى على أخبار الآحاد، ويرفع بها النكاح، ولا يشترط في رفع النكاح أو أحكامه أن يكون مستنداً إلى خبر متواتر، أو أمر مقطوع به اتفاقاً. نعم، ينبغي أن ينظر إلى دلالة ألفاظ الأحاديث الدالة على اختصاصها بالعشر الأواخر، ومرتبتها في الظهور والاحتمال، فإن ضعفت دلالتها، فلما قيل وجه. قلت: وتحرير مذهبنا في هذه المسألة وهي ما إذا قال لها: أنت طالق ليلة القدر أنه إن قاله قبل مضي أول ليالي العشر الأخير يقع بمضيها، وإن قاله: بعد مضي أول ليلة من ليالي العشر الأخير فيقع بمضي سنة هذا هو الصواب، وإن وقع في الحاوي الصغير وغيره ما يخالفه. الثامن: فيه أيضاً لمن رجح في ليلة القدر غير ليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين وفي رواية

لمسلم (¬1)، قال: رأى رجل أن ليلة القدر سبع وعشرين. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أرى رؤياكم [قد تواطأت]، في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها". التاسع: فيه أيضاً دلالة على العمل بقول الأكثر، والكثير في الرؤيا وغيرها من الأحكام بشرط أن لا يخالف نصّاً ولا إجماعاً، ولا قياساً جليّاً. العاشر: أيضاً الأمر بطلب الأحرى والصواب لمن أراده. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1165)، وما بين القوسين ليس في هذه الرواية.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 206/ 2/ 38 - عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول (¬2): فيه دلالة على طلب ليلة القدر من ليالي الوتر من ¬

_ (¬1) البخاري (2017، 2019، 2020)، والترمذي (792)، وأحمد (6/ 73، 56، 204)، وابن أبي شيبة (2/ 511)، (3/ 75)، ومحمد بن نصر في قيام الليل (182)، والبغوي (1824)، والطحاوي شرح معاني الآثار (3/ 91)، والبيهقي في السنن (4/ 307)، والشعب (7/ 271)، وفضائل الأوقات (222). (¬2) قال الزركشي في تصحيح العمدة -بعد ذكر الحديث-: وهو صريح في أن لفظة "في الوتر" متفق عليها، وليس كذلك، بل هي من أفراد البخاري، ولم يخرجها مسلم من حديث عائشة، ووقع للشيخ تقي الدين هنا شيء ينبغي التنبيه عليه، فإنه قال: بعد أن ذكر حديث عائشة: هذا يدل على ما دل عليه الحديث قبله، مع زيادة الاختصاص بالوتر من العشر الأواخر. اهـ. إحكام الأحكام (3/ 334). =

العشر الأواخر مع دلالته على ترجيح انحصارها فيه. [الثاني] (¬1): فيه أيضاً الأمر بالاجتهاد في طلبها. الثالث: فيه أيضاً الإِرشاد من غير استرشاد. والرابع: فيه أيضاً عدم اختصاص ليلة القدر بالسبع الأواخر. ... ¬

_ = والحديث الذي قبله هو حديث ابن عمر "أن رجالاً من الصحابة رأو ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"، وهذا الحديث لا يدل على ما دل عليه حديث عائشة بالزيادة التي ذكرها الشارح، فالتماس الوتر من العشر الأواخر غير التماس الوتر من السبع الأواخر". اهـ، وانظر: فتح الباري (4/ 256، 257). (¬1) في ن ب (ثانيها) ... إلى آخر الأوجه.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 207/ 3/ 38 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً، حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين -وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه (¬1) - قال: "من اعتكف معي فليعتكف ¬

_ (¬1) قال الزركشي في تصحيح العمدة: بعد سياقه الحديث من أوله حتى قوله: "اعتكافه": وهذا اللفظ وهو قوله: "حتى إذا كانت ... " إلخ لم يخرجه مسلم، وإنما هو في بعض روايات البخاري، بل الذي دل عليه طرف الحديث فيهما أن ليلة إحدى وعشرين ليست هي الليلة التي كان يخرج -من- صبيحتها من اعتكافه، بل الخروج لخطبة كانت من صبيحة إحدى وعشرين، والخروج من الاعتكاف والعودة إلى المسكن -كان- في مساء يوم الموفي عشرين، لا في صبيحة الحادي والعشرين. اهـ. قال ابن حجر في الفتح (4/ 257، 258)، ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: "فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطين، من حج إحدى وعشرين، فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان ليلة إحدى وعشرين، وهو الموافق لبقية الطرق ... ويؤيده أن في رواية =

العشر الأواخر، فقد رأيت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر". فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: "كان يعتكف العشر الأوسط" قال الشيخ تقي الدين: الأقوى فيه أن يقال: "الوُسُط" والوسَط بضم السين أو فتحها، وأما "الأوسط" فكأنه تسمية لمجموع تلك الليالي والأيام، وإنما رجح الأول لأن "العشر" اسم الليالي فيكون وضعها الصحيح جمعاً لائقاً بها. وقال الفاكهي: يقال: العشر "الأوسط" "والوسط" بضم الواو. وكذا رأيته بخط ابن عصفور أعني "الوسط" قال: ووجهه أن "العشر اسم مجموع الليالي العشر، فهو كالآخر في جمع أخرى، ووجه ¬

_ = الباب الذي يليه: "فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، وهذا في غاية الإِيضاح ... اهـ، محل المقصود منه. (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (669)، ومسلم (1167)، وأبو داود (1382) في الصلاة، باب: فيمن قال: ليلة إحدى وعشرين، والحميدي (756)، وابن خزيمة (2243)، والبغوي (1825)، والبيهقي (4/ 309)، والموطأ (1/ 319) والنسائي (3/ 79) , والنسائي في الكبرى (2/ 259، 261، 269).

"الأوسط" إرادة انقسام الشهر إلى ثلاثة أعشار. وقال: الأول كأنه الأصل. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬1): [كذا هو] (¬2) في جميع النسخ "العشر الأوسط"، والمشهور في الاستعمال تأنيث "العشر"؛ كما قال في أكثر الأحاديث "العشر الأواخر". وتذكيره أيضاً لغة صحيحة باعتبار الأيام أو الوقت والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في الأحاديث الصحيحة. الثاني: قوله "من رمضان" فيه استعمال رمضان من غير ذكر الشهر [وهو الأصح] (¬3) كما سبق في أول الصيام. الثالث: سميت السنَّة عاماً لأنه مصدر عام، إذا سبح يعوم عوماً وعاماً. فالإِنسان يعوم في دنياه على الأرض طول حياته حتى يأتيه الموت فيغرق فيه. وكأن استعمال العام أولى من السنَّة. فإن السنَّة عندهم قد تكون علماً [على] (¬4) الجدوبة والقحط يقال: سنت القوم إذا أصابتهم الجدوبة يقلبون الواو ياء. الرابع: قوله "أريت هذه الليلة" يحتمل أن يكون بمعنى علمتها وبمعنى أبصرت علامتها. قاله الباجي (¬5). ¬

_ (¬1) (7/ 61، 62). (¬2) زيادة من ن ب د. (¬3) زيادة من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) المنتقى (2/ 87).

وعند البخاري (¬1) من حديث أبي سعيد: "أن جبريل أخبره بأنها في العشر الأواخر". وقوله "ثم أنسيتها" فيه دلالة على أن الأولى إذا كان ذاكراً للشيء ثم نسيه أن يقول: أُنسيته. ولا يقول: نسيته. وجاء في رواية مسلم (¬2) وإني "نسيتها" أو "أُنسيتها". الخامس: قوله: "فمطرت السماء" يقال: "مطرت" و"أمطرت" لغتان صحيحتان كما تقدم بسطه في باب الاستسقاء. السادس: "العريش" سقف البيت وكذلك عرشه، وكل ما يستظل به. والمراد: كان سقف [المسجد] (¬3)، عريشاً يستظل به، لا يمسك ماء المطر. ويكون تقدير الحديث: وكان سقف [المسجد] (¬4) على عريش. على حذف المضاف. وقال المحب الطبري في "أحكامه": لعله يريد أنه كان على مثل العريش. [قلت] (¬5): وفي رواية لمسلم "فمطرنا حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل" وفي رواية للبخاري: "وكان سقف [المسجد] (¬6) جريد النخل، ما نرى في السماء شيئاً، فجاءت قزعة فأمطرنا" وفي رواية له "وكان سقف المسجد عريشاً". ¬

_ (¬1) البخاري (813). (¬2) مسلم (1167). (¬3) في الأصل (البيت)، والتصحيح من ن ب د. (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) زيادة من ن ب د. (¬6) في الأصل (البيت)، والتصحيح من ن ب د.

[السابع] (¬1): العريش يطلق على أمور: أحدها: ما يستظل به كما في هذا الحديث. ثانيها: عريش الكَرْم. ثالثها: شبه الهودج وليس به يتخذ ذلك للمرأة تقعد فيه على بعيرها. رابعها: خيمة من خشب وثمام. وقد قدمت أنه كل ما يستظل به. والجمع: عريش مثل قليب. قال الجوهري (¬2): ومنه قيل لبيوت مكة العُرُش، لأنها عيدان تنصب ويظلل عليها، وفي الحديث (¬3) "تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفلان كافر بالعرش". ومن قال: عُرُوشٌ. فواحدها: عَرْشٌ. مثل فَلْسٍ وفُلُوسٍ، ومنه الحديث كان (¬4) ابن عمر "يقطع التلبية إذا نظر عروش مكة". وأما عرش: -بضم العين- فهو أحد عروشي العنق، وهما لحمتان مستطيلتان من ناحيتي العنق. الثامن: قوله: "فوكف المسجد" أي قطر ماء المطر من سقفه يقال: وَكَف البيت، يَكِفُ، وَكْفاً، ووكوفاً، إذا قطر. ووكَفَ الدمع وكيفا ووَكَفانا بمعنى قطر. ¬

_ (¬1) في ن ب د (فائدة). (¬2) مختار الصحاح (181). (¬3) مسلم (1225)، والنهاية (3/ 207)، وانظر: لسان العرب (9/ 153). (¬4) النهاية (3/ 208).

[الثامن] (¬1): في الحديث دلالة على استحباب الاعتكاف في رمضان، وأن العشر الأوسط منه للاعتكاف فيه أفضل من الأول وفي الآخر أفضل من الأوسط. التاسع: فيه دلالة أيضاً لمن رجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر. ومن ذهب إلى انتقالها فله أن يقول: كانت في تلك السنة هذه الليلة. ولا يلزم من ذلك أن تترجح هذه الليلة مطلقاً. وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أن اعتكافه -عليه الصلاة والسلام- في العشر الأوسط كان لطلب ليلة القدر قبل أن يعلم أنها في العشر الأواخر. العاشر: فيه دلالة أيضاً على أن الليلة أُخلقت. قد يراد بها الماضية التي اليوم بعدها. وقد يراد بها الآتية. فإذا أريد أحدهما قيد كما فعل الراوي في قوله: "وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه" لكن المشهور في استعمال الشرع واللغة إنما تستعمل عند الإِطلاق من الماضية. واستعملها بعض الظاهرية في الآتية [وإن ليلة اليوم متأخرة عنه لا سابقة عليه] [واختاره ابن دحية وأطنب فيه] (¬2) وقد حكى الخلاف في المسألة من الشافعية المحب الطبري في "شرحه للتنبيه" من أوائل الحيض منه. فائدة: يقال: فعلنا الليلة كذا، من طلوع الفجر ما لم تزل الشمس. فإذا زالت قيل: فعلنا البارحة. ¬

_ (¬1) زيادة، لأن بدل السابع في بعض النسخ فائدة. (¬2) ما بين القوسين فيه تقديم وتأخير بين النسخ.

الحادي عشر: فيه دلالة أيضاً على أن السنَّة للمصلي أن لا يمسح جبهته في الصلاة، وهو محل اتفاق. الثاني عشر: قد يستدل به بعض الحنفية على أن مباشرة الجبهة بالمصلى في السجود غير واجب، حتى لو سجد على كور العمامة كالطاقة والطاقتين صح، وهو مذهب مالك، وإن كان مكروهاً عندهم. ووجه الاستدلال: أنه إذا سجد في الماء والطين ففي السجود الأول تعلق الطين بالجبهة، فإذا سجد السجود الثاني كان الطين الذي تعلق بالجبهة من السجود الأول حائلاً في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض. وجواب هذا من وجهين: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون مسح ما تعلق بالجبهة أولاً قبل السجود الثاني لو كان. كيف ولفظ الحديث: "فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطين" وأثر الشيء غيره , وهذا احتمال ليس ببعيد، وإن استبعده الفاكهي لأجل مذهبه السالف. الثاني: أنه محمول لو سلم أنه طين على شيء يسير، لا يمنع مباشرة الجبهة الأرض. والرواية الثابتة في صحيح مسلم "وجبينه ممتلئاً طيناً" ربما لا يخالف ما تأولناه فإن الجبين غير الجبهة فالجبينان يكتفان الجبهة. ولا يلزم من امتلأ الجبين امتلأ الجبهة، كذا أجاب به النووي في "شرح مسلم" (¬1). يقال بالالتزام: فإنها أمَسَّ للأرض منهما. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (8/ 60).

ومذهب الشافعي وموافقيه: منع السجود على حائل متصل بالجبهة من غير عذر. الثالث عشر: قال الباجي من المالكية: في أن الصلاة في الطين جائزة. وقد اختلف قول مالك في ذلك، فقال مرة: لا يجزيه حتى ينزل بالأرض ويسجد عليها. وقال مرة: بحرية الإِيماء. ولعل اختلاف قوله لأجل اختلاف الأحوال وكثرة الطين وقلته، هذا كلامه ومحل الخلاف الذي حكاه عن مالك في الطين الجصاص الذي يضر بالمصلي ويفسد ثيابه، فأما مسجده -عليه أفضل الصلاة والسلام- فمحصب فيحصل منه أثار الطين، فلا يختلف في هذا. الرابع عشر: فيه دلالة أيضاً على أن العالم الذي له أتباع إذا اطلع على علم وعمل به وأراد موافقة أتباعه له أن يرشدهم إليه بصيغة عموم، وأمر عام لا خاص، وخصوصه لمعين، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر". الخامس عشر: فيه دلالة أيضاً على أن العالم إذا كان عنده علم من شيء ثم نسيه أن يعرف أصحابه بنسيانه ويقر به. السادس عشر: معنى "أنسيتها" أنسيت تعيينها في تلك السنة. ومثل هذا النسيان جائز عليه - صلى الله عليه وسلم - إذ ليس بتبليغ حكم يجب العمل به. ولعل عدم تعيينها أبلغ في الحكمة، وأكمل من تحصيل المصلحة كما جاء في رواية للبخاري (¬1): "وعسى أن يكون خيراً لكم" ووجه ¬

_ (¬1) البخاري وأطرافه في الفتح (49)، وأحمد (313، 319، 324)، والطيالسي (576)، وابن خزيمة (2198)، ومالك (1/ 320)، والبغوي (1821).

ذلك أنها إذا لم تعين حرص الناس على طلبها، كما أسلفناه في الحديث الأول. واختلفت الأحاديث في سبب النسيان ففي صحيح مسلم (¬1) من حديث أبي هريرة أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "أيقظني بعض أهلي فنسيتها" وفيه أيضاً (¬2) "فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها" معنى "يحتقان" يدعي كل واحد منهما حقّاً، وتؤيده الرواية الأخرى: "يختصمان" ووقع عند بعضهم "يحنقان" بكسر النون، ولا وجه له صفاً وفي صحيح البخاري من حديث عبادة "فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" فيحتمل أن يكون هذا في أوقات، والله أعلم. وأفاد ابن دحية في كتابه "العلم المشهور": تسمية هذين الرجلين. وقال: هما -كعب بن مالك- وعبد الله بن أبي حدرد. السابع عشر: جاء من رواية في الصحيحين في هذا الحديث: "حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهته وأرنبته، تصديق رؤياه" هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه، ترجم عليها البخاري (¬3) من كتاب الصلاة باب السجود على الأنف في الطين. فائدة: قال ابن منده في مستخرجه: روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مسلم (1166). (¬2) مسلم (1167). (¬3) البخاري في الفتح (2/ 298) ح 813.

في ليلة القدر عبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل وأنس وعمر بن الخطاب وابنه والفلتان بن عاصم وعبد الله بن عباس وجابر وأُبي بن وهب. وحبيش والد زر بن حبيش وبلال. وجابر بن سمرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن عمرو، وعائشة وأبو سعيد الخدري. وقد ذكر المصنف حديث هؤلاء الثلاثة، [والله أعلم] (¬1). ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د، وقوله -رحمه الله-: وقد أخرج المصنف حديث هؤلاء الثلاثة ومعهم عبد الله بن عمرو فلم يخرج له المصنف في باب ليلة القدر شيئاً وإنما ذكر حديث ابن عمر.

39 - باب الاعتكاف

39 - باب الاعتكاف هو في اللغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه، خيراً كان أو شرًّا، قال -تعالى-: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} (¬1) الآية. وقال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} (¬2)، أي محبوساً ملزوماً. وقال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} (¬3)، أي مقيماً ملازماً، وقال: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬4)، أي ثابتون ملازمون. وفي الشرع: إقامة مخصوص ويسمى جواراً أيضاً كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة, ومنها قول عائشة: "كان يصغي إليّ رأسه وهو مجاور في المسجد, فأُرَجِّلُه وأنا حائض" (¬5). والكلام فيه كالكلام في سائر الأسماء الشرعية، والاعتكاف من الشرائع القديمة، قال -تعالى-: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} (¬6)، ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 138. (¬2) سورة الفتح: آية 25. (¬3) سورة طه: آية 97. (¬4) سورة البقرة: آية 187. (¬5) النسائي في الكبرى (2/ 268). (¬6) سورة البقرة: آية 125.

الحديث الأول

الحديث الأول 208/ 1/ 39 - عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله -عز وجل- ثم اعتكف أزواجه من بعده" (¬1). وفي لفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان، فإذا صلَّى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: فيه استحباب الاعتكاف وتأكده حيث واظب عليه حتى توفي - صلى الله عليه وسلم -، والإِجماع قائم على استحبابه، وأنه غير واجب، وأنه متأكد في العشر الأواخر من رمضان، لأنه خاتمة الصيام، ولعله ¬

_ (¬1) البخاري (2026)، ومسلم (1172)، وأبو داود (2462) في الصوم، باب: الاعتكاف الترمذي (790)، والبغوي (1831، 1832)، وابن خزيمة (2223)، ومصنف عبد الرزاق (7682)، والبيهقي (4/ 315)، وأحمد (6/ 168، 279، 281)، والدارقطني (2/ 201)، والنسائي في الكبري (2/ 257، 258). (¬2) مسلم (1172)، والترمذي (791) والنسائي (2/ 44)، وابن ماجه (1771)، وأحمد (6/ 226)، وابن خزيمة (2217)، وأبو داود (2464) في الصوم، باب: الاعتكاف البيهقي (4/ 315).

يصادف ليلة القدر، وقد أشعر تأكداً استحبابه بقولها: "ثم اعتكف أزواجه، بعده"، وبقولها في: "كل رمضان". الثاني: فيه استواء الرجل والمرأة في شرعية الاعتكاف، نعم إن كانت مزوجة فلا يجوز إلاَّ بإذن الزوج بالإِجماع، فلو أذن لها ثم منعها. فقال الشافعي وأحمد وداود: له ذلك في زوجته وأمته في اعتكاف التطوع وإخراجهما منه. ومنعها مالك إذا دخلا فيه، وجوزه أبو حنيفة في الأمة دون الزوجة. [الثالث] (¬1): فيه أن الاعتكاف لا يصح إلاَّ في المسجد، وأن كونه فيه شرط لصحته حيث اعتكف -عليه الصلاة والسلام- وأزواجه فيه مع المشقة في ملازمته، ومخالفة العادة في الاختلاط بالناس لا سيما النساء، فلو جاز الاعتكاف في البيوت لما خولف المقتضى لعدم الاختلاط بالناس في المسجد، وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور. وقال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيىء للصلاة دون الرجل. وهو قول قديم للشافعي، ونقله البندينجي عن الجديد، وجوزه بعض أصحاب مالك وأصحاب الشافعي للرجل أيضاً، الاعتكاف تطوع، وتطوعه في البيت أفضل، والآية الآتية رادة لذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د.

ونقل أبو عمر: عن أبي حنيفة أن لها أن تعتكف مع زوجها في المسجد كما تسافر معه. وقال ابن علية: لا يجوز اعتكافها في المسجد لقوله -عليه الصلاة والسلام- لأزواجه لما أردن الاعتكاف فيه: "آلبر تردن" أي ليس هذا ببر [ثم] (¬1) اختلف المشترطون للمسجد العام. فقال مالك والشافعي وجمهورهم: يصح الاعتكاف في كل مسجد لظاهر قوله -تعالى-: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2). وقال أحمد: يختص بالمسجد الذي تقام فيه الجماعة الراتبة. وقال أبو حنيفة: يختص بمسجد تصلي فيه الصلوات كلها. وقال الزهري: يختص بالجامع الذي تقام فيه الجمعة، وأومأ الشافعي في القديم إلى اشتراطه. وشذ سعيد بن المسيب فقال: لا يصح الاعتكاف إلاَّ في مسجد المدينة. وقال حذيفة بن اليمان الصحابي: لا تصح إلاَّ في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والأقصى. الرابع: فيه أن الاعتكاف لا يكره في وقت من الأوقات، وأجمع العلماء على أن لا حد لأكثره [نعم قال القاضى: استحب أن يكون أكثره عشرة أيام اقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د. (¬2) سورة البقرة: آية 187.

قلت] (¬1) [...] (¬2)، واختلفوا في أقله. فقال الشافعي وجمهور أصحابه وموافقوهم: أقله لبث قدر يسمى عكوفاً في المسجد، وهو زائد على الطمأنينة في أركان الصلاة، ولأصحابنا أوجه أُخر في قدره، وقد أوضحتها في شرح المنهاج وغيره، فإنه محله. وفي"تهذيب المالكية" قال ابن القاسم: بلغني أن مالكاً قال: أقل الاعتكاف يوم وليلة، فسألته فقال: أقله عشرة أيام، وذلك رأي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقص من هذا. وقال مالك: في "العتبية" في اعتكاف يومين ما أعرف [هذا] (¬3)، من اعتكاف الناس. قال ابن القاسم: وسئل عنه قبل ذلك فلم ير به بأساً [وأنا لست أرى به بأساً] (¬4)، لأن الحديث جاء أقل الاعتكاف يوم وليلة (¬5). قلت: هذا الحديث لا يعرف. قال أبو عمر، وروى ابن وهب عن مالك أن أقله ثلاثة أيام. وقال القاضي عن مالك: في أقله روايتان يوم وليلة وعشرة أيام، وذلك فيمن نذر اعتكافاً مبهماً. ¬

_ (¬1) غير موجودة في ن ب د، وهو موجود في حاشية الأصل. (¬2) كلمات لم تتضح بالصورة وهي بمقدار ثلث سطر. (¬3) في ن ب (ذلك). (¬4) زيادة من ن ب د. (¬5) هذا بناء منه -والله أعلم- على اختلاف الروايات في حديث عمر -رضي الله عنه-، والجمع بينهما. انظر التعليق (3)، (433).

الخامس: فيه أن ينبغي أن يكون الاعتكاف بصوم واشترطه مالك وأبو حنيفة والأكثرون كما حكاه القاضي ثم النووي عنهم، وقالوا: لا يصح الاعتكاف بفطر، ونقله في الموطأ (¬1) عن عمل أهل المدينة، وهو قول قديم للشافعي، والأصح عنده أنه لا يشترط. واحتج من اشترطه بهذا الحديث. واحتج الشافعي باعتكافه -عليه الصلاة والسلام- في العشر الأول من شوال لما ترك اعتكاف العشر الأخير من رمضان بسبب ضرب زوجاته أخبيتهن في المسجد لأجل الاعتكاف. رواه البخاري ومسلم (¬2)، واللفظ له، ولفظ البخاري: "عشراً من شوال"، والمراد به الأول كما في رواية مسلم، وهذا يتناول يوم العيد، ويلزم من صحته أن الصوم ليس بشرط، وفي رواية للبخاري: "فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشرين من شوال"، وفي نسخة منه "العشر". ولفظ أبي داود (¬3): "ثم أخَّر الاعتكاف إلى العشر الأول" -يعني من شوال-، قال أبو داود: ورواه مالك عن يحيى بن سعيد قال: "اعتكف عشرين من شوال". واحتج أيضاً بحديث عمر أنه نذر في الجاهلية اعتكاف ليلة في المسجد الحرام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أوف بنذرك"، ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 315). (¬2) البخاري (2033، 2034، 2041، 2045)، ومسلم (1172)، وابن خزيمة (224)، وأحمد (6/ 84)، ومالك (1/ 316). (¬3) أبو داود (2354) في الصوم، باب: الاعتكاف.

رواه مسلم والبخاري، وسيأتي أيضاً في الباب، ومعلوم أن الليل ليس محلاًّ للصوم، فدل على أنه ليس بشرط في صحة الاعتكاف، وقد ترجم عليه البخاري باب: الاعتكاف ليلاً (¬1)، وباب: من لم ير على المعتكف صوماً (¬2). نعم، ورد من رواية لمسلم أنه نذر اعتكاف يوم فقال -عليه السلام-: "فاذهب فاعتكف يوماً". فأجاب عنها ابن حبان في "صحيحه" بأن قال: "ألفاظ هذا الحديث مصرحة بأنه نذر اعتكاف ليلة إلاَّ هذه الرواية، فإن صحت فيشبه أن يكون أراد باليوم مع ليلته وبالليلة مع اليوم حتى لا يكون بين الخبرين تضاد (¬3). وقال النووي (¬4) في "شرحه" يحتمل أنه سأله عن اعتكاف يوم قال: ويؤيده رواية نافع عن ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "فأوف بنذرك" فاعتكف عمر ليلة. رواه الدارقطني وقال: إسناده ثابت (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح (4/ 274) , وسيأتي تخريجه في التلعيق (12). (¬2) البخاري مع الفتح (4/ 284). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (4/ 274)، بعد سياقه لجمع ابن حبان: فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يوماً أراد بليلة. اهـ. وقال ابن خزيمة (3/ 348): إن العرب تقول يوماً بليلته، وتقول ليلة تريد بيومها، وقد ثبتت الحجة في كتاب الله -عز وجل- في هذا. (¬4) شرح مسلم (11/ 124). (¬5) سنن الدارقطني (2/ 199)، وأصله في البخاري أطرافه في الفتح =

قلت: وهذه الرواية رواها البخاري في هذا الباب من "صحيحه" وترجم عليه، من لم ير على المعتكف صومًا، فكان عزوه إليها أولى] (1). السادس: فيه إطلاق لفظ الغداة على الصبح، وقد سلف في الحديث الرابع من باب المواقيت الخلاف في كراهية إطلاق ذلك عليها. السابع: فيه أن السنَّة إذا كان معتكفًا وصلى الصبح في مكان من المسجد غير محل معتكفه لا يجلس في مصلاه إلى طلوع الشمس، بل يرجع بعد فراغه منها إليه لقولها: "فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه". الثامن: استدل به الأوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه: على ابتداء الاعتكاف والدخول فيه [في] (2) أول النهار، وليس فيه دلالة عليه، فإن اعتكافه -عليه الصلاة والسلام- يحتمل أن يكون قبل ذلك، ومجيئه إلى مكانه بعد صلاة الغداة للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة، لا أنه ابتدأ دخول المعتكف، ويكون

_ = (2032)، ومسلم (1656)، والبغوي (6/ 402)، وأبو داود (2364) في الصوم، باب: الاعتكاف، والترمذي (4/ 112)، والنسائي (7/ 21)، والنسائي في الكبرى (2/ 261، 262)، والبيهقي (4/ 318). انظر: الفتح الرباني (14/ 182)، وعبد الرزاق (4/ 352)، والدارقطني (2/ 199)، وابن خزيمة (3/ 347). (1) زيادة من ن ب د. (2) في ن د (من).

المراد بمكانه الذي اعتكف فيه الموضع الذي خصه بالاعتكاف من المسجد وأعده له، كيف ولفظه يشعر بذلك. وقولها: اعكتف فيه بصيغة الماضي، وكما جاء في الحديث الآخر أن أزواجه ضربن أخبية، وهذا ظاهر فيما قلناه وهو قول الأئمة، ونقله الشيخ تقي الدين عن الجمهور أنه يدخل فيه قبل غروب الشمس من [أول ليلة منه] (1) إذا أراد اعتكاف شهرًا وعشرًا، وتأولوا الحديث على ما ذكرناه، وقال أبو ثور: يدخل من أول النهار، من نذر عشرة أيام فإن أراد عشر ليال فقبل غروب الشمس من الليلة. ووافق أبو ثور في الشهر. واختلفوا في الأيام. فقال الشافعي: يدخل فيها قبل الفجر، وبه قال القاضي عبد الوهاب في الأيام، وفي الشهر. وقال عبد الملك: لا يعتد بذلك اليوم. وسبب هذا الاختلاف دخول أول ليلة فيه أم لا، فالليل تابع والمقصود اليوم قولان لهم، وبالثاني قال مالك وربيعة. التاسع: فيه أيضًا استحباب الانفراد عن الناس والأهل، وغيرهم في الاعتكاف إلَّا فيما لا بد منه من اجتماع على صلاة أو ضرورة. ...

_ (1) في الأصل وباقي النسخ (الليلة)، والصحيح من إحكام الأحكام (3/ 440).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 209/ 2/ 39 - عن عائشة -رضي الله عنها- "أنها كانت ترجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه". وفي رواية: "وكان لا يدخل البيت إلاَّ لحاجة الإِنسان" (¬1). وفي رواية: أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلاَّ وأنا مارة". [الترجيل: تسريح الشعر] (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: الترجيل: تسريح الشعر، قال ابن السكيت: شعر ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (296)، ومسلم (297)، وأبو داود (2468) في الصوم، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، والنسائي (1/ 193)، والكبرى له (2/ 265، 266، 267، 268)، وابن ماجه (633، 1776)، والبيهقي (4/ 315, 320)، وأحمد (6/ 231، 234، 264، 272)، وابن أبي شيبة (3/ 88، 94)، والبغوي (1837)، وابن خزيمة (2230، 2231). (¬2) زيادة من إحكام الأحكام.

رجل ورجل إذا لم يكن شديد الجعودة ولا سبطاً, يقول منه رجل الشعر ترجيلاً. ثانيها: الحجرة معروفة وجمعها: حُجر مثل غرف وحجرات، [قال ابن فارس: وحجرات] (¬1) بالفتح أي بفتح الجيم. وأما حَجرة القوم: بفتح الحاء فناحية دارهم. والجمع: حجرات كحجرات ويجوز حجر كحجر. ثالثها: قولها: "يناولها رأسه كأنه من مجاز التشبيه إذ المناولة نقل الشيء من شخص إلى غيره، يقال: ناولته الشيء فتناوله إذا أعطيته. رابعها: "الرأس" مذكر، قال الفاكهي: ولا أعلم فيه خلافاً، وما أكثر تأنيث العامة له من المتفقهة وغيرهم. قلت: وهو مهموز، ويجوز تركه، وله أسماء أخر ذكرتها في لغات المنهاج فليراجع منها. خامسها: حاجة الإِنسان هنا: البول، والغائط. سادسها: في الحديث دلالة على طهارة بدن الحائض، والجنب أولى منها. سابعها: فيه أيضاً أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يبطل اعتكافه. ثامنها: فيه أيضاً أن خروج بعض البدن من المكان الذي حلف أنه لا يخرج منه لا يوجب حنثه، وكذلك دخول بعض بدنه إذا ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة، انظر: مجمل اللغة (1/ 264).

حلف، أن لا يدخله من حيث إن امتناع الخروج من المسجد يوازيه تعلق الحنث بالخروج، لأن الحكمة في كل واحد تعلق بعدم الخروج، فخروج بعض البدن إن اقتضى مخالفة ما علق عليه من أحد الموضعين اقتضى مخالفته في الآخر، وحيث لم يقتض في أحدهما، لم يقتض من الآخر لاتحاد المأخذ فيهما، وكذلك تنتقل هذه المادة في الدخول أيضاً بأن يقول: لو كان دخول البعض مقتضياً للحكم المعلق بدخول الكل لكان خروج البعض مقتضياً للحكم بخروج الجملة، لكنه لا يقتضيه، ثمَّ، فلا يقتضيه هنا، وشأن الملازمة أن الحكم في الموضعين متعلق بالجملة، فإما أن يكون بالبعض موجباً لتركيب الحكم أو لا إلى أخره. تاسعها: فيه أيضاً جواز ترجيل المعتكف رأسه، وأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يتعاهد شعره بالترجيل، ولم يحلق شعره إلاَّ في حج أو عمرة، وفي معنى ترجيل المعتكف رأسه حلقه وتقليم أظفاره، وتنظيف بدنه من الشعث. عاشرها: فيه أيضاً جواز ملامسة الحائض للمعتكف وغيره، وعند مالك أن الاعتكاف يبطل بالمباشرة. [وقال ابن لبابة وغيره منهم: تحرم المباشرة في المسجد دون غيره. وقال بعض أهل الظاهر: تبطل بالمباشرة] (¬1) إلاَّ في ترجيل الشعر لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة.

الحادي عشر: فيه أيضاً أن الخروج من المعتكف للحاجة الضرورية التي لا يمكن فعلها في المسجد جائز، وهذا الحديث بعمومه يدل على ذلك، وأنه ممنوع من الخروج لغير الحاجة الضرورية من حيث أن الضرورة دعت إليه، والمسجد مانع منه، وكل ما ذكره الفقهاء من الجواز في ذلك، واختلفوا فيه فهذا الحديث يدل على عدم الخروج له كما ذكرنا, ولا بد أن يضم إلى الحاجة المجوزة للخروج قيامُ الداعي الشرعي في بعضه كعيادة المريض وصلاة الجنازة وشبهه، وهذا كله إنما نقول به على سبيل الاستحباب وتأكده، إذ الاعتكاف سنة مؤكدة، ومعلوم أن من دخل في تطوع لا يلزمه إتمامه خلافاً لأبي حنيفة، ومالك. في منع الخروج من صلاة التطوع وصيامه فعندهما أن الخروج لغير حاجة حرام إذن. الثاني عشر: قد أسلفنا أن حاجة الإِنسان [هنا] (¬1) كناية عن الخبث، وظاهره حصر الخروج في ذلك وإن كان المعتكف يخرج لغيره كما هو مقرر في كتب الفروع، وكأنها أخبرت بصورة الواقع منه - صلى الله عليه وسلم - فلا يدل ذلك على عدم الخروج لغيره وسيأتي في الحديث الرابع خروجه -عليه الصلاة والسلام- ليقلب صفية -رضي الله عنها- وهو معتكف. الثالث عشر: قولها في المريض: "فلا أسأل عنه إلاَّ وأنا مارة" فيه دليل على جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج، وفيه إشارة إلى المنع من العيادة على غير هذه الحالة. ¬

_ (¬1) زيادة من ن ب د.

الرابع عشر: في الحديث أيضاً استقرار المرأة في بيت الزوج، وإن لم يكن له حاجة في الدخول إليها أوله مانع ضروري شرعي أو غيره من دخوله لسفر واعتكاف. الخامس عشر: فيه أن الكون في المسجد لو لم يكن شرطاً لما فعل ذلك، لأن في إخراج رأسه دون بقية جسده مشقة، فكل من رآه فعل ذلك يتبادر إلى فهمه أن لولا شرطية ذلك في الاعتكاف لما تحمل هذه المشقة. ***

الحديث الثالث

الحديث الثالث 209/ 3/ 39 - عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قلت: "يا رسول الله! إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة". وفي رواية: "يوماً في المسجد الحرام". قال: "فأوف بنذرك" (¬1)، ولم يذكر بعض الرواة يوماً ولا ليلة. الكلام عليه من وجوه: أحدها: رواية اعتكاف يوم قد قدمنا عزوها إلى مسلم، وكلام ابن حبان عليها ومعنى لم يذكر بعض الرواة يوماً وليلة أن عمر قال: نذرت أن أعتكف في الجاهلية فقال: "أوف بنذرك". ثانيها: قوله: "نذرت" وهو بفتح الذال. ويقال فيه: نَذُرَ بكسر الذال وضمها. ثالثها: "الجاهلية" ما قبل الإِسلام، سموا بذلك لكثرة ¬

_ (¬1) البزار (1/ 250، 252)، والعلل للدارقطني (2/ 26)، وتمام في فوائده (3/ 142)، وأبو يعلى (37)، والبيهقي في السنن (4/ 316)، وابن الجارود (94) , وانظر: تمام تخريجه في الحديث الأول من باب الاعتكاف.

جهالاتهم، وتطلق الجاهلية على كل فعل ما يخالف الإِسلام والشرع. رابعها: كان المسجد الحرام فناء حول الكعبة وفضاء للطائفين، ولم يكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية منها فلما استخلف عمر -رضي الله عنه- وكثر الناس وسّع المسجد، واشترى دوراً فهدمها وزاد فيه، واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام، ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه: كعثمان وابن الزبير -رضي الله عنهما- ثم عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد، ثم المنصور، ثم المهدي. قال النووي في "الروضة" (¬1) وغيرها: وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا. وقال غيره: زاد فيه المأمون وأتقن بنيانه بعد المهدي باثنين وأربعين سنة. قال السهيلي (¬2): وهو على حاله إلى الآن، وأسقط النووي ذكر عبد الملك بن مروان وذكر ابن الزبير والوليد. وأثبته ابن العطار في "شرحه"، ولو وسع شيئاً آخر جاز الطواف والاعتكاف في جميعه. واعلم أن المسجد الحرام يطلق ويراد به هذا المسجد وهذا هو الغالب، وقد يراد به الحرم، وقد يراد به مكة. ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب الأسماء واللغات (4/ 124). (¬2) الروض الأنف (1/ 224).

وقيل: في قوله -تعالى-: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1). قال الماوردي: كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم، إلاَّ قوله -تعالى-: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإن المراد به الكعبة. قلت: وإلاَّ قوله -تعالى-: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬2) أيضاً، وأما قوله -تعالي-: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ...} (¬3) الآية فالمراد به مكة مع الحرم وما حولها، وقوله -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬4) فنقل النووي في "تهذيبه" (¬5) عن المفسرين أن المراد به مكة. وحكى أبو شامة في مصنفه "نور المسرى في تفسير آية الإِسراء" فيه أربعة أقوال: هذا أحدها: وثانيها: أن المراد نفس الكعبة. وثالثها: أن المراد نفس المسجد الذي فيه الكعبة. رابعها: أن المراد به جميع الحرم، وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد" (¬6)، إلى آخره ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 196. (¬2) سورة التوبة: آية 19. (¬3) سورة التوبة: آية 28. (¬4) سورة الإِسراء: آية 1. (¬5) تهذيب الأسماء واللغات (4/ 152). (¬6) من رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري أطرافه في الفتح (586)، =

فالمراد المسجد وما حوله. خامسها: في الحديث لزوم النذر للقربة، وقد يستدل بعمومه للزوم الوفاء بكل منذور. سادسها: فيه أيضاً صحة النذر من الكافر وهو وجه في مذهب الشافعي [ورأي البخاري وابن جرير و] (¬1) المشهور. أنه لا يصح وهو مذهب الجمهور، لأن النذر قربة. والكافر ليس من أهلها. والحديث مؤول على أنه أمر أن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر لئلا يخل بعبادة نوى فعلها، فأطلق عليه أنه منذور لشبهه به وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة. وعلى هذا يكون قوله: "أوف بنذرك" من مجاز الحذف أو من مجاز التشبيه، لكن ظاهر الحديث خلافه. فإن دل أقوى من هذا الظاهر على أنه لا يصح اعتكاف الكافر احتيج إلى هذا التأويل وإلاَّ فلا. وأجابوا أيضاً: إنه يحمل الأمر على الاستحباب، لكن ظاهر الأمر الوجوب، كيف ونص الشافعي على كراهة الابتداء بالنذر، لصحة النهي عنه، مع وجوب الوفاء به قطعاً، ولا يصح بالنية ¬

_ = ومسلم (2/ 975)، والترمذي (326)، وابن ماجه (1410)، والحميدي (750)، وأحمد (3/ 7، 45، 78، 53، 93). ومن رواية أبي هريرة عند البخاري (1189)، ومسلم (1397)، وابن ماجه (1409)، والحميدي (943) , وأبو داود (2033) في المناسك، باب: إتيان المدينة، والنسائي (2/ 37)، وعبد الرزاق (9158)، وأحمد (2/ 234، 238). (¬1) زيادة من ن ب د.

وحدها، بل لا بد فيه من القول معها، وبهذا يرد على قول ابن العربي في قبسه (¬1): لما كان عمر (¬2)، نذره في الجاهلية فأسلم أراد أن يكفر ذلك بمثله في الإِسلام، فلما [أراده] (¬3) ونواه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، فاعلمه أنه لزمه، قال: وكل عبادة أو عمل ينفرد به العبد عن غيره (¬5) بمجرد النية [العازمة] (¬6) الدائمة كالنذر في العبادات، والطلاق في الأحكام وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك. هذا لفظه، وليس بظاهر [أيضاً] (¬7) بل الظاهر من كلام عمر -رضي الله عنه- مجرد الإِخبار بما وقع في الجاهلية مع الاستخبار عن لزومه [وعدم لزومه] (¬8) وليس فيه ما يدل على نية في الإِسلام ولا إرادة تنزلنا أنه نواه. فجواب: ما سلف وقد قال ابن بشير من المالكية: لم يختلف أن العبادات لا تلزم إلاَّ بالقول أو بالنية والدخول فيها وهو الشروع. قلت: وتأول بعضهم قوله: "في الجاهلية" أي ونحن بمكة قبل فتحها، وأهلها جاهلية فلا يكون ناذراً في الكفر وهو بعيد أيضاً. ¬

_ (¬1) القبس (2/ 530). (¬2) في القبس -رضي الله عنه-. (¬3) ليست موجودة في القبس. (¬4) في القبس زيادة (عنه). (¬5) في المرجع السابق زيادة (يلزمه). (¬6) في المرجع السابق (العارضة). (¬7) زيادة من ن ب د. (¬8) زيادة من ن ب د.

سابعها: فيه أيضاً عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف، كما قررناه في الحديث الأول مع الجواب عن رواية نذر اعتكاف اليوم، والمشترط للصوم أوَّل قوله: ليلة بيوم، فإن الليلة تغلب في لسان العرب، على اليوم يقولون: صمنا خمساً. والخمس تنطلق على الليالي، ولو انطلق على الأيام لقيل: خمسة. فأطلقت الليالي وأراد الأيام، أو يقال: المراد ليلة بيومها. ثامنها: فيه أيضاً سؤال العلماء عما يجهل من العلم. تاسعها: فيه أيضاً سؤالهم عما كان من السائل في حال كفره. عاشرها: فيه وجوب البيان على من سئل عن علم وعدم كتمانه. خاتمة: روى أبو داود (¬1) أنه -عليه الصلاة والسلام- قال ¬

_ (¬1) أبو داود (2366) في الصيام، باب: الاعتكاف، وضعفه المنذري لأن في إسناده عبد الله بن بديل، وساق كلام ابن عدي، والدارقطني في السنن (2/ 200). وقال ابن حجر في الفتح (4/ 274): وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحاً لكن في إسنادها ضعيف وقد أخرجها أبو داود والنسائي، من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف، وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار، ورواية من روى يوماً شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال الآتية بعد أبواب -2043 - "فاعتكف ليلة" فدل على أنه لم يزد على نذره شيئاً وأن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له حد معين اهـ. وضعفه أيضاً الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني (215)، والبيهقي في المعرفة (6/ 394)، والدارقطني في العلل =

لعمر: "اعتكف وصم" لكن تفرد بها عبد الله بن بديل، كما قاله ابن عدي والدارقطني وضعفاه، ووهم ابن حزم، فادعى جهالته، وهو غريب، فهو معروف العين والحال. وقد أخرج له البخاري تعليقاً، ووثقه ابن معين وابن شاهين وابن حبان، ثم وهم أخرى أفظع من هذه، فقال: لا يعرف هذا الخبر من مسند عمرو بن دينار [أصلاً وما يعرف لعمرو بن دينار] (¬1) عن ابن عمر حديثاً مسنداً، إلاَّ ثلاثة ليس هذا منها. قال: فسقط الخبر لبطلان سنده. قلت: لعمرو بن دينار في الصحيح عن ابن عمر نحو عشرة أحاديث، فما هذا الكلام؟! ... ¬

_ = (2/ 26). وقال العلاَّمة أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على تهذيب السنن (3/ 350). ليس عبد الله بن بديل من الضعف بالمنزلة التي يصورها كلام المنذري، ففي التهذيب (5/ 155): قال ابن معين: صالح. وقال ابن عدي: له ما ينكر عليه الزيادة في متن أو إسناده. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 21). قلت: وابن شاهين في تاريخ أسماء الثقات برقم (647)، ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء, فهذا أقل حاله أن يكون حديثاً حسناً، وتقبل زيادته. اهـ. (¬1) زيادة من ن ب د.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 210/ 4/ 39 - عن صفية -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد-، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرّاً -أو قال شيئاً-" (¬1). وفي رواية: أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة .. ثم ذكره بمعناه. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (2035)، ومسلم (2175)، وأبو داود (2470) في الصيام، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، وفي (4994) في الأدب، باب: في حسن الظن، وابن ماجه (1779)، والدارمي (2/ 27)، وابن خزيمة (2233، 2234)، والبغوي (4208)، والبيهقي (4/ 321، 324)، وأحمد (6/ 337)، وعبد الرزاق (8065).

الكلام عليه من وجوه: أحدها: صفية هي أم المؤمنين أم يحيى بنت حيي -بضم الحاء- وحُكِيَ كسرها ابن أخطب بن سعية -بفتح السين وإسكان العين المهملتين ثم مثناة تحت ثم هاء- وصحَّفه الصعبي في رجال هذا الكتاب فقال: سفينة: كذا رأيته بخطه، وتبعه الفاكهي في شرحه، فإنه قرأه على مصنفه، وهي من بني إسرائيل من بنات هارون بن عمران أخي موسي -عليهما الصلاة والسلام-، وهما من سبط لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وأمها برة بنت سموأل، وهي أخت رفاعة بن سموأل. سباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، ثم أعتقها وتزوجها, ولم تبلغ خمس عشرة، وجعل عتقها صداقها، وذلك من خصائصه. قال أبو عمر: عند أكثر الفقهاء. قال أبو عبيدة: وتزوجها في شوال أي بني بها، وكانت قبله عند سلام بتخفيف اللام، كما ضبطه الشيخ تقي الدين -ابن مِشْكم شاعر ففارقها، فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، وهو شاعر فقتل يوم خيبر. قال الجاحظ: في كتاب "الموالي" ولدَ صفية بنت حيي مائة نبي ومائة ملك، ثم صيرها الله -تعالى- أمة لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: وكانت فاضلة عاقلة حليمة، روت عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث، اتفقا منها على هذا الحديث، ولم يذكر الحميدي في جمعه لها غيره، روى عنها ابن أخيها وجماعة. ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجهها أثر خضرة قريباً من عنقها، فسألها، فقالت: رأيت في المنام قمراً أقبل من يثرب حتى وقع في حجري. فذكرت ذلك لزوجي كنانة. فقال: أتحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي من المدينة. وضرب وجهي هذه الضربة، وفي رواية قالت صفية لأهلها: رأيت كأني وهذا الذي يزعم أن الله أرسله وملك يسترنا بجناحه. فردوا عليها رؤياها، وقالوا لها في ذلك قولاً شديداً، وقد أوضحت ترجمتها في رجال هذا الكتاب أكثر من هذا، وذكرت فيه خمسة أقوال في وفاتها. أحدها: سنة خمسين في خلافة معاوية في رمضان. ثانيها: سنة ست وثلاثين في خلافة علي، وضعفه النووي. ثالثا: سنة اثنين وخمسين. رابعها: سنة عشرين. خامسها: سنة إحدى وعشرين ودفنت بالبقيع -رضي الله عنها-. الثاني: الرجلان المبهمان في هذا الحديث لم أر من تعرض لبيانهما إلاَّ ابن العطار في شرحه، فإنه قال: قيل إنهما أسيد بن حضير، وعباد بشر صاحبا المصباحين. الثالث: قولها: "ليقلبني" هو بفتح أوله أي يصرفني إلى منزلي، يقال: قلبه يقلبه، وانقلب إذا انصرف، قال -تعالى-:

{وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)} (¬1) وكان أبو هريرة يقول لمعلم الصبيان: اقلبهم أي اصرفهم إلى منازلهم. الرابع: قوله: "على رسلكما" هو بفتح الراء وكسرها، فقيل هما بمعنى من التؤدة وترك العجلة أي اثبتا ولا تعجلا. وقيل: بالكسر التؤدة، وبالفتح اللين والرفق والمعنى متقارب، وجزم الفاكهي بالكسر أي على هيئتكما حتى أخبركما ومنه الحديث (¬2): "إلاَّ من أعطى في نجدتها ورسلها". قال الجوهري (¬3): يريد الشدة والرخاء. والرِسّلُ أيضاً: اللبن. وأما الرَسَل -بفتح الراء والسين- فالقطيع من الإِبل والغنم. الخامس: [وقولهما] (¬4): "سبحان الله! " هو تنزيه لله ومعناه هنا استعظام الأمر وتهويله. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يجري من ابن آدم مجرى الدم"، فيه قولان: أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله -تعالى- جعل له قوة وقدرة في الجري في باطن الإِنسان مجاري دمه. والثاني: [أنه على الاستعارة لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإِنسان كما لا يفارقه دمه. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: آية 21. (¬2) سنن النسائي (5/ 12)، وانظر: لسان العرب (5/ 212)، مادة: رسل. (¬3) مختار الصحاح (107). (¬4) في الأصل (قوله - صلى الله عليه وسلم -)، والتصحيح من ن ب د.

السابع] (¬1): أم سلمة -رضي الله عنها-: تقدم الكلام على ترجمتها في باب الجنابة مستوفى فراجعه منه. وأسامة بن زيد يأتي التعريف به في باب دخول مكة. الثامن: في الحديث دلالة على أحكام يحضرنا منها اثني عشر حكماً. أحدها: جواز خروج المرأة ليلاً. ثانيها: جواز زيارتها المعتكف. ثالثها: جواز التحدث معه. رابعها: جواز اشتغال المعتكف بالأمر يعرض له، سواء كان مندوباً أو مباحاً، وعند المالكية حكاية قولين فيما إذا قل الاشتغال بالعبادة وصلاة الجنازة وأداء الشهادة والحكم، فإن كثر فلا يفعله بالاتفاق، كما نقله الباجي منهم. خامسها: تأنيس الزائر بالمشي معه، ويتأكد ذلك في المضيف عند خروجه لا سيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك كالليل. سادسها: جواز خروج المعتكف من المسجد فيما لا [غاية به] (¬2)، كذا استدل به بعضهم، وهو عجيب. فالرواية الثانية تثبت ¬

_ (¬1) في ن ب ساقطة. (¬2) في المخطوط الكلمة (عتابه). قال ابن حجر في الفتح (4/ 280): واستدل به، لأبي يوسف ومحمد في جواز تمادي المعتكف إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته وأقام زمناً يسيراً زائداً عن الحاجة ما لم يستغرق أكثر اليوم. ودلالة فيه، لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين =

الغاية في مشيه معها إلى باب المسجد فقط، وإن كان الخروج من المسجد للمعتكف للحاجة الشرعية جائز قطعاً. قال الفاكهي: فعلى هذا يكون مرور الرجلين في المسجد دون الطريق. قلت: لا يلزم ذلك. وقد ترجم البخاري على هذا الحديث بما قلناه فقال: "باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد" (¬1) ثم ذكره. سابعها: التحرز مما يقع في الوهم من نسبة الإِنسان إليه مما لا ينبغي، وأن لا يؤئم الناس بسببه فإنه -عليه الصلاة والسلام- أكرم الخلق على الله, ومع هذا خشي على الرجلين وسوسة الشيطان، يقذف شيئاً في قلوبهما، فيكون مؤدياً إلى الكفر أو هو كفر. وقد نقل الشيخ تقي الدين (¬2): عن بعض العلماء أن لو وقع ببالهما شيء لكفرا، ولكن أراد تعليم أمته، وهو كما قال إذا اعتقداه أو ظناه. قال -تعالى-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} وإلاَّ لمجرد خطوره بالبال من غير استقرار، ففيه وقفة، لأنه أمر غير مقدور على دفعه، اللهم إلاَّ أن يخص ذلك بهذا الجناب الشريف. ¬

_ = المسجد فاصل زائد، وقد حد بعضهم اليسير بنصف يوم وليس في الخبر ما يدل عليه. اهـ. (¬1) البخاري في الفتح (4/ 278). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 452) بزيادة.

وما نقله الشيخ تقي الدين عن بعض العلماء أراد به الشافعي -رضي الله عنه- فإن سفيان بن عيينة. قال للشافعي: ما فقه هذا الحديث؟ فقال: إن كان القوم اتهموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا بتهمتهم إياه كفاراً، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدب من بعده من أمته فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا لئلا يظن بكم ظن السوء. فقال سفيان بن عيينة: جزاك الله خيراً ما يجيئنا منك إلاَّ ما نحب. هذا كلامه (¬1). قال الشيخ تقي الدين: وهذ متأكد في حق العلماء. ومن يُقْتَدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب ظن السوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قال العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي، وذلك من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم. قلت: أو من باب وجوب البيان وإزالة اللبس. ثامنها: فيه أيضاً دلالة على هجوم خواطر الشيطان على النفس، وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه، لا يؤاخذ به لقوله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2)، وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الوسوسة التي يتعاظم الإِنسان أن يتكلم بها: ¬

_ (¬1) انظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 309، 310)، وأدب الشافعي لابن أبي حاتم (68، 70)، وحلية الأولياء (9/ 92)، وتوالي التأسيس لابن حجر (75). (¬2) سورة البقرة: آية 286.

"ذلك محض الإِيمان" (¬1)، وقد فسروه بأن التعاظم لذلك محض الإِيمان لا نفس الوسوسة. قال الشيخ تقي الدين: وكيف ما كان ففيه دلالة على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها، نعم. في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها، وبين ما يقع شكّاً إشكال (¬2) انتهى. ¬

_ (¬1) إشارة إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإِيمان". وفي رواية: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". ومثله من رواية ابن مسعود عند مسلم، وفيه: "ذلك محض الإِيمان". (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (3/ 454) قوله: "نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكّاً: إشكال". لعله يقال الوسوسة مبادىء الشك، فإن دفعها العبد بما أرشده إليه - صلى الله عليه وسلم - في دفعها اندفعت وعذر عنها، فأخرج أبو داود وابن السني وابن المنذر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم: هذا الخلق خلق الله، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك، فقولوا: "الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم"، وأخرج أبو بكر ابن أبي داود في كتابه ذم الوسوسة عن معاوية بن أبي طلحة قال: كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغمر قلبي من وساوس ذكرك، واطرد عني وساوس الشيطان" وإن ترك الاستعاذة وما ذكر من التلاوة، صار ذلك شكّاً وعوقب عليه، وبالجملة الوساوس تطرق القلب، فإن استرسل العبد معها قادته إلى الشك، وإن قطعها بالذكر والاستعاذة ذهبت عنه. اهـ.

وقد أخطأ من جعل الوسوسة نفسها دليلاً على خير الإِنسان والعناية به، وإنما الخير والعناية يقع بدفعها. تاسعها: فيه أيضاً كمال شفقته بأمته -عليه الصلاة والسلام- من حيث إنه لما خشي عليهما شر الشيطان بادر إلى دفعه عنهما باليقين وقد وصفه الله -تعالى- في كتابه بكونه رحيما فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} (¬1)، وقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)}. عاشرها. فيه جواز التعجب: بسبحان الله! والتعجب بها [يقع] (¬2) على أوجه: أحدها: لتعظيم الأمر وتهويله كما سلف. ثانيها: للحياء من ذكره. ثالثها: كون المحل ليس قابلاً للأمر، ومن تتبع الأحاديث النبوية وجد ذلك. الحادي عشر: فيه أيضاً الأمر بالتؤدة وترك العجلة في الأمور إذا لم تدع إليه الضرورة. الثاني عشر: فيه أيضاً جواز خطاب الرجال الأجانب إذا كان مع المخاطب زوجة أو أحدٌ من محارمه خصوصاً إذا دعت إلى المخاطب حاجة شرعية من بيان حكم أو دفع شر ونحوهما. وإن كان ذلك لا يكون نقصاً للمروءة، ومن أحكامه أيضاً: الاستعداد للتحفظ من الشيطان ومكائده، فإنه يتمكن منه كما وصفه الشارع، ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 43. (¬2) زيادة من ن ب.

ومن كانت هذه حاله، فليس له خلاص منه إلاَّ بالالتجاء إلى المعبود حمانا الله منه بمنه وكرمه (¬1). ... ¬

_ (¬1) في ن ب وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبا الله ونعم الوكيل في اليوم المبارك يوم الخميس الثالث عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة وألف العبد الفقير إلى الله -تعالى-. ولمن رأى عيباً فسده وجميع المسلمين. وفي ن ب آخره: نجز الجزء الثاني من شرح العمدة لشيخنا الإِمام العالم العلامة سراج الدين عمر بن الشيخ الإِمام العالم العلامة أبي الحسن علي الأنصاري الشافعي متعنا الله ببقائه على يد كاتبه ومالكه إبراهيم بن محمد بن علي الشهير بإمام الكاملية غفر الله له ولوالديه ولمن قرأ فيه ودعا له بالمغفرة وجميع المسلمين آمين آمين آمين، ونقلتها من أصل المصنف الذي بخطه ختم الله له بالصالحات وجميع المسلمين يتلوه بالثالث كتاب الحج إن شاء الله أعاننا الله على إكماله بمحمد (*) وآله وصحبه وسلم وذلك بتاريخ مساء يوم الأحد سادس شعبان المكرم سنة تسعين وسبعمائة للهجرة النبوية، لعبد الله أفندي حجازي زاده. قالوا التحى قلت ذا منكم معارضه ... بظاهر اللفظ والمعنى يناقضه بل إنما الشهد لما حل في فم ... دبت له النمل فاسودت عوارضه وقد تم بحمد الله قراءة هذا الجزء والتعليق عليه عند أذان مغرب يوم الخميس 12/ 10/ 1414هـ، غفر الله لي ولوالدي ولمؤلفه وناسخه ولمن اطلع عليه ودعا بالمغفرة لنا وله ولجميع المسلمين. .................................... (*) هذا توسل بدعي عفى الله عنا وعنهم فلينبه له.

انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله كتاب الحج ويتبعه بقية الأجزاء

الإِعلام بفوائد عمدة الأحكام

حُقوقُ الطّبع مَحفُوظَة الطّبعَة الاولى 1421هـ - 2000م دَارُ العَاصمَة المَملكة العَربيَّة السّعوديَة الريَاض - ص ب 42507 - الرَمز البريدي 11551 هاتف 4915154 - 4933318 - فَاكس 4915154

الإِعلامُ بفوائِد عُمدة الأَحْكام للإِمَام الحَافظ العَلّامَة أبي حَفص عُمْر بْن عَليٍّ بْن أَحْمد الأَنْصَاريِّ الشَّافِعيِّ المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هَيئة كبَار العُلمَاء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هَيئة كبَار العُلمَاء وعضو اللجَنة الدائمة للافتَاء حقّقهُ وضَبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه وَوثّق نقوله وعَلّق عَليه عبد العزيز بن أحمد بن محمّد المشيقح غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء السَّادس كتاب الحجّ (211 - 270) حديث دَارُ العَاصَمة للنَشْرِ وَالتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الحج

كتاب الحج

40 - [كتاب] الحج

40 - [كتاب] (¬1) الحج الحج: بفتح الحاء وكسرها فقيل [هما] (¬2) لغتان. وقيل: بالفتح المصدر وبالكسر الاسم. وقيل: عكسه. وقال القاضي (¬3) عياض، والنووي (¬4): هو بالفتح المصدر وبالكسر وبالفتح جميعاً الاسم منه زاد القاضي وبالكسر أيضاً الحجاج وأهله القصد. وقال الخطابي: قصدٌ فيه تكرار، ومنه قول الشاعر: ¬

_ (¬1) في الأصل (باب)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في الأصل (لهما)، وما أثبت من ن هـ. والسبب في ذلك اختلاف القراءة عن حفص في آيات الحج، فآية قراءة في الكسرة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ} آية آل عمران (97)، وقراءة بالفتح في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} آية البقرة (196)، والآية الأخرى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} سورة البقرة آية (197). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 290). (¬4) شرح مسلم (8/ 72).

وأشهد من عوف حُلُولاً كثيرةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبرِقانِ [المزعفرا] (¬1) يريد أنهم [يقصدونه] (¬2) في أمورهم ويختلفون إليه في حاجاتهم مرة بعد أخرى قال: وقد استدلوا بهذا المعنى على إيجاب العمرة [وقالوا: إذا كان الحج قصد فيه تكرار، فإن معناه لا يتحقق إلاَّ بوجوب العمرة] (¬3)، لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر انتهى (¬4). هذا الاستدلال مردود فإنه لا يلزم من تكرار الحج وجوبه قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (¬5) أي يرجعون إليه ويتقربون في كل عام ولأن الحاج يكون وروده على البيت عند القدوم وعند [الإِفاضة] (¬6) وعند الوداع وذلك غير ما يشتغل به [من] (¬7) الطواف فالتكرار حاصل بلا إشكال. قال القاضي عياض: والحج أيضاً العمل. ¬

_ (¬1) في الأصل (المرعف)، والتصحيح من ن هـ، ولسان العرب (3/ 52)، وفي اتفاق المباني (206) المعصفرا، والبيت للمخبل السعدي. (¬2) في ن هـ (يقصدنهم)، وما أثبت يوافق ما في معالم السنن للخطابي (2/ 275)، ولسان العرب (3/ 52). (¬3) في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق ما في معالم السنن (2/ 53). (¬4) معالم السنن (2/ 276). (¬5) سورة البقرة: آية 125. (¬6) في ن هـ (الأضافة). (¬7) في ن هـ (في).

وقال الهروي وغيره. إنه الإِتيان مرة، بعد أخرى. وقال الخليل: [هو] (¬1) كثرة القصد إلى من تعظم. قلت: وهو في الشرع قصدٌ مخصوصٌ من شخصٍ مخصوصٍ إلى محل مخصوصٍ في زمن مخصوصٍ على وجه مخصوصٍ. إذا ثبت ذلك فالإِجماع قائم على أن الحج أحد أركان الإِسلام الخمسة الذي من جحده فقد كفر. ومذهب الشافعي: أنه على التراخي عند الاستطاعة إلاَّ أن ينتهي إلى [حال] (¬2) يظن فواته لو أخره عنها، ووافقه أبو يوسف وطائفة وهو مذهب المغاربة. ومذهب أبي حنيفة وأحمد: أنه على الفور وهو مذهب [العراقيين] (¬3) من المالكية. والصحيح عند الشافعية: أن العمرة واجبة وهو مذهب الإِمام أحمد. ومذهب المالكية والحنفية: أنها سنة. ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. انظر: لسان العرب (3/ 52, 55). (¬2) في الأصل (حائل)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) في الأصل (العراقيون)، ما أثبت من ن هـ وهو الصواب.

41 - باب المواقيت

41 - باب المواقيت المواقيت: جمع ميقات كميعاد ومواعيد كما سلف واضحاً في أول كتاب الصلاة. ومعناه لغة: الحد وذكر المصنف في الباب حديث [ابن عباس وحديث ابن عمر] (¬1): الحديث الأول 211/ 1/ 41 - عن عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما] (¬2) "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة، ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة, ولأهل نجد، قرن المنازل، ولأهل اليمن، يلملم، [...] (¬3): هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة, ومن كان دون ذلك: فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ تقديم وتأخير. (¬2) ساقطة من ن هـ. (¬3) في متن العمدة زيادة (وقال). (¬4) البخاري (1524)، ومسلم (1181)، والترمذي (831)، والنسائي =

الكلام عليه من وجوه: [الأول] (¬1): التوقيت ذكر الوقت في الأصل ثم استعمل في تعليق الحكم بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فينطلق عليه [توقيت] (¬2). فقوله هنا: "وقت" يحتمل أن يراد به التحديد أي حد المواضع للإِحرام. ويحتمل أن يراد [به] (¬3) تعليق الإِحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة. ومعنى توقيت هذه الأماكن [للإِحرام أنه لا يجوز مجاوزتها] (¬4) لمريد الحج أو العمرة إلاَّ محرماً [وإن لم يكن في لفظة "وقت" من حيث هي هي تصريح بالوجوب] (¬5) فالحديث الثاني في الباب لفظه [يهل أهل المدينة] (¬6) وهي صيغة خبر يراد به الأمر وثبت في ¬

_ = (5/ 122)، وأبو داود (1737)، والنسائي في الكبرى (2/ 329، 330)، والدارمي (2/ 30)، وأحمد (1/ 249، 232، 239، 252، 238، 344)، والدارقطني (2/ 237، 238)، وابن الجارود (169)، والبيهقي (5/ 43)، وابن خزيمة (4/ 158)، والبغوي (7/ 36). (¬1) في ن هـ (أحدها). (¬2) في إحكام الأحكام (3/ 457): (التوقيت). (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 457): (بذلك). (¬4) بياض بالأصل، والتصحيح من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬5) في الأصل بياض، والتصحيح من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬6) في ن هـ (مهل). وسيأتي تخريجه بعد هذا.

"صحيح مسلم" أيضاً لفظ الأمر (¬1). قال الخطابي (¬2): وقد أجمعوا على أنه لو أحرم دونها حتى يوافي الميقات محرماً أجزأه وليس كتحديد مواقيت الصلاة فإنها إنما ضربت حداً لئلا تقدم الصلاة عليها. قلت: [...] (¬3) وأطلق جماعة من الشافعية الكراهة على تقديم الإِحرام على الميقات. واختلف آخرون منهم في أفضليته: والأصح عند الأكثرين منهم أنه أفضل. ومذهب مالك: أيضاً كراهة تقديم الإِحرام على الميقات زماناً ومكاناً ويلزم إن فعل (¬4). ثانيها: في ضبط الأماكن الواقعة في هذا الحديث. الأول: "المدينة": زادها الله شرفاً لها اثنان وعشرون اسماً (¬5) أوضحتها في "لغات المنهاج" فراجعها منه. وذكر ابن النجار في ¬

_ (¬1) مسلم (1182)، ولفظه من رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة ... " الحديث. (¬2) معالم السنن (2/ 282). (¬3) في ن هـ زيادة (وقد). (¬4) هكذا في المخطوطة والكلام مبتور وتمامه (دم) حسب الاطلاع على المراجع. (¬5) في ن هـ (وأكثر).

"تاريخ المدينة" (¬1) عن عبد العزيز بن محمد بن موسى بن عقبة قال: بلغني أن لها في التوراة أربعين اسماً وقد قدمنا في باب الجنابة (¬2) في الحديث الثاني منه الاختلاف في اشتقاقها فراجعها من ثم. الثاني: "ذو الحليفة": بالحاء المهملة المضمومة وفتح اللام: [لبني جشم بينهم وبين خفاجة] (¬3) على ستة أميال، وقيل: سبعة من المدينة [وذكره] (¬4) القاضي عياض (¬5) والقرطبي (¬6): وقيل: أربع، [ووقع في الرافعي] (¬7) أن بينها وبين المدينة ميل وهو غريب لكنه لم ينفرد به فهو كذلك في "الشامل" و"البحر" وهو [من مكة] (¬8) عشر مراحل أو تسع فهو أبعد المواقيت منها. وأما ذو الحليفة [الذي في] (¬9) حديث رافع بن خديج فهو ¬

_ (¬1) أورده الزركشي في "إعلام الساجد" (235)، والسيوطي في "الحجج المبينة في التفضيل بين مكة والمدينة" (24)، وقد ذكر الصالحي في كتابه فضائل المدينة (ص 39) سبعة وتسعين اسماً. (¬2) (2/ 15) من هذا الكتاب المبارك إن شاء الله. (¬3) الإِضافة من ن هـ، وأيضاً في معجم البلدان لياقوت (2/ 295)، وجاء فيه: من مياه جُشم. وزيادة (بني) قبل (خفاجه). (¬4) في الأصل (إلا)، والإِضافة من ن هـ. (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 297). (¬6) المفهم (3/ 262). (¬7) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬8) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬9) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. قال ياقوت في معجم البلدان (2/ 296)، ولفظه: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، =

موضع من تهامة نحو ذات عرق فليس بالمهل. الثالث: "الشأم" بالهمز والقصر على الأفصح ويذكر [ويؤنث] (¬1) وقد قدمنا ذلك في باب الاستطابة (¬2) مع سبب تسميته وحده طولاً وعرضاً فراجعه من ثم. الرابع: "الجحفة": -بضم الجيم ثم حاء مهملة ساكنة- قرية جامعة تمتد على طريق المدينة من مكة على سبعة مراحل أو ثمان من المدينة وثلاث من مكة قاله النووي (¬3)، وقال المحب الطبري: أربعة، وقال الرافعي: هي على خمسين فرسخاً. وقال ابن الحاج المالكي: على ثلاثة أيام. سميت بذلك: لأن العمالق أخرجوا إخوة عادٍ من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجحفهم فسميت الجحفة. والإِجحاف: الاستئصال. ويقال لها: مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء. وحكى القاضي عن بعضهم (¬4): كسرها كجميلة وهي على ستة أميال من البحر. ¬

_ = بذي الحليفة من تهامة فأصبنا نهب غنم"، وفي المعجم خطأ مطبعي (مهد)، بدل: (مهل). والحديث أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968)، وسيأتي تخريجه كاملاً في الأطعمة إن شاء الله برقم (405). (¬1) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬2) (1/ 451) من هذا الكتاب المبارك إن شاء الله. (¬3) شرح مسلم (8/ 81). (¬4) ذكره عنه النووي في شرح مسلم (8/ 81).

وذكر قاسم بن ثابت (¬1): أن مهيعة قريبة من الجحفة حكاه القاضي وهو غريب فقد فسرت في الحديث بأنها الجحفة وهي ميقات أهل مصر و [كذلك، (¬2) المغرب وكذا الشام إن لم يمروا بميقات المدينة وهذا علم من أعلام نبوته أعني توقيته لأهل الشام الجحفة قبل أن يفتح الشام وكذا توقيته لأهل مصر أيضاً كما أخرجه النسائي (¬3) من حديث عائشة وتوقيته الجحفة لأهل المغرب رواه الشافعي مرسلاً (¬4) ويعضده الإِجماع على مقتضاه. الخامس: "نجد" بفتح النون وهو ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحده من المغرب الحجاز. والنجد: اسم للمكان المرتفع ويسمى المنخفض غوراً. قال صاحب المطالع: ونجد كلها من عمل اليمامة. السادس: "قرن المنازل": وهو بفتح القاف وسكون الراء، ويقال: له قرن الثعالب (¬5) وروى في الصحيح غير مضاف وهو ¬

_ (¬1) هو أبو محمد قاسم بن ثابت بن عبد العزيز العوفي السرقسطي المتوفى سنة (302)، له كتاب في شرح غريبه اسمه "الدلائل" ترجمته في طبقات النحويين واللغويين للزبيدي (284)، ونفح الطيب (2/ 49)، وسير أعلام النبلاء (14/ 562) ضمن ترجمة والده. (¬2) زيادة (كذلك) من ن هـ. (¬3) النسائي (5/ 123). (¬4) مسند الشافعي (114). (¬5) في ن هـ زيادة (وهو معروف). وكانت فيه وقعة لغطفان على بني عامر يقال له: (يوم أقرن). اهـ. لسان العرب (11/ 143).

موضع تلقاء مكة على يوم وليلة منها (¬1) من أقرب المواقيت إليها وفتح بعضهم راءه وهو خطأ كما قال القاضي (¬2). وقال القرطبي: الإِسكان أعرف قالا وقال [الفاسي] (¬3): من قاله بالإِسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن فتح أراد الطريق (¬4) [تفرق منه فإنه موضع فيه طرق مختلفة] (¬5). وقال النووي (¬6): لا خلاف في إسكان الراء بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والأسماء وغيرهم، [وغلط] (¬7) الجوهري في "صحاحه" فيه غلطين فاحشين فقال القرن: موضع وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني بفتح راءه وزعم أن أويساً منسوب إليه، والصواب إسكان الراء فإن أويساً منسوب إلى قبيلة معروفة يقال لهم بنو قرن [لبطن] (¬8) من مراد أي كما بين في الحديث ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (وهو). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 297). (¬3) وهو أيضاً في حاشية إحكام الأحكام (3/ 459)، أما في مشارق الأنوار (2/ 199)، ومعجم البلدان (4/ 332): القابسي، وأيضاً في المفهم (3/ 262). (¬4) في ن هـ (الذي لا). (¬5) العبارة في مشارق الأنوار: (التي تفترق منه فإنه موضع فيه طرق مفترقة) (2/ 199)، وأما في معجم البلدان (4/ 332): (الذي يفترق منه فإنه موضع منه طرق مختلفة مفترقة). (¬6) شرح مسلم (8/ 81). (¬7) في ن هـ (غلطوا). انظر: مختار الصحاح (224). (¬8) في ن هـ ساقطة.

الذي فيه ذكر طلب عمر [له] (¬1). قلت: فتلخص أن الصواب في المكان الإِسكان ولا خلاف في أن القبيلة التي يُنسب إليها أويس القرني بالفتح كما نبه الحفاظ كالدارقطني (¬2) والسمعاني (¬3) وابن حبيب (¬4) وغيرهم ومنهم الصاغاني (¬5)، حيث قال: الصواب في الميقات سكون الراء فأما أويس فهو منسوب إلى قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد. السابع: "اليمن" هو الإِقليم المعروف سمى يمناً لأنه عن يمين الحجر الأسود والشام عن شماله والحجر الأسود مستقبل مطلع الشمس. قال صاحب المطالع: اليمن كلما كان عن يمين الكعبة من بلاد الغور واليمامة: مدينة اليمن على يومين من الطائف، وعلى أربعة من مكة ولها عمائر قاعدتها حجر اليمامة وهي من عداد أرض نجد، وتسمى العروض بفتح العين وقال السمعاني: في "أنسابه" (¬6) اليمني نسبة إلى اليمن وبلاد اليمن بلاد عريضة كبيرة وقد ورد في فضائلها أحاديث عديدة قد ذكرتها في "النزاع إلى الأوطان" وإنما ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) المؤتلف والمختلف (1921). (¬3) تهذيب الأنساب (3/ 29). (¬4) مختلف القبائل (365، 366). (¬5) ذكره ابن ناصر في توضيح المشتبه (7/ 189). (¬6) تهذيب الأنساب (3/ 417).

قيل لها اليمن لأنها يمين الأرض كما أن الشمال شمال الأرض وينسب إلى اليمن أيضاً يماني. الثامن: "يلملم" بفتح الياء المثناة تحت واللامين والميم ساكنة منها ويقال: فيه ألملم بهمزة بدل الياء وهو الأصل فإن الياء بدل منها وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة قاله الرافعي وغيره، وقال البكري: على ليلتين. وحكى ابن السيد أنه يقال: فيه يرمرم (¬1) برآين. قال صاحب "الذخيرة": ويلملم أيضاً ميقات بعض أهل المغرب. واعلم: أن المراد بأن يلملم ميقات أهل اليمن أنها ميقات تهامة خاصة فإن نجد اليمن ميقاتهم ميقات نجد الحجاز. التاسع: "مكة" شرفها الله تعالى لها اثنان وعشرون اسماً ذكرتها موضحة في "لغات المنهاج" فراجعها منه. الوجه الثالث: من الكلام على الحديث هذا التوقيت متفق عليه لأرباب هذه الأماكن والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة على وجوب الدم على مجاوزها (¬2) خلافاً لعطاء، والنخعي فإنهما قالا لا شيء على تاركها ووقع في "شرح الفاكهي" بدل "النخعي" "الأصمعي" كذا رأيته في نسختين منه والذي في "شرح القاضي (¬3) عياض" ¬

_ (¬1) معجم البلدان (5/ 433). (¬2) الاستذكار (11/ 83). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 298).

و"النووي" (¬1) و"أحكام المحب الطبري": النخعي ليس إلاَّ. وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجه. ودليل الجمهور مأخوذ من غير هذا الحديث إذ ليس في لفظه ما يشعر به. وقول سعيد ابن جبير له إلمام بهذا الحديث من وجه وكان يحتاج إلى مقدمة أخرى من حديث آخر أو غيره، وقد روى مالك في "الموطأ" عن ابن عباس "من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً" (¬2). فرع: لو أحرم ثم عاد إلى الميقات فالأصح عند الشافعية أنه إن كان قبل تلبسه بنسك فلا دم وإلاَّ فيجب وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف. وقال مالك وأبو حنيفة: لا ينفعه رجوعه وعليه دم. وقال زفر: عليه دم رجع أو لم يرجع (¬3). فرع: من بلغ ميقاتاً غير مريد نسكاً ثم أراده فميقاته، [موضعه ولا يكلف الرجوع إلى الميقات على قول الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة] (¬4) خلافاً لأحمد وإسحاق (¬5). ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 82). (¬2) الموطأ (913)، وسنن البيهقي (5/ 30، 152). (¬3) انظر: للمسألة الاستذكار (11/ 84). (¬4) الزيادة من ن هـ. (¬5) الاستذكار (11/ 85، 86).

الوجه الرابع: قوله: "هن" يريد المواقيت. وقوله: "لهن" يريد الأماكن المذكورة، وإن كان المراد أهلها فهو من واوي قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬1) وكان الأصل أن يقول: هن لهم لأن المراد الأهل وقد جاء ذلك في بعض روايات البخاري ومسلم وكذا رواه أبو داود وغيره. قال القاضي (¬2): وهو الوجه لأنه ضمير أهل هذه المواضع المذكورة وكذا ذكره مسلم في رواية ابن أبي شيبة قال: ووجه الرواية المشهورة [أن الضمير في "لهن" عائد على الأماكن المذكورة أي المواقيت لأهلها] (¬3) فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه [قلنا هذه القاعدة من النفائس] (¬4). الخامس: "هن" ضمير جماعة المؤنث العاقل في الأصل وقد يعاد على ما لا يعقل وأكثر ما يستعمله العرب فيما دون العشرة وما جاوزها استعملته بالهاء والألف قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (¬5) أي من الاثني ثم قال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي في هذه الأربعة وقيل: في الجميع حكاه القاضي وهو شاذ. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: آية 82. (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 298). (¬3) في ن هـ ساقطة. انظر: شرح مسلم (9/ 83)، وذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 298). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) سورة التوبة: آية 36.

السادس (¬1): قوله "ولمن أتى عليهن من غير أهلهن" مقتضاه أنه إذا مر بهن من ليس هن ميقاته أن يحرم منهن ولا يجاوزهن غير محرم كالشامي يمر بميقات المدني فيلزمه الإِحرام منه ولا يتجاوزه إلى الجحفة التي هي ميقاته وكذا الباقي وهذا لا خلاف فيه عند الشافعية. وأما المالكية: فإنهم نصوا على أن له مجاوزته إلى الجحفة وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور ومن أطلق من مصنفي الشافعية أنه لا خلاف فيه فمراده مذهبه حكى بعضهم أن ابن الرفعة حكاه وجهاً عن الفوراني فليحرر [نبه عليه الشيخ تقي الدين وكأنه أراد ببعض المصنفين النووي (¬2) فإنه نقله غير واحد عنه] (¬3) ولا شك أن قوله: "ولمن أتى عليهن" عام فيمن أتى عليهن سواء كان ميقات بلده أو غيره كأهل الشام والجحفة إذا مروا بين يدي هذه المواقيت ومن لم يمر بين يديها. وقوله: "ولأهل الشام الجحفة" عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أيضاً فإن قلنا بالعموم الأول دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة فيلزمه أن يحرم منها وإذا عملنا بالعموم الثاني وهو أن لأهل الشام الجحفة دخل تحته هذا المار أيضاً بذي الحليفة فيكون له التجاوز إليها فلكل واحد منها عموم من وجه فكما يحتمل ¬

_ (¬1) الاستذكار (11/ 84). (¬2) انظر: شرح مسلم (9/ 83). (¬3) الزيادة من ن هـ.

أن يقال: [لمن أتى عليهن من غير أهلهن مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه] (¬1) ولأهل الشام الجحفة مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت. فرع: يستثني الأجير يحرم من ميقات مستأجره لا ما مر به حكاه ابن الرفعة عن الفوراني بزيادة إنه يحرم أيضاً مما [بإزائه] (¬2) الأبعد من مكة وأقره عليه. السابع: قوله "ممن أراد الحج والعمرة" مقتضاه تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما أولهما وأنه إذا لم يرد واحد منهما لا يلزمه الإِحرام وله التجاوز غير محرم فيستدل به على أنه لا يلزمه الإِحرام لمجرد دخول مكة وهو الصحيح من قولي الشافعي فيمن قصد مكة لا لنسك لكن هذا الاستدلال أولاً يتعلق بأن المفهوم له عموم من حيث أن مفهومه أن لا يريد حجاً ولا عمرة ولا دخول مكة وأن لا يريدهما [وقد] (¬3) يريد الدخول وفي عموم المفهوم نظر (¬4) في الأصول وعلى تقدير أن يكون له عموم فإذا دل الدليل على وجوب الإِحرام لدخولها وكان ظاهر الدلالة لفظاً قدم على هذا المفهوم لأن ¬

_ (¬1) الزيادة من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) قال الغزالي في المستصفى (2/ 70): المفهوم لا عموم له، لأن العموم لفظٌ تتشابه دلالته إلى مسمياته، ودلالة المفهوم ليست لفظية، فلا يكون لها عموم. اهـ. وقد ناقش الرازي كلامه في المحصول (1/ 2/ 654) ورجح أن للمفهوم عموم.

المقصود بالكلام حكم الإِحرام بالنسبة إلى هذه الأماكن ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة والعموم إذا لم يقصد فدلالته ليست بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ. الثامن: قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" استنبط منه بعضهم أن الحج على التراخي لقوله: "ممن أراد" لأن من مر بهذه المواقيت لا يريد حجاً ولا عمرة يدخل تحته من لم يحج فيقتضي اللفظ أنه لا يلزمه الإِحرام من حيث المفهوم ولو وجب على الفور للزمه أراد الحج أو لم يرده وفيه من الكلام ما سلف في الوجه السابع، وقد قدمنا الخلاف في وجوبه على الفور أو التراخي أول الباب. ومن قال بالفورية قال: معنى الإِرادة هنا النية لا التخيير وأنها [قد تأتي] (¬1) للوجوب. واستدل من قال بالتراخي: بأن فريضة الحج كانت سنة خمس أو ست أو ثمان من الهجرة على أقوال في ذلك ولم يحج - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ في سنة عشر فلو كان واجباً على الفور لم يؤخره وأبعد من قال إنه فرض سنة عشر حكاه القرطبي وحكى قولاً آخر: أنه فرض سنة سبع ونقل أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬2) نزلت سنة ثلاث عام أحُد وقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬3) مكية. التاسع: قوله: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" مقتضاه ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، والإِضافة من ن هـ. (¬2) سورة آل عمران: آية 97. (¬3) سورة الحج: آية 27.

أن من منزله ببن مكة والميقات إذا أنشأ السفر للحج أو للعمرة فميقاته منزله ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت. ونقل القاضي [عياض] (¬1) عن مجاهد أن ميقاته مكة قال والجمهور: على أن ميقاته موضعه فإن لم يحرم منه كتارك ميقاته. العاشر: قوله: "حتى أهل مكة من مكة" مقتضاه أن أهل مكة يحرمون منها وهو مخصوص بالإِحرام بالحج وميقاته نفس مكة على الصحيح عند الشافعية. وقيل: كل الحرم وظاهر الحديث يخالفه والأفضل أن يحرم من باب داره. وقيل: من المسجد تحت الميزاب. وعبارة ابن الحاجب من المالكية: في تعيين المسجد الحرام قولان. قال بعض شيوخ المالكية: ممن [أدركناه] (¬2) وأظن هذا على الأولوية لا على الوجوب إذ لا دليل عليه. أما الإِحرام بالعمرة فإنه من أدنى الحل كما فعل -عليه الصلاة والسلام- بعائشة -رضي الله عنها- ليلة النفر فإنه بعثها مع أخيها ¬

_ (¬1) الزيادة من ن هـ. انظر: الاستذكار (11/ 87)، وذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 298)، وشرح مسلم (9/ 83). (¬2) في الأصل ون ب (أدركته)، وما أثبت من ن هـ.

عبد الرحمن ليحرما من التنعيم ويدخل في أهل مكة من بمكة ممن ليس من أهلها. الحادي عشر: في الحديث دلالة على فضيلة مكة والحرم والحج والعمرة من حيث شرعت هذه المواقيت والإِحرام: لمن أراد دخولها تشريفاً وتعظيماً أو تلبس بهما أو بأحدهما. الثاني عشر: لم يذكر في هذا الحديث ميقات أهل المشرق وميقاتهم ذات عرق كما رواه النسائي (¬1) من حديث عائشة، ورواه مسلم (¬2) من حديث أبي الزبير عن جابر لكنه لم يجزم برفعه وتضعيف الدارقطني (¬3) له بأن العراق لم تكن فتحت في زمنه -عليه الصلاة والسلام- عجيب منتقض بتوقيته -عليه الصلاة والسلام- لأهل الشام الجحفة ولم تكن فتحت بل حكى ابن بزيزة إجماع النقلة على أنها كانت دار كفر وكذا مصر لم تكن فتحت كما أسلفنا وأن هذا من أعلام نبوته -عليه أفضل الصلاة والسلام- وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بفتحها. نعم اختلف العلماء هل هذا الميقات بنص منه - صلى الله عليه وسلم - أو باجتهاد عمر (¬4) كما بينه البخاري في صحيحه (¬5) كذا نقله عن تصحيح ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 123). (¬2) مسلم (1183)، وانظر: كلام ابن حجر في الفتح (4/ 389، 390). (¬3) الإِلزامات والتتبع (477، 555)، والفتح (4/ 390). (¬4) في ن هـ زيادة: (وهو وجهان لأصحاب الشافعي أصحهما وهو المنصوص في الأم أنه باجتهاد عمر). (¬5) الفتح (4/ 389)، والاستذكار (11/ 76، 79).

أصحابنا وعن نص الشافعي "الأم" (¬1) والنووي في "شرح مسلم" (¬2) وخالف في "الروضة" تبعاً للرافعي أن ميل الأكثرين إلى أنه منصوص عليه كالمواقيت الأربعة. وقال الرافعي في "الشرح الصغير" إنه الأرجح نعم خالف في "شرح المسند" فقال: إن مذهب الشافعي أنه باجتهاد عمر ولم يحك فيه خلافاً. فرع: الأفضل لأهل المشرق أن يهلوا من العقيق وهو واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق بالقرب منها وقد ورد في حديث أنه ميقاتهم في حديث فيه مقال (¬3) ولو صح لوجب فالجمع بينهما للاحتياط أولى لأن من أحرم منه كان محرماً منها ولا عكس وروى ¬

_ (¬1) (2/ 138). (¬2) (9/ 86). (¬3) الحديث أخرجه أبو داود (1665) في المناسك، باب: في المواقيت، والترمذي (832) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وقت لأهل المشرق العقيق"، فقد تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وإن كان حفظه فقد جمع بينه وبين حديث جابر وغيره بأجوبة منها: أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق، ومنها: أن العقيق ميقات لبعض العراقيين وهم أهل المدائن، والآخر ميقات أهل البصرة، وفتح ذلك في حديث أنس عند الطبراني وإسناده ضعيف، ومنها: أن ذات عرق كانت أولاً في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة فعلى هذا فذات عرق والعقيق شيء واحد. ويتعين الإِحرام من العقيق ولم يقل به أحد، وإنما قالوا يستحب احتياطاً. اهـ. من الفتح (4/ 390). انظر: كلام الخطابي وابن القيم -رحمنا الله وإياهم- على الحديث، في معالم السنن (2/ 283).

عن بعض السلف أنهم يهلوا من الربذة [حكاه القرطبي] (¬1). الثالث عشر: في الحديث دلالة أيضاً على جواز إطلاق الميقات على الأمكنة وإن كان أصله في الأزمنة ولهذا قال الفقهاء: للحج والعمرة ميقاتان زماني ومكاني وبينوا كل واحد منهما. الرابع عشر: نقل القاضي عن [بعض] (¬2) علمائهم أن في المواقيت حجة لنا أن أقل ما يقصر فيه الصلاة ويسمى سفراً مسافة يوم وليلة لأنه أقل مقادير المواقيت [لأهل الآفاق المسافرين حتى يمر لهم سفر وهم محرمون لأن قرن أقرب المواقيت] (¬3) من مكة وهو على يوم وليلة منها. الخامس عشر: قال أيضاً في الحديث رِفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته لأنه جعل المواقيت لأهل الآفاق بالقرب ولأهل المدينة أبعد منهم لما كانوا أقرب من أهل الآفاق إلى مكة. فلا تلحقهم من مشقة [طول] (¬4) السفر ما يلحق غيرهم فلهذا بعدها وقرب تلك. وقال ابن حزم: إنما جعل ذلك لتعظيم أجره -عليه الصلاة والسلام-. ... ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. قال في الفتح (4/ 390): وحكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه كان يحرم من الربذة وهو قول القاسم بن عبد الرحمن وخصيف الجزري. اهـ. (¬2) الزيادة من ن هـ. انظر: إكمال إكمال المعلم (3/ 300). (¬3) الزيادة من ن هـ. (¬4) الزيادة من ن هـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 212/ 2/ 41 - عن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما] (¬1)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن" (¬2). قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويهل أهل اليمن من يلملم". قد قدمنا الكلام على هذا الحديث في الحديث الذي قبله وأن قوله: "يهل" إلى آخره صيغة خبر يراد بها الأمر وهو أبلغ إذ الخبر من حيث موضوعه لا يتصور فيه الخلف بخلاف الأمر [فذكره له بصيغة الخبر توكيد] (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ: ساقطة. (¬2) مالك في الموطأ (1/ 330، 331)، البخاري أطرافه في الفتح (133)، مسلم (1182)، أبو داود (1737)، في المناسك: باب في المواقيت، الترمذي (831)، النسائي (5/ 22)، النسائي في الكبرى (2/ 3201)، ابن ماجه (1914) , أحمد (2/ 3، 47، 48)، الدارمي (2/ 29، 30)، الطحاوي (2/ 118)، البيهقي (5/ 26)، البغوي (1858). (¬3) في الأصل: فذكر الأمر بصيغة الأمر توكيد. وما أثبت من ن هـ.

وقدم المصنف حديث ابن عباس [عليه] (¬1) لأن فيه التصريح بميقات أهل اليمن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف حديث ابن عمر فإنه لم يحفظه بل بلغه بلاغاً وإن كان ابن عمر أحفظ وأضبط لأحاديث المواقيت والمناسك فإنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وضبط أماكن نزوله وصلاته [فيها] (¬2) وتتبعها بعده وصلَّى فيها اقتداء وتبركاً (¬3). ووقع في "شرح الشيخ تقي الدين" (¬4) أن ابن عباس ذكر سماعه لميقات اليمن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتبعه الفاكهي وغيره، وليس في الحديث دلالة على ذلك فتأمله، بل أحاديثه التي صرح فيها بالسماع قليلة كما ذكرت عدها في باب الاستطابة (¬5). فروع: قال بعض المتأخرين من المالكية: اختلف العلماء في الرجل يجاوز ميقاته إلى ميقات آخر أقرب إلى مكة. فالمنصوص عن مالك وجوب الدم (¬6). ¬

_ (¬1) في ن هـ: ساقطة. (¬2) في ن هـ: ساقطة. (¬3) هذا الفعل وهو التبرك بآثار ومواضع مرور النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مشروع، ولم يأتِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بذلك ولم يفعله الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة ولذلك لما سمع عمر -رضي الله عنه- أن أناساً يرتادون شجرة بيعة الرضوان قطعها خشية الافتتان بها والتبرك بها. (¬4) إحكام الأحكام (3/ 468). (¬5) (1/ 508) من هذا الكتاب المبارك. (¬6) الاستذكار (11/ 83)، وبداية المجتهد (1/ 314).

ولأصحابه: قولان: وبالوجوب قال الشافعي (¬1): وبالسقوط قال أبو حنيفة (¬2): والصحيح عندهم في المريض يكون من أهل المدينة أنه يجوز لأن يؤخر إحرامه إلى الجحفة لأنها أقرب إلى مكة وقد قدمنا عنهم أن الشامي إذا مر بالمدينة أن يترك الإِحرام من ذي الحليفة إلى الجحفة وعلله القرطبي في "مفهمه" (¬3) بأن الجحفة ميقات منصوب نصباً عاماً لا يتبدل. واختلف العلماء فيمن أفسد حجه من أين يقضيه؟ فعند الحسن بن حي والثوري: من الميقات. وعند أبي حنيفة وأصحابه: أنه مخير. وعند الشافعية تفصيل ذكرته في كتب الفروع (¬4). خاتمه: لا يشترط أعيان هذه المواقيت بل ما يحاذيها في معناها والأفضل في كل ميقات أن يحرم في طرفه الأبعد من مكة، ولو أحرم من طرفه الآخر جاز. فائدة: ما الحكمة في كون المواقيت المذكورة بعضها أقرب من بعض. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 475). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 164)، واللباب (1/ 178). (¬3) (3/ 264). (¬4) الاستذكار (11/ 86).

فالجواب ما ذكره القرافي أنه يروي أن الحجر الأسود كان له نور يصل آخره إلى هذه [المواقيت] (¬1) فمنع الشرع من مجاوزتها لمن أراد النسك تعظيماً لتلك" [الآيات] (¬2) لكن الذي ذكره أصحابنا أن نور الحجر حيث انتهى كان حداً للحرم لا للميقات، فإنه لما أُهبط إلى الأرض أضاء نوره شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً، فكان حد الحرم حيث انتهى نوره. وسبب تقارب الحرم من البيت وبعده أن آدم -عليه الصلاة والسلام- لما أُهبط إلى الأرض خاف الشيطان فأنزل الله تعالى ملائكة تحرسه، فحيث وقفت من كل جانب كان ذلك حده منه. وقيل: أنزلت خيمة من الجنة فضربها ووقفت الملائكة من ورائها تحرسه فالحرم موقف الملائكة (¬3). ... ¬

_ (¬1) في الأصل الميقات، والتصحيح من ن هـ. (¬2) في ن هـ: آثار (¬3) انظر: أخبار مكة للأزرقي (2/ 127، 128).

42 - باب ما يلبس [المحرم] من الثياب

42 - باب ما يلبس [المحرم] (¬1) من الثياب أي وصفة التلبية، ومنع سفر المرأة إلاَّ بزوج أو محرم كما ذكره في آخره، ومجموع ما ذكره فيه أربعة أحاديث: [الحديث] (¬2) الأول 213/ 1/ 42 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلاً قال: "يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلاَّ أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل (المحرومون)، والتصحيح من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري أطرافه الفتح (134)، ومسلم (1177)، وأبو داود (1824) في المناسك، باب: ما يلبس المحرم، والنسائي (5/ 131، 134)، وابن ماجه (2929، 2932)، والحميدي (627)، والطيالسي (1806، 1839)، وابن خزيمة (2599، 2601)، وابن الجارود (461)، والترمذي (833)، والدارقطني (2/ 230)، وأحمد (2/ 29، 32، 77، =

وللبخاري "ولا تنتقب [المرأة]، ولا تلبس القفازين" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا [السائل] (¬2) لم أقف على اسمه بعد البحث عنه وفي رواية لأحمد (¬3) "أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على هذا المنبر"، وذكر معناه. وفي رواية للدارقطني (¬4): "أن رجلاً نادى في المسجد ما يترك المحرم من الثياب". الثاني: في ألفاظه: الأول: "الثياب"، وقد قدمنا في باب جامع (¬5) أن الثوب لغة غير المخيط كالرداء والإِزار وأنه يطلق على المخيط كالقميص وغيره. [الثاني] (¬6): "القمص": جمع قميص وهو معروف، يقال: تقمصت القميص إذا لبسته وتقمصت الأمر استعارة إذا دخلت فيه. ¬

_ = 119)، والبيهقي (5/ 49، 50)، والطحاوي (2/ 135)، ومالك (677). (¬1) البخاري (1838). في الفتح (المحرمة)، بدل: (المرأة). (¬2) في الأصل التأويل، والتصحيح من ن هـ. (¬3) المسند (2/ 32). (¬4) الدارقطني (2: 230) ومثله عند أحمد (2/ 29)، ولكن دون (في المسجد). (¬5) (3/ 396). (¬6) الزيادة من ن هـ.

[الثالث] (¬1): "العمائم": جمع عمامة وهو ما يلف به الرأس، سميت: بذلك لأنها تعم جميع الرأس بالتغطية. الرابع "السراويلات": جميع سراويل وهي مؤنثة عند الجمهور، وقيل: مذكر والجمهور على أنها أعجمية معربة (¬2). وقيل: عربية والجمهور على أنها مفردة وجمعها سراويلات. وقيل: سراويل جمع سروالة. ويقال: [فيها] (¬3) سراوين بالنون وبعض الأعراب تقول شروال بالشين المعجمة، ويقال: سرولته مسترول أي ألبسته السراويل والأكثرون على أنه لا ينصرف إذا كان نكرة، وقيل: ينصرف. الخامس: "البرانس": جمع برنس بضم الباء والنون وهو كل ثوب رأسه ملتصق به دراعة أو جبة أو غيرهما. وقال [ابن زيد] (¬4)، البرنس: بضم الباء نوع من الطيالسة يلبسه العباد وأهل الخير حكاه صاحب "المطالع"، وقال الجوهري (¬5): هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإِسلام وهو من [البرنس] (¬6) بضم الباء وهو القطن والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربي. ¬

_ (¬1) الزيادة من ن هـ. (¬2) انظر: المغرب تح أحمد شاكر (196)، والجمهرة لابن دريد (3/ 487). (¬3) في ن هـ (فيه). (¬4) في ن هـ (ابن دريد). (¬5) في التهذيب (93/ 155)، وانظر: لسان العرب (1/ 393). (¬6) في ن هـ (برانس).

السادس: "الخفاف" جمع: خف وتجمع على أخفاف أيضاً ذكره صاحب "المطالع" وهو معروف. السابع: "الزعفران": نبت يكون باليمن وورد في الحديث ذكره كثير. الثامن: "الورس": نبت أصفر تصبغ به الثياب معروف، الحديث "ثياب ورسية"، و"ملحفة ورسية" (¬1) أي مصبوغة به. وقال ابن العربي: الورس نبات يزرع في اليمن زرعاً ولا يكون بغيره ولا يكون قوياً نباته مثل السمسم [فإذا جف] (¬2) تفتقت خرائطه [فينفض] (¬3) فينتفض منه الورس أحمر يزرع سنة فيقيم بالأرض عشر سنين ينبت وينمو وأَجوده حديثه يقال: أورس فهو وارس وتورس لغة ضعيفة. وقال أبو حنيفة الدينوري: لا ينبت الورس إلاَّ باليمن، وكذا نقله السهيلي عنه. وقال ابن البيطار: في "جامعه" (¬4) يؤتى بالورس من الصين، واليمن، والهند وليس هو بنبات يزرع كما زعم من زعم قال: وهو يشبه زهر العصفر ومنه شيء يشبه نشارة البابونج، ومنه شيء يشبه البنفسج، ويقال: إن الكركم عروقه. ¬

_ (¬1) لسان العرب (15/ 270). (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬3) الزيادة من لسان العرب (15/ 270). (¬4) (2/ 493، 494).

ووقع في "الجيلي" أن الورس هو العُصفر وهو غلط فإنه غيره. وعبارة البغوي والرافعي: هو شجر يُخرج شيئاً كالزعفران. التاسع: "القفاز": بضم القاف وتشديد الفاء تلبسه نساء العرب في أيديهن تغطي الأصابع والكف والساعد من البرد محشي بقطن ويكون له أزرار تزرُّ على الساعدين، وهما قفازان. وقيل: هو ضرب من الحلى تتخذه المرأة ليديها. العاشر: معنى: "لا تنتقب المرأة" أي لا تستر وجهها لأجل إحرامها. والنقاب: شد الخمار على الأنف. وقيل: على المحجر. الوجه الثالث: في أحكامه وفوائده: الأول: الأصل في الجواب المطابقة والزيادة المقيدة عليها حسنة ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)} (¬1) فهذا هو الجواب المطلق، ثم زاد: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} الآية. ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} (¬2). فقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} جاء بعد المطابقة أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا ¬

_ (¬1) سورة طه: آية 17. (¬2) سورة الشعراء: آية 24.

أولى ما توقنون به لظهوره وإثارة دليله وهذا السائل سأل عما يلبس فأجابه -عليه الصلاة والسلام- بما لا يلبس وهو من بديع الكلام وجزله فإن المسؤول عنه غير منحصر إذ الأصل الإِباحة، فأجاب بالمنحصر الذي كان من حق السؤال أن يقع به على أن سفيان رواه مرة عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يترك المحرم من الثياب، فقال: الحديث كما رواه الإِمام أحمد (¬1) في مسنده [وأبو داود والدارقطني في سننه] فجاء على الأصل. الثاني: الألف واللام في "المحرم" للجنس، ولذلك جمع -عليه الصلاة والسلام- القمص وما بعدها, ولو أريد المحرم الواحد لقيل: ولا يلبس قميصاً ولا عمامة، ونحو ذلك بالإِفراد وإن كان في بعض الروايات إفراد القميص. الثالث: الإِجماع قائم على أن ما ذكر لا يلبسه المحرم وعداه القياسيون إلى ما وراه في معناه وأنه -عليه الصلاة والسلام-[نبه] (¬2) بكل واحد من المذكورات على ما في معناه، فنبه بالقميص والسراويل على كل مخيط أو مخيطة معمول على قدر البدن أو عضو منه كالجوشن والتبان وغيرهما، ونبه بالعمائم والبرانس على كل ساتر الرأس مخيطاً [كان] (¬3) أو غيره حتى العصابة فإنها حرام، فإن ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 4، 8)، وأبو داود (1749) في المناسك، باب: ما يلبس المحرم، والدارقطني (2/ 232)؛ ما بين القوسين زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة.

احتاج إليها لصداع أو شجة ونحوها شدها ولزمته الفدية، ونبه بالخفاف على كل ساتر من مداس وجورب وغيرهما ونبه بالزعفران والورس على كل طيب فيحرم على كل محرم رجلاً كان أو امرأة جميع أنواع الطيب الذي يقصد له [أما] (¬1) ما لا يقصد له كالأترج والتفاح وأزهار البراري كالقيصوم ونحوه فليس بحرام لأنه لا يقصد للطيب. أما المرأة: فإنه يباح لها ستر جميع البدن بكل ساتر إلاَّ وجهها وكفيها بغير القفازين وكذا بها في أظهر القولين عن الشافعي لرواية البخاري المذكورة. وعن أبي حنيفة: جوازه بهما لأن سعد بن أبي وقاص كان يأمر بناته بلبسهما في الإِحرام. الرابع: السر في تحريم هذه المذكورات على المحرم ما فيها من الترفه والتزين ليتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكر به الموت والأكفان والبعث حفاة عراة مهطعين إلى الداعي. الخامس: لفظ: "المحرم" يتناول من أحرم بالحج والعمرة معاً أو بأحدهما، والإِحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما، قال الشيخ تقي [الدين] (¬2): وقد كان شيخنا العلامة ¬

_ (¬1) الزيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة.

أبو محمد بن عبد السلام -رحمه الله- يستشكل معرفة حقيقة الإِحرام (¬1) جداً ولبحث فيه كثيراً، وإذا قيل له أنه النية اعترض عليه بأن النية شرط الحج الذي الإِحرام ركنه وشرط الشيء غيره ويعترض عليه أنه التلبية بأنها ليست بركن والإِحرام ركن هذا أو قريب منه، وكأنه [يحرم] (¬2) على [تعيين] (¬3) فعل تتعلق به النية في الابتداء. السادس: في الحديث تنبيه على عظم عبادة الحج والعمرة باعتبار مشروعية ما فيهما من الشرائط والأركان والواجبات والسنن والآداب والخروج عن العادة المألوفة. السابع: فيه أيضاً جميع ما يلبس فيهما لمقاصد الآخرة، والأعراض عن مقاصد الدنيا وملاذها وترفهها. الثامن: فيه أيضاً اعتقاد ما منع الشرع من إتلافه بسببهما وهو قطع الخف أسفل من الكعبين إذا لم يجد نعلين مع نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن إضاعة المال. وجوزت الحنابلة جواز لبسه له من غير قطعه لأن حديث ابن عباس الآتي لم يذكر فيه قطعه [وكذا حديث جابر في مسلم كأنهم يزعمون نسخ حديث ابن عمر هذا وأن قطعه إضاعة مال وخالفهم الإِئمة الثلاثة في ذلك. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح يعني على مذهب الشافعية, ثم قال: والذي يظهر أنه مجموع الصفة الحاصلة من تجرد وتلبية ونحو ذلك. اهـ. (¬2) في ن هـ (يحوم)، وأيضاً في عون المعبود نقلاً عن الفتح (5: 269). (¬3) في هـ ساقطة.

وجمهور العلماء قالوا: لا يجوز لبسه إلاَّ بعد قطعه أسفل من الكعبين] (¬1)، والنسخ لا يصار إليه إلاَّ بتعيين تاريخ متأخر، كيف وحديث ابن عباس وجابر مطلق وحديث ابن عمر مقيد، والمطلق يحمل على المقيد والزيادة من الثقة مقبولة. وقولهم: إنه إضاعة مال لا يقبل فإن الإِضاعة إنما تكون فيما نهى عنه لا فيما أذن فيه، بل هو حق يجب الإِذعان إليه. قال الخطابي (¬2): والعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلَّت سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس، وليست هذه الزيادة فيه، وإنما رواها ابن عمر إلاَّ أن الزيادات مقبولة، قال: وقول عطاء أن قطعها فساد يشتبه أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر، وإنما الفساد أن يفعل ما نهت عنه الشريعة، فأما [ما أذن فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس بفساد] (¬3). وأعل ابن الجوزي في "تحقيقه" (¬4) حديث ابن عمر بالوقف فقال: احتجوا بهذا الحديث، والجواب: أن رواته اختلفوا، قال: ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) معالم السنن (2/ 344). (¬3) العبارة في الأصل "ما أذنت فيه بفساد"، وفي ن هـ "فأما ما أذنت فيه فليس بفساد"، وما أثبت في معالم السنن (2/ 345). (¬4) التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 133).

أبو داود رواه موسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، ومالك، وأيوب [موقوفاً] (¬1)، على ابن عمر، والجواب: عن هذا أن الرافع معه زيادة علم فقدمت روايته. وقد أجاب هو في غير ما موضع بهذا، وإنما فعل هذا هنا نصرة لمذهبه وصرح صاحب "المنتقى" (¬2) منهم بالنسخ، فقال: لما روى حديث ابن عباس الآتي، وفي رواية، عن عمرو بن دينار: أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لم يجد أزاراً ووجد سراويل فليلبسهما، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما"، قلت: ولم يقل ليقطعهما؟ قال: لا. رواه أحمد (¬3)، وهذا بظاهره ناسخ لحديث ابن ¬

_ (¬1) في الأصل مرفوعاً، وما أثبت في ن هـ، وسنن أبي داود (1808) مع عون المعبود. (¬2) (2/ 241). (¬3) أحمد في المسند (1/ 215، 228، 285)، والبخاري (1841، 1843)، ومسلم (1178)، أبو داود (1829)، والترمذي (834)، والنسائي (5/ 132، 133)، وفي الكبرى له (3651، 3652)، ابن ماجه (2931)، والحميدي (469)، والبغوي (1977)، والدارمي (2/ 31)، والدارقطني (2/ 228)، والطحاوي (2/ 133)، والبيهقي (5/ 50). قال ابن حجر في الفتح (4/ 57) نقلاً عن القرطبي: أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد، فأجاز لبس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإِزار على حالهما، واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السراويل، فلو لبس شيئاً منهما على حاله لزمته الفدية، والدليل لهم قوله: "في حديث ابن عمر: وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" فيحمل المطلق على المقيد، ويلحق النظير بالنظير لاستوائهما في الحكم. اهـ. =

عمر بقطع الخفين لأنه قال بعرفات في وقت الحاجة: وحديث ابن عمر كان بالمدينة كما سبق هذا لفظه وجوابه ما سلف، ثم إنما يتم له استدلاله أيضاً أنه لو كان السؤال بالمدينة قبل وقوفه -عليه الصلاة والسلام- بعرفات من الجائز كون السؤال بعد ذلك. وقال القرطبي (¬1): حديث ابن عمر رَاد، وقال القاضي: الزيادة التي حفظها ابن عمر تحكم على حديث ابن عباس وجائز على من قال: إنه إضاعة مال، قال: وهذا من هذا القائل حكم بالعموم على الخصوص وهو عكس ما يجب إذ هو إعمال المرجوح وإسقاط الراجح، وهو فاسد بالإِجماع. فرع: إذا وجد النعلين غاليين فله لبس الخفين المقطوعين صرح به من المالكية ابن الجلاب (¬2)، وهو ظاهر كما في نظيره من التيمم. فرع: إذ لبس الخف المقطوع لضرر بقدميه مع وجود النعل افتدى كما قاله ابن القاسم المالكي معللاً بأن لباسه كالدواء. التاسع: لابس الخفين لعدم النعلين يجب عليه الفدية عند أبي حنيفة وأصحابه كما إذا احتاج إلى الحلق يحلق ويفتدي. وقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه لأنه ¬

_ = وقال ابن قدامة في المغني (3/ 302): الأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح، وخروجاً من الخلاف. اهـ. (¬1) المفهم (3/ 257). (¬2) التفريع (1/ 323).

لو وجبت فدية لبينها - صلى الله عليه وسلم -.كذا فرض الخلاف النووي في "شرح مسلم" (¬1) ولم يتعرض للقطع، وحكاه القاضي في حالة القطع، وكذا القرطبي (¬2) قال: [وقول مالك، أولى ولو لزمته لبينها للسائل حين سأله إذ ذلك محل البيان ووقته ولا يجوز تأخير البيان عند وقت الحاجة بالإِجماع. قال: وأيضاً فحينئذ يكون الخف لا معنى له إذ الفدية لازمة بلباسه غير مقطوع] (¬3)، وجزم الفاكهي بوجوب الفدية في حالة القطع، وفيه مخالفة لما حكاه القاضي والقرطبي عن مالك. العاشر: لو لبس الخفين المقطوعين مع وجود النعال لزمته الفدية بلبسهما، فإن الشارع إنما أباح له لبسهما مقطوعين بشرط عدم النعلين فلبسهما كذلك غير جائز، هذا قول مالك والليث: واختلف فيه قول الشافعي كما حكاه عنه القاضي والقرطبي والذي نعرفه أن الشافعي نص على التحريم ولأصحابه فيه وجه بالجواز. ونقل القاضي عن أبي حنيفة أنه لا فدية وهو غريب منه، حيث يقول: بعدم الفدية في هذه الحالة وبوجوبها عند عدم النعلين. وقال ابن حبيب: إنما رخص في قطع الخفين لقلة النعال وقد كثرت فلا رخصة ومن فعل افتدى. ¬

_ (¬1) (8/ 75). (¬2) المفهم (3/ 257). (¬3) زيادة من ن هـ.

وقال ابن الماجشون: الصواب أن لا فدية على من لم يجد نعلين، وقول ابن حبيب، خلاف مالك. الحادي عشر: اللبس هنا محمول عند الفقهاء على اللبس المعتاد في كل شيء مما ذكر فلو ارتدى بالقميص لم يمنع منه لأنه غير المعتاد في القميص. واختلف في القباء إذا لبس من غير إدخال اليدين في الكمين. فمذهب مالك: وجوب الفدية، والحالة هذه وإن لم يزره لأن ذلك [من] (¬1) المعتاد فيه أحياناً. وقال بعضهم: لا فدية عليه، وحكى ابن القاسم عن مالك: كراهة إدخال المحرم منكبيه في القباء إن لم يدخل يديه في كميه، ونقل أبو عمر (¬2) عن أبي حنيفة، وأبي ثور: أنه لا بأس بذلك. والأصح عند الشافعية: وجوب الفدية إذا لبسه من غير إدخال اليدين في الكمين، وسواء في ذلك جميع الأقبية [وقد] (¬3) حكاه الماوردي (¬4) وغيره أنه إن كان من أقبية خراسان ضيق الأكمام قصير الذيل وجبت الفدية، وإن لم يدخل يده في كمه، وإن كان من أقبية العراق واسع الكم طويل الذيل لم يجب حتى يدخل يديه [في] (¬5) كميه، وهذا الوجه غريب ضعيف. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) الاستذكار (11/ 35). (¬3) في ن هـ (ومنه وجه). (¬4) الحاوي (5/ 126). (¬5) زيادة من ن هـ.

ولو القى على بدنه قباء أو فرجيه وهو مضطجع. قال إمام الحرمين: إن صار على بدنه بحيث لو قام عد لابسه لزمته الفدية، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلاَّ بمزيد أمر فلا فدية، وروى عن مالك كراهة الارتداء بالسراويل، ولعله لقبحه، قال أبو عمر: وكره ابن عمر أن يلقي عليه برنس أو ثوب مخيط وهو مريض محرم وهو ورَع منه (¬1). الثاني عشر: المنع من الزعفران والورس دليل على المنع من أنوع الطيب والحكمة في تحريمه أنه داعية إلى الجماع وأنه ينافي حال المحرم فإنه أشعث أغبر وسواء في تحريم ذلك الرجل والمرأة، وما اختلفوا في استعماله فاختلافهم بناء على أنه من الطيب أم لا فلو تطيب ناسياً فلا فدية عليه عند [الثوري والشافعي] (¬2) وأحمد وإسحاق، وخالف أبو حنيفة ومالك. ولا يحرم على المحرم لبس المعصفر عند الشافعي ومالك. وخالف الثوري وأبو حنيفة: وجعلاه طيباً كالمزعفر وأوجبا فيه الفدية. قلت: ويكره عندنا للمحرم لبس الثياب المصبوغة بغير طيب ولا يحرم، وكره مالك (¬3) المفدم منه أي المشبع بالحمرة كما قاله الجوهري. ¬

_ (¬1) انظر: أبو داود (1752)، قال المنذري: وأخرجه البخاري والنسائي المسند منه بنحوه أتم منه. انظر: الاستذكار (11/ 34). (¬2) في ن هـ (مالك والشافعي). (¬3) انظر: التمهيد (2/ 185).

قال القاضي (¬1): واختلف عنه هل على لابسه فدية؟ واختلف أصحابه فيه أيضاً، قال: وأجاز مالك سائر الثياب المصبغة بغير هذا، وكرهها بعضهم لمن يقتدى به، فيظن به جواز لباس كل مصبوغ. وقال الباجي (¬2): المعصفر على ضربين: مفدم ومورد. فأما المفدم: ممنوع للرجال والنساء لأنه لا يتخذ غالباً إلاَّ للتجمل، ولأنه يتعلق منه بالجسد ما يشبه ردع (¬3) الزعفران. وأما المورد: والمصبوغ بالمغرة. قال ابن المواز: والأصفر بغير ورس ولا زعفران فليس بممنوع لأنه لا يفعل غالباً إلاَّ إبقاء على الثوب، ويكره لمن يقتدى به، رواه محمد بن أشهب (¬4)، وروى ابن حبيب: عن مالك لا بأس أن تلبس المحرمة المعصفر المفدم ما لم ينتفض (¬5) عليها شيء [منه] (¬6)، وروى ابن عبدوس عن أشهب كراهة المعصفر لمن يقتدى به، وإن كان لا ينتفض، فإن غسل المزعفر حتى ذهب ريحه فلا بأس به عند ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 293). (¬2) في المنتقى شرح موطأ مالك (2/ 197) في الباجي (بالفاء). (¬3) الردع بالمهملة أي تلطخ يقال ردع إذا تلطخ، وهو أثر الطيب، ويروى بالغين المعجمة والردغ: بالمعجمة أثر الطين. (¬4) انظر: النص كاملاً مع ما فيه من الزيادة في المرجع. (¬5) في المنتقى زيادة (منه). (¬6) غير موجودة في المنتقى، ويكتفي بأحدهما لسياقه، مع الاطلاع على النص كاملاً فيه.

جميعهم وروى ابن القاسم عن مالك كراهته ما بقي لونه شيء فإن لم يجد غيره صبغه بالممشق وهو المدر. الثالث عشر: قال الخطابي: المحرم منهى عن الطيب في بدنه وفي لباسه، وفي معناه الطيب في طعامه، لأن بغية الناس في تطييب الطعام، كبغيتهم في تطييب اللباس (¬1). قلت: ولا يحرم عندنا إذا ظهر لونه وحده على الأظهر، ويحرم إذا ظهرت الرائحة وحدها، وكذا الطعم وحده على الأظهر. وعند المالكية: أنه لا شيء عليه في أكل الخبيص المزعفر. وقيل: إن صبغ الفم ففيه الفدية وما خلط بالطيب من غير طبخ، ففي إيجاب الفدية به روايتان لهم، قالوا: ولو بطلت رائحة الطيب (¬2) لم يبح استعماله. الرابع عشر: في الحديث دلالة على تحريم لباس السراويل على المحرم مطلقاً، وبه قال مالك: وجوّزه الشافعي وأحمد والجمهور إذا لم يجد إزاراً من غير قطعه لحديثي ابن عباس، وجابر في إباحته عند عدم الأزار، وكونه لم يذكر في حديث ابن عمر هذا، لأنه ذكر حالة وجود الأزار، فلا منافاة بين الحديثين حينئذ، وهذا أولى من فعل ابن الجوزي في "تحقيقه" حيث أعمل حديث ابن عمر بالوقف كما سلف. ¬

_ (¬1) اهـ. من معالم السنن (2/ 344). (¬2) في ن هـ زيادة "من غير طبخ ففي إيجاب الفدية روايتان لهم".

فرع: إذا لبس السراويل عند عدم الأزار ثم وجد الأزار وجب نزعه عند من جوز لبسه فإن (أصرعصى) (¬1)، ووجبت الفدية. الخامس عشر: فيه دلالة أيضاً على تحريم لبس القفازين [على المحرمة وهو الصحيح] (¬2) من قولي الشافعي كما سبق، والخلاف ثابت، والمعروف عندهم التحريم ووجوب الفدية لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها كما هو مفهوم من هذا الحديث، ولا خلاف عندنا، وعندهم في تحريمه على الرجل. نعم، لو اتخذ الرجل لساعده، أو لعضو آخر شيئاً مخيطاً فهو ملحق بالقفازين على الأصح عند الشافعية، ويحرم عليها أيضاً النقاب. قال الفاكهي: وكذا اللثام فإن فعلت من ذلك شيئاً افتدت. السادس عشر: فيه رجوع الناس إلى علمائهم عند الحوادث، وقد سئل عليه - صلى الله عليه وسلم - في الحج أسئلة كثيرة متفرقة في الأحاديث. ... ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 214/ 2/ 42 - عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل (¬1) للمحرم". الكلام عليه من وجوه: أحدها: "عرفات" (¬2): هو موضع الوقوف، ولماذا سميت بذلك؟ فيه أقوال: أحدها: لأن آدم عليه [السلام] (¬3) عرف حواء هناك لأن آدم أهبط بالهند، وحواء بجدة فتعارفا في الموقف. ثانيها: لأن جبريل عرّف إبراهيم [عليهما السلام] (¬4) المناسك هناك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 41. (¬2) انظر: لسان العرب (9/ 153، 158). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ ساقطة.

ثالثها: للجبال التي فيها والجبال هي الأعراف وكل عال نات فهو عرف ومنه عرف الديك. رابعها: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم ويسألون غفرانها فتغفر، والمشهور ترك صرف عرفات، قال الجوهري (¬1) وعرفات موضع بمنى كذا قال: ومراده بقرب مني، قال: وهو اسم في لفظ الجمع فلا يجمع، وهو منون، وإن كان فيه العلمية والتأنيث لأن التنوين فيه تنوين مقابلة يجمع المذكر السالم لا تنوين حرف العلتين المذكورتين قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولَّد فليس بعربي [...] (¬2) وهو معرفة، وإن كان جمعاً لأن الأماكن لا تزول فصار كالشيء الواحد، فخالف الزيديين، ومثله أذرعات (¬3) وعامات (¬4) وعريتنات (¬5). [ثانيها] (¬6): "الإِزار": معروف يذكر ويؤنث، ويقال: أيضاً إِزاره كوساد ووساده وجمع القلة: أُزره، والكثرة: أُزر كحمار، وأحمرة، وحمر. وقد يعبر عن المرأة بالإِزار والمئزر والإِزار وهو كقولهم: لحاف، وملحف، وقدام، ومقدم. والإِزره: بالكسر هيئة الاتزار كالجلسة والركبة. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (182). (¬2) في اللسان زيادة (محض)، وانظر: كلامه هناك. (¬3) معجم البلدان (1/ 130). (¬4) معجم البلدان (4/ 71، 72). (¬5) معجم البلدان (4/ 113)، ولسان العرب (9/ 157). (¬6) في الأصل (ثامنها)، والتصحيح من ن هـ ... إلخ المسائل.

[ثالثها] (¬1): السراويل تقدم الكلام عليه في الحديث قبله. [رابعها]: قد أسلفنا الكلام في الحديث قبله أن حديث ابن عباس هذا استدل به من لم يشترط قطع الخف عند فقد النعل وجمعنا بينه وبين حديث ابن عمر السالف، والقاعدة: أن مهما أمكن إعمال الحديثين ولو من وجوه كان أولى من إلغاء أحدهما أو نسخه عند عدم تحقق النسخ وهذا الحديث مطلق بالنسبة إلى القطع وعدمه وحديث ابن عمر السالف مقيد فحمل المطلق على المقيد أولى كيف وحديث ابن عمر فيه صيغة الأمر وهو أمر زائد على الصيغة المطلقة فإن لم يعمل بها وأخرنا مطلق الخفين تركنا ما دل عليه الأمر بالقطع وهو غير سائغ وهذا بخلاف ما لو كان المطلق والمقيد في جانب الإِباحة فإن إباحة المطلق حينئذٍ تقتضي بزيادة ما دل عليه إِباحة المقيد فإذا أُخذ بالزائد كان أولى إذ لا تعارض بين إِباحة المقيد وإِباحة ما زاد عليه قال الشيخ تقي الدين: وكذا نقول في جانب النهي لا يحمل المطلق فيه على المقيد لما ذكرنا من أن المطلق دال على النهي فيما زاد على صورة المقيد من غير تعارض فيه وهذا يتوجه إذا كان الحديثان [مثلاً] (¬2) مختلفين باختلاف مخرجهما، أما إذا كان المخرج للحديث واحداً ووقع اختلاف على أن من انتهت إليه الروايات فههنا نقول أن الآتي [بالمقيد] (¬3) حفظ ما لم يحفظ المطلق من ذلك الشيخ، فكأن الشيخ لم ينطق به إلاَّ مقيداً، فيتقيد من هذا ¬

_ (¬1) في الأصل (ثامنها)، والتصحيح من ن هـ ... إلخ المسائل. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في إحكام الأحكام (3/ 480) (بالقيد).

الوجه، قال: وهذا الذي ذكرناه في الإِطلاق والتقييد مبني على ما يقوله بعض المتأخرين، من أن العام في الذوات مطلق في الأحوال لا يقتضي العموم، وأما على ما يختاره في مثل هذا من العموم في الأحوال، تبعاً لعموم الذوات فهو من باب العام والخاص. خامسها: لبس السراويل إذا لم يجد إزار يدل هذا الحديث على جوازه من غير قطع وهو مذهب الجمهور كما أسلفناه في الحديث قبله قال الشيخ تقي الدين: وهو قوي ههنا، أي دون ما قاله أحمد في الخفين إذ لم يرد بقطعه ما ورد في الخفين. قال المازوي (¬1): وإنما لم يأخذ مالك بهذا لسقوطه من رواية ابن عمر واعترض عليه القاضي (¬2) بأن مسلماً ذكره من رواية جابر أيضاً. وقال مالك: في "الموطأ" (¬3) لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم السراويل واحتج بأنه -عليه الصلاة السلام- منع لبسه ولم يستثن فيه كما استثنى في الخفين, وظاهر هذا الكلام يدل على أن هذه الزيادة لم تبلغ مالكاً أو لم يبلغه لبسها على حالها، وكذلك قوله: "ولا أرى أن يلبسهما المحرم إلاَّ على الوجه المعتاد" كما قال الشافعي وأحمد: أو لا يلبسهما دون فدية، فأما مالك وأبو حنيفة فيريان في لبسهما الفدية قال: أما لو فتقت السراويل وجعل منها شبه ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 68). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 293). (¬3) الموطأ (1/ 325).

الإِزار جاز كما جاز لبس الخف إذا قطع أي من غير فدية والأصح عند الشافعية: أنه لا يكلف في ذلك لإِطلاق الخبر. فرعان: لو تأتي الائتزار بالسراويل على هيئته فلا يجوز له لبسه قاله النووي في "شرح المهذب" (¬1)، ولو قدر على بيع السراويل وشراء الإِزار قال القاضي أبو الطيب: إن كان مع فعل ذلك لا تبدو عورته وجب وإلاَّ فلا، وأطلق الدارمي في الوجوب، قال في "شرح المهذب" (¬2) والصواب الأول. ... ¬

_ (¬1) (7/ 266). (¬2) (7/ 670).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 215/ 3/ 42 - عن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما] (¬1) أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له (¬2). وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك، وسعديك، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري أطرافه في الفتح (1540)، ومسلم (1184)، والنسائي (5/ 159)، وأبو داود (1812) في المناسك، باب: كيفية التلبية، والترمذي (825)، وابن ماجه (2918)، وابن خزيمة (1661، 2262)، والدارقطني (2/ 225)، وأحمد (2/ 3، 34، 43، 79، 120)، والبيهقي (5/ 44)، والبغوي (1865)، والطحاوي (2/ 124، 125)، والدارمي (2/ 34). (¬3) قال الزركشي في تصحيح العمدة: "هذه الزيادة ليست في البخاري، بل أخرجها مسلم خاصة كما نبه عليه عبد الحق في جمعه". اهـ. مجلة الجامعة. انظر: فتح الباري (3/ 408)، ومسلم (2/ 841)، وقال الصنعاني في الحاشية (3/ 481): ولكن الذي في مسلم أنه كان يزيد ذلك =

الكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: "وكان عبد الله" إلى آخره هذه الزيادة لم أرها في البخاري [بل في مسلم] (¬1) خاصة وأسقط المصنف منها لبيك بعد قوله: "والخير بيديك" كذا هو في مسلم من طريقين في إحدى روايتيه قالوا يعني سالماً وحمزة [ابني] (¬2) عبد الله بن عمر، ونافعاً مولى ابن عمر "كان عبد الله يزيد مع هذا "لبيك لبيك وسعديك" إلى آخره. وقوله: في رواية المصنف قال: "وكان عبد الله" هذا القائل هو نافع مولى ابن عمر وفي رواية له "وكان عبد الله بن عمر يقول كان عمر بن الخطاب يهل بإِهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات [ويقول] (¬3) لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل" فتلخص [أن لفظة لبيك] (¬4) بعد [قوله] (¬5) والخير في يديك" في "صحيح مسلم" من ثلاث طرق مرتين من طريق عبد الله بن عمر ومرة ثالثة من طريق والده وقد نص على أن هذه الزيادة أعني قوله: "وكان عبد الله يزيد فيها إلى آخره ¬

_ = عمر، وفي رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها ذلك، قال ابن حجر: فعرف أن ابن عمر اقتدى بأبيه. (¬1) في ن هـ (ولا في مسلم). (¬2) في الأصل (بن)، والتصحيح من ن هـ. (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ ومسلم. (¬4) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬5) في ن هـ ساقطة.

من أفراد" [مسلم] (¬1) قاله عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين" فقال: هذه الزيادة لم يذكرها البخاري وأما النووي في "شرح [المهذب] " (¬2) [فادعى أنه رواها] (¬3) ثم ذكرها وعزاها إليه. الثاني: التلبية مصدر، "لبى" ثُنِي للتكثير والمبالغة [ومعناها] (¬4) إجابة بعد إجابة ولزوماً لطاعتك لأنه يقال ألب بالمكان ولب كما سيأتي إذا لزمه وأقام به فثنى تأكيداً لا حقيقة كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬5) أي نعمتاه على تأويل اليد هنا بالنعمة ونعم الله تعالى لا تحصى. واختلف أهل اللغة في أن لفظة التلبية مثنى أو مفرد فقال يونس بن حبيب البصري: إنها مفرد وألفه إنما انقلبت ياء لأتصالها بالضمير على حد لدى وعلى. وقال سيبويه: مثنى بدليل قلب ألفه ياء مع المظهر قال الشاعر: ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬2) في الأصل (مسلم)، وما أثبت من ن هـ، المجموع شرح المهذب (7/ 241). (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) سبق التعليق على مثله وأنه على خلاف مذهب أهل السنة والجماعة الذين يئبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجب إثبات اليد لله حقيقة من غير تأويل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل.

دعوت لما نابني، مسوراً ... فلبى فلبي يَدَيْ مِسْوَرِ (¬1) وعلى هذا القول أكثر الناس. قال ابن الأنباري: بنوا "لبيك" كما بنوا حنانيك أي تحننا بعد تحنن واصل: لبيك، لبِّ بك [لَبَّبَ بك] (¬2)، فاستقلوا الجمع بين ثلاث باءَات، فابدلوا من [الثالثة] (¬3) ياء، كما قالوا: [تظنيت، من الظن] (¬4) [ومن القص قصيت المغازي] (¬5) والأصل [تَظَنَّيْت] (¬6) و [قصيت] (¬7). ثم اختلفوا في معنى لبيك، واشتقاقها. ¬

_ (¬1) ضبط هذا البيت من لسان العرب (12/ 217، 232) وفي الأصل مثله، أما في ن هـ: دعت لما نابني مسوراً ... فلبى يدي مسور وفي حاشية الصنعاني (3/ 482): دعوت فلم يأتي مسعد ... فلبى يلبي يد ميسور (¬2) زيادة من لسان العرب (12/ 216) مع ضبط هذا النص، أما الزاهر (1/ 100) غير موجودة وضبطت الأولى (لَبَّيْك). (¬3) في الزاهر (الأخيرة). (¬4) في المخطوط: كما قالوا: (من الظن نظنيت)، وما أثبت من لسان العرب (12/ 217)، وانظر: ما بعدها للاطلاع على المعاني فيه، وفي الزاهر "قد تَظَنَّيْتَ، وأصله: قد تَظَنَّنْتَ، فأبدلوا من الأخيرة ياء. (¬5) غير موجودة في المرجع السابق. (¬6) في المرجع السابق كما في تعليق (3). (¬7) غير موجودة في المرجع السابق.

كما اختلفوا في صيغتها. فقيل: معنى لبيك: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلُبُّ دارك، أي: تواجهها. وقيل: معناها: محبتي لك [من قولهم امرأة لبة: أي محبة لولدها، عاطفة عليه. وقيل: معناها إخلاصي لك] (¬1) من قولهم: [خشب] (¬2) [الباب] (¬3) إذا كان خالصاً محضاً ومنه: لب الطعام ولبابه. وقيل: [من قولهم: لب العقل] (¬4) من قولهم: رجل لبيب (¬5) أي [أنا] (¬6) منصرف إليك، وقلبي مقبل عليك، حكاه الماوردي. وقيل: معناه، أنا مقيم على طاعتك وإجابتك مأخوذ من قولهم: [...] (¬7) لَبَّ الرجل بالمكان، وأَلَبَّ: إذا أقام فيه. ولزمه. قال ابن الأنباري: وإلى هذا المعنى كان يذهب الخليل والأحمر. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الأصل ولسان العرب (12/ 213) (حسب)، بالسين المهملة. وفي المهذب (7/ 244)، وشرح مسلم (9/ 87) (حب)، وما أثبت يوافق المراجع السابقة. (¬3) في لسان العرب (12/ 217) وفي ن هـ (لبان). (¬4) زيادة من ن هـ والماوردي. (¬5) في الماوردي زيادة (ويكون معناها). (¬6) غير موجودة في الماوردي "الحاوي الكبير" (5/ 115). (¬7) في الزاهر زيادة (قد).

وقال الحربي في معنى: لبيك أي قربا منك وطاعة، والألباب: القرب. وقيل: معناه أنا ملب بين يديك أي مخضع، وهذه الإِجابة لقوله تعالى لإِبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬1) حكاه القاضي عياض (¬2) ونقله أبو عمر (¬3) عن جماعة من العلماء. قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له أذن في الناس قال [رب] (¬4) وما يبلغ الصوت قال: أذَّن وعليّ البلاع. فنادى إبراهيم: أيها الناس: كُتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، قال: فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا ترون الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون (¬5). وقال مجاهد: قام إبراهيم على مقامه فقال: أيها الناس: أجيبوا ربكم، فقالوا: لبيك اللهم لبيك، فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ (¬6)، ويروي أنه كان النداء على أبي قيس. وقال القرطبي: في "مفهمه" (¬7) على عرفه. ¬

_ (¬1) سورة الحج: آية 27. (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 301). (¬3) الاستذكار (11/ 92). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) انظر: الاستذكار (11/ 93، والدر المنثور (6/ 32). (¬6) انظر: المراجع السابقة. (¬7) (3/ 266).

قال ابن عطية (¬1): واختلفت الروايات في ألفاظه -عليه الصلاة والسلام- واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروى أنه يوم نادى اسمع من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره "لبيك اللهم لبيك" فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وحكى ابن الخطيب في "تفسيره" عن الحسن أن المأمور بالنداء في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه المخاطب بالقرآن قال: والمعنى أمره أن يعلمهم الحج. [وقال] (¬3) الجُبائي: هو أن يحج فيحجوا معه قال: وقيل: هو ابتداء فرض الحج. وقال عطاء وعكرمة وطاوس: وغيرهم في قوله تعالى. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (¬4). الفرض: التلبية. وقال ابن عباس. الفرض الإِهلال، والإِهلال: التلبية. وقال [ابن] (¬5) مسعود وابن الزبير: الفرض الإِحرام. ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز (11/ 193). (¬2) سورة الحج: آية 27، رد هذا القول أبو السعود في تفسيره (6/ 103)، والشنقيطي في أضواء البيان (5/ 66). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) سورة البقرة: آية 197. (¬5) زيادة من ن هـ.

قال ابن عبد البر: [وهو] (¬1) كله بمعنى واحد. الثالث: قوله: "إن الحمد" يروي بكسر الهمزة وفتحها (¬2) , قال الجمهور: الكسر أجود. قال الخطابي (¬3): والفتح رواية العامة. وقال ثعلب (¬4): الاختيار الكسر وهو أجود معنى من الفتح لأن الذي يكسر يذهب إلى أن المعنى "إن الحمد والنعمة لك" على كل حال والذي يفتح يذهب إلى أن المعنى "لبيك" بهذا لهذا السبب. قال القرطبي (¬5): معنى إن لبيك عمل فيها بواسطة لام الجر السببية ثم حذف حرف الجر لدلالة الكلام، قال ثعلب (¬6): فمن فتح خص ومن كسر عم. وأبدى الفاكهي ذلك من عنده ثم قال: وليس كذلك إذا أعطى التأمل حقه. الرابع: قوله: "والنعمة" الأشهر فيها النصب عطفاً على الحمد ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. وما أثبت يوافق الاستذكار (11/ 94)، حيث ساق الأقوال السابقة. (¬2) توجيه رواية الكسر من كسر فهو على الاستئناف وهو ابتداء كلام كأنه لما قال لبيك استأنف كلاماً آخر فقال: إن الحمد والنعمة لك. ومن فتح: فعل التعليل كأنه يقول أجبتك لأن الحمد والنعمة لك. (¬3) إصلاح غلط المحدثين (5). (¬4) انظر: الاستذكار (11/ 93). (¬5) المفهم (3/ 267). (¬6) ذكره الخطابي في أعلام الحديث (845)، ومعالم السنن (2/ 87، 132)، وإصلاح غلط المحدثين (51).

ويجوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره "إن الحمد لك والنعمة لك". قال ابن الأنباري. وإن نصبت جعلت خبر "إن" محذوفاً تقديره "إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك" (¬1). [الرابع] (¬2): قوله: "وسعديك" إعرابها وتثنيتها كلبيك. ومعناها: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة، قاله القاضي (¬3) ولم يحك النووي (¬4) سواه، وقال أبو عمر (¬5): معناه أسعدنا سعادة بعد سعادة، وإسعاداً بعد إسعاد قال: وقيل: سعادة لك. السادس: "الخير بيديك" أي ابتداؤه وانتهاؤه والتوفيق له من فضلك [وهو] (¬6) من باب إصلاح المخاطبة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} (¬7). السابع: قوله: "بيديك" قد تقدم تأويل اليد بالنعمة (¬8)، وقال ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ، في الزاهر (1/ 101) قلت: فتحت (أن) على معنى: لبيك لأن الحمد لك وبأن الحمد لك. (¬2) في ن هـ (الخامس). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 302). (¬4) شرح مسلم (8/ 88). (¬5) الاستذكار (11/ 93). (¬6) في ن هـ ساقطة. (¬7) سورة الشعراء: آية 80. (¬8) قد تقدم التعليق على مثل هذا الموضع فتجاوز الله عنا وعنه بعفوه. انظر ص 56.

ابن فورك (¬1): في "مقدماته" ما وصف الله تعالى به نفسه من أن له يدين [كقوله] (¬2): {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3) فهما صفتان له، طريق إثباتهما الخبر ولا يجوز أن يقال هما بعضان أوعضوان أو غيران كما يوصف بذلك غيرها من الأيدي وليس هما بمعنى الملك والقدرة ولا بمعنى النعمة والصلة بل هما بمعنى الصفة والدليل على ذلك قوله تعالى مخبراً عن اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬4) فكذّبهم، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فأثبت اليد لنفسه ونفى الغل عنها كما ادعته اليهود. وتواترت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده وخلق آدم بيده" (¬5) وقال أيضاً: "كلتا يدي الرحمن يمين" (¬6) فوجب ¬

_ (¬1) ابن فورك هو محمد بن الحسن أبو بكر الأصبهاني نزيل نيسابور. أديب، متكلم، أصولي، واعظ، كوفي. توفي سنة (406). آثار البلاد للقزويني (297)، والفتح المبين للمراغي (1/ 226)، وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 185)، وفيه ورد الاسم غلط محمد بن الحسين. قال شيخ الإسلام -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (16/ 89) بعد كلام سبق: فصل، هذا مع أن ابن فورك يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين، وكذلك المجيء والإِتيان، موافقة لأبي الحسن، فإن هذا قوله وقول متقدمي أصحابه ... إلخ كلامه. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) سورة ص: آية 75. (¬4) سورة المائدة: آية 64. (¬5) الأسماء والصفات للبيهقي (403). (¬6) الترمذي (3368)، والحاكم (1/ 46، 64) (2/ 585) (4/ 263)، =

قبول ذلك والتسليم له ونفى التشبيه عنه ثم قال: فإن قيل: كيف يعقل يد ليست بجارحة ولا نعمة ولا قدرة ولا ملك؟ قيل: ليس القول في إثبات الحقائق على معقول الشاهد ولو كان كذلك لبطل التوحيد من جهة أن الموجد إذا لم يكن جسماً أو عرضاً ولا جوهراً غير معقول في الشاهد والحي إذا لم يكن حساساً وجاثياً يتحرك ويسكن غير معقول في الشاهد والمتكلم إذا لم يكن ذا لسان وشفتين ولهاة. وأسنان ومخارج غير معقول ومع ذلك لم يمتنع إثبات حي متكلم على خلاف معقول الشاهد من جهة إيجاب الدليل لذلك [كذلك] (¬1) ورد خبر الصادق الذي خبره حجة توجب إثبات اليدين على الوجه الذي قلنا (¬2). الثامن: قوله: "والرغباء إليك" يروى بضم الراء مع القصر وبفتحها مع المد كالنعما، والنعماء، والعلياء، والعليا، وحكى أبو علي القالي: الفتح مع القصر مثل سكرى. ومعناه: هنا الطلب والمسألة إلى من بيده الخير وهو المقصود بالعمل الحقيق بالعبادة. وقوله: "والعمل" فيه محذوف تقديره: والعمل إليك أي إليك ¬

_ = السنة لابن أبي عاصم (206)، والأسماء والصفات للبيهقي (324، 325)، والطبري في الكبير (1/ 96)، من رواية أبي هريرة. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: فهارس فتاوى ابن تيمية (36/ 83).

المقصد به والانتهاء إليك لتجازي عليه ويحتمل أن يقدر والعمل لك نبه عليه الشيخ تقي [الدين] (¬1). التاسع: التلبية مشروعة إجماعاً. واختلف العلماء هل هي سنة أم واجبة أم شرط لصحة الحج (¬2)؟ فقال الشافعي: وآخرون هي سنة لو تركها صح حجه ولا دم عليه وفاتته الفضيلة. وقال مالك: ليست بواجبة لكن لو تركها [لزمه دم] (¬3) وصح حجه. وقال بعض أصحاب الشافعي: هي واجبة تجبر بالدم ويصح الحج دونها. وقال بعضهم: هي شرط لصحة الإِحرام فلا يصح الإِحرام ولا الحج إلاَّ بها كذا حكاه النووي في "شرح مسلم" (¬4) وحكاه في "روضته" (¬5) قولاً وأنه يقوم مقامها سوق الهدي، وتقليده، والتوجه معه. وجزم القاضي عياض: بأن من أهلَّ بما في معناها من التسبيح ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. انظر: إحكام الأحكام (3/ 484). (¬2) ذكره ابن عبد البر عن مالك، الاستذكار (11/ 96). (¬3) في ن هـ (لزم دمه). (¬4) شرح مسلم (8/ 90). (¬5) روضة الطالبين (3/ 59).

والتهليل لا دم عليه لكن [ظاهر إيراد] (¬1) "المدونة" لزومه وهو ظاهر كلام ابن حبيب أيضاً. ثم اعلم بعد ذلك أن الحج ينعقد بالنية بالقلب من غير لفظ كما ينعقد الصوم بها فقط عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة (¬2): لا ينعقد إلاَّ بانضمام التلبية أو سوق الهدى إلى النية ويجزىء غيره عن التلبية ما في معناها من التسبيح والتهليل وسائر الأذكار كما قال إن التسبيح وغيره يجزىء في الإِحرام بالصلاة عن التكبير وما أسلفناه عن مالك في انعقاد الحج بالنية من غير لفظ هو ما حكاه [المازري] (¬3) ثم ابن عبد البر ثم القاضي (¬4) ثم النووي (¬5) عنه وفي كلام غيرهما ما يدل على أنه لا بد معها من قول أو فعل من أفعال الحج وعزى إلى أكثرهم. وقال ابن شاهين: هو المنصوص، قال: [ورأى] (¬6) اللخمي إجراء الخلاف فيه من الخلاف في انعقاد اليمين بمجرد النية. وأنكره الشيخ أبو الطاهر، وقال: لم يختلف المذهب أن العبادات لا تلزم إلاَّ بالقول أو بالنية والشروع فيها. ¬

_ (¬1) في الأصل (إيراد ظاهر)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) ذكره في الاستذكار (11/ 95). (¬3) في ن هـ (الماوردي)، وما أثبت هو الصحيح. انظر: إكمال إكمال المعلم (2/ 72). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 300). (¬5) شرح مسلم (8/ 90). (¬6) زيادة من ن هـ.

العاشر: قوله: "أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ظاهره كما قال القاضي أنها التي كان يواظب عليها فلهذا استحب العلماء المجيء بها بلفظها، قال: والاستحباب عند أكثر العلماء ما لبى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال مالك: إن اقتصر عليها فحسن وإن زاد فحسن. وقالت الشافعية: يستحب ألا يزيد عليها. وأغرب بعضهم, فقال: تكره الزيادة كما حكاه صاحب "البيان" وهو غلط فقد صح من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في تلبيته: "لبيك إله الحق لبيك" (¬1)، رواه أحمد وابن ماجه والنسائي وصححه ابن حبان، ونص الشافعي في "الأم" (¬2) على استحبابها مع ما سلف، وحكاه القاضي عياض عن الشافعي أيضاً، فقال: قال الشافعي: الاقتصار عليها أفضل إلاَّ أن يزيد ألفاظاً رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[مثل قوله] (¬3): " [النعمة والملك لا شريك لك] (¬4) لبيك إله الحق"، ونحوه. وروى أحمد (¬5) وأبو داود (¬6)، ولمسلم (¬7) معناه عن جابر قال: ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 341، 476)، وابن ماجه (2920)، والنسائي (5/ 161)، وابن خزيمة (2623، 2624)، وابن حبان (2800)، والنسائي في الكبرى (2/ 354). (¬2) الأم (2/ 156). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) ساقطة من ن هـ. (¬5) (3/ 320). (¬6) أبو داود (1739) في المناسك، باب: كيف التلبية، والبيهقي في السنن (5/ 45)، والمعرفة له (7/ 135). (¬7) مسلم (1218).

أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر التلبية بمثل حديث ابن عمر [شيئاً] (¬1) قال: والناس يزيدون "ذا المعارج" ونحوه من الكلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئاً. وقد زاد ابن عمر [رضي الله عنه] (¬2) في هذه التلبية وهو شديد الأتباع للآثار وقد أسلفنا أن والده كان يلبي بها أيضاً. ورأيت في كتاب "الخصال" لأبي بكر الخفاف من قدماء أصحابنا أن داود -عليه الصلاة والسلام- كان يقول في تلبيته: "لبيك وسعديك والخير بيديك" فلعل ابن عمر ووالده لحظا ذلك. ونقل الأصبهاني عن قوم من أهل العلم أنه لا بأس بالزيادة على ما ورد من الذكر، وعن آخرين أنه لا يزاد على ما علمه الشارع. وسمع سعد: رجلاً يلبي يقول: "لبيك ذا المعارج لبيك" فقال سعد: "ما هكذا" (¬3) كنا نلبي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4) وقال شراحيل بن القعقاع: سمعت عمرو بن معدى كرب يقول: لقد رأيتنا منذ قريب ونحن إذا حججنا نقول لبيك تعظيماً إليك عدل. هذه زبيد قداتتك قرا. تعدوا مضمرات شزرا. يقطعن حيناً وجبالاً وعراً. قد خلفوا الأنداد خلوا صفراً. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطه، ويستقيم الكلام بدونها. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في نسخة هـ (هكذا كنا نلبي) بالإِثبات أي سقطت ما النافية. (¬4) الأم للشافعي (2/ 155)، ومعرفة السنن والآثار (7/ 136)، والسنن الكبرى (5/ 45).

وحكى بعض قضاة الحنفية: في "منسكه" عن بعض المتأخرين أنه كان يزيد في التلبية إلهنا ما أعد لك. الحول والقوة لك. ما خاب عبداً أمَّلك. أنت له حيث سلك. لولا أنت يا رب هلك. لبيك إن الحمد لك. والنعمة والملك لا شريك لك. [وحكى القاضي عياض: أنه روى عن عمر أنه كان يزيد لبيك ذا النعما والفضل الحسن لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك حقاً حقاً تعبداً ورقاً] (¬1). فروع: تتعلق بالتلبية يستحب أن يكررها في كل مرة ثلاث مرات فأكثر ويواليها ولا يقطعها بكلام فإن سُلم عليه رد باللفظ، ويكره السلام عليه في هذا الحال، ويشرع لكل أحد حتى للحائض لقوله -عليه الصلاة والسلام- لعائشة: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" (¬2). وفروع التلبية كثيرة مشهورة محل الخوض فيها كتب الفروع ولم يزد الشيخ تقي الدين في هذا الحديث على أن تكلم على ألفاظه فقط. خاتمة: في كتاب "أسرار الحج" أن تلبية يونس -عليه ¬

_ (¬1) في ن هـ موضعه بعد وقد أسلفنا أن والده كان يلبي بها أيضاً وحكى ... إلخ، وما بين القوسين من ن هـ في (ص 60). (¬2) البخاري أطرافه في الفتح (297)، ومسلم (1211)، وابن ماجه (2963، 3000)، والبغوي (1913)، والموطأ (1/ 411)، والحميدي (206)، والبيهقي (1/ 308) (5/ 3، 86)، وأبو داود (1782) في المناسك، باب: إفراد الحج.

السلام- لبيك فرّاج [الكُرب] (¬1) لبيك. وتلبية عيسى -عليه الصلاة والسلام-[لبيك أنا عبدك ابن أمتك بنت عبديك لبيك] (¬2). [وتلبية موسى -عليه السلام-: لبيك أنا عبدك لديك لبيك] (¬3). وعلم إبليس الناس التلبية "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك". فلم يزالوا عليها حتى جاء الإِسلام. وفي "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس قال: "كان المشركون يقولون لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلكم قد قد إلاَّ شريكاً هو لك تملكه وما لك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت" (¬4). قوله:"قدٍ قَدٍ" هو بكسر الدال مع التنوين وسكونها أي كفاكم هذا ثم رجع الراوي إلى حكاية كلام الكفار في قولهم: "إلاَّ شريكاً إلى آخره". وفي كتاب "الخصال" لأبي بكر الخفاف: من قدماء [أصحابنا] (¬5) أنه كان من تلبية موسى -عليه الصلاة والسلام-: ¬

_ (¬1) في ن هـ (الكروب). (¬2) في ن هـ (لبيك أنا عبدك لديك لبيك). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) مسلم (1185)، والطبراني (12/ 198). (¬5) في ن هـ ساقطة.

"لبيك عدد التراب لبيك لبيك مرغوب ومرهوب إليك لبيك". وذكر تلبية داود السالفة ثم قال: وكل ذلك حسن. وحكى الروياني عن الأصحاب عن بعض صلحاء السلف أنه كان يقول: "لبيك أنت مليك من ملك ما خاب عبد أمَّلك" ثم قال الروياني: وهو حسن وقد أسلفنا عن بعض المتأخرين ما يقرب من هذا. ***

الحديث الرابع

الحديث الرابع 216/ 4/ 42 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاَّ ومعها حُرمة" (¬1). وفي لفظ للبخاري: "لا تسافر مسيرة يوم [وليلة] (¬2) إلاَّ مع ذي محرم" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: الجملة التي هي "تؤمن بالله واليوم الآخر" في موضع خفض صفة "لامرأة" قالوا: ويسمى يوم القيامة [باليوم الآخر] (¬4) لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلاَّ لما تقدمه ليل ولا يتوهم عدم خطاب الكفار (¬5) بالفروع لأن مثل هذا يأتي في كلام الشارع على أن المعنى ¬

_ (¬1) البخاري (1088)، ومسلم (1339)، وأبو داود (1723، 1724)، والترمذي (1170)، والبيهقي (3/ 139)، والموطأ (2/ 979). (¬2) زيادة من ن هـ، وهو موافق للصحيح. (¬3) مسلم (1339). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) قال في تقريب الوصول (229) ولا خلاف أن الكفار مخاطبون بالإِيمان, واختلف هل هم مخاطبون بفروع الشريعة في حال كفرهم أم لا؟ فقال =

أن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه أو يكون ذلك من باب التهييج والإِلهاب وأن مقتضاه أن استحلال هذا المنهى عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر، بل ينافيه حتى لو قيل لا يحل لأحد مطلقاً لم يحصل هذا المعنى، وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} (¬1). ونبه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - بوصف الإِيمان بذلك على العمل بأحكام الشرع والوقوف مع حدوده ظاهراً وباطناً، وأن الحامل على ذلك إنما هو، الإِيمان لا غير فإن من علم أن له ربا يجازي ويعاتب حمله، ذلك على التعبد بفعل المأمور وترك المنهي، وذلك هو المطلوب. الثاني: هذا اللفظ الذي عزاه المصنف إلى البخاري وحده هو في "صحيح مسلم" أيضاً، وهذا لفظه: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلاَّ مع ذي محرم". فعزوه هذا اللفظ إلى البخاري وحده يوهم انفراده بذلك، وليس كذلك لما علمته فلو حذف العزو واقتصر على قوله. وفي لفظ كان أولى (¬2). ¬

_ = قوم: إنهم مكلفون بها إذا بلغتهم دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال قوم: لا يكلفون بالفروع حتى يسلموا مع الاتفاق أنها لا تصح منهم ولا تقبل منهم حتى يؤمنوا، وقال فخر الدين بن الخطيب: ثمرة الخلاف راجعة إلى مضاعفة العذاب في الآخرة. اهـ. (¬1) سورة المائدة: آية 23. (¬2) انظر: تصحيح العمدة للزركشي (106) مجلة الجامعة الإِسلامية عدد (75، 76)، وأيضاً في حاشية الصنعاني (3/ 485).

ثم أعلم بعد ذلك أن هذا الحديث [روي] (¬1) في الصحيح على أوجه: منها ما في الكتاب. ومنها: "مسيرة ليلة" (¬2) ومنها: "مسيرة ثلاثة أيام" (¬3). ومنها: "فوق ثلاث" (¬4). ومنها: "ثلاث ليال" (¬5). ومنها: "يومين" (¬6). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) مسلم (1339)، وأبو داود (1649) في المناسك، باب: في المرأة تحج بغير محرم، والبيهقي (3/ 139)، وابن حبان (1728). (¬3) من رواية ابن عمر عند البخاري (1086، 1087)، ومسلم (1338)، وأحمد (2/ 13، 19، 143)، وأبو داود (1653) في المناسك، باب: المرأة تحج بغير محرم، وابن خزيمة (2521)، والبيهقي (3/ 138)، وابن حبان (2720، 2722، 2729). (¬4) أبو داود (1652) في المناسك، وابن حبان (2733)، ومعاني الآثار (2/ 115)، والبيهقي (5/ 226). (¬5) ابن عمر عند مسلم (1338). (¬6) من رواية أبي سعيد عند البخاري أطرافه في الفتح (586)، ومسلم (827)، وأحمد (3/ 7، 45، 53، 62، 64) وفي بعض الروايات (يومين وليلتين).

ومنها: إطلاق ذكر السفر (¬1)، وكل هذه الروايات في "صحيح مسلم". وفي رواية لأبي داود (¬2)، وابن حبان (¬3) , والحاكم (¬4) على شرط مسلم "لا تسافر بريداً" والبريد: نصف يوم. قال العلماء (¬5): اختلاف هذه الالفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن, وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإِباحة اليوم أو الليلة أو البريد. وقال البيهقي (¬6): كأنه - صلى الله عليه وسلم -[سئل] (¬7) عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم، فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم، فقال: لا. وسئل عن يوم، فقال: لا، وكذلك البريد. فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفاً عن راو واحد، فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) إطلاق السفر ورد من رواية ابن عمر، وأبي سعيد، ومن رواية ابن عباس، وأبي هريرة. (¬2) أبو داود في المناسك (1651)، باب: في المرأة تحج بغير محرم. (¬3) ابن حبان (2727). (¬4) الحاكم (1/ 442)، والبيهقي (3/ 139)، وابن خزيمة (2526). (¬5) انظر: شرح مسلم (9/ 103). (¬6) البيهقي في السنن (3/ 139). (¬7) في ن هـ ساقطة.

والسلام- أقل [تحديد] ما يسمى (¬1)، سفراً فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو ليلة أو بريداً، أو غير ذلك، والرواية المطلقة تتناول جميع ما يسمى سفراً. الثالث: المحرم من النساء التي لا يحرم النظر إليها، والخلوة بها والمسافرة معها, ولا ينتقض الوضوء بمسها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها فخرج "بالتأبيد" أخت المرأة وعمتها وخالتها ونحوهن، وبـ"المباح" أم الموطؤة بشبهة وبنتها فإنهما محرمان على التأبيد، وليسا محرمين لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإِباحة لأنه ليس بفعل مكلف، والمراد شبهة الفاعل لا شبهة المحل فإنه حرام، [وكذا الطريق] (¬2) كالوطء بالنكاح، والشراء الفاسدين، فإنه حرام، ولو تزوج الموطوءة بشبهة، ودخل بها فالذي يظهر الحكم على أمها وبناتها بالمحرمية، وحينئذ فيرد على الضابط لأن سبب العقد والدخول لم يحرمهن لأنهن حرمن قبل ذلك ويستحيل تحصيل الحاصل، وخرج بحرمتها الملاعنة، فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح، وليست محرماً لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظاً، وهذا الضابط للشافعية. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وما يسمى ساقطة من ن هـ، وما أثبت يوافق شرح مسلم (9/ 103). (¬2) لعل مراد المؤلف إجراء حكم النكاح والشراء الفاسدين مجرى الوطء بالشبهة.

قال الفاكهي: ولا أعلم للمالكية ما يخالفه ونقله الشيخ تقي [الدين] (¬1) عن بعض أصحاب الشافعي، وأقره وهو منتقض طرداً بأمهات المؤمنين فإن الحد صادق عليهن، وَلَسن بمحارم كما اقتضاه كلام الرافعي في الظهار، وصرح به غيره. وقد يجاب: بأن التحريم لحرمته لا لحرمتهن. وعكساً بالموطؤة في الحيض والنفاس والإِحرام والصوم الواجب وبأم الزوجة، إذا عقد على ابنتها عقداً حراماً بأن وقع بعد خطبة الغير ونحو ذلك، وينتقض أيضاً بالعبد [فإنه] (¬2) ليس محرم لها ونكاحها حراماً على التأبيد. الرابع: ذكر المحرم عام في محرم النسب والرضاع والمصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها واستثنى بعضهم (¬3): ابن زوجها فكره السفر معه لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول، ولأن كثيراً من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة، إلاَّ فيما جبل الله النفوس عليه في النفرة عن محارم النسب والحديث عام. فإن كانت هذه الكراهة للتحريم مع محرمية ابن الزوج، فهو بعيد مخالف لظاهر الحديث، وإن كان للتنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفاً إليه، ويقويه استثناء السفر مع المحرم فيصير التقدير إلاَّ مع ذي محرم فيحل. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. انظر: إحكام الأحكام (3/ 489). (¬2) في الأصل (فإنها)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) ذكره النووي عن مالك في شرح مسلم (9/ 105).

قال الشيخ تقي الدين (¬1): ويبقى النظر في قولنا "يحل" هل يتناول المكروه أم لا؟ بناء على أن لفظ "يحل" تقتضي الإِباحة المستوية الطرفين، فإن قلنا: لا يتناول المكروه، فالأمر قريب مما قاله، إلاَّ أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه، وإن قلنا: يتناوله، فهو أقرب، لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافياً لما دل عليه اللفظ. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحل لامرأة" هو عام في كل امرأة سواء الشابة والعجوز، وحكى القاضي عياض (¬2) عن الباجي (¬3): أنه خصه بالشابة فأما الكبيرة فتسافر حيث شاءت كل الأسفار بلا زوج ولا محرم"، قال النووي (¬4). ولا نوافق عليه لأن المرأة مظنة الطمع فيها والشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة. ويجتمع في الأسفار من سفهاء [الناس] (¬5) وسقطهم، ما لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومرؤته وكثرة خيانته، ونحو ذلك. قال الشيخ تقي الدين (¬6): بعد أن نقل هذا الاعتراض عن بعض المتأخرين من الشافعية، والظاهر أنه أراد به النووي الذي قاله الباجي ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 489). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 436). (¬3) المنتقى (7/ 304). (¬4) شرح مسلم (9/ 105). (¬5) في ن هـ (الإِسفار). (¬6) إحكام الأحكام (3/ 487).

تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، قال: وقد اختار هذا الشافعي (¬1) أن المرأة تسافر في الأمن ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة. وهذا مخالف لظاهر الحديث. قلت: وهذا وجه في المذهب حكاه الماوردي (¬2) وقيده بما إذا أمنت خلوة الرجال بها, وحكاه غيره قولاً واختاره جماعة، ولم يجيزه النووي (¬3) إن كانت الإِشارة بقول الشيخ تقي الدين. إن هذا اختاره الشافعي له. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أن تسافر" هو مطلق في كل سفر طويلاً كان أو قصيراً، كما أسلفناه، وهل هو عام في [كل سفر] (¬4) طاعة أو مخصص؟ أما سفر الهجرة من دار الحرب إلى دار [الإِسلام] (¬5) فاتفق العلماء على وجوبه وإن لم يكن معها أحد من محارمها. وأما سفر الحج والعمرة فإن كانا واجبين وهي [تستطيعه] (¬6)، كالرجل فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير، وابن سيرين، ومالك والأوزاعي. ¬

_ (¬1) ذكره عنه في الاستذكار (11/ 368). (¬2) الحاوي (5/ 477). (¬3) شرح مسلم ((9/ 104)، والمجموع (8/ 341). (¬4) في الأصل (سفر كل)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) في الأصل (السلام)، وما أثبت من ن هـ. (¬6) في ن هـ (مستطيعة).

قال أصحاب الشافعي: ويحصل الأمن: بزوج، أو محرم، أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج إلاَّ بأحد هذه الأشياء وللشافعي قول إن المرأة الواحدة كافية. واشترط أبو حنيفة: المحرم لوجوب الحج عليها إلاَّ أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاثة مراحل ووافقه جماعة من أصحاب الحديث والرأي. وحكي أيضاً عن الحسن البصري [والنخعي] (¬1)، والشعبي والحسن بن حي [...] (¬2). قال ابن بزيزة: بعد أن حكى [هذا] (¬3) عنهم وقد وقع لمالك أنها إذا لم تجد سبيلاً إلاَّ في البحر، فلا يلزمها جملة من غير تفصيل، قال: لأنها عورة. وقال ابن القاسم: إذا لم تجد ما تركب وقدرت على المشي لم يلزمها الحج إلاَّ أن يكون الموضع قريباً جداً كأهل مكة [ومن في عملهم] (¬4)، وقد قيل: إن الحج لازم لها إذا قدرت على المشي، أو على ركوب البحر مع أمان غالب. وقال كثير من أهل [العلم] (¬5): إن كان لها زوج ففرض عليه ¬

_ (¬1) في ن هـ (طاووس). (¬2) في الأصل عن طاووس. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) في ن هـ ساقطة.

أن يحج معها فإن لم يفعل عصى وعليها الحج دونه وليس له منعها من الفرض دون التطوع. وأما من لا زوج لها ولا ذو محرم فالحج واجب عليها. وقال سفيان: إن كانت من مكة على أقل من ثلاث ليال فلها أن تحج مع غير ذي محرم، أو زوج وإن كانت على ثلاث فصاعداً، فلا. قال: والذي عليه جمهور أهل العلم أن الرفقة المأمونة من [المسلمين] (¬1) تنزل منزلة الزوج أو ذي المحرم، وذكر عن عائشة -رضي الله عنها- أن المرأة لا تسافر إلاَّ مع ذي محرم، وقالت: ليس كل النساء تجد محرماً. هذا كله في سفر الحج والعمرة الواجبين، فإن كانا تطوعين أو سفر زيارة أو تجارة، ونحوها من الأسفار التي ليست واجبة. فقال الجمهور: لا تجوز إلاَّ مع زوج أو محرم. وقال بعضهم: يجوز لها الخروج مع نسوة ثقات لحجة الإِسلام. وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال عند عدم الولي. أحدها: أنها تسافر مع الرفقة المأمونة تقديماً لفريضة الحج. ثانيها: لا. ثالثها: نعم في الفرض دون التطوع. وفرّق سفيان بين المسافة البعيدة والقريبة، فلا تسافر في ¬

_ (¬1) في ن هـ (المسافرين).

الأولى إلاَّ مع زوج أو محرم، وفي الثانية: مع الرفقة، قال ابن بزيزة: والصحيح عندنا أن فريضة الله لازمة والمؤمنون إخوة، وطاعة الله واجبة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، والمسجد الحرام أجل المساجد فكان داخلاً تحت مقتضى هذا الخبر. قال القاضي عياض: واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلاَّ مع ذي محرم إلاَّ الهجرة من دار الحرب، قال: والفرق أن إقامتها في دار الحرب حرام، إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج كيف وهو مختلف في أنه على الفور أم التراخي؟ وأعلم أن الذين اشترطوا المحرم للوجوب، واستدلوا بهذا الحديث، فإن سفرها للحج من جملة الأسفار الداخلة تحته فيمنع إلاَّ مع المحرم، والذين لم يشترطوه قالوا: المشترط الأمن على نفسها مع رفقة مأمونين رجالاً أو نساء كما تقدم. قال الشيخ تقي الدين: وهذه المسألة تتعلق بالعامين إذا تعارضا (¬1)، وكان كل واحد منها عاماً من وجه، خاصاً من وجه، ¬

_ (¬1) قال في الإِيضاح لابن الجوزي (306): الأول: عامان، فإن كان معلومين فالمتأخر ناسخ إن علم التاريخ، وإلاَّ فهما متعارضان, وإن كان مظنونين فهما كالمعلومين، وإن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً: فالعمل بالمعلوم مطلقاً، لكن لا يحمل على نسخ المظنون إلاَّ: إن علم تأخره عنه. اهـ.

بيانه أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). يدخل تحته الرجال والنساء فيقتضي ذلك أنه إذا وجدت الاستطاعة المتفق عليها أنه يجب عليها الحج، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحل لامرأة" الحديث خاص بالنساء، عام في الأسفار. فإذا قيل به: وأخرج عنه سفر الحج، بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. قال المخالف: بل نعمل بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فتدخل المرأة، ويخرج سفر الحج عن النهي، فيقوم في كل واحد من النصين عموم وخصوص، ويحتاج إلى الترجيح من خارج. وذكر بعض أهل الظاهر أنه يذهب إلى دليل من خارج، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تمنعوا إيماء الله مساجد الله" (¬2). ولا يتجه ذلك لكونه عاماً في المساجد، فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي. السابع: لم يتعرض المصنف في هاتين الروايتين للزوج، وهو موجود في رواية أخرى في الصحيح، ولا بد من إلحاقه في الحكم بالمحرم في جواز السفر معه اللهم [إلاَّ] (¬3) أن يستعملوا لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في معنى غير المحرمية استعمالاً لغوياً فيما ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 97. (¬2) سبق تخريجه في كتاب الصلاة. (¬3) في الأصل (إم)، وما أثبت من ن هـ.

يقتضي الإِحرام فيدخل فيه الزوج لفظاً، ويكون ذلك وجه العدول في إحدى الروايتين عن قوله: "ذي محرم" إلى قوله: "ومعها حرمة"، لعموم هذه وخصوص تلك. خاتمة: قام الإِجماع على تحريم خلوة الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما، ومع وجوده إذا كان ممن لا يستحى منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك، وكذا على اجتماع رجال بأجنبية بخلاف اجتماع رجل بنسوة أجانب فإن الصحيح جوازه لضعف التهمة هنا بخلاف الأول. والمختار تحريم الخلوة بالأمرد والأجنبي الحسن، ولا فرق في تحريم الخلوة بين أن يكون في الصلاة وغيرها قاله أصحابنا وتستثنى مواضع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل يلزمه إذا خاف عليها لو تركها وشاهد ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- في قصة الأفك (¬1). ... ¬

_ (¬1) ذكره النووي في شرح مسلم (9/ 109).

43 - باب الفدية

43 - باب (¬1) الفدية قال الجوهري (¬2): الفِدْيَةُ: والفِدَى والفِداءُ كُلُّهُ بمعنىً واحد انتهى. وكأنها بمعنى البدل عن ما نقص من المناسك. وذكر المصنف في الباب حديثاً واحداً وهو: 217/ 1/ 43 - حديث عبد الله بن معقل، قال: جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة! حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أرى -أو ما كنت أُرى الجهد بلغ بك ما أرى- أتجد شاة؟ " فقلت: لا، قال: "فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع". وفي رواية: فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام" (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (لزوم). (¬2) مختار الصحاح (209). (¬3) البخاري أطرافه في الفتح (1814)، ومسلم (1201)، والترمذي (953، 2973)، وابن ماجه (3089)، وأبو داود (1861) في المناسك، باب: =

الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف بما وقع فيه من الأسماء. أما عبد الله بن معقل: فهو تابعي كوفي ثقة من خيار التابعين وأغرب ابن فيحون فذكر في جملة الصحابة، كنيته: أبو الوليد وهو أخو عبد الرحمن بن معقل مات عبد الله سنة ثلاث وثمانين، قاله ابن قانع. وقال ابن حبان: في "ثقاته" مات سنة بضع وثمانين بالبصرة، ثم روى عن أبي إسحاق أن عبد الله بن معقل صلى بالناس في شهر رمضان، فلما كان يوم الفطر أرسل إليه عبيد الله بن زياد بحلة وخمس مائة درهم فردها عليه، وقال: إنا لا نأخذ على القرآن أجراً. واعلم أن عبد الله بن معقل هذا يشاركه في اسمه واسم أبيه عبد الله بن معقل المحاربي الكوفي يروي عن عائشة وعن أشعب بن سليم نبه على ذلك الحافظ عبد القادر الرهاوي في "أربعينه" (¬1). ¬

_ = في الفدية، والنسائي (5/ 194، 195)، وأحمد (4/ 242)، والطيالسي (1062)، والطبراني (19/ 215) وغيرها، والطبري (3343، 3345)، والدارقطني (2/ 298، 299)، وابن الجارود (450)، ومالك (1/ 417، 418)، والبيهقي (5/ 242)، وابن خزيمة (2677)، والحميدي (709)، والنسائي في الكبرى (2/ 377) (2/ 299). (¬1) زاد ابن حجر في الفتح (4/ 17) قوله: والآخر يروي عن أنس في المسح على العمامة وحديثه عند أبي داود، والثالث: أصغر منهما أخرج له ابن ماجه. اهـ.

وأما والده: معقل فهو -بفتح الميم ثم عين مهملة ساكنة ثم قاف مكسورة- له صحبة، وجده مُقرِّن -بضم أوله وقع ثانيه وكسر ثالثه مشدداً-، ثم تنبّه لأمور. أحدها: وهم بعض من علق على هذا الكتاب فظن أن عبد الله بن معقل هذا هو السالف في الطهارة، فقال فيما رأيته بخطه: عبد الله بن معقل: تقدمت ترجمته في أول الكتاب في حديث ولوغ الكلب وهذا مغفل فذاك بالعين المعجمة والفاء وهذا بالمهملة والقاف وذاك صحابي، وذا تابعي فتصحف عليه. ثانيها: ادعى الحافظ عبد القادر الرهاوي في "أربعينه" أنه ليس لعبد الله بن معقل هذا في الصحيحين غير حديث "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬1) وهو عجيب منه فحديث الباب الذي ذكره المصنف هو في الصحيحين أيضاً، وقد سبق [في الاعتراض] (¬2) عليه النووي، فقال هذه الدعوى غلط، ففي"صحيح البخاري" في كتاب الحج (¬3): في باب إطعام المحصَر في الفدية بنصف صاع عن عبد الله بن معقل المزني هذا عن كعب بن عجرة حديث، وهو كما قال لكنه في مسلم أيضاً وبه يتم الرد على الحافظ عبد القادر. ¬

_ (¬1) الحديث من رواية عدي بن حاتم، أخرجه البخاري (1413) في الزكاة، ومسلم (1016) في الزكاة، وأحمد (4/ 256، 258، 259، 377)، والطيالسي (1036). (¬2) في ن هـ (بالاعتراض). (¬3) فتح الباري (4/ 16).

ثالثها: وقع في "شرح الفاكهي" تخليط في ترجمة عبد الله بن معقل بترجمة كعب بن عجرة فإنه ذكر في آخرها مات سنة ثلاث وخمسين بالمدينة عن خمس وسبعين سنة كذا رايته [في نسختين منه] (¬1) وهذا ليس تاريخ وفاة عبد الله بن معقل وإنما هو تاريخ وفاة كعب بن عجرة، كذا ذكره الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬2)، لكنه قال: سنة "اثنين وخمسين" بدل "ثلاث"، ولعل السبب الموقع له في ذلك أن الشيخ تقي الدين لم يفرد ترجمة عبد الله وحدها بعقد وترجمة كعب وحدها بآخر، بل ذكرهما في عقد واحد فظنهما واحداً والله أعلم. رابعها: "معقل" هذا يشتبه بثلاثة أشياء أسلفتها في كتاب الطهارة فراجعها من ثم (¬3). وأما كعب بن عجرة: فقد سلف التعريف به في الحديث الثاني من باب التشهد (¬4). الوجه الثاني: فيما يتعلق بألفاظه من ضبط وإعراب قوله: "نزلت فيّ" يعني آية الفدية وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ...} (¬5) الآية. وقوله "خاصة" أي اختصاص بسبب النزول بي، فإن لفظ الآية ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 492). (¬3) (1/ 291). (¬4) (3/ 449) من هذا الكتاب المبارك. (¬5) سورة البقرة: آية 196.

عام، وهذه الآية نزلت عام الحديبية كما ثبت في الصحيح (¬1). وقوله: "والقمل يتناثر على وجهي" هي جملة حالية من التاء في "حُملت"، وفي صحيح مسلم "قمل رأسه ولحيته" (¬2). و"أُرى" الأولى، والثالثة، بضم الهمزة أي أظن، والثانية, والرابعة بفتحها أي أشاهد ببصري فهو من رؤية العين وحذف مفعوله للدلالة عليه أي أراه. وقوله "الوجع أو الجهد" هو شك من الراوي هل قال: الأول أو الثاني. "والجهد" بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة قاله صاحب "العين"، وغيره ولا معنى للطاقة هنا، بل المعنى على المشقة اللاحقة بسبب الوجع. قال الشيخ تقي الدين: إلاَّ أن تكون الصيغتان يعني الفتح والضم بمعنى واحد. قلت: لما حكى القاضي عياض في "إكماله" عن صاحب "العين" أن الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة نقل عن الشعبي أنه بالضم في العيش وبالفتح في العمل ثم قال: وقال ابن دريد: هما لغتان صحيحتان بلغ جَهده وجُهده، وقال ¬

_ (¬1) البخاري (4190)، ومسلم. (¬2) مسلم (1201).

النووي: في "تحريره" (¬1) في كلامه على الجهد في دعاء الاستسقاء أنه بفتح الجيم، وقيل: يجوز ضمها وهو المشقة وسوء الحال. قلت: فظهر بهذا أنه يجوز قراءة الجهد هنا بالضم أيضاً وأنه لغة. وقوله: "أتجد شاة" هو الصواب ووقع في رواية ابن ماهان "أتجد شيئاً" وهو وهم. والصاع: تقدم الكلام عليه في الحديث الثامن من باب الجنابة. والفرق بفتح الراء، وقد تسكن وهو ستة عشر رطلاً كما قاله الخطابي (¬2): وهو ثلاثة آصع كما [فسر] (¬3) في الروايتين بقوله في الأولى "لكل مسكين نصف صاع". وبقوله: "في هذه بين ستة" ووقع في رواية العدوي "لكل مسكين صاع" وهو وهم وجوابه رواية غيره "لكل مسكينين" على التثنية (¬4). ¬

_ (¬1) تحرير ألفاظ التنبيه (93). (¬2) معالم السنن (1/ 162). (¬3) في ن هـ ساقطة، وانظر: تحديد مقداره في الفتح (4/ 16). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 18): وقد وقع في صحيح مسلم (لكل مسكينين صاع. اهـ) إلخ. أقول: غير موجود في شرح مسلم للنووي ولا المجرد من الشرح وإنما ذكره الأبيّ في شرحه لمسلم (3/ 317) في المتن المشروح.

وقوله: "أو يهدي" أي يهدى هو -بفتح الياء وضمها- لأنه يقال: هدى الهدي وأهدى الهدي نقلهما صاحب "المطالع"، لكن عبارته: يقال من أهدى هديت الهدى وهديت المرأة إلى زوجها، وقيل: أُهديت. الوجه الثالث: في فوائده وأحكامه. الأولى: فيه الجلوس لمذاكرة العلم ومدارسته. الثانية: فيه أيضاً الاعتناء بسبب النزول وما يترتب عليه من الحكم وأن التفسير المتعلق بسبب النزول من الصحابي مرفوع إذا لم يضفه إليه لقوله: "نزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة". الثالثة: فيه دلالة على تحريم الحلق من غير ضرر للمحرم. الرابعة: فيه أيضاً دلالة على جوازه لأذى القمل وقاسوا عليه ما في معناه من الضرر كالمرض. [الخامس] (¬1): فيه أيضاً دلالة على أنه إذا حلق لغير عذر أن الفدية تلزمه من باب التنبيه لأنه إذا وجبت في الضرر فالترفه أولى نعم يفترقان في الاسم. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أتجد شاة؟ قال: لا. وفي الثانية "أو يهدي شاة" (¬2)، قال: لا"، فأمره بالصوم، ¬

_ (¬1) في هـ الخامسة إلى آخر الفوائد. (¬2) هذا هو النسك المجمل في الآية السالفة ويؤخذ منه أن السنة مبينة لمجمل القرآن وليس المراد بقوله: "أتجد شاة؟ ".

أو الإطعام أن كل واحد منهما لا يجزىء إلاَّ عند عدم الهدي، بل هو محمول على أن سؤاله عن وجدانه، فإن وجده أخبره -عليه الصلاة والسلام- بأنه مخيّر بينه وبين الصيام والإِطعام وإن عدمه فهو مخيّر بين الصيام والإِطعام ولا شك أن لفظ الآية والحديث معاً يقتضي التخيير بين الخصال الثلاث المذكورة لأن "أو" هنا للتخيير لكنها مجملة في الآية مبينة في الحديث كما قدمناه، فالصيام مبين بثلاثة أيام وأبعد من قال من المتقدمين أنه عشرة أيام فإنه مخالف للحديث، والصدقة بثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، وأبعد من قال من المتقدمين أنه يطعم عشرة مساكين لمخالفة الحديث وعزاه القاضي (¬1) فيهما إلى الحسن البصري وبعض السلف وكأنهم قاسوه على كفارة اليمين ولعل الحديث لم يبلغهم. والنسك: في الآية واحدته نسيكة وهي الذبيحة وأعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة بصفة الأضحية أي ما شاء ذبح فهذه الفدية مخيرة مقدرة. فرع: كل هدي أو إطعام يلزم المحرم يكون بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم إلاَّ الهدي يلزم المحصر فإنه يذبحه حيث أُحصر. وأما الصوم: فإنه يصوم حيث شاء. وعند المالكية: أن له أن يذبح حيث شاء من البلاد إلاَّ إن شاء أن يجعلها هدياً فيوقفها بعرفة وينحرها بمنحره فذلك له لا عليه، ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 315).

وكذلك كل شاة تجب عن إلقاء التفث وإزالة الشعر وطلب الرفاهية بالترخص في فعل ما يمنع المحرم منه. واختلف قول أبي حنيفة فقال: مرة بقول الشافعي وهو الاختصاص، وقال: مرة إنما ذلك في الدم دون الإِطعام وهو قول أصحابه وقول عطاء. السابع: اتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث لكن وقع الخلاف في الإِطعام هل يتعين من الحنطة مقداراً وعيناً؟ يحكى عن أبي حنيفة والثوري أن نصف الصاع لكل مسكين إنما هو في الحنطة فأما التمر وغيره فيجب صاع لكل مسكين وهذا خلاف نصه لرواية مسلم ثلاثة آصع من تمر، وذكر مثله في الزبيب في كتاب أبي داود (¬1). وعن أحمد رواية: "لكل مسكين مد حنطة أو نصف صاع من غيرها". وللشافعية وجه: أنه لا يتقدر ما يعطى لكل مسكين. [فرع] (¬2) ينعطف على ما مضى الحالق لغير عذر يتخير في الفدية أيضاً خلافاً لمن قال عليه الدم فقط حكاه المازري (¬3) وحكاه الخطابي في "معالمه" (¬4) عن أبي حنيفة والشافعي وهذا لا يحضرني ¬

_ (¬1) أبي داود (1781) في المناسك، باب: في الفدية. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في المعلم (2/ 78). (¬4) معالم السنن (2/ 366).

عن الشافعي وقد صرح النووي في "شرح المهذب" (¬1) بأن مذهبنا أنه لا فرق بين الحلق للأذى أو لغيره ونقل هذا عن أبي حنيفة [وحده وحكاه القاضي عن أبي حنيفة] (¬2) وأبي ثور، [وقال:] (¬3)، قال القاضي (¬4): ومعظم العلماء على وجوب الدم على الناسي. وقال الشافعي: في أحد قوليه وإسحق وداود لا دم عليه، قال: وحكم الطيب واللباس في هذا سواء عندهم على ما تقدم من التخيير والخلاف في وجوبه. الثامنة: يؤخذ من الحديث أنه يشرع لكبير القوم أو عالمهم إذا رأى ببعض أتباعه ضرراً أن يسأله عنه وأن يرشده إلى المخرج منه إن كان عنده مخرج. التاسعة: ورد في رواية في "صحيح مسلم": "أحلق رأسك ثم اذبح نسكاً"، وهو حجة لما عليه جماعة من العلماء من أن الفدية إنما تكون بعد فعل موجبها حكاه القاضي عنهم. العاشرة: جاء في رواية في "صحيح مسلم" ما يدل على أن نزول هذه الآية قبل الحكم، ورواية أخرى فيه تدل على أن نزولها بعده، فيحتمل كما قال القاضي عياض أنه -عليه الصلاة والسلام- قضى فيها بوحي ثم نزل فيها قرآن يتلى. ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (7/ 376). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 415).

خاتمة: رأيت في "صحيح أبي حاتم ابن حبان" أنه -عليه الصلاة والسلام-: "أمره بصيام أو صدقة أو نسك أو ما تيسر" (¬1) وهذا غريب وصوابه، والله أعلم، "أو نسك ما تيسر"، وقد أخرجه مسلم في صحيحه كذلك في بعض رواياته. استدراك: هل الفدية المذكورة مرتبة، على قتل القمل فقط أو على إزالة الشعر؟ فيه خلاف للمالكية، قال بعض البغداديين: منهم بالثاني، وقال عبد الحق: بالأول, قالوا: وهو الأظهر لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، قال فاحلق ... " الحديث، قالوا: وفائدة الخلاف تظهر في المحرم إذا حلق رأس حلال ولم يقتل فيه قملاً. قال ابن القاسم: ليس عليه فدية، ويتصدق بشيء من طعام. وقال مالك: عليه الفدية كاملة. وعند الشافعية (¬2): أنه يكره للمحرم أن يفلي رأسه ولحيته فإن فعل فأخرج قملة فقتلها فنص الشافعي على أنه يتصدق ولو بلقمة فقال بعض أصحابه: بوجوب ذلك لما فيه من إزالة الأذى، وقال جمهورهم: باستحبابه. ... ¬

_ (¬1) لفظه في صحيح ابن حبان (3982): "فأمرني بصيام أو صدقة أو نسك أيما تيسر" وقد مضى تخريجه في مسلم، وفي لفظ له (أو انسك ما تيسر)، والطبراني (19/ 112)، والطبري في تفسيره (3342)، والبيهقي (5/ 169). (¬2) المجموع (7/ 352).

44 - باب حرمة مكة

44 - باب حرمة مكة ذكر فيه [رحمة الله] (¬1) حديث أبي شريح الخزاعي، وحديث ابن عباس: الحديث الأول 218/ 1/ 44 - عن أبي شريح -خويلد بن عمرو- الخزاعي [العدوى] (¬2) -رضي الله عنه-: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص -وهو يبعث البعوث إلى مكة- ائذن لي، أيها الأمير، أن أحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، فسمعته أُذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حيث تكلم به: أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن مكة حرمها الله تعالى، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فيها] (¬3) فقولوا: إن الله [قد] (¬4) أذن لرسوله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬5) ولم يأذن لكم، وإنما ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من ن هـ، ومتن العمدة. (¬3) زيادة من طبعة متن العمدة. (¬4) زيادة من طبعة متن العمدة مع إحكام الأحكام. (¬5) ساقطة من ن هـ، ومن المتن.

أُذن [لي] (¬1) ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب، فقيل لأبي شريح: ما قال لك (¬2)؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخربة (¬3). "الخربة" بالخاء [المعجمة] (¬4) والراء المهملة: قيل: [هي] (¬5) [الخيانة] (¬6). وقيل: البلية. وقيل: [التهمة] (¬7)، وأصلها في سرقة الإِبل، قال الشاعر: [وتلك قربى مثل أن تناسبا ... أن تشبه الضرائب الضرائبا] (¬8) والخارب اللص يحب الخاربا (¬9) ¬

_ (¬1) في متن العمدة (لرسوله). (¬2) في متن العمدة زيادة (عمرو). (¬3) البخاري أطرافه في الفتح (104)، ومسلم (1354)، والترمذي (809، 1406)، والنسائي (5/ 205، 206)، والمسند (6/ 385) (4/ 31، 32)، والبيهقي (8/ 52)، والبغوي (7/ 300، 301). (¬4) ساقطة من ن هـ. (¬5) زيادة من إحكام الأحكام. (¬6) قال في لسان الحرب (4/ 49): (الجناية). (¬7) في متن العمدة (الهمة) وهو خطأ. (¬8) زيادة من إحكام الأحكام. (¬9) في الكامل (3/ 43)، وغريب الخطابي (2/ 266) دون أن ينسباه لأحد: والخارب اللص يحب الخاربا ... وتلك قربى مثل أن تناسبا أن تشبه الضرائب الضرائبا =

الكلام عليه من وجوه: أحدها: أبو شريح بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الياء وبالحاء المهملة صحابي مشهور، وهو خزاعي عدوي كما ذكره كعبي أيضاً. وفي اسمه أقوال: أحدها: خويلد بن عمرو كما ذكره المصنف وكذا سماه البخاري ومسلم. ثانيها: عكسه. ثالثها: هاني بن عمرو. رابعها: عبد الرحمن بن عمرو بن صخر بن عبد العزى ابن معاوية. خامسها: كعب. سادسها: مطر حكاه العسكري. ونقل القرطبي في "مفهمه" (¬1) عن ابن سعد (¬2) أنه خويلد بن صخر بن عبد العزى أسلم قبل الفتح، قاله ابن سعد، وأبو عمر. ¬

_ = والمعنى: لا يركن اللص إلاَّ إلى لص مثله، وكأن العلاقة بينهما علاقة نسب، أو كأن الشبه الذي يجمع بين خلقيهما شبه أبناء البطن الواحدة بعضهم لبعض. اهـ. (¬1) (3/ 473)، وفيه خطأ في المطبوع خويلد بن صخر بن عبد العزيز، والصحيح ما أنت. (¬2) ذكره في الطبقات (5/ 460)، وفي موضع آخر قال: خويلد بن عمرو بن صخر ... إلخ. (4/ 295).

وقال المزني: أسلم يوم الفتح أو قبله. وقيل: إنه حمل لواءً من ألوية بني كعب يومئذ. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين حديثاً اتفقا على حديثين، وللبخاري حديث، روى عنه نافع بن جبير وغيره. مات بالمدينة سنة ثمان وستين وبه جزم النووي في "شرح مسلم" والشيخ تقي الدين ومن تابعهما. وقيل: سنة ثمان وخمسين حكاه العسكري. قال الواقدي: وكان من عقلاء أهل المدينة. فائدة: في الصحابة من يشترك معه في كنيته اثنان: أبو شريح (¬1)، هانىء بن يزيد الحارثي. وأبو شريح راوي حديث، "إن أعتى [الناس على] الله رجل" الحديث (¬2). قالوا: هو الخزاعي وقالوا: غيره. ¬

_ (¬1) انظر: الإِصابة (7/ 97)، وتهذيب التهذيب (11/ 23)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 216)، والكاشف (2/ 9)، وتجريد أسماء الصحابة (2/ 176)، وأسد الغابة (5/ 225، 226)، والكنى لمسلم مخطوط (54). (¬2) وتكملته: (يقتل غير قاتله أو طلب بدم الجاهلية: من أهل الإِسلام ومن بصر عينيه ما لم يبصر). المسند (4/ 32)، قال في مجمع الزوائد (7/ 174): ورجاله رجال الصحيح، مع ما تقدم من المراجع وما بين القوسين زيادة من المراجع.

ومن الرواة أيضاً أبو شريح المعافري (¬1)، وآخر أخرج له ابن ماجه (¬2). الثاني: "الخزاعي" -بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي ثم ألف، ثم عين مهملة ثم ياء النسب- نسبة إلى خزاعة. والعدوي: -بفتح العين والدال المهملتين، ثم واو، ثم ياء النسب- نسبة إلى بطن من خزاعة وهي نسبة إلى قبائل خمسة. أحدها: هذه، وعمر بن الخطاب ينتسب إلى عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر (¬3). الثالث: عمرو بن سعيد بن العاص [أبو عبيد] (¬4) الأموي الملقب بالأشدق لقب به لعظم شدقيه، وقيل: لقبه به معاوية لكلام جرى [بينه وبينه] (¬5)، وهو مشهور، وزعم المرزباني (¬6): عن المدائني عن عوانة [أنه] (¬7) سمي الأشدق لأنه صعد فبالغ في شتم عليّ فأصابته لقوة وأنشد له في "المعجم"، وفي كتاب "المنحرفين" أشعاراً، وفي "بارع" الهيثم كان أفقم، وأبوه سعيد ¬

_ (¬1) رجال مسلم (1/ 412)، والتهذيب (6/ 193)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 284)، والكاشف (2/ 149)، وثقات العجلي (293). (¬2) انظر: المجرد في أسماء رجال كتاب ابن ماجه رقم (751) للذهبي. (¬3) توضيح المشتبه لابن ناصر (6/ 207). (¬4) في ن هـ (أبو أمية)، وهو الصحيح كما ذكره من ترجم له. انظر: البداية والنهاية (8/ 310) وغيره. (¬5) في الأصل بياض، والتصحيح من ن هـ. (¬6) في المعجم للمرزباني (231). (¬7) زيادة من ن هـ (والمعجم).

صحابي كنيته أبو عثمان، ويقال. أبو عبد الرحمن، وقيل: إن لعمرو رواية ولم يثبت، قال أبو حاتم: ليست له صحبة وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، نعم، روى مرسلاً أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن عمر وعائشة وغيرها وعنه بنوه أمية، وسعيد، وموسى، وغيرهم، وليس المدينة لمعاوية وابنه ثم طلب الخلافة بعد، وزعم أن مروان جعله ولي عهد بعد عبد الملك بن مروان، وغلب على دمشق سنة تسع وستين، ثم لاطفه عبد الملك وأمّنه ثم قتله غدراً، بعث إليه يوماً خالياً فعاتبه على أشياء قد عفاها عنه، ثم وثب عليه فقتله، ويقال: ذبحه بيده وهو ابن أخت مروان، وزعم المسعودي: أن أبا الزعيزعة (¬1) هو الذي قتله، وقيل: كان يسمى لطيم الشيطان، وفي "كامل" المبرد أن عبد الله بن الزبير هو الذي لقبه بذلك، وكان جباراً شديد البأس, وقد ذكرت نبذة من أخباره فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب، فراجعها منه. في وفاته قولان: أحدها. سنة تسع وستين [والثاني: سنة سبعين] (¬2) وفي "تاريخ ابن قانع" سنة سبع وستين [والراجح سنة سبعين] (¬3). تنبيه: وهم بعض من علق على هذا الكتاب فأبدل عمراً هذا بعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ¬

_ (¬1) في الكامل (4/ 88) (ابن الزعيرية). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة.

القرشي الأموي، ونقل عن ابن عبد البر أنه هاجر الهجرتين هو وأخوه خالد، وقدما على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم خالد قبل إسلام أخيه عمرو، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر سنة سبع وشهد عمرو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتح وحنيناً وتبوك فلما خرج المسلمون [إلى] (¬1) الشام [خرج] (¬2) فقتل يوم أجنادين شهيداً، ولما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى حلفة في يده فقال: ما هذه الحلقة التي بيدك؟ فقال: هذه حلقة أهديها لك يا رسول الله. قال: فما نقشها. قال محمد رسول الله. فقال: أرنيه [فتختم به ونهى أن ينقش] (¬3) أحد [عليه] (¬4)، ومات وهو في يده ثم أخذه الصديق ثم الفاروق ثم عثمان [وسقط منه في بئر أريس] (¬5) , واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن سعيد على قرى عرينة منها تبوك، وخيبر، وفدك، وقتل عمرو بن سعيد مع أخيه أبان بن سعيد بأجنادين سنة ثلاث عشرة، وقيل: يوم اليرموك، وقيل: يوم مرج الصفر، وهو أيضاً سنة ثلاث عشرة هذا آخر ما نقله عن ابن عبد البر وهو عجيب من هذا الشارح، فعمرو هذا عم والد عمرو الأشدق فانتقل ذهنه من ترجمة إلى ترجمة فتنبه له. الوجه الرابع: "البعوث": جمع بعث بمعنى البعوث وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر. ¬

_ (¬1) زيادة من الصحيح، وهي مقاربة لعبارة الإِصابة (4/ 301). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.

والمراد: بالبعوث القوم المرسلون للقتال ونحوه، ويعني بها الجيوش التي وجهها يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير، وذاك أنه لما توفي معاوية وجه يزيد إلى عبد الله يستدعي منه بيعته فخرج إلى مكة ممتنعاً من بيعته فغضب يزيد وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم بأخذ بيعة عبد الله فبايعه وأرسل إلى يزيد ببيعته فقال: لا أقبل حتى يؤتى به في وثاق فأبى ابن الزبير، وقال: أنا عائذ بالبيت. فأبى يزيد وكتب إلى عمرو بن [سعيد] (¬1) أن يوجه إليه جنداً فبعث هذه البعوث. الخامس (¬2): "مكة" شرفها الله تعالى تقدمت الإِشارة إلى أسمائها في الحديث الأول من باب المواقيت. واختلف في سبب تسميتها بذلك على أقوال: أحدها: لقلة مائها من قولهم: أمتَكَّ الفصيل ضرع أمه إذا امتصه. ثانيها: لأنها تمك الذنوب أي تذهب بها وتمك الظالم أن تهلكه. ثالثها: لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي بينهما منهبطة بمنزلة المكوك. رابعها: لاجتذابها الناس إليها كما يمتك الفصيل ضرع أمه أي يجذبه. ¬

_ (¬1) في الأصل (شعيب)، والتصحيح من ن هـ. (¬2) حسب ترتيب المؤلف يضاف كلمة الوجه الخامس. وفى الأصل (خامس)، وما أثبت من ن هـ.

ومن أسمائها أيضاً: بكة [بالباء] (¬1)، قال جماعات: هما لغتان [بمعنى] (¬2). وقال البكري في "معجمه" (¬3): إن عليه أهل اللغة لأن الباء والميم يتعاقبان يقال: سمك رأسه وسبكه، وضرب لازم [و] (¬4) لازب، وقال آخرون: هما بمعنيين. واختلفوا في هذا على أقوال: أحدها "إن مكة الحرم كله، وبكة بالباء المسجد خاصة. وثانيها: أن مكة اسم البلد، وبكة اسم البيت ويرده قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} (¬5)، فإنه يدل على أن مكة مشتملة عليه. ثالثها: إن مكة البلد، وبكة البيت وموضع الطواف فحينئذ مكة أعم من بكة لكونها اسماً للحرم كله أو للبلد كله، ومكة إما البيت فقط أو مع المطاف، وإما لجميع المسجد. ولماذا سميت بكة؟ قولان: أحدهما: لازدحام الناس بها يبك بعضهم بعضاً أي يدفع في زحمة الطواف. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ (المعنى). (¬3) انظر: كتاب الأمالي لأبي علي القالي (2/ 52). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) سورة آل عمران: آية 96.

وثانيها: لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها والبك الدق. ثم مكة أفضل البقاع عند الشافعي والجمهور. وعند مالك وطائفة: المدينة أفضل، وحكى القاضي عياض: إجماع العلماء على أن موضع قبره -عليه أفضل الصلاة والسلام- أفضل بقاع الأرض، وأن الخلاف فيما سواه. وجعل ابن حزم: الفضل الثابت لمكة ثابتاً لِجميع الحرم، [ولعرفة] (¬1) وإن كان من الحل. الوجه السادس: أصل "ائذن" أأذن بهمزتين الأولى همزة الأصل والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ياء لسكون وانكسار ما قبلها فبقيت ائذن. وقوله: "أيها الأمير" الأصل: يا أيها فحذف حرف النداء [قاله أهل العربية] (¬2). الوجه السابع: قوله: "أيها الأمير ائذن لي أن أحدثك" إنما استأذنه في تحديثه ليكون أدعى إلى قبول حديثه وتحصيل الغرض منه، ففيه حسن الأدب في مخاطبة الأكابر لا سيما الملوك، لا سيما فيما يخالف مقصودهم، لأنه أدعى إلى القبول لا سيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه فإن الغلظة عليه قد تكون سبباً لإِثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه. ¬

_ (¬1) العبارة هكذا قرأتها في الأصل وفي ن هـ كأنها (وآخر)، أما في المحلى لابن حزم (7/ 379)، ومكة أفضل بلاد الله تعالى نعني الحرم وحده، وما وقع عليه اسم عرفات فقط ... إلخ. (¬2) زيادة من هـ.

وفيه أيضاً النصيحة لولاة الأمور وعدم الغش لهم والإِغلاظ عليهم. [الثامن] (¬1): قوله: "أن أحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم [الفتح] (¬2) فسمعته أذناي" إلى آخره، إنما قال ذلك تحقيقاً لما يريد أن يخبره به. وقوله: "سمعته أذناي" نفى لتوهم أن يكون رواه عن غيره. وقوله: "ووعاه قلبي"، تحقيقاً لفهمه والتثبت في تعقل معناه. وقوله: "وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه" زيادة في تحقيق السماع والفهم عنه بالقرب منه، والرؤية، وأن سماعه منه ليس هو اعتماد على الصوت دون حجاب بل بالرؤية والمشاهدة ففيه التنبيه على أن شرط الشهادة المشاهدة، ولا يكفي سماع الصوت، وهو المشهور من مذهب الشافعي. وفيه أيضاً التنبيه على قبول علم الإِنسان وتحفظه ووعيه ومعاينته ممن أخذ عنه ليكون أدعى إلى قبوله والتمسك محققاً. [التاسع] (¬3): "يوم الفتح" المراد فتح مكة، وكان في عشرين رمضان في السنة الثامنة من الهجرة. [التاسع]: يؤخذ من قوله "ووعاه قلبي"، أن العقل محله ¬

_ (¬1) في الأصل السابع، والتصحيح من ن هـ. (¬2) في ن هـ (فتح مكة). (¬3) في الأصل (الثامن)، والتصحيح من ن هـ ... إلخ المسائل.

القلب لا الدماغ، وهو قول الجمهور لأنه لو كان محله الدماغ لقال: ووعاه رأسي، وفي المسألة قول ثالث: أنه مشترك بينهما. العاشر: قوله: "حمد الله وأثنى عليه" يؤخذ منه استحباب الحمد والثناء بين يدي تعليم العلم لتبيين الأحكام، وقد يؤخذ منه وجوب الحمد والثناء على الله تعالى في الخطبة. الحادي عشر: يؤخذ منه أيضاً الخطبة للأمور المهمة والأحكام العامة. الثاني عشر: قوله: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس"، معناه تفهيم المخاطبين بعظيم قدر مكة بتحريم الله تعالى إياها ونفي ما تعتقده الجاهلية وغيرهم من أنهم يحرموا أو يحللوا كما حرموا الأشياء من قبل أنفسهم وإذا كان الأمر كذلك فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً لأن من آمن بالله تلزمه طاعته ومن آمن [بالله] (¬1) واليوم الآخر لزمه القيام بما وجب عليه واجتناب ما نهى عنه مخلصاً خوف الحساب عليه. فيؤخذ من الحديث أن التحريم وكذا التحليل [من عند الله تعالى وأن الناس ليس لهم فيه دخل] (¬2) وأن الرجوع في كل حالة دنيوية وأخروية إلى الشرع وأن ذلك لا يعرف إلاَّ منه فعلاً وقولاً وتقريراً. ويؤخذ منه أيضاً عظم قدر مكة وشرفها زادها الله شرفاً. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من ن هـ.

الرابع عشر: قدمنا في الكلام على حديث "إنما الأعمال بالنيات" أنه يقال امرؤ ومرء. وقدمنا أيضاً في الحديث الرابع من كتاب الحج الكلام على قوله: "اليوم الآخر". الخامس عشر: قوله "أن يسفك بها دماً" هو بكسر الفاء وحكي ضمها يقال: سفك ويسفك، وبالكسر قراءة السبعة والضم قراءة شاذة في قوله تعالى: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (¬1)، والسفك: لغة صب الدم قال: المهدوي ولا يستعمل السفك إلاَّ في الدم، وقد يستعمل في نشر الكلام إذا نشره. السادس عشر: سياق الحديث ولفظه يدلان على تحريم القتال لأهل مكة وبه قال القفال: في "شرح التلخيص" (¬2) في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص، قال: حتى لو تحصن، جماعة من الكفار بمكة لم يجز لنا قتالهم فيها. قلت: وهو أحد القولين في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬3) من الغارات، وهو ظاهر قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (¬4) وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة وقال الماوردي (¬5) في "أحكامه": من خصائص (¬6) مكة ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 30. (¬2) لأبي بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي. (¬3) سورة آل عمران: آية 97. (¬4) سورة العنكبوت: آية 67. (¬5) الأحكام السلطانية (166). (¬6) في ن هـ زيادة (حرم).

أن لا يحارب أهله فلو بغى أهله على أهل العدل، فإن أمكن ردهم عن البغى بغير قتال لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردهم عنه إلاَّ به. فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها. وقال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم ويضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل، قال النووي: -رحمه الله- في "شرح الأول" (¬1) والأول هو الصواب، وقد نص عليه الشافعي في "اختلاف الحديث من كتاب "الأم" ونص عليه أيضاً في آخر الكتاب المسمى بـ"سير الواقدي" من كتاب الأم قال: وقول القفال غلط نبهت عليه لئلا يغتر به (¬2). وأجاب الشافعي: في "سير الواقدي" عن الأحاديث بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم [وقتالهم] (¬3) بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف إذا تحصن الكفار ببلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء، وأكد الشيخ تقي الدين (¬4): في "شرحه" هذا الجواب والنص بلفظ الحكاية، وكأنه أراد النووي ثم قال وأقوال هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله: "فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً" وأيضاً فإنه -عليه ¬

_ (¬1) مسلم (10/ 125). (¬2) المرجع السابق. (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ، والمرجع السابق. (¬4) إحكام الأحكام (3/ 500).

الصلاة والسلام- بين خصوصية إحلالها له ساعة من نهار، وقال: "فإن أحدٌ ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" فأبان بهذا اللفظ أن المأذون للرسول فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أُذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال، ولم يكن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حصل عليه الحديث في هذا التأويل، وأيضاً فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإِظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها، وسفك الدم، وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضاً [فتخصيص الحديث بما يستأصل] (¬1) ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأنه يحمل عليه هذا الحديث فلو أن قائلاً أبدى معنى آخر وخص في الحديث لم يكن بأولى من هذا. وقال القرطبي في "مفهمه": الحديث نص على الخصوصية واعتذار منه مما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل بصدهم عنه وإخراجهم أهله منه وكفرهم بالله وبرسوله، وهذا هو الذي فهمه أبو شريح من هذا الحديث، وقد قال: بذلك غير واحد من أهل العلم. السابع عشر: ربما استدل به أبو حنيفة على أن الملتجىء إلى الحرم إذا وجب عليه قتل لا يقتل به لأن قوله: "لا يحل لامرىء أن يسفك بها دماً" عام يدخل فيه صورة النزاع. قال أبو حنيفة: بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم ليقتل خارجه وذلك بالتضييق. ونقل هذا عن ابن عباس، فقال: من أصاب حداً ثم ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع حتى يضطر إلى الخروج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد. قال ابن بزيزة: وهو قول عمر بن الخطاب وسعيد بن جبير، والحكم بن عتبة، وابن جريج وابن الزبير، قال: وقال ابن عمر لو وجدت فيه قاتل [أبي ما تعرضت له وفي لفظ آخر: ما ندهته، وروي مثله عن عائشة، وقال: ابن عباس أيضاً: لو وجدت فيه] (¬1)، قاتل أبي ما عرضت له. وقال أبو يوسف ومالك وجماعة من العلماء: يخرج فيقام عليه الحد، وروى مثله عن عائشة، وحكاه القاضي عن الحسن ومجاهد، وابن الزبير وحماد لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "اقتلوه ولو تعلقوا بأستار الكعبة" (¬2)، أي وإن كان لقائل أن يقول إن ذلك كان خاصاً به كما سلف. ولم يخالف أبو حنيفة في إقامة الحدود بالحرم غير حد القتل خاصة، وقد أخرج ابن الزبير قوماً في الحرم إلى الحل فصلبهم (¬3). وقال حماد بن أبي سليمان: من قتل ثم لجأ إلى الحرم يخرج منه فيقتل، وأما من تعدى عليه في الحرم فليدفع عن نفسه. قال تعالي: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} (¬4) الآية. وقال ابن الجوزي: انعقد الإِجماع على أن من جنا في الحرم يقاد منه فيه ولا بؤمن لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) انظر تخريجه ت (1) ص 155. (¬3) انظر: المحلى (7/ 262). (¬4) سورة البقرة: آية 191.

واختلف فيمن ارتكب جناية خارج الحرم، ثم لجأ إليه فروي عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا يقام عليه الحد فيه، ويلجأ إلى الخروج إلى الحل، ويمنع المعاملة والمبايعة حتى يضطر إلى الخروج فيخرج إلى الحل فيقام عليه الحد فيه، ونقل هذا عن ابن الجوزي القرطبي في "مفهمه" (¬1) وأقره. ومذهب [مالك] (¬2) والشافعي وغيرهما جوازه. ونقل ابن حزم في "محلاه" عن عمر وابنه عبد الله، وابن عباس وابن الزبير، وأبو شريح المنع، ثم قال: ولا مخالف لهم من الصحابة ثم نقل عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والزهري وغيرهم من التابعين موافقتهم، قال: وقد خالف مالك والشافعي في هذا هؤلاء الصحابة والكتاب والسنة، وسيأتي لنا عود إلى هذه المسألة في الباب الآتي إن شاء الله ذلك وقدره (¬3). [السابع عشر] (¬4): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يَعْضِدَ بَها شجرةً" أي يقطع بالعضد وهو سيف يمتهن في قطع الشجر، ويقال: المعضاد أيضاً يقال: [فيه] (¬5) عضَد بالفتح يعضِد بالكسر كضرب يضرب، ويعضُد بالضم، إذا أعاد، والمعاضدة: المعاونة فقوله: "ولا يعضِد" هو بكسر الضاد فقط (¬6)، وعليه اقتصر ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 475). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) ص 153. (¬4) في ن هـ (الثامن عشر). (¬5) في ن هـ (من) (¬6) انظر: لسان العرب (9/ 253).

الشيخ تقي الدين ومن تابعه. والشجر: ما كان على ساق. [الثامن عشر] (¬1): فيه دلالة على تحريم قطع شجر الحرم وهو إجماع فيما لا يستنبته الآدميون في العادة وسواء الكلأ وغيره وسواء كان له شوك يؤذي أم لا. وقال جمهور أصحاب الشافعي: لا يحرم قطع الشوك لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس، ويخصون الحديث بالقياس وصحح المتولي منهم التحريم مطلقاً وهو القوي دليلاً لقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الثاني: "لا يعضد شوكه"، ولأن غالب شجر الحرم ذو شوك والقياس المذكور ضعيف لقيام الفارق، وهو أن الفواسق الخمس تقصد الأذى بخلاف الشجر، أما ما يستنبته الآدميون فالأصح عند الشافعية إلحاقه بما لا يستنبت. قال الخطابي (¬2): وسمعت أصحاب أبي حنيفة يجعلون النهي مصروفاً إلى ما ينبته الله عز وجل دون غيره. قال الفاكهي: وهو مذهب مالك. [فروع] (¬3): لو قطع ما يحرم قطعه هل يضمنه؟ قال مالك: لا ويأثم. ¬

_ (¬1) في ن هـ (التاسع عشر). (¬2) معالم السنن (2/ 436). (¬3) في ن هـ (فرع).

وقال الشافعي وأبو حنيفة: نعم. ثم اختلفا فقال الشافعي: في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة كما جاء عن ابن عباس وابن الزبير وبه قال أحمد، وهو راد على قول الفاكهي ناصراً لمذهبه لم يرد [شرع] (¬1) بذلك. وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع القيمة. قال الشافعي: ويضمن الخلا بالقيمة. فرع: يجوز عند الشافعي ومن وافقه رعى البهائم في كلأ الشجر. وقال أبو حنيفة، وأحمد، ومحمد: لا يجوز. [التاسع عشر] (¬2): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر"، قد يتوهم منه أن فيه دلالة على أن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة والصحيح عند [أكثر] (¬3) الأصوليين أنهم مخاطبون. وأجاب بعضهم: عن هذا التوهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه، وليس فيه أن غير المؤمن لا يكون مخاطباً بالفروع، وقد جاء مثل هذا في الأحاديث كثيراً لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره"، ¬

_ (¬1) في ن هـ (الشرع). (¬2) في ن هـ (العشرون). (¬3) في ن هـ (الأكثرين والأصوليين).

وكقوله في الحديث السابق: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر" الحديث. قال الشيخ تقي الدين: والذي أراه أن هذا الكلام من باب خطاب التهييج فإن مقتضاه أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه فهذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ولو قيل لا يحل لأحد مطلقاً لم يحصل به هذا الغرض. وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1)، إلى غير ذلك مما يناسبه من الآي. [الحادي والعشرون] (¬2): "فإن أحدٌ ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أحدٌ فاعل بفعل مضمر يفسره ما بعده أي فإن ترخص أحد ترخص. وفيه دلالة على أن مكة [شرفها الله تعالى] (¬3) فتحت عنوة وهو قول الأكثرين. وقال الشافعي وغيره: فتحت صلحاً وتأولوا الحديث على أن الفتال كان جائزاً له -عليه الصلاة والسلام- فيها, ولو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه. قال الشيخ تقي الدين: وهذا التأويل يضعف قوله: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فإنه يقتضي وجود قتال منه ظاهراً ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 23. (¬2) في الأصل (العاشر)، والتصحيح من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة.

وأيضاً السِّيَرُ التي دلت على وقوع القتال، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" (¬1)، إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة، تبعد هذا التأويل أيضاً. وتوسط الماوردي (¬2) في المسألة فقال: عندي أن أسفلها دخله خالد بن الوليد عنوة، وأعلاها دخله الزبير بن العوام صلحاً، ودخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهته، فصار حكم جهته الأغلب، ولم يغتنم أسفل مكة لأن القتال كان على جبالها ولم يكن بها. قال الخطابي (¬3): وتأول [بعضهم] (¬4) قوله -عليه الصلاة والسلام- في رواية أخرى: "إنما أحلت لي ساعة من نهار" (¬5)، معنى دخوله إياها من غير إحرام، لأنه -عليه الصلاة والسلام- دخلها، وعليه عمامة سوداء (¬6). ¬

_ (¬1) مسلم (1780)، وأبو داود (2023) في الخراج والإِمارة، باب: ما جاء في خبر مكة، (1872) في المناسك، مختصراً الطيالسي (2424)، وأحمد (2/ 538)، وابن أبي شيبة (4/ 471)، والبيهقي (9/ 117، 119)، والنسائي في الكبرى (6/ 382)، في التفسير. (¬2) الحاوي (18/ 73). (¬3) معالم السنن (2/ 434). (¬4) في ن هـ (غيرهم)، وهو الذي يوافق ما في المعالم. (¬5) في المعالم زيادة (على). (¬6) من رواية جابر عند مسلم (1358)، والنسائي (8/ 211) (5/ 201)، والترمذي (1735)، وفي الشمائل (92)، وابن ماجه (2822، 3585)، والبغوي (2007)، والدارمي (2/ 74)، وابن أبي شيبة (8/ 422)، (14/ 493) وعلي ابن الجعد (3439)، وأحمد (1/ 363) (3/ 387).

وقيل: إنما أُحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد، وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه. [الحادي والعشرون] (¬1): قوله: "فليبلغ الشاهد الغائب" فيه تصريح بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام وهو إجماع، وكل من حضر شيئاً وعاينه فقد شهده، وقيل: له شاهد. والغائب: من غاب عنه وهذا اللفظ جاءت به أحاديث كثيراً، وقد أمر الله تعالى نبيه -عليه أفضل الصلاة والسلام- في كتابه بالتبليغ وحث عليه في غير آية من النصيحة لله ولرسوله وإقامة الكتاب. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ} (¬2)، وقال تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬3). وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} (¬4). ومن جملة ذلك كله البلاغ. [الثاني والعشرون] (¬5): قول عمرو لأبي شريح: "أنا أعلم بذلك منك"، إلى آخره، هو كلامه ولم يسنده إلى رواية، وقد شنع عليه ابن حزم [في ذلك] (¬6) في "محلاه" في كتاب الجنايات (¬7)، فقال: لا كرامة للطيم الشيطان، الشرطي الفاسق، يريد أن يكون ¬

_ (¬1) في ن هـ (الثاني والعشرون). (¬2) سورة المائدة: آية 67. (¬3) سورة التوبة: آية 91. (¬4) سورة المائدة: آية 66. (¬5) في ن هـ (الثالث والعشرون). (¬6) زيادة من ن هـ. (¬7) المحلى لابن حزم (10/ 498).

أعلم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وهذا الفاسق هو العاصي لله ولرسوله، ومن ولاه أو قلده وما حامل الحرمة في الدنيا والآخرة إلاَّ هو ومن أمره وأيده وصوب قوله. وقال القرطبي (¬1) أيضاً: قول عمرو ليس بصحيح للذي تمسك به أبو شريح، ولما في حديث ابن عباس يعني الآتي، وحاصل كلام عمرو: أنه تأويل غير معضود بدليل. [الثالث والعشرون] (¬2): معنى: "لا يعيذ عاصياً" لا يعصمه والاستعاذة: الاستجارة بالشيء والاعتصام به، يُقال: منه عاذ يعوذ ومعاذاً وعياذاً وأعاذه غيره يعيذه، وقد تقدم الكلام على هذه المادة أيضاً في أول باب (¬3) الاستطابة. [الرابع والعشرون] (¬4): الفار: الهارب. والخربة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء على المشهور (¬5)، ويقال: بضم الخاء (¬6) ورواه بعضهم كما ذكره ابن بزيزة بخرية بالياء المثناة، وأصلها سرقة الإِبل كما ذكرها المصنف وتطلق على كل جناية سواء كانت في الإِبل أو غيرها. ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 475). (¬2) في ن هـ (الرابع والعشرون). (¬3) (1/ 431) من هذا الكتاب المبارك. (¬4) في ن هـ (الخامس والعشرون). (¬5) كما ضبطت في إعلام الحديث (1/ 210، 211). (¬6) البخاري ح (1832).

وفي "صحيح البخاري" (¬1): أنها البلية. وقال الخليل: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض. وقيل: هو العيب. [الخامس والعشرون] (¬2): في الحديث دلالة واضحة على تحريم مكة. واختلف العلماء في ابتداء تحريمها فالأكثرون: على أنها لم تزل محرمة من يوم خلق السموات والأرض. وقيل: إن إبراهيم أول من حرمها. استدل الجمهور: بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض". واستدل القائل بالثاني: بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن إبراهيم حرم مكة". وأجاب الجمهور عنه: بأن تحريمها كان ثابتاً يوم خلق السموات والأرض، ثم خفى تحريمها ثم أظهره إبراهيم وأشاعه، لا أنه ابتدؤه. وأجاب القائل بالثاني: بأن معناه أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أو غيره يوم خلق السموات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى أي ويكون ذكر إبراهيم لتبؤه بنيانه لأنه بناه وطهره، للطائفين والعاكفين والركع والسجود. ¬

_ (¬1) البخاري ح (1832)، والفتح (4/ 41). (¬2) في ن هـ (السادس والعشرون).

وقال القرطبي (¬1): قوله في هذا الحديث: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها"، يعني أنه حرمها ابتداء من غير سبب يعزي إلى أحد ولا [تقدمه] (¬2)، ولا لأحد فيه مدخل، لا نبي ولا عالم، ولا مجتهد، وأكد ذلك المعنى بقوله: "ولم يحرمها الناس"، لا يقال: فهذا يعارضه الحديث الآخر: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة"، لأنا نقول: إنما نسب الحكم هنا لإِبراهيم لأنه [بلّغ] (¬3)، وكذلك نسبته لنبينا -عليه الصلاة والسلام-. كما قد ينسب الحكم للقاضي لأنه منفذه، والحكم لله العلي الكبير بحكم الأصالة والحقيقة. وما أحسن ما ذكره وأعلاه، وبه يزول التعارض ولله الحمد. [السادس والعشرون] (¬4): أيضاً ما أكرم الله به رسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام- من تحليل القتال له بمكة ساعة من نهار، وأنه استمر تحريمها إلى يوم القيامة. [السابع والعشرون] (¬5): فيه أيضاً أن الاعتصام إنما هو بالشرع وأتباعه وأن الأماكن الشريفة ونحوها من الأنساب والخلفاء لا تمنع من حق أوجبه الله تعالى ولا يعيذ من حدوده وعقابه. ... ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 474). (¬2) في المفهم مقدمة. (¬3) في المفهم (مبلغه). (¬4) في ن هـ (السابع والعشرون). (¬5) في ن هـ (الثامن والعشرون).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 219/ 2/ 44 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما-[قال] (¬1): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يوم فتح مكة] (¬2) -: "لا هجرة [بعد الفتح] (¬3) ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا"، وقال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم تحل ليس إلاَّ ساعة من نهار (¬4) فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلاَّ من عرفها ولا يختلا خلاه". فقال العباس: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ الإِذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: "إلاَّ الإِذخر" (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ ومتن العمدة. (¬2) زيادة من ن هـ ومتن العمدة، (¬3) زيادة من متن العمدة. (¬4) في متن العمدة زيادة (وهي ساعتي هذه). (¬5) البخاري أطرافه في الفتح (1349)، ومسلم (1353)، وأبو داود (2480) في الجهاد، باب: في الهجرة هل انقطعت؟ والترمذي (1590)، والنسائي (7/ 146)، وابن الجارود (1030)، والبغوي =

[القين: الحداد] (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: "يوم الفتح" هو فتح مكة وقد سلف في الحديث قبله تاريخه. الثاني: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإِسلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان: أحدها: "لا هجرة بعد الفتح" من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب وهذا يتضمن معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة بخلاف ما كانت أولاً وبهذا جزم الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬2) قال: وإن لم يكن النفي من هذه الجهة فيكون حكماً ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب. [الثاني] (¬3): معناه "لا هجرة بعد الفتح" فضلها كفضلها قبله كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (¬4). وقد أسلفنا في حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، وأقسام الهجرة فراجعها منه وكذا اشتقاقها. ¬

_ = (2003)، وعبد البرزاق (9713)، وأحمد (1/ 226، 266، 315)، والدارمي (2/ 239). (¬1) زيادة من ن هـ ومتن العمدة وإحكام الأحكام. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (3/ 504). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) سورة الحديد: آية 10.

الثالث: قوله: "ولكن جهاد ونية" فيه احتمالان ذكرهما الشيخ تقي الدين: أحدها: أن يريد أن معناه ولكن جهاد ونية خالصة أن جهاده لتكون كلمة الله هي العليا لا لسمعة واكتساب حطام إذ العمل مع غير النية الخالصة كالعدم. ثانيهما: أن يريد ولكن جهاداً بالفعل أو نية الجهاد لمن لم يفعل. كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" (¬1). وقال النووي في "شرح مسلم" (¬2): معناه ولكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء. الرابع: قوله: "إذا استنفرتم فانفروا" أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه قد تتعين الإِجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور فأما إذا عَيّن الإِمام بعض الناس إلى فرض الكفاية فهل يتعين عليه؟ اختلفوا فيه. كما حكاه الشيخ تقي الدين (¬3)، قال: ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عُين للجهاد، ويؤخذ غيره بالقياس. ¬

_ (¬1) أحمد (2/ 374)، ومسلم (1910)، وأبو داود (2502)، والنسائي (3097)، والحاكم (2/ 79). (¬2) (9/ 123). (¬3) إحكام الأحكام (3/ 505).

وعند المالكية وغيرهم حكاية قولين: في أن الجهاد هل يسقط فرضه على الجملة إلاَّ أن تقدح قادحة أو يطرق عدواً قوماً وهو باق؟ والأصح عند الشافعية: أنه كان في عهده -عليه الصلاة والسلام- فرض كفاية وأما بعده فقد يكون فرض عين وقد يكون كفاية ومحل بسط ذلك كتب الفروع. قال القرطبي (¬1): الحديث دال على بقاء فرض الجهاد وتأبيده خلافاً لمن أنكر فرضيته. الخامس: قوله: "إن هذا البلد حرمه [الله] (¬2) " قد قدمت الكلام عليه مع ما قد يعارضه فراجعه. ومعنى: "حرمه الله" أي حرم على المحرم وغيره الاصطياد فيه وعلى غير المحرم دخوله إلاَّ أن يحرم ويجري هذا مجرى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (¬3) أي وطئهن، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬4) أي أكلها فعرف [الاستعمال]، (¬5) دال على تعيين المحذوف وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره -عليه السلام- عن دخول مكة غير محرم معللاً أنه لم تحل له إلاَّ ساعة من نهار ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 468). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) سورة النساء: آية 23. (¬4) سورة المائدة: آية 3. (¬5) في ن هـ (الاستدلال).

الحديث، وبهذا أخذ مالك والشافعي في [أحد] (¬1) قوليهما. وكثير من أصحابهما، قالوا: لا يجوز لأحد أن يدخل مكة إلاَّ محرماً إلاَّ أن يتكرر دخوله كحطاب وصياد وقد أجاز دخولها بغير إحرام ابن شهاب والحسن والقاسم، وروى عن مالك والشافعي [والليث] (¬2) وقال بذلك أبو حنيفة: إلاَّ لمن منزله وراء المواقيت ولا يدخلها إلاَّ بإِحرام. واتفق الكل على أن من أراد الحج والعمرة أنه لا يدخلها إلاَّ محرماً. ثم اختلف أهل القول الأول في من دخلها غير محرم. فقال مالك والشافعي وأبو ثور: أنه لا دم عليه. وقال الثوري وعطاء والحسن بن حي: يلزمه حج أو عمرة ونحوه. قال أبو حنيفة: فيمن منزله وراء الميقات. قال القاضي عياض: ولم يختلف في دخوله -عليه السلام- أنه كان حلالاً لدخوله والمغفر على رأسه ولأنه دخلها محارباً حاملاً للسلاح هو وأصحابه ولم يختلفوا في تخصيصه به. وكذلك لم يختلفوا في أن من دخلها لحرب أو بغى أنه لا يحل له أن يدخلها حلالاً ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.

قلت: لا. ففيه قول للشافعي أن الخائف من القتال لا يجب عليه الإِحرام وهو الأصح عند أصحابه أيضاً. السادس: قوله: "فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد بعدي" يشتمل على تحريم القتال وعلى أنه ثابت لا ينسخ وقد تقدم ما في تحريم القتال وإباحته في الحديث الذي قبله. وفي رواية لمسلم "القتل" بدل (¬1) "القتال"، والضمير في "أنه" ضمير الأمر: الشأن. السابع: قوله: "لا يعضد شوكه" قد تقدم ما فيه في الحديث قبله (¬2). وكأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه إذا منع من قطع الشوك المؤذى فأحرى أن يمنع من قطع ما ينتفع به وهو يقارب قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬3). الثامن: قوله: "ولا ينفر صيده" أي لا يزعج عن مكانه ولا يعرض له. قال عكرمة: هو أن ينحيه من الظل ينزل مكانه رواه البخاري عنه (¬4). قال العلماء: ونبه بالنهي عن الإِزعاج من مكانه وتنحيته عنه على الإِتلاف وسائر أنواع الأذى، تنبيهاً بالأدنى على الأعلى فإِنه إذا حرم الإِزعاج والتنحية فغيره أولى إذ المراد بالصيد هنا المصيد. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (على)، وهي ساقطة من ن هـ. (¬2) انظر ص 112 - 114. (¬3) سورة الإِسراء: آية 23. (¬4) الفتح (4/ 46).

وانفرد داود فقال: إن صيد الحلال في الحرم لا يوجب الجزاء. واختلفوا: في الحلال إذا صاد صيداً في الحل ثم أتى به الحرم وأراد ذبحه به فأجاز ذلك مالك لأن ما كان تحت اليد والقهر لا يسمى مصيداً فلم يكن داخلاً في قوله: "ولا ينفر صيده". ومنعه أبو حنيفة، [وقال: يرسله] (¬1) ووافقه أحمد. وقال المازري (¬2): واختلفوا فيمن صاد في الحرم هل يدخل في جزائه الصيام؟ فأثبته مالك ونفاه أبو حنيفة، ولمالك عموم الآية (¬3)، وفيها الصيام. قال القاضي (¬4): ولا خلاف أنه إذا نفره فسلم أنه لا جزاء عليه إلاَّ أن يهلك لكن عليه الإِثم لمخالفة نهيه -عليه الصلاة والسلام-، إلاَّ شيء، روى عن عطاء أنه يطعم. التاسع: "ولا تلتقط لقطته إلاَّ من عرفها" اللقطة: الشي الملقوط وهو بفتح القاف على [المسموع] (¬5) من العرب وعليه أجمع أهل اللغة، ويقال: بإِسكانها نقله الأزهري (¬6) عن الخليل، وقاله الأصمعي والفراء وابن الأعرابي. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 115). (¬3) سورة المائدة آية 95. (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 450). (¬5) في ن هـ (المشهور). (¬6) في الزاهر (173).

وحكى ابن مالك (¬1) أيضاً: لُقاطةٌ [بضم اللام] (¬2) ولُقْطةٌ [بفتحها وفتح القاف بلا هاء] (¬3) ونضمها في بيت فقال: لُقاطةٌ ولُقْطةٌ [ولُقطَة] (¬4) ... ولَقَطٌ ما لاقِطٌ قد لَقَطه ومعنى الحديث: لا تحل لقطة حرم مكة إلاَّ لمن يريد أن يعرفها أبداً من غير توقيت سنة ثم يتملكها كغيرها من البلاد، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره "لا تحل لقطتها إلاَّ لمنشد" وهو المعرّف مطلقاً، وكذا ذكره المصنف في باب القصاص (¬5) "ولا تلتقط ساقطتها إلاَّ لمنشد". وأما ناشدها فهو طالبها وأصل النشيد والإنشاد: رفع الصوت. وذهب مالك وبعض الشافعية (¬6): إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك. وحمل المازري (¬7) الحديث على المبالغة في التعريف لأن ¬

_ (¬1) في كتابه "ما فيه لغات ثلاث فأكثر" لوحة (2/ ب). قال ابن عبد الهادي -رحمنا الله واياه- في كتابه "الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي": فالثلاث الأول بضم اللام والرابعة بفتح اللام والقاف. اهـ. تنبيه: في فتح الباري (5/ 78) خطأ، حيث كرر "لقطة" ثلاث مرات. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) زيادة من المرجع السابق. (¬5) في الحديث السادس من كتاب القصاص. (¬6) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 450). (¬7) المعلم بفوائد مسلم (2/ 115) للمازري.

الحاج يرجع إلى بلده وهو لا يعود إلاَّ بعد أعوام فتدعوا الضرورة لإِطالة التعريف بها بخلاف غير مكة. وذهب إلى الأول الشافعي وابن مهدي وأبو عبيد والداودي والباجي (¬1) وابن العربي. قال القرطبي: في "مفهمه" (¬2) وهو أظهر. وقال النووي (¬3): من خالف الحديث أوله بتأويلات ضعيفة. العاشر: "الخَلى" (¬4) بالقصر وفتح الخاء الرطب من الكلأ، الواحدة خلاوة. واختلاؤه قطعه. قال أهل اللغة: الكلى والعشب اسم للرطب منه، والحشيش والهشيم: اسم لليابس منه، والكلأ: مهموز مقصور يقع على الرطب واليابس. وقال ابن مكي (¬5) وغيره: من أهل اللغة ما يلحن العوام فيه إطلاقهم الحشيش على الرطب وهو مختص باليابس. قلت: قد حكى البطليوسي في "شرح أدب الكاتب" (¬6) عن ¬

_ (¬1) المنتقى (6/ 138). (¬2) المفهم (3/ 472). (¬3) شرح مسلم (9/ 127). (¬4) في المخطوط (الخلا)، والتصحيح من لسان العرب (4/ 209). (¬5) انظر: تثقيف اللسان (160)، ولفظه: يقولون للكلأ الأخضر حشيش وليس كذلك إنما الحشيش اليابس فأما الأخضر فيسمى الرُطْب والخلى. اهـ. (¬6) الكتاب مطبوع في إحدى المجلات العلمية السورية كما ذكره محقق كتابه المثلث.

أبي حاتم أنه سأل أبا عبيدة عن الحشيش، فقال: يكون للرطب واليابس. وحكى الأزهري (¬1) أيضاً عن بعضهم: إطلاقه على الرطب أيضاً فإذا تقرر ذلك فالرَّطْبُ يحرم قطعه وقلعه واليابس لا يحرم إلاَّ قلعه [خاصة] (¬2). الحادي عشر: "العباس": هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرت نبذة من أخباره في الحديث الخامس من كتاب الزكاة. الثاني عشر: "الإِذخر": بكسر الهمزة والذال والخاء المعجمتين نبت معروف طيب الرائحة يشبه الحلفاء. "والقين" الحداد كما ذكره المصنف وإنما ذكر القين لأنه يحتاج إليه في عمل النار، وفي معناه الصائغ وورد أيضاً كذلك في رواية للبخاري (¬3) "فإنه لصائغينا وقبورنا". ومعنى كونه "لقبورهم" أن يسد به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات. ومعنى كونه "لبيوتهم" لأجل تسقيفها من فوق الخشب، ولو قطع للحاجة التي يقطع الإِذخر كتسقيف البيوت ونحوه ففيه الخلاف في قطعه للدواء، وصححوا فيه الجواز، لا جرم جوز "الحاوي الصغير" القطع للحاجة مطلقاً ولم يخصه بالدواء [فيدخل فيه قطع ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (85). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) البخاري مع الفتح (1833).

الأشجار النابتة في الحوائط لما فيه من إصلاح الثمار بذلك وبه صرح بعض الفقهاء، وقال: يجوز أيضاً قطع ثمر المقل ما لم يدرك وهو النهس وقطع الشجر للبناء] (¬1). الثالث عشر: إجابته -عليه الصلاة والسلام- للعباس بذلك على الفور يحتمل أنه باجتهاد منه أو بتفويض الحكم إليه من الله -تعالى- وهو قول بعض الأصوليين ومن منع ذلك منهم، قال: يجوز أن يكون موحي إليه في زمن يسير فإن الوحي القاء في خفية [بواسطة الملك وهو خاص بالأنبياء والذي بالألهام يقع للأولياء ومنه الحديث "إن من متى ملهمين وإنك منهم يا عمر" (¬2)] (¬3) وقد يظهر وقد لا يظهر وقد يورد على هذا أن يقال إذا كانت مكة مما حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فكيف لأحد أن يحكم بحلية شيء منها وقد حرمها الله. والجواب: كما قال القرطبي (¬4) أن الذي حرمه الله هو ما عدا المستثنى [منه] (¬5)، لأنه لما جعل لنبيِّه التخصيص مع عِلْمه بأنه يخصِّص كذا، فالمحكومُ به لله تعالى هو ما عدا ذلك المخصّص. الرابع عشر: في الحديث أحكام: أحدها: رفع وجوب الهجرة [لغير الصحابة وغيرهم من مكة إلى المدينة بعد الفتح كما سلف. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) أخرجه البخاري بمعناه برقم (3469). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) المفهم (3/ 473). (¬5) في ن هـ (جملة) وأيضاً في المفهم.

ثانيها] (¬1): أن حكم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام باقٍ إلى يوم القيامة وجوباً أو ندباً. ثالثها: أن الجهاد بقصد الإِخلاص لله -تعالى- والطاعة له مطلوبان إلى يوم القيامة. رابعها: وجوب [النفر] (¬2) مع كل إمام براً أو فاجراً. خامسها: تحريم مكة وحرمها بتحريم الله تعالى إلى يوم القيامة. سادسها: تحريم القتال فيه. سابعها: [أن التحريم والتحليل لا يعلمان إلاَّ بالشرع] (¬3). [ثامنها: تحريم قطع شجر الحرم] (¬4). [ثامنها] (¬5): تحريم تنفير صيده وتنحيته من موضعه. [تاسعها]: تحريم لقطته إلاَّ بقصد التعريف دائماً على ما سلف. [عاشرها]: تحريم قطع الرطب من الخَلى وقلعه. [الحادي عشر]: الإِذخر من الخَلى. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) هذه المسألة في الأصل السابعة، ويكون فيه زيادة مسألة. (¬5) في ن هـ (تاسعها) ... إلخ المسائل، يراعى زيادة مسألة عن ما في الأصل.

[الثاني عشر]: جواز تخصيص العام. [الثالث عشر]: جواز تعليل الحكم من السائل ليقع الجواب على تقدير الحكم والعلة. [الرابع عشر]: الجواب على الفور إذا كان عالماً به من غير تأن. خصوصاً إذا اقتضته المصلحة. [الخامس عشر]: مراعاة المصالح العامة والتنبيه عليها من الأئمة والكبار. [السادس عشر]: المبادرة إليها خصوصاً في المجامع والمشاهد وابتداء الأمر. [السابع عشر]: أن تحريم الله تعالى وتحليله يطلقان بما في اللوح المحفوظ وبمعنى الظهور وأن الإِطلاق جائز لمن علمه على ما سبق في الكلام على تحريم مكة في الحديث الذي قبله. ***

45 - باب ما يجوز قتله

45 - باب ما يجوز قتله 220/ 1 /45 - عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور" (¬1). ولمسلم: "يقتل خمس فواسق في الحل والحرم" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: اللفظ الأول (¬3) الذي أورده هو لفظ البخاري ولفظ مسلم كذلك إلاَّ أنه قال: "فواسق" بدل "فاسق". ¬

_ (¬1) البخاري (1829، 3314)، ومسلم (1198)، والترمذي (837)، وأحمد (6/ 36/ 87، 259)، والبيهقي (5/ 209) (9/ 316)، والنسائي (5/ 208)، والدارقطني (2/ 231)، والموطأ (1/ 357)، والطيالسي (1521)، وابن خزيمة (2669)، وابن ماجه (3087)، والبغوي (1991) , والطحاوي (2/ 166). (¬2) مسلم (1198) (67). (¬3) ذكر هذا التفصيل بمعناه الزركشي في تصحيح العمدة (106)، مجلة الجامعة الإِسلامية.

واللفظ الثاني: الذي عزاه إلى مسلم ليس هو فيه وإنما لفظه: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم". وفي رواية "في الحرم" نعم، في رواية له عنها قالت: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل خمس فواسق في الحل والحرم". وحينئذ فاللفظ المذكور ليس لفظه - صلى الله عليه وسلم - بل لفظ [كلام] (¬1) الراوي، فعلى المصنف في [إيراده] (¬2) من هذا الوجه مؤاخذة فتأملها. ثم اعلم بعد ذلك أن مسلماً زاد في بعض (¬3) رواياته "الحية" وأسقط "العقرب" وفي رواية له تقييد "الغراب بالأبقع" وهو الذي في ظهره [وبطنه] (¬4) بياض. والصحيح عند الشافعية: تحريم أكل الغراب الأسود وحل غراب الزرع وفي الغراب الصغير وجهان ظاهر ما في الرافعي حله وصريح أصل "الروضة" (¬5) تحريمه. قال القاضي (¬6): وذكر في غير مسلم "الأفعى" فجاءت سبعة. قلت: لا. فإن "الحية" تناولت "الأفعى" وغيرها من جنسها وإنما هو خلاف لفظي وقد نبه على ذلك ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الأصل (إيراد)، والصحيح من ن هـ. (¬3) في الأصل زيادة (في). (¬4) زيادة من ن هـ. وذكره في إكمال إكمال المعلم. (¬5) روضة الطالبين (3/ 273). (¬6) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 313).

القرطبي (¬1). ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 284). قال ابن حجر في الفتح (4/ 26): فالتقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس حجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله - صلى الله عليه وسلم - أولاً ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم، فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ "أربع" وفي بعض طرقها بلفظ "ست" فأما طريق ست فأخرجها أبو عوانة في "المستخرج" من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها فأثبتها وزاد "الحية"، ويشهد لها طريق شيبان التي تقدمت من عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد، واغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر "الأفعى" فصارت سبعاً، وتعقب بأن الأفعى داخلة في مسمى "الحية" والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة في "المستخرج" من طريق ابن عون عن نافع في آخر حديث الباب قال: قلت لنافع فالأفعى؟ قال: ومن يشك في الأفعى؟ اهـ. وقد وقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد "السبع العادي" فصارت سبعاً. وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن المنذر زيادة ذكر "الذئب والنمر" على الخمس المشهورة فتصير بهذا الاعتبار تسعاً، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر "الذئب والنمر" من تفسير الراوي للكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود من طريق سعد بن المسب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "يقتل المحرم الحية والذئب" ورجاله ثقات وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطأة عن وبرة عن ابن عمر قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب للمحرم" وحجاج ضعيف، وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفاً أخرجه ابن أبي شيبة، فهذا جميع ما وقفت عليه من الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة. ولا يخلو شيء من ذلك من مقال، والله أعلم. اهـ.

ثانيها: "الدواب": جمع دابة وأصلها داببة كقائمة فأدغمت الباء الأولى في الثانية، وكل ماشٍ على الأرض فهو دابة. ثالثها: أصل الفسق في كلام العرب الخروج من قولهم فَسَقَت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وفَسَقَ عن أمر ربه أي خرج عنه. يفسِق ويفسُق بالكسر والضم فسقاً وفسوقاً. قال ابن الأعرابي: ولم يُسمع في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق [قال] (¬1) وهذا عجيب، والفِسِّيقُ: الدائم الفِسْقِ. ووصفت هذه الدواب بالفسق لخروجها بالإِيذاء والإِفساد عن طريق معظم الدواب، قاله النووي (¬2)، قال: وقيل لخروجها عن حكم الحيوان في تحريم قتله في الحرم، والإِحرام، والصلاة. وجزم بهذا القرطبي (¬3)، ثم قال: ويحتمل أن يقال: سميت بذلك لخروجهن من جحرهن لا ضرار بني آدم. وقال القاضي (¬4): في القول الثاني [هو] (¬5) أولى من قول الفراء، سميت الفأرة بذلك لخروجها عن جحرها واغتيالها الناس في أموالهم. ¬

_ (¬1) زيادة من مختار الصحاح. (¬2) شرح مسلم (8/ 114). (¬3) المفهم (3/ 284). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 313). (¬5) في الأصل أنه حكاه، وما أثبت من ن هـ. انظر: إكمال إكمال المعلم (3/ 313).

وقول ابن قتيبة: سمي الغراب بذلك لتخلفه عن نوح -عليه الصلاة والسلام- إذ لا يسمى كل متخلف وكل خارج فاسقاً عرفاً. وكذلك قول من قال سميت بذلك من التحريم لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (¬1)، ولقوله: {أَوْ فِسْقًا [أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2)] (¬3)، إذ ليس المراد هنا بالفسق مجرد الأكل بل الأفعال المنهي عنها. قلت: وأكد فسقهن بقوله: "كلهن فاسق". خامسها: المراد بالحرم: ما أطاف بمكة شرفها الله تعالى وأحاط بها من جوانبها جعل الله عز وجل له حكمها في الحرمة تشريفاً له وهو محدود معروف عليه علامات من جوانبه كلها ومنصوب عليه أنصاب. وذكر الأزرقي في "تاريخ مكة" بأسانيده وغيره أن إبراهيم الخليل عملها وجبريل يريه مواضعها ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بتجديدها ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية -رضي الله عنهم- وهي إلى الآن سنة ولله الحمد. والمراد بالحل: ما عدا ذلك وقد ثبت في إباحة قتلهن في الإِحرام أيضاً حديث ابن عمر في صحيح مسلم (¬4) ولفظه "خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإِحرام" فذكرهن. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3. (¬2) سورة الأنعام: آية 145. (¬3) ساقطة من ن هـ. (¬4) مسلم (1199).

واختلف في ضبط الحرم في هذه الرواية, فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء أي الحرم المشهور وهو حرم مكة. وقيل: -بضم الحاء والراء- ولم يذكر القاضي عياض في "مشارقه" وشرحه غيره، قال: وهو جمع حرم كما قال تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1). قال: المراد من المواضع المحرمة. قال النووي (¬2): والفتح أظهر ووهم الصعبي في "شرحه" فنقل هذا الخلاف في رواية المصنف وكذا بعض من علق على هذا الكتاب، والمحكي فيه الخلاف إنما هو في رواية ابن عمر لا في رواية عائشة التي في الكتاب كما صرح به النووي في "شرحه". ثم إن الصعبي وقع لَهُ وهم آخر في هذا الوهم فقال: ضبطه جماعة من المحققين. بفتح الحاء والراء ولم يذكر القاضي في "مشارقه" (¬3) غيره هذا لفظه ومن خطه نقلته وسقط منه. وقيل: بضم الحاء والراء فإنه الذي لم يذكر القاضي غيره، وكأنه انتقال نظري من الراء إلى الراء أو سقط من نسخته فتنبه له. خامسها: "الغراب" معروف وجمعه في القلة: أغربة، وفي الكثرة: غربان. وقد نظم ابن مالك جموعه [في بيت] (¬4) فقال: بالغُرْب اجمع غُرَاباً ثم أَغْرِبةٌ ... وأَغْرُبُ وغَرَابِينُ وغِرْبَانٌ ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 95. (¬2) شرح مسلم (8/ 115). (¬3) مشارق الأنوار (1/ 188). (¬4) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.

سادسها "الحِدَأَةُ": بكسر الحاء المهملة وفتح الدال كما ضبطه المصنف في بعض النسخ مقصورة وبالهاء وجمعها حِدَأ كذلك بغير "هاء" كعنبة وعنب قاله ثعلب (¬1). قال القاضي عياض: وقد يكون مفرداً يراد به الذكر. قال صاحب العين: وهي طائر يأكل الجرذان. وقال ابن قتيبة: جمعها حِدَاءٌ وحِدآن. قال ابن سيده (¬2): والحِدَأَ: أيضاً بالكسر وبالمد جمع: الحدأة وهو نادر. قال ابن درستويه: من العرب من يقول الحِدَوْ. وقال الأزهري (¬3): كأنها لغة فيها. قال ابن عديس: وهو الحدي. أيضاً مثل القرى. وأهل الحجاز: يقولون حُدَيه، والجمع: حدادي. وقال أبو حاتم: أهل الحجاز يخطئون فيقولون الحُدَيا. وحكى ابن الأعرابي حداية وحَدَا. وحكى ابن الأنباري في "مقصوره" الحِدَأُ جمع حِدَأَة وربما فتحوا الحاء فقالوا حَدَأةٌ وحَدأ والكسر أفصح. وجاء في رواية لمسلم (¬4) "الحُديا" بضم الحاء مقصور ومشدد الياء. ¬

_ (¬1) شرح الفصيح لابن الجبان (219)، ومجالس ثعلب (1/ 119). (¬2) المخصص (8/ 161). (¬3) تهذيب اللغة (5/ 188). (¬4) وأيضاً البخاري في الفتح (3314).

قال ثابت: وصوابه الهمز على معنى التذكير وإلاَّ فحقيقته "الحُديثة" (¬1) وكذا قيده الأصلي في صحيح البخاري (¬2) في موضع (¬3) "الحدية" على التسهيل والإِدغام. سابعها: "العَقْرَبُ" مؤنثة، ويقال: أيضاً عَقْرَبةٌ وعَقْرَباءُ بالمد غيرُ مصروف وللذكر عُقْرُبانٌ بضم العين والراء. ثامنها: "الفَأْرَةُ" مهموز ويجوز تسهيلها معروفة. تاسعها: "الكلب العقور" معروف وحمله زفر على الذئب وحده، وعداه الجمهور إلى كل عاد مفترس غالباً. وروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة "أنه الأسد". ومعنى العقور: العاقر الجارح. عاشرها: في رواية مسلم التي ذكرناها "خمس فواسق يقتلن" هو بتنوين "خمس"، وقول عائشة الذي نبهنا عليه "بقتل خمس فواسق" هو بإضافة "خمس" لا بتنوينه كما ضبطه النووي في "شرح مسلم" (¬4). وقال الشيخ تقي الدين (¬5): المشهور في الرواية "خمس" بالتنوين أي "وفواسق" صفة له، ويجوز: "خمسُ فواسق" بالإِضافة ¬

_ (¬1) كتبت في الفتح (6/ 355) (الحُدَيّا)، (الحدأة). (¬2) الفتح (1/ 534) (حَدَيَّاهٌ). (¬3) في إكمال إكمال المعلم (3/ 313)، بدلاً منها (أو). (¬4) شرح مسلم (8/ 115). (¬5) إحكام الأحكام (3/ 510).

من غير تنوين، قال: و [في] (¬1) رواية المصنف يعني الأولى يدل على صحة المشهور، فإنه أخبر عن "خمس" بقوله: "كلهن فاسق" [وذلك] (¬2) يقتضي أن ينون "خمس" وتكون "فواسق" خبراً، وبين التنوين والإِضافة في هذا فرق دقيق في [المعنى] (¬3)، وذلك أن الإِضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل، وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها بطريق المفهوم .. [وأما] (¬4) مع التنوين [فإنه] (¬5) يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك -وهو القتل- معلل بما جُعل وصفاً، وهو الفسق. فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم، وهو التخصيص. حادي عشر: [لا] (¬6) خلاف في استعمال هذا الحديث والأخذ به في جواز قتل الست المذكورة في الحل والحرم إلاَّ شذوذاً، روى عن علي ومجاهد أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمي ولا يصح عن علي، وروى في ذلك حديث فيما يقتل المحرم "ويرمي الغراب ولا يقتله" (¬7). أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬3) في الأصل ون هـ الإِضافة، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬4) في الأصل (أن)، وما أثبت من إحكام الأحكام ون هـ. (¬5) زيادة من إحكام الأحكام. (¬6) زيادة من ن هـ. (¬7) الحديث أخرجه أحمد في المسند (3/ 3)، وأبو داود في المناسك =

وقالت طائفة: لا يقتل [من] (¬1) الغربان إلاَّ الأبقع للرواية السالفة التي أسلفناها. وحكى الباجي (¬2): عن النخعي أنه لا تقتل الفأرة وإن قتلها فداها وهو خلاف النص. ¬

_ = (1770) باب: ما يقتل المحرم من الدواب. قال الخطابي في المعالم (2/ 361) وقوله في حديث أبي سعيد: "ويرمي الغراب ولا يقتله" يشبه أن يكون أراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب، وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان، وكان عطاء يرى فيه الفدية، ولم يتابعه على قوله أحد. قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإِحرام إلاَّ ما جاء عن عطاء قال: في محرم كسر قرن غراب فقال: إن أدماه فعليه الجزاء، قال الخطابي: لم يتابعه على هذا أحد. اهـ. قال ابن حجر في الفتح (4/ 38) شرط الاستدلال به على ثبوت صحته. اهـ. والحديث أخرجه الترمذي (838)، وابن ماجه (3089)، ولكن بدون قوله في الغراب: "يرمي الغراب ولا يقتله". قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (15/ 164) بعد ذكره لحديث أبي سعيد: فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر: وسالم عن ابن عمر. والحديث عن علي فيه أيضاً ضعف ولا يثبت، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة. (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) ذكر النص ابن عبد البر في التمهيد (15/ 169)، ولم يذكر الفدية ولم أجده في المنتقى (2/ 260)، وذكره في معالم السنن (2/ 361) النص كاملاً بالإِسناد ثم قال: قلت: وهذا القول مخالف للنص، خارج عن أقاويل أهل العلم. اهـ.

وحكى الخطابي (¬1): عن مالك أنه لا يقتل الغراب الصغير وتأوله على نوع من الغربان يأكل الجيف. قال القاضي (¬2): هو عندي تحريف على مالك من قوله في قتل صغارها -يعني فراخها- فإن مالكاً وكثيراً من أصحابه يقولون: لا يقتلها المحرم حتى تكبر وتؤذى، [ولم يرد بذلك جنساً من الغربان صغاراً]. واختلف العلماء في معنى جواز قتلهن مع اتفاقهم على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن. فقال الشافعي: المعنى فيه كونهن غير مأكولات فكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه. وقال مالك: المعنى فيهن كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا. قال الشيخ تقي الدين (¬3): وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول، وأما جواز الإِقدام على قتل كل مأكول ما ليس فيه ضرر فغير هذا. وفي كتب الحنفية الاقتصار على ما في الحديث وعدم التعدية، ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين ¬

_ (¬1) معالم السنن (2/ 360)، والمنقى للباجي (2/ 263)، والتمهيد (15/ 162). (¬2) إكمال المعلم (4/ 205) وما بين القوسين العبارة فيه (لأن صغارها لا تؤذى). ولم يرد مالك بصغار الغربان جنساً دون جنس. (¬3) إحكام الأحكام (3/ 513).

لأبي حنيفة عنه أنه ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته. قلت: لا تناقض إن أرادوا المنصوص في الحديث مطلقاً دون ما في حديث عائشة هذا ونحوه. وقد روى أبو داود (¬1) في "مراسيله" عن سعيد بن المسيب رفعه يقتل المحرم الذئب، ورواه الدارقطني (¬2) مرفوعاً من رواية ابن عمر وفيه الحجاج بن أرطأة. نعم بمقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه. أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر وما في معناها من بقية السباع العادية وأصحاب الشافعي يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه في الحديث وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عداه القائسون إلى كل ما وجد فيه معنى ذلك الحكم كما في الأشياء الستة الموقوفات. وقد وافق أبو حنيفة على التعدية فيها، وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي تعدى به. قال الشيخ تقي الدين (¬3): وأقول: المذكور ثَمّ وهو تعليق ¬

_ (¬1) المراسيل (137). قال ابن حجر في الفتح (4/ 36): ورجاله ثقات. اهـ. وعبد الرزاق (4/ 444). (¬2) الدارقطني (2/ 232) وضعفه في التعليق المغني على الدارقطني بسبب الحجاج بن أرطأة وأيضاً الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف من الدارقطني (260) بالحجاج. ورواه عبد الرزاق (4/ 444)، وابن أبي شيبة (4/ 55) مقتصراً على الذئب، وأحمد (2/ 22، 30)، وأيضاً عن عطاء وقبيصة بن أبي ذؤيب في مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة. (¬3) إحكام الأحكام (3/ 514).

الحكم بالألقاب، وهو لا يقتضي مفهوماً عند الجمهور، فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ، والمذكور ههنا مفهوم عدد، وقد قال به جماعة، فيكون اللفظ مقتضياً للتخصيص، وإلاَّ بطلت فائدة التخصيص بالعدد، وعلى هذا المعنى [يقول] (¬1) بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالمنصوص عليه في الحديث -أعني مفهوم العدد- وذكر [غير] (¬2) ذلك مع هذا أيضاً. قال: واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذٍ قوي، بالإِضافة إلى تصرف القائسين، فإنه ظاهر من جهة الإِيماء بالتعليل بالفسق، وهو الخروج عن الحد، وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى [العلة] (¬3) أن يتقيد الحكم بها وجوداً وعدماً فإن لم يتقيد وثبت الحكم حيث تقدم بطل تأثيرها بخصوصها في الحكم حيث ثبت الحكم مع انتفائها وذلك بخلاف ما دل عليه النص من التعليل بها. قلت: وأما القاضي عياض (¬4) فنقل عن ظاهر كلام الجمهور أن المراد أعيان ما ورد في الحديث لأمور اختصت بها، قال: وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة ولذلك. قال مالك (¬5): لا يقتل المحرم الوزغ وإن قتله فداه ولا خنزيراً ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في إحكام الأحكام (عول). (¬3) في الأصل (العلم)، رما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬4) إكمال المعلم (3/ 313). (¬5) انظر: التمهيد (15/ 153)، والمنتقى (2/ 263).

ولا قرداً مما لا ينطلق عليه اسم كلب إذ جعل الكلب صفة لا اسماً، قال: وهو قول العلماء كافة أنه لا يختص بالكلب نفسه، ولا من الطير ذوات المخالب سوى ما ذكر، ورأى أن لفظ الكلب لا يختص بالإِنسي وأنه ينطلق على كل عاد مفترس غالباً كالسباع والنمور، والفهد والذئب ووافقه أكثر العلماء على أنه لم يرد بالكلب المسمى به عرفاً بل كل ما ينطلق هذا الاسم من السباع العادية [المفترسة] (¬1) وهو قول الثوري وأحمد وابن عيينة وزيد بن أسلم، وإليه نحا الشافعي ثم نقل عن أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والأوزاعي أنه يقصر اسم الكلب على العرفي، وقالوا: الذئب مثله، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده كما سلف. قال: ونحا ابن القصار في تفسير المذهب إلى أن المراد بتعيين هذه الفواسق التنبيه على ما شابهها في الأذى، وقاسوا على الكلب العقور سائر [ما يتعدى] (¬2) للافتراس من السباع، وعلى الحدأة والغراب ما في معناهما وإنما خُصا لقربهما من الناس ولو وجد ذلك من الرخم والسنور لكانت مثلها، وبالفأرة ما ضرره مثلها وأشد منها كالوزغ، وبالعقرب على الزنبور، وبالحية والأفعى على ما أشبههما من ذوات السموم المهلكات. ثم قال: وذهب الشافعي إلى أن التنبيه بذكر ما ذكر على تحريم أكلهن وجعله علة في كل ما يقتله المحرم فيقتل عنده كل سبع وكل ذي مخلب من الطير كالنسر والرخم والبازي وكل ما ليس بصيد ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (ما يقصد).

ويقتل صغار كل ذلك عنده وكباره ولا يقتل عنده الضبع والثعلب والهر لجواز أكلها عنده. قلت: الأصح عنده في الشهر المنع ولا يقتل السبع عنده ولا عند مالك لأنه ليس مفترساً غالباً ولا مما سمى كلباً ولا عند أبي حنيفة لأنه ليس مما نص عليه. واتفقوا على أنه إذا صال عليه فقتله لا فدية عليه سواء ما يباح قتله وما لا يباح قتله، ابتداء فداه وإن صال عليه. قال: ووقع لبعض أصحابنا في سباع الطير غير الغراب والحدأة أن على المحرم في قتلها الفدية وإن ابتدأ به والمعروف خلافه. وروى عن مالك في الغراب والحدأة لا يقتلها إلاَّ أن يفديه، والمشهور والظاهر من مذهبه خلافه. وروى عنه أن الذئب لا يقتله ابتداء وكأنه ضعف عنده أمر افتراسه غالباً ولم يختلف في قتل الحية والعقرب ولا في قتل الحلال الوزغ في الحرم. قال مالك: ولو تركت لكثرت (¬1). وقد صرح مسلم بالأمر بقتلها في آخر صحيحه. ولما حكى المازري، عن مالك أن المعنى في قتل هذه الفواسق كونها مضرة، قال فذكر الكلب العقور [تنبيهاً على ما يضر ¬

_ (¬1) للاطلاع على التفصيل في هذا المبحث. انظر: التمهيد (15/ 153)، والمنتقى للباجي (2/ 260)، وفتح الباري (4/ 34).

بالأجسام على جهة الاختلاس] (¬1) (¬2) والحدأة والغراب للتنبيه على ما يضر بالأموال مجاهرة، [وبالفأرة على ما يضر بها خفية] (¬3). وقال الشيخ تقي الدين (¬4): من علل بالأذى عند من قال بالتعدية، قال نبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلاً عند بعضهم، وبالفأرة على ما تؤذي بالنقب والقرض كابن عرس. قلت: الأصح عند الشافعية حله. ومذهب أبي حنيفة وأحمد: حرمته -وبالغراب والحدأة على ما يؤدي بالاختطاف كالصقر والباز، وبالكلب العقور على كل عادٍ بطبعه كالأسد والفهد والنمر وتكون الدلالة على المذكورات من باب التنبيه على أنواع الأذى وهو مختلف، ومن قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل في حال التخصيص في الذكر بهذه لما نص عليه على الغالب، فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور، بحيث يعم أذاها، فكان ذلك سبباً للتخصيص، والتخصيص لأجل الغلبة [ليس له] (¬5) مفهوم على ما عرف في الأصول، إلاَّ أن خصومهم جعلوا هذا ¬

_ (¬1) قال المازري في المعلم (2/ 77): لينبه به على ما يضر بالأبدان على جهة المواجهة والمغالبة. اهـ. هكذا العبارة. (¬2) وهنا سقط "وذكر العقرب لينبه بها على ما يضر بالأجسام على جهة الاختلاس وكذلك". (¬3) العبارة هكذا: وذكره الفأرة للتنبيه على ما يضر بالأموال اختفاء. (¬4) إحكام الأحكام (3/ 517) للنظر في فارق العبارات. (¬5) في إحكام الأحكام (3/ 518) إذا وقع لم يكن.

المعنى معترضاً عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية وتقريره: أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق قياساً شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه، أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر، فلا إلحاق، ولما كانت هذه الأشياء عادة الأذى -كما ذكرتم-[أمكن] (¬1) أن يكون ذلك سبباً لإِباحة قتلها لعموم ضررها، وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل. فلا تدعوا الحاجة إلى إباحة قتلها، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات، فلا يلحق به. وأجاب الأولون عن هذا بوجهين: أحدهما: أن الكلب العقور أذاه نادر وقد أبيح قتله. وثانيها: معارضة [الندور] (¬2) في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر. ألا ترى أن تأثير [الفساد] (¬3) بالفأرة [بالنقب] (¬4) -مثلاً- والحدأة تخطف شيئاً يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس؟ فكان بإباحة القتل أولى. فرع: قالت الشافعية يكره للمحرم تنقية القمل من بدنه وثيابه ولا كراهة. ويكره له أن يفلي رأسه ولحيته فإن فعل فاخرج منها قملة ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (ناسب). (¬2) في إحكام الأحكام (الندرة). (¬3) غير موجودة في إحكام الأحكام. (¬4) زيادة من إحكام الأحكام.

وقتلها تصدق ولو بلقمة استحباباً على الأصح كما أسلفته في باب الفدية (¬1) وكأن القائل بالوجوب يحتج إلى منع التفدية في جواز قتل ما سوى المنصوص عليه في الحديث. الوجه الثاني عشر: اختلف العلماء في المراد بالكلب العقور. فقيل: هو الإِنسي المتخذ. وقيل: كل عاد مفترس كما تقدم، والجمهور على الثاني، ويدل له بأنه -عليه الصلاة والسلام- لما دعا على عتبة بن أبي لهب بأن يسلط عليه كلباً من كلابه (¬2) افترسه سبع فدل على تسميته بالكلب. ورجح من قال بالأول: بأن إطلاق اسم الكلب على غيره خلاف العرف، وإذا نقل اللفظ من المعنى اللغوي إلى العرف كان حمله عليه أولى وهذا إذا لم يكن ثم [قرينة تقوي] (¬3) أحدها فإن كانت مما اقترنت به أولى سواء اقترنت باللغوي أو العرفي. الثالث عشر: اختلفوا في صغار هذه الأشياء، وعموم الحديث شاهد للجواز وهي عند المالكية منقسمة فأما صغار الغراب والحدأة ففي قتلها قولان لهم وأشهرهما القتل كما قاله ابن شاس والشيخ تقي الدين (¬4)، ودليلهم عموم الحديث ومن منع اعتبر الصفة التي ¬

_ (¬1) ص 95. (¬2) الحاكم (2/ 539)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 338). وحسنه ابن حجر في الفتح (4/ 39). (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬4) الاستذكار (12/ 29، 30). انظر: إحكام الأحكام (3/ 518).

عَلل القتلَ بها، وهي "الفسق" على ما شهد به إيماء اللفظ. وهو معدوم في الصغار حقيقة. والحكم يزول بزوال علته. وأما صغار الكلاب ففيها لهم قولان أيضاً: وعدم القتل فيه أولى لأنه أبيح قتله [في حالة تقييد و] (¬1) الإِباحة بها وهي كونه عقوراً، وهي مفقودة في الصغير غير معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء بخلاف غيره من المذكورات فإنه ينتهي بطبعه عند الكبر إلى الأذى طبعاً. وأما صغار باقي المذكورات: فتقتل وهو ما حكاه ابن يونس عن ابن المواز وظاهر اللفظ والإِطلاق يقتضيه. قال القاضي عبد الوهاب: ولا يكره قتلها. قال: وكذا الزنبور. وحكى [العبدي] (¬2) منهم خلافاً فيه وأطلق المازري حكاية قولين في صغار ما يجوز قتله قال: وعلى أنها لا تقتل ففي الجزاء فيها إن قتلت قولان. الرابع عشر: يقاس على قتل هؤلاء الفواسق في الحرم كل من يجب قتله فيه وإقامة الحدود به ممن اجترحها فيه أو في غيره ثم لجأ إليه وهو قول مالك والشافعي وغيرهما كما قدمناه في الباب قبله (¬3). ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (3/ 520) بصفة تتقيد. (¬2) في هـ العبدري. (¬3) ص 108 - 112.

ونقل القاضي (¬1) عن أبي حنيفة وأصحابه: أن ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه، وما فعله خارجه ثم لجأ إليه إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه خارجه فيقام عليه وما كان دون النفس يقام عليه، وحكاه النووي في "شرحه" (¬2) عن أبي حنيفة وطائفة، قال القاضي (¬3): وروى عن ابن عباس وعطاء والشعبي والحكم نحوه، ولم يفرقوا إلاَّ أنهم لم يفرقوا بين النفس ودونها. وحجتهم قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬4). والحجة عليهم: أن من ضيق عليه هذا التضييق فليس بآمن. وهذه الأحاديث أيضاً لمشاركة فاعل الجناية لهذه المذكورات في اسم الفسق بل فسقه أفحش لكونه مكلفاً بخلاف المذكورات فإن فسقها طبيعي ولا تكليف عليها. والمكلف المرتكب للفسق هاتك حرمة نفسه فهو أولى، ومعنى الآية عند أكثر المفسرين أنه إخبار عما كان قبل الإِسلام وعطف على ما قبله من الآيات. وقيل: آمن من النار. وقيل: الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (3/ 315). (¬2) شرح مسلم (8/ 116). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 315). (¬4) سورة آل عمران: آية 97. (¬5) سورة التوبة: آية 5.

وقيل: ظاهر الآية على البيت لا الحرم، والاتفاق على أنه لا يقام الحد في البيت ولا في المسجد ويخرج فيقام عليه خارجاً منه. ولما ذكر الشيخ تقي الدين (¬1): المعنى السالف في أن الجاني الملتجىء إلى الحرم أولى بإقامة مقتضى الفسق، قال: هنا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له. فرع: لو التجأ إلى المسجد الحرام قال إمام الحرمين: أو غيره من المساجد اخرج منه وقتل لأنه تأخير يسير. وفيه صيانة للمسجد الحرام وفي وجه ضعيف أنه تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلاً لتوفية الحق وإقامة الهيبة. قال في الروضة: ولو التجأ إلى الكعبة أو إلى ملك إنسان أُخرج قطعاً. ... ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 521).

46 - باب دخول مكة وغيرها

46 - باب دخول مكة وغيرها ذكر فيه -رحمه الله- ثمانية أحاديث: الحديث الأول 221/ 1/ 46 - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتلوه (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: ابن خطل هذا اسمه عبد العزى، وقال الكلبي: غالب بن عبد الله، وقال ابن إسحاق، وجماعة: عبد الله، وكذا أخرجه ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (1846)، ومسلم (1353)، والنسائي (5/ 200، 201)، والترمذي (1693)، وأبو داود (2685)، في الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإِسلام، وابن ماجه (2805)، والبغوي (2006)، والحميدي (1212)، وأحمد (3/ 109، 164، 176، 231)، والموطأ (1/ 423)، والدارمي (2/ 73)، وابن أبي شيبة (14/ 492)، والبيهقي (5/ 95) (8/ 205).

أبو داود (¬1) والنسائي (¬2) في سننهما. وقيل: هلال (¬3). ووقع في "صحيح ابن السكن" سمي بذلك في حديث آخر، وظاهر إيراد القرطبي في "مفهمه" (¬4) ترجيحه، ثم نقل عن الزبير بن بكار أنه هلال بن عبد الله، وأن عبد الله هو الذي يقال له خطل، ولأخيه عبد العزى بن عبد مناف أيضاً، خطل هما جميعاً الخطلان، قاله أبو عمر (¬5). وقيل: اسمه سعيد بن حريث كذا رأيته في "شرح ابن القطان"، ولعله من الناسخ، فإن هذا هو الذي قتله كما ستعلمه كان قد أسلم وهاجر واستكتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم [كفر] (¬6)، ولحق بمكة ¬

_ (¬1) أبو داود (2685) في الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإِسلام. (¬2) النسائي (5/ 200، 201). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (4/ 61): والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال، بين ذلك الكلبي في النسب، وقيل: هو عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب، وقد ورد عند الدارقطني (2/ 301) (4/ 168)، والحاكم فذكروا اسمه: هلال بن خطل، وقد نقل السيوطي في تنوير الحوالك (1/ 292)، تصحيح الزبير بن بكار: بأن اسمه هلال. أما ما ذكر بأن اسمه سعيد بن حريث فذكره النووي في شرح مسلم (131/ 9) عن أهل السير. (¬4) المفهم (3/ 378). (¬5) الاستذكار (13/ 350)، والتمهيد (6/ 175). (¬6) زيادة من هـ.

فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من قتله فهو في الجنة" (¬1) فقتله أبو برزة الأسلمي وشاركه فيه سعيد بن حريث، وقيل: إن الذي قتله هانىء بن دينار رواه الإِمام أحمد. ووقع في رجال هذا الكتاب للصعبي، كما رأيته بخطه ما نصه: قتله أبو برزة الأسلمي (¬2). قال واسمه: هاني بن نيار رواه الإِمام أحمد، وهذا ليس اسماً لأبي برزة الأسلمي، وإنما هو أحد الأقوال في اسم أبي بردة بالدال سلف في باب صلاة العيدين (¬3). ¬

_ (¬1) ذكره صاحب المصباح المضيء في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (1/ 165) نقلاً عن عبد الكريم الحلبي في شرح السيرة لعبد الغني، وقال ابن سيد الناس: -رحمنا الله وإياه- في عيون الأثر (2/ 314) بعد ذكره للحديث: هذا وهم، والنزال بن سبرة له صحبة، وروايته عن علي مخرجة في الكتب، وإنما الحمل فيه على من هو دون، وهذه الواقعة معروفة عن ابن أبي سرح، وهو ممن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدر دمه يوم الفتح كابن خطل، فقتل ابن خطل ... إلخ. وذكره في تنزيه الشريعة (2/ 4)، واللآلىء المصنوعة (1/ 216). (¬2) انظر: الفتح (4/ 60)، والتمهيد (6/ 174)، وأبو داود (2685)، وفي الحدود، باب: الحكم فيمن ارتد (4359)، والنسائي (7/ 105)، والدلائل (5/ 59)، وابن أبي شيبة (14/ 491)، والبزار (3/ 350)، وأبو يعلى (2/ 100)، وقد جمع بين الأقوال فيمن قتله بالتفصيل ابن حجر بالفتح وساقها مطولاً، وانظرة مسند الإِمام أحمد حيث بين أن أبا برزة هو الذي قتله (4/ 422، 423). (¬3) (4/ 202)، وانظر: الاستيعاب (2869)، والإِصابة (523/ 6) في ترجمة هانىء.

وقال البغوي (¬1): سبب قتله أنه -عليه الصلاة والسلام- بعثه مصدقاً وكان له مولى يخدمه، وكان مسلماً فنزل منزلاً وأمر المولى أن يذبح ويصنع طعاماً فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه وقتله، ثم ارتد مشركاً، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتلهما معه فقتلت إحداهما وهربت الأخرى. وفي "شرح السنة" (¬2) للبغوي [أيضاً] (¬3) إنما أمر بقتله، لأنه كان بعثه في وجه مع رجل من الأنصار، وأمّر الأنصاري عليه فلما كان ببعض الطريق وثب على الأنصاري، فقتله، وذهب بماله. ونقل النووي: في "شرح مسلم" (¬4) عن أهل السير أن الذي قتله هو سعيد بن حريث، وفي "سنن أبي داود" (¬5) و"النسائي" (¬6) من حديث [سعد] (¬7) بن أبي وقاص أنه استبق إليه سعيد بن حريث، ¬

_ (¬1) ليست في البغوي وإنما المذكور ما يأتي بعده، وانظر سيرة ابن هشام (4/ 28)، وعيون الأثر (2/ 237)، والمغازي للواقدي (859، 860)، وفتح الباري (4/ 61). (¬2) البغوي في شرح السنة (7/ 305) الدرر في المغازي والسير لابن عبد البر (233)، وذكره في الفتح (4/ 61). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) (9/ 132). أقول هذا وهم من المؤلف -رحمنا الله وإياه- وما ذكره أحد الأسماء التي ذكرها النووي لابن خطل. (¬5) سبق تخريجه. انظر: ت (1، 2)، (ص 155، 156). (¬6) سبق تخريجه. انظر: ت (1، 2)، (ص 155، 156). (¬7) في ن هـ (سعيد).

وعمار بن ياسر فسبق سعيد عماراً وكان أشب الرجلين فقتله. وفي "معرفة الصحابة لأبي موسى" سعيد بن ذؤيب بن حريث (¬1)، وفي "سنن البيهقي" (¬2) من حديث عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي عن جده عن أبيه، أن الزبير بن العوام قتله. وذكر ابن هشام أن سعيد بن حريث قتله مع أبي برزة الأسلمي، اشتركا في دمه، وجزم أبو نعيم في "المعرفة" بأن قاتله الثاني أعني الأسلمي (¬3). ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 61). (¬2) الدلائل (5/ 63)، والسنن الكبرى (9/ 212)، والدارمي (2/ 301) (4/ 168)، والحاكم في المستدرك وأيضاً في الطبراني الكبير (5529). (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 60): وقد جزم الفاكهي في "شرح العمدة" بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأى أنه هو الذي جاء مخبراً بقصته، ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي: (فقال اقتله) بصيغة الإِفراد، على أنه اختلف في اسم قاتله، ففي حديث سعيد بن يربوع عند الدارقطني والحاكم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا حرم: الحويرث بن نقيد بالنون والقاف مصغر وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح -قال- فأما هلال بن خطل فقتله الزبير ... " الحديث. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في "الدلائل" نحوه لكن قال: "أربعة نفر وامرأتين فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" فذكرهم لكن قال عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث ولم يسم المرأتين وقال: "فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حويرث وعماراً بن ياسر فسبق عماراً وكان أشب الرجلين فقتله ... " الحديث. وفي زيادات يونس بن بكير في "المغازي" من طريق عمرو بن =

فتحصلنا في اسم ابن خطل على أربعة أقوال: عبد العزى، وبه جزم الشيخ تقي الدين (¬1). عبد الله. هلال. غالب: والخامس السالف وهم. وفي اسم قاتله على خسمة أقوال: الأسلمي، هانىء. سعيد بن حريث. سعيد بن ذؤيب. الزبير، فاستفد ذلك فإنه من المهمات. ¬

_ = شعيب عن أبيه، عن جده نحوه، وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في "الدلائل" من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة، عن أنس: "أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم فتح مكة إلاَّ أربعة من الناس: عبد العزى بن خطل، ومقيس بن صبابة الكناني، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة. فأما عبد العزى بن خطل فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة"، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي: "أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار وإسناده عند ابن المبارك في "البر والصلة" من حديث أبي برزة نفسه. ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذؤيب، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل، وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد، قال: "فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة فقتل بين المقام وزمزم". اهـ. انظر ترجمته أبو برزة في معرفة الصحابة (2891). في المصباح المضي (1/ 165): (سعد بن حريث)، بدلاً من: (سعيد). (¬1) إحكام الأحكام (3/ 522).

الوجه الثاني: هذا الرجل لا أعلمه ولا مسمى في رواية. وقال الفاكهي: في "شرحه" هو أبو برزة الأسلمي -رضي الله عنه- ولم يذكر له سلفاً في ذلك وكأنه أخذه من أحد الأقوال في اسم قاتله (¬1). الثالث: "المغفر" بكسر الميم ما يلبس على الرأس من درع الحديد وأصله من الغفر وهو الستر. وأستار الكعبة: ما تكساه من القباطي وغيرها. قال ابن جريج (¬2): أول من كساها كسوة كاملة تُبع أرى في المنام أن يكسوها فكساها الأنطاع، ثم أرى أن يكسوها الوصايل وهي ثياب حبرة من عصب اليمن ثم كساها الناس بعده في الجاهلية، وكساها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ومعاوية، وابن الزبير الديباج (¬3)، وكانت تكسا يوم عاشوراء ثم كساها معاوية في السنة مرتين ثم كان المأمون يكسوها ثلاث مرات فيكسوها الديباج الأحمر يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان. وهذا الأبيض ابتدأه المأمون سنة ستاً وثمانين حين قالوا: له الديباج الأحمر يتخرق قبل الكسوة الثانية فسأل عن أحسن ما تكون فيه الكعبة، فقيل: الديباج الأبيض ففعله (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره ابن حجر عن الفاكهي في الفتح (4/ 60). (¬2) ذكره السيوطي في الوسائل (35)، والأزرقي في أخبار مكة (1/ 132). (¬3) أيضاً في المراجع السابقة. (¬4) تاريخ مكة للأزرقي (1/ 255).

الرابع: قد سلف في الحديث الأول في باب حرمة مكة "تاريخ دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، يوم الفتح، وثبت عن ابن شهاب أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن محرماً ذلك اليوم (¬1). وفي صحيح ابن حبان (¬2) لم يدخل مكة بغير إحرام إلاَّ هذا اليوم. وحكى النووي (¬3): في باب فتح مكة الإِجماع عليه. وظاهر كون المغفر على رأسه يقتضي ذلك، ولكنه يحتمل أن يكون لعذر وأُخذ من هذا أن المزيد لدخول مكة إذا كان محارباً يباح له دخولها بغير إحرام لحاجة المحارب إلى الستر بما يقيه وقع السلاح. قال النووي (¬4): في الباب السالف، وأما قول القاضي عياض: أجمع العلماء على تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ولم يختلفوا في أن من دخلها بعده لحرب أو بغى أنه لا يحل له دخولها حلالاً فليس كما [قال] (¬5) بل مذهب الشافعي وأصحابه وآخرين أنه [يجوز] (¬6) دخولها ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 423)، وانظر: كلام ابن عبد البر في التمهيد على هذه الرواية (6/ 159)، وأيضاً كلام ابن حجر، وذكر من روى هذا الحديث في الفتح (4/ 59). (¬2) ابن حبان (9/ 38)، وابن أبي شيبة عن طاووس بإسناد صحيح. انظر: الفتح (4/ 61). (¬3) شرح مسلم (12/ 126). (¬4) شرح مسلم (12/ 129). (¬5) في الشرح (نقل). (¬6) في ن هـ (لا يجوز).

حلالاً للمحارب بلا خلاف وكذا [من] (¬1) يخاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره. وأما من لا عذر له أصلاً فاللشافعي فيه قولان مشهوران: وأصحهما: أنه يجوز له دخولها بغير إحرام، لكن يستحب له الإِحرام. قلت: قد حكى النووي (¬2): في "شرحه" في باب جواز دخول مكة بغير إحرام: عن القاضي عياض: أنه نقل عن أكثر العلماء منع دخولها بغير إحرام إن كانت حاجته لا تتكرر إلاَّ أن يكون مقاتلاً، أو خائفاً من قتال أو ظالم (¬3). الخامس: إنما أمر -عليه الصلاة والسلام- بقتل ابن خطل لعظم ذنبه كما أسلفناه وهو أحد السنة الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة وكان منهم أمرأتان كما رواه أبو داود والنسائي (¬4). وقال الواقدي: كان فيهم أربعة نسوة. فإن قلت: ففي الحديث الآخر "من دخل المسجد فهو آمن" فكيف قتله وهو متعلق بالأستار. ¬

_ (¬1) في الشرح (لمن). (¬2) شرح مسلم (9/ 131). (¬3) في الشرح (زياد خائفاً من). (¬4) سبق التخريج ت (1) ص 155.

فالجواب: أنه لم يدخل في الأمان بل استثنى مع من ذكرنا وأمر بقتلهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة. وقيل: إنما قتله لأنه لم يترك القتال ولم يف بالشرط بل قاتل بعد ذلك (¬1). السادس: قد يتمسك به في إباحة قتل الملتجىء إلى الحرم. قال الشيخ تقي الدين: ويجاب عنه بأن ذلك محمول على الخصوصية التي دل عليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما أُحِلَتْ ليس ساعة من نهار". قلت: أجاب أصحاب الشافعي [عن هذا بأنها ما أبيحت] (¬2) إلاَّ ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها [وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك] (¬3) نقله النووي في "شرحه" عنهم (¬4). السابع: يتمسك به أيضاً من [منع] (¬5) إقامة الحدود [في الحرم] (¬6) [وقد] (¬7) سلف ما فيه. الثامن: فيه أيضاً جواز لبس المغفر ونحوه من السلاح حال الخوف من العدو وإرهاباً لهم، وأنه لا ينافي التوكل. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (9/ 132). (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬4) النووي (9/ 132). (¬5) في ن هـ (أباح). (¬6) ساقطة من ن هـ. (¬7) في الأصل ساقطة، والإِضافة من ن هـ.

التاسع: فيه أيضاً رفع أخبار المرتدين والمنافقين إلى ولاة الأمور، وليس ذلك من الرفع المنهى عنه. العاشر: أُخذ منه أيضاً تحتم قتل من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير قبول توبته واستعاذته وتعلقه بأستار الكعبة ونحوها أو غيرها من المخلوقين (¬1). الحادي عشر: جاء في رواية لمسلم من حديث جابر أن -عليه الصلاة والسلام-: "دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء" (¬2) وجمع بينهما. وبين رواية الكتاب وعلى رأسه المغفر بوجهين: الأول: أنه يمكن أن تكون العمامة تحت المغفر [وقاية] (¬3) من صدأ الحديد وتشعيثه. الثاني: أن يكون نزع المغفر عند انقياد أهل مكة ولبس العمامة بدليل قوله: "خطب الناس". لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام الفتح (¬4). [الحادي عشر] (¬5): يستدل به أيضاً من يقول أن الفتح كان عنوة لا صلحاً وقد تقدم ما فيه (¬6). ... ¬

_ (¬1) التمهيد (6/ 165)، والفتح (4/ 62). (¬2) سبق تخريجه وهو في مسلم (1358). (¬3) ساقطة من ن هـ. (¬4) انظر: الفتح (4/ 61، 62). (¬5) في ن هـ (الثاني عشر). (¬6) انظر ص 115، 116.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 222/ 2/ 46 - عن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما] (¬1) "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كَداء، من الثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "كَداء" بفتح الكاف وبالمد مصروفاً هكذا ضبطه الجمهور وضبطه بعضهم غير مصروف [دلالة] (¬3) على البقعة، وبعضهم بفتح الكاف والقصر وكذا بالضم والقصر بأسفل مكة هي الثنية السفلى ونقل الرافعي عن الأكثرين فيها الضم والمد. وأما كُدي -بضم الكاف وتشديد الياء- فهي في طريق الخارج إلى اليمن وليس من هذين الطريقين في شيء. ¬

_ (¬1) ساقطة من ن هـ. (¬2) البخاري (1575، 1576)، ومسلم (1257)، وأبو داود (1866) في المناسك، باب: دخول مكة، والنسائي (5/ 200)، وابن ماجه (2940). (¬3) في ن هـ (حملا له).

والثنية: هي الطريق بين الجبلين وتنحدر من العليا إلى مقابر مكة. والبطحاء: بالمد ويقال له: الأبطح وهو بجنب المحصب. ثانيها. إنما فعل - صلى الله عليه وسلم - هذه المخالفة داخلاً وخارجاً تفاؤلاً بتغير الحال إلى أكمل منه كما في العيد، ويشهد له الطريقان ولتبرك أهلها، قاله النووي (¬1) في "شرح مسلم" والقاضي عياض (¬2) حكى فيه أقوالاً. أحدها: كما في العيد لتبرك به من يمر به ويدعوا له ويجيبه عما يسأله عنه ويعم بدعائه ولا يخص قوماً. ثانيها: ليغيظ المنافقين ومن في قلبه مرض بإظهار أمر الإِسلام. ثالثها: لتكثر خطاه ونوافله. رابعها: أنه فعل ذلك في الخروج لأنه أسمح لخروجه أي أسهل كما جاء في الحديث. قال: ونقل ابن أبي صفرة أنه إنما دخلها مرة من أعلاها ومرة من أسفلها ليرى الناس السعة في ذلك بفعل ما تيسر وأهمل التنصيص على معاني أخر. [أحدها] (¬3): أن كل مقصود في سبيله أنه يؤتى من وجهه لا من ظهره ومن أتى من غير هذه الجهة لم يأتِ من قبالة الباب. ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (رحمه الله)، انظر شرح مسلم (9/ 3). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 381). (¬3) في ن هـ ساقطة.

ثانيها: أن الداخل يقصد موضعاً عالي المقدار فناسب الدخول من العليا والخارج عكسه مناسب السفلى. ثالثها: أبداه السهيلي (¬1) وهو ما روي عن ابن عباس أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (¬2) كان على كدا الممدود وهذا حسن. الوجه [الثالث] (¬3): في الحديث دلالة ظاهرة على استحباب دخول مكة من الثنية العليا سواء كانت على طريق الداخل أو لم تكن كالشامي والمدني والعراقي واليمني وهو ما صححه النووي في كتبه وإن كان كلامه في "المنهاج" تبعاً "للمحرر" يقتضي اختصاص الاستحباب بالداخل من طريق المدينة. ونقل الرافعي عن الأصحاب أنهم عللوه بالمشقة قالوا: وإنما دخل -عليه الصلاة والسلام- منها لكونها في طريقه وهو ممنوع، فإنها ليست على طريقه بل عدل عنها، وأغرب الصيدلاني من الشافعية فقال: الدخول منها لا يتعلق به استحباباً للآتي من طريق المدينة ولا من غيره بناءً على ما أسلفه الأصحاب من أن دخوله منها كان اتفاقاً لا قصداً، وقد سلف الرد عليهم. [الوجه] (¬4) الرابع: فيه دلالة أيضاً على استحباب الخروج من ¬

_ (¬1) الروض الأنف (4/ 101، 102). (¬2) سورة إبراهيم: آية 37. (¬3) في الأصل (تاسعها)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) زيادة من ن هـ.

مكة من الثنية السفلى إلى بلده وكذا يستحب للخارج من بلده والداخل إليه أن يخرج من طريق ويرجع من آخر، قاله النووي في "شرحه" (¬1) وترجم في "رياضه" (¬2) على أن سائر العبادات كذلك يستحب الذهاب إليها من طريق والرجوع من آخر، وفيه اقتفاء الآثار خصوصاً في المناسك فإنه أمر به فقال: "خذو عني مناسككم" (¬3). ... ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 3). (¬2) رياض الصالحين (308). (¬3) أبو داود (1944) في المناسك، باب: التعجيل من جمع، والترمذي (186)، والنسائي (5/ 258).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 223/ 3/ 46 - عن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما] (¬1) قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت، وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج. فلقيت بلالاً، فسألته: هل صلَّى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين" (¬2). الكلام عليه وجوه: أحدها: في التعريف بما وقع فيه من الأسماء: أما ابن عمر -رضي الله عنه-: فتقدمت ترجمته في باب الاستطابة. وأما أُسامة: فهو الحب ابن الحب وكان نقش خاتمه: حب ¬

_ (¬1) ساقطة من ن هـ. (¬2) البخاري أطرافه في الفتح (1/ 500)، ومسلم (1329)، والنسائي (2/ 33)، والكبرى له (2/ 392)، وابن ماجه (3063)، وأبو داود (2025) في الحج، باب: الصلاة في الكعبة، والموطأ (1/ 398)، والبغوي (447)، والبيهقي (2/ 326، 327، 328).

رسول الله، وكان مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن حاضنته ومولاته أم أمين أمّره -عليه الصلاة والسلام- على جيش فيهم أبو بكر وعمر ولم يعد حتى مات بوادي القرى سنة أربع وخسمين على الأصح. [فائدة: أسامة هذا أردفه النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعاً من عرفات، وقد أردف -عليه الصلاة والسلام- جماعات أوردهم الحافظ أبي زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن مندة في جزء فبلغهم زيادة على ثلاثين نفساً، أسامة بن زيد، والصديق في الهجرة، وعثمان بن عفان عند قدومه -عليه الصلاة والسلام- من بدر، وعلي بن أبي طالب في حجة الوداع، وعبد الله بن جعفر بين يديه، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة خلفه، وفي رواية: "حملني أنا وغلامين من بني هاشم"، وفي أخرى: "حملني قدامه وقثم خلفه وعبد الله بن عباس، وأخوه عبيد الله وأخوهما الفضل في حجة الوداع" والحسن والحسين هذا قدامه وهذا خلفه، ومعاوية بن صخر، ومعاذ بن جبل مرة على حمار يقال له: عفير ليس بينه وبينه إلاَّ مؤخرة الرحل، وأبو ذر الغفاري على حمار، وزيد بن حارثة، وثابت بن الضحاك، والشريد بن سويد الثقفي، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن سهل، وأبو طلحة الأنصاري، وسهيل بن بيضاء، وعلي بن أبي العاص بن الربيع يوم الفتح وعبد الله بن الزبير، وغلام من بني عبد المطلب، وأسامة بن عمير، وصفية بنت حيي أم المؤمنين، لما قدم المدينة، ورجل من الصحابة لم يسمى، وجابر بن عبد الله، وصدى بن عجلان أبو أمامة آخر من مات بالشام، وأبو الدرداء، وأمية بنت أبي الصلت الغفارية،

وأبو إياس، وأبو هريرة، وقيس بن سعد بن عبادة، وخوّات بن جبير، فاستفد ذلك فإنه مهم] (¬1). وأما بلال: فقد سلف في باب الأذان (¬2). وأما عثمان بن طلحة: فجده أبو طلحة عبد الله بن عبد العزي الحجبي له صحبة، ورواية -أعني عثمان- أسلم مع عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد في هدنة الحديبية وشهد فتح مكة ودفع إليه -عليه الصلاة والسلام- مفتاح الكعبة [وإلى] (¬3) شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وحبسها عليهم ومات بمكة سنة اثنين وأربعين في أول خلافة معاوية. وقيل: إنه قتل بإجنادين بفتح الدال وكسرها في أوائل خلافة عمر -رضي الله عنه-. ثانيها: إنما أغلقوا الباب عليهم ليكون أسكن لقلوبهم وأجمع لخشوعهم ولئلا يجتمع الناس ويدخلوه أو يزدحموا فينالهم ضرر [ويتهوش] (¬4) عليهم الحال لسبب لغطهم. وجاء في رواية لمسلم (¬5) أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بالإِغلاق وفائدته ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. وانظر: كتاب فيه معرفة أسامي أرداف النبي - صلى الله عليه وسلم - للحافظ أبي زكريا ابن منده -رحمنا الله وإياه-. (¬2) (2/ 423). (¬3) في شرح مسلم (9/ 83) (وأبي). (¬4) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬5) (1329).

ونقل القرطبي (¬1): عن الشافعي أن فائدة أمره بإغلاقها وجوب الصلاة إلى جدار من جدرانها، وأنه لو صلى إلى الباب وهو مفتوح، لم يجزه لأنه لم يستقبل شيئاً منها، قال: وألزم من مذهبه إبطال هذا، لأنه يجيز الصلاة في أرضها [لو تهدمت الجدر] (¬2)، لاستقباله أرضها. قلت: ليتأمل هذا المعزى إلى الشافعي وما ألزم به [] (¬3) قال: إنما أمر بذلك لئلا يصلي بصلاته، فتتخذ الصلاة فيها سنة، [وكذا قول من قال] (¬4): فعل ذلك لئلا يستدبر شيئاً من البيت، كما وقع في زيادة البخاري عن بعض الرواة، لأن الباب إذا أُغلق، صار كأنه جدار البيت. ثالثها: قوله: "فكنت أول من ولج" أي دخل والولوج الدخول، يقال: ولج بفتح اللام. يلج بكسرها وأولج غيره وإنما كان ابن عمر أول من ولج لحرصه على اقتفاء آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المناسك وغيرها ليعمل وليبلغها وذلك هو مقصود العلم لا غير. رابعها: قوله: "قال: نعم بين العمودين اليمانيين" يعني قال: بلال ذلك جواباً لابن عمر، وفيه زيادة على السؤال أيضاً لأنه مهم. وجاء في رواية لمسلم: "فقلت أين صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هنا". وظاهرها أن ابن عمر سأل بلالاً وأسامة وعثمان جميعهم. قال ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 429). (¬2) زيادة من ن هـ والمفهم. (¬3) في هـ زيادة (وأبعد من قال). (¬4) في المفهم (ولا يلتفت لقول من قال).

القاضي (¬1): ووهى أهل الحديث هذه الرواية. فقال الدارقطني (¬2): وهم ابن عون [فيه] (¬3) وخالفه غيره فأسندوه عن بلال وحده. قال [القاضي] (¬4): وهذا هو الذي ذكره مسلم في باقي الطرق فسألت بلالاً (¬5)، إلاَّ أنه وقع في رواية حرملة عن ابن وهب فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة أنه -عليه الصلاة والسلام- صلَّى في جوف الكعبة هكذا هو عند عامة شيوخنا، وفي [بعضها] (¬6) وعثمان بن طلحة (¬7) وهذا يعضد رواية ابن عون والمشهور انفراد بلال برواية ذلك. خامسها: أثبت بلال [رضي الله عنه] (¬8) صلاته -عليه أفضل الصلاة والسلام- في الكعبة وأسامة وابن عباس نفياها وأجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت ومعه زيادة علم فوجب ترجيحه. وأجاب بعضهم: عن حديث أسامة وابن عباس بأن المراد هي الرؤية فقط كما سيأتي لا النفي المطلق، وعاب ابن حبان هذا في ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم للنووي (9/ 86). (¬2) الإِلزامات والتتبع للدارقطني (542). (¬3) في الشرح (هنا). (¬4) في الشرح زيادة (القاضي). (¬5) في الشرح زيادة (فقال). (¬6) في الشرح (بعض النسخ). (¬7) في المرجع السابق زيادة (قال). (¬8) في ن هـ ساقطة.

صحيحه (¬1)، ثم قال: والأشبه عندي في الفصل بين الخبرين بأن يجعلا في [وقتين] (¬2) متباينين، فيقال: إن المصطفى -عليه أفضل الصلاة والسلام- لما فتح مكة دخل الكعبة فصلى فيها على [رواية] (¬3) أصحاب ابن عمر عن بلال وأسامة بن زيد، وكان ذلك يوم الفتح، قاله حسان بن عطية عن نافع عن ابن عمر، ويُجعل نفيُ ابن عباس صلاة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة في حجته التي حج فيها، حتى [يكونان] (¬4) فعلان في [حالين متباينين] (¬5) لأن ابن عباس [نفاها] (¬6) وزعم أن أُسامة (¬7) أخبره بذلك، وأخبر أبو الشعثاء عن عمر [أنه عليه الصلاة والسلام] (¬8) صلَّى [فيه] (¬9) وزعم أن أسامة أخبره بذلك، فإذا حمل الخبران على ما وصفنا في الموضعين المتباينين بطل التضاد بينهما وصح استعمال كل واحد منهما هذا آخر كلامه، وهو جمع مبين: [لكن روى الأزرقي عن جده قال: سمعت سفيان يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن ¬

_ (¬1) (7/ 483). (¬2) في المرجع السابق (فعلين). (¬3) في المرجع السابق (ما رواه) ". (¬4) في ابن حبان (يكون). (¬5) في حالتين متباينتين. (¬6) العبارة (نفي الصلاة في الكعبة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -). (¬7) زيادة في ن هـ (بن زيد). (¬8) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬9) في البيت.

النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج فلم يدخلها] (¬1) قال النووي في "شرح مسلم": لا خلاف أن دخوله -عليه الصلاة والسلام- وصلاته فيها كان يوم الفتح لا في حجة الوداع [وأحسن ما جمعه أن ذلك في يومين في عام واحد ما ثبت مبيناً، قال أحمد في مسنده (¬2): ثنا هشيم أنبأنا عبد الملك عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد: دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل وخرج، ولم يصل ثم دخلت معه في اليوم الثاني فقام ودعا ثم صلى ركعتين ثم خرج فصلى ركعتين خارجاً من البيت مستقبل وجه الكعبة ثم انصرف فقال: هذه القبلة هذه القبلة"، ورواه كذلك الدارقطني وغيره وهو كاف شاف في الجمع بين الأحاديث] (¬3). وقال القرطبي (¬4): يمكن أن يجمع بينهما على مقتضى مذهب مالك فيقال: إن قول بلال إنه صلَّى فيها يعني به التطوع وقول أسامة: إنه لم يصل فيها يعني به الفرض، قال: وقد جمع بينهما ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. انظر: الأزرقي (1/ 273). (¬2) أحمد في مسنده (5/ 209)، والنسائي (5/ 220)، والكبرى له (2/ 394، 395)، والدارقطني (2/ 52) بمعناه من حديث ابن عباس وابن خزيمة (4/ 429)، وانظر: إلى ما أورده ابن حجر -رحمنا الله وإياه- على هذه المسألة في الفتح ففيه تفصيل لا تجده في غيره (3/ 468). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) المفهم (3/ 431).

بعض [أئمتنا] (¬1) بوجه آخر فقال: إن أسامة تغيب في الحين الذي صلَّى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشاهده فاستصحب النفي لسرعة رجعته فأخبر عنه وشاهد بلال أخبر [عما] (¬2) شاهد، وعضد هذا بما رواه ابن المنذر، عن أسامة، قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صوراً في الكعبة فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به تلك الصور (¬3). فيحمل أن تكون صلاته في حال مضى أسامة في طلب الماء. السادس: المراد بالصلاة ذات الركوع والسجود المعهودة لا مجرد الدعاء ولهذا قال ابن عمر في بعض الروايات: "ونسيت أن سأله كم صلَّى؟ " وجاء في سنن أبي داود (¬4) بإسناد فيه ضعف عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر كيف [صنع] (¬5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل الكعبة؟. قال: "صلى ركعتين". وأما نفي أسامة: الصلاة وإثباته الدعاء فلأنهم لما دخلوا أغلقوا الباب واشتغل كل بالدعاء في نواحي من نواحي البيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه بلال لقربه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله وكانت صلاته خفيفة ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬2) في الأصل (على)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) مسند الطيالسي (86)، وقال ابن حجر في الفتح (3/ 468) بعد ذكره له: "فهذا الإِسناد جيد". (¬4) أبو داود (1943) في المناسك، باب: الصلاة في الكعبة. مسند الفاروق ابن كثير (310)، وأبو يعلى (1/ 191). (¬5) في الأصل (صلَّى)، والتصحيح من السنن ون هـ.

فلم يرها أسامة لإِغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء وأجاز له نفيها مرة عملاً بظنه، وأما بلال فتحققها فأخبر بها مع أن صلاته كانت بين العمودين فقد يكون أسامة في ناحية من البيت حجبه عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -[و] (¬1) العمود بينه وبينه والظلمة الحاصلة بغلق الباب بخلاف بلال فإِنه كان قريباً منه - صلى الله عليه وسلم -، وفي نحو سنه، وأُسامة كان عمره إذ ذاك دون العشرين أو أن تكون صلاته في حال بعثه أسامة ليأتي بالماء لمحو الصور كما سلف (¬2). السابع: إعلم أن البيت شرفه الله على أعمدة في داخله ففي رواية المصنف "أنه صلَّى بين العمودين اليمانيين" (¬3)، وفي رواية لمسلم (¬4): "جعل عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة"، وفي رواية للبخاري (¬5) أيضاً "عموداً" (¬6) عن يمينه وعموداً عن "يساره" (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) انظر: الفتح لابن حجر (4/ 468). (¬3) البخاري (1598). (¬4) مسلم (1329)، والبخاري (505). (¬5) البخاري (505)، تقديم وتأخير في النص الآتي، وقد ساق البخاري -رحمنا الله وإياه- قوله: "وعمودين عن يمينه". (¬6) في ن هـ (عمودين عن يساره). (¬7) وكذا في رواية الموطأ وأبي داود، ورواية للبخاري أيضاً: عموداً عن يمينه وعمود عن يساره.

قال القرطبي (¬1) ويمكن أن يقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- تكررت صلاته في تلك المواضع، وإن كانت القضية واحدة، فإنه -عليه الصلاة- مكث في الكعبة طويلاً. وأجاب بعض الشراح: بأنه يمكن أنه انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان بحيث لا تبطل صلاته به وهو بعيد. قلت: يمكن أن يجمع بوجه آخر وهو الأظهر أنه -عليه الصلاة والسلام-[صلَّى قريباً من العمود الوسط فتأمله وطبق عليه الروايات] (¬2). الثامن: كان دخوله -عليه الصلاة والسلام- البيت عام الفتح كما سلف، ولم يكن إذ ذاك محرماً فلا يستدل به على أن دخوله نسك في الحج والعمرة كما ذهب إليه بعضهم على ما حكاه القرطبي (¬3) قال: وأما أحاديث حجة الوداع فليس في شيء منها تحقق أنه -عليه الصلاة والسلام- دخل أم لا. غير أن أبا داود (¬4) ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 430). (¬2) في ن هـ مكرر. (¬3) المفههم (3/ 429). (¬4) أبو داود (1946) في المناسك، باب: دخول الكعبة، والترمذي (873)، وابن ماجه (3064) وهو في المسند من طريقين (6/ 137)، والحاكم (1/ 479)، وابن خزيمة (4/ 333)، ونقل ابن حجر في الفتح تصحيح الترمذي والحاكم، وابن خزيمة (4/ 466)، وانظر: كلامه على المسألة فيه واضحة وجلية، ولأحمد طريق أخرى (6/ 153). وأيضاً في عمدة القاري (9/ 242).

روى من حديث عائشة أنه -عليه الصلاة والسلام- خرج من عندها مسروراً، ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: "إني دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي". وظاهره: أن ذلك كان في حجة الوداع، غير أن هذا الحديث في إسناده: إسماعيل بن عبد الملك ابن أبي الصُفيراء وهو ضعيف، وقد رواه البزار بإسناد آخر (¬1)، لا يثبت أيضاً. قلت: وأما الترمذي فإنه أخرجه من طريق أبي داود، ثم قال: حسن صحيح. وفي ذلك نظر فإني لم أرى أحداً وثق إسماعيل هذا (¬2). [التاسع] (¬3): في الحديث أحكام وفوائد. ¬

_ (¬1) في المفهم زيادة (واو). (¬2) انظر التاريخ الكبير للبخاري (1/ 367)، والمجروحين لابن حبان (1/ 121)، وكتب: ابن أبي الصغير، والكاشف للذهبي (1/ 75)، وكتب: ابن أبي الصغير، وقال عنه البخاري: يكتب حديثه. ميزان الاعتدال. وقال المعلق: الصغير بمهملتين مصغراً، ميزان الاعتدال (1/ 237) ابن أبي الصغير, وذكر حديث دخول البيت، وتهذيب التهذيب (1/ 316) ابن أبي الصغير, وذكر في الهامش عن الخلاصة: الصغير بمهملتين، وانظر: ما قيل من جرح أو تعديل، وقد سمعت بعض المشائخ يقرأه كما كتب بالفاء، مصغراً. وأيضاً في المفهم (بن أبي الصغير). (¬3) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ.

الأول: استحباب دخول [الكعبة] (¬1) والصلاة فيها وقد ترجم عليه النووي بذلك في "شرح مسلم". الثاني: جواز الاستئثار بذلك إذا أمكن. الثالث: اختصاص السابق للبقعة المشتركة ومنعها ممن يخاف تشويشها عليه. الرابع: منقبة ظاهرة لابن عمر -رضي الله عنه- وحرصه على تعلم المناسك واقتفاء آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل موطن وحالة. الخامس: السؤال عن العلم. السادس: جواب المسؤول في الفتيا وغيرها بنعم. السابع: جواز سؤال المفضول مع وجود الفاضل. الثامن: الحرص على طلب العلم وجواز ذكر الحرص للمصلحة من الاقتداء والوثوق بما يوجد من علم الحريص. التاسع: [العمل] (¬2) بخبر الواحد. العاشر: اختصاص المتبوع بعض أتباعه ببعض الأمور المخصوصة بالعبادات. الحادي عشر: جواز صلاة النفل المطلق فيها وأبعد ابن جرير وأصبغ المالكي وبعض الظاهرية حيث قالوا: لا تصح صلاة فيها أبداً. وحكى عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) في الأصل (مكة)، وما أُثبت من ن هـ، وشرح مسلم (9/ 82). (¬2) في ن هـ ساقطة.

وتوسط الإِمام مالك فقال: يصح فيها النفل المطلق دون الفرض والسنن كالوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف. قال اللخمي: وأجازه أشهب في "مدونته" في الفرض من غير إعادة عليه. وإن كان لا يستحب له أن يفعل ذلك ابتداء فعلى المشهور عندهم لو صلى الفرض فيها، قال: في الكتاب يعيد في الوقت. وحُمل على الناسي لقوله: كمن صلى لغير القبلة. وقال ابن حبيب: يعيد أبداً في العمد والجهل وكأنه راجع إلى الأول، وحكاه القرطبي (¬1) عن أصبغ. وقال المازري (¬2): المشهور منع الصلاة داخلها ووجوب الإِعادة أبداً. وعن ابن عبد الحكم: الإِجزاء. وقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد والجمهور: تصح فيها صلاة النفل والفرض ودليلهم في النفل الحديث المذكور، وإذا صحت النافلة صحت الفريضة لأنهما في الموضع سواء في الاستقبال خارجها فكذلك داخلها، وإنما يختلفان فيه حال السير في السفر. وترجم الحافظ محب الدين الطبري في "أحكامه" ذكر حجة من أجاز الفرض في جوف الكعبة، ثم روى عن عبد الله بن السائب [رضي الله عنه] (¬3) قال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وصلَّى في ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 431). (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 107). (¬3) في ن هـ ساقطة.

الكعبة: فخلع نعليه فوضعهما عن يساره ثم افتتح سورة المؤمنين فلما بلغ ذكر موسى وعيسى أخذته سعلة فركع. ثم عزاه إلى صحيح ابن حبان (¬1). وقال: كانت هذه الصلاة والله أعلم صلاة الصبح يدل على حديثه عنه - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بمكة فاستفتح بسورة المؤمنين الحديث. وإن احتمل أن تكون هذه الصلاة غير تلك فالظاهر ما ذكرنا وأن القصة واحدة، والتكرار خلاف الأصل. فرع: الحجر مثل الكعبة لكن لو استقبله وحده لم تصح صلاته عند الشافعية على الأصح. والصلاة عند أكثر المالكية على ظهر الكعبة أشد. وقيل: مثلها. وقيل: إن أقام فإِنما يقصده فمثلها وإلاَّ لم يجز للنهي عنه. وقال أشهب: إن كان بين يديه قطعة من سطحها بناء على أن الأمر ببنائها أو بهوائها. فرع: مذهب الشافعي -رضي الله عنه- أن النفل في الكعبة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان بهذا اللفظ (2189)، وأخرجه أيضاً بدون لفظ: "وصلى في الكعبة" (1815)، ولفظه: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة الصبح، واستفتح سورة المؤمنين، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى، -محمد بن عباد يشك- أخذت - صلى الله عليه وسلم - سعلة فركع". وأخرجه مسلم (455)، وأحمد (3/ 411)، وابن خزيمة (546)، والنسائي (2/ 176)، وعنده "في قبل الكعبة"، والبيهقي في السنن (2/ 389)، والذهبي في تهذيب السنن (2/ 390) وغيرهم.

أفضل منه خارجها، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة فإن رجاها فخارجها أفضل نقله في "الروضة" (¬1) من زوائده عن الأصحاب وأقرهم (¬2). [الثاني] (¬3) عشر: إجزاء إستقبال جزء من الكعبة. لمن صلَّى داخلها ولا يشترط استقبال جميعها، وكذا لو استقبل بابها وهو مردود أو عتبت بابها وهو قدر ثلث ذراع. الثالث عشر: جواز الصلاة بين الأساطين والأعمدة وإن كان يحتمل أن يكون صلَّى في الجهة التي بينهما وإن لم يكن في مسامتتهما حقيقة وقد وردت في ذلك كراهة (¬4). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 214). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 467): ومن المشكل ما نقله النووي في "زوائد الروضة" عن الأصحاب أن صلاة الفرض داخل الكعبة -إن لم يرج جماعة- أفضل منها خارجها، ووجه الإِشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء بخلاف داخلها، فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق. اهـ. (¬3) في الأصل (الثالث)، والتصحيح من ن هـ. (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 578) على قول البخاري -رحمه الله تعالى-، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة، إنما قيدها بغير الجماعة، لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب. وقال الرافعي في شرح المسند: احتج البخاري بهذا الحديث -أي حديث ابن عمر عن بلال- على أنه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن جماعة، وأشار إلى أن الأولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية، ومع هذه الأولية فلا كراهة في الوقوف بينهما =

قال الشيخ تقي الدين: فإن لم يصح سندها قدم هذا الحديث وعمل بحقيقة قوله: "بين العمودين"، وإن صح سندها أُول ما ذكرناه: أنه صلى في سَمت ما بينهما، وإن كانت آثاراً فقط قدم المسند عليها هذا كلامه. وعللت كراهة الصلاة بين الأساطين بأشياء منها: أنها توقع خللاً في الصف. ¬

_ = -أي للمنفرد- وأما في الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية. اهـ. كلامه، وفيه نظر لورود النهي الخاص عن الصلاة بين السواري ما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح وهو في السنن الثلاثة -وحسنه الترمذي- الحاكم (1/ 210، 218)، وأبو داود (673) في الصلاة، باب: الصفوف بين السواري، والنسائي (2/ 94)، والبيهقي (3/ 104)، والترمذي (229)، وأحمد (3/ 131). قال المحب الطبري: كره قوم الصف بين السواري للنهي الوارد في ذلك. ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إما لانقطاع الصف أو لأنه موضع النعال. اهـ. وقال القرطبي: روى في سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين. اهـ. كلام ابن حجر. قلت: قد ورد أيضاً حديث في النهي عن ذلك من رواية معاوية بن قرة عن أبيه: عند الحاكم (1/ 218)، والطيالسي (1073)، وابن ماجه (1002)، وابن حبان (2219)، والبيهقي (3/ 104)، وقد بوب ابن حبان في صحيحه على حديث ابن عمر فقال: اذكر استعمال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الفعل المضاد له في الظاهر. ثم جمع بين أحاديث النهي وحديث الفعل قائلاً: هذا الفعل ينهى عنه بين السواري جماعة، وأما استعمال المرء مثله منفرداً فجائز. اهـ.

ومنها: أنها موضع الأقدام، ولا تخلوا عن نجاسة غالباً (¬1). ومنها: أنها محال الشياطين على ما قيل. الرابع عشر: ترجم البخاري (¬2) على هذا الحديث باب الأبواب والعلق للكعبة والمساجد. فائدة: قال أصحابنا: يستحب دخول البيت حافياً ويصلَّى فيه، والأفضل أن يقصد مصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا دخل من الباب مشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبَل وجهه قريب من ثلاثة أذرع، فيصلي فيه ثبت ذلك في صحيح البخاري (¬3) ويدعو في جوانبه، وهذا بحيث لا يؤذي أحداً ولا يتأذى هو، فإن تأذى أو أذى لم يدخل لا كما يفعله كثير من الناس فإنه يترتب عليه مفاسد لا تخفى. وحديث عائشة الذي أسلفناه عن أبي داود والترمذي لا دلالة فيه على كراهة دخوله لأنه -عليه الصلاة والسلام- قد يترك الأفضل خشية ما يترتب عليه، وقد روى تمام الدارمي في "فوائده" (¬4) من ¬

_ (¬1) هذا والذي بعده غير صحيح لأنه لا يتوقع نجاسة في الإِقدام لأن المصلي قد تطهر، والثاني أن المساجد ليست محال للشياطين. (¬2) انظر: الفتح (1/ 559). (¬3) انظر: الفتح، باب: الصلاة في الكعبة (3/ 467). (¬4) الروض البسام بترتيب فوائد تمام (2/ 245)، وتاريخ جرجان (20)، وابن خزيمة (3/ 30)، والطبراني (11/ 77، 201)، والبيهقي (5/ 58)، وقال: تفرد به عبد الله بن المؤمل وليس بقوي، وابن عدي (4/ 1456)، والبزار (كشف - 1161)، وقال: لا نعلمه عن ابن عباس إلاَّ من هذا الوجه، والدر المنثور (2/ 55)، وذكره في مجمع الزوائد (3/ 293)، =

حديث عطاء عن ابن عباس: "من دخل البيت دخل إلى حسنه، وخرج من سيئته مغفوراً له". ثم قال: حديث حسن غريب. وفي "صحيح ابن حبان" (¬1) من حديث ابن عمر: "استمتعوا من هذا البيت فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة"، ورواه الحاكم أيضاً، وقال صحيح على شرط الشيخين، ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا دخل البيت يقول: "اللهم إنك وعدت الأمان ¬

_ = وقال: وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن سعد وغيره، وفيه ضعف. اهـ. ونقل ابن حجر في الفتح تضعيف البيهقي (3/ 466). (¬1) (6753) ابن خزيمة في صحيحه (2506)، والحاكم (1/ 441)، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وذكره في المجمع (3/ 206)، وقال: رواه البزار والطراني في الكبير، ورجاله ثقات. قال ابن خزيمة: على قوله: "ويرفع في الثالثة"، يريد بعد الثالثة، إذ رفع ما قد هدم محال، لأن البيت إذا هدم لا يقع عليه اسم بيت إذا لم يكن هناك بناه. اهـ. موارد الظمآن (966)، وقال في إتحاف السادة المتقين (4/ 461)، بعد سياقه للحديث قلت: ورواه بهذا اللفظ أيضاً الطبراني في الكبير، لكنه. إلخ. قلت: ورواه من رواية علي بن أبي طالب بلفظ: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة: إتحاف السادة (4/ 474)، وبلفظ آخر: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع -أو قال أصمع- حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم". انظر: فتح الباري (3/ 461)، وغريب الحديث (3/ 454).

داخل بيتك وأنت خير منزول به، اللهم فاجعل أماني أن تكفيني مؤنة الدنيا، وكل هول دون الجنة حتى أبلغها برحمتك". واعلم أن النووي نقل في "شرح المهذب" (¬1) عن العلماء أنهم ذكروا أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات. أحدها: بنتها الملائكة قبل آدم وحجها آدم فمن بعده من الأنبياء -صلوات الله عليهم-. الثانية: بناها إبراهيم الخليل بنص القرآن. الثالثة: بنتها قريش في [الجاهلية] (¬2)، وحضره النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة. ثبت ذلك في الصحيحين (¬3)، وكان سنة حينئذ خمس وعشرون، وقيل: خمس وثلاثون. الرابعة: بناها ابن الزبير ثبت ذلك في الصحيح (¬4). [الخامسة: بناها الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان ثبت ذلك في الصحيح] (¬5)، وعليه استقر بناؤها إلى اليوم، ¬

_ (¬1) شرح المهذب (7/ 476). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري (364، 1582، 382)، ومسلم (340)، وأحمد (3/ 280، 295، 310، 333)، وابن حبان (1603). (¬4) انظر: أطرافه في الفتح (1/ 225)، والترمذي (875)، ومسلم (1333)، وابن ماجه (2955) , والطيالسي (1393 , 1382، والنسائي (5/ 215)، وأحمد (6/ 102، 176)، والدارمي (2/ 54)، وأبو يعلى (4627)، والبيهقي (5/ 89)، وعلي بن الجعد (2619). (¬5) زيادة من ن هـ. انظر: شرح مسلم (9/ 89)، وانظر مسلم (1333).

قال العلماء: ويستحب تركها على ما هي عليه لئلا تذهب حرمتها، وممن نص على ذلك مالك وإمامنا -رضي الله عنهما-[قاله النووي] (¬1). وقيل: إنها بنيت مرتين اخريين [قبل بناء قريش. قلت:] (¬2) إنها بنيت مرتين اخريين أيضاً فتجتمع تسعة أقوال: بناء الملائكة على قول من قال أنه وضع قبل آدم، ثم بناء آدم. قال القرطبي (¬3): في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} (¬4) , وأول من بناها بالطين والحجارة شيث، ثم إبراهيم الخليل، ثم العمالقة، ثم جرهم، ثم قريش، ثم ابن الزبير، ثم الحجاج. وظاهر الحديث الذي أسلفناه أنها هدمت مرتين فقط إلاَّ أن يؤول على أن المراد بقوله: "هدم مرتين" إنها ستهدم مرتين وكذا وقع بعده - صلى الله عليه وسلم -. وبنيت الكعبة من جبال خمسة: طور سيناء بإيلياء، وطور زيتا بالبيت المقدس، والجودي بقرب الموصل، ولبنان [جبل] (¬5) بالشام، وحراء بمكة. ويقال: أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر: الجودي شرح، طور سيناء بموسى، وحراء بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، شرح مسلم (9/ 89). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) تفسير القرطبي (2/ 122). (¬4) سورة البقرة: آية 127. (¬5) زيادة من ن هـ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 224/ 4/ 46 - عن (¬1) عمر -رضي الله عنهما-: "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، وقال: إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث أصل أصيل وقاعدة عظيمة في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتفاء أثره وإن لم يعلم العلة وترك ما كانت عليه الجاهلية من تعظيم الأصنام والأحجار ويبين أن النفع والضر بيد الله تعالى وهو حاصل هنا بالامتثال فقط، وأنه سبحانه هو النافع والضار ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (ابن)، وما أثبت هو الصواب. (¬2) البخاري (1597، 1605، 1610)، ومسلم (1270)، وأبو داود (1873) في المناسك، باب: في تقبيل الحجر، والترمذي (860)، والنسائي (5/ 227)، وابن ماجه (2943)، وابن خزيمة (2711)، وابن الجارود (452)، والبغوي (1905)، ومالك (1/ 367)، والحميدي (9)، والبيهقي (5/ 74)، وعبد الرزاق (9033، 9034، 9034، 9035)، وأحمد (1/ 17، 26، 46)، والنسائي في الكبرى (2/ 400)، وابن أبي الجعد (2243).

وأن الأحجار لا تنفع من حيث [هي هي] (¬1) كما كانت الجاهلية تعتقده في الأصنام وأراد عمر [رضي الله عنه] (¬2) بذلك إزالة الوهم الذي يقع في أذهان الناس من ذلك جميعه [وقد توهم بعض الباطنية أن للحجر الأسود خاصية يَرجع إلى ذاته قاتلهم الله. ثانيها: فيه دلالة على استحباب تقبيل الحجر الأسود] (¬3) ويستحب أن يستلمه أولاً، ثم يقبله، ثم يضع جبهته، عليه هذا مذهب الجمهور. وانفرد مالك فقال: السجود عليه بدعة واعترف القاضي (¬4) عياض بشذوذ مالك عن العلماء في ذلك. فرع: يستحب أن تخفف القبلة بحيث لا يظهر لها صوت ولا يستحب ذلك للنساء إلاَّ عند خلو المطاف. قال القاضي أبو الطيب: ويستلم ويقبل الركن الذي فيه الحجر أيضاً وظاهر كلام الجمهور الاقتصار على فعل ذلك في الحجر. فائدة: روى الأئمة أحمد والدارمي وابن ماجه والترمذي من ¬

_ (¬1) في ن هـ بدون تكرار. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 386). انظر: الآثار الواردة في السجود عليه. عن ابن عباس. مصنف عبد الرزاق (5/ 37)، وسنن البيهقي (5/ 75)، والاستذكار (12/ 157)، وعن طاووس في الاستذكار (12/ 157)، والأم (2/ 171).

حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق" (¬1) حسنه الترمذي وصححه ابن حبان فإنه أخرجه في صحيحه بلفظ: "إن لهذا الحجر لساناً وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق" (¬2)، وفي رواية له: "ليبعثن الله الركن يوم القيامة" (¬3)، وأخرجه الحاكم (¬4) في "مستدركه" باللفظ الأول الذي لابن حبان ثم قال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه، قال: وله شاهد صحيح فذكره (¬5). قال الخطابي (¬6): وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض، ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 266، 247، 291، 307)، والدارمي (2/ 42)، وابن ماجه (2944)، والترمذي (961)، وابن خزيمة (2736)، وأبو يعلى (2719)، ونقل ابن حجر في الفتح (3/ 462)، تصحيح ابن خزيمة، وابن حبان والحاكم ثم قال: وله شاهد من حديث أن عند الحاكم (1/ 457). (¬2) ابن حبان (3711). (¬3) ابن حبان (3712). (¬4) المستدرك للحاكم (1/ 457)، وقال: صحيح الإِسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. (¬5) أي حديث أنس -رضي الله عنه - المستدرك (1/ 457) وسكت عنه الحافظ في الفتح (3/ 457)، أما حديث علي -رضي الله عنه- في مستدرك الحاكم أيضاً (1/ 457)، فقد ضعفه ابن حجر في فتح الباري (3/ 462). (¬6) معالم السنن (2/ 373).

كما فضل بعض البقاع والبلدان وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور وباب هذا كله التسليم وهو أمر سائغ في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر وقد روى في بعض الأحاديث "إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، والمعنى أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد فكان كالعهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته [والاختصاص (¬1) به] وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة، ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ ومن معالم السنن, وأيضاً في فتح الباري (3/ 463). تنبيه: قوله: وكما روى في بعض الأحاديث: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله وإياه- في الفتاوى (6/ 397) لما سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". فأجاب -رحمه الله ورضي عنه-: بقوله: فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقتله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلاَّ على من لم يتدبره، فإنه قال: "يمين الله في الأرض" فقيده بقوله: "في الأرض" ولم يطلق، فيقول يمين الله، وحكم اللفظ المقيد حكم اللفظ المطلق. ثم قال: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً، ولكن شبه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الله تعالى كما جعل للناس بيتاً يطوفون به: جعل لهم ما يستلمونه، ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبل وتكريم له، كما جرت العادة، والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه إضلال الناس [بل لا بد] من أن يبين لهم ما يتقون، فقد يبين لهم في الحديث ما ينفي من التمثيل. اهـ. المقصود منه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال في موضع آخر (3/ 44): "الحجر الأسود يمين في الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه" صريح في أن الحجر الأسود يشير هو صفة لله ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: "يمين الله في الأرض" وقال: "فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه" ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً لأنه محتاج إلى التأويل، مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس. اهـ. محل المقصود. وانظر: عدة الصابرين لابن القيم (46) أو (36) باختلاف الطبعات. انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 522)، وقد ورد بألفاظ غير هذا نذكرها للتنبيه عليها مع ذكر من ضعفها. "الحجر يمين الله، فمن مسحه، فقد بايع الله [أن لا يعصيه] عن أنس ذكره الديلمي في فردوس الأخبار (2/ 258)، قال ابن حجر: أسنده عن أنس وأخرجه الحارث عن جابر بلفظ "في الأرض يصافح الله به عباده". وجاء من رواية عمر في مسنده عن ابن عباس ورفعه الطبراني"، قال في الجامع الصغير (2/ 110): بأن مخرجه الديلمي والأزرقي في أخبار مكة (1/ 323، 324)، وقال الألباني في ضعيف الجامع (2/ 110): موضوع. وأيضاً ورد بلفظ: "الحجر يمين الله في الأرض يصافح به عبده" عن أنس ذكره الديلمي في الفردوس (2/ 258). وأيضاً الخطيب عن جابر في تاريخ بغداد (6/ 328)، وابن عدي في الكامل (2/ 17) وابن عساكر عنه. انظر: ضعيف الجامع (2/ 110)، فقد ضعفه فيه وأيضاً سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 257)، وطبقات المحدثين بأصبهان (2/ 366)، وورد بلفظ "يأتى الركن يوم القيامة" إلى =

وكذلك تقبيل الخدم أيدي السادة والكبراء، فهذا كالتمثيل بذلك والتشبيه به (¬1). فائدة أخرى: روى سعيد بن منصور عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "الحجر الأسود من الجنة لولا ما تعلق به من أيدي الفجرة ما مسه أكمه ولا أبرص ولا ذو داء إلاَّ بريء" (¬2)، اعترض ¬

_ = قوله "وهو يمين الله عز وجل التي يصافح بها خلقه" سبق تخريجه. انظر: المعجم الأوسط (1/ 337). وورد أيضاً بلفظ "الركن يمين الله في الأرض"، قال العجلوني في كشف الخفاء (4171): فالحديث حسن وإن كان ضعيفاً بحسب أصله كما قال بعضهم. (¬1) في المعالم زيادة (والله أعلم). (¬2) الحديث ورد بالفاظ عنه منها: "إن الركن والمقام من ياقوت الجنة، ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم، لأضاء ما بين المشرق والمغرب، وما مسهما من ذي عاهة ولا سقيم إلاَّ شفي". أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 584)، وفي السنن (5/ 75)، وذكره في كنز العمال (34742)، والأزرقي (1/ 322). وورد بلفظ: "لولا ما مسه من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلاَّ شفي، وما على الأرض شيء من الجنة غيره"، أخرجه البيهقي في السنن (5/ 75)، وفي الشعب (7/ 584)، وعبد الرزاق (5/ 38). وقال ابن حجر في الفتح على حديث: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب"، أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده: رجاء أبو يحيى وهو ضعيف، قال الترمذي: حديث غريب، ويروي عن عبد الله بن عمرو موقوفاً. اهـ. (3/ 462).

بعض الملاحدة وقال: ما سودته خطايا أهل الشرك ينبغي أن تبيضه يد أهل التوحيد، وعنه جوابان: أحدهما: قاله ابن قتيبة (¬1): أنه لو شاء الله لكان ذلك فيه وإنما هو سبحانه أجرى العادة بأن السواد يَصبغ ولا يُصبغ، والبياض ينصبغ ولا يَصبغ، فقال: فيه المعترض إن الشيب أيضاً مثل السواد يصبغ. والثاني: قاله المحب الطبري: وهو الأشبه أن بقاءه أسود فيه عبرة لمن له بصيرة فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر بالسواد فتأثيرها في القلوب أشد وأعظم، قال: وأشد من هذا الجواب ما تضمنه حديث ابن عباس مرفوعاً: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم" (¬2) رواه الترمذي والنسائي، ¬

_ (¬1) ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (287، 290). (¬2) النسائي (5/ 226)، والترمذي (877)، وابن خزيمة (2733)، وأحمد في مسنده (1/ 307، 329، 373)، والطبراني في الكبير (11/ 453، 146)، والشعب للبيهقي (7/ 585)، وذكره في مجمع الزوائد (3/ 242)، وضعيف الجامع (2766)، قال ابن حجر في الفتح -رحمنا الله وإياه- (3/ 462): أخرجه الترمذي وصححه، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصراً ولفظه: "الحجر الأسود من الجنة" وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط. اهـ. وقد روى بألفاظ أخرى عن ابن عباس وغيره، انظر: كنز العمال (34742) وما بعده.

فقد أجرى الله تعالى العادة أن من يرى ما كان في الجنة فيحرم على النار ولكن ستر الله زينته من الظلمة فجعل السواد كالمانع من رؤية الزينة. قلت: وقد روى الأزرقي ذلك في حديث عن ابن عباس (¬1) مطولاً، وروى أبو عمر (¬2) عن غير واحد أن الحجر الأسود من الجنة ثم قال: إنه أولى من قول من قال: إنه من حجارة الوادي، وروى عن السدي قال: "أهبط آدم بالهند، وأنزل معه الحجر الأسود, وقبضة من ورق الجنة فنثرها بالهند فأنبتت شجرة الطيب. ثالثها: ما روى الحاكم في "مستدركه" مستشهداً به لا محتجاً من حديث أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب، قال: لعمر لما قال، ما قال: بلى، يا أمير المؤمنين! إنه يضر وينفع، قال: بم؟ قلت: قال: بكتاب الله تبارك وتعالى، قال: وأين ذلك من كتاب الله تعالى؟ قال: قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬3)، خلق الله آدم، ومسح على ظهره، فقررهم بأنه الرب، وأنهم العبيد، وأخذ عهودهم ومواثيقهم، وكتب ذلك في رق، وكان لهذا الحجر عينان ولسان، ¬

_ (¬1) قد روى: طمس النور، من حديث ابن عباس الأزرقي (1/ 329)، ومن حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد (2/ 213، 214)، والسنن الكبرى (5/ 75) , وابن خزيمة (2831, 2732)، والترمذي (778)، والحاكم (1/ 456)، وعبد الرزاق (5/ 39). (¬2) الاستذكار (12/ 158، 159). (¬3) سورة الأعراف: آية 172.

فقال له: افتح فاك قال: ففتح فاه، فألقمه ذلك الرق، وقال: إشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة وإني أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود، وله لسان ذلق، يشهد لمن يستلمه بالتوحيد" فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن (¬1). رابعها: في الحديث دلالة على أنه ينبغي للعالم أن يبين للناس السنن بقوله وفعله. خامسها: فيه أيضاً دلالة على أن المرجع في ذلك إلى الشارع دون غيره. سادسها: فيه أيضاً دلالة على أن الإِمام العالم المقتدى به إذا خاف على الناس فعل محذوراً واعتقاده أو انجرار المشروع إلى ذلك أن يبينه ويوضحه للناس في المجامع والمواسم [وفسره] (¬2) بالإِيضاح والبيان ليكون بيناً. سابعها: لا يشرع التقبيل إلاَّ للحجر الأسود وللمصحف (¬3) ¬

_ (¬1) الحاكم (1/ 457)، والدر المنثور (3/ 605)، والشعب للبيهقي (7/ 589)، قال ابن الملقن في مختصر المستدرك (1/ 343) فيه: أبو هارون ساقط. (¬2) في ن هـ (وشهره). (¬3) قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن (1/ 478): يستحب تقبيل المصحف. لأن عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه- كان يقبله، وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية لعباده فشُرع تقبيله كما يستحب تقبيل =

ولأيدي الصالحين (¬1) من العلماء وغيرهم وللقادمين من السفر بشرط أن لا يكون أمرد ولا امرأة محرمة ولوجوه [الموتى] (¬2) والصالحين ومن نطق بعلم أوحكمة ينتفع بها وكل ذلك ثابت من الأحاديث الصحيحة وفعل السلف. ¬

_ = الولد الصغير, وعن أحمد ثلاث روايات: الجواز، الاستحباب، التوقف، وإن كان فيه رفعة وإكرام، لأنه لا يدخله قياس، ولهذا قال عمر في الحجر: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبّلك ما قبلتك. قال ابن تيمية في مختصر الفتاوى المصرية (265): وقد سئل أحمد عن تقبيله، فقال: ما سمعت فيه شيئاً، ولكن روى عن عكرمة بن أبي جهل، والأفضل اتباع السلف في كل شيء. (¬1) ورد ذلك في تقبيل الصحابة يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة منها تقبيل كعب بن مالك يده - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت توبته ومنها حديث أسامة بن شريك في تقبيل الصحابة ليده، قال ابن حجر في الفتح (11/ 57): إسناده قوي، قال حميد بن زنجويه في كتاب الآداب: المأذون فيه عند التوديع والقدوم من سفر وطول العهد وشدة الحب في الله وإنما كره ذلك في الحضر -يعني حديث أنس بن مالك يلقى أحدنا أخاه- لأنه يكثر. انظر: شرح السنة للبغوي (12/ 293)، وقال شيخ الإِسلام في الفتاوى المصرية (563) وذكره عنه ابن مفلح -رحمنا الله وإياه- في الآداب (2/ 271)، تقبيل اليد لم يكن يعتادونه إلاَّ قليلاً. (¬2) في ن هـ ساقطة. وفيه تقبيل الصديق لجبهته - صلى الله عليه وسلم - حين مات. انظر: ابن سعد (2/ 265)، والبداية لابن كثير (5/ 211): تقبيله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن مضعون من رواية أحمد والترمذي. انظر: مجمع الزوائد (3/ 20).

فأما تقبيل الأحجار والقبور والجدران والستور (¬1) وأيدي الظلمة والفسقة (¬2) واستلام ذلك جميع فلا يجوز، ولو كانت أحجار الكعبة أو القبر المشرف أو جدار حجرته أو ستورهما أو صخرة بيت المقدس، فإن التقبيل والاستلام ونحوهما تعظيم، والتعظيم خاص بالله فلا يجوز إلاَّ فيما أذن فيه، نعم في "شرح المهذب" لابن درباس (¬3) عن الشافعي [رضي الله عنه] أنه قال: وأي البيت قبّل، فحسن، غير أنا نؤمر بالاتباع. ... ¬

_ (¬1) تقبيل القبور وما يحيط بها وعليها من بناء وثياب، فهذا كله من البدع المفضية إلى الشرك الأكبر إذ أن تقبيلها على سبيل التدين أو اعتقاد حصول البركة بدون نص شرعي صحيح من أكبر طرق الشرك ولذلك تجدهم يسارعون في تقبيل القبور والأعتاب والأحجار ونحوها فرضي الله عن عمر فإنه لما أراد أن يقبل الحجر قال: "اللهم إني أعلم أنه حجر لا يضر ولا ينفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبله ما قبلته"، وانظر: تعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على هذا الموضع في الفتح (3/ 475). (¬2) قال سفيان الثوري -رحمه الله وإياه- "تقبيل يد الإِمام العادل سنة" فإذا كان للإِمام العادل فلا يشترك معه أحد وذكر ابن مفلح عن ابن الجوزي في الآداب (2/ 272) نقبيل يد الظالم معصية إلاَّ أن يكون "عند خوف". (¬3) هو عثمان بن عيسى بن درباس الماراني صاحب الاستقصاء في "شرح المهذب"، و"شرح اللمع في أصول الفقه"، مات بمصر سنة اثنتين وستمائة وقد قارب التسعين سنة. ترجمته حسن المحاضرة (1/ 408)، وشذرات الذهب (5/ 7).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 225/ 5/ 46 - عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم، قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها: إلاَّ الإِبقاء عليهم" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا القدوم كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل الهجرة ووقع في كلام القاضي (¬2) أن ذلك كان في عمرة الحديبية وهو وهم فإنه صُد فيها عن مكة إلاَّ أن تأول [الأمر] (¬3) على إرادة العمرة التي ¬

_ (¬1) البخاري (1602، 4256)، ومسلم (1266)، والنسائي (5/ 242)، وأبو داود (1886) في الحج، باب: في الرمل، وابن خزيمة (2720)، والبيهقي (5/ 82)، والطحاوي (2/ 179)، وأحمد (1/ 221، 294، 373)، وأبو يعلي (2339)، وقد ورد في روايات أخرى عن ابن عباس، ومن رواية جابر أيضاً. (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 385). (¬3) في ن هـ (كلامه).

قاضي عليها بالحديبية فاعلمه. وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم [وإنما] (¬1) رملوا إظهاراً للقوة واحتاجوا إلى ذلك في غيرها بين الركنين اليمانيين لأن المشركين كانوا جلوساً في الحجر لا يرونهم بين هذين الركنين ويرونهم فيما سوى ذلك فلما حج -عليه الصلاة والسلام- حجة الوداع في العاشرة رمل من الحجر إلى الحجر وذلك متأخر فوجب الأخذ به ونسخ ترك الرمل وتبين بذلك أن المشي بين الركنين اليمانيين في الأشواط الثلاثة منسوخ. الثاني: معنى: "وهنتهم" بتخفيف الهاء أضعفتهم وهو ثلاثي وقد يقال: رباعياً. قال [الفراء] (¬2): وغيره يقال: وهنه الله وأوهنه، ويقال: وهن الإِنسان ووهنه غيره (¬3) يتعدى ولا يتعدى، ويقال: أيضاً وهِن بالكسر. الثالث: "يثرب": اسم المدينة في الجاهلية واستجد لها في الإِسلام عدة أسماء سلفت الإِشارة إليها منها: المدينة، وطابة، وطيبة، وكره - صلى الله عليه وسلم - تسميتها يثرب في حديث رواه الإِمام أحمد في "مسنده" (¬4) وفي "صحيح مسلم" "يقولون يثرب وهي المدينة" يعني ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في المغرب (2/ 375) ووهنه الله. (¬4) أخرجه البخاري في فضائل المدينة (1871)، ومسلم في كتاب الحج (1382)، والموطأ (2/ 887)، وأحمد (2/ 237). وفي حاشية ن هـ زيادة: "روى البزار مرفوعاً من قال -من سمى- المدينة بيثرب فليستغفر الله، هي =

أن بعض المنافقين وغيرهم يسميها يثرب وفي هذا الحديث تسمية المشركين لها بذلك. قال عيسى بن دينار: من سماها بذلك كتبت عليه خطيئة. [وسبب الكراهة: أن يثرب مأخوذ من التثريب وهو التوبيخ والملامة] (¬1). وسميت: طابة، وطيبة من الطيب لِحسن لفظها، وكان -عليه الصلاة والسلام-: يحب الاسم الحسن ويكره القبيح. وتسميتها في القرآن بيثرب: حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض. وقيل: سميت يثرب بأرض هناك. المدينة ناحية منها (¬2). وقال البكري في "معجمه": سميت بيثرب بن ¬

_ = طابة". قال الدارقطني: تفرد به عمر بن صالح الواسطي عن يزيد بن زياد ولا يحتج بيزيد. قلت: أخرجه أحمد في المسند (4/ 285)، وأبو يعلى (3/ 248)، وذكره في مجمع الزوائد (3/ 300)، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات. وقد قال الصالحين في فضائل المدينة: إسناده جيد (63). (¬1) النص كما في فضائل المدينة للصالحي (64): وسبب الكراهة إما لكون ذلك مأخوذاً من الثَّرَب بالتحريك، وهو الفساد، أو من التثريب، وهو المؤاخذة بالذنب، وانظر أيضاً: فتح الباري (3/ 87). (¬2) قال الزمخشري في الكشاف (3/ 230): يثرب اسم المدينة وهي أرض وقعت المدينة في ناحية منها. اهـ.

قانية (1) من بني آدم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها. قلت: ووقع في البخاري (2) تسميتها يثرب فروى عن أبي موسى أراه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب" وفي "دلائل النبوة" (3) للبيهقي أن جبريل سماها بذلك

_ (1) في الفتح (3/ 88) زيادة (بن مهلايل بن عيل بن عيص بن إرم بن سام بن نوح) -إلى أن قال- وسقط بعض الأسماء من كلام البكري -كما هو واضح-. (2) أطرافه في البخاري (3622) ومعلقًا في باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، والفتح (7/ 226). (3) البيهقي في الدلائل (2/ 355)، والطبراني في المعجم (7/ 282)، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح وروى ذلك مفرقًا في أحاديث غيره، ونحن نذكر من ذلك إنشاء الله ما حضرنا، ثم ساق أحاديث كثيرة في الإِسراء كالشاهد لهذا. قال الحافظ ابن كثير: في تفسيره (3/ 14). وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإِمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به، ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي، ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم، وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك، والله أعلم. اهـ. وإسحاق بن إبراهيم هذا قال: فيه الحافظ في التقريب صدوق يهم كثيرًا وأطلق محمد بن عوف أنه يكذب. وقال في مجمع الزوائد (1/ 47): وفيه إسحاق بن إبراهيم بن العلاء وثقه يحيى بن معين وضعفه النسائي. اهـ.

أيضًا، وروى من حديث شداد بن أوس قلنا: يا رسول الله كيف أسرى بك؟ الحديث. وفيه أن جبريل [عليه الصلاة والسلام] (1) أتدري أين صليت؟ قال: قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. قال البيهقي: إسناده صحيح. [فرع] (2): "الرمل": هو إسراع المشي مع تقارب الخطا ولا معنى "الرمل" يثب وثوبًا، يقال: رمل يرمل بضم الميم رملًا بفتح الراء وسكون الميم ورملانًا. ثم اعلم. أن الرمل من الألفاظ المشتركة أيضًا يقع على جنس من العروض (3) وهو القصير منها، وعلى القليل من المطر، وعلى خطوط تكون في قوائم البقر الوحشية يخالف سائر لونها. الخامس: "الأشواط" هي الطوافات راملًا وأصل الشوط في الأصل الطلق، يقال: عدا شوطًا أي طلقًا بفتح اللام، والمراد به هنا: الطواف بالبيت من الحجر إلى الحجر ويسمى الطواف كله والطوفة الواحدة دورًا وفيه ما سيأتي. وقوله: "وأن يمشوا ما بين الركنين [إلى اليمانيين] (4) وسببه

_ (1) في ن هـ ساقطة. (2) في ن هـ (الرابع). (3) قال في لسان العرب، مادة: "رمل" (5/ 321): الرَّمَل: ضرب من عروض يجيء على فاعلاتن فاعلاتن. وقال ابن سيده: الرَّمَل من الشعر كل شعر مهزول غير مؤتَلِف البناء وهو مما تسمى العرب من غير أن يحدوا في ذلك شيئًا. اهـ. وذكر هذه الألفاظ. (4) غير موجودة في لفظ الحديث.

عدم رؤية المشركين للمسلمين إذ ذاك إذ العلة إنما كانت إظهار الجلد وإنكار المشركين فيما أدعوه من ضعفهم. السادس: قوله: "إلاَّ الإِبقاء" قال: النووي في "شرح مسلم" (¬1) هو بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالمد أي الرفق بهم. ولم يزد على ذلك. وقال القرطبي (¬2): رواية "الإِبقاء" بالرفع على أنه فاعل "يمنعهم" ويجوز نصبه على أن يكون مفعولاً من أجله، ويكون في "يمنعهم" ضمير عائد على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو فاعله فتأمله. السابع: اعلم أن الرمل شرع لحكمة إظهار قوة المؤمنين إرغاماً للمشركين لإِظهار التوحيد للرب جل وعز في امتثال أمره بحضرتهم وقد زالت الحكمة التي شرع لأجلها وحكمه باق إلى يوم القيامة عند الأمن إلاَّ ابن عباس (¬3) فإنه قال إن استحبابه كان ذلك الوقت لإِظهار القوة للكفار وزال بزوال علته. وليس كما قال فنفعله الآن تأسياً واقتداء بالشارع كما وقع التأسي بكثير من أفعال الحج تعبداً كالسعي ورمي الجمار فإن السعي سبب التعبد به قصة هاجر مع ابنها إسماعيل وتركها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في ذلك ¬

_ (¬1) (9/ 13). (¬2) المفهم (3/ 376). (¬3) انظر روايته عند: مسلم (1264)، والترمذي (863) , وأبو داود (1885) في الحج، باب: في الرمل، وابن ماجه (2953)، والحميدي (511)، وأحمد (1/ 297، 298)، والنسائي (5/ 242)، وأبو يعلى (2339)، والبيهقي (5/ 82)، وابن خزيمة (2720).

المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية مع ما أظهر الله تعالى من الكرامة والآية في إخراج الماء لها حين سعى هاجر بين الصفا والمروة لئلا ترى الألم بإسماعيل عند موضع زمزم وتركها له هناك وكذلك سبب التعبد برمي الجمار أن إبليس رمى بها في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده امتثالاً لأمر الله تعالى في شرعية ذلك جميعه من الفوائد الكثيرة ما يزيد المتبصر بذكره. فمنها: تذكر وقائع السلف الكرام للمتأخرين إذ في طيَّ تذكرها مصالح دينية في أشياء كثيرة. ومنها: ما كانوا عليه من امتثال الأمر والمبادرة إليه وبذل الأنفس في ذلك جميعه وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيراً من الأعمال الواقعة في الحج يقال فيها أنها تعبد وليس كذلك. ومنها: تعظيمهم باحتمال مشاق امتثال الأوامر والصبر عليه ووجود عدم المعين عليها والمفند عنها فإن ذلك جميعه باعث لنا على التأسي والتعظيم وكل ما ذكرناه معنى معقول يبين في أشياء كثيرة. الثامن: في الحديث دلالة على استحباب الرمل وهو سنة ثابتة مطلوبة على تكرار السنين وهو مذهب جميع [العلماء] (¬1) من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وخالف ابن عباس كما سلف وقد بينا الحكمة والسر فيه ثم أجمع من قال باستحبابه على أنه سنة في الطوافات الثلاث الأول من السبع إلاَّ عبد الله بن الزبير فإنه قال: يسن في السبع فإن تركه ففد ترك سنة وفاتته الفضيلة ويصح طوافه ولا دم عليه. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

وقال الحسن البصري والثوري وابن الماجشون: إذا ترك الرمل لزمه دم. وكان مالك يقول به. قال الأبهري: لأنه ترك شيئاً مستحباً وذلك أحوط. ثم رجع عنه (¬1)، قال الأبهري: أيضاً لأن ذلك هيئة للعمل فصار كما لو ترك رفع اليدين في الصلاة. ثم لا يسن الرمل إلاَّ في طواف العمرة وفي طواف واحد في الحج ولا يستحب إلاَّ في طواف يعقبه سعي ولا يختص بطواف القدوم على الأظهر عند الشافعي وبه قال جماعة من العلماء وفي قول يختص به وإن لم يسعى بعده، ولا يتصور الرمل في طواف الوداع ولو ترك الرمل في الثلاث الأول من السبع لم يأت به في الأربع الأواخر لأن السنة فيها المشي على العادة فلا يغيره فلو لم يمكنه الرمل لزحمة أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرامل ولو فات الرمل بالقرب لزحمة فالرمل مع بعد أولى لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها فكان تقديم ما يتعلق بنفسها أولى وهذا إذا كان لا يرجوا فرجة أو وقف فإن رجاها وقف ليرمل فيها ولو خاف صدم النساء بأن كن في حاشية المطاف فالقرب بلا رمل أولى تجوزاً عن مصادمتهن وملامستهن. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 383). وقد ذكر ابن عبد البر -رحمنا الله واياه- (12/ 139): أنه رجع عن القول بتركه دم. وانظر: إلى الأقوال هذه في الاستذكار.

واتفق العلماء: على أن الرمل لا يشرع للنساء كما لا يشرع لهن شدة السعي بين الصفا والمروة كذا نقله النووي في "شرح مسلم" (¬1) وسبقه إليه ابن المنذر. نعم لو كانت ليلاً في خلوة لم يمنع استحباب الرمل لها كما قيل بمثله في السعي وإن لم يصرحوا به. فرع: يخاطب بالرمل المكي أيضاً خلافاً لابن عمر وعند الشافعي فيه تفصيل محله كتب الفروع. التاسع: فيه أيضاً أن الرمل لا يشرع بين [الركن] (¬2) اليماني والأسود وإنما يشرع المشي وهو قول الشافعي وقد أسلفنا أن ذلك منسوخ واستقرار استحبابه حول البيت والحجر وهو أشهر قولي الشافعي (¬3). العاشر: فيه أيضاً إظهار قوة الدين والإِسلام [بحضرة أعدائه] (¬4) وإن كان الضعف حاصلاً. الحادي عشر: فيه أيضاً أن ما شرع لمعنى تستحب المداومة على فعله تذكراً لنعم الله تعالى وتأسياً كذا استنبط منه وليس بظاهر. ¬

_ (¬1) (9/ 7)، ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 384). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) وفي الحديث عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رمل من الحجر إلى الحجر". أخرجه مسلم (1263)، والترمذي (857)، والنسائي (5/ 230)، وابن ماجه (2951)، والدارمي (2/ 42)، والموطأ (1/ 364). (¬4) في ن هـ ساقطة.

الثاني عشر: فيه أيضاً جواز تسمية الطواف شوطاً ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته وكراهة تسميته دوراً وإنما يسمى طوفة. قال القاضي حسين: وسببها أن الشوط هو الهلاك والصحيح أنه لا كراهة فيه لهذا الحديث لأنها لا تثبت إلاَّ بالشرع ولم يثبت، ويمنع أن الشوط هو الهلاك بل هو الطلق كما تقدم (¬1). الثالث عشر: فيه أيضاً رفق الإِمام بالناس فيما يأمرهم به من الطاعات للمصالح العامة وأن لا يتجاوز بما يأمرهم به من ذلك إلى حد المشقة عليهم. ... ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (9/ 13)، وإكمال إكمال المعلم (3/ 385).

الحديث السادس

الحديث السادس 246/ 6/ 46 - عن [عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-] (¬1) قال "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود -أول ما يطوف يخب ثلاثة أشواط" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: الخب والرمل: بمعنى. ومعنى: "استلم" مسح يده [فيه] (¬3) مأخوذ من السلام وهو التحية أو السلام بكسر السين وهي الحجارة. الثاني: فيه دلالة على استلام الركن والحكمة فيه كونه على قواعد إبراهيم وفيه الحجر أيضاً، وقد قدمت في الحديث الرابع عن القاضي أبي الطيب (¬4) أنه انفرد بقوله: يستلم الركن الذي فيه الحجر أيضاً، وعزاه الشيخ تقي الدين (¬5) إلى بعض مصنفي الشافعية ¬

_ (¬1) في ن هـ (عن ابن عمر). (¬2) البخاري أطرافه (1603)، ومسلم (1261)، والنسائي (5/ 229، 230)، والكبرى له (2/ 204). (¬3) في ن هـ (عليه). (¬4) ص 191. (¬5) إحكام الأحكام (3/ 533).

المتأخرين وكأنه أراده [قال] (¬1) وله متمسك بهذا الحديث وإن كان يحتمل أن معنى قوله: "استلم الركن" استلم الحجر، وعبر عن الحجر بالركن فإنه بعضه كما أنه إذا قال: استلم الركن إنما يريد بعضه، وبهذا جزم النووي في "شرح مسلم" (¬2) حيث قال: فيه استحباب استلام الحجر الأسود في ابتداء الطواف، ثم ذكر أن القاضي أبا الطيب استدل به على استلام الركن أيضاً ثم قال: واقتصر [جمهور أصحابنا] (¬3) على أنه يستلم الحجر. [الثالث] (¬4): فيه دلالة أيضاً على البدأة بطواف القدوم عند وصوله إلى مكة. [الرابع]: فيه أيضاً استحباب الرمل فيه. [الخامس]: فيه أيضاً أن استحبابه إنما هو في الطوافات الثلاث الأول وفي جميعها أعني الثلاث. السادس: فيه أيضاً جواز تسميتها أشواطاً وقد سلف ما فيه (¬5). ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) شرح مسلم للنووي (9/ 8). (¬3) في ن هـ (الجمهور من أصحابنا). (¬4) في ن هـ (ثالثها، رابعها، خامسها، سادسها). (¬5) ص 210.

الحديث السابع

الحديث السابع 247/ 7/ 46 - عن عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما] (¬1) [قال طاف النبي - صلى الله عليه وسلم -، (¬2) في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (¬3). المحجن: عصا محنية [الرأس] (¬4). الكلام عليه من وجوه: يقدم عليها أن ابن طاهر قال: أنكر على البخاري ومسلم إخراجهما لهذا الحديث من حديث ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس لأن الليث بن سعد ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) البخاري أطرافه في الفتح (1607)، ومسلم مع النووي (9/ 18)، وأبو داود (1877) في المناسك، باب الطواف الواجب، والنسائي (5/ 233). وابن ماجه (2948) , والبغوي (1907) ,والبيهقي (5/ 99)، وابن الجارود (463)، وأحمد (1/ 214، 237، 248, 304). (¬4) في ن هـ (الركن).

وأسامة بن زيد وزمعة خالفوا ابن وهب، ورووه عن ابن شهاب بلغه عن ابن عباس، ورواه ابن أخي ابن وهب عن عمه كذلك، قال: والاحتياط يقضي لمن أرسله مع أن بعض الحفاظ حكم بإرساله [...] (¬1) هذا كلامه، وقد علم ما في تعارض الوصل والإِرسال وأن الواصل معه زيادة فقدمت. الوجه الأول: حجة الوداع كانت سنة عشر من الهجرة. سميت ذلك: لأنه -عليه الصلاة والسلام- ودع الناس فيها, ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وحج قبلها حجة واحدة فيما ذكره ابن إسحاق، وفي حديث آخر حجتان (¬2). وكره بعض العلماء ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (وعد). (¬2) اختلف العلماء هل حج - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة أم لا، فعند الترمذي على جابر -رضي الله عنه- أنه -عليه الصلاة والسلام- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر إلى آخر الحديث، وقال: هذا حديث غريب من حديث سفيان، والبخاري لم يعرفه من حديث الثوري. اهـ. مختصراً. انظر: الترمذي (815)، وابن ماجه (3076)، ومصباح الزجاجة (3/ 211)، والحاكم في المستدرك (1/ 470) على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال صاحب سفر السعادة: قال جماهير العلماء: على أنه - صلى الله عليه وسلم - حج بعد الهجرة حجة وتلك حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت في السنة العاشرة من الهجرة. وأما قبل الهجرة فثبت في جامع الترمذي أنه حج حجتين. ونقل صاحب المحلى أنه زاد على ثلاث أو أربع لكن لم يحفظ العدد. اهـ. وقال ابن الأثير: يحج كل سنة قبل أن يهاجر، وقال ابن الجوزي: حج حججاً لا يعلم عددها إلاَّ الله، وهكذا نقل الحافظان ابن حجر والعيني، والقسطلاني في المواهب وشارحه الزرقاني وشارح سفر السعادة. اهـ.

أن يقال لها حجة الوداع، وهو غلط، والصواب جوازه لهذا الحديث وغيره من الأحاديث (¬1). ولم يزل السلف والخلف على جوازه واستعماله. الثاني: "المحجن" بكسر الميم، وسكون الحاء وفتح الجيم، وقد فسره المصنف زاد النووي في "شرح مسلم" (¬2) يتناول بها الراكب ما يسقط منه، ويحرك بها بعيرة للمشي. الثالث: العلة في طوافه -عليه الصلاة والسلام- راكباً لكي يراه الناس مشرفاً فيسألوه ويتعلموا أفعاله ليقتدوا بها كما صرحت به الأحاديث منها حديث جابر في مسلم (¬3)، وفيه عن عائشة قالت: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس". على أنه يحتمل أن يكون الضمير في "عنه" يرجع إلى الركن. وروى أبو داود (¬4) في "سننه" من حديث ابن ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (8/ 281). (¬2) شرح مسلم (9/ 18)، وأبو داود (1880)، باب: الطواف الواجب، والنسائي (5/ 173)، والكبرى له (2/ 396)، والمعرفة للبيهقي (6/ 259). (¬3) مسلم مع النووي (9/ 18)، وأبو داود (1885)، باب: في الرمل, والسنن الكبرى (5/ 110)، والمعرفة (6/ 258). (¬4) أبو داود (1801) في المناسك، باب: الطواف الواجب، قال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد، ولا يحتج به. وقال البيهقي (5/ 100)، وفي حديث يزيد بن أبي زياد لفظة: لم يوافق عليها، وهي قوله: "وهو يشتكي". انظر: الفتح (3/ 410).

عباس أيضاً أنه -عليه الصلاة والسلام-: "إنما طاف راكباً لشكوى عرضت له". وإلى هذا أشار البخاري (¬1) في صحيحه وترجم عليه في "باب: المريض يطوف راكباً". وذكره من حديث عكرمة عن ابن عباس أنه -عليه الصلاة والسلام-: "طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر". لكن حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو داود ضعيف لأنه من رواية يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. قال البيهقي (¬2): وهذه الرواية تفرد بها يزيد هذا. قلت: وقال الإِمام الشافعي (¬3) -رضي الله عنه-: لا أعلمه في تلك الحجة اشتكى. وقيل: إنما طاف راكباً لبيان الجواز. قال النووي: ويحتمل أنه طاف راكباً لهذه الأمور كلها. قلت: احتمال كونه ضعيفاً فيه بعد لما بيناه. قال أبو عمر (¬4): لم يقل أن طوافه لعذر من يوثق بنقله. الرابع: هذا الطواف يحتمل أن يكون طواف الوداع، وأن يكون طواف القدوم لكن في مسلم من حديث جابر أنه -عليه الصلاة والسلام- طاف راجلاً فليحمل على القدوم. وحديث ابن عباس ¬

_ (¬1) الفتح (3/ 410). (¬2) السنن الكبرى (5/ 100). (¬3) الأم (2/ 174). (¬4) الاستذكار (12/ 188).

على طواف الوداع (¬1)، روى ابن حبان (¬2)، في "صحيحه" من حديث ابن عمر: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته القصواء يوم الفتح واستلم الركن بمحجنه"، فهذه واقعة أخرى وروى الشافعي في "الأم" أنه -عليه الصلاة والسلام-: "طاف طواف القدوم على عقبيه" وهذا يقوى ما أسلفناه. الخامس: اعترض ابن القطان في كتاب "الوهم والإِيهام" (¬3) على عبد الحق في "أحكامه"، فقال: ذكر "البعير" وقع في "أبي داود" دون "مسلم"، وهذا عجيب فهو في "صحيح مسلم" كما عزاه إليه عبد الحق وفي "صحيح البخاري" أيضاً. السادس: في الحديث دلالة على جواز الطواف راكباً وهو إجماع. قال مالك: في المريض يطاف به محمولاً ثم يفيق أحب إلى أن يعيد. نقله أبو عمر (¬4) عنه. وهل يكره لغير عذر؟ ونقل ابن الرفعة عن الماوردي (¬5) وغيره نعم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجهما. (¬2) ابن حبان (3828)، والترمذي (3270)، وابن خزيمة مختصراً (2781)، وأحمد (2/ 361، 523)، وأبو داود (5116)، في الأداب، باب: في التفاخر بالأحساب. (¬3) بيان الوهم والإِيهام حديث رقم (120، 121). (¬4) الاستذكار (12/ 186). (¬5) الحاوي الكبير (5/ 201).

ونقل الرافعي عن الأصحاب عدمها ثم قال: وقال الإِمام في القلب من إدخال البهيمة المسجد ولا يؤمن تلويثها شيء فإن أمكن الاستياق فذاك، وإلاَّ فإدخال البهائم المسجد مكروه، ومقتضى ما ذكره في الشهادات التحريم عند غلبة التنجيس والكراهة عند عدمها. وقال [القرطبي] (¬1): أجار قوم طواف من لا عذر له، منهم ابن المنذر أخذاً بطوافه -عليه الصلاة والسلام- راكباً، والجمهور على كراهة ذلك ومنعه، متمسكين بظاهر قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} (¬2)، وهذا طيف به، ولم يطف، وبأن الصحابة اعتذروا عن طوافه -عليه الصلاة والسلام- راكباً، وبينوا عذره في ذلك، فكان دليلاً: على أن مشروعية الطواف عندهم أن لا يكون راكباً. ثم اختلفوا بعد ذلك فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يعيد ما دام قريباً من ذلك فإن بعد إلى مثل الكوفة ففيه دم (¬3)، ولم ير الشافعي فيه شيئاً. ونقل الباجي (¬4): عن القاضي عبد الوهاب (¬5) الكراهة في غير المعذور فقط. ¬

_ (¬1) في ن هـ (الطبري). انظر: المفهم (3/ 379) بتصرف من المؤلف. (¬2) سورة الحج: آية 29. (¬3) انظر: التمهيد (2/ 95). (¬4) المنتقى (2/ 295). (¬5) الإِشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 477).

وقال الماوردي (¬1): الإِجماع على جواز الطواف راكباً بغير عذر، لكن أبو حنيفة ومالك يوجب الدم والحالة هذه. ولم يزد الشيخ تقي الدين (¬2) في "شرحه" على قوله، وقيل: إن الأفضل المشي وإنما طاف -عليه الصلاة والسلام- راكباً لتظهر أفعاله فيقتدى بها، قال: وهذا يؤخذ منه أصل كبير، وهو أن المشي قد يكون راجحاً بالنظر إلى محله من حيث [هو] (¬3) فإذا عارضه أمر [خارج] (¬4) أرجح منه قدم على الأول من غير أن تزول تلك الفضيلة الأولى حتى إذا زال ذلك العارض الراجح عاد [ترجح] (¬5) الأول من حيث هو هو، وهذا إنما يقوي إذا قام الدليل على أن ترك الأول إنما هو لأجل المعارض الراجح، وقد يؤخذ ذلك بقرائن ومناسبات وقد يضعف، وقد يقوى بحسب اختلاف المواضع، وههنا يصطدم أهل الظاهر مع المتتبعين للمعاني. فرع: قال الماوردي (¬6): لو طاف محمولاً على أكتاف الرجال من غير عذر فهو مكروه، قال: وركوب الإِبل أيسر حالاً من ركوب البغال والحمير. ¬

_ (¬1) الحاوي (5/ 200)، ولكن بدون ذكر الإِجماع. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 534). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في إحكام الأحكام (آخر). (¬5) في إحكام الأحكام (الحكم). (¬6) الحاوي (5/ 201).

السابع: فيه أيضاً جواز استلام الحجر بعود ونحوه إذا عجز عن استلامه بيده وليس في الحديث تعرض لتقبيله وعدمه، وفي صحيح مسلم (¬1) من حديث أبي الطفيل أنه -عليه الصلاة والسلام- قبله. قال القاضي عياض (¬2): وانفرد مالك عن الجمهور، فقال: في أحد قوليه لا يقبل، ونقل عن أحمد أيضاً، وعن أبي حنيفة أنه لا يستلم. وأصح الأوجه عند الشافعية أن التقبيل بعد الاستلام. وثانيها: قبله وكأنه ينقل القبلة إليه حكاه في "الكفاية". وثالثها: يتخير. الثامن: فيه أيضاً طهارة البعير ونجوه وعرقه وهو إجماع. التاسع: فيه أيضاً جواز إدخاله المسجد للحاجة إلى ذلك وقد أسلفت ما فيه. العاشر: استدل به من قال: بطهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه، وهو مذهب مالك وأحمد لأنه لا يؤمن البول والروث منه، ولو كان نجساً لما عرض المسجد للنجاسة، وقد منع لتعظيم المساجد ما هو أخف من هذا. وأجاب القائل بالنجاسة، وهو أبو حنيفة والشافعي: بأنه ¬

_ (¬1) مسلم (1272). (¬2) إكمال إكمال المعلم (3/ 388).

لا يلزم من دخوله أن يبول أو يورث في حال الطواف، وإنما هو محتمل، وعلى تقدير حصوله ينظف المسجد منه، وقد أقر -عليه الصلاة والسلام- دخول الصبيان ونحوهم المساجد ومعلوم أنه لا يؤمن من بولهم وغائطهم فيها بل قد يوجد ذلك، ولو كان ذلك محققاً لنزه المسجد من دخولهم إليه، سواء كان ما يؤذي به المسجد من الأقذار طاهراً أو نجساً. ***

الحديث الثامن

الحديث الثامن 248/ 8/ 46 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لم أر [رسول] (¬1) الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت إلاَّ الركنين اليمانيين" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "الركنان اليمانيان" هما الركن الأسود الذي فيه الحجر والثاني الذي يليه من نحو دور بني جمح وكلاهما من جهة اليمن، فلذلك نسبا إليه، كذا قاله القرطبي (¬3). وخالف النووي فقال: قيل لهما اليمانيان [للتغليب] (¬4) ¬

_ (¬1) في ن هـ (النبي). (¬2) البخاري أطرافه (166)، ومسلم (1187)، وأبو داود (1772) في المناسك، باب: في وقت الإِحرام، والنسائي (1/ 80) (5/ 163، 232)، والحميدي (651)، وابن ماجه (3626)، وابن خزيمة (2725)، والبيهقي (5/ 76) , والبغوي (1870)، وأحمد (2/ 17)، والموطأ (1/ 333). (¬3) المفهم (3/ 271). (¬4) في ن هـ ساقطة. انظر: شرح مسلم للنووي (9/ 14).

كالعمرين ونظائره، وتوبع [على ذلك] (¬1). وأجاب بعضهم: على هذا بأنه يحتمل أن يكون تغليب اليماني من باب استحباب لفظ اليَمن الذي هو التبرك. [الثاني] (¬2): "اليمانيان": بتحفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى سيبويه وغيره لغة أخرى بالتشديد، فمن خفف فلأنها نسبة إلى اليمن، فالألف عوض من إحدى ياءي النسب ولو شدد لكان جمعاً بين العوض والمعوض منه وذلك ممتنع، ومن شدد جعل الألف زائدة وأصله اليمني كما زادوا الألف في صنعاني ورقباني ونظائرهما. ثالثها: للبيت أربعة أركان، الركن الأسود واليماني ويقال: لهما اليمانيان، وأما الآخران فيقال لهما: الشاميان لأنهما لجهة الشام، ويقال: الغربيان. فالأسود: يستلم ويقبل لاختصاصه بفضيلتي الحجر وكونه على قواعد إبراهيم كما سلف في الحديث السادس. واليماني: يستلم ولا يقبل لاختصاصه بفضيلة واحدة وهي كونه على قواعد إبراهيم فقط. والآخران: لا يستلمان ولا يقبلان لانتفاء هذين الفضيلتين فيهما. ¬

_ (¬1) في ن هـ (عليه). (¬2) في ن هـ (ثانيها).

قال القاضي عياض (¬1): فلو بني اليوم على ما بناه ابن الزبير لاستلمتها كلها كما فعل ابن الزبير -رضي الله عنه-، والإِجماع قائم على استحباب إستلام اليمانيين. ونقل القاضي أبو الطيب: إجماع أئمة الأمصار والفقهاء على أن الشاميين لا يستلمان، ونقل غيره ذلك عن جمهور العلماء، قال: واستحبه بعض السلف، وممن كان يقول باستلامهما الحسن والحسين ابنا علي (¬2) وابن الزبير وجابر بن عبد الله (¬3) وأنس بن مالك (¬4) وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد -رضي الله عنهم-، قال القاضي أبو الطيب: كان فيه خلاف لبعض السلف من الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف ثم أجمعوا على عدم إستلامهما فإن [الغالب] (¬5) على العبادات الاتباع لا سيما إذا وقع التخصيص مع توهم الاشتراك في العلة فإن التوهم أمر زائد وإظهار معنى التخصيص غير موجود فيما ترك فيه الاستلام، ونقل القاضي (¬6) عن بعض أهل ¬

_ (¬1) أشار إليه في إكمال إكمال المعلم (3/ 386). (¬2) مصنف عبد الرزاق (5/ 47). (¬3) الاستذكار (12/ 152). ولفظ فيه عن جابر: "كنا نؤمر إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها"، قال أبو الزبير: ورأيت عبد الله بن الزبير يفعله إلى أن قال: قال أبو عمر: هو مباح لمن فعله لا حرج عليه، والسنة استلامهم الركنين الأسود واليماني. اهـ. (¬4) مصنف عبد الرزاق (5/ 47). (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 386).

العلم أن لمس الركنين اليمانيين إنما يكون في وتر الطواف لا في شفعه، ثم نقل عن الشافعي أن هذا كله أعني تقبيل الحجر ولمس اليمانيين في أول شوط ولا يلزم في بقيته إلاَّ أن يشاء، ولما نقل القرطبي الأول عن بعضهم، قال: وبه قال الشافعي ولعل مراده بذلك أن الشافعي يقول أنه آكد من الإِشفاع لا مطلقاً (¬1). ... ¬

_ (¬1) أقول: الذي ذكره في الاستذكار (12/ 171)، عن الشافعي: أُحب الاستلام في كل وتر أكثر مما أحبهُ في كل شفع، وإذا لم يكن ازدحام أحببت الاستلام في كل طواف. اهـ. وما ذكره عن القرطبي غير موجود في المفهم (3/ 371).

47 - باب التمتع

47 - باب التمتع ذكر فيه -رحمه الله- أربعة أحاديث: الحديث الأول 249/ 1/ 47 - عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن المتعة؟ فأمرني بها. وسألته عن الهدي، فقال: فيها جزور، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم, قال: وكأن ناس كرهوها [فنمت] (¬1) فرأيت في المنام كأن إنساناً ينادي: حج مبرور، [وعمرة] (¬2) متقبلة، فأتيت ابن عباس فحدثته، فقال: "الله أكبر، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: أبو جمرة بالجيم والراء، قال الحاكم أبو أحمد: في "كناه": وهو من الأفراد. قلت: وفي الأسماء جماعة يقال فيهم ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في إحكام الأحكام (ومتعة). (¬3) البخاري أطرافه (1567)، ومسلم (1242).

جمرة أيضاً ذكرتهم في "مشتبه النسبة" وذكرت فيه حُمْزَة، وحمزة بالحاء والزاي، وحُمرة بضم الحاء المهملة، وحمّرة بتشديد الميم المفتوحة، وخمرة بفتح الخاء المعجمة فراجع ذلك منه (¬1). قال المنذري: وجميع ما في مسلم عن ابن عباس، فهو أبو جمرة بالجيم سوى حديث "ادع لي معاوية" فإنه أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي عمران بن أبي عطاء القصاب. وأما "صحيح البخاري" فجميع ما فيه عن ابن عباس فهو أبو جمرة بجيم وراء. واعلم: أن شعبة روى عن سبعة كلهم أبو حمزة بحاء وزاي عن ابن عباس إلاَّ نصر بن عمران هذا فبجيم وراء ويدرك الفرق بينهم بأن شعبة إذا قال: عن ابن عباس وأطلق فهو نصر بن عمران، وإذا روى عن غيره فإنه يذكر اسمه أو نسبه. واسم أبي جمرة: نصر بالصاد المهملة بن عمران، كما ذكره المصنف ابن عصام أو عاصم بن واسع ووالد نصر اختلف في صحبته كما حكاه ابن مسنده وأبو نعيم وابن عبد البر (¬2) وكان قاضياً على البصرة وولده نصر صاحب الترجمة تابعي بصري متفق على توثيقه، والرواية له في الصحيحين والسنن والمسانيد روى عن ابن عباس وجماعة وعنه الحمادان، وخلق كان مقيماً بنيسابور ثم خرج إلى مرو وإلى سرخس فمات بها سنة ثمان وعشرين ومائة. ¬

_ (¬1) توضيح المشتبه (3/ 306، 312). (¬2) ذكره عنه في الإِصابة (5/ 27).

الثاني: "الضبعي" بالضاد المعجمة المضمومة ثم باء موحدة مفتوحة، ثم عين مهملة ثم ياء السبب نسبة إلى ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل نزلوا البصرة منهم أبو جمرة، هذا وتشتبه هذه النسبة بالصبغي والصنعي، وقد أوضحتهما في "مشتبه النسبة" (¬1). الثالث: الإِحرام المعين يقع على ثلاثة أوجه: إلى إفراد، وقران، وتمتع، والإِجماع قائم على صحة الحج بكل واحد منها إلاَّ أن أبا حنيفة (¬2) استثنى المكي، فقال: لا يصح في حقه تمتع ولا قران ويكره له فعلهما فإن فعل لزمه دم، وأما النهى الوارد عن عمر (¬3) وعثمان (¬4) -رضي الله عنهما- في التمتع فيحمل على أن مرادهما [نهي] (¬5) أولوية لا تحريم وكراهة، للترغيب في الإِفراد لكونه أفضل، وكذا كراهة: بعضهم القرآن، وقد انعقد الإِجماع بعد على جوازه، وإنما اختلفوا في الأفضل. فأظهر [أقوال] (¬6)، الشافعي ¬

_ (¬1) انظر: اللباب لابن الأثير (2/ 260)، وتوضيح المشتبه (5/ 405، 407). (¬2) انظر: الاستذكار (11/ 216). (¬3) من رواية عمران بن حصين: "نزل القرآن بالتمتع وضعناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل قرآن يحرمه ولم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد، قال رجل برأيه ما شاء". البخاري (1571)، ومسلم (1226)، وأحمد (4/ 228). (¬4) انظر: لفظه في الموطأ (1/ 336). (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) في الأصل (الأقوال)، وما أثبت من ن هـ.

-رضي الله عنه-: أن أفضلها الإِفراد، ثم التمتع، ثم القران، وهو مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: أفضلها القران، ثم التمتع، ثم الإِفراد [للأفاقي. وقال أحمد: التمتع، ثم الإِفراد] (¬1)، ثم القرآن. ومحل الخوض في بيانها وشروطها والترجيح كتب الفروع (¬2)، فإنه أليق به. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الصحابة في حجه - صلى الله عليه وسلم - هل كان إفراداً أو تمتعاً أو قراناً؟ وقد [ذكر] (¬3) البخاري ومسلم رواياتهم، والصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- كان أولاً مفرداً (¬4)، ثم أحرم بالعمرة في وادي العقيق بأمر جبريل وأدخلها على الحج فصار قارناً (¬5) فمن روى الإِفراد فهو الأصل، ومن روى القران اعتمد آخر الأمر، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) الاستذكار (11/ 126، 137). (¬3) في ن هـ (أفرد). (¬4) لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفرد الحج". الموطأ (335)، ومسلم (1211)، وأبو داود في المناسك (1777)، وابن ماجه (2964)، والترمذي (820)، والنسائي (5/ 145). (¬5) لحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي العقيق: "أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة". البخاري (1534)، وأبو داود (1800)، وابن ماجه (2976).

الارتفاق والانتفاع، وقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع (¬1)، وزيادة، وهي الاقتصار على فعل واحد أو المراد أنه أمر به أو تمتع بفعل العمرة في أشهر الحج، وفعلها مع الحج، وهذا يرجع إلى الأول، وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث، وبه يزول ما اعترض به بعض الملاحدة وطعن في الشريعة بهذا الاختلاف، وقد بلغ الطحاوي الكلام على هذه الأحاديث زيادة على ألف ورقة، وأولى (¬2) ما يقال فيها ما قررناه. وقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- أحرم مطلقاً ثم أمر بالحج ثم بالعمرة في وادي العقيق والأول أحسن (¬3). الرابع: قوله: "سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها" فيه دلالة على جوازها عنده من غير كراهة. ثم أعلم أن المتعة تطلق في الشرع بمعان: أحدها: الإِحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه والظاهر أنها المرادة هنا. ¬

_ (¬1) لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وساق الهدي معه من ذي الحليفة. وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج فتمتع الناس بالعمرة إلى الحج. (¬2) البخاري (1692)، ومسلم مع النووي (8/ 208)، وأبو داود (1805)، وابن ماجه في المناسك، باب: التمتع. (¬3) انظر: زاد المعاد لابن القيم (2/ 127، 158)، فإنه قد أفاض في بحث المسألة وعرض الأدلة عرضاً مفصلاً لا زيادة بعده.

وسمى متمتعاً: لاستمتاعه بمحظورات الإِحرام من التحليلين أو لتمكنه من الاستمتاع لحصول التحلل ولتمتعه بسقوط العود إلى الميقات للحج ولا خلاف بين العلماء أنها المرادة أيضاً بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1)، وكذا قال ابن عبد البر: لا خلاف في ذلك بين العلماء. وقال ابن الزبير وعلقمة وإبراهيم وسعيد بن جبير: معنى التمتع في الآية المحصر يفوته الحج فيتحلل بعمل عمرة ثم يحج في العام المقبل فيكون متمتعاً بما بينهما في العامين. ثانيها: نكاح المرأة إلى أجل وليس مراداً هنا بالاتفاق وكانت مباحة ثم حرمت، يوم خيبر ثم أبيحت يوم الفتح، ثم حرمت واستمر التحريم إلى يوم القيامة، وقد كان فيها خلاف في العصر الأول ثم ارتفع وأجمعوا على التحريم. ثالثها: فسخ الحج إلى العمرة [كما سيأتي] (¬2) لتمتعه بإسقاط بقية العمل (¬3). رابعها: تمتع المحصَر كما مضى لتمتعه بالإِحلال منه (¬4). خامسها: القِران لتمتعه بإسقاط أحد العملين كما مضى (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 196. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) الاستذكار (11/ 210). (¬4) الاستذكار (11/ 211). (¬5) الاستذكار (11/ 209).

الخامس: قوله، "وسألته عن الهدى فقال فيها جزور"، إلى آخره أخذه من قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1)، قال ابن عطية (¬2): وما استيسر من الهدى عند [الجمهور] (¬3): شاة، وقال [عمر] (¬4)، وعروة [بن الزبير] (¬5): جمل دون جمل وبقرة دون بقرة، قال: الحسن أعلى الهدى بدنه وأوسطه بقرة وأخسه شاة. قلت: وأصل الهدى ما يُهدى إلى الحرم من حيوان وغيره لكن المراد في الآية والحديث ما يجزىء في الأضحية من الإِبل والبقرة والغنم. السادس: "الجزور" من الجزر وهو القطع لفظها مؤنث تقول هذه الجزور، والمراد بها: البعير ذكراً كان أو أنثى وجمعها جُزُر وجزار، قال العسكري في "تلخيصه" (¬6): البدنة: ما جعل للنحر في الأضحى أو للنذر وأشباه ذلك فإذا كانت للنحر على كل حال. [فهي جزور] (¬7)، والبقرة: تقدم الكلام عليها في الحديث السادس من باب الجمعة، والشاة: الواحدة من الغنم تقع على الذكر والأنثى من ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 196. (¬2) المحرر الوجيز (2/ 111). (¬3) في المحرر الوجيز (جمهور أهل العلم). (¬4) في المحرر الوجيز (ابن عمر). (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) كتاب التلخيص للعسكري (611). (¬7) زيادة من ن هـ. ومن التلخيص.

الضأن والمعز، وأصلها شوهة، ولهذا إذا صغرت عادت الهاء، فقيل: شويهة، والجمع: شياه بالألف، وقفا [ودرجا] (¬1). وقوله: "أو شرك في دم" أي ما يجزىءُ، ذبحه في الأضحية عن سبعة كالبدنة ونحوها. السابع: قوله: "فيها جزور" إلى آخره الضمير عائد إلى المتعة أي الواجب على من تمتع بالتحلل بين العمرة والحج بما كان محرماً عليه في إحرامه، أما في عام أو عامين دم صفته ما ذكر. وأعلم: أن لوجوب الدم للتمتع عند جمهور العلماء أربع شرائط. أحدها: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. وثانيها: أن يحج بعد الفراغ منها في [عامه] (¬2). وثالثها: أن لا يعود لإِحرام الحج إلى الميقات. رابعها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وثم شروط أخرى مختلف فيها: كنية التمتع، ووقوع النُسكين عن شخص واحد، ووقوعها في شهر واحد، وبقائه حياً إلى آخر الحج، والأصح في الكل عدم الاشتراط فمن وجدت فيه شروط التمتع فعليه ما استيسر من الهدى وهو دم شاة ونحوه يذبحه يوم النحر فلو ذبحه قبله بعد ما أحرم بالحج أجزأه عند الشافعية خلافاً للائمة الثلاثة فإنهم، ¬

_ (¬1) في ن هـ (ودرك). (¬2) زيادة من هـ.

قالوا: لا يجزىء إلاَّ في [يوم] (¬1) أضحية النحر كالأضحية، ولو ذبحه بعد التحلل من العمرة، وقبل الإِحرام بالحج، فالأظهر عند الشافعي الأجزاء. الثامن: قوله: "وكان ناس كرهوها" يعني بالناس عمر وعثمان كما تقدم، وقد قام عمر بذلك، فقال: إن الله تعالى يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله [تعالى] (¬2) واتقوا نكاح هذه النساء، فلن أُتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاَّ رجمته بالحجارة. قال المازري (¬3): وقد اختلف في العمرة التي نهى عنها عمر في الحج، فقيل: هي فسخ الحج [إلى] (¬4) العمرة، وقيل (¬5): هي العمرة في أشهر الحج، ثم الحج [من عامه] (¬6)، [وعلى هذا إنما نهى عنها ترغيباً للإِفراد الذي هو أفضل [لا أنه] (¬7) يعتقد بطلانها أو تحريمها] (¬8). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) المعلم (2/ 86). (¬4) في ن هـ وفي المعلم زيادة (بل). (¬5) في المعلم خطأ فليصحح. (¬6) في المرجع السابق بعدها. (¬7) في ن هـ (لأنه). (¬8) في المرجع السابق: ويكون نهيه عن ذلك على جهة الترغيب فيما هو الأفضل الذي هو الإِفراد، وليكثر تردد الناس إلى البيت.

قال القاضي عياض: والظاهر أن المتعة المكروهة إنما هي فسخ الحج إلى العمرة، ولهذا كان عمر يضرب الناس عليها ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج، وإنما كان يضربهم على ما أعتقده هو وسائر الصحابة أن فسخ الحج إلى العمرة كان مخصوصاً في تلك السنة للحكمة التي اقتضته (¬1). التاسع: الحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم. العاشر: قوله "رأيت في المنام كأن إنساناً" إلى آخره فيه الاستئناس بالرؤيا فيما يقوم عليه الدليل الشرعي وهو من باب التنبيه على عظم قدرها، فإنه قد صح أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وهذا الاستئناس والترجيح ليس منافياً للأصول وتكبير ابن عباس، وقوله: "سنة أبي القاسم" يدل على أنه تأيد بالرؤيا واستبشر بها، وفي ذلك دلالة على ما قلناه، وزاد البخاري (¬2) أنه قال له: "أقم عندي واجعل لك سهماً من مالي: فقلت: لم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت". الحادي عشر: [المراد: بالسنة هنا الطريقة، وأبو القاسم: أحد كناه - صلى الله عليه وسلم - كنى بابنه القاسم وهو أول ولده من خديجة مات صغيراً قبل المبعث. الثاني عشر] (¬3): في الحديث دلالة على أحكام. ¬

_ (¬1) الاستذكار (11/ 211، 212). (¬2) البخاري (1567). (¬3) زيادة من ن هـ.

إحداها: السؤال عن العلم. ثانيها: جواز المتعة كما أسلفناه. ثالثها: وجوب الدم فيها بالشروط التي أسلفناها. رابعها: عرض الرؤيا على الكبار والعلماء. خامسها: التكبير عند استعظام الأمر والاستبشار به. سادسها: التنبيه على عظم قدر الرؤيا. سابعها: التنبيه على الخلاف في العلم ليجتنب ويعمل بالوفاق. ثامنها: العمل بالأدلة الظاهرة والباطنة في الأحكام. تاسعها: أن المقصود من العبادة موافقة العلم والإِخلاص والصبر وطلب القبول. ***

الحديث الثاني

الحديث الثاني 250/ 2/ 47 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة. وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فأهل] (¬1) بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى، فساق الهدي من ذي الحليفة، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال للناس من كان منكم [أهدى] (¬3)، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا وبالمروة وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة، وأستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطوات من السبع، ومشى أربعة، وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعين، ثم سلم ثم انصرف فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (وأهل). (¬2) في متن العمدة وإحكام الأحكام زيادة (وأهل). (¬3) في ن هـ ساقطة.

يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى وساق الهدي من الناس (¬1). الكلام عليه من جوه: الأول: قوله: "تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو محمول على التمتع اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها كما سلف في الكلام على الحديث الذي قبله أو أنه أمر به لأن ابن عمر روى أنه أحرم أولاً مفرداً (¬2) فتعين تأويل قوله: "أنه تمتع" على القران وأدخل العمرة على الحج لأجل سوق الهدي [معه] (¬3) فإن من ساق الهدى لا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا ¬

_ (¬1) البخاري (1691)، ومسلم (1227)، والنسائي (5/ 151)، وأبو داود (1805) في المناسك، باب: في الأقران، وأحمد (2/ 139)، والبغوي (7/ 66)، والبيهقي (2/ 347). (¬2) ولفظه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لبى بالحج وحده ... "، الحديث. البخاري (4353، 4354)، ومسلم مع النووي (8/ 216)، والنسائي في المناسك (5/ 150)، وأحمد في المسند (2/ 79). قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (11/ 136)، وهذا الحديث يعارض ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع. ويحتمل قول ابن عمر أنه لبى بالحج وحده أي من مكة". اهـ. وقال النووي -رحمنا الله وإياه- في شرح مسلم (8/ 216)، فحديث ابن عمر هنا محمول على أول إحرامه - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. (¬3) زيادة من ن هـ.

رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) وإنما لم يفسخ الحج إلى العمرة كما أمر غيره لأجل ما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأراد إبطال ما كانوا عليه بفعله وقوله [وترفه] (¬2) باتحاد الميقات فأدخل العمرة على الحج والفعل وهذا التأويل الذي أولنا به قول ابن عمر "تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أولى من قول القرطبي (¬3) إنه لا يعول عليه لاضطراب روايته فإنه روى مرة أنه أفرد ولأنه ذكر أثناء رواية "تمتع" ما يدل على أنه سمى الأرداف تمتعا. الثاني: تقدم الكلام على حجة الوداع في الحديث السابع (¬4) ووجه تسميتها بذلك وتغليط من كرة تسميتها به. الثالث: قوله: "تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة بالحج" أي بإدخال العمرة على الحج وإنما قال في حجة الوداع لنفي تمتع الإِحصار وليدل بتعيين ذلك فيها على استقرار حكم إدخال العمرة على الحج من حيث أنه الأخر من فعله. الرابع: قوله: "وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة" هو بيان [للمكان] (¬5) الذي ابتدأ سوق الهدى منه وهو ميقات المدني كما سلف ففيه دلالة على سوق الهدايا وإن بَعُد مكانها [وهو] (¬6) سنة مؤكدة ينبغي فعلها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 196. (¬2) في ن هـ (وتردفه). (¬3) المفهم (3/ 352). (¬4) ص 215. (¬5) في ن هـ في (المكان). (¬6) في ن هـ (وهي).

الخامس: قوله: "وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج" هو بيان وتفسير لقوله: "تمتع" وهو محمول على التلبية في أثناء الإِحرام ويكون قدم فيها لفظ الإِحرام بالعمرة على لفظه بالحج، فقال: "لبيك بعمرة وبحجة" وهذا المستحب عند مالك في القران أن يقدم لفظ العمرة وهذا حجة له وليس المراد أنه أحرم أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج وإن كان بعضهم ادعاه كما سيأتي لأنه يؤدي إلى مخالفة أحاديث الإِفراد ويؤيد هذا التأويل قوله: "فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بالعمرة إلى الحج" ومعلوم أن كثيراً منهم أو أكثرهم أحرموا بالحج أولاً مفردا وإنما فسخوه إلى العمرة أخيراً فصاروا متمتعين فقوله: "فتمتع الناس" يعني في آخر الأمر. السادس: قوله عليه الصلاة والسلام ومنهم من لم يهد فيه دلالة على أن سوق الهدي ليس محتم بل هو سنة من شاء فعله ومن لم يفعله لم يأثم. السابع: قوله "عليه الصلاة والسلام من كان منكم أهدى" إلى آخره فيه دلالة على أن فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي جائز لبيان مخالفة الجاهلية في منعهم العمرة في أشهر الحج. واختلف العلماء هل كان ذلك خاصاً للصحابة تلك السنة خاصة أم هو باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: بالثاني فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدى أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها.

وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لمخالفة الجاهلية في تحريم العمرة في أشهر الحج. ودليلهم في ذلك: ما رواه مسلم (¬1) من حديث أبي ذر قال: "كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة" -يعني فسخ الحج إلى العمرة- وما رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه من حديث الحارث بن بلال (¬2) عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ ¬

_ (¬1) مسلم (1224)، والدارقطني (2/ 242)، والنسائي (5/ 179)، وابن ماجه (2985)، ومعناه عند أبي داود (1733) في المناسك، باب: الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، قال ابن القيم -رحمنا الله واياه- في تهذيب السنن (2/ 330): وهذا الحديث قد تضمن أمرين: أحدهما: فعل الصحابة لها، وهو بلا ريب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا رواية, الثاني: اختصاصهم بها دون غيرهم، وهذا رأى، فروايته حجة، ورأيه غير حجة، وقد خالفه فيه عبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري وقد حمله طائفة على أن الذين اختصوا به هو وجوب الفسخ عليهم حتماً، وأما غيرهم فيستحب له ذلك، هذا إن كان مراده متعة الفسخ وإن كان المراد مطلق المتعة فهو خلاف الإِجماع والسنة المتواترة. والله أعلم. اهـ. (¬2) مسند أحمد (3/ 469)، ومسند الحميدي (132)، وابن ماجه (2984)، والنسائي (5/ 179)، وأبو داود (1734) في المناسك، باب: الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة، والدارقطني (2/ 241). قال المنذري في مختصر السنن (2/ 331) نقلاً عن الدارقطني: تفرد به ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث، عن أبيه، وتفرد به عبد العزيز الداروردي عنه، هذا آخر كلامه، وانظر: بقية كلام المنذري، وقال ابن القيم فيه: وقد قال =

الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: "بل لنا خاصة". وأما حديث سراقة بن مالك بن جعشم في الصحيح يا رسول الله: "ألعامنا هذا [أم للأبد] " (¬1) فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج أو القران فالعمرة في أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة وكذلك القران وفسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة. وأجاب الأولون: عن ذلك. أما حديث الحارث بن بلال عن أبيه، فقال: الدارقطني تفرد به ربيع ابن أبي عبد الرحمن عن الحارث، عن أبيه وتفرد به عبد العزيز بن محمد الداروردي عنه، وقال أحمد: لا يثبت ولا يرويه غير الداروردي ولا يصح حديث في الفسخ "كان لهم خاصة"، وقال: مرة حديث بلال لا أقول به لا يعرف هذا الرجل ولم يروه إلاَّ الداروردي [واحد] (¬2) وعشرون صحابياً ¬

_ = عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن حديث بلال بن الحارث المزني في فسخ الحج؟ فقال: لا أقول به، وليس إسناده بالمعروف، ولم يروه إلاَّ الداروردي وحده، وقال عبد الحق: الصحيح في هذا القول أبي ذر غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن القطان: فيه الحارث بن بلال عن أبيه بلال بن الحارث والحارث بن بلال لا يعرف. اهـ. من التهذيب، وانظر: زاد المعاد (2/ 192). (¬1) في ن هـ (قال للأبد). (¬2) في تهذيب السنن (2/ 331) وحده، ولعله الصواب وتكون الواو عاطفة في لفظة -وعشرون-. ونص كلام الإِمام أحمد -رحمنا الله وإياه- فيما نقله في "نصب الراية" (3/ 105) هو حديث لا يثبت، ولا أقول به، والحارث بن بلال لا يعرف، ولو عرف فأين يقع من أحد عشر رجلاً من الصحابة يرون الفسخ. اهـ. أقول: الصحابة الذين جاءت الرواية عنهم =

يرون عنه في الفسخ فأين يقع بلال بن الحارث منهم (¬1). وأجاب النووي (¬2) عن هذا، فقال: لا معارضة [بينه] (¬3) وبينهم حتى يقدموا عليه لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ولم [يثبتوه لغيرهم] (¬4) وقد وافقهم الحارث بن بلال في إثبات الفسخ للصحابة وزاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم. وأما حديث أبي ذر فقال أحمد: يرويه رجل من أهل الكوفة ولم يلق أبا ذر (¬5)، وهذا الحديث أخرجه هو ومسلم من حديث ¬

_ = في فسخ الحج، هم: أبو موسى الأشعري وحديثه في الصحيحين، جابر وحديثه في الصحيحين، ابن عباس وحديثه في الصحيحين، ابن عمر وحديثه في الصحيحين، عائشة وحديثها في الصحيحين، وحفصة وحديثها في الصحيحين، وأبي سعيد وحديثه في مسلم، وأنس بن مالك وحديثه في الصحيحين، الحارث بن بلال وحديثه في المسند وابن ماجه والنسائي. (¬1) صحابي ترجمته في تهذيب التهذيب (1/ 501)، وترجمة ابنه الحارث في (2/ 137) من تهذيب التهذيب. (¬2) المجموع (7/ 168). (¬3) في المجموع (بينكم). (¬4) في المرجع السابق (ولم يذكروا حكم غيرهم). (¬5) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (2/ 191) عند كلامه في الرد على من قال إن متعة الحج خاصة للصحابة ونقض استدلالهم: أما الأول: -يعني حديث أبي ذر -رضي الله عنه- فإن المرقع ليس ممن تقوم برواية حجة، فضلاً على أن يقدم على النصوص الصحيحة غير المرفوعة، وقد قال أحمد بن حنبل:- وقد عورض بحديثه- ومن =

إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر، وأما حديث سراقة: فقال: معناه أن حكم الفسخ باق إلى الآن (¬1). وأبعد ابن الجوزي فقال في "تحقيقه" (¬2): يجمع بين الأحاديث بأنه -عليه الصلاة والسلام- كان قد اعتمر وتحلل [منها] (¬3) ثم أحرم بالحج وساق الهدي، ثم أمر أصحابه بالفسخ، [ففعلوا] (¬4) مثل فعله (¬5) ومنعه من [الفسخ إليها سوق] (¬6) الهدي ثم قال: فلو قيل إنما علل بسوق الهدي لا بفعل عمرة متقدمة. وأجاب: بأنه ذكر إحدى العلتين ثم قال: وقولهم إنما أمرهم ¬

_ = المرقع الأسدي؟ وقد روى أبو ذر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، الأمر بفسخ الحج إلى العمرة، وغاية ما نقل عنه إن صح: أن ذلك مختص بالصحابة، فهو رأيه، وقد قال ابن عباس، وأبو موسى الأشعري: إن ذلك عام للأمة فرأى أبي ذر معارض برأيهما، وسلمت النصوص الصحيحة الصريحة ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلة بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلك العمرة التي وقع السؤال عنها وكانت عمرة فسخ لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن، وهذا أصح سنداً من المروي عن أبي ذر، وأولى أن يؤخذ نه لو صح عنه. إلخ كلامه. انظر أيضاً: المجموع (7/ 168، 169). (¬1) انظر: زاد المعاد (2/ 178، 180، 182). (¬2) التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 128). (¬3) في التحقيق من العمرة. (¬4) في المرجع السابق (ليفعلوا). (¬5) في المرجع السابق زيادة (لأنهم لم يكونوا أحرموا بعمرةٍ). (¬6) في المرجع السابق: فسخ الحج إلى عمرة عمرته الأولى وسوقه.

بالفسخ لمخالفة الجاهلية جوابه: أنه لو كان كذلك لم يفرق بين من ساق الهدي ومن لم يسق ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- قد اعتمر في أشهر الحج ففي الصحيحين من حديث أنس "أنه اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلاَّ التي مع حجته" (¬1) ففعله هذا كاف. قلت: والجمع المتين هو ما أسلفناه في الحديث قبله. الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من كان منكم أهدى" هو كقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وهو محل اتفاق نعم اختلفوا في المعتمر كما سيأتي في الحديث بعده. التاسع: قوله: "ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج" فيه دلالة على أن من لم يسق الهدي يجوز له إدخال العمرة على الحج قبل الطواف ويتحلل منها وأن أفعال العمرة هي الطواف والسعي والتقصير أو الحلق. العاشر: قوله: "فليطف بالبيت" فيه دلالة على طلب هذا الطواف في الابتداء. الحادي عشر: قوله: "وليقصر" أي من شعره وهو التقصير في العمرة عند التحلل منها. قال الشيخ تقي الدين (¬2): قيل: وإنما لم يأمره بالحلق حتى ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في الفتح (1778)، ومسلم (1253)، وأبو داود (1911) في المناسك، باب: العمرة، والترمذي (816) من حديث ابن عباس. قال: وفي الباب عن أنس ... إلخ، وابن ماجه (3003). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 545).

يبقى على الرأس ما يحلقه في الحج فإن الحِلاق في الحج أفضل من الحلاق في العمرة كما ذكر بعضهم. قلت: كأنه عني به النووي فإنه كذا قال في "شرح (¬1) مسلم" في " [باب] (¬2) وجوب الدم على المتمتع" وقال، في "باب: تقصير المعتمر من شعره" (¬3) يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين لكنه أطلق ذلك. وفصّل الشافعي في "الإِملاء"، فقال: إن أمكن أن يسود شعره يوم النحر حلق وإلاَّ [قصر] (¬4) فاستفده. الثاني عشر: قال الشيخ تقي الدين (¬5): استدل بالأمر في قوله: "فليحلق" على أن الحلاق نسك وتبعه الفاكهي وزاد أنه مذهبنا ومذهب الجمهور خلافاً لمن قال: إنه استباحة محظور وهذه اللفظة ليست في الحديث فاعلم ذلك وإنما فيه بدلها و"ليحلل" باللام وهذه الدلالة تؤخذ من قوله: "وليقصر" فلعل القلم سبق منه إلى الحلق. الثالث عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وليحلل" هو أمر معناه الخبر أي قد صار حلالاً فله فعل كلما كان محظوراً عليه في الإِحرام. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (8/ 208). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) شرح مسلم (8/ 231). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) إحكام الأحكام (3/ 545).

وقال الشيخ تقي الدين: قيل: إن المراد به يصير حلالاً إذ لا يحتاج -بعد فعل أفعال العمرة والحلاق فيها- إلى تجديد فعل آخر، قال: ويحتمل عندي أن يكون المراد الأمر بالإِحلال وهو فعل ما كان عليه في حال الإِحرام من جهة الإِحرام، ويكون الأمر للإِباحة. الرابع عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثم ليهل بالحج" معناه: يحرم في وقت الخروج إلى عرفات [لا أن] (¬1) يهل عقب تحلل العمرة بالحج بدليل أنه -عليه الصلاة والسلام- أتى بثم التي هي للمهلة والتراخي. الخامس عشر: قوله: "وليهد" المراد: به هدي التمتع وهو واجب بشروطه السالفة في الحديث قبله (¬2). السادس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن لم يجد هدياً" أي لم يجده هناك إما لعدمه، أو عدم ثمنه [أو وجد أن ثمنه واحتياجه] (¬3) إليه، وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل، وإما لامتناع صاحبه من بيعه ففي كل هذه الصور يكون عادماً للهدي فينتقل إلى الصوم سواء كان واجداً لثمنه في بلده أم لا بخلاف كفارة اليمين لأن الهدي يختص ذبحه بالحرم والكفارة لا تختص. قال الشيخ تقي الدين (¬4): ولأن صيامه ثلاثة أيام في الحج ¬

_ (¬1) في ن هـ (لا أنه). (¬2) ص 233. (¬3) هكذا في المخطوط ولعل العبارة تكون (أو واجداً ثمنه واحتاج). (¬4) إحكام الأحكام (3/ 545).

وأيام الحج محصورة، فلا يمكن أن يصومها فيه إلاَّ إذا كان قادراً على الصوم في الحال، عاجزاً عن الهدي في الحال. السابع عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله" هو موافق لنص كتاب الله تعالى. وقوله: "في الحج" أي بعد الإِحرام بالحج فلا يجوز تقديمها على الإِحرام لا من حيث المفهوم فقط بل من حيث تعلق الأمر بالصوم الموصوف بكونه في الحج وهذا بخلاف الدم فإنه يجوز تقديمه على الأظهر كما سبق لأن الصوم عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها على وقتها [كالصلاة] (¬1) بخلاف الدم فإنه عبادة مالية فجاز تقديمه [كالزكاة] (¬2) وللشافعية وجه أنه يجوز الدم قبل التحلل من العمرة أيضاً واستبعده الشيخ تقي الدين (¬3) لكنه لم يعزه للشافعية وإنما قال: بعد أن حكى بعض الأصحاب منع الدم قبل الدخول في الحج والمشهور من مذهبهم الجواز وأبعد من هذا من أجاز الهدى قبل التحلل من العمرة من العلماء وهذا [قولهم] (¬4) إنه ليس وجهاً عند الشافعية وقد علمت حكايته عندهم، وقال النووي في "شرح مسلم" (¬5) الأفضل أن لا يصومها حتى يحرم بالحج بعد في فراغه من العمرة فإن صامها بعد فراغه منها أجزأه على الصحيح عندنا وإن ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (3/ 545). (¬4) في ن هـ (يوهم). (¬5) شرح مسلم (8/ 210).

صامها بعد الإِحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزه على الصحيح. قلت: وبه قال مالك. وجوزه الثوري وأبو حنيفة ونقل القاضي عياض (¬1) عن الشافعي ومالك أن صوم الثلاثة تتوقف على الإِحرام بالحج وهو مقتضى الآية والحديث. الثامن عشر: هذه الأيام الثلاثة يستحب أن يصومها قبل يوم عرفة لأن الأحب عندنا للحاج فطره فيحرم بالحج قبل السادس ولا يجوز صومها في يوم النحر وكذا التشريق في الأظهر عند الشافعي كما سلف في بابه ولا يجب عليه تقديم الإِحرام بزمن يمكنه صوم الثلاثة فيه قبل يوم العيد على الأصح عند الشافعية وإذا فاته صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه [وللشافعي] (¬2) قول مخرج إنه يسقط الصوم ويستقر الهدي في ذمته وهو قول أبي حنيفة (¬3) ولو تأخر التحلل عن أيام التشريق وصامها بعد ذلك قبل أن يتحلل أثم وصارت قضاء، وإن صدق عليه أنه في [حج] (¬4) لأن تأخيره نادر فلا يكون مراداً من الآية وفيه وجه آخر حكاه البغوي (¬5). قال إمام الحرمين: وإنما يلزمه صوم الثلاثة في الحج ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 363). (¬2) في ن هـ (وللشافعية). (¬3) الاستذكار (11/ 227). (¬4) في ن هـ (الحج). (¬5) السنة (7/ 85، 86).

[...] (¬1) إذا لم يكن مسافراً فإن كان فلا كصوم رمضان. قال الرافعي: وهذا غير متضح لأن النص دال على الوجوب عليه. وقال النووي: في "شرح المهذب" (¬2) إنه ضعيف. وعند المالكية (¬3) أنه إذا أخرها إلى يوم النحر صام أيام التشريق وقيل ما بعدها، وقال مالك: في "المدونة" (¬4) فيما إذا جهل أو نسي صوم ثلاثة أيام في الحج أو مرض فلا يصومها حتى يقدم بلده ليهد إن وجد هدياً وإلاَّ فليصم ثلاثة أيام في أهله وسبعة [إذا رجع] (¬5) بعد ذلك، قال الباجي (¬6): يريد الفصل بين الثلاثة والسبعة والتقديم لها قال ابن المعدل: الليل فاصل بينهما فلم يبق إلاَّ الرتبة في النية، [وقال أشهب: ذلك بينهما] (¬7) في صحتها وفي قول مالك ما يدل [على] (¬8) أن الترتيب سقط وجوبه. التاسع عشر: قد يستدل بقوله في "الحج" من يجيز للمتمتع ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة لأن تأخيره، وما أثبت يوافق ن هـ. (¬2) المجموع (7/ 189). (¬3) الاستذكار (11/ 225). (¬4) الاستذكار (11/ 227). (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) المنتقى للباجي (3/ 76). (¬7) الذي في المرجع السابق، وقال أصبغ: إن ذلك شرط .. أقول: والعبارة هنا أصح. (¬8) زيادة من ن هـ.

صوم أيام التشريق (¬1) بعد إثبات مقدمة وهي أن تلك الأيام من أيام الحج أو تلك الأفعال الباقية ينطلق عليها أنها من الحج. [العشرون] (¬2): المراد بالرجوع انتهاؤه وهو وصوله إلى وطنه. وقيل: ابتداؤه وهو فراغه من الحج بمنى ورجوعه إلى مكة وغيرها من مني وهما قولان للشافعي ومالك والأظهر من قولي الشافعي الأول. وعند المالكية الثاني وبه قال أبو حنيفة وأحمد وفي البخاري (¬3) من حديث ابن عباس تعليقاً بصيغة الخبر فيه "وسبعة إذا رجعتم" إلى أمصاركم وهو حجة الشافعي -رضي الله عنه- قال الروياني في "البحر": فلو أراد الإِقامة بمكة صامها بها. [فرع] (¬4): حذف تتابع الثلاثة وكذا السبعة وفي قولاً مخرجاً من كفارة اليمين وجوب التتابع والأصح عند الشافعية الأول وهو مشهور مذهب مالك أيضاً. ¬

_ (¬1) جاء في البخاري (1999) من رواية ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هدياً ولم بصم صام أيام منى"، ومثله عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) في الأصل (الثامن عشر)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) البخاري (1572) باب قوله الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} انظر: تغليق التعليق (3/ 62). (¬4) في الأصل (التاسع عشر)، وما أثبت من ن هـ. انظر: المجموع (7/ 189).

[العشرون] (¬1): لو فاتته الثلاثة في الحج فأظهر قولي الشافعي أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة كما في الأداء وهل يكفي مطلق التفريق أو لا بد من التفريق كما في الأداء وهو التفريق بأربعة أيام ومدة إمكان السير إلى الوطن فيه قولان للشافعي أصحها الثاني ومذهب مالك أن التفريق لا يجب. الحادي والعشرون: قوله: "فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة" هذا طواف القدوم وهو سنة وهو تحية البيت ويستحب البدأة به أول قدومه قبل فعل كل شيء. الثاني والعشرون: قوله: "واستلم الركن" أول شيء أي اليماني فيستدل به على ابتداء الطواف بذلك وقد سلف ذلك في الباب قبله والسر فيه أنه يمين الله في الأرض كما سلف في الباب قبله بتأويله. الثالث والعشرون: قوله "ثم خب ثلاثة أطواف من السبع أي رمل كما سلف بيانه (¬2). وقوله: "ثلاثة أطواف" يدل على تعميمها بالخبب على خلاف ما تقدم من حديث ابن عباس وقد سلف ما فيه (¬3). وقوله: "ومشى" يعني الباقية من السبع فلو قال: الرمل في الثلاثة الأولى لم يرمل في الأربع الأخرى لأن السنة فيها المشي كما سلف في الباب قبله (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ (فرع)، وهو الأولى لئلا يصير فيه تكرار بالمسائل. انظر: المجموع (7/ 188، 189). (¬2) ص 205، 206. (¬3) ص 207. (¬4) ص 208.

الرابع والعشرون: قوله: "وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام [ركعتين ثم سلم" فيه دلالة على استحباب فعل ركعتي الطواف] (¬1) عند المقام أي خلفه فيجعله بينه وبين الكعبة فلو لم يصلهما خلفه لزحمة أو غيرها صلاها في الحجر فإن لم يفعل ففي المسجد فإن لم يفعل فحيث شاء من [الحرم] (¬2) وغيره ولا يتعين لهما زمان ولا مكان بل يجوز أن يصليهما بعد رجوعه إلى وطنه وفي غيره ولا يفوتان ما دام حياً ويتعلق بهاتين الركعتين فروع محل الخوض فيها كتب الفقه وقد أوضحناها فيها ولله الحمد. والأصح عند الشافعية: عدم وجوبهما وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها بأن الأجير إذا صلاها وقعت عن المستأجر على الأصح لا عن الأجير. الخامس والعشرون: قوله: " [فانصرف إلى] (¬3) الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف" فيه دلالة على مشروعية السعي عقب طواف القدوم وركعتيه ويجب أن يكون السعي بعد طواف ركن أو قدوم بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع لأنه يؤتى به بعد فراغ (¬4) المناسك فإذا بقي السعي استحال أن يكون طواف وداع واشترط فيه بعض الفقهاء كما نقله ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (حرم الله عز وجل). (¬3) في ن هـ (فأتى الصفا). (¬4) في الأصل زيادة (الوداع)، وما أثبت يوافق ن هـ.

الشيخ تقي الدين (¬1) أن يكون عقب طواف واجب قال: وهذا القائل يرى أن طواف القدوم واجباً وإن لم يكن ركناً قال ابن العطار في "شرحه": لا شك أن هذا الطواف وقع واجباً لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان أولاً مفرداً ثم [إنه حل] (¬2) فصار متمتعاً قارناً لأجل سوق الهدي ولتبيين جواز العمرة في أشهر الحج ثم قال: ومن العلماء من لم يجعله واجباً بل [هو] (¬3) طواف قدوم لمفرد الحج وهو مستحب. قلت: وهذا هو الصواب وإن كان مذهب أبي حنيفة أن القارن يلزمه طوافان. وحكى ابن المنذر: عن طاووس وبعض أهل الحديث أنه لو قدم السعي على الطواف صح وحكاه أصحابنا عن داود ونقله إمام الحرمين في "أساليبه" عن بعض أئمتنا وهو شاذ. السادس والعشرون: قوله: "فانصرف فأتى الصفا" بفاء التعقيب في الانصراف وإتيان الصفا عقب قوله: "ثم سلم من ركعتي الطواف" يقتضي ألا يكون بين ذلك فعل شيء آخر من حيث أن التعقيب بالفاء يقتضي عدم المهلة لكن صح في مسلم (¬4) من حديث جابر الطويل رجوعه -عليه الصلاة والسلام- بعد سلامه إلى الحجر ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 547). (¬2) في ن هـ (ادخل العمرة). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) مسلم (1218)، وابن حبان (3943، 3944).

الأسود فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا". وقال المارودي (¬1): بعد أن يستلم يقف في الملتزم ويدعوا ويدخل الحجر ويدعوا تحت الميزاب. وفي "الإِحياء" (¬2) للغزالي: أنه يأتي الملتزم قبل الصلاة، وقال ابن جرير: يقدم الملتزم على الاستلام والكل شاذ. السابع والعشرون: البدأة بالصفا في السعي واجبة في المرة الأولى من السبع وبالمروة في المرة الثانية [منه ويختم السبع بالمروة صحت به الأحاديث والذهاب من الصفا إلى المروة مرة] (¬3) والعود منها إليه أخرى على الصحيح عند الشافعية. ثم السعي بين الصفا والمروة ركن عند الجمهور وخالف بعض الخلف فقال: هو تطوع وهو رواية عن أحمد. وقال أبو حنيفة: إن تركه عمداً أو سهواً لزمه دم وحكاه الدارمي قولاً للشافعي وهو غريب. الثامن والعشرون: قوله: "ثم لم يحل من شيء حرم عليه" إلى آخره إنما لم يحل من عمرته من أجل سوق الهدي لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وفي ذلك دليل على أن ذلك حكم القارن، قال ابن عطية: ومحل الهدى حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أُحصر (¬4) حيث أحصر إذا لم يمكن إرساله، ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (4/ 153). (¬2) إتحاف السادة المنقنين بشرح إحياء علوم الدين (4/ 599). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في المحرر زيادة (بعدو).

وأما المريض فإن كان له هدى فيرسله إلى محله (¬1). وقوله: "ثم حل من كل شيء حرم منه" هو إجماع وانفرد ابن عباس (¬2) عن الأمة، فقال: إن الحاج يتحلل لمجرد طواف القدوم. التاسع والعشرون: في قوله: "وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى" بيان عدم خصوصيته -عليه الصلاة والسلام- بحكم سوق الهدي وعدم تحلله بسببه وأنه عام له ولغيره ممن ساقه وفي حديث آخر: "بأن لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" رواه مسلم (¬3) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. [الثلاثون] (¬4): في هذا الحديث جمل من أحكام مناسك [الحج] (¬5) فخذها مختصرة. أولها: جواز إدخال العمرة على الحج وهذا قول قديم للشافعي صححه إمام الحرمين لكن مذهبه الجديد المنع وجعله خاصاً به لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى نقله من المحرر الوجيز (2/ 11). (¬2) انظر: شرح مسلم للنووي (8/ 229، 230)، وانظر: زاد المعاد (2/ 185، 187). (¬3) البخاري في أطرافه (316)، ومسلم (1211)، وأبو داود (1781) في المناسك، باب: إفراد الحج، وابن خزيمة (2605، 2607)، وابن الجارود (421، 422)، والحميدي (203)، والبيهقي (1/ 182)، (4/ 346)، والبغوي (1878). (¬4) في الأصل (العاشر)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) زيادة من ن هـ.

ثانيها: استحباب سوق الهدي من الميقات. ثالثها: أن من تركه لا إثم عليه لكن فاته الفضل. رابعها: أن من ساقه لا يتحلل من عمرته ومن لم يسقه يتحلل منها ويتمتع فيما [بينها] (¬1) وبين إحرامه بالحج من مكة. خامسها: وجوب الهدى على المتمتع بشروطه السالفة. سادسها: وجوب الصوم لمن لم يجد الهدي. سابعها: أن الصوم عشرة أيام. ثامنها: طواف القدوم للقارن وانفرد ابن عباس من بين الأمة، فقال: إن طواف القدوم ليس بسنة ولا بد من تأويله وإلاَّ فهو ممن روى أنه -عليه الصلاة والسلام- بدأ بالطواف عند القدوم وأغرب بعض أصحابنا فقال بوجوبه وأنه يجبر بدم وأقامه بعض المالكية مقام طواف الإِفاضة فيما إذا طاف القدوم وسعى ورجع إلى بلده قبل طواف الإِفاضة جاهلاً أو ناسياً. تاسعها: استحباب استلام الحجر الأسود أول قدومه قبل طوافه. العاشر: [استحبابه الرمل فيه بشرط استعقابه السعي] (¬2). الحادي عشر: استحباب مشي الأربعة الباقية. الثاني عشر: استحباب ركعتي الطواف خلف المقام. ¬

_ (¬1) في ن هـ (بينه). (¬2) في ن هـ مكررة.

الثالث عشر: شرعية السعي بعد فعل الركعتين. الرابع عشر: وجوب البدأة بالصفا في السعي وختمه بالمروة. الخامس عشر: جواز تسمية السعي طوافاً. السادس عشر: أن محل الدم للهدايا والجبرانات المتعلقة بالحج قراناً كان [أو] (¬1) تمتعاً ونحرها يوم النحر بمنى. السابع عشر: فيه طواف الإِفاضة وأنه يستحب فعله يوم النحر. الثامن عشر: أنه يتحلل من كل شيء حرم عليه بالإِحرام بطواف الإِفاضة وليس في الحديث أنه حلق وقد علم ما فيه من الخلاف. التاسع عشر: فيه الاقتداء به -عليه الصلاة والسلام- في مناسك الحج فعلاً وقولاً وتقريراً. ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 251/ 3/ 47 - عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: [يا رسول الله] (¬1) ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر" (¬2). الكلام [على هذا الحديث] (¬3) من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في باب فضل الجماعة ووجوبها. [ثانيها: الشأن] (¬4) هنا الأمر والحال. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري أطرافه في (1566)، ومسلم (1229)، وأبو داود (1806) في المناسك، باب: القران، والنسائي (5/ 136)، وابن ماجه (3046)، والبيهقي (5/ 12)، والبغوي (1885)، والكبرى للنسائي (2/ 337)، وأبو يعلى (7050، 7056)، والمعرفة للبيهقي (7/ 72). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) زيادة من ن هـ.

وقوله: "ولم تحل أنت من عمرتك"، معناه: العمرة المضمومة إلى الحج، وإحلال الناس كان بالفسخ بأمره -عليه الصلاة والسلام-[كما سلف (¬1) في الحديث قبله ولم يحل هو لسوق الهدى فيكون قارناً] (¬2) كما سلف (¬3) وهو المذهب الصحيح المختار، ومن قال: كان مفرداً قال إن "من" بمعنى الباء أي لم تحل بعمرتك أي العمرة التي تحلل بها الناس فإنهم فسخوا حجهم إلى العمرة وضعفه الشيخ تقي الدين (¬4): بوجهين: أحدها: كون "من" بمعنى الباء، قال الفاكهي: وهو ضعيف جداً أو باطل لأنه لا يعلم في لسان العرب استعمال "من" بمعنى الباء، وقد حصر النحويون معاني "من" في سبعة أقسام ليس فيها أن تكون بمعنى الباء فإن شذ عن ذلك شيء لم يلتفت إليه. قلت: سيأتي أنه وقع في القرآن العظيم "من" بمعنى "الباء". الثاني: [إن] (¬5) قولها: "من عمرتك" يقتضي الإِضافة فيه تقرر عمرة له تضاف إليه، والعمرة التي يقع بها التحلل لم تكن [متقررة] (¬6) ولا موجودة، وقيل: أرادت بالعمرة الزيارة لاشتراكها هي والحج في الموضع اللغوي وهو الزيارة، فمعنى "من عمرتك" ¬

_ (¬1) ص 245. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) ص 255. (¬4) إحكام الأحكام (3/ 550). (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) في ن هـ (مفردة).

من حجتك, وضعفه الشيخ تقي الدين [أيضاً]، (¬1) لأن الاسم [إذا انتقل] (¬2) إلى حقيقة عرفية كانت اللغوية [مهجورة] (¬3) في الاستعمال. [وقريب] (¬4) من الوجه [من قال أنها أرادت بها الإِحرام] (¬5) وضعف (¬6) النووي في شرحه (¬7) هذين التأويلين أيضاً، فقال: تأول من يقول بالإِفراد تأويلات ضعيفة، فذكرهما وذكر تأويلها وهو أنها ظنت أنه اعتمر أي فسخ كما فخسوا، وكذا قال القرطبي (¬8): إنها تأويلات بعيدة، قال: وأقربها كون "من" بمعنى "الباء" كما قال تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬9) أي بأمر الله، وكقوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} (¬10)، أي بكل أمر، فكأنها قالت: ما يمنعك أن تهل بعمرة فأخبرها بسبب المنع، وقال محمد بن أبي صفرة: مالك يقول في هذا الحديث: "من عمرتك" وغيره يقول: "من حجك" حكاه القاضي ثم ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في هـ (وقرب). (¬5) في هـ ساقطة. (¬6) في ن هـ زيادة (الإِمام). (¬7) شرح مسلم (8/ 12). (¬8) المفهم (3/ 355). (¬9) سورة الرعد: آية 11. (¬10) سورة القدر: آية 4. وانظر: كتاب المعاني للزجاجي (50، 76)، وتأويل مشكل القرآن (574)، والإِتقان للسيوطي (2/ 230).

القرطبي (¬1). ثالثها: إذا تقرر أنه كان قارناً فيستدل به إذن على أن القارن لا يتحلل حتى يقضي أفعال الحج كالمنفرد. رابعها: "التلبيد": أن يجعل في الشعر ما يسكنه ويمنعه من الانتعاش كالصبر أو الصبغ أو ما أشبههما. والتقليد: أن تقلد الهدى قلادة في عنقه من خيوط ونحوها وتعلق فيه نعل أو قرن أو جلد، ونحو ذلك عراها ليكون ذلك علامة على أنه هدى لله تعالى فيجتنب عما يجتنب (¬2) غيره من الأذى وغيره، وإن ضل رد، وإن اختلط بغيره يتميز ولما فيه من إظهار الشعار، وتنبيه الغير على [فعل] (¬3) مثل هذا جميعه، ولا يرجع فيها مهديها، وتجتنب سرقتها ويتبعها المساكين عند مشاهدتها. فرع: قال الماوردي (¬4) وتستحب استقبال القبلة عند الإِشعار والتقليد. خامسها: قوله "فلا أحل حتى أنحر" هو اتباع لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬5)، فمن ساق الهدى لا يحل التحلل من عمرته ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 355). انظر: الاستذكار (13/ 83) في إيضاحه أن هذه الكلمة محفوظة وجاءت من روايات الثقات. اهـ. (¬2) لعل العبارة هكذا (عما لا يجتنب). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) الحاوي الكبير (5/ 490). (¬5) سورة البقرة: آية 196.

حتى ينحر يوم النحر بمنى، واستدل أبو حنيفة، وأحمد بهذا الحديث على أن المتمتع إذا فرغ من [أفعال] (¬1) العمرة، وكان قد أهدى لم يجز أن يتحلل بل يقيم على إحرامه حتى يحرم بالحج ويتحلل منهما جميعاً بخلاف ما إذا لم يهد فإنه يتحلل. ومذهب الشافعي ومالك: أنه إذا فرغ من أعمال العمرة صار حلالاً وحل له جميع المحظورات سواء كان ساق الهدى أم لا. واحتجوا: بأنه متمتع [أكمل] (¬2) أفعال عمرته فيتحلل كما إذا لم يكن معه هدى، وحديث حفصة هذا لا حجة فيه لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان مفرداً أو قارناً كما سلف (¬3) ولهذا قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة". وأما حديث عائشة: "من أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه". فجوابه: أنها رواية مختصرة من روايتين ذكرهما قبلها، وبعدها قالت: "فيها من كان معه هدى فليهلل [بالحج والعمرة] (¬4)، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" فهذه الرواية مفسرة للأولى وتقديرها من أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر [هديه] (¬5) ويتعين هذا التأويل لأن القصة واحدة والراوي واحد. ¬

_ (¬1) في ن هـ (أعمال). (¬2) في ن هـ (إكمال). (¬3) ص 229 - 238. (¬4) في ن هـ (بالحج مع العمرة). سبق تخريجها البخاري (316)، ومسلم (1211). (¬5) في ن هـ ساقطة.

سادسها: في الحديث أحكام: أحدها: جواز سؤال المرأة زوجها [الكبير] (¬1) المقتدى به عما وقع من مخالفة الناس له فيما فعله. ثانيها: الجواب بذكر السبب في مخالفتهم له. ثالثها: جواز تسمية القارن متمتعاً وإن لم يحل من عمرته. رابعها: تلبيد شعر المحرم عند إحرامه وهو سنة بالاتفاق. خامسها: أن من لبد رأسه لم يكفه إلاَّ الحلق يوم النحر، وهو قول قديم للشافعي، والجديد من مذهبه أنه لا يتعين وهما كالقولين: في أن التلبيد والإِشعار هل ينزل منزلة قوله: "جعلتها أضحية". سادسها: أن من ساق الهدى لم يحل حتى ينحر. سابعها: أن القارن لا يتحلل حتى يقضي جميع أفعال الحج كالمفرد ما أسلفناه. ثامنها: أن سوق الهدى سنة مؤكدة. [تاسعها: أن تقليده أيضاً سنة مؤكدة] (¬2) وهو اتفاق في الإِبل والبقر، وأما في الغنم فاستحبه الجمهور ومنعه مالك وأبو حنيفة والسنة قاضية عليه، قال القاضي عياض: لم يبلغ مالكاً الحديث. قلت: ووافق ابن حبيب منهم الجمهور. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة.

[خاتمة] (¬1): ترجم البخاري (¬2) على هذا الحديث: القلائد للبدن والبقر" وسيأتي في الباب بعده أن الهدي يكون من الإِبل والبقر والغنم فأخذ البخاري البدن والبقر من لفظ الهدى، واعترض ابن المنير (¬3)، فقال: [ليس في الحديث ذكر البقر] (¬4) لكن قد صح أنه -عليه الصلاة والسلام- أهداهما, ولا يرد هذا على البخاري فاعلمه. ثم ساق البخاري عقب هذا حديث عائشة الآتي في أول الباب الآتي على الأثر. ... ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، والإِضافة ن هـ. (¬2) الفتح (3/ 543). (¬3) المتواري على تراجم أبواب البخاري (143). الفتح (3/ 543). (¬4) هذه ليست في المرجع السابق.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 252/ 4/ 47 - عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: "نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى، ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ولم ينزل قرآن يحرمها] (¬1)، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل: "برأيه ما شاء". قال البخاري "يقال: إنه عمر". ولمسلم: "نزلت آية المتعة -يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات" (¬2) ولهما بمعناه. الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب التيمم وذكرنا ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وإحكام الأحكام. (¬2) البخاري مختصراً (1571، 4518)، ومسلم (1226)، والنسائي (5/ 149، 155)، والكبرى له (2/ 346)، والبيهقي (5/ 149)، والدارمي (2/ 35)، والطيالسي (827)، وأحمد (4/ 236، 427)، وابن ماجه (2977).

هناك أن الملائكة كانت تسلم عليه، فلما اكتوى تركته فلما تركه عاد سلامهم عليه، وذلك أنه كانت به بواسير فكان يصبر على المها فاكتوى لذلك ولم يخبر -رضي الله عنه- بذلك إلاَّ في مرض موته وأمر بكتمانه عنه في حياته خوف الفتنة [والمبهم في هذه الرواية قد فسره المصنف نقلاً عن البخاري: أنه عمر -رضي الله عنه-، وقد قدمنا عن عثمان أنه نهى عنها أيضاً] (¬1). الثاني: المراد بآية المتعة: قوله تعالى: "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى"، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في الباب (¬2)، وعلى صفة المتعة وشروط الدم فيها، والمتعة: المنهي عنها ليست متعة النساء، ولا متعة فسخ الحج إلى العمرة، لأن شيئاً منها لم ينزل القرآن بجوازه، بل هي متعة الحج، وقد سلف تأويل النهي عنها، وبهذا يظهر بطلان مقالة من حمل نهي [عمر] (¬3) -رضي الله عنهما- على إحدى هاتين المتعتين، وقد فسرها الراوي بقوله: -يعني متعة الحج- وهو أعلم بذلك من غيره وتفسيره مقدم على تفسير غيره. الثالث: في الحديث إشارة إلى جواز نسخ القرآن بالسنة: إذ لو لم يكن كذلك لما كان لقوله: "ولم ينه عنها". فائدةٌ من حيث أن النهي يقتضي رفع الحكم الثابت بالقرآن فلو لم يكن الرفع ممكناً لما احتاج إلى قوله "ولم ينه عنها" إذ لا طريق لرفعه إلاَّ جواز نسخه ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) ص 230، 231. (¬3) في الأصل (من ابن عمر)، وما أثبت من ن هـ.

[وورود السنة بالنهي ونسخ الكتاب بالسنة هو قول أكثر أهل الأصول بشرط أن تكون السنة] (¬1) متواترة ونص الشافعي في الرسالة على المنع (¬2). الرابع: قد يؤخذ منه أن الإِجماع لا ينسخ به وهو المختار عند الأصوليين إذ لو نسخ به لقال ولم يتفق على المنع منها لأن الاتفاق حينئذٍ يكون سبباً لرفع الحكم وكان يحتاج إلى نفيه كما نفى نزول القرآن بالنسخ وورود السنة بالنهي (¬3). الخامس: يؤخذ منه [جواز نسخ القرآن بالقرآن] (¬4) وهو إجماع. السادس: فيه وقوع الاجتهاد من الصحابة، وإنكار بعضهم على بعض [بالنص] (¬5). ... ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: نص الشافعي -رحمنا الله وإياه- في الرسالة (197). (¬3) انظر: بحث المسألة في المحصول (1/ 3 / 531، 536)، والصحيح عدم نسخ القرآن بالإِجماع. (¬4) في ن هـ ساقطة. انظر: بحث المسألة وهي اتفاق بين العلماء في جواز نسخ القرآن بالقرآن. المحصول (1/ 3/ 460)، والتبصرة (272)، والمنهاج بشرح الإِسنوي والبدخشي (2/ 168، 170). (¬5) في ن هـ ساقطة.

48 - باب الهدي

48 - باب الهدي المراد به ما يهدى إلى الحرم تقرباً إلى الله تعالى من الإِبل أو البقر، أو الغنم (¬1) المجزىء في الأضحية، ويقال: هدى بإسكان الدال، وتخفيف الياء، وبكسرها وتشديد الياء ذكرها الأزهري (¬2) وغيره والأول أشهر وقرىء بهما قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، قال الأزهري: وأصله التشديد والواحدة هدية وهدية، ويقال: منه هديت الهدى، قال ابن عطية (¬3): ويحتمل أن يكون "الهدى" مصدراً سمي به [كالمرض] (¬4)، ونحوه فيقع [على الإِفراد والجمع] (¬5)، وقال أبو عمرو بن العلاء: "لا أعرف لهذه اللفظة نظيراً". ثم ذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث: ... ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (واو). (¬2) في تهذيب اللغة (6/ 382) (هَدِيٌّ وهَدْيٌ). (¬3) المحرر الوجيز (2/ 111). (¬4) في المحرر الوجيز (كالرهن). (¬5) في المرجع السابق (للإِفرد وللجمع).

الحديث الأول

الحديث الأول 253/ 1/ 48 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "فتلت قلائد هدى [رسول] (¬1) الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أشعرها وقلدها (¬2)، ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلاً" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: "القلائد": حبال ونحوها تكون في حلق البعير أو البقرة أو الغنم كما سلف في الباب (¬4) قبله. وجاء في رواية لمسلم أن تلك الفلائد "من عهن" وهو الصوف مطلقاً. وقيل: الصوف المصبوغ ألواناً، كذا حكاه النووي في ¬

_ (¬1) في ن هـ (النبي). (¬2) في ن هـ زيادة (أو قلدتها). (¬3) البخاري أطرافه في (1696)، ومسلم (1321)، والنسائي (5/ 171، 175)، وأبو داود (1758) في المناسك، باب: بعث بهديه وأقام، وابن ماجه (3094)، ومالك (1/ 340، 341)، والبغوي (1891)، وأبو يعلى (4853، 659)، والبيهقي (5/ 634)، وأحمد (6/ 78، 85، 216)، والحميدي (209)، والترمذي (908)، وابن الجارود (423). (¬4) ص 262.

"شرحه" (¬1) هنا، وعبارته في إيراده في باب صوم عاشوراء (¬2). وقيل: الصوف المصبوغ، ولم يذكر بعده شيئاً، وجزم القرطبي في "مفهمه" (¬3) في صيام عاشوراء بأنه الصوف الأحمر، ثم حكى الخلاف السالف هنا, وتقلد الإِبل والبقر: بالنعال التي تلبس في حال الإِحرام، والغنم بخرب القرب أي عراها ونحوها من الخيوط المفتولة لضعفها عنها. ويستحب أن تكون لها قيمة ويتصدق بها إذا ذبح الهدى، وكره بعض المالكية التقليد بالنعال، [والأوتار] (¬4)، وأجاز مالك أن يكون نعلاً واحداً، قال: والنعلان أحب إلينا (¬5). الثاني: "الإِشعار": شق صفحة السنام بحديده، ونحوها طولاً، وسلت الدم عنه واصله من الإِعلام والعلامة، فالإِشعار للهدى علامة له، وتكون باركة مستقبلة (¬6) القبلة. واختلف الفقهاء. هل يكون الإِشعار في الصفحة اليمنى ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 71). (¬2) شرح مسلم (8/ 14). (¬3) المفهم (3/ 197). (¬4) في فتح الباري (الأوبار). (¬5) من حديث ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنه، فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين". مسلم (1243)، وأبو داود (1752، 1753)، والترمذي (906)، والنسائي (5/ 170)، والبيهقي (5/ 232)، وابن ما حه (3097). (¬6) انظر: الاستذكار (12/ 296، 267).

أو اليسرى؟ فذهب الشافعي (¬1): إلى الأول وهو قول جمهور الخلف والسلف. وذهب مالك: إلى الثاني، قال: ولا بأس بالأيمن والسنَّة قاضية عليه (¬2). فرع: قال: أكثر الأصحاب الأفضل تقديم الإِشعار على التقليد [وظاهر] (¬3) حديث ابن عباس في "صحيح مسلم" (¬4)، لكن المنصوص عكسه وصح ذلك من فعل ابن عمر. فرع: يسمى الله عند الإِشعار، قالت المالكية: ويكبر، ورواه مالك في الموطأ (¬5) عن ابن عمر. ثالثها: الظاهر أن هذا البعث كان في السنة التاسعة ويؤيده رواية البخاري ومسلم (¬6) عن عائشة، "ثم بعث بها مع أبي". رابعها: في الحديث استحباب فتل القلائد للهدى. ¬

_ (¬1) الأم (2/ 216). (¬2) انظر: الموطأ (394)، وسنن البيهقي (5/ 232)، والمغني (3/ 549)، والمجموع (8/ 271)، وشرح السنة (7/ 95)، (10/ 31). (¬3) في ن هـ (الظاهر). (¬4) مسلم (1243)، وأبو داود (1752، 1753) في المناسك، باب: في الإِشعار، والنسائي (5/ 170، 171)، وابن الجارود (424)، والبغوي (1893)، وأحمد (1/ 216، 254، 280)، والدارمي (2/ 65، 66)، والطيالسي (2696)، وابن الجعد في مسنده (1011). (¬5) الموطأ (1/ 379). (¬6) البخاري (1700)، ومسلم (1321).

خامسها: فيه أيضاً استحباب التقليد، وقد تقدم في الحديث الثالث من الباب قبله أنه سنة مؤكدة في الإِبل والبقر، وكذا في الغنم عند الجمهور خلافاً لمالك وأبي حنيفة. سادسها: فيه أيضاً استحساب الإِشعار وهو قول جمهور الخلف والسلف. وقال أبو حنيفة: إنه بدعة لأنه مثلة (¬1) وهو مخالف للأحاديث الصحيحة, وليس هو مثلة, بل هو كالفصد والحجامة والختان والوشم، وهذا مخصوص بالنهي عن المثلة. وأجاب الشيخ أبو حامد: بأنها منسوخة. وفيه نظر، وهذا في الإِبل والبقر. واتفقوا على أن الغنم لا يشعر لضعفها عن الجرح، ولأنه يستتر بالصفوف (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (12/ 269): وكان أبو حنيفة ينكر الإِشعار ويكرهه، ويقول إنما كان ذلك قبل النهي عن المثلة، وهذا الحكم لا دليل عليه إلاَّ التوهم والظن، ولا تترك السنن بالظنون. اهـ. (¬2) قال ابن حجر في الفتح -رحمنا الله وإياه- (3/ 543): وأبعد من منع الإِشعار، واعتل باحتمال أنه كان مشروعاً قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإِشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان. قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (2/ 290): وفيه بيان أن الإِشعار ليس من جملة ما نهى عنه من المثلة، ولا أعلم أحداً من أهل =

سابعها: فيه أيضاً إستحباب بعث الهدى من البلاد، وإن لم يكن معه صاحبه. ثامنها: فيه أيضاً استحباب إشعاره عند بعثه بخلاف ما إذا سافر صاحبه معه، فإنه لا يستحب إشعاره إلاَّ عند الإِحرام. تاسعها: فيه أيضاً أنه لا يحرم على من بعث الهدى شيء من محظورات الإِحرام، وهو قول الجمهور، ونقل فيه خلاف عن بعض المتقدمين وهو مشهور عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وروى أيضاً عن ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير (¬1)، وحكاه الخطابي (¬2) عن أهل الرأي أيضاً: أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرماً من غير نية الإِحرام. عاشرها: فيه أيضاً إعانة أهل الطاعات بما أمكن من المعونات، وإعانة الزوجة زوجها والاستعانة بالغير على العبادة. ¬

_ = العلم أنكر الإِشعار، غير أبي حنيفة، وخالفه صاحباه، وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم، وإنما المثلة أن يقطع عضو من البهيمة يراد به التعذيب، أو تُبانَ قطعة منها لأكل -إلى أن قال- وكيف يجوز أن يكون الإِشعار من باب المثلة؟ وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة متقدماً، وأشعر بدنه عام حج، وهو متأخر ... إلخ كلامه، وانظر أيضاً: الفتح (3/ 544). (¬1) انظر: سياق الخلاف مفصلاً في فتح الباري (3/ 546). الاستذكار (11/ 174، 176). (¬2) معالم السنن (2/ 293)، قال ابن حجر في الفتح (3/ 546): ونقل الخطابي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس وهو خطأ عليهم، فالطحاوي أعلم بهم منه، ولعل الخطابي ظن التسوية بين المسألتين. اهـ.

وأعلم أنه وقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬1) في إيراد هذا الحديث "ثم أشعرتها"، والصواب "ثم أشعرها" كما أورده، وكذا هو في الصحيحين، وذكر الشيخ أيضاً في إيراده للحديث "وقلدها" "أو قلدتها"، وتبعه الشراح وهو بلفظ رواية البخاري ولعله من الراوي وهو عائشة -رضي الله عنها-، لكنها صرحت في باقي روايات البخاري وروايات مسلم كلها أنه -عليه الصلاة والسلام- هو الذي قلدها. فرع: يتعلق بما سبق من كون الإِشعار في الصفحة اليمنى لو أهدى بعيرين مقرونين في حبل. قال البندنبجي والروياني: يشعر أحدهما في الصفحة اليمنى والآخر في اليسرى ليشاهدا. ... ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 552).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 354/ 2/ 48 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة غنماً" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "الغنم": اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإِناث وعليهما جميعاً، وتصغيرها غنيمة. ثانيها: في الحديث، والذي قبله دلالة على استحباب الهدى إلى البيت المكرم وهو إجماع. ثالثها: فيه أيضاً دلالة على إهداء الغنم وهو جائز اتفاقاً، وأبعد أهل العراق فيما [حكاه] (¬2) الخطابي في "شرح ألفاظ المختصر" على ما نقله المحب الطبري في "أحكامه" في قولهم إن الغنم ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1696)، ومسلم (1321)، وأبو داود (1755)، والنسائي (5/ 173)، والترمذي (909)، وابن ماجه (3096)، وابن الجارود (426)، والبيهقي (5/ 232)، والبغوي (7/ 94)، وأحمد (6/ 41، 42، 208). (¬2) في ن هـ (ذكره). أي كتابه معالم السنن (2/ 292).

لا يسمى هدياً (¬1)، وقد مضى استحباب [تقليدها] (¬2) وعدم إشعارها بخلاف الإِبل والبقر فإنه يجمع بينهما في كل منهما. ولم يذكر المصنف في هذه الرواية تقليد الغنم وهو ثابت في رواية مسلم (¬3)، وهذا لفظه عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة غنماً إلى البيت فقلدها"، ورواية المصنف هي رواية البخاري (¬4)، وقصّر الصعبي في "شرحه" فعزاها إلى رواية أبي داود، وليس بجيد فعزوها إلى "صحيح مسلم" أولى. ووقع في "شرحه" أيضاً أن البقر لا يشعر وكأنه اغتر [بعبارة] (¬5) صاحب "التنبيه"، وقد نبه النووي في "تصحيحه" (¬6) على أن ذلك من الأغلاط حيث قال: والصواب أنه يسن إشعار البقر كالبدن. وفصّلت المالكية، فقالوا: إن كان لها سنام أشعرت وإلاَّ فلا وحكوا خلافاً في الإِشعار في الإِبل إذا لم تكن مسنمة. ... ¬

_ (¬1) انظر: بحث هذه المسألة وحجة أصحاب هذا القول والرد عليهم في الفتح (3/ 547). (¬2) في الأصل (تعليقها)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) مسلم (1321) (367)، وانظر: تصحيح العمدة للزركشي مجلة الجامعة الإِسلامية. (¬4) البخاري (1699). (¬5) في ن هـ (بظاهر عبارة). (¬6) تصحيح التنبيه (1/ 277).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 255/ 3/ 48 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها. فرأيته راكبها، يساير النبي - صلى الله عليه وسلم -". وفي لفظ قال: في الثانية أو الثالثة "اركبها ويلك -أو- ويحك" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الرجل المبهم لا يحضرني تسميته بعد الفحص الشديد عنه. ثانيها: "البدنة": تقدم الكلام عليها في الحديث السادس من باب الجمعة (¬2)، وأنها تقع على الواحد من الإِبل والبقر والغنم عند ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1689)، ومسلم (1322)، ومالك (1/ 377)، وأبو داود (1760) في المناسك، باب: في ركوب البدن، والنسائي (5/ 176)، والنسائي في الكبرى (2/ 364، 365)، وابن ماجه (3103)، وابن الجارود (428)، وأحمد (2/ 245، 287، 481)، والطيالسي (2596)، والبيهقي (5/ 236)، والبغوي (1954، 1955). (¬2) (5/ 163) من هذا الكتاب المبارك.

جمهور أهل اللغة، وجماعات من الفقهاء والمراد بها هنا: الإِبل لقرينة الركوب إذ البقر لا يركب غالباً، ولا عادة. وقوله: "إنها بدنة"، فقد كان حالها غير خاف على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها كانت مقلدة كما رواه مسلم ورواية البخاري (¬1) لفظ "فلقد رأيته راكبها يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - والنعل في عنقها"، فلعله ظن أن الهدى لا يركب على ما كان معلوماً عندهم في الجاهلية في أمر السائبة (¬2) على ما سيأتي. ثالثها: قوله: "فرأيته راكبها" هو منصوب على الحال، وجاز ذلك، وإن كان اسم الفاعل إذا كان بمعنى المضي. معرفة فإنه من باب قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (¬3)، [فاعل] (¬4)، وإن كان بمعنى المضي لما كان حكاية حال، وكذا هنا في انتصابه على الحال نبه عليه الفاكهي. رابعها: تقدم الكلام على لفظة "ويل" مستوعباً في كتاب الطهارة (¬5) في حديث "ويل للأعقاب من النار". قال الجوهري: "الويل" [كلمة] (¬6) عذاب وهو منصوب بفعل مضمر. ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (أيضاً). (¬2) في ن هـ زيادة (أو غيرها). (¬3) سورة الكهف: آية 18. (¬4) في ن هـ (فاعمل). (¬5) (1/ 235) من هذا الكتاب المبارك. (¬6) في الأصل (كل)، وما أثبت من ن هـ. انظر: الاستذكار (12/ 256).

وقال الحسن البصري: "ويح" كلمه رحمة. وقال ابن الجوزي (¬1): "ويح" كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها يرثي له، وكذا ويحك. [وتستعمل ويلك [المخاطبة] (¬2) للتغليظ على المخاطب واستحق المخاطبة به] (¬3)، لتأخره عن امتثال الأمر حتى روجع مرة أو مرتين، وقد يخاطب بها من غير قصد إلى معناها وموضوعها في عادة العرب في ذلك كقولهم: ويحه، وويله، وفي الحديث "تربت يداك" (¬4)، "وأفلح [وأبيه] (¬5) " وغير ذلك، قال القاضي عياض (¬6): ¬

_ (¬1) غريب الحديث (2/ 486). (¬2) في ن هـ (في المخاطبك). (¬3) في الأصل (والله)، وما أثبت من هـ. (¬4) ومثله حديث "ترتيب يمينك فمن أين يكون الشبه؟ " أخرجه مسلم (314)، وأبو داود (237)، والنسائي (1/ 112)، والدارمي (1/ 195)، أحمد (6/ 92)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 388)، وقوله "تربت يمينك" أي: افتقرت وصارت على التراب، وهي من الألفاظ التي تطلق عند الزجر، ولا يراد بها ظاهرها. اهـ. النسائي في الكبرى (2/ 364، 365)، وابن ماجه (3103)، وابن الجارود (428)، وأحمد (2/ 245، 287، 481)، والطيالسي (2596)، والبيهقي (5/ 236)، والبغوي (1954، 1955). الحديث أخرجه البخاري (46) , ومسلم (11)، وأبو داود (392)، والنسائي (4/ 120، 121)، ابن الجارود (144)، والموطأ (1/ 175). (¬5) هذه الجملة في ن هـ متقدمة بعد كلمة بفعل مضمر. (¬6) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 413).

وعلى رواية تقديم "ويلك" يريد رواية [مسلم] (¬1) "ويلك اركبها"، "ويلك اركبها" لا يكون من باب الإِغلاظ لأجل التأديب وهو لفظ يستعمل لمن وقع في هلكة، وهذا يدل على ما جاء في الحديث "أن رآه [قد] (¬2) جهد" قال: وقد قيل إن ويلك هذا يكون إغراء بما أمره به من ركوبها إذ رآه قد يتحرج منه. وقوله: "ويلك أو ويحك" هو شك من الراوي، هل قال: ويحك أو ويلك. خامسها: إنما أمره -عليه الصلاة والسلام- بركوبها مخالفة لسير الجاهلية في مجانبة الانتفاع بالسائبة والوصيلة والحام وإهمالها بلا انتفاع بها حتى أوجب بعض العلماء ركوبها لهذا المعنى، ولمطلق الأمر، ويجوز أن يكون أمره بذلك لجهده ويؤيده الرواية السالفة. سادسها: في الحديث دلالة على جواز ركوب البدنة المهداة، وقد اختلف العلماء فيه على مذاهب مع الاتفاق على تحريم الإِضرار بها. أحدها: يجوز للحاجة فقط، ولا يجوز من غير حاجة وهو قول الشافعي وابن المنذر، وجماعة ورواية عن مالك لقوله -عليه الصلاة والسلام- في صحيح مسلم (¬3) من حديث جابر: "اركبها ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) مسلم (1324)، وأبو داود (1761) في المناسك، باب: في ركوب البدن، والنسائي (5/ 177)، والبيهقي (5/ 236)، والبغوي (1956)، =

بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً"، فيرد [الخلاف] (¬1) حديث أبي هريرة إلى هذا التقييد. ثانيها: يجوز من غير حاجة وهو قول عروة ابن الزبير، ورواية عن مالك، وقول أحمد وإسحاق وأهل الظاهر، وبه قال بعض الشافعية: أخذاً بظاهر حديث أبي هريرة في الباب ولقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا} (¬2) الآية. ثالثها: لا يركبها إلاَّ أن لا يجد منه بداً قاله أبو حنيفة. رابعها: وجوب الركوب كما قدمته لمطلق الأمر به، ولقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} (¬3) الآية. دليل الجمهور أنه -عليه الصلاة والسلام- أهدي، ولم يركب هديه. وحكى الصعبي في "شرحه" أن بعض الشافعية قال: يجوز ركوب الهدي المتطوع به، وفي الواجب وجهان، ولم أر من حكاه غيره (¬4). فرع: إذا احتاج وركب فاستراح ففي النزول قولان عن مالك وحجة عدم النزول، وهو ما ذكره ابن القاسم: إباحة الشارع له الركوب فجاز له استصحابه. ¬

_ = وأحمد (2/ 348) (3/ 317، 324)، وأبو يعلى (1815، 2199)، والنسائي في الكبرى (2/ 365). (¬1) في ن هـ (إطلاق). (¬2) سورة الحج: آية 36. (¬3) سورة الحج: آية 33. (¬4) انظر: أقوال أهل العلم -رحمهم الله- في الاستذكار (12/ 253، 255).

وصوب القاضي إسماعيل منهم: النزول. فرع: يجوز الحمل عليها دون الإِجارة، وعند المالكية خلاف في جواز حمل الزاد عليها، فقال اللخمي: بالمنع، وقال ابن القاسم: بالجواز فماذا وجد غيرها نقله. فرع: لو نقصها الركوب المباح فعليه قيمة ذلك النقصان، ويتصدق [كما قاله] (¬1) أبو حنيفة والشافعي كما حكاه القرطبي (¬2). الوجه السابع: يؤخذ من الحديث أن الكبير إذا رأى مصلحة تتعلق ببعض اتباعه أن يأمره بها. الثامن: يؤخذ منه أيضاً المبادرة إلى قبول الأمر. التاسع: يؤخذ منه أيضاً إذا لم يبادر إلى قبوله زجر بالكلام الغليظ بعد تنبيهه على الأمر ثانياً وثالثاً، وفي مسلم (¬3) من حديث أنس أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "اركبها مرتين أو ثلاثاً"، وفي رواية للبخاري (¬4) ثلاثاً وفي رواية لمسلم قال: "إنها بدنة أو هدية"، فقال: "وإن" أي وإن كانت بدنة أو هدية. [العاشر] (¬5): يؤخذ منه أيضاً جواز مسايرة الكبار في الركوب ¬

_ (¬1) في الأصل (قال)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) المفهم (3/ 422). وذكره في الاستذكار (12/ 254). (¬3) مسلم (1323)، والترمذي (911)، والنسائي (5/ 138)، وابن ماجه (3104)، ومسند ابن أبي الجعد (960، 61، 9) والنسائي في الكبرى (2/ 365). (¬4) البخاري أطرافه (1690). (¬5) زيادة من ن هـ.

في السفر ونحوه. ومن تراجم البخاري (¬1)، على هذا الحديث "باب: هل ينتفع الواقف بوقفه"؟، وذكره بلفظ فقال: "اركبها" قال: يا رسول الله إنها بدنة قال: "اركبها، ويلك في الثانية أو الثالثة"، وذكره من حديث أنس (¬2) أيضاً بلفظ "فقال في الثالثة أو الرابعة اركبها ويلك أو ويحك". ... ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (5/ 383)، حديث (2754). (¬2) البخاري الفتح (5/ 383)، حديث (2755).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 256/ 4/ 48 - عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال: "نحن نعطيه من عندنا" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: قوله: "على بدنه" هو بضم الباء وإسكان الدال ويجوز ضمها وهو جمع بدنة. ثانيها: معنى القيام عليها إصلاح شأنها في علفها ورعيها وسقيها وسوقها وإزالة الضرر عنها والعمل فيها بما يجب ويشرع ويحدد. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه في (1707)، ومسلم (1317)، وابن ماجه (3099)، وأبو داود (1769) في المناسك، باب: كيف تنحر البدن؟ (1764)، باب: في الهدى إذا عطب قيل أن يبلغ، والبغوي (1951)، وابن الجارود (482، 483)، وابن خزيمة (2922، 2923، 2919)، وأحمد (1/ 132، 143، 159)، والدارمي (2/ 74)، والبيهقي (5/ 233، 241).

ثالثها: "الأجلة": جمع جلال ما يتخذ من الثياب يشق على الأسنمة إذا كانت قليلة الثمن لئلا يسقط وليظهر الشعار ولا تستتر تحتها وتعقد أطراف الجلال على أقتابها ويكون ذاك بعد إشعارها لئلا تتلطخ بالدم. رابعها: "الجزار": معروف وهو الذي يتولى السلخ والقطع وعمالته تسمى جُزارة بالضم. خامسها: في الحديث جواز الاستنابة في القيام على الهدى وذبحه والتصدق به. سادسها: فيه أيضاً التصدق بالجميع ولا شك أنه أفضل وواجب في بعض الدماء. سابعها: فيه أيضاً أن الجلود تجري مجرى اللحم في التصدق لأنها من جملة ما يتصدق به فحكمها حكمه. ثامنها: فيه أيضاً أستحباب تجليل الهدايا وهو سنة ثابتة مختص بالإِبل وهو مما اشتهر فعله من عمل السلف (¬1) ورواه مالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق. قال العلماء: ويستحب أن تكون فيه الجلال ونفاسته بحسب حال المهدي، وكان بعض السلف: يجلل [بالوشي] (¬2) وبعضهم: بالحبرة. وبعضهم: بالقباطي والملاحف والأزر. ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (9/ 65). (¬2) في الأصل بياض، والإِضافة ن هـ.

قال مالك: ويشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن لئلا يسقط، وقد سبق له فائدة أخرى، قال: وما علمت من ترك ذلك إلاَّ ابن عمر استبقاء للثياب لأنه كان يجلل الأجلال المرتفع (¬1)، من الأنماط والبرود والحبر، قال: وكان لا يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات وروى عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها، فإذا مشى ليلة نزعها [فإذا كان يوم عرفة جللها، فإذا كان عند النحر نزعها] (¬2) لئلا يصيبها الدم، قال مالك: أما الجلال فتنزع ليلاً لئلا يخرقها الشوك، قال: واستحب إن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها وأن لا يجللها حتى يغدو إلى عرفات، فإن كان بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل، قال: وكان ابن عمر أولاً يكسو الجلال الكعبة فلما كسيت تصدق بها على الفقراء. قلت: لا زالت الكعبة تكسى من لدن تُبع إلى الآن [كما تقدم] (¬3)، فلينظر في هذه الرواية (¬4). تاسعها: فيه أيضاً عدم إعطاء الجزار منها شيئاً مطلقاً بكل وجه كما هو ظاهر [الحديث بالـ] (¬5) ــــلفظ [الذي] (¬6) أورده المصنف ¬

_ (¬1) في هـ (المرتفعة). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: الموطأ (1/ 379)، والاستذكار (12/ 273). (¬5) في الأصل بياض، والإِضافة من ن هـ. (¬6) في ن هـ ساقطة.

وترجم [عليه البخاري] (¬1) بأن "لا يعطى الجزار من الهدى شيئاً"، ولا شك في امتناعه إذا كان عطاؤه أجرة الذبح لأنه معاوضة ببعض الهدى وهي في الأجرة كالبيع وهو لا يجوز، وأما إذا أعطاه منها خارجاً عن الأجرة زائد عليها فالقياس الجواز لكن الشارع قال: "نحن نعطيه من عندنا" فأطلق المنع من غير تقييد بالأجرة والذي يخشى من إعطائه منها بأن تقع مسامحته في الأجرة لأجل ما يأخذه الجزار من اللحم فتعود إلى المعاوضة في نفس الأمر ممن يميل إلى سد الذرائع يتمسك بهذا الحديث خشية من مثل هذا. قلت: لكن رواية مسلم (¬2) الأخرى في صحيحه تزيل هذا الإِشكال فإن فيها "ولا يعطى في جزارتها منها شيئاً"، وما أحسن هذه الرواية ولفظ رواية البخاري (¬3) "ولا أعطى عليها شيئاً في جزارتها"، وفي لفظ آخر (¬4) له "ولا يعطى في جزارتها شيئاً"، وأطلق النووي في "شرحه لمسلم" (¬5) أنه يؤخذ من الحديث أن الجزار لا يعطى منها [مفيداً] (¬6) أن عطيته عوض عن عمله فيكون في معنى بيع جزء منها وذلك لا يجوز، وكذا قال القرطبي في ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ. النظر: الفتح (3/ 555) ح (1716). (¬2) مسلم (1317، 1349). (¬3) (1716). (¬4) (1717). (¬5) (9/ 65). (¬6) في ن هـ (معلل).

"مفهمه" (¬1): الحديث دال على أنه لا تجوز المعاوضة على شيء منها لأن الجزار إذا عمل عمله استحق الأجرة على عمله فإذا دفع له منها شيئاً كان ذلك عوضاً على فعله وهو بيع ذلك الجزء منها بالمنفعة التي عملها وهي الجزر، قال والجمهور: على أنه لا يعطى [الجازر] (¬2) منها شيئاً تمسكاً بهذا الحديث وخالف الحسن البصري، وعبد الله [ابن عبيد] (¬3) بن عمير فجوزا إعطاء الجلد، قال: وقوله: "نحن نعطيه من عندنا" مبالغة في سد الذريعة وتحقيق للجهة التي يجب عليها أجرة [الجازر] (¬4) لأنه لما كان الهدي منفعة له، تعينت أجرة التي تتم به تلك المنفعة عليه. العاشر: فيه أيضاً جواز الاستئجار على النحر ونحوه. الحادي عشر: فيه أيضاً تحريم بيع جلد الهدي ومثله الأضحية وسائر أجزائهما بعوض من الأعواض سواء كان بما ينتفع به في البيت وغيره أم لا، وسواء كانا تطوعين أو واجبين، لكن إن كانا تطوعاً فله الانتفاع بالجلد ونحوه باللبس وغيره وبه قال عطاء والنخعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: وحكى ابن المنذر عن ابن عمر وأحمد وإسحق أنه لا بأس ببيع جلد هديه ويتصدق بثمنه، قال: ورخص في بيعه أبو ثور. ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 416). (¬2) في ن هـ (الجزار). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ (الجزار).

وقال النخعي والأوزاعي: لا بأس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها. وللشافعي قول غريب أنه يجوز بيع الجلد ويصرف ثمنه مصرف الأضحية. ولأصحابه وجه: أنه لا يجوز أن يفرد بالانتفاع بالجلد، بل يجب التشريك فيه كاللحم. خاتمة (¬1): ذهب مالك إلى أنه يؤكل من الهدايا كلها إلاَّ أربع: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين، وهدي التطوع، إذا عطب قبل محله. وعنه قول آخر: أنه لا يأكل من دم الفساد. وعنه أنه قال: في "المبسوط" في الجزاء [والفدية] (¬2) ينبغي أن لا يأكل، فإن أكل فلا شيء عليه. ومذهب الشافعي كما ذكره النووي في "شرح المهذب" (¬3) في فرع مذاهب العلماء أنه لا يجوز الأكل من الأضحية والهدي الواجبين، سواء كان جبراناً أو منذوراً وكذا نقله الخطابي (¬4) عن مذهب الشافعي أيضاً أنه يأكل من التطوع كالضحايا والهدايا دون الواجب كدم التمتع والقران والنذر ونحوها. ¬

_ (¬1) انظر: أقوال أهل العلم -رحمهم الله تعالى- في الاستذكار (12/ 283). (¬2) في الأصل (الهدية)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) (8/ 418). (¬4) معالم السنن (2/ 297).

وقال الرافعي: يشبه أن يقال: يجوز الأكل إذا كانت معينة ابتداء ويمتنع إذا كانت معينة عن شيء في الذمة لأنه يشبه دم الجبران. قلت: وقال داود أيضاً: لا يجوز الأكل من الواجب. وقال أحمد وإسحاق: لا يأكل من النذور ولا من جزاء الصيد ويأكل مما سوى ذلك، وروى ذلك عن عمر -رضي الله عنه-، وقال أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران والتطوع ولا يأكل مما سواها [وبناه] (¬1) على مذهبه أن دم القران والتمتع دم نسك لا جبران ونقله النووي في "شرح المهذب" (¬2) عن أحمد أيضاً وما نقلناه أولاً عن أحمد هو ما نقله الخطابي عنه (¬3). وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري، أنه لا بأس أن يأكل من جزاء الصيد وغيره. ... ¬

_ (¬1) في ن هـ (بناها). (¬2) (8/ 418). (¬3) معالم السنن (2/ 297)

الحديث الخامس

الحديث الخامس 257/ 5/ 48 - عن زياد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر (¬1) أتى على رجل قد أناخ بدنته، فنحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنّة محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه عن ابن عمر وهو زياد بن جبير -بجيم ثم باء ثم مثناة تحت ثم راء- ابن حية بمثناة تحت، وزياد ثقفي تابعي ثقة ووالده تابعي جليل، ووقع في رجال هذا الكتاب للصعبي فضبط [جبير] (¬3) والد زياد بحاء مهملة ثم نون ثم ياء مثناة تحت ثم نون كذا رأيته بخطه مضبوطاً وهو وهم فاجتنبه ثم رأيت في ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (قد). (¬2) البخاري (1713)، ومسلم (1320)، وأبو داود (1768) في المناسك، باب: كيف تنحر الإِبل، والبغوي (1957)، وابن خزيمة (2893)، وأحمد (2/ 3، 86، 139)، والدارمي (2/ 66)، والبيهقي (5/ 237) , والنسائي في الكبرى (2/ 453). (¬3) في ن هـ (حنين). وذكر في المشبه للذهبي أنه غير ملتبس بهما -أي بما يأتي في التعليق الذي بعده.

شرحه لهذا الكتاب بخطه أيضاً على الصواب ثم إن جبير يشتبه بثمانية أشياء (¬1). وحية يشبه بأشياء (¬2) ذكرتهم في "مختصري مشتبه الشبة". الثاني: هذا الرجل المبهم الذي قال له ابن عمر، "ابعثها" لم أعثر على تعيينه بعد البحث عنه. الثالث: في ألفاظه، ومعانيه. قال الجوهري: "بعثت الناقة" أثرتها. ومعنى "مقيدة" معقولة اليد اليسرى [وهو قيدها] (¬3)، أي انحرها قائمة معقولة. وفي "سنن أبي (¬4) داود" بإسناد جيد صححه ابن السكن والشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬5)، والنووي في "شرح مسلم" (¬6)، قال: إن إسناده على شرط مسلم عن جابر بن [عبد الرحمن] (¬7) بن ¬

_ (¬1) جبير، حبتر، خنثر، خيبر, جَبيرةَ، جُبيرة، من المشتبه للذهبي (134). انظر: توضيح المشتبه لابن ناصر (2/ 180، 188) -حنثر- من المؤتلف والمختلف للدارقطني (364). (¬2) حَبة، حية، حنة، من المؤتلف والمختلف للدارقطني (579)، جنة، خنة، حِية بالكسر، وخُتَّة من توضيح المشتبه لابن ناصر (2/ 88، 90). (¬3) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ. (¬4) سنن أبي داود (1693) في المناسك، باب: كيف تنحر الإِبل؟ (¬5) إحكام الأحكام (3/ 560). (¬6) شرح مسلم (9/ 69). (¬7) في ن هـ (عبد الله).

سابط (¬1) "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة [اليد] (¬2) اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها"، والمراد هنا بالبدنة البعير ونحوه من الإِبل، فأما البقر والغنم، فليس هذا حكمها بل يستحب ذبحها مضجعة لجنبها الأيسر، وتبرك رجلها اليمنى. ووقع في "كفاية" ابن الرفعة اليسرى، ولعله من سبق القلم ويسند باقي القوائم، وهذا الذي قاله ابن عمر لهذا الرجل أصله في كتاب الله وهو قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ...} (¬3) الآية، وصواف: جمع صافة أي مصطفة في قيامها، وقرأ ابن مسعود وغيره "صوافن" (¬4) بالنون جمع صافنة وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. والصافن من الخيل: الرافع إحدى يديه لفراهته، وقيل: إحدى رجليه (¬5)، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} (¬6). ¬

_ (¬1) الإِسناد كما في السنن "حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا أبو خالد الأحمر عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط ... " الحديث، -فيكون سياق المصنف -رحمنا الله وإياه- فيه سقط، لعله من النساخ- والقائل، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط هو ابن جريج كما في عون المعبود (5/ 186). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) سورة الحج: آية 36. (¬4) انظر: فتح القدير (3/ 454)، ومعاني القرآن للفراء (2/ 226). (¬5) معاني القرآن للفراء (2/ 404)، وفتح القدير (4/ 430)، ولسان العرب (7/ 368)، والاستذكار (12/ 208). (¬6) سورة ص: آية 31.

قال ابن عباس: في معنى "صواف" قياماً على ثلاث قوائم معقولة، استدركه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين (¬1)، وكذا قال مجاهد: الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وكانت على ثلاث قوائم وحديث جابر السالف (¬2) صريح في أن اليد اليسرى هي المعقولة، قال بعض الشراح: والقراءة الشاذة السالفة يساعدها أنه ورد في "صحيح مسلم" ما يدل على أنها تكون معقولة حالة نحرها كذا عزاه إلى "صحيح مسلم" ولا يحضرني الآن. وظاهر القرآن يشعر بكونها قائمة لقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (¬3)، أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض (¬4) واصل الوجوب: الوقوع ومنه: وجبت الشمس. الرابع: في أحكامه. الأول: استحباب نحر الإِبل معقولة من قيام على الصفة المذكورة وهو مذهب الأئمة الثلاثة. مالك، والشافعي، وأحمد والجمهور. وقال أبو حنيفة والثوري: يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة. ¬

_ (¬1) المستدرك (2/ 389)، ووافقه الذهبي، وذكره ابن حجر في الفتح ولم يذكر فيه تصحيح ولا تضعيف (3/ 453). والذي في الفتح (صوافن). (¬2) ص 295. (¬3) سورة الحج: آية 36. (¬4) انظر: الاستذكار (12/ 258).

وحكى القاضي عياض (¬1) عن عطاء أن نحرها باركة أفضل وإتباع السنة أولى، وحجة عطاء أن ابن عمر فعل ذلك كما رواه: سعيد بن منصور. وجوابه: أنه إن صح عنه فهو محمول على عذر من نفار ونحوه توفيقاً بينه وبين ما سلف عنه. [الثاني] (¬2) والثالث: تعلم الجاهل وعدم السكوت على مخالفة السنة وفيه أيضاً ما كانت الصحابة عليه من التقييد بالسنة قولاً وعملاً واعتقاداً (¬3). ... ¬

_ (¬1) أشار إليه في إكمال إكمال المعلم (3/ 411). (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) تم الجزء الثاني والحمد لله رب العالمين يتلوه إن شاء الله تعالى الجرء الثالث، باب الغسل للمحرم على يد فقير رحمة ربه محمد بن سليمان بن عوض البكري عفا الله عنه وعن والديه وجميع المسلمين، بتاريخ رابع رمضان سنة أربع وسبعين وسبعمائة، هكذا وجد في نهاية الأصل.

49 - باب الغسل للمحرم

(¬1) بسم الله الرحمن الرحيم {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} 49 - باب الغسل للمحرم ذكر فيه حديث واحد، وهو: 258/ 1/ 49 - عن عبد الله بن حنين، أن عبد الله بن عباس، والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، [قال] (¬2): فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يُستر بثوب، فسلمت عليه. فقال: من هذا؟ قلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك ابن عباس [يسأل كيف] (¬3) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأ، حتى بدأ لي رأسه، ثم قال لإِنسان يصب عليه الماء: أصبب فصب. على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل. ¬

_ (¬1) بداية الجزء الثالث من الأصل. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ (يسألن).

وفي رواية: "فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبداً" (¬1). القرنان: العمودان اللذان تشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف: بما وقع فيه من الأسماء (¬3). عبد الله بن حنين فهو قرشي هاشمي مولى ابن عباس، وقيل: مولى علي تابعي ثقة، قليل الحديث: قال أسامة: دخلت عليه ليالي استخلف يزيد بن عبد الملك ومات قريباً من ذلك. وأما أبوه حنين: -فهو بحاء مهملة مضمومة ثم نون ثم [ياء] (¬4) مثناة تحت ثم نون-. وأما [عبد الله (¬5) بن عباس وأبو أيوب فتقدما في باب الاستطابة. وأما المسور: فهو بكسر الميم ثم سين مهملة ساكنة، ثم واو ¬

_ (¬1) البخاري (1840)، ومسلم (1215)، ومالك (673)، وأبو داود (1840) في المناسك، باب: المحرم يغتسل، وابن ماجه (2934)، والنسائي (5/ 128، 129)، والبيهقي (5/ 63)، والبغوي (1983)، والحميدي (379)، وابن خزيمة (2650)، والدارقطني (2/ 272، 273)، وابن الجارود (441)، وأحمد (5/ 421)، والدارمي (2/ 30). (¬2) في متن العمدة ساقطة. (¬3) في ن هـ زيادة (أما). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) في ن هـ ساقطة.

مخففة مفتوحة، ثم راء، "ابن مخرمة": بميمين مفتوحتين بينهما خاء معجمة [ساكنة ثم راء مفتوحة] (¬1) وآخره تاء تأنيث ابن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف ابن زهرة أبو عثمان، وقال ابن حبان: أبو عبد الرحمن [القرشي] (¬2) الزهري بن الشفاء، ويقال: عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في عقب ذي الحجة سنة ثمان عام الفتح، وهو ابن ست سنين. توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وله ثمان سنين، وسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصح سماعه منه، وفي سنة مولده ولد مروان بن الحكم روى عشرين حديثاً، وزاد بعضهم آخرين، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث، وروى أيضاً عن أبيه وخالد وغيرهما. وعنه أبو [أمامة سعد] (¬3) بن سهل بن حنيف، وعروة بن الزبير وغيره. أصابه حجر المنجنيق في حصار الشاميين لابن الزبير وهو في الحجر يصلي فمكث خمسة أيام، ومات في ربيع الآخر سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة اثنين، وقيل: سنة ثلاث ابن سبعين سنة ذكره ابن حبان، وقال: قد قيل: أقل من هذا وصلَّى عليه ابن الزبير ودفن بالحجون، ثم قتل ابن الزبير بعده يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادي الأولى وقيل: الآخرة. قال ابن طاهر وهو أكبر من المسور بأربعة أشهر قال (¬4): وكما ماتا في عام واحد [ولدا ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ (أسامة أسعد). (¬4) في ن هـ زيادة (غيره).

في] (¬1) عام واحد المسور بمكة وابن الزبير بالمدينة. وأما أبوه مخرمة: فكنيته أبو صفوان، وقيل: أبو المسور وهو ابن عم سعد بن أبي وقاص بن أهيب أحد العشرة، وكان من مسلمي الفتح: ومن المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامه وشهد حنيناً مسلماً، وكان له سر وعلم بأيام الناس وبقريش خاصة، وكان يؤخذ عنه النسب، مات بالمدينة سنة أربع وخمسين وعمره مائة سنة وخمس عشرة سنة، وعمي في آخر عمره وهو أحد من أقام أنصاب الحرم في خلافة الفاروق أرسله هو وأزهر (¬2) بن عبد عوف وسعيد بن يربوع. وحويطب بن عبد العزي فجددوها. وأما اسم الذي صب على أبي أيوب فلا أعرفه بعد البحث عنه. فائدة: "مسور" والد مخرمة يشتبه بمُسَوّر بضم الميم، وفتح السين المهملة وتشديد الواو المفتوحة وهو مسوّر بن يزيد الصحابي، ومسوّر بن عبد الملك اليربوعي عنه معن القزاز. ومخرمة: يشتبه بمخرفة بالفاء العبدي الصحابي. وقيل: إنه بالميم أيضاً وهو وهم. الوجه الثاني: في ألفاظه: "الأبواء" بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة، وفتح الواو ومد الألف [بعدها] (¬3) وهو اسم قرية من عمل ¬

_ (¬1) في ن هـ (ونزل). (¬2) في ن هـ (أزهر). (¬3) زيادة من ن هـ.

الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثمانية وعشرون ميلاً. قال صاحب "المطالع": قال بعضهم: سميت [بذلك] (¬1) لما فيها من الوباء. ولو كان كما [قال] (¬2) لقيل الأَوْباءُ أو يكون مقلوباً منه والصحيح أنها سميت بذلك لتبوأ السيول بها [قال ابن دحية في "تنويره": وقيل: هو جمع بَوْءِ وهو جلد الحُوار المحشو بالتبن، قال: وقيدته بالهمزة على السهيلي (¬3). وتعتبر همزه، قال سيبويه: لأنه أدخله في مضاعف الواو كالحُوُة] (¬4) وبه (¬5) توفيت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والقرنان: تثنية قرن وقد فسرهما المؤلف ولا ينحصر تفسيرها بعمودين بل لو كان عوضهما بناء سميا قرنين كما صرح به صاحب "المطالع" وغيره (¬6). وقال الهروي: قال القتيبي: القرنان: قرنا البئر، وهما ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ (قيل). انظرة معجم البلدان (1/ 79). (¬3) انظر: الروض الآنف (1/ 193). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في ن هـ (وبالإِبواء). (¬6) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (11/ 22): وأما قوله: "يغتسل بين القرنين"، فقال ابن وهب: هما العمودان المبنيان اللذان فيهما الساقية على رأس الجحفة، وقال غيره: هما حجران مشرفان أو عمودان على الحوض يقوم عليهما السقاة. اهـ.

منارتان تبنيان من حجارة أو مدر على رأس البئر من جانبيها فإن كانتا من خشب فهما زرنوقان، ويقال: للزرنوق أيضاً القامة والنعامة. وقال الجوهري (¬1): "القامة" البكرة بأداتها [وقال] (¬2) أيضاً: "النعامة" الخشبة المعترضة على الزرنوقين. ومعنى: "لا أماريك أبداً" لا أجادلك ولا أخاصمك. وأصل المراء في اللغة: الاستخراج مأخوذ من مريت الناقة إذا ضربت ضرعها ليدر ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بصوت أو غيره. وقال ابن الأنباري (¬3): يقال أمري فلان فلاناً إذا استخرج ما عنده من الكلام فكان كل واحد من المتمارين. وهما المتجادلان يمري ما عند صاحبه أي يستخرجه ويقال مريت حظه إذا حجبته واللائق بالمراء في الحديث حمله على المراء الجنائز الذي قصد به استخراج الحق وظهوره لا قصد المبالغة وجحود الحق بعد ظهوره، فإن ذلك هو اللائق بحال الصحابة فإن المراء يكون بحق أو بغير حق، ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من ترك المراء وهو محق" (¬4) الحديث. ¬

_ (¬1) الصحاح مادة (قوم). (¬2) في ن هـ ساقطة أي في الصحاح مادة (نعم). (¬3) الزاهر (1/ 350). (¬4) الحديث أخرجه أبو داود (4800)، والدولابي (2/ 133، 192)، والطبراني في معجمه الصغير (2/ 16)، والكبير (2/ 110)، وذكره =

ثم اعلم أن اختلاف ابن عباس لم يكن في جواز أصل غسل الرأس لأنه من المعلوم عندهما أنه يغتسل من الجنابة إن أصابته ولدخول مكة وللوقوف بعرفة، وإنما كان الاختلاف بينهما في كيفيته، هل يدلكه أم لا؟ لأنه يخاف منه قتل الهوام، وانتاف الشعر فمنع المسور من ذلك. وخالفه ابن عباس لأنه إذا ترفق أمن من ذلك، وقد كان ابن عباس علم ذلك من حديث أبي أيوب، ولذلك أحال عليه وأرسل إليه. والبكرة: في كلام المصنف يجوز أن تكون بفتح الكاف وإسكانها، وهما لغتان. الوجه الثالث: في أحكامه. الأول: جواز التناظر في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها إذا غلب على ظن كل واحد من المتناظرين فيها على حكم. الثاني: الرجوع إلى من يظن أن عنده علماً فيما اختلف فيه. الثالث: قبول خبر الواحد، وأن العمل به سائغ بين الصحابة لأن ابن عباس أرسل إلى أبي أيوب عند اختلافه هو، والمسور ليستعلم منه حكم المسألة برسول واحد، وهو ابن حنين، ومن ضرورته قبول خبره عن أبي أيوب فيما أُرْسل فيه. ¬

_ = الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 157)، ومجمع البحرين (1/ 228)، ومن رواية ابن عمر عند الطبراني في الأوسط، انظر مجمع الزوائد (1/ 157)، وقال: وفيه عقبة بن علي وهو ضعيف مجمع البحرين (1/ 229)، ومن رواية ابن عباس عند الطبراني في الكبير (11/ 110)، ومن رواية معاذ في المعجم الصغير (1/ 166)، والكبير (20/ 139).

الرابع: أخذ الصحابي عن الصحابي بواسطة التابعي. الخامس: الرجوع إلى النص عند الاجتهاد والاختلاف. السادس: ترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص وهو إجماع. السابع: التستر عند الغسل. الثامن: جواز الاستعانة للمتطهر بمن يستره أو يصب عليه، وقد ثبتت الاستعانة بأحاديث صحيحة، وما ورد في تركها لا يقابلها في الصحة. التاسع: جواز الكلام في حال الطهارة. العاشر: جواز السلام على المتطهر في الوضوء والغسل للحاجة بخلاف الجالس على الحدث ونحوه. الحادي عشر: جواز تحريك اليد على الرأس حال الغسل للمحرم إذا لم يؤد إلى نتف الشعر. الثاني عشر: أن الإِنسان إذا كان عنده علم من الشيء ووقع فيه اختلاف لا بأس أن يراجع غيره فيه ممن عنده علم به لأن سؤال ابن عباس عن كيفية غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - يشعر بأنه كان عنده علم به إذ لا يحسن السؤال عن كيفية الشيء إلاَّ بعد العلم بأصله، وكأن غسل البدن عنده متقرر الجواز في الإِحرام كما مضى إذ لم يسأل عنه، وإنما سأل عن كيفية [غسل] (¬1) الرأس (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) انظر: الاستذكار (11/ 18).

ويحتمل أن يكون خص الرأس بالسؤال لأنها موضع الإِشكال في المسألة إذ الشعر عليها وتحريك اليد عليها يخاف منه نتف الشعر بخلاف البدن. الثالث عشر: جوار اغتسال المحرم في [رأسه وجسده] (¬1)، وهو مجمع عليه إذا كان الغسل واجباً من جنابة أو حيض ونحوهما. وأما إذا كان لمجرد التبرد فمذهب الشافعي والجمهور: جوازه من غير كراهة. وجوّز أصحاب الشافعي (¬2) الغسل بالسدر والخطمي بحيث لا ينتف شعراً ولا فدية عليه لأن ذلك لإِزالة الأوساخ بخلاف الدهن ذاته، نعم الأولى أن لا يفعل. بل حكى [الحناطي] (¬3) كراهته عن القديم. وقال مالك وأبو حنيفة (¬4): هو حرام -أعني غسل رأسه بالخطمي وما في معناه-، وعليه فدية لأنه ترفه إلاَّ أن يكون له وفرة ¬

_ (¬1) تقديم وتأخير من الأصل ون هـ. (¬2) الاستذكار (11/ 19)، المجموع (7/ 354)، والحاوي الكبير (5/ 157، 158). (¬3) في الأصل (الحنابلي)، وما أثبت من هـ. هو الحسين بن محمد بن الحسين أبو عبد الله بن أبي جعفر الطبري الحناطي قال السبكي في طبقاته، ووفاة الحناطي فيما يظهر بعد الأربعمائة بقليل ترجمته في طبقات ابن شهبة (1/ 179)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 160)، وتاريخ بغداد (8/ 103). (¬4) الاستذكار (11/ 19).

فالأمر فيه خفيف، كما قالت المالكية فإن استدل بالحديث على هذا المختلف فيه، فلا يقوي كما قاله الشيخ تقي الدين (¬1) لأن المذكور حكاية حال لا عموم فيه وحكاية الحال تحتمل المختلف فيه ويحتمل غيره، ومع الاحتمال لا تقوم الحجة. فروع: من مذهب مالك. قال مالك (¬2): لا يغمس رأسه في الماء خشية قتل الدواب، يريد من كانت له وفرة فإن لم تكن وعلم أنه لا شيء برأسه فلا بأس. وقال أيضاً في كتاب ابن المواز: لا يدخل الحمام (¬3)، فإن فعل فليفتد إذا أنقى وسخه وتدلك فإن لم يبالغ في ذلك فلا شيء عليه. قال اللخمي: وأرى أن يفتدى وإن لم يتدلك لأن الشأن فيمن دخل الحمام ثم اغتسل أن يزول الشعث عنه وإن لم يتدلك. قال الأبهري: وإنما كره للمحرم دخول الحمام خيفة أن يقتل الدواب من رأسه أو جسده وهو ممنوع من ذلك لأنه لا يجوز له أن يميط الأذى عنه حتى يرمي جمرة العقبة فمتى فعل ذلك كانت عليه الفدية، وأما الواجب فلا يلزمه إلاَّ فيما تيقن. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 564). (¬2) الاستذكار (11/ 18)، وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- جواز ذلك. انظر: سنن البيهقي (5/ 63). (¬3) روى عن ابن عباس أنه دخل حمام الجُحفة وهو محرم. السنن الكبرى (5/ 63)، والأم (2/ 146)، ومعرفة السنن (7/ 9717). وأيضاً عن جابر في معرفة السنن والآثار (7/ 9722) والقول بالجواز هو رأي عامة العلماء.

الرابع عشر: قوله: "ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر" يدل لابن عباس على صحة ما ذهب إليه من أن المحرم يغتسل ويغسل رأسه ويدلكه، وعليه الجمهور كما سلف. الخامس عشر: قال القرطبي (¬1): فيه دلالة لمالك على اشتراط التدلك في الغسل لأنه لو جاز الغسل بدون تدلك لكان المحرم أحق بأن يجاز له تركه، قال: وفيه دليل على أن حقيقة الغسل لغة لا يكفي فيها صب الماء فقط بل لا بد من التدلك وما ينزل منزلته. قلت: ممنوع أعني أن الصب لا يسمى غسلاً وكذا الأول فإن الدلك [هنا] (¬2) سيق لبيان محل المختلف فيه. السادس عشر: أنه لا يكره أن يقول "أنا" إذا أضاف إليه الاسم بخلاف ما إذا أفرد "أنا". ... ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 292). (¬2) في ن هـ (هناك).

50 - باب فسخ الحج إلى العمرة

50 - باب فسخ الحج إلى العمرة ذكر فيه غير ذلك من الأحكام ككيفية الدفع وتقديم بعض أعمال يوم النحر على بعض وكيفية رمي جمرة العقبة، وأن الحلق أفضل من التقصير ونفر الحائض بلا وداع وتخفيف المبيت عن أهل السقاية والجمع بمزدلفة فلو قال باب فسخ الحج إلى العمرة وغيره. كان أولى ثم ذكر في باب أحد عشر حديثاً: [الحديث] (¬1) الأول 259/ 1/ 50 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدى، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، وقدم على من اليمن، فقال: أهللت بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرة. فيطوفوا، ثم يقصروا [وأن] (¬2) يحلوا، إلاَّ من كان معه الهدى، فقالوا: ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر [منياً] (¬3). فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) زيادة من ن هـ.

"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت" وحاضت عائشة، فنسكت المناسك كلها، غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة وانطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد (¬1) الحج" (¬2). الكلام عليه من وجوه: وهو حديث عظيم يشتمل على فوائد جمة. الأولى: في التعريف براويه وقد سلف في باب الجنابة واضحاً. وأما ما وقع فيه من الأسماء فعائشة سلف التعريف بها في الطهارة. وعبد الرحمن في باب السواك. وعلي في باب المذي. وطلحة: أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإِسلام وأحد الستة [أصحاب] (¬3) الشورى. والخمسة الذين أسلموا على يد الصديق قال -عليه الصلاة والسلام- في حقه قبل أن يقتل " [طلحة] (¬4) ممن قضى نحبه. وما بدلوا تبديلا" أتاه سهم يوم الجمل لا يدري من رماه فكان أول قتيل. اتهم به مروان بن ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (أشهر). (¬2) البخاري في أطرافه (294)، ومسلم (1211)، وابن خزيمة (3907، 2936)، وابن ماجه (2963)، (3000)، وأبو داود (1782) في المناسك، باب. إفراد الحج، والبغوي (1913)، والبيهقي (4/ 355) (1/ 308) (5/ 3، 86)، وابن أبي شيبة (1/ 79)، والحميدي (206). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ ساقطة.

الحكم أصاب حلقه. فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وقيل: أصاب رجله فقطع [عرق] (¬1) النسا فنزف دمه فمات سنة ست وثلاثين ودفن بالبصرة وهو ابن أربع وستين وقيل: غير ذلك وقد بسطت ترجمته فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعها. الثاني: أصل الإِهلال رفع الصوت ثم استعمل في التلبية استعمالاً شائعاً ويعبر به عن الإِحرام [إلاَّ] (¬2) أن رفع الصوت بالتلبية مختصة بالرجال دون النساء فإن رفعت صوتها فالصحيح عند الشافعية لا يحرم. الثالث: اختلف فيمن يطلق عليه صاحب أو صحابي على أقوال سلفت الإِشارة إليها في ديباجة الكتاب. الرابع: قوله "بالحج" ظاهره يدل على الإِحرام وهي رواية جابر. قال القاضي عياض: وهذا ما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج حيث أحرم به -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه مفرداً ويؤيده توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إليهم بسبب سوق الهدي. الخامس: قوله: "وليس مع أحد منهم هدى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة" هذا الكلام كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة إذا لم يكن هدى وتقدم الكلام على الهدي في بابه واضحاً. السادس: قولها: "وقدم علي من اليمن" جاء في رواية لمسلم ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة.

"أنه قدم من سِعايته" والسِعاية: بكسر السين تستعمل في مطلق الولاية ليس كما قال القاضي أنها تختص بالعمل على الصدقة حتى يرد استعماله بني هاشم على الصدقات. السابع: علق أبو موسى -رضي الله عنه- إحرامه أيضاً بمثل إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه الشيخان في صحيحهما (¬1) من حديثه وهذا النوع هو أحد وجوه الإِحرام الجائزة وهي خمسة: الإِفراد، والتمتع، والقران، والإِطلاق، والتعليق. فينعقد كإِحرامه. واختلف أصحابنا فيما إذا علق على إحرام غيره في المستقبل أو على طلوع الشمس على وجهين، وميل الرافعي إلى الجواز. قال القاضي عياض: أخذ الشافعي بظاهر الحديث وجوز الإِهلال بالنية [المبهمة] (¬2)، قال: ثم له بعد أن ينقلها إلى ما شاء من حج أو عمرة، وله عنده أن ينتقل من نسك إلى نسك وخالفه سائر العلماء والأئمة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3). ولقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬4) ولقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} (¬5). ولأن هذا كان لهؤلاء خصوصاً إذ كان شُرع الحج بعد، وما يفعله الشارع لم يستقر ولم يكمل بعد، فلم يمكنها الإِقدام ¬

_ (¬1) البخاري في أطراف (1559)، ومسلم (1221). (¬2) زيادة من إكمال المعلم (4/ 259) ولا بد منها. (¬3) سبق تخريجه في الحديث الأول. (¬4) سورة البقرة: آية 196. (¬5) سورة محمد: آية 33.

على أمر بغير تحقيق. قال القرطبي (¬1): ولا تتم حجة الشافعي لهذين الحديثين حتى يتبين أنهما حيث ابتدأ الإِحرام لم يعلما عين ما أحرم به - صلى الله عليه وسلم - إذ يجوز علمهما به فنقله إليهما ولفظهما محتمل. قلت: الظاهر عدم علمهما به. وفي كتاب "الذخيرة" في مذهبهم في كتاب الصلاة لو قال أحرمت بما أحرم به الإِمام، فقال أشهب: يجزئه، قال: وللشافعي قولان, قال: ويعتمد الجواز حديث علي، قال: وهو مشكل فإن الحج لا يفتقر إلى تعيين عند الإِطلاق لأنه منصرف إلى حجة الإِسلام إجماعاً بخلاف الصلاة. وقال الشيخ تقي الدين (¬2): من الناس من عَدَّى هذا إلى صورة أُخرى أجاز فيها التعليق، ومنعه غيره، قال: ومن أبى ذلك يقول الحج مخصوص بأحكام ليست في غيره. ويجعل محل النص منها. [السابع] (¬3): أمر - صلى الله عليه وسلم - علياً بالبقاء على إحرامه لأنه ساق الهدى كما ساقه -عليه الصلاة والسلام- بخلاف أبي موسى فإنه -عليه الصلاة والسلام- أمره بالتحلل في الحديث الذي أسلفناه لأنه لم يسق الهدي وصار له حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يكن معه هدي بقوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت" فلهذا اختلف أمر إحرامهما فاعتمده ولا تلتفت إلى غيره مما أول. ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 346). (¬2) إحكام الأحكام (3/ 566). (¬3) في ن هـ (الثامن).

[الثامن] (¬1): قوله: "فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرة" فيه عموم لجميع الصحابة وهو مخصوص بأصحابه الذين لم يكن معهم هدي وهو مبين في حديث أخر كما سبق في الحديث الثاني من باب التمتع (¬2) وتقدم هناك اختلاف العلماء هل كان [ذلك] (¬3) خاصاً للصحابة تلك السنة أم هو باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فراجعه من ثم، والمراد بجعلها عمرة أن يعملوا أعمالها من غير استئناف إحرام ولهذا عقبها بالفاء في قوله: "فيطوفوا" وهذا الأمر ظاهر الروايات أنه أمر متحتم [و] (¬4) علقه في بعضها "بالمحبة" والجمع بينهما بأنه خيرهم أولاً بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناساً بالعمرة في أشهر الحج لأنهم كانوا يرونها من أفجر الفجور ثم حتم عليهم بعد ذلك الفسخ. العاشر: قوله: "فيطوفوا" يريد واسعوا لما علم أنه لا بد من السعي في العمرة وإنما ترك ذلك للعلم به ويحتمل أن يكون عبر بالطواف عن مجموع الطواف والسعي فإن السعي يسمى طوافاً قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} إلى قوله: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وقوله: "ثم يقصروا" لعل والله أعلم إنما أمرهم به دون الحلق لتأخيره إلى الحج كما سلف التنبيه عليه في الحديث الثاني من باب التمتع (¬5). ¬

_ (¬1) في ن هـ التاسع. (¬2) ص 240. (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) الأصل (من) وما أثبت من هـ. (¬5) ص 245، 246.

الحادي عشر: "منى" الأجود صرفها وتذكيرها كما سبق في الحديث الثالث من باب المرور بين يدي المصلى مع سبب تسميتها بذلك. الثاني عشر: قوله: "فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر" فيه دلالة على استعمال المبالغة في الكلام فان المراد هنا لا حقيقة الإِمناء أو الإِنزال لأنهم إذا حلوا من العمرة وواقعوا النساء كان ذلك قريباً من إحرامهم بالحج لقرب الزمان من الإِحرام والمواقعة والإِنزال، فقيل: مبالغة "وذكر أحدنا يقطر" إشارة إلى اعتبار المعنى في الحج وهو الشعث وترك الترفه وطوله من الإِحرام يحصل هذا المقصود وقصره [يضعفه] (¬1) بعدم الشعث ووجود الترفه وكأنهم استنكروا زوال المقصود وضعفه لقرب إحرامهم من تحللهم. الثالث عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت" فيه جواز قول "لو" وإن كان ورد النهي عنها في الصحيح في قوله: "إن لو تفتح عمل الشيطان" (¬2) وقد ¬

_ (¬1) في ن هـ (وضعفه). (¬2) أخرجه مسلم (2664)، وابن ماجه (79، 4168)، والسنة لابن أبي عاصم (356)، والبيهقي في السنن (10/ 89)، والأسماء والصفات له (1/ 263)، وأحمد (2/ 366، 370)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (623، 624)، ولفظه: "المؤمن القوي". قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه-: والعبد إذا فاته المقدور له حالتان، حالة عجز وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى "لو" ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والحزن، وهذا من عمل الشيطان، فنهاه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فقال: "وإن أصابك" إلخ فأرشده إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول "لو" وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان، لما فيها من صور التأسف على ما فات، والتحسر والحزن ولوم القدر، فيأثم بذلك, وذلك من عمل الشيطان وما ذاك لمجرد لفظ "لو" بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه. المنافية لكمال الإِيمان, الفاتحة لعمل الشيطان، وأرشده إلى الإِيمان بالقدر، والتفويض والتسليم للمشيئة فهذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر، وإثبات الكسب والقيام بالعبودية. اهـ. قال في تيسير العزيز الحميد (601)، قال القاضي: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقداً ذلك حتماً، وأنه لو فعل ذلك لم يصبه قطعاً. فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى، وأنه لن يصبه إلاَّ ما شاء الله فليس من هذا، واستدل بقول أبي بكر الصديق في الغار، لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا. قال القاضي: وهذا ما لا حجة فيه، لأنها خبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لرد القدر بعد وقوعه، قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري فيما يجوز من اللو كحديث "لولا حدثان قومك بالكفر، لأتممت البيت على قواعد إبراهيم", "ولو كنت راجماً بغير بينة لرجمت هذه"، و"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" وشبه ذلك وكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته فأما ما ذهب فليس في قدرته. فإن قيل: ما تصنعون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي، ولجعلتها؟ قيل: هذا كقوله: "لولا حدثان قومك بالكفر" ونحوه مما هو خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، بل هو إخبار لهم أنه لو استقبل الإِحرام بالحج، ما ساق الهدي ولا أحرم =

جمع بينهما بأن قيل إن كراهة استعمالها مخصوص بالتلهف على أمور الدنيا إما طلباً، كما يقال: لو فعلت كذا لحصل لي كذا وهذا كقولك لو كان كذا وكذا لما وقع كذا وكذا، لما في ذلك من صورة عدم التوكل ونسبة الأفعال إلى القضاء والقدر فقط أما إذا استعملت في معنى القربات كما في هذا الحديث فلا كراهة ويلزم من ذلك أن يكون ما تمناه -عليه الصلاة والسلام- أفضل وهو التمتع لو وقع وهو الوجه الثالث عشر: والجواب: أن الشيء قد يكون أفضل لذاته وقد يكون أفضل لما يقترن به من مصلحة لا لذاته فالتمتع مقصود للترفه ويجبره بالدم ولكنه لما اقترن به قصد موافقة الصحابة في فسخ الحج إلى العمرة لما شق ذلك عليهم وهذا أمر زائد على مجرد التمتع، اقتضى ذلك أفضليته من هذا الوجه خاصة لا من حيث هو [هو] (¬1) ولا يلزم من ذلك أن يكون التمتع بمجرده أفضل فاقتضى ترجيحه لذلك لا لذاته. واعلم أن الشيخ تقي الدين (¬2) نقل هذا الاستدلال وهو أن التمتع أفضل عند بعضهم وقرره كما [سقناه] (¬3) وفيه نظر لأن هذا غير ¬

_ = بالعمرة بقوله لهم لما أمرهم توقفوا في أمره، فليس من المنهي عنه، بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو يقع لوقع خلاف المقدور. اهـ. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 572). (¬3) في ن هـ (أسلفناه).

[المتمتع] (¬1) المذكور بإزاء الإِفراد والقران فإنه فسخ الحج إلى العمرة ولا قائل بأفضليته بل الخلاف الآن في أصل جوازه كما سلف. الرابع عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لولا أن معي الهدي لأحللت". هذا معلل بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) فإن فسخ الحج إلى العمرة يقتضي التحلل بالحلق عند الفراغ من العمرة ولو تحلل به عند فراغه بها لحصل الحلق قبل بلوغ الهدى محله وفي معنى الحلق التقصير فيمتنع كما يمتنع الحلق قبل بلوغ الهدى محله وحينئذ يؤخذ من هذا التمسك بالقياس كما نبه عليه الشيخ تقي الدين مع أن النص لم يرد إلاَّ في الحلق. فلو وجب الاقتصار على النص لم يمكن التحلل من العمرة بالتقصير ويبقى النص معمولاً به في [منع] (¬3) الحلق حتى يبلغ الهدى محله فحيث حَكَم بامتناع التحلل من العمرة وعلل بهذه العلة دل ذلك على أنه أجرى التقصير [مجرى] (¬4) الحلق في امتناعه قبل بلوغ الهدى محله، مع أن النص لم يدل عليه بلفظه، وإنما ألحق به بالمعنى. خامس عشر: وقوله: "وحاضت عائشة -رضي الله عنها-" كان ابتداء حيضها يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشر ¬

_ (¬1) في ن هـ (التمتع). (¬2) سورة البقرة: آية 196. (¬3) في ن هـ (معنى)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام (3/ 573). (¬4) زيادة من ن هـ.

عام حجة الوداع وطهرها كان يوم السبت في يوم النحر ذكره ابن حزم في كتابه "حجة الوداع" (¬1). ¬

_ (¬1) حجة الوداع لابن حزم (314، 323). قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (2/ 176) فصل: وأما موضع حيضها، فهو بسرف بلا ريب، وموضع طهرها قد اختلف فيه، فقيل: بعرفة هكذا روى مجاهد عنها وروى عروة عنها أنه أظلّها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابن حزم على معنين، فطهر عرفة: هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال: لأنها قالت: تطهرت بعرفة، والتطهير غير الطهر، قال: وقد ذكر القاسم يوم طُهرها، أنه يوم النحر، وحديثه في "صحيح مسلم" قال: وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يومُ عرفة حائضاً، وهما أقرب الناس منها، وقد روى أبو داود: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه, عنها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين هلال ذي الحجة .... فذكرت الحديث، وفيه، فلما كانت ليلة البطحاء، طهرت عائشة وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال، وهذا محال إلاَّ أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة، ليست من كلام عائشة، فسقط التعلق بها, لأنها ممن دون عائشة، وهي أعلم بنفسها. قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة قلت: يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه: أحدها: أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة. الثاني: أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها، وحديثه فيها الإِخبار عنها. الثالث: أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث، وفيه: فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها، =

السادس عشر: قوله: "فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت" فيه دلالة على امتناع الحائض من الطواف إما لذاته أو لملازمته دخول المسجد. بخلاف سائر أعمال الحج وأنه لا تشترط الطهارة في بقية أعماله. السابع عشر (¬1): قوله: "غير أنها لم تطف بالبيت" يريد ولم تسع وتبين ذلك برواية أخرى صحيحة ذكر فيها "أنها بعد أن طهرت طافت وسعت" ويؤخذ من هذا أن السعي لا يصح إلاَّ بعد طواف صحيح فإنه لو صح لما لزم من تأخير الطواف بالبيت تأخير السعي، لأنها قد فعلت المناسك كلها غير الطواف [بالبيت] (¬2)، فلولا اشتراط تقدم الطواف على السعي لفعلت في السعي ما فعلت في غيره. من المناسك. وهذا الحكم متفق عليه بين أصحاب الشافعي ومالك. وزاد المالكية قولاً آخر: أن السعي لا بد أن يكون بعد طواف واجب. وإنما صححوه بعد طواف القدوم. لأنه عند القائل بصحة السعي بعده واجب لا مندوب [يخالف] (¬3) في أمر "من" الشرطية المذكورة، ووجوب طواف القدوم. ووقع في "الأساليب" (¬4) لإِمام الحرمين أن بعض أئمتنا، قال: ¬

_ = لكن قال مجاهد عنها: فتطهرت بعرفة، والقاسم قال: يوم النحر. اهـ كلامه. (¬1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 573). (¬2) زيادة من هـ. (¬3) في هـ (فخالف). (¬4) إمام الحرمين: هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ضياء الدين أبو المعالي. والكتاب متعلق بالخلاف.

لو قدم السعي على الطواف اعتد به وهو غلط. [السابع عشر] (¬1): قولها: "ينطلقون بحجة وعمرة" فهذه العمرة التي فسخوا الحج إليها والحج الذي أنشاؤه من مكة. وقولها: "وانطلق بحج" هذا يشعر بأنها لم تحصل لها العمرة إما لأنها لم تحلل بفسخ حجها الأول إلى العمرة، وإما لأنها فسخته ثم حاضت فيتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وإدراك الحج فأحرمت به فصارت قارنه والأول ظاهر قولها: "وانطلق بحج" لكنه لما ثبت في روايات أخر صحيحة اقتضت أن عائشة اعتمرت حيث أمرها -عليه الصلاة والسلام- بترك عمرتها ونقض راسها وامتشاطها، وبالإِهلال بالحج لما حاضت لامتناع التحلل من العمرة بوجوه منها: الحيض، ومنها: مزاحمة وقت الحج، ومنها: إتمام أعمال العمرة وهو الطواف، ودخول المسجد، وحُمل أمره بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها لا على رفضها بالخروج منها. ولم [يمكن] (¬2) رفض العمرة وأهلت بالحج مع بقاء العمرة فصارت قارنة فأشكل قولها: "ينطلقون بحجة وعمرة وانطلق بحج" إذ هي على التقدير التالي قد حصل لها حج وعمرة فهي قارنة فاحتاج العلماء إلى تأويل ذلك فقالوا: المراد ينطلقون بحج مفرد عن عمرة وعمرة مفردة عن حجه وانطلق بحج غير مفرد عن عمرة فأمرها -عليه الصلاة والسلام- بالعمرة ليحصل لها قصدها في عمرة ¬

_ (¬1) في ن هـ (الثامن عشر). انظر: إحكام الأحكام (3/ 575). (¬2) في ن هـ (يكن).

مفردة عن حج، وحج مفرد عن عمرة، والجمع بين الروايات ألجأهم إلى ذلك وإن كان الظاهر خلافها، بالنسبة إلى هذا الحديث وفي جميعه دلالة على الرد [على] (¬1) من يقول إن القران أفضل. [الثامن عشر] (¬2): قوله: "فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر" يعني أخا عائشة لأبويها وكان أكبر أولاد الصديق -رضي الله عنه- أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج وكان إحرامها بها ليلة الرابع عشر من ذي الحجة. والتنعيم: مكان عند طرف الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال، وقيل: أربعة من مكة وهو عند مسجد عائشة، قال الفاكهي: هناك مسجدان يزعم بعض المكيين أن الأدنى إلى مكة مهل عائشة وبعضهم زعم أنه الأقصى. قال المطرزي في المعرب (¬3): والتنعيم: مصدر نعمة إذا ترفه، قال: ومنه سمى التنعيم وهو موضع قريب من مكة، قال: والتركيب دال على اللين والطيب. وقال غيره: سمى بذلك لأنه عن يمينه جبلاً، يقال له: نعيم وعن شماله جبل، يقال له: ناعم، والوادي نعمان، والعلة في الإِحرام بالعمرة من الحل قصد الجمع بين الحل والحرم فيها كما وقع في الحج من الجمع بينهما فإِن عرفة من الحل والوقوف بها ركن ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ (التاسع عشر). (¬3) (2/ 313).

فإن لم يخرج إليه وأحرم بها من مكة أو من الحرم وأتى بأفعالها أجزأه في أظهر القولين للشافعي فإن خرج إلى الحل بعد إحرامه بها وقبل الطواف والسعي سقط الدم على أظهر الطريقين لأصحابه. وقال مالك: لا يصح. وشذ بعضهم: فشرط الخروج إلى التنعيم بعينه ولم يكتف بالخروج إلى مطلق الحل وليس بشيء بل المفهوم منه الخروج إلى مطلق الحل. وإنما أمر عائشة بالخروج مع أخيها للعمرة إلى التنعيم لقربه من الحرم فإنه أقرب جهات الحل من الحرم لا لعينه. [التاسع عشر] (¬1): في أحكام الحديث ملخصة على وجه الاختصار. الأول: استحباب التلبية، ورفع الصوت بها. الثاني: وجوب الإِحرام على من أراد الحج والعمرة أو هما. الثالث: أن السُّنة سوق الهدي من الميقات. الرابع: أن الأفضل الإِحرام بالحج مفرداً. الخامس: جواز إدخال العمرة على الحج ويصير قارناً وقد سلف ما فيه من الخلاف. السادس: أن من ساق الهدي لا يجوز له التحلل من العمرة. السابع: مخالفة الجاهلية في جواز الاعتمار في أشهر الحج. ¬

_ (¬1) في ن هـ (العشرون).

الثامن: أن العالم إذا حاول إحياء شرع أو سنة أن يتلطف في ذلك بالاستدراج دون البغتة. التاسع: جواز ترك الأفضل لمصلحة أهم منه وهي مراعاة موافقة الأصحاب إذا لم يكن محذور. العاشر: استعمال المبالغة للمقاصد الشرعية. الحادي عشر: جواز ذكر العلل في الأحكام. الثاني عشر: أن الحكم الخاص بزمن أو بشخص لعلة يصير عاماً وإن لم توجد العلة على قول من قال بأن النسخ ليس خاصاً بأولئك على ما تقدم. الثالث عشر: الاعتذار لمخالفة العادة. الرابع عشر: جواز تسمية السعي طوافاً. الخامس عشر: أن من عقل شيئاً من معاني الأحكام أن يذكرها للعلماء بها ليقروه عليها أو يردوه عنها. السادس عشر: جواز تمني الأمور الأخروية. السابع عشر: جواز استعمال "لو" فيها من غير كراهة ولا يكون تركاً للتوكل ولا مخالفة للقضاء والقدر. الثامن عشر: أن الحائض يصح منها جميع أفعال الحج غير الطواف بالبيت ومذهب الجمهور (¬1) أنه لا يجوز طواف المحدث ¬

_ (¬1) وهم المالكية، والشافعية، والحنابلة. انظر: القوانين الفقهية لابن جزي (116)، والمجموع (8/ 15، 17)، والمغني (4/ 390).

وصححه أبو حنيفة (¬1) وأحمد (¬2) في أحد قوليه ورأيا عليه الدم واعتذروا عن هذا الحديث بأنها إنما لم تطف بالبيت لأجل المسجد وهو عجيب (¬3). ¬

_ (¬1) الهداية (1/ 165)، والمبسوط (4/ 38). (¬2) الإِنصاف (3/ 16). (¬3) انظر إلى: خلاف العلماء في الاستذكار (12/ 171، 174). قال ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في مجموع الفتاوى (26/ 199) ثم تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف، ولا تجب فيه بلا ريب، وقال أيضاً: ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى، فإن الدلالة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه، وقال أيضاً (26/ 212) ولا يشترط للطواف شروط الصلاة، وهو قول أكثر السلف وهذا هو الصواب. وقال أيضاً في (26/ 199، 212) والمشترطون في الطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلاَّ قوله - صلى الله عليه وسلم - "الطواف بالبيت صلاة" وهذا لو ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لهم فيه حجة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب على الطائفين طهارة ولا اجتناب نجاسة بل قال: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها بالتكبير، وتحليلها التسليم"، والطواف ليس كذلك، فلا يجب فيه ما يجب في الصلاة، ولا يحرم فيه ما يحرم في الصلاة، فبطل أن يكون مثلها. وقد ذكروا من القياس أنها عبادة متعلقة بالبيت، فكانت الطهارة وغيرها شرطاً فيها كالصلاة، وهذا القياس فاسد، فإنه يقال: لا نسلم أن العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت، ولم يذكروا دليلاً على ذلك، والقياس الصحيح ما بين فيه أن المشترك بين الأصل، والفرع هو، علة الحكم =

التاسع عشر: أن المحرم لا يحل له الحلق أو التقصير حتى يشرع في أسباب التحلل بمحله. العشرون: تحريم المسجد على الحائض والطواف وغيره من الصلاة والاعتكاف وسواء خافت تلويثه أم لا. نعم يجوز لها العبور إن أمنت التلويث. الحادي والعشرون: جواز الخلوة بالمحارم. الثاني والعشرون: أنه لا يجوز سفر المرأة إلاَّ مع محرم وإن ¬

_ = أو دليل العلة والطهارة إنما وجبت لكونها صلاة سواء تعلقت بالبيت أم لم تتعلق، ألا ترى أنهم لما كانوا يصلون إلى الصخرة كانت الطهارة أيضاً شرطاً فيها, ولم تكن متعلقة بالبيت، كما هو الحال إذا صلَّى إلى غير القبلة في التطوع أثناء السفر، وكصلاة الخوف راكباً، فإن الطهارة شرطاً ليست متعلقة بالبيت، وأيضاً فالنظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت، ولا يشترط لها الطهارة، ولا غيرها ثم هناك عبادة من شرطها المسجد، ولم تكن الطهارة شرطاً فيها كالاعتكاف، وقد قال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}، فليس إلحاق الطائف بالراكع الساجد بأولى من إلحاقة بالعاكف، بل العاكف أشبه، لأن المسجد شرط في الطواف والعكوف، وليس شرطاً في الصلاة. فإن قيل: الطائف لا بدَّ أن يصلي ركعتين بعد الطواف، والصلاة لا تكون إلاَّ بطهارة، قيل: وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع وإذا قدر وجوبهما لم تجب فيهما الموالاة، وليس اتصالهما بالطواف بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ومعلوم أنه لو خطب محدثاً، ثم توضأ وصلَّى الجمعة جاز، فلأن يطوف محدثاً ثم يتوضأ، ويصلى الركعتين جاز بطريق الأولى. اهـ.

قصر السفر وتقييد السفر بيوم أو ليلة أو بهما في بعض الأحاديث خرج على الغالب. الثالث والعشرون: الجمع بين الحل والحرم في الإِحرام بالعمرة. الرابع والعشرون: أن الأفضل أن يحرم بها من الحل. الخامس والعشرون: أن من جهات الحل للإِحرام بها التنعيم وليس في الحديث دلالة على أنه أفضل الجهات للإِحرام بها وإن وقع في "التنبيه" أن الأفضل أن يحرم بها منه فقد غلطوه فيه وإنما الأفضل الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية وإنما أمرها -عليه الصلاة والسلام- بالإِحرام من التنعيم لقربه من الحرم وكان الركب على رحيل. السادس والعشرون: أن العمرة المستقلة لمن أفرد الحج وأراد فعلها لا تجوز إلاَّ بعد الفراغ من الحج. واختلف العلماء في جواز فعلها في أيام التشريق لمن تعجل في يومين فحرمه مالك وطائفة. وجوّزه [الإِمام] (¬1) الشافعي وطائفة: [مع] (¬2) الكراهة إما للخروج من خلاف العلماء وإما بخصوصية أيام التشريق وجواز الذبح والتضحية بها. ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (الإِمام). أشار إلى الخلاف في الاستذكار (11/ 252، 253). (¬2) في ن هـ (لمنع).

السابع والعشرون: أن تعيين الإِحرام أفضل من إطلاقه وهو الأصح عند الشافعي ووجه أخذه من الحديث قولها: "أهل بالحج". الثامن والعشرون: مشروعية حج الرجل بامرأته وهو إجماع وأجمعوا على أن له منعها من حج التطوع. وأما حج الفرض فقال الجمهور: ليس له منعها وهو أحد قولي الشافعي وأصحهما عنده له المنع لأن حقه على الفور والحج على التراخي. ***

الحديث الثاني

الحديث الثاني 260/ 2/ 50 - عن جابر [رضي الله عنه] (¬1) قال: قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: قوله: "ونحن نقول: لبيك بالحج"، أي بعضنا جمعاً بينه وبين الحديث الآخر من رواية عائشة [رضي الله عنها] (¬3) "فمنا من أهل بحج وما من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة" فإن أراد الراوي بقوله: "نحن" نفسه وبالنون في "قدمنا" نون العظمة فلا إشكال إذن. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري أطرافه (1085)، ومسلم (1216)، والنسائي (5/ 202)، وأبو داود (1788، 1789) في المناسك، باب: إفراد الحج، والبغوي (1872، 1878)، والبيهقي (5/ 41، 3، 18)، وأحمد (3/ 217، 305، 366)، والحميدي (1293). (¬3) زيادة من ن هـ.

[الثاني] (¬1): هذا الحديث دال على فسخ الحج إلى العمرة، وقد تقدم ما فيه في باب التمتع (¬2)، وإنما أمرهم -عليه الصلاة والسلام-[بذلك] (¬3) لبيان مخالفة الجاهلية في منعهم العمرة في أشهر الحج كما سبق هناك وكونه يفسخ الحج إليها أبلغ في تقرير جوازها فيه. الثالث: قد يستدل بهذا الحديث على ذكر ما أحرم به في تلبيته والأصح عند الشافعية لأنه لا يستحب لأن إخفاء العبادة أفضل. ووجه من قال: باستحبابه لأنه أبعد عن النسيان، ومحل الخلاف عندهم فيما عدا التلبية [المقرونة] (¬4) بالإِحرام، فأما تلك فيستحب أن يذكر فيها ما أحرم به كما قاله الجويني وأقره عليه النووي في "منسكه" (¬5) و"مجموعه" (¬6) وجزم به في "الأذكار" (¬7). [تنبيه] (¬8): فيه دلالة على وجوب الرجوع في بيان الأحكام إطلاقاً وتقييداً وعزيمة ورخصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى المبادرة إليه في ذلك جميعه لقوله: فجعلناها عمرة. ¬

_ (¬1) في ن هـ (ثانيها). (¬2) ص 240. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ (المقترنة). (¬5) متن الإِيضاح (40). (¬6) المجموع شرح المهذب (7/ 227). (¬7) (163). (¬8) في ن هـ (رابعها).

[الرابع] (¬1): وهم الصعبي في "شرحه" لهذا الكتاب فذكر الحديث المذكور من رواية عائشة ثم عقبه بالاختلاف في كيفية إحرامها فاجتنب ذلك، فإن الحديث [الذي ذكره المصنف إنما هو] (¬2) من رواية جابر، وكذا ذكره الشيخ تقي الدين ومن تبعه. ... ¬

_ (¬1) في ن هـ (تنبيه). (¬2) زيادة من ن هـ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 261/ 3/ 50 - عن عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما] (¬1) قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فقالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي الحل؟ قال: "الحل كله" (¬2). الكلام عليه وجوه: أحدها: هذا الحديث دال أيضاً على فسخ الحج إلى العمرة وبزيد أن المتحلل [بالعمرة] (¬3) تحلل كامل بالنسبة إلى جميع محظورات الإِحرام لقوله: "الحل كله"، وكأن سبب سؤالهم عن [ذلك] (¬4) استبعادهم بعض أنواع الحل وهو الجماع المفسد للإِحرام، فأزال -عليه الصلاة والسلام- استبعادهم ذلك بقوله: "الحل كله"، وقريب من هذا الاستبعاد قولهم في الحديث السالف: "ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر". ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري (1564)، ومسلم (1240)، وأحمد (1/ 252)، والنسائي (2870، 2871). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في ن هـ ساقطة.

[الثاني] (¬1): يؤخذ منه أن التابع إذا وقع في ذهنه التخصيص في لوازم المأمور به أن يسأل عنه مجملاً. الثالث: فيه البيان بالعموم من غير ذكر المراد في قوله: "صبيحة رابعة" أي من ذي الحجة وهو يوم الأحد فإنه -عليه الصلاة والسلام- قدم مكة يوم الأحد، وخرج منها يوم الخميس فوقف [الجمعة] (¬2). ... ¬

_ (¬1) في ن هـ (ثانيها). (¬2) في ن هـ ساقطة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 262/ 4/ 50 - عن عروة بن الزبير قال: سئل أسامة بن زيد، وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حين دفع؟ قال: كان يسير العنق. فإذا وجد فجوة نص (¬1). العمق: انبساط السير، والنص: فوق ذلك. الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه. أما أسامة بن زيد: فسلف التعريف به في باب دخول مكة. وأما عروة بن الزبير: فهو أبو عبد الله القرشي الأسدي أحد الفقهاء السبعة الحافظ الثبت التابعي الجليل البحر الذي لا تكدره الدلأ الصائم الدهر، وقد جمع الشرف من [وجوه] (¬2) فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صهره، والصديق جده، والزبير بن العوام والده، وأسماء أمه، ¬

_ (¬1) البخاري (1666)، ومسلم (1286)، وأبو داود (1923)، والنسائي (5/ 258)، والموطأ (848)، وابن ماجه (3017)، وأحمد (5/ 205، 210). (¬2) في ن هـ ساقطة.

وعائشة خالته، ومنها تفقه [وخديجة عمة أبيه] (¬1) روى عنه أولاده: عثمان، وهشام، وعبد الله، وغيرهم، وروى عن أبي هريرة وأبي أيوب الأنصاري وغيرهما، قال ابن طاهر: وانفرد البخاري بإخراج حديثه عن أبيه الزبير وأنكر ذلك عليه، وقيل: إنه لم يسمع من أبيه شيئاً، وقعت الآكلة برجله فنشرت فصبر واحتسب وما ترك حزبه [من القرأة] (¬2) تلك الليلة، ولد في خلافة: عثمان، وقيل: في آخر خلافة عمر، ومات وهو صائم سنة أربع وتسعين سنة الفقهاء ووقع في " [شرح] (¬3) الفاكهي" تبعاً للصعبي أن الكلاباذي [في] (¬4) "رجال البخاري" نقل عن البخاري عن [الفروي] (¬5) أنه مات سنة تسع وتسعين ومئة، أو مئة، أو إحدى ومئة، وهذا وهم فالذي في الكلاباذي عن الفروي مات سنة تسع وتسعين، ويقال: سنة مئة، ويقال: سنة إحدى ومئة فأسقط بعد قوله سنة تسع وتسعين لفظة، "ويقال": فاجتنبه. ثانيها: هذا السائل لا يحضرني اسمه بعد البحث عنه. ثالثها: هذا الحديث أجنبي عن الباب لا تعلق له بفسخ الحج إلى العمرة كما نبهنا عليه أول الباب، وإنما يتعلق بصفة سيره -عليه الصلاة والسلام- عند دفعه من عرفة لا غير، وقد ترجم ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ (من). (¬5) في ن هـ (العدوى).

البخاري (¬1) عليه بذلك فقال: باب السير إذا دفع من عرفة. رابعها: "العَنق" بفتح العين المهملة، ثم نون، ثم قاف، وقد فسره المصنف بأنه انبساط السير. وعبارة الجوهري (¬2) فيه: ضرب من [سير] (¬3) الدابة والإِبل وهو سير [مسبطر] (¬4) أي ممتد، وقد أعنق الفرس، وفرس معناق، أي جيد، العنق -يريد بفتح العين أيضاً-. وعبارة القرطبي في "مفهمه" (¬5): العنق سير فيه رفق. وعبارة صاحب "المطالع" أنه سير سهل في سرعة ليس بالشديد. "والنَصّ": بفتح النون والصاد المهملة المشددة، وقد فسره المصنف وهو تفسير هشام بن عروة كما أخرجه البخاري ومسلم عنه إثر الحديث. وعبارة الأصمعي: أنه السير الشديد حتى يستخرج أقصى ما عند الناقة، ومنه: نصنصت الشيء رفعته، ومنه أيضاً: منصة العروس ونصنصت الحديث إلى فلان أي رفعته إليه، وسير نص ونصيص، ونص كل شيء منتهاه [وكذا] (¬6) قال صاحب "المطالع": معنى نص ¬

_ (¬1) البخاري في الفتح (3/ 518). (¬2) الصحاح مادة (عنق). (¬3) في الأصل (السير)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) في فقه اللغة للثعالبي (190) (مسبطر). (¬5) المفهم (3/ 392). (¬6) في ن هـ (ولهذا).

رفع في سيره وأسرع قال: وقد جاء في الحديث مفسرًا وكأنه أراد ما قدمناه عن هشام بن عروة. قال: والنص منتهى الغاية في كل شيء. وقال أبو عبيدة: النص التحريك. وقال القرطبي: النص أرفع السير. وقال النووي: هو والعنق نوعان من [أنواع] (1) السير، وفي العنق نوع من الرفق، وتبعه الشيخ تقي الدين (2) فقال: هما ضربان من السير والنص أرفعهما. وعدد الثعالبي في "فقه اللغة" (3) أنواع السير، فقال: نقلًا عن الأصمعي [العنق] (4) من السير [المسبطر] (7) فإذا ارتفع عنه قليلًا فهو [التزيد] (6)، فإذا ارتفع عن ذلك فهو [الذميل] (7) فإذا ارتفع عن ذلك فهو الرسيم، فإذا أدرك المشي، وفيه قرمطة فهو الحفد، فإذا ارتفع عن ذلك وضرب بقوائمه كلها فذلك [الارتباع] (8) والالتباط، فإذا لم يدع جهدًا فذلك [الإِدرنفاف] (9).

_ (1) في شرح مسلم (9/ 34) (إسراع) فلتصحح. (2) إحكام الأحكام (3/ 578). (3) فقه اللغة للثعالبي (190). (4) في ن هـ ساقطة. (5) في ن هـ (المستبطر)، وما أثبت من الأصل، ويوافق فقه اللغة (190). (6) في ن هـ (التبريد)، وما أثبت من الأصل، ويوافق فقه اللغة (190). (7) ما أثبت يوافق التلخيص والمخصص (7/ 114)، ون هـ (الدميل)، وما أثبت من فقه اللغة. (8) في ن هـ (الارتفاع)، وما أثبت من الأصل، وفقه اللغة. (9) في الأصل (الإِذزنفاق)، ون هـ (الإِدرنفاق)، وما أثبت من فقه اللغة.

وحكى (1) قبله (2) قوله عن النضر بن شميل أول السير الدبيب، ثم التزيد، ثم [الزميل] (3) ثم الرسيم، ثم الوخذ، ثم [العسيج] (4) [ثم] (5) [الوسيج] (6) ثم الوجيف، ثم الرتكان، ثم [الإِجمار] (7) ثم الإِرقال. وقال العسكري في "تلخيصه" (8): العَنَقُ [الفَسِيحُ] (9). [والمُسْبَطِرُّ] (10) أوسع منه. والتَّزيُّدُ [فوقه] (11) والذميل (12) فوق التزيد [والرتك: تقارب الخطو] (13) ومُدَاَركَةُ النِّقال والرَّسِيف: تقارب الخطو، [والحفد] (14) مشي فيه قرمطة، والهملجة معروفة،

_ (1) في الأصل زيادة (في). (2) انظر: فقه اللغة (189). (3) في الأصل (الذميل) ون هـ، وما أثبت من فقه اللغة. (4) في ن هـ (القبيح). (5) في الأصل ون هـ (بالواو)، وما أثبت من ن هـ. (6) في الأصل (الوسج)، ون هـ الوسح وما أثبت من فقه اللغة. (7) في الأصل (الأجاز). (8) في ن هـ (الفسيج). (9) في ن هـ (المستبطر). (10) في التلخيص زيادة (فوق ذلك تزيدت فهي تتزيد). (11) ما أثبت يوافق التلخيص والمخصص (7/ 114). (12) في ن هـ (والوسح)، ولعله الوسيج كما مر يقارب الحزو. (13) في المطبوع خطأ حقد وما أثبت من فقه اللغة وسياق الكلام بعده في التلخيص.

فإذا زادت عليها فهو المرفوع، فإذا ارتفع عن ذلك قيل دَأْدَأْ يُدَأْدِيُّ دَأْدَأْةً، والاسم: الدِّئْدَاءُ، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الالْتِبَاطُ، فإذا لم يدع جُهْداً قيل: تَشَفَّرَ تَشَفُّراً فإذا [رَقَّقَ] (¬1) قيل: مشى مشياً [رُقاقاً] (¬2) فإذا مَرَّ مَرّاً خفيفاً قيل مَلَعَ يَمْلَعُ مَلْعاً ثم بسط باقي أنواع السير. خامسها: "الفجوة" المكان المتسع ورواه بعض رواة الموطأ "فرجة" بضم الفاء وفتحها بمعنى الفجوة. ووقع في "شرح الصعبي" أن بعض الرواة رواه "فوجة" بتقديم الواو وبفتح الفاء وضمها [وأنه] (¬3) بمعنى الفرجة، والظاهر وهمه في ذلك وصوابه ما أسلفناه ومشَّى ابن العطار في "شرحه" على الصواب، فقال: وفي بعض نسخ "الموطأ" (¬4) "فرجة" بضم الفاء وفتحها، وبالراء قبل الجيم وهو بمعنى الفجوة. سادسها: فقه الحديث. استحباب الرفق في السير في حال الزحام والإِسراع عند وجود الفرجة مع اقتصاد لما جاء في حديث الفضل في "صحيح مسلم" (¬5) "عليكم بالسكينة"، وذلك ليبادر إلى المناسك ويتسع له الوقت، ¬

_ (¬1) في الأصل (أوثق)، في ن هـ (ترفق)، وما أثبت من التلخيص و. (¬2) في ن هـ (رفاقاً). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: الاستذكار (13/ 69). (¬5) مسلم (1282)، والنسائي (5/ 258، 269)، وابن خزيمة (2843)، 2860)، والبيهقي (5/ 127)، وأحمد (1/ 210، 213).

وهذا بدل [على أن] (¬1) أصل المشروعية في ذلك الموضع الإِسراع لكن رفق [به] (¬2) في حال الزحام. وفيه من الفقه أيضاً: الحرص على السؤال عن حاله -عليه الصلاة والسلام- في حجته وأموره الواقع فيه منه في حركاته وسكناته ليقتدى به فيه وليمثل قوله تعالى [في حقه] (¬3) {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬4). وفيه أيضاً: جواز الرواية والتحمل لمن سمع شيئاً وإن لم يسئل عنه ولا قصد المجيب بروايته إياه. فائدة: السنة في الانصراف من عرفة إلى مزدلفة أن يكون على طريق المأزمين وهو بين العلمين اللذين هما حد الحرم من تلك الناحية. والمأزم: الطريق بين الجيلين، قال عطاء: وهي طريق موسى أيضا - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع النبيين والمرسلين. ... ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) سورة آل عمران: آية 31.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 263/ 5/ 50 - عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال: [رجل] (¬2) لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح، ولا حرج"، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم، ولا حرج" فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا آخر إلاَّ قال: "افعل، ولا حرج" (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري في أطرافه (82)، ومسلم (1306)، والترمذي (916، 917)، وابن ماجه (3051)، وأبو داود (2014) في المناسك، باب: فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه، وابن الجارود (487، 488)، والدارمي (2/ 64، 65)، والطيالسي (2285)، وأحمد (2/ 155، 160، 202، 210، 217)، والبيهقي (5/ 140، 141)، والبغوي (1963)، ومالك (1/ 421)، والحميدي (580)، والطحاوي (2/ 237). وورد من رواية ابن عباس البخاري (84)، والنسائي (5/ 272)، ومسلم (1307)، والنسائي (5/ 272). ومن رواية جابر: أحمد (3/ 185، 326)، وابن ماجه (3052)، =

الكلام عليه عن جوه: الأول: هذا الحديث ثابت في الصحيحين من هذا الوجه [أعني] (¬1) من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص، واللفظ للبخاري. وذكره الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬2) من طريق عبد الله بن عمر، وتبعه ابن العطار والفاكهي وغيرهما. وهو غلط وصوابه ما أسلفناه، ولم يذكره الحميدي في "جمعه بين الصحيحين"، ولا عبد الحق في "جمعه" أيضاً [من] (¬3) هذا الوجه (¬4). الثاني: لم يذكر المصنف في روايته موضع وقوفه -عليه الصلاة والسلام- وسؤال الناس إياه فيه، ولم يعينه البخاري في روايته لحديث ابن عمر وعينه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه في حال خطبته بمنى ذكره في كتاب العلم من صحيحه وفي رواية [له هنا أنه] (¬5) يوم النحر، وكانت بمنى كما ذكره من حديث ابن عباس، وفي رواية له أنه كان واقفاً على ناقته. ¬

_ = والبيهقي (5/ 143). (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام (3/ 578)، سياقه في المطبوع لدى ابن عمرو. ونبه الصنعاني على وجود ذلك في بعض النسخ عن ابن عمر. (¬3) في ن هـ (في). (¬4) انظر: تصحيح العمدة للزركشي (ص 107) من مجلة الجامعة الإِسلامية. (¬5) ساقطة من هـ.

ورواه مسلم -أعني- حديث عبد الله بن عمر [(¬1)] بألفاظ. أحدها: " [أن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) بينما هو يخطب يوم النحر فقام إليه رجل". ثانيها: "وقف [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) في حجة الوداع، بمنى، للناس يسألونه". ثالثها: "وقف [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬4) على راحلته. فطفق ناس يسألونه". رابعها: "وهو واقف عند الجمرة". وجمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد عند الجمرة. والصواب: ما أبداه القاضي عياض (¬5) احتمالاً أن ذلك في موضعين: أحدهما: أنه وقف على راحلته عند الجمرة، ولم يقل في هذا خطب وإنما فيه "وقف" و"سُئل". والثاني: بعد صلاة الظهر يوم النحر وقف للخطبة فخطب وهي ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (واو). (¬2) في الأصل ون هـ أنه كان -عليه الصلاة والسلام-: (كان)، ساقطة من ن هـ، وما أثبت يوافق صحيح مسلم. (¬3) زيادة من صحيح مسلم. (¬4) زيادة من صحيح مسلم. (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 405).

إحدى خطب الحج الأربع المشهورة يعلمهم فيها ما بين أيديهم من المناسك (¬1). قلت: [ورواية] (¬2) ابن عباس في الصحيحين (¬3) "رميت بعد ما أمسيت، قال لا حرج"، يدل على أن السؤال وقع ليلاً أو في يوم القر وهو أول أيام التشريق. الثالث: لم أر بعد البحث تعيين السائل في هذا الحديث فليتتبع. الرابع: معنى "لم أشعر" لم أفطن. قال الجوهري (¬4): [شعرت] (¬5) بالشيء بالفتح [أشعرته] (¬6) شِعْراً (¬7) أي [فطنت] (¬8) له. ¬

_ (¬1) خطب الحج أربع: الأولى: يوم السابع من ذي الحجة بمكة عند الكعبة، والثانية: بنمرة يوم عرفة، والثالثة: بمنى يوم النحر، والرابعة: بمنى في الثاني من أيام التشريق. وكلها خطبة فردة وبعد صلاة الظهر إلاَّ التي بنمرة فإنها خطبتان وقبل صلاة الظهر وبعد الزوال. اهـ. من شرح مسلم (9/ 57). (¬2) في الأصل (ورواه)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) البخاري في أطرافه (84)، ومسلم (1307)، والنسائي (5/ 272)، وابن ماجه (3050)، والبغوي (1964)، وأحمد (1/ 216، 310، 358)، والبيهقي (5/ 143). (¬4) مختار الصحاح (146)، مادة: (ش، ع، ر). (¬5) في مختار الصحاح (شَعَر). (¬6) في المرجع السابق (يَشْعُر). (¬7) في المرجع السابق زيادة بالكسر. (¬8) في المرجع السابق (فطن).

ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمته. قال سيبويه: أصله شعره ولكنهم حذفوا الهاء. وقال الشيخ تقي الدين (¬1): الشعور العلم. وأصله: من المشاعر، وهي الحواس. فكأنه يستند إلى الحواس. أي في عدم العلم. الخامس: "النحر" ما يكون في اللبة. "والذبح": ما يكون في الحلق. "والحرج": [معناه] (¬2) الإِثم، وهو من الألفاظ المشتركة فإنه الضيق أيضاً والناقة الضامرة، ويقال: الطويلة على الأرض. قال الجوهري: والحرج: خشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى وربما وضع فوق نعش النساء. والحرج: أيضاً جمع حرجة وهي الجماعة من الإِبل، والحرجة: أيضاً مجمع شجر. والجمع: حرج، وحرجات، وحراج. السادس: وظائف يوم النحر أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، والأضحية، أو ذبحها، ثم حلق، أو تقصير، ثم طواف الإِفاضة هذا هو الترتيب [المشروع] (¬3) فيها ولم يختلفوا في ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 579). (¬2) في ن هـ (هنا). انظر: المنجد في اللغة (177). (¬3) في ن هـ ساقطة.

[كيفية] (¬1) هذا الترتيب وجوازه على هذا الوجه إلاَّ أن ابن الجهم (¬2) المالكي يرى أن القارن لا يجوز له الحلق قبل الطواف، وكأنه رأى أن القارن حجه وعمرته قد تداخلا والعمرة قائمة في حقه ولا يجوز فيها الحلق قبل الطواف وقد يشهد لهذا قوله -عليه الصلاة والسلام- في القارن "حتى يحل منهما جميعاً" فإنه يقتضي [أن] (¬3) الإِحلال منهما يكون في وقت واحد فإِذا حلق قبل الطواف فالعمرة قائمة بهذا الحديث فيقع الحلق فيها قبل الطواف، وفي هذا الاستشهاد نظر، ورد عليه النووي (¬4) بنصوص الأحاديث والإِجماع المتقدم عليه [وعزاه] (¬5) الشيخ تقي الدين إلى بعض المتأخرين وعني [به] (¬6) إياه، ثم قال: وكأنه يريد بالنصوص ما ثبت عنده أنه -عليه الصلاة والسلام- كان قارناً في آخر الأمر، وأنه حلق قبل الطواف، وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصي عند الجمهور، أو كثيراً، أعني كونه -عليه الصلاة والسلام- قارناً، وابن الجهم بني على مذهب مالك والشافعي. ومن قال بأنه -عليه الصلاة والسلام- كان مفرداً (¬7)، وأما الإِجماع فبعيد الثبوت، إن أراد به الإِجماع النقلي القولي، وإن أراد السكوتي: ففيه نظر، وقد ينازع فيه أيضاً. ¬

_ (¬1) في الأصل ون هـ (طله)، رما أثبت من هامش ن هـ. (¬2) هو أبو بكر بن الجهم ت (329) ترجمته في ترتيب المدارك (5/ 19) شجرة النور (78). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) شرح مسلم (9/ 51). (¬5) في ن هـ (وعبارة). (¬6) في ن هـ ساقطة. (¬7) انظر: حاشية الصنعاني (3/ 580).

ونقل اللخمي المالكي أن ابن الجهم إنما يقول ذلك في القارن المراهق الذي أخر الطواف والسعي وفرق بينه وبين غير المراهق بأنه قد طاف لعمرته وسعى ولم يبق عليه من عملها شيء، وكل ما يفعله بعد الطواف والسعي الأولين [فإنما] (¬1) هو من عمل الحج خاصة والعمرة قد انقطعت فيحلق كما يحلق الحاج. وإذا ثبت أن الوظائف أربع في هذا اليوم. فقد اختلفوا فيما إذا قدم بعضها على بعض فاختار الشافعي جواز التقديم وجعل الترتيب مستحباً (¬2). ومالك وأبو حنيفة (¬3): يمنعان تقديم الحلق على الرمي لأنه حينئذ يكون حلقاً قبل وجود أحد التحللين، وللشافعي قول مثله كذا حكاه الشيخ تقي الدين وهو وجه لأصحابه أنه يمتنع تقديم الحلق على الرمي والطواف نصاً، وحكاه النووي كذلك في "شرحه" (¬4) قولاً، وقد بنى الخلاف على أن الحلق نسك أو استباحة محظور. فان قلنا بالأول: جاز تقديمه على الرمي لأنه يكون من أسباب التحلل. وإن قلنا بالثاني: فلا لما تقدم قاله صاحب "البيان" من الشافعية، وكذا النووي في "شرحه لمسلم" (¬5). ¬

_ (¬1) في ن هـ (فإنه هو). (¬2) وهو اختيار الإِمام أحمد ذكره في المغني (3/ 472). (¬3) الاستذكار (13/ 321). (¬4) شرح مسلم (9/ 55). (¬5) شرح مسلم (9/ 55).

قال الشيخ تقي الدين: وفي البناء نظر، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكاً أن يكون [سبباً] (¬1) من أسباب التحلل، ومالك يرى أن الحلق نسك، ويرى -مع ذلك- أنه لا يقدم على الرمي، إذ معنى كون الشيء نسكاً أنه مطلوب يثاب عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون سبباً للتحلل. ونقل عن الإِمام أحمد: أنه إن قدم بعض هذه الأشياء على بعض فلا شيء عليه إن كان جاهلاً، وإن كان عالماً ففي وجوب الدم روايتان، وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قوي، كما قال الشيخ تقي الدين: من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج بقوله: "خذوا عني مناسككم". وهذه الأحاديث المرخصة في التقديم لما وقع السؤال عنه، وإنما [قويت] (¬2) بقول السائل "لم أشعر" فتخصيص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج ويتأيد ذلك برواية مسلم. "فما سمعته يومئذ سئل عن أمر مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلاَّ قال [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) أفعلوا ذلك ولا حرج". ومن قال بوجوب الدم في العمد والنسيان: عند تقديم الحلق على الرمي فإنه يحمل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا حرج" على نفي الإِثم في التقديم مع النسيان، ولا يلزم من نفي الإِثم نفي ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في إحكام الأحكام (إنما قرنت). (¬3) زيادة من مسلم مع النووي (9/ 56).

وجوب الفدية. قاله المازري (¬1) المالكي، وحمله المخالف على نفي الإِثم والفدية جميعاً، قال النووي في "شرح مسلم" (¬2): وهو الظاهر، واعترض [عليه] (¬3) الشيخ تقي الدين (¬4) فقال: كذا ادعاه بعض الشارحين عني به إياه، وفيما ادعاه من الظهور نظر، وقد ينازعه خصومه فيه بالنسبة إلى الاستعمال العرفي، فإنه قد استعمل "لا حرج" كثيراً في نفي الإِثم، وإن كان من حيث الوضع اللغوي يقتضي نفي الضيق. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬5) [أي من ضيق] (¬6) وهذا البحث كله إنما يحتاج إليه بالنسبة إلى الرواية التي جاء فيها السؤال عن تقديم الحلق على الرمي. وأما على الرواية التي ذكرها المصنف فلا تعم من أوجب الدم وحمل نفى الحرج على نفي الإِثم، فيشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم، فإن الحاجة تدعو إلى [بيان] (¬7) هذا الحكم، فلا يؤخر عنها بيانه، قال: ويمكن أن يقال: [إن] (¬8) ترك ذكره في الرواية لا يلزم منه ترك ذكره في نفس الأمر وأما من أسقط الدم، وجعل ذلك ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 99). (¬2) (9/ 55). (¬3) في ن هـ (علي). (¬4) إحكام الأحكام (3/ 582). (¬5) سورة الحج: آية 78. (¬6) في ن هـ ساقطة. (¬7) في إحكام الأحكام (تبيان). (¬8) في ن هـ (إذا).

مخصوصاً بحالة عدم الشعور فإنه يحمل "لا حرج" على نفي الإِثم والدم معاً، فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، ومشى أيضاً على القاعدة في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبراً لم يجز إطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه به، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة. والحكم علق به، فلا يمكن إطراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه. فإن تمسك بقول الراوي "فما سئل عن شيء قُدّم ولا أخر إلاَّ قال: افعل، ولا حرج"، فإنه قد يشعر بأن الرتيب مطلقاً غير مراعياً في الوجوب. فجوابه: أن الراوي لم يحك لفظاً عاماً عن الشارع يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقاً. وإنما أخبر بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا حرج" بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ، وهذا الإِخبار من الراوي [(¬1)] إنما تعلق بما وقع السؤال عنه. وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال وكونه وقع عن العمد أو عدمه. والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه. فلا يبقى حجة في حال العمد. السابع: مشهور مذهب مالك أنه لا فدية على من حلق قبل الذبح لظاهر هذا الحديث، ويحمل قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} أي وصوله إلى منى. وخالف ابن الماجشون فقال: يجب عليه وحمل قوله -عليه ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (واو).

الصلاة والسلام-: [لا حرج] (¬1) على نفي الإِثم لا الفدية كما سلف، وقد عرفت ما فيه. واختلف قول مالك (¬2) إذا قدم طواف الإِفاضة على الرمي فقيل يجزيه، وعليه الهدى وتؤيده رواية مسلم: "أفضت إلى البيت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج"، وقيل: لا يجزيه وهو كمن لم يفيض. وقيل: يعيده بعد الرمي والنحر، وكذلك إذا رمى ثم أفاض قبل الحلق، فقال: مرة يجزيه، وقال: مرة يعيد الإِفاضة بعد الحلق، وقال في "الموطأ": أحب إلى أن يهريق دماً، وإن قدمها على الذبح وقد أنصف القاضي عياض [المالكي] (¬3) فقال: إن ظاهر الحديث مع الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث في جماعة من السلف في أنه لا شيء عليه في الجميع قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر، وتبعه القرطبي (¬4) على ذلك، فقال: الظاهر من الأحاديث مذهب الشافعي وأصحاب الحديث. وهو كما قالا لكنه ظاهر في الجاهل والناسي دون العامد، وقد أسلفنا عن أبي حنيفة (¬5) وجوب الدم على من حلق قبل الرمي، وكذا نقل عنه في حق من حلق قبل الذبح وخالفاه صاحباه, وقال: إن كان قارناً فحلق [قبل] (¬6) يوم النحر فدمان ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: الاستذكار (13/ 322). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) المفهم (3/ 409). (¬5) الاستذكار (13/ 324). (¬6) زيادة من ن هـ.

وخالفه (¬1) زفر، فقال: عليه ثلاثة وفي رواية شاذة (¬2) عن ابن عباس وجوب الدم على من قدم شيئاً من النسك أو أخره، ونحوه عن ابن جبير وقتادة (¬3) والحسن والنخعي ولم يختلفوا فيمن نحر قبل الرمي أنه لا شيء عليه. الثامن: معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إرم ولا حرج" افعل ما بقي عليك وقد أجزاك ما فعلته ولا حرج عليك في التقديم [أو] (¬4) التأخير لا أنه أمر بالإِعادة كأنه قال افعل ذلك كما فعلته أو متى شئت، ولا حرج عليك لأن السؤال إنما كان عما مضى وتم. وقوله: "فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن شيء قدم ولا أُخر" يعني من هذه الأربعة. التاسع: ترجم البخاري على هذا الحديث: "باب الفتيا، وهو واقف على الدابة [و] (¬5) غيرها" (¬6) ثم ترجم فقال: " [باب] (¬7) من أجاب الفتيا بإِشارة اليد والرأس" (¬8)، ثم روى من حديث ابن عباس ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المرجع السابق. قال عنها ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه-: ليست الرواية عنه بذلك بالقوية. اهـ. (¬3) المرجع السابق. (¬4) في ن هـ (و). (¬5) في الأصل (أو)، وما أثبت من ن هـ وصحيح البخاري. (¬6) الفتح (1/ 180). (¬7) زيادة من ن هـ والبخاري. (¬8) الفتح (1/ 181).

أنه -عليه الصلاة والسلام- سئل في حجته. فقال: ذبحت قبل أن أرمي، فأومأ بيده [قال] (¬1) ولا حرج. وقال: حلقت قبل أن أذبح، فأومأ بيده: "ولا حرج"، وفي رواية له من حديث ابن عباس أيضاً "زرت قبل أن أرمي، قال: لا حرج [قال] (¬2): رميت بعد ما أمسيت قال: لا حرج". العاشر: يؤخذ من الحديث وجوب اتباع أفعاله -عليه الصلاة والسلام- فإنهم لما خالفوا ترتيبه سألوا عنه ووجوب البيان على المسؤول إذا علم الحكم في المسؤول عنه. خاتمة: روى الهروي (¬3) في "صحيحه المستدرك على الصحيحين" (¬4) على ما عزاه إليه المحب [الطبري] (¬5) في "أحكامه"، والدارقطني (¬6) أيضاً عن أسامة بن شريك، قال: خرجت مع ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري. (¬2) زيادة من الصحيح (3/ 559، 568). (¬3) هو الحافظ الإِمام، المجود الشيخ الحرم أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله المعروف ببلده بابن السماك الهروي المالكي، راوي الصحيح عن المستملي والحموي والكشميهيني مات بمكة في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، ترجمته في تاريخ بغداد (11/ 141)، وتبيين كذب المفتري (255، 256)، وسير أعلام النبلاء (17/ 554). (¬4) له مؤلفان على الصحيحين، أحدهما: "مستدرك" لطيف على "الصحيحين" في مجلد، وهو هذا. والثاني: الصحيح المسند المخرج على الصحيحين. (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) سنن الدارقطني (2/ 251).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجاً فكان الناس يأتونه، فمن قائل يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف بالبيت، أو أخرت شيئاً، أو قدمت شيئاً. فكان يقول [لهم] (¬1) لا حرج [...] (¬2) إلاَّ [رجل] (¬3) اقترض عرض مسلم وهو [ظالم] (¬4) [فذاك] (¬5) الذي حرج وهلك". وقوله: "سعيت قبل أن أطوف بالبيت"، يحمل على تقديمه مع طواف القدوم وشذ عطاء فأخذ بظاهره فاعتد بالسعي قبل الطواف، وهو من أفراده. وقوله: "اقترض" روى بالقاف والضاد من القرض أي نال منه وعابه، وبالفاء والصاد المهملة وهو القطع أيضاً والمعراض الحديدة التي يقطع بها الفضة. ... ¬

_ (¬1) زيادة من الدارقطني. (¬2) في الأصل ون هـ زيادة (لا حرج). (¬3) في الأصل ون هـ (من)، وما أثبت من الدارقطني. (¬4) في الأصل (ظاهر)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) في الأصل ون هـ (فذلك)، وما أثبت من الدارقطني.

الحديث السادس

الحديث السادس 264/ 6/ 50 - عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، أنه حج مع ابن مسعود، فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه [سورة] (¬1) البقرة - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها (¬3): في التعريف براويه. وأما ابن مسعود: فتقدم [الكلام عليه] (¬4) في باب المواقيت. وأما عبد الرحمن: هذا فهو كوفي تابعي ثقة وهو أخو الأسود سمع عثمان وابن مسعود وغيرهما، وعنه ابنه محمد وأبو إسحاق الهمداني وغيرهما، في وفاته قولان: ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ (والبخاري). (¬2) البخاري في أطرافه (1747)، ومسلم (1296)، والنسائي (5/ 273)، وأبو داود (1974) في المناسك، باب: في رمي الجمار، والترمذي (901)، وابن ماجه (3030)، والطيالسي (319، 320)، وابن خزيمة (2880)، وابن الجارود (475)، وأحمد (1/ 415)، والبيهقي في معرفة السنن (7/ 50/ 10). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) زيادة من ن هـ.

أحدهما: سنة ثلاث وسبعين، قاله يحيى بن بكير. والثاني: سنة ثلاث وثمانين في الجماجم، قاله الفلاس. والنخعي: -بفتح النون والخاء، ثم عين مهملة- نسبة إلى النخع وهي قبيلة كبيرة من مذحج. اسم النخع: جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وقيل له النخع، لأنه انتخع من قومه أي بعد عنهم، نزل بيشة ونزلوا في الإِسلام الكوفة. ينسب إليهم من العلماء الجم الغفير، منهم عبد الرحمن هذا وأخوه علقمة وإبراهيم. الثاني: المراد "بالجمرة الكبرى": جمرة العقبة، وليست من منى، بل هي حد منى من الجانب الغربي جهة مكة وهي التي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الإِسلام والهجرة. والجمرة: اسم لمجتمع الحصى، لا ما سال منه، ولماذا سميت [جمرة] (¬1) فيه أقوال: أحدها: لاجتماع الناس بها يقال: تجمر بنو فلان إذا اجتمعوا ومنه نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن التجمر أي اجتماع الرجال والنساء في الغزوات (¬2). ثانيها: أن إبراهيم، وقيل: آدم لما عرض له إبليس هناك ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) ورد في النهاية عن عمر -رضي الله عنه- بلفظ: "لا تجمروا الجيش، فتفتنوهم" تجمير الجيش: جمعهم في الثغور وحبسهم عن أهليهم. اهـ. (1/ 292)، ولسان العرب (2/ 351).

فحصبه جمر بين يديه -أي أسرع (¬1). ثالثها: [لأنها تجمر] (¬2) بالحصى والعرب تسمى الحصى الصغار جماراً فيكون من باب تسمية الشيء بلازمه كالغائط، والراوية. رابعها: في الحديث إثبات رمي جمرة العقبة، وقد أجمعوا على أن الحاج يرميها يوم النحر، وهو واجب يجبر بدم وسماه المالكية سنة مؤكدة. وقال عبد الملك منهم: إنه ركن، فإن تركه بطل حجه كسائر الأركان. وحكى ابن جرير: عن بعض الناس أن رمي الجمار إنما شرع حفظاً للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه، ونحوه عن عائشة وهو خلاف شاذ. تنبيهات: أحدها: رمي جمرة العقبة أحد أسباب التحلل وهي ثلاثة: أحدها: رميها يوم النحر. ثانيها: طواف الإِفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى. ثالثها: الحلق إذا قلنا أنه نسك وهو الصحيح عندنا. ثانيها: يدخل وقت رمي جمرة العقبة بنصف الليل ويبقى إلى ¬

_ (¬1) انظر: النهاية (1/ 292)، ولسان العرب (2/ 351). (¬2) في ن هـ (لا تجمر).

آخر يوم النحر وفي امتداده تلك الليلة وجهان أصحهما في الرافعي و"الروضة" (¬1) لا لعدم وروده. والثاني: نعم تشبيهاً بالوقوف، وصححه النووي في "مناسكه الكبرى" في الكلام على رمي أيام التشريق. ووقع في الرافعي: نقلاً عن الأئمة أن وقته إلى الزوال، وينبغي أن يحمل على الفضيلة وبه صرح الماوردي (¬2). ولو تركه ففي تداركه في أيام التشريق. [طريقان أصحهما: نعم ولو تركه حتى فاتت أيام التشريق] (¬3) فعليه دم. واتفقوا (¬4): على أنه بخروج أيام التشريق يفوت الرمي. إلاَّ ما قاله أبو مصعب أنه يرمي متى ما ذكر كمن نسي صلاة يصليها متى ذكرها. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يدخل وقت الرمي إلاَّ بطلوع الفجر ووافقهما أحمد. ثالثها: جمرة العقبة تمتاز عن غيرها بأربعة أشياء: [الأول] (¬5): ترمي قبل زوال الضحى. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (3/ 108). (¬2) الحاوي (5/ 259). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) الاستذكار (13/ 223). (¬5) في ن هـ (أنها).

الثاني: أنها ترمى من أسفلها استحباباً ويجزىء من أعلاها وأوسطها وما عداها فمن أعلاها. الثالث: أنه لا يرمي يوم النحر غيرها. الرابع: أنه لا يوقف عندها للدعاء. الوجه الرابع: من الكلام على الحديث فيه أيضاً أن الرمي بسبع حصيات, وهو إجماع، فإن رماها بأقل وفاته جبر ذلك وكان عليه دم عند مالك والأوزاعي، وعزى إلى الجمهور أيضاً. وذهب الشافعي وأبو ثور: إلى أن على تارك حصاة مد من طعام، وفي اثنين مدين، وفي ثلاثة فأكثر دم. وقال أبو حنيفة [وصاحباه] (¬1): إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث، ففي كل حصاة نصف صاع وإن كان أكثر من نصفها فعليه دم. وقال مالك: إن نسي جمرة [العقبة] (¬2) تامة أو الجمار كلها فعليه بدنة فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة. وقال البصريون: على ناسي الجمرة والجمرتين دم. وقال عطاء: فيمن رمى خمس، ومجاهد فيمن رمى بست لا شيء عليه (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ (وصباه). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) انظر: الاستذكار (13/ 223).

[فرع: يجزىء الرمي بكل ما يسمى حجراً فلا يجزىء اللؤلؤ وما ليس بحجر من طبقات الأرض كالنورة والزرنيخ ونحوهما] (¬1). فرع: السنة أن يكبر مع كل حصاة رافعاً صوته بالتكبير وهو مذكور في الصحيحين (¬2) في حديث ابن مسعود هذا وبه أخذ مالك والشافعي وعمل الأئمة كما نقله القاضي عياض، قال: وأجمعوا على أن من لم يكبر لا شيء عليه. الخامس: "منى" سلف الكلام عليها في الباب وغيره وهي بين جبلين [أحدها] (¬3) ثبير. والآخر: الصائغ. وليست جمرة العقبة منها كما تقدم ولا الوادي أيضاً، وذرع ما بين الجمرة والوادي سبعة آلاف ذراع ومئتا ذراع وعرضها من مؤخر المسجد الذي يلي الجبال إلى الجبل الذي بحذائه ألف ذراع وئلاثمائة ذراع ومن جمرة العقبة إلى الوسطى إلى الجمرة التي تلي المسجد ثلاثمائة ذراع وخمسة أذرع، قاله القاضي نجم الدين القمولي، في "البحر المحيط" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) الكتاب هو شرح "للوسيط" مطولاً. قال الإسنوي عنه في طبقاته (389)، لا أعلم كتاباً في المذهب أكثر مسائل منه. واسمه "البحر المحيط في شرح الوسيط".

قال النووي في "منسكه": حد منى ما بين وادي محسر وجمرة العقبة ومِنى شعب طوله ميلين وعرضه يسير والجبال المحيطة ما أقبل منها عليه فهو من منى وما أدبر فليس من منى وجمرة العقبة في آخرها. السادس: في الحديث أيضاً استحباب كون الرمي من بطن الوادي فيقف تحتها في بطن الوادي ويجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل الجمرة ويرمي، وهذا أصح الأوجه عند الشافعية كما نقله النووي (¬1) عنهم وعزاه إلى جمهور العلماء أيضاً. والوجه الثاني: أنه يستقبل الجمرة ويستدبر الكعبة، وبه جزم الرافعي. والثالث: يستقبل الكعبة ويجعل الجمرة عن يمينه. وأجمعوا: على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو رماها من فوقها أو أسفلها أو وقف في وسطها ورماها، فأما رمي باقي الجمرات فيستحب من فوقها. السابع: قوله: "مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة"، أي مكان قيامه -عليه الصلاة والسلام- فهو اسم المصدر الذي هو للقيام، والسورة تقدم الكلام عليها في الحديث الثاني من باب وجوب القراءة في الصلاة (¬2). ¬

_ (¬1) في شرح مسلم (9/ 42) ذكر جميع الأقوال. (¬2) (3/ 203) من هذا الكتاب المبارك.

الثامن: في الحديث دلالة على جواز قوله سورة كذا، وخالف الحجاج بن يوسف في ذلك كما نقله عنه البخاري ومسلم في صحيحهما (¬1)، وقال: قال الأعمش: فلقيت إبراهيم فأخبرته بقول الحجاج فسبَّه ورد عليه بهذا الحديث، وقد تقدم الرد على من قال بهذا أيضاً في الحديث الثالث من باب وجوب القراءة في الصلاة (¬2). التاسع: إنما خص سورة البقرة لأن معظم أحكام الحج فيها مذكور فكأنه قال هذا مقام الذي أنزلت عليه المناسك وأخذت عنه الأحكام [فاعتمدوه] (¬3) أراد بذلك التنبيه على أن أفعال الحج توقيفية ليس للاجتهاد فيها مدخل فلا يفعل أحد شيئاً من المناسك برأيه. وقيل: خصها بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما تحتويه من الأحكام، وقد خصها - صلى الله عليه وسلم - بعجز البطلة عن حفظها (¬4)، وقوله للعباس في يوم حنين: نادي أصحاب السمرة أصحاب البقرة (¬5)، يمكن أن يكون خصها بالذكر حين فرارهم لأن فيها: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) (3/ 203) من هذا الكتاب المبارك. (¬3) في ن هـ (فاعتمده). (¬4) مسلم (804)، وأحمد (5/ 249، 254، 255، 257)، ولفظه: "اقرأوا القرآن فإنه شافع يوم القيامة". (¬5) مسلم (1775)، وعبد الرزاق (7941)، والمسند (1/ 207)، والبغوي في تفسيره (2/ 287، 288)، والحميدي (459)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 160).

غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً (¬1)، وفيها {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬2)، أو لأن فيها {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (¬3)، وفيها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (¬4). العاشر: في الحديث أيضاً دلالة على مراعاة كل شيء في هيئة الحج التي وقعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم -, حيث قال ابن مسعود: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة قاصداً بذلك الإِعلام [به] (¬5) ليفعل. الحادي عشر: فيه أيضاً التعلم بالرؤية من غير قول (¬6) وتبليغه. خاتمة: قيل إن مشروعية الرمي أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين هرب منه الكبش المفدى به الذبيح -عليه الصلاة والسلام- عند الجمرة رماه بسبع حصيات حتى أخذه. [وروى] (¬7) أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده. وروى أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر، فقال ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 249. (¬2) سورة البقرة: آية 251. (¬3) سورة البقرة: آية 40. (¬4) سورة البقرة: آية 207. (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) في ن هـ زيادة (والأخذ به من قول). (¬7) في ن هـ (قيل).

الذبيح لا إله إلاَّ الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي ذلك سنة (¬1). ... ¬

_ (¬1) ذكر ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (13/ 224) بإسناده: ومن أحسن ما قيل في قلة الجمار بمنى مع كثرة الرمي بها هناك. عن أبي سعيد الخدري قال: الحصا قربان فما تقبل من الحصا رفع. وأيضاً عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: رميت الجمار في الجاهلية، والإِسلام فكيف لا تسد الطريق؟ فقال: ما تقبل منها رفع، ولولا ذلك لكان أعظم من ثبير. اهـ.

الحديث السابع

الحديث السابع 265/ 7/ 50 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم ارحم المحلقين" [قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟] (¬1) قال: "اللهم ارحم المحلقين" [قالوا يا رسول الله] (¬2) والمقصرين؟ قال: "والمقصرين" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا اللفظ الذي ساقه المصنف هو لفظ رواية الصحيحين، قال البخاري: وقال الليث حدثني نافع: "رحم الله المحلقين مرة أو مرتين" [قال] (¬4) وقال: عبيد الله حدثني نافع "وقال في الرابعة والمقصرين". ¬

_ (¬1) تقديم وتأخير بين الأصل ون هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري (1727)، ومسلم (1301)، وأبو داود (1979) في المناسك، باب: الحلق والتقصير، والترمذي (913)، وابن ماجه (3043)، والموطأ (1/ 395)، وأحمد (2/ 79)، والبغوي (1963)، والبيهقي (5/ 103)، وابن خزيمة (2929)، وابن الجارود (485)، ومالك (856). (¬4) زيادة من البخاري.

وأخرج مسلم هذه الرواية من هذا الوجه وكذا التي قبلها فعلى رواية المصنف يكون للمحلقين ثلثا الرحمة وللمقصرين الثلث وعلى رواية عبيد الله يكون لهم ثلاثة أرباع الرحمة وللمقصرين الربع. ونظير هذا "من أحق الناس بصحبتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك" (¬1) وفي رواية (¬2) أنه قال ذلك ثلاثاً في الأم، فعلى الرواية الأولى يكون للأم ثلثا البر وعلى الثانية يكون لها ثلاثة أرباعه. الثاني: هذا الدعاء كان منه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على الصحيح المشهور كما قاله النووي في "شرح مسلم" (¬3). وقيل: إنه كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق [فما] (¬4) فعله أحد لطمعهم [دخول] (¬5) مكة في ذلك الوقت. وحكى عن ابن عباس قال حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6): اللهم ارحم المحلقين ثلاثاً قيل: ¬

_ (¬1) مسلم (2548)، وابن ماجه (3658، 2706)، والبغوي (3416)، والبيهقي في السنن (8/ 2)، وابن أبي شيبة (8/ 541)، وأحمد (2/ 391)، والبخاري في الأدب المفرد (5، 6). (¬2) البخاري (5971)، ومسلم (2548). (¬3) شرح مسلم (9/ 50). (¬4) في ن ب (كما). (¬5) في ن هـ (بدخول). (¬6) في الأصل زيادة (قال)، وساقطة من ن هـ.

يا رسول الله ما بال المقصرين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: لأنهم لم يشكوا" (¬1). قال القرطبي (¬2): وحاصله أنه أمرهم يوم الحديبية بالحلاق، فما قام منهم أحد، لما وقع في أنفسهم من أمر الصلح، فلما حلق - صلى الله عليه وسلم - ودعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة، تبادروا إلى ذلك. قال ابن عبد البر (¬3): وكونه في الحديبية [هو] (¬4) المحفوظ. قلتُ: وبه جزم من العلماء إمام الحرمين فذكره كذلك في "نهايته"، ونازع القاضي (¬5) ابن عبد البر في ذلك فقال: قد ذكر مسلم في الباب خلاف ما قالوه وإن كانت أحاديثه مجملة غير مفسرة موطن، ذلك لأنه ذكر من رواية أم الحصين أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة. وروى مسلم (¬6) قبل هذا عنها أنها قالت حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع وقد جاء الأمر في حديثها مفسراً أنه في حجة الوداع فلا يبعد أنه -عليه الصلاة والسلام- قاله في الموضعين. ¬

_ (¬1) أحمد (1/ 353)، والطحاوي (2/ 146)، وابن ماجه (3045). قال البوصيري في الزوائد (2/ 185): إسناده صحيح. (¬2) المفهم (3/ 404). (¬3) الاستذكار (13/ 104). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 402). (¬6) مسلم (1303).

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهو الأقرب وقد كان في كلا الوقتين توقف من الصحابة في الحلق أما في الحديبية فلأنهم عظم عليهم الرجوع قبل تمام مقصودهم من الدخول إلى مكة وكمال نسكهم، وأما في الحج فلأنه شق عليهم فسخ الحج إلى العمرة وكان من قصر منهم شعره اعتقد أنه أخف من الحلق إذ هو يدل على الكراهة للشيء أي أو أنه أقرب شبهاً منه - صلى الله عليه وسلم - من حيث أنه لم يحل فكرر -عليه الصلاة والسلام- الدعاء للمحلقين لأنهم بادروا إلى امتثال الأمر وأتموا فعل ما أمروا من الحلق وقد ورد التصريح بهذه العلة في الرواية السالفة حيث قال لأنهم لم يشكوا ورواه ابن ماجه (¬2) بسند جيد عن ابن عباس قيل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ظاهرت للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة؟ قال: لأنهم لم يشكوا". الثالث: هذا الحديث مصرح بجواز الاقتصار على أحد الأمرين أما الحلق وإما التقصير ومصرح أيضاً بتفضيل الحلق وقد أجمع العلماء على أن الحلق أفضل من التقصير في حق الرجال وعلى أن التقصير يجزي إلاَّ ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري: أنه كان يقول يلزمه الحلق في أول حجة ولا يجزئه التقصير وهذا إن صح عنه مردود بالنص وإجماع من قبله (¬3) وإنما كان الحلق أفضل لأمور: ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (3/ 587). (¬2) ابن ماجه (3045)، وأحمد (1/ 353)، وأبو يعلى (5/ 106)، وانظر: هذا المبحث في فتح الباري (3/ 563). (¬3) انظر: فتح الباري (3/ 564).

أحدها: أنه أقرب إلى التواضع والخضوع بين يدي ذي الجلال وأبلغ في العبادة وأدل على صدق النية في التذلل لله تعالى. الثانى: أن الشعر زينة والمحرم مأمور بتركها فإنه أشعث أغبر. الثالث: أن المقصود من الإِحرام التجرد مطلقًا وفي حلق جميع الرأس ما يكمل هذا المقصود ولهذا ذهب بعض العلماء إلى استحباب حلق الرأس عند التوبة وما ذاك إلَّا لطلب تغيير الحالة التي كان قبلها (1). الرابع: الحديث دال أيضًا على أن الحلق أو التقصير نسك يثاب فاعله وهو مذهب الشافعي في المشهور عنه وبه قال العلماء كافة. وللشافعي قول ضعيف: إنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك وبه قال أبو ثور وأبو يوسف لأنه ورد بعد الحظر فحمل على الإِباحة كاللباس والطيب والحديث يرد عليهم من وجهين: الأول: أنه متضمن ثواب كل واحد من الحلق أو التقصير ولو كان مباحًا لاستوى فعله وتركه. الثاني: تفضيل الحلق على التقصير ولو كانا مباحين لما كان لأحدهما مزية على الآخر في نظر الشرع.

_ (1) كما ورد في الحديث "احلق عنك شعر الكفر واغتسل"، وفي لفظ "واختتن" أبو نعيم في أخبار أصفهان (2/ 38)، والكامل لابن عدي (1/ 224).

قال المازري المالكي (1): وقد استقر في الشرع تحريم السلام في أثناء الصلاة المفروضة، وأمر به في آخرها ولم يكن ذلك على أوجه، (2) الإِباحة بل حُمِل على الوجوب. الخامس: يؤخذ من الحديث الدعاء بالرحمة لمن فعل ما شرع له وتكرار [الدعاء] (3) لمن فعل الراجح من الفعلين الجائزين والتنبيه بالتكرار على ترجيح الراجح وسؤال الدعاء لمن فعل الجائز المرجوح. خاتمة: ثبت في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة (4) الدعاء للمحلقين بالمغفرة ثلاثًا، وللمقصرين مرة، مناسبة ذلك كل واحد من الحلق أو التقصير إزالة الشعث في الصورة وهما سببان لغفر الذنب بإزالته أو ستره. فروع تتعلق بالحلق: الأول: أقل ما يجزىء من الحلق أو التقصير عند الشافعي ثلاث شعرات. وعند أبي حنيفة: ربع الرأس. وعند أبي يوسف: نصفها. وعند مالك وأحمد: أكثرها.

_ (1) المعلم (2/ 98). (2) غير موجودة في المرجع السابق. (3) زيادة من ن هـ. (4) البخاري (1728)، ومسلم (1302).

وعن مالك: رواية أنه كلها واقتصر عليها الفاكهي. وأجمعوا: على أن الأفضل حلق جميعه. ويستحب ألا ينقص في التقصير عن قدر الأنملة من أطراف الشعر فإن قصر دونها جاز لحصول اسم التقصير. ومذهب مالك: أنه يفتقر إلى الأخذ من جميع الشعر كما يأخذ في الحلق جميعه. الثاني: قد يتعين الحلق فيما إذا نذره وكذا فيما إذا لبد رأسه بالإِحرام على قول قديم للشافعي وهو مذهب مالك والجديد المنع. وقال الفاكهي المالكي: إنه يتعين في كل موضع لا يمكن الإِتيان بالتقصير على وجهه وذلك في صور: منها: من لبد رأسه. ومنها: فيمن لا شعر على رأسه فإنه يمر الموسى عليها. ومنها: فيمن له شعر لطيف لا يمكن تقصيره. ومنها: ما إذا عقصه أو ظفره. ونقل القرطبي في "مفهمه" (¬1) عن جمهور العلماء لزوم الحلق في ذلك أعني فيما إذا عقصه أو ظفره وفيما إذا لبد رأسه وادعى أن المخالف في ذلك أصحاب الشورى. ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 405).

الثالث: استحب مالك إذا حلق أن يأخذ من لحيته (¬1) وشاربه وأظفاره وأن ابن عمر كان يفعله وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر قال: وثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- قلم أظفاره إذ ذاك. الرابع: المشروع في حق النساء التقصير ويكره لها الحلق وقال القاضيان حسين وأبو الطيب يحرم عليهن. قال الشافعي: واجب أن تجمع ضفائرها وتأخذ من أطرافهما قدر أنملة. قال الماوردي (¬2): إلاَّ الذوائب فإنه يشينها. وقال مالك: تأخذ قدر الأنملة، أو فوقه بقليل، أو دونه بقليل. وقال: في الرجل ليس تقصيره أن يأخذ من أطراف شعره ولكن يجز ذلك جزاً وليس مثل المرأة فإن لم يجزه وأخذه فقد أخطأ ويجزيه. قال القاضي أبو الوليد (¬3): يبلغ به الحد الذي يقرب من أصول الشعر. ¬

_ (¬1) لا يجوز أن يأخذ من لحيته شيئاً لعموم الأدلة الدالة على تحريم حلق اللحى أو أخذ شيء منها وكل من فعل شيء من ذلك فله نصيب من مخالفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله وخلفائه الراشدون وسائر أصحابه أجمعين -رضوان الله عليهم- أما الأظفار فتقليمها من سنن الفطرة ويتأكد تقليمها عند الحاجة إليها. (¬2) الحاوي الكبير (5/ 218). (¬3) المنتقى (3/ 29).

الخامس: يقوم مقام الحلق والتقصير النتف والإِحراق والقص وغير ذلك من أنواع إزالة الشعر. السادس: اتفق العلماء على أن الأفضل في الحلق والتقصير أن يكون بعد رمي جمرة العقبة، وبعد ذبح الهدى إن كان معه، وقبل طواف الإِفاضة وسواء كان قارناً أو مفرداً وخالف ابن الجهم في القارن وقد تقدم الرد عليه في الباب في الحديث الخامس (¬1). السابع: استحب بعض أصحابنا أن يمسك المحلوق ناصيته بيده ويكبر ثلاثاً ثم يقول: اللهم هذه ناصيتي فتقبل مني واغفر لي ذنوبي، اللهم اكتب لي بكل شعرة حسنة وامح عني بها سيئة وارفع لي بها درجة واغفر لي وللمحلقين والمقصرين يا واسع المغفرة أمين. واستحب بعض الحنفية أن يقول عند الحلق: اللهم هذه ناصيتي بيدك فاجعل لي بكل شعرة نوراً يوم القيامة اللهم بارك لي في نفسي واغفر [لي] (¬2) ذنبي وتقبل مني عملي برحمتك يا أرحم الراحمين. واستحب بعض العلماء: إذا فرغ من الحلق أن يكبر ويقول الحمد لله الذي أعاننا على قضاء نسكنا، اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً، وتوفيقاً، وعوناً، واغفر لنا, ولآبائنا، وأمهاتنا، والمسلمين أجمعين (¬3). [في حاشية الأصل. قد يتمسك بدعائه للمحلقين ثلاثاً، ¬

_ (¬1) ص 344. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) من هنا بداية سقط في ن هـ.

وللمقصرين مرة بقول إيثار أهل الصلاح على غيرهم في إعطاء المال وهو رأي الفاروق منهم. وقال: لا اجعل من قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمن قاتل معه ورأى الصديق التسوية بينهم ويقول إنما عملوا لله فاجرهم على الله وهذا المال عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر وليس ثمناً لأعماله] (¬1). وقد ذكرت في "شرح المنهاج" فروعاً أُخر تتعلق بكيفية الحلق وآدابه فراجعها منه. الثامن: المحصر في الحلق والتقصير كغيره في كون ذلك نسكاً له. وقال أبو حنيفة (¬2) وصاحباه: ليس على المحصر شيء من ذلك ويرده فعله -عليه الصلاة والسلام- ذلك يوم الحديبية. ... ¬

_ (¬1) زيادة من حاشية الأصل. (¬2) الاستذكار (13/ 108).

الحديث الثامن

الحديث الثامن 266/ 8/ 50 - عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض، فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: يا رسول الله، [إنها قد] (¬1) فاضت يوم النحر، قال: "أخرجوا". وفي لفظ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عقرى، حلقى، [أفاضت] (¬2) يوم النحر؟ قيل: نعم. قال: "فانفري" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة. (¬2) في متن العمدة (أطافت). (¬3) البخاري في أطرافه (294)، ومسلم (1211)، والنسائي (1/ 194)، والترمذي (943)، وأبو داود (2003) في المناسك، باب: الحائض تخرج بعد الإِفاضة، وابن ماجه (3073)، والدارمي (2/ 568)، والبيهقي (5/ 162، 163)، والبغوي (1974، 1975)، وأحمد (6/ 99، 122، 175، 192، 213، 224، 253، 207)، والموطأ (1/ 412)، وابن خزيمة (3002)، وابن الجارود (496).

الكلام عليه من وجوه والتعريف براويه سلف: في الطهارة وممن وقع في الاعتكاف. الأول: كان حيض صفية -رضي الله عنها- ليلة النفر كما ثبت في بعض طرق البخاري. وقوله: "فأفضنا يوم النحر" أي طفنا طواف الإِفاضة وله أسماء طواف: الإِفاضة، والزيارة، والفرض، والركن، والصدر، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع وكره مالك أن يقال للطواف الزيارة وفي الصحيح "قالوا: يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر، قال: فلتنفر معكم"، وهو حجة للشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق على عدم الكراهة. الثاني: في الحديث دلالة على أن طواف الإِفاضة لا بد منه وهو إجماع. الثالث: فيه أيضاً دلالة على فعله في يوم النحر وهو السنة كما أسلفته في الحديث الثاني من باب التمتع ويدخل وقته من نصف ليلة النحر، ولا آخر لوقته كما هو موضح في كتب الفروع وإذا أخره لا شيء عليه بالتأخير عند جمهور العلماء. وقال مالك، وأبو حنيفة: إذا تطاول الزمان لزمه دم. الرابع: فيه أيضاً إباحة الجماع للأهل بعد الإِتيان بأسباب التحلل في الحج لكن قال الرافعي وغيره: إن المستحب إذا تحلل

التحلل الثاني أن لا يطأ حتى يرمي أيام التشريق، وفيه نظر إذ لا معنى لتركه لا سيما وأيام التشريق "أيام أكل وشرب وبعال" (¬1)، كما ورد في الحديث وقد بعث - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة لتطوف قبل النحر، وكان يومها فأحب - صلى الله عليه وسلم - أن توافيه، وفيه إشعار بمواقعتها فيه، وعليه، بوب سعيد بن منصور في "سننه" فقال، باب: الرجل يزور البيت ثم يواقع أهله قبل أن يرجع إلى منى"، ثم ذكر الحديث. الخامس: فيه أيضاً الإِخبار بالأعذار المانعة من الإِجابة إلى ما يجب المبادرة إلى فعله ممن توجه الوجوب إليه ومن غيره. السادس: فيه أيضاً أن الحائض لا تدخل المسجد ولا تطوف نعم يجوز لها المرور إن أمنت التلويث. السابع: فيه أيضاً سقوط طواف الوداع عن الحائض لقوله: "فانفري" نعم لو طهرت قبل مفارقة محطة مكة لزمها العود والطواف، وإن طهرت بعد بلوغها مسافة القصر، فلا وإن لم تبلغ فالصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يلزمها العود. فرع: النفساء في هذا كالحائض. الثامن: فيه أيضاً عدم سقوط طواف الإِفاضة عنها لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أحابستنا هي، فقيل: إنها فاضت" إلى آخره. التاسع: فيه أيضاً عدم وجوب الدم بترك طواف الوداع من ¬

_ (¬1) الدارقطني (4/ 283).

الحائض لأمره -عليه الصلاة والسلام- لها لما ذكر إنها فاضت يوم النحر بالنفر من غير ذكر دم ولا غيره، وهو قول كافة العلماء وحكى القاضي عياض عن بعض السلف وجوب دم وهو شاذ مردود. العاشر (¬1): أخذ القاضي عياض (¬2) من حبسها لأجل الطواف أن الكَرِيَّ يُحبس لها إذا لم تطف طواف الإِفاضة كما قال مالك، حتى تطهير أو تمضي أيامها بأقصى ما يمسك النساء الدم والاستطهار على اختلاف قوله في هذا الأصل خلافاً للشافعي فإنه قال لا يُحبس كَرِيَّ، ولتكر جملها، أو تحمل مكانها غيرها. واستدل أصحاب الشافعي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" هذا كله في الأمن, ووجود ذي المحرم. وأما مع الخوف أو عدم ذي المحرم، فلا يُحبس باتفاق، إذ لا يمكن أن يسيرَ بها وحده، وتفسخ الكراء، ولا تُحبس عليها الرفقة إلاَّ أن يبقى لطهرها كاليوم (¬3). واليومين قاله مالك -رحمه الله-. وفي الحبس لأجل النفاس قولان له، ووجه المنع تكرر الحيض بخلاف الحمل. الحادي عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام (¬4) -. الثاني عشر: "عقرى حلقى" بفتح أولهما وإسكان ثانيها, ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (13/ 266). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (3/ 417). (¬3) انظر: المفهم (3/ 428). (¬4) هكذا في المخطوط. لعل "الثاني عشر" تكون زائدة.

وأخرهما ألف تأنيث مقصور تكتب بالياء من غير تنوين، وهو رواية المحدثين جميعهم، ونقله جماعة من أئمة اللغة وغيرهم وهو صحيح فصيح، وبعضهم نونها لأنه يشعر أن الموضع موضع دعاء فأجراهما مجرى سعياً ورعياً وجدعاً وما أشبه ذلك من المصادر التي يدعى بها، وهو ظاهر فإن الموضع موضع دعاء كما قلناه حتى صوبه أبو عبيد (¬1) قال: لأن معناها عقرها الله عقراً، ومن رواه مقصوراً رأى أن ألف التأنيث فيها نعت لادعاء، وفي معنى عقرى أقوال: أحدها: عقرها الله أي جرحها. ثانيها: عقر يومها. ثالثها: جعلها عاقراً لا تلد. وفي معنى حلقي أيضاً أقوال: حلق شعرها. ثانيها: أن يصيبها وجع في حلقها. ثالثها: أن يحلق يومها لشؤمها. رابعها: أنها كلمة تقولها اليهود للحائض. حكاه القرطبي (¬2) وعلى كل قول فهي كلمة كان أصلها ما ذكرناه، ثم اتسعت العرب فيها فصارت تطلقها, ولا تريد حقيقة ما وضعت أولاً، ونظيره تربت يداه، وقاتله الله ما أشجعه وما أشعره وشبه ذلك. وقد سلَّى -عليه الصلاة والسلام- عائشة بقوله: "هذا شيء ¬

_ (¬1) غريب الحديث (2/ 94). (¬2) المفهم (3/ 315).

كتبه الله على بنات آدم"، وفيه دلالة على ميله لها وحنوه عليها، قال القرطبي: وكم بين من يؤنس ويسترضي، ومن يقال له عقرى حلقى (¬1). ... ¬

_ (¬1) المفهم (3/ 305)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (3/ 589)، قلت: وليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام، فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفاً على ما فاتها من الشك فسلاها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت المانع فناسب كلا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة. اهـ.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 267/ 9/ 50 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: أمر الناس أن يكون أخر عهدهم بالبيت، إلاَّ أنه خفف عن المرأة الحائض (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: الحديث حكمه حكم المرفوع على الصحيح عند المحدثين والأصوليين كما بينته في باب الآذان (¬2). الثاني: الحديث دال على وجوب طواف الوداع لظاهر الأمر، وهو الصحيح من مذهب الشافعي وخالف في ذلك مالك وابن المنذر ومجاهد في إحدى الروايتين عنه، ونقله القرطبي (¬3) عن الجمهور ¬

_ (¬1) البخاري في أطرافه (329)، ومسلم (1327)، وأبو داود (2002) في المناسك، باب: الوداع، والنسائي في الكبرى (2/ 466)، وابن خزيمة (2999, 3000)، وابن الجارود (495)، والبيهقي (5/ 161)، والدارمي (2/ 72)، والحميدي (502)، وأحمد (1/ 222)، وابن ماجه (3070)، والأم (2/ 180). (¬2) (2/ 424) من هذا الكتاب المبارك. (¬3) المفهم (3/ 427).

واستدل لذلك, وكذا المازري (¬1) بحديث صفية حيث رخص لها في تركه لما حاضت قالا: ففهم منه أنه ليس على جهة الوجوب وهو عجيب منهما لأن عدم الوجوب في حقها خرج بالنص المذكور، ونقله ذلك عن الجمهور يعارضه أن النووي في "شرح مسلم" (¬2) نقل وجوبه عن أكثر العلماء منهم الحسن البصري وحماد والحكم والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وخالف مالك أيضاً في لزوم الدم. قال القرطبي (¬3): الصحيح. ثم استدل بحديث صفية السالف، وقد علمت استناد ذلك في حقها فإنه لا وجوب عليها فلا دم. الثالث: الحديث دال أيضاً على سقوطه عن الحائض وهو مذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة. وحكى ابن المنذر عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- وجوبه من حديث إنهم أمروها بالمقام له (¬4)، قال القرطبي: وهو خلاف شاذ، وهذا الحديث مع حديث صفية السالف حجة عليهم وهو مقتضى التخفيف عنها وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رخص للحائض أن تنفر إذا فاضت. قال: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر ثم سمعته بعد يقول إنه -عليه الصلاة والسلام- أرخص لهن (¬5). ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 106). (¬2) (9/ 79). (¬3) المفهم (3/ 427). (¬4) ذكره النووي في شرح مسلم (9/ 79). (¬5) سبق تخريجه، وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن خزيمة (3001)، =

فائدة: حائض بحذف الهاء أفصح من حائضه بإثباتها. الرابع: إنما يعتد بطواف الوداع إذا أراد الخروج بعد قضاء نسكه وجميع أشغاله. نعم لو تشاغل بعده بأسباب الخروج كشراء زاد ونحوه لم يحتاج إلى إعادته في الأصح، ولو أقيمت الصلاة فصلاها لم يعده. فرع: الخارج إلى التنعيم لأجل العمرة لا وداع عليه عند الشافعي ومالك خلافاً للثوري، قال الفاكهي: وكذا الخارج إلى الجعرانة لأجلها فيه هذا الخلاف. فائدة: الأقرب في الرافعي أن طواف الوداع ليس من المناسك، وإنما يؤمر به من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، وكذا دونها على الأصح في "شرح المهذب" (¬1) للنووي مكياً كان أو أفاقياً تعظيماً للحرم ويستثنى من ذلك ما ذكرنا آنفاً في الخارج للتنعيم للعمرة، وكذا للجعرانة لها، وكذا من أحرم من مكة، ثم غدا إلى الموقف فإنه مستحب في حقه كما نص عليه في البويطي وتابعه الأصحاب. ... ¬

_ = والترمذي (944)، وابن ماجه (3071)، والحاكم (1/ 469، 470)، والطحاوي (2/ 235)، والطبراني (13393). (¬1) المجموع شرح المهذب (8/ 285)، وانظر: إلى الأقوال حيث ساقها ابن عبد البر في الاستذكار مفصلة (12/ 182، 184)، (13/ 265، 266).

الحديث العاشر

الحديث العاشر 268/ 10/ 50 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: "استأذن العباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقاية العباس، فأذن له" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: الاستئذان طلب الأذن كما سلف في الحديث الرابع من باب فضل الجماعة ووجوبها والتعريف بحال العباس سبق مختصراً في الحديث الخامس من كتاب الزكاة (¬2). الثاني: كانت السقاية للعباس -رضي الله عنه- في الجاهلية، وكانت قبله في يد قصي بن كلاب، ثم ورثها ابنه عبد مناف، ثم ورثها ابنه عبد المطلب، ثم ورثها ابنه العباس فأقره - صلى الله عليه وسلم - عليها وهي له ولعقبه إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) البخاري في أطرافه (1634)، ومسلم (1315)، وأبو داود (1959) في المناسك، باب: يبيت بمكة ليالي منى، والنسائي في الكبرى (2/ 462)، وابن ماجه (3065)، والبغوي (1969)، وابن خزيمة (2957)، وابن الجارود (490)، وأحمد (2/ 19، 29)، والدارمي (2/ 75). (¬2) (5/ 73) من هذا الكتاب المبارك.

قال بعضهم: وفي ذلك إشارة إلى أن الخلافة تكون في ولده. والسقايه: إعداد الماء للشاربين بمكة يذهب أهلها القائمون بها ليلاً يستقوا الماء من زمزم ويجعلوه في الحياض مسبلاً للشاربين وغيرهم. قال الطبري: ويجعلون فيه سويقاً والمشهور أنهم ينبذون فيه التمر كما ثبت في الصحيح (¬1) ومشروعية هذه السقاية من باب إكرام الضيف واصطناع المعروف، قال أصحابنا: والشرب منها مستحب. الأول: فيما يستنبط منه من الأحكام. الثاني (¬2): استئذان الكبار والعلماء فيما يطرأ من المصالح والأحكام وبدار الكبير أو العالم إلى الأذن عند ظهور المصلحة من غير توقف. الثالث: أن المبيت ليالي منى نسك من مناسك الحج، وواجباته حيث أذن - صلى الله عليه وسلم - في ترك المبيت للعباس من أجل سقايته فاقتضى ذلك الأذن لهذه العلة المخصوصة وأن الإِذن لم يتعد إلى غيرها نعم رعاة الإِبل كذلك كما سيأتي. وقد اختلف العلماء في وجوب مبيت ليالي منى وللشافعي قولان: ¬

_ (¬1) مسلم (1316). (¬2) هكذا في المخطوط.

أحدها: أنه واجب، وبه قال مالك وأحمد، وصححه النووي (¬1) للاتباع. والثاني: أنه سنة وبه قال ابن عباس والحسن وأبو حنيفة ومال إليه الرافعي فقال يشبه ترجيحه ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف ولا يحصل المبيت إلاَّ بمعظم الليل على أظهر قولي الشافعي وله قول آخر أنه يحصل بساعة حكاه النووي في "شرح (¬2) مسلم", وحكى في أصل "الروضة" (¬3) بدله أن الاعتبار بوقت طلوع الفجر. الثالث: ترك المبيت لأجل السقاية ولا يختص ذلك بالسقاية الموجودة إذ ذاك بل لو أحدثت أخرى كان للقائم بشأنها ترك المبيت، وهذا هو الصحيح. وقال بعض الشافعية: تختص بسقاية العباس وهو جمود على الظاهر، وجمود عن المعنى. الرابع: اختصاص السقاية بالعباس واتفق العلماء على أن الحكم لا يختص به. واختلفوا في اختصاصها بآله بعده والأصح: عدم الاختصاص بل كل من تولى السقاية كان له هذا. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 63). (¬2) شرح مسلم للنووي (9/ 62، 63). (¬3) الروضة (3/ 104، 105)، ونصه فيه أظهرهما: معظم الليل، والثاني: المعتبر كونه حاضراً حال طلوع الفجر.

وقيل: تختص ببني هاشم من آل العباس وغيرهم. الخامس: يلحق بأهل السقاية رعاة الإِبل كما صح في حديث آخر خارج الصحيح (¬1) وألحق أصحابنا بها من له مال يخاف ضياعه (¬2)، أو أمر يخاف فوته أو مريض يحتاج أن يتعهده. وعند المالكية من خاف على ماله الضيعة أو نحوه يلزمه هدي. ... ¬

_ (¬1) ولفظه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاء في البيتوتة، وأن يرموا يوماً ويدعوا يوماً"، أخرجه أبو داود في الحج (1975) , باب: رمي الجمار، والترمذي (955)، والنسائي (5/ 273)، وابن ماجه (3037)، وصححه ابن خزيمة (2979)، والحاكم (1/ 478)، والمنتقى (478)، والبيهقي (5/ 155)، وأحمد (5/ 450)، والموطأ (1/ 408)، والبغوي (1970). (¬2) ورد عند أبي داود (1958) بعد سياق الإِسناد: أنه سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر، قال: أنا نتبايع بأموال الناس، فيأتي أحدنا مكة فيبيت على المال، فقال: أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبات بمنى وظل. وهو أيضاً لابن عباس: كان يقول لا بأس إذا كان للرجل متاع بمكة يخشى عليه أن يأتي -لعلها ينأى- عن منى.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 268/ 11/ 50 - وعنه قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع، [لكل] (¬1) واحدة منهما بإِقامة، ولم يسبح بينهما، ولا (¬2) إثر واحدة منهما" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا اللفظ الذي ذكره المصنف هو للبخاري بزيادة وإسقاط، أما الزيادة فهي لفظة "كل" بعد قول [إثر]. (¬4). وأما الإِسقاط: فهو اللام في "لكل واحدة منهما". ¬

_ (¬1) في متن العمدة (كل). (¬2) في إحكام الأحكام ومن العمدة زيادة (على). (¬3) البخاري في أطرافه (1091)، ومسلم (1288)، والترمذي (888)، والنسائي (5/ 260) (1/ 291)، وفي الكبرى (4030)، وأبو داود (1928) في الحج، باب: الصلاة بجمع، وابن ماجه (3021)، والدارمي (2/ 58)، وابن خزيمة (2849)، ومالك (1/ 321/ 196)، والبيهقي (5/ 120، 121)، وأحمد (2/ 2، 3)، والبغوي (1938). (¬4) في المخطوطة التي بين يدي لا توجد، هذه الزيادة أيضاً ولا توجد في متن العمدة.

ومسلم ذكره بألفاظ: أحدها: أنه -عليه الصلاة والسلام- صلَّى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعاً (¬1). ثانيها: جمع بين المغرب والعشاء بجمع [ليس] (¬2) بينهما سجدة والمراد بها الركعة. ثالثها: أنه صلاها بإقامة بجمع. رابعها: جمع بين المغرب والعشاء بجمع وإقامة واحدة. الثاني: "جمع" بإسكان الميم اسم للمزدلفة، ولماذا سميت بذلك فيه أقوال: أحدها: لاجتماع الناس بها. ثانيها: لاجتماع آدم وحواء قاله الطبري (¬3). ثالثها: للجمع فيها بين المغرب والعشاء قاله الوقدي وجزم به صاحب المطالع. الثالث: "معنى لم يسبح بينهما" لم يصل. نافلة ومنه الحديث ¬

_ (¬1) مسلم (703). (¬2) في المخطوطة غير واضحة ومقطوعة الكلمة "من"، وما أثبت في صحيح مسلم. (¬3) وهو مروي عن ابن عباس كما أشار إليه صاحب النظم المستعذب في تفسير غريب المهذب (1/ 209)، وقاله صاحب المصباح المنير (1/ 108)، ومختار الصحاح (53).

"واجعلوا صلاتكم معهم سبحة" (¬1). أي نافلة وسميت الصلاة سبحة وتسبيحاً لما فيها من تعظيم الله تعالى وقد تقدم الكلام على هذه المادة في الحديث الأول من باب استقبال القبلة (¬2). الرابع: في أحكام الحديث وفوائده: الأول: جواز جمع التأخير بمزدلفة وهي "جمع" لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان وقت المغرب بعرفة: [فلم يجمع بينهما بالمزدلفة] (¬3) إلاَّ وقد أخر المغرب. وهذا الجمع مجمع عليه لكن اختلفوا: في سببه هل هو النسك أو السفر، وفائدة الخلاف تظهر في أن من ليس مسافراً سفراً يُجمع فيه، هل يجمع بين هاتين الصلاتين أم لا؟ فذهب أبو حنيفة إلى الأول، ومن وافقه من أصحاب الشافعي والصحيح من مذهب الشافعي ولم ينقل صريحاً أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يجمع بين الصلاتين في طول سفره ذلك، فإن كان لم يجمع في نفس الأمر فيقوي أن الجمع للنسك. لأن الحكم المتجدد عند تجدد أمر يقتضي إضافة ذلك الحكم إلى ذلك الأمر، وإن كان قد جمع: إما بأن يرد في ذلك نقل خاص، أو يؤخذ من حديث ابن عمر أنه -عليه الصلاة والسلام-: "كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء"، فقد تعارض في هذا الجمع سببان السفر، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 379، 399، 424، 455)، وابن ماجه (1/ 196)، وأبو داود (1/ 165) من رواية ابن مسعود. (¬2) (2/ 478، 479) من هذا الكتاب المبارك. (¬3) في الأصل (فما جمع) وبقية الكلام زيادة من إحكام الأحكام.

والنسك فيبقى النظر في ترجيح الإِضافة إلى أحدهما، على أن في الاستدلال بحديث ابن عمر على هذا الجمع نظر، من حيث إن السير لم يكن مجدّاً في ابتداء هذه الحركة، لأنه -عليه الصلاة- كان نازلاً عند دخول وقت صلاة المغرب، وأنشأ الحركة بعد ذلك, فالجد إنما يكون بعد الحركة، أما في الابتداء فلا، وقد كان يمكن أن تقام المغرب بعرفة. ولا يحصل جد السير بالنسبة إليها, ولا يتناول الحديث ما إذا كان الجد والسير موجوداً عند دخول وقتها فهذا أمر محتمل. واختلف العلماء أيضاً فيما إذا أراد الجمع بغير مزدلفة, كما لو جمع في الطريق أو بعرفة جمع تقديم، والأحاديث الصحيحة تدل صريحاً على جوازه بعرفة والخلاف فيه هو بسبب النسك أو السفر والذين عللوا الجمع بالسفر يجيزون الجمع مطلقاً. والذين يعللونه بالنسك قالوا: لا يجمع إلاَّ بالمكان الذي جمع فيه الشارع إقامة لوظيفة النسك على الوجه الذي فعله، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره من الكوفيين، وذهب ابن حزم أيضاً. وقال مالك: لا يجوز أن يصليها قبل المزدلفة إلاَّ من به أو بدابته عذر، فله أن يصليها قبلها بشرط كونه بعد مغيب الشفق وبعدم الوجوب [] (¬1) جماعات من الصحابة والتابعين، وقاله الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف وأشهب و [] (¬2) أصحاب الحديث. ¬

_ (¬1) في الأصل الكلمة (مبتورة)، وأقرب معنى لها "قاله". (¬2) الكلمة غير واضحة.

فرع: قال الشافعي والأصحاب يصلي حط الرحل بأن [] (¬1) كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تنبيه: أطلق أكثر الأصحاب القول بتأخير هاتين الصلاتين إلى المزدلفة، وقال: جماعات يؤخرها ما لم يخف وقت الاختيار للعشاء، فإن خيف لم تؤخر بل يجمع بالناس في الطريق، ونقله صاحب "الشامل" وغيره عن نص الشافعي في "الإِملاء". قال النووي في "شرح المهذب": ولعل إطلاق الأكثرين يحمل على هذه موافقة لنص الشافعي. الثاني: شرعية الإِقامة لكل واحدة من صلاتي الجمع، ولم يتعرض للآذان لها وثبت في صحيح من حديث جابر (¬2) الطويل "إنه صلاها بأذان واحد وإقامتين"، وفي رواية له من حديث ابن عمر: "بإقامة واحدة" وقد أسلفناها، والأولى مقدمة عليها لأن مع راويه زيادة علم، ولأنه أعني بنقل حجته -عليه الصلاة والسلام- وضبطها أكثر من غيره، فكانت أولى بالاعتماد والقبول. وتحمل الرواية الثانية على أن المراد أن كل صلاة لها إقامة جمعاً بين الروايات. ومذهب الشافعي الصحيح أنه يؤذن للأولى منهما، ويقيم لكل واحدة، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وعبد الملك بن الماجشون والطحاوي. ¬

_ (¬1) الكلمة غير واضحة. (¬2) في البخاري (1557)، وصحيح مسلم (1218)، وأحمد (3/ 217) , والنسائي (5/ 202).

وقال مالك يؤذن للثانية أيضاً وهو محكي عن عمر وابن مسعود. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: أذان وإقامة واحدة. وقال القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر: يصلي كل واحدة بإقامة بلا أذان. وقال النووي: يصليها جميعاً بإقامة واحدة، وحكى أيضاً عن ابن عمر. الثالث: عدم التنفل بين الصلاتين المجموعتين، ويعبر عن ذلك بوجوب الموالاة بينهما وهو مستحب في جمع التأخير، واجب في جمع التقديم عند الشافعية، وقال ابن حبيب المالكي: له أن يتنفل بينهما، فمن أراد أن يستدل بالحديث على عموم جواز التنفل بين صلاتي الجمع فلمخالفه أن يقول: هو فعل والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، ويحتاج إلى ضميمة أمر آخر إليه، ومما يؤكده -أعني كلام المخالف أنه عليه الصلاة والسلام- لم يتنفل بعدهما، كما في الحديث، مع أنه لا خلاف في جواز ذلك، فيشعر ذلك بأن ترك التنفل لم يكن لما ذكر من وجوب الموالاة، وقد صح في الصحيح أنه فصل بين هاتين الصلاتين بإناخة كل إنسان بعيره في منزله، وهو يحتاج إلى مسافة من الوقت، ويدل على جواز التأخير. في جمع التأخير وهو الصحيح من مذهب الشافعي. الرابع: عدم صلاة النفل في السفر وهو المشهور من مذهب مالك لكنها دلالة بعدم الفعل، وهي بمجردها لا تدل على عدم الاستحباب بل يدل على تأخير فعل النفل في ذلك الوقت.

ومذهب الشافعي استحباب السنن الراتبة فيه. الخامس: ثبت في "صحيح مسلم" في حديث جابر الطويل أنه لما جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة "ولم يسبح بينهما شيئاً اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، حين تبين له الصبح"، وهذا الحديث نص في عدم إحياء تلك الليلة بالصلاة، وكذا رواية المصنف، "ولم يسبح بينهما, ولا على إثر واحدة منهما" لكن استحبه ابن حبيب المالكي والسرى في "منسكه". ***

51 - باب المحرم يأكل من صيد الحلال

51 - باب المحرم يأكل من صيد الحلال ذكر فيه -رحمه الله- حديث أبي قتادة، والصعب بن جثّامة -رضي الله عنهما-: الحديث الأول 269/ 1/ 51 - عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجاً، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم, فيهم أبو قتادة وقال: "خذوا ساحل البحر، حتى نلتقي" فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم، إلاَّ أبا قتادة، لم يحرم، فبينما هم يسيرون، إذ رأوا حمر وحش، فحمل أبو قتادة على الحمر, فعقر منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد، ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عن ذلك؟ قال: "منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ " قالوا: لا. قال: "فكلوا ما بقي من لحمها" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري في أطرافه (1821) (1824) في جزاء الصبد، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال. ومسلم (1196) في الحج، =

وفي رواية: "هل معكم منه شيء"؟ فقلت: نعم. فناولته العضد. فأكلها (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. الثاني: في ألفاظه: "الطائفة": تقدم الكلام عليها في باب صلاة الخوف. "الساحل": شاطىء البحر قال ابن دريد (¬2): وهو مقلوب وإنما الماء سحله. "والبحر": يجمع على أبحر، وبحار، وبحور، وهو الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً فممن نص على ذلك ابن سيده في "المحكم" (¬3). قال: وقد غلب على الملح حتى قل في العذب وصرفوه على معنى الملوحة. وقال القزاز: إذا اجتمع الملح والعذب سموا باسم الملح أي بحرين ومنه قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)} (¬4). قال: ويسمى ¬

_ = باب: تحريم الصيد للمحرم، وابن ماجه (3093)، والترمذي (848)، والنسائي (5/ 185)، ومالك (1/ 351)، والدارقطني (2/ 291)، والدارمي (2/ 38)، والبيهقي (5/ 322)، وأحمد (5/ 306، 307، 301)، وابن الجارود (435). (¬1) البخاري في الهبة (2570)، باب: من استوهب شيئاً من أصحابه. (¬2) المخصص (9/ 20). (¬3) المخصص (9/ 15)، ولسان العرب (1/ 323). (¬4) سورة الرحمن: آية 19.

بذلك لسعته من قولهم تبحر الرجل في العلم أي اتسع، قال: قال أهل اللغة: وكيف تقلبت حروف (ب ح ر) دلت على الاتساع كبحر ورحب وحبر ونحو ذلك. وقال الأزهري (1): سميت الأنهار بحارًا لأنها مشقوقة في الأرض شقًا ومنه سميت البحيرة. وقوله: "فأحرموا كلهم إلَّا أبا قتادة" جاء في رواية لمسلم: "فأهلوا بعمرة غيري". وقوله: "إذ رأوا حمر وحش" كذا هو ثابت في الصحيحين وفيهما أيضًا: "وإذا أنا بحمار وحشي فحملت عليه". وقوله: "فعقر منها أتانًا" أي جرح. و"الأتان": هي الأنثى من الحمر. و"العضد" الساعد، قال الجوهري (2): وهو من المرفق إلى الكتف وفيه لغات: عضد -بضم الضاد وكسرها- وعضد بفتح العين وكسرها مع سكون الضاد وبضمها حكاه ابن السيد في "مثلثه" (3) وزاد بن عديس عن ابن سيده عضد بفتح الضاد على وزن

_ (1) تهذيب اللغة (5/ 37)، وذكره في لسان العرب (1/ 323). (2) تهذيب اللغة (1/ 451). (3) قال ابن السيد البطليوسي في مثلثه (2/ 295): والعَضِدُ والعضُدُ بكسر الضاد وضمها. ما بين المرفق والمنكب وفيه ست لغات: عَضُدٌ، بضم العين وسكون الضاد وعُضُدٌ بضم العين والضاد. وعِضْدٌ بكسر العين وسكون الضاد. عَضِدٌ بفتح العين وكسر الضاد خاصة. وانظر: (2/ 353) ذكر فيه ثلاث لغات.

حمل حكى ذلك اللبلي. فائدة: في الصحيح أيضًا "الرجل" بدل "العضد" وفي رواية "الذراع" رواها سعيد ويجمع بينهما بتعدد الواقعة (1). الثالث: إن قيل كيف ترك أبو قتادة الأحرام مع كونه خرج للنسك ومر بالميقات وقد تقرر بأنه لا يجوز لمن أراد الحج والعمرة أن يجاوز الميقات غير محرم؟ وأجيب بوجوه. أولاها: ما أشار إليه أول الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشف عدوٌ لهم بجهة الساحل سيعلمه فكان الالتقاء معه بعد مضي مكان الميقات (2). وفي صحيح ابن حبان (3) "أنه بعثه على الصدقة" كما سيأتي. وأضعفها: أنه لم يكن مريدًا للحج ولا للعمرة. وأبعدها: أن المواقيت لم تكن وقتت بعد. يليه في البعد أن أهل المدينة أرسلوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه أن بعض العرب عزم على غزو المدينة فإن في

_ (1) ذكر ابن حجر في الفتح -رحمنا الله وإياه- (4/ 30) هذه الروايات، وفي بعض الروايات مبهمة كما في قوله: "وإن عندنا فاضلة". (2) ذكره في الاستذكار (11/ 271). (3) ابن حبان (3976)، والبزار (1101)، والطحاوي (2/ 173)، وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 230)، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. سيأتي.

الصحيح (1): "أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارًا" الحديث (2).

_ (1) البخاري (2914). (2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 23) على قوله: "فأحرم أصحابه ولم يحرم"، الضمير لأبي قتادة بينه مسلم: "أحرم أصحابي ولم أحرم"، وفي رواية علي بن المبارك: "وأنبئنا بعدو بغيقة فتوجهنا نحوهم"، وفي هذا السياق حذف بينته رواية عثمان بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة وهي ما بعد بابين بلفظ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: "خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلَّا أبا قتادة"، إلى أن قال: -فجهز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرهم فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأحرموا، إلَّا هو فاستمر هو حلال لأنه إما أنه لم يجاوز الميقات، وإما أنه لم يقصد العمرة، وبهذا يرتفع الإِشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه، قال: حتى وجدته في رواية. من حديث أبي سعيد فيها: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا، فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في وجه" الحديث. قال: فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة. قلت: وهذه الرواية التي أشار إليها تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وليس كذلك لما بيناه ثم وجدت في صحيح ابن حبان والبزار من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة على الصدقة وخرج =

الرابع: هذا الخروج كان عام الحديبية (1) كما ثبت في الصحيحين وفي الصحيح أيضًا: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجًا وأحرمنا

_ = رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون، حتى نزلوا بعسفان" فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعها، والذي يظهر أن أبا قتادة، إنما أخر الإِحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فساغ له التأخير -وقد استدل بقصة أبي قتادة على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد حجًا ولا عمرة، وقيل كانت هذه القصة قبل أن يؤقت النبي - صلى الله عليه وسلم - المواقيت- أقول وقد ضعفه ابن الملقن. وأما قول عياض ومن تبعه -أقول وقد ذكره ابن الملقن وتعقبه- إن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمونه أن بعض العرب قصدوا الإِغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لما ثبت في هذه الطريق الصحيحة طريق عثمان بن موهب. اهـ. (1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 29) على قوله: "خرج حاجًا". قال الإِسماعيلي هذا غلط، فإن القصة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحج فكان في خلق كثير، وكان كلهم على الجادة لا على ساحل البحر، ولعل الراوي أراد خرج محرمًا فعبر عن الإِحرام بالحج غلطًا، قلت: لا غلط في ذلك بل هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحج في الأصل قصد البيت فكأنه قال: خرج قاصدًا للبيت، ولهذا يقال للعمرة الحج الأصغر. ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن أبي عوانة بلفظ: خرج حاجًا أو معتمرًا"، أخرجه البيهقي فتبين أن الشك فيه من رواية أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك كان في عمرة الحديبية وهذا هو المعتمد. اهـ. انظر: الاستذكار (11/ 272).

معه" ومراده بالحج العمرة كما جاء في روايته الأخرى: "فأهلوا بعمرة غيري" (¬1) وفي الصحيح (¬2) أيضاً: "أنه -عليه الصلاة والسلام- حُدث أن عدوا بغيقة (¬3) فتوجهنا نحوهم" وهو موضع من بلاد بني غفار بين مكة والمدينة، وقيل: هو قليب ماء (¬4) لبني ثعلبة، وفيه أن أبا قتادة لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرب تعهن (¬5) وهو قائل (¬6) ¬

_ (¬1) مسلم (1196) (62). (¬2) مسلم (1196) (59). (¬3) هو بفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة ثم قاف مفتوحة ثم هاء قال السكوني: هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة. انظر: فتح الباري (4/ 23)، ومعجم البلدان (4/ 221). (¬4) وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة يصب فيه ماء رضوي ويصب هو في البحر. المراجع السابقة. (¬5) تعهن: بكسر المثناة وبفتحها بعدها عين مهملة ساكنة ثم هاء مكسورة ثم نون، ورواية الأكثر بالكسر، وبه قيدها البكري في معجم البلاد ... إلخ. انظر: فتح الباري (4/ 25). (¬6) قوله: "قائل"، قال النوري في شرح مسلم (8/ 12): روى بوجهين أصحهما وأشهرهما قائل بهمزة بين الألف واللام من القيلولة ومعناه تركته بتعهن وفي عزمه أن يقيل بالسقيا ومعنى "قائل" يقيل ولم يذكر القاضي في شرح مسلم وصاحب المطالع والجمهور غير هذا بمعناه. والوجه الثاني: أنه "قابل" بالباء الموحدة، وهو ضعيف وغريب وكأنه تصحيف وإن صح معناه "تعهن موضع مقابل للسقيا". قال ابن حجر في الفتح (4/ 25) فعلى الأول الضمير في قوله: "وهو" للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني الضمير للموضع وهي تعهن، ولا شك أن الأول أصوب وأكثر فائدة ... إلخ.

السقيا (¬1) وهو عين ماء على ميل من السقيا بالقاف وهو وادي العباديد على ثلاث مراحل من المدينة [قائل] (¬2) اسم فاعل من القول [أو من القائلة] (¬3) أيضاً والأول هو المراد هنا. والسقيا: اسم مفعول بفعل مضمر كأنه قال اقصدوا السقيا كذا قال القرطبي (¬4) وقال: إنه من القيلولة أي وفي عزمه أنه يقيل بالسقيا، والسقيا: قرية جامعة بين مكة والمدينة بينها وبين الفرع (¬5) مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلاً. وفي الصحيح (¬6) أيضاً: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم إذا بصوت بأصحابي يتراؤن شيئاً فنظرت فإذا حمار وحشي" الحديث. والقاحة (¬7) بالقاف على الصواب ووهم من قالها بالفاء وهو واد على نحو ميل من السقيا وعلى ثلاث مراحل من المدينة، وفي هذه ¬

_ (¬1) السقيا بضم المهمله وإسكان القاف بعدها تحتانية مقصورة: قرية جامعة ببن مكة والمدينة. انظر: معجم البلدان (3/ 228)، والفتح (4/ 25). (¬2) في المخطوطة (قابل)، وما أثبت من فتح الباري (4/ 25). (¬3) في المخطوطة (من القائل)، وما أثبت من الفتح (4/ 25). (¬4) في المخطوطة هكذا وفي الفتح (4/ 25) وكأنه كان بتعهن وهو يقول لأصحابه: اقصدوا السقيا. اهـ. وقد تعقب ابن حجر كلام القرطبي بقوله: "واغرب القرطبي" ... إلخ. (¬5) انظر: مقدمة كتاب التيمم. (¬6) مسلم (1196) (56). (¬7) قال القاضي عياض -رحمنا الله وإياه- في المشارق (2/ 198) الناس بالقاف إلاَّ القابسي فضبطوه عنه بالفاء. اهـ.

الرواية بيان موضع الاصطياد. فاستفده. وفي "صحيح أبي حاتم ابن حبان" (1) من حديث أبي سعيد الخدري. أنه -عليه الصلاة والسلام- بعث أبا قتادة الأنصاري على الصدقة وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه محرمون حتى نزلوا بعسفان ثثية الغزال. فإذا هم بحمر وحش ... الحديث. (الخامس): في الحديث أحكام: الأول: أن الإِمام وأصحابه إذا خرجوا في طاعة من حج أو غيره وعرض لهم أمر يقتضي تفريقهم فرقهم طلبًا للمصلحة فإن السنة عدم تفرق الرفقة في السفر. الثاني: جواز اصطياد الحلال الصيد المباح وهو إجماع. الثالث: أن عقر الصيد ذكاته. الرابع: عدم الإِقدام على الشيء حتى يعرف حكمه. الخامس: جواز الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم - حيث أكلوا بعضه باجتهاد وفي "صحيح مسلم" (2): "فأكل منه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بعضهم" الحديث. السادس: الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأدلة بالاشتباه أو الاحتمال.

_ (1) سبق تخريجه، وقد قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 24): وقد وقع في حديث أبي سعيد المذكور أن ذلك وقع وهم بعسفان. وفيه نظر. وتصحيح ما سيأتي وذكر القاحة ... إلخ. (2) مسلم (1196) (57).

السابع: أنه إذا كان للمحرم سبب في اصطياد الصيد بإشارة أو إعانة يمنع من أكله وإلَّا فلا. الثامن: جواز هدية الحلال للمحرم من لحم الصيد. التاسع: تحريم لحم الصيد على المحرم إذا صاده هو أو كان له في اصطياده أثر من دلالة عليه أو إعانة، وأجمع العلماء على تحريم الاصطياد عليه. قال الشافعي وآخرون: ويحرم عليه تملك الصيد بالبيع والهبة وغيرهما وفي إرثه إياه بالإِرث خلاف والأصح عند الشافعية أنه يملك ويلزمه إرساله وفي "الحاوي الصغير" أنه يزول ملكه عقبه والصحيح في "شرح المهذب" (1) للنووي أنه لا يزول ملكه بل يلزمه إرساله حتى لو لم يفعل وباع صح بيعه. وأما اصطياد الحلال. لنفسه من غير إعانة المحرم ولم يقصد المحرم. فجمهور العلماء: على حل أكله للمحرم بالهدية وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وداود فإن قصده فحرام سواء صاده بإذنه أو بغير إذنه. وقال أبو حنيفة (2): لا يحرم عليه لحم ما صيد له بغير إعانة منه.

_ (1) المجموع (7/ 309، 310). (2) الاستذكار (11/ 273).

وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلاً بل هو حرام عليه مطلقاً وهو محكي عن [عمر] (¬1) وعلي وابن عباس وجماعة من السلف منهم الثوري وإسحاق وذكر نحوه عن مالك أيضاً والليث لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬2) قالوا: والمراد بالصيد المصيد ولرده -عليه الصلاة والسلام- لحم الصيد في حديث الصعب بن جثّامة الآتي عليه، وعلله بأنه محرم دون شيء آخر من قصده - صلى الله عليه وسلم - به ولا غيره وحديث أبي قتادة هذا يرد هذا القول فإنه أكله وأمر بأكله وفي رواية لمسلم (¬3): "إنما هي طعمة أطعمكموها الله" وفي "سنن أبي داود" (¬4) و"الترمذي" (¬5) و"النسائي" (¬6) وصحيحي ابن حبان (¬7) والحاكم (¬8) عن جابر مرفوعاً: ¬

_ (¬1) الذي في الاستذكار (11/ 275) "ابن عمر لأن عمر يرى أكل كل ما صاده الحلال من الصيد الذي يحل للحلال أكله". اهـ. (¬2) سورة المائدة: آية 96. (¬3) مسلم (1196) (57)، والبخاري (2914)، وأبو داود (1852) في المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والترمذي (847)، والنسائي (5/ 182)، والبغوي (1988)، والحميدي (424). (¬4) أبو داود (1851) في المناسك باب: لحم الصيد للمحرم. (¬5) الترمذي (846). قال أبو عيسى: حديث جابر حديث مفسر، والمطلب لا نعرف له سماعاً عن جابر، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لا يرون بالصيد للمحرم بأساً، إذا لم يصطده أو لم يصطد من أجله. اهـ. (¬6) النسائي (5/ 187). (¬7) ابن حبان (3971). (¬8) الأم (2/ 208). قال الشافعي -رحمنا الله وإياه-: هذا أحسن حديث =

"صيد البر لكم حلالاً ما لم تصيدوه أو يصاد لكم". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الشافعي: هو أحسن شيء روى في الباب وأقيس. قلت: فيجب إذن الجمع بين الأحاديث وحديث جابر هذا صريح في الفرق وهو ظاهر في الدلالة للجمهور وراد للمذهبين الآخرين ويحمل حديث أبي قتادة على أنه لم يقصدهم باصطياده وحديث صعب الآتي على قصدهم به. وتحمل الآية الكريمة: على الاصطياد وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المبينة للمراد من الآية. وأما قولهم في حديث الصعب: علل بأنه محرم فلا يمنع كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإِنسان إذا صيد بشرط أنه محرم فبين في حديث الصعب الشرط الذي يحرم به. فرع (¬1): لو خالف المحرم فأكل ما حرم عليه فهل يلزمه الجزاء ¬

_ = روي في هذا الباب وأقيس والعمل على هذا. اهـ. والحاكم (1/ 452) , وعلى شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً البيهقي (5/ 190). قال ابن التركماني: فظهر بهذا أن الحديث له أربع علل، إحداها: الكلام في المطلب. ثانيتها: أنه لو كان ثقة فلا سماع له من جابر فالحديث مرسل. ثالثتها: الكلام في عمرو. رابعتها: أنه ولو كان ثقة فقد اختلف عليه كما مر. وقد أخرجه الطحاوي (2/ 171) من وجه آخر عن المطلب عن أبي موسى. وقال ابن حزم في المحلى: هو خبر ساقط، وانظر: التمهيد (21/ 153)، والاستذكار (11/ 277)، والمجموع (7/ 301). (¬1) انظر: إلى أقوال أهل العلم في الاستذكار (11/ 308، 312).

وهو القيمة بقدر ما أكل فيه قولان للشافعي الجديد منهما عدم اللزوم. وقال أبو حنيفة: يلزمه جزاء آخر في صيد الإحرام ووافقنا في صيد الحرم. وروى عن ابن القاسم: أنه إن كان عالمًا أنه صيد من أجله أو من أجل محرم سواه فالجزاء عليه وإن لم يعلم فلا شيء عليه. وروى عن مالك في "المختصر" و"كتاب ابن المواز" و"العتبية" أنه لا جزاء على من لم يصد من أجله من المحرمين. وقال أصبغ: لا جزاء عليه وإن صيد من أجله وإن علم كمن أكل ميتة محرمة وغير هذا خطأ (1). العاشر: تبسط الإِنسان إلى صاحبه بطلب ما يؤكل. الحادي عشر: تطييب قلوب الاتباع بأكل ما شكوا في حله

_ (1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (11/ 281): وهم مختلفون فيما صاده الحلال هل يحل للمحرم أكله، على أقوال: أحدها: أن كل الصيد حرام على المحرم بكل حالٍ، على ظاهر قول الله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] لم يخصّ أكْلًا مِنْ قَتْلٍ. والثاني: أن ما صاده الحلال جاز لمن كان حلالًا في حين اصطياده محرمًا دون من كان محرمًا من ذلك الوقت وقت اصطياده. والثالث: أن ما صيد لمحرم بعينه جاز لغيره من المحرمين أكله ولم يجز ذلك له وحده. والرابع: أن ما صيد لمحرم لم يجز له ولا لغيره من المحرمين أكله. اهـ.

أو كان عندهم وفيه إذا كان عنده علم من جوازه وحله وموافقتهم في الأكل وقد تقدم مثل هذا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت" (1) إشارة إلى موافقتهم في الحلق وتطييب قلوبهم. الثاني عشر: المبالغة في بيان الأحكام حيث قال: "هل معكم منه شيء؟ وأكل منه"، واستدل بعض المالكية على أن المدني يجوز له تأخير الإِحرام إلى الجحفة إذا كان مريدًا للحج أو للعمرة. وحكى ابن عبد البر (2) خلافًا عن أصحاب مالك في وجوب الدم لمجاوزته. واستدل به بعضهم أيضًا: على أن الآمر بقتل الصيد كالقاتل نفسه وأن الدال على الخير والشر كفاعله. قال بعض المالكية: وانظر لو دل أحد على مال رجل أو على قتله فأخذ أو قتل بجرم الدال يقاد منه كما قال أشهب في المحرم الدال على قتل الصيد. قلت: وهذه المسألة اختلف الناس فيها. فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا شيء على المحرم الدال للحلال. وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين: عليه الجزاء.

_ (1) سبق تخريجه. (2) الاستذكار (11/ 83).

وكذلك اختلفوا في المحرم إذا دل محرمًا آخر. فذهب الكوفيون وأشهب إلى أن على كل واحد منهم جزاء. وقال مالك والشافعي وأبو ثور: الجزاء على المحرم القاتل. وكذلك الخلاف فيما لو أعانه بالرمح أو بالسوط وبأي مؤنة كانت. قال القرطبي وقال بعض شيوخنا: ولو أشار إليه ليصيد لكان دالًا ويجري فيه الخلاف المذكور. فائدة: روى الدارقطني (1) والبيهقي (2) بإسناد صحيح في هذا الحديث أن أبا قتادة ذكر شأنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه إنما اصطاده له قال: "فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فأكلوا، ولم يأكل [منه] (3) حين أخبرته أني اصطدته [له] (4) ". قال الدارقطني: قال أبو بكر النيسابوري (5): قوله: "إنما اصطدته لك"، وقولهم: "لم يأكل منه" لا أعلم أحدًا ذكره في هذا الحديث غير معمر قال البيهقي: وهذه الرواية غريبة والذي في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- أكل منه، قال: وإن كان سندها صحيح.

_ (1) الدارقطني (2/ 291). (2) البيهقي (5/ 190)، ومعرفة السنن (7/ 431). (3) زيادة من الدارقطني. (4) في المخطوط (لهم)، وما أثبت من الدارقطني، ولعله (لك)، كما هي في السطر الذي يليه. (5) انظر: البيهقي (5/ 191)، ومعرفة السنن (7/ 431).

قال النووي في "شرح المهذب" (1): ويحتمل أنه جرى لأبي قتادة في تلك السفرة قضيتان للجمع بين الروايتين. خاتمة: ترجم البخاري على هذا الحديث جزاء الصيد ونحوه (2) وإذا رأى المحرمون صيدًا فضحكوا ففطن الحلال (3) وساق الحديث وفيه: "فبصر أصحابي بحمار وحشي، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه" الحديث، وترجم عليه أيضًا لا يعين المحرم الحلال في قتل الصيد (4)، ولا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال (5). ...

_ (1) المجموع (7/ 326). (2) لم يدخله في هذه الترجمة وإنما للتي بعده، باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد كله. (3) البخاري في الفتح (4/ 26)، ح (1822). (4) البخاري في الفتح (4/ 26)، ح (1823). (5) البخاري في الفتح (4/ 28)، ح (1824).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 270/ 2/ 51 - عن الصعب بن جثّامة الليثي أنه أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً، وهو بالأبواء -أو بودان- (¬1) فلما رأى ما في وجهه، قال: "إنا لم نرده عليك إلاَّ أنا حرم" (¬2). وفي لفظ لمسلم: رجْل حمار (¬3). وفي لفظ: شق حمار (¬4). وفي لفظ: عجز حمار (¬5). قال المصنف: وجه هذا الحديث أنه ظن أنه صيد لأجله، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله. ¬

_ (¬1) في متن العمدة زيادة (فرده عليه). (¬2) البخاري في أطرافه (1825)، ومسلم (1193)، والترمذي في الحج (849)، باب: ما جاء في كراهية لحم الصيد، والنسائي (5/ 183، 184)، وابن ماجه (3090)، وابن الجارود (436)، ومالك (1/ 325)، وأحمد (4/ 38، 72)، والبيهقي (5/ 191)، والبغوي (1987)، والدارمي (2/ 39)، والحميدي (783). (¬3) مسلم (1193) (54). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق.

الكلام عليه من وجوه: الأول: التعريف براويه هو الصعب بفتح الصاد وسكون العين المهملتين ثم باء موحدة بن جثّامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة ثم ألف ثم ميم مخففة مفتوحة، ثم هاء تأنيث ابن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر وهو الشدَّاخ (¬1) لأنه شدخ الدماء بين بني أسد وخزاعة أي أهدرها ابن عود بن كعب بن عامر بن الليث ابن بكر الحجازي المدني الليثي أخو محلم بن جثّامة. هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعداده في أهل الطائف روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر حديثاً اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد وهو هذا، روى عنه ابن عباس وغيره وكان ينزل بودان من أرض الحجاز مات بالكوفة في خلافة الصديق (¬2)، وقال ابن حبان في "ثقاته" (¬3): مات في آخر خلافة عمر والمشهور الأول. واسم أمه: فاختة. الثاني: في نسبه "الليثي" -بفتح اللام المشددة والياء المثناة ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في نزهة الألباب في الألقاب (2/ 397)، الشداخ الليثي أحد حكام العرب اسمه: يعمر بن قيس الليثي، ويقال: ابن عوف، ويقال: اسمه حمصة، ويقال: -بلعاء بن عاصم. قال المرزباني: قيل له: الشداخ لأنه كان من حكام العرب لقوله: شدخت دماء بني كنانة تحت قدمي. (¬2) في تهذيب التهذيب، وقد أخطأ من قال مات في خلافة أبي بكر خطأ بينا. (¬3) الثقات (3/ 195).

تحت ثم الثاء المثلثة ثم ياء النسب -نسبة إلى ليث جد من أجداده كما أسلفناه والليثي أيضاً نسبة إلى ليث بن كنانة كذا ذكره السمعاني (¬1)، واعترض عليه ابن الأثير (¬2)، فقال: هو يرجع إلى الأول فإن ليث كنانة هو ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. قلت: واللَّيْثي يشتبه باللِّيني -بكسر اللام وسكون الجاء ثم نون ثم ياء النسب- نسبة إلى قرية الليِّن منها محمد بن نصر بن الحسين بن عثمان المروزي العابد الصالح روى عن وكيع وغيره مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، قال السمعاني (¬3): كذا ذكره ابن ماكولا ولا أعرفه، قال: وظني أنها قرية آللين بالألف الممدودة. قلت: ويشتبه أيضاً بأربعة أشياء أُخر ذكرتهم في مشتبه النسبة (¬4). الثالث: في ضبط. ما وقع فيه من الأمكنة: أما الأبواء: فهو بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد قرية جامعة من عمل الفرع بضم الفاء وإسكان الراء المهملة من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً سميت بذلك ¬

_ (¬1) اللباب في تهذيب الأنساب (3/ 137). (¬2) ما ذكره ليس موجود في النسخة التي بين يديّ. (¬3) انظر: اللباب في تهذيب الأنساب (3/ 139). (¬4) انظر: توضيح مشتبه النسبة لابن ناصر (7/ 372)، اللُّبَّني، اللُّبْني، اللَّنْتي، اللَّيْني.

لتبوء السيول بها، وقيل غيره، وبها توفيت آمنة أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفنت (¬1). وأما ودان: فهو بفتح أوله ثم دال مهملة مشددة ثم ألف ثم نون غير منونة قرية جامعة من عمل الفرع بينها وبين هَرْشَي نحو من ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال قريبة من الجحفة، وهي والأبواء بين مكة والمدينة (¬2)، وروى البيهقي (¬3) عن عمرو بن أمية الضمري أن الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم وإسنادها صحيح (¬4) كما سيأتي مع ¬

_ (¬1) انظر: معجم البلدان (1/ 71)، وانظر الحديث الأول من باب غسل المحرم. (¬2) انظر: معجم البلدان (5/ 365). (¬3) البيهقي (5/ 193). (¬4) قال ابن التركماني -رحمنا الله وإياه- (5/ 193) على قوله: "إسناد صحيح". قلت: هذا في سنده يحيى بن سليمان الجعفي عن ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب هو الغافقي المصري، ويحيى بن سليمان ذكر الذهبي في الميزان والكاشف عن النسائي أنه ليس بثقة، وقال ابن حبان: ربما أغرب والغافقي، قال النسائي: ليس بذاك القوي، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أحمد: كان سيًىء الحفظ يخطىء خطاءاً. كثيراً وكذبه مالك في حديثين فعلى هذا لا يشتغل بتأويل هذا الحديث لأجل سنده ولمخالفته للحديث الصحيح، وقول البيهقي: "وقبل اللحم" يرده ما في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- رده. اهـ. أما كلام ابن حجر على هذا في الفتح (4/ 33)، فقد نقل جمع البيهقي بأن الرد للحي وأنه قبل اللحم. وتعقبه بقوله: في هذا الجمع نظر. ثم نقل كلام القرطبي ولم يتعقبه بشيء.

الجواب عنها. الرابع: فيما يتعلق به من لغة وإعراب. الأصل أن "أهدي" تتعدى بإلى كما في رواية المصنف، وفي رواية لمسلم تعديه بـ "اللام فتكون بمعنى "إلى" ويحتمل على ضعف أن تكون بمعنى أجل. وحقيقة الهدية: ما نقل إلى مكان الموهوب له على سبيل الإِكرام. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنا لم نرده عليك إلاَّ أنا" همزة الأولى مكسورة لكونها ابتدائية، وهمزة "أن" الثانية مفتوحة لكونها تعليلية وحذفت لام التعليل منها والتقدير: لأنَّا حرمٌ أو لأجل أنَّا حرم، و"الدال" في قوله: "نردَه عليك" مفتوحة (¬1) عند الأكثرين، وهو المشهور عند المحدثين، وهو مخالف لمذهب المحققين من النحاة كسيبويه وغيره، فإن عندهم أنها مضمومة وذلك في كل مضاعف مجزوم، اتصل به هاء ضمير المذكر نحو "رده" ولم "يرده" أو "صبه" و"لم يَصُبَّه", وأشباه ذلك وهو متصل عندهم بأن الهاء حرف خفي، فكأن الواو التي كان حقها أن تَثبُت خطاً بعد الهاء، أُثبتت الألف بعد الهاء في "ردها"، وليت الدال وما قبل هذا بالواو لا يكون إلاَّ مضموماً. وعبر بعضهم. أن الضم لاتباع ضم ما قبله وهذا إنما هو فيما إذا لم يتصل به ضمير المذكر. ¬

_ (¬1) والفعل هنا "نردَه" بالنصب لأنه وقع مجزوماً وهو مضعف ثلاثي لم تظهر عليه علامة الجزم نظراً للتضعيف فيكون بالنصب.

ووجه المشهور عند المحدثين مقابلة التثقيل بعذوبة الفتحة. وفيه لغة ثالثة: كسر الدال على أصل التقاء الساكنين وأُشهِد، وأعلِمْهَا: قال أبو ليلى لحُبْلَى مده: حتى إذا مَدَدْتِه فَشُدِّهِ ... إن أبا ليلي نسيجَ وحدِه وأنشدوا على الفتح: إذا أنت لم تنفع فضرُ فإنما ... يراد الفتى كيما يضرَ وينفعُ كذا رواه يونس بضم الراء في قوله "فضرُ" حكاه محمد بن سلاّم عنه وحكى ثعلب (¬1) في "فصيحه" زر القميص وزره الحركات الثلاث، قال النووي (¬2): والأصح وجوب الضم في "ردهُ" ونحوه للمذكر (¬3) والكسر ضعيف وأضعفها [] (¬4)، وغلطوا صاحب "الفصيح" فيه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه. ¬

_ (¬1) شرح الفصيح لأبي منصور ابن الجبان (119، 120)، قال والأمر منه: زُرُّه، وزُرَّه، وزُرَّهِ بفتح آخر، وضَمِّه وكسره في لغة قوم، وآزْرُرْ في لغة آخرين، وهم أهل الحجاز، فمن ضم للاتباع، ومن كسر فللساكنين، ومن فتح فلأن الفتح أخف. وانظر: التلويح شرح الفصيح لأبي سهل الهروي. (¬2) شرح مسلم (8/ 104). (¬3) العبارة هكذا في شرح مسلم للنووي (8/ 104)، ففيه ثلاثة أوجه أفصحها وجوب الضم كما ذكره القاضي والثاني الكسر وهو ضعيف, والثالث الفتح، وهو أضعف منه وممن ذكره ثعلب في الفصيح لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته، ولم ينبه على ضعفه. اهـ. (¬4) فيه سقط يتضح من الكلام السابق وهو (الفتح).

واحترزنا بضمير المذكر عن ضمير المؤنث، فإنه يتعين الفتح ليس إلَّا نحو "ردها ولم يردها" لما تقدم من أن الهاء حرف خفي فكأن الألف أيضًا، وليت الدال والألف لا يكون قبلها غير مفتوح. وقوله: "حُرُمٌ" هو -بضم الحاء والراء- أي محرمون وهو جمع حرام، وقيل: إنه "كرضى" يقع على الواحد والجمع والحرام الذي يدخل الإِحرام أو الحرم، ويقال: أيضًا للمذكر والمؤنث. وقوله: قبل هذا "فلما رأى ما في وجهه" أي من الكراهة لرد هديته. وصرح بذلك في بعض الروايات "فلما رأى ما في وجهي من الكراهة". الخامس: في فقه الحديث وقد تقدم الكلام عليه في الحديث الذي قبله وجمعنا بينهما. وما ذكره المصنف من قوله: "وجه هذا الحديث" إلى آخره، هو ما نقله الترمذي عن الشافعي كما عزاه، هو إليه في "عمدته الكبرى" واختصره هنا، والشافعي قاله احتمالًا كما ستعلمه. السادس: قوله: "حمارًا وحشيًا" ظاهره أنه أهداه بجملته حيًا وعليه بوب البخاري باب إذا أهدى المحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل. وكذا البيهقي (1): حيث قال: باب لا يقبل المحرم ما يهدى له من الصيد حيًا. وقيل: إنه تأويل مالك -رحمه الله-، وهو ما فهمه أصحابنا فإنهم احتجوا به في هدية الصيد الحي، وجعلوه حمارًا حيًا، وعلى مقتضاه: يستدل به على منع وضع المحرم يده على

_ (1) السنن الكبرى (5/ 191).

الصيد بطريق التملك بالهدية، ويقاس عليها ما في معناها من البيع والهبة، وهذا ترده الروايات المذكورة في الكتاب عن مسلم من قوله: "عجز" أو "شق"، أو "رجْل حمار" فإنها مصرحة بالبعض دون الجملة وبكونه مذبوحًا لا سيما رواية مسلم "عجز حمار وحش يقطر دماً"، وليت المصنف ذكرها على هذا الوجه، فإنها كذلك فيه وروايته الأخرى "من لحم حمار وحش"، فيحمل قوله "حمارًا وحشيًا" على المجاز من باب تسمية البعض باسم الكل، أو على حذف مضاف، ولا تبقى فيه دلالة على منع تملك الصيد بالهبة بل فيه دلالة على منعه من وجه آخر لأنه إذا منع ملك بعض الصيد بالهبة، فلأن يحرم ملك كله من باب أولى. ويحتمل أن الصعب ظن أنه إنما رد الحمار عليه لمعنى يخصه بجملته، فذكاه ثم جاء بجزء منه فأعلمه بامتناعه بأنه "حرم"، وأن حكم الجزء حكم الكل. وأعلم أن البيهقي طرق حديث الصعب، وأوضحها، قال: وابن عيينة خالف أصحاب الزهري حيث قال "لحم حمار" وهم قالوا: "حمار وحش"، قال الحميدي: وكان سفيان فيما خلا ربما قال: هذا ثم صار إلى "لحم" حتى مات، قال البيهقي (¬1): وانفرد الحكم بذكر اللحم وما في معناه، ثم نقل عن الشافعي أنه قال: إن كان الصعب أهداه حيًا فليس لمحرم ذبح حمار وحش حي، وإن كان أهدى الحمار فيحتمل أنه علم أنه صيد له فرده عليه [وأيضاً ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (5/ 192).

جاء] (¬1) في حديث جابر بن عبد الله يعني "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم". قال الشافعي: وحديث مالك "إن الصعب أهدى حماراً" أثبت من حديث من حدث أنه أهدى له "من لحم حمار"، قال البيهقي: وقد روى في حديث الصعب أنه أكل منه، قال: وإسناده صحيح، قال: وإن كان محفوظاً، وكأنه رد الحمار وقبل اللحم. السابع (¬2): تعليله -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "إنا حرم" يقتضي منع أكل المحرم الصيد مطلقاً. حيث علل به محرماً، والذين أباحوا أكله لا يكون مجرد الإِحرام علة عندهم بل العلة عندهم كونه صيد لأجله جمعاً بينه، وبين حديث أبي قتادة كما أسلفناه، ويقوى هذا أنه -عليه الصلاة والسلام- قبل حمار البهزي (¬3) وقسمه بين الرفاق، قال الأصيلي: وإنما قبله لأنه كان مكتسباً بالصيد فحمله على عادته ورد بإجابة الصعب لظنه أنه صاده من أجله. ولمسألة أكل المحرم تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬4)، وهل المراد بالصيد نفس الاصطياد، أو المصيد؟ ¬

_ (¬1) في السنن الكبرى (5/ 193) (وإيضاحه في). (¬2) هذه المسألة من إحكام الأحكام (3/ 605). (¬3) مالك في الموطأ (1/ 351)، والنسائي (5/ 182، 183)، وأحمد في المسند (3/ 452)، والبيهقي في المعرفة (7/ 432)، والمغازي للواقدي (3/ 1092، 1093). وانظر: الاستذكار (11/ 282)، والتمهيد (23/ 342). (¬4) سورة المائدة: آية 96.

فيه ما أسلفناه في الحديث قبله, ولكن تعليله -عليه الصلاة والسلام- بأنه حرم قد يكون إشارة إليه (¬1). الثامن: يؤخذ من الحديث أحكام. الأول: جواز الهدية وقبولها إذا لم يكن مانع يقتضي ردها، والهدية مباحة له - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الصدقة. الثاني: منع وضع اليد على الصيد المحرم بطريق التملك كما أسلفناه. الثالث: الاعتذار إلى المهدي إذا لم تقبل هديته فيطيب قلبه بتعيين العذر، قال أبو علي (¬2) النيسابوري: هذا أصح حديث في الاعتذار. الرابع: جواز الاصطياد لغير المحرم. ¬

_ (¬1) وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (11/ 272): معناه الاصطياد. وقيل: الصيد وأكله لمن صاده وأما من لم يصده فليس ممن عني بالآية. ويبين ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لأن هذه الآية إنما نهى فيها عن قتل الصيد واصطياده لا غير. اهـ. قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (3/ 606): أي إلى أن المراد تحريم أكل لا الاصطياد. اهـ. (¬2) هو الحسين بن علي بن يزيد شيخ أبي عبد الله الحاكم، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين، وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. ترجمته تاريخ بغداد (8/ 71)، والتهذيب لابن عساكر (4/ 347)، والنجوم الزاهرة (3/ 324).

الخامس: حل أكل حمار الوحش لغير المحرم وحله للمحرم إذا صاده الحلال، ولم يكن للمحرم في صيده إعانة ولا سبب. السادس: مراعاة جانب الشرع، وتقديمه على جانب الخلق وحظوظ النفس. السابع: تعيين الأحكام الشرعية، وإيضاحها. الثامن: تحريم أجزاء الصيد على المحرم: رجله، وشقه، وجانبه، وعجزه، وغيرهما والحمد - صلى الله عليه وسلم - رب العالمين. اننهى الجزء السادس ويليه الجزء السابع كتاب البيوع ***

الإِعلامُ بفوائِد عُمدة الأَحْكام للإِمَام الحَافظ العَلّامَة أبي حَفص عُمْر بْن عَليٍّ بْن أَحْمد الأَنْصَاريِّ الشَّافِعيِّ المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هَيئة كبَار العُلمَاء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هَيئة كبَار العُلمَاء وعضو اللجَنة الدائمة للافتَاء حقّقهُ وضَبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه وَوثّق نقوله وعَلّق عَليه عبد العزيز بن أحمد بن محمّد المشيقح غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء السَّابع كتاب البيوع (271 - 311) حَديث دَارُ العَاصَمة للنَشْرِ وَالتوزيع

كتاب البيوع

كتاب البيوع

52 - باب البيوع

52 - باب البيوع (¬1) هو جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، ويستعمل بمعنى الشراء أيضاً، وشريت أيضاً يستعمل لمعنيين، وكل واحد مبيع وبائع، لأن الثمن والمثمن كل واحد منهما مبيع. ويقال: بعته وأبتعته فهو مبيع ومبيوع (¬2)، والمحذوف من مبيع الواو لزيادتها، إذ عين الكلمة [فالأول] (¬3) للخليل (¬4)، والثاني: للأخفش (¬5). ¬

_ (¬1) من هنا بداية سقط في هـ وينتهى في ص 39. (¬2) في شرح مسلم (10/ 154) العبارة هكذا: قال الجوهري: كما تقول مخيط ومخيوط. قال الخليل: المحذوف من مبيع واو مفعول لأنها زائدة فهي أولى بالحذف. وقال الأخفش: المحذوف عين الكلمة. (¬3) في الأصل قولان ولعله خطأ من الناسخ وما أثبت حسب المراجع وسياق الكلام. (¬4) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري، ولد سنة 100هـ وتوفي سنة سبعين ومائة على اختلاف. أخبار النحويين للسيرافي (38)، وتاريخ العلماء النحويين (124)، وإشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين (114). (¬5) سعيد بن مسعدة الأخفش الأصغر، فيل إنه توفي سنة سبع ومائتين. على اختلاف في ذلك. تاريخ العلماء النحويين (85)، ومراتب النحويين (111، 112)، وأخبار النحويين للسيرافي (66).

قال المازني (¬1): كلاهما حسن، والثاني, أقيس. وبيع الشيء: بالكسر والضمّ بالإِشمام وبوع لغة فيه، وكذا القول في كيل (¬2). وحكى الزجاج عن أبي عبيدة: أباع بمعنى باع وهو غريب شاذ. والبيع في اللغة: مقابلة شيء بشيء. وفي الشرع: مقابلة مال بمال ونحوه مقابلة ملك بعوض وهو والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام عالم الإِنسي لاحتياجه إلى الغذاء والغشيان. وذكر المصنف -رحمه الله- في الباب حديث ابن عمر، وحديث حكيم بن حزام: ... ¬

_ (¬1) هو بكر بن محمد المازني أبو عثمان، وتوفي سنة سبع وأربعين ومائتين. تاريخ العلماء النحويين (65)، وأخبار النحويين البصريين (74، 85). تنبيه: في شرح مسلم (10/ 154) المازري، وهو تصحيف فليصحح. (¬2) انظر: لسان العرب (1/ 556، 557).

الحديث الأول

الحديث الأول 271/ 1/ 52 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً. أو يخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث أخرجه البخاري (¬2) بهذا اللفظ بزيادة بعد: "فقد وجب البيع"، "وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع". وقد ذكره بهذه الزيادة المصنف في "عمدته الكبرى"، وترجم عليه البخاري (¬3)، "باب: إذا خير أحدهما ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2107)، ومسلم (1531)، والترمذي (1245)، وأبو داود في البيوع (3455) باب: خيار المتبايعين، والنسائي (7/ 248، 249، 250)، والبيهقي (5/ 269)، والحميدي (654)، والبغوي (2048)، وابن أبي شيبة (7/ 176)، وعبد الرزاق (14262، 14263)، وأحمد (2/ 4، 73). (¬2) البخاري (2112)، ومسلم (1531) (44). (¬3) الفتح (4/ 333) مع رقم الحديث المذكور في التعليق.

صاجه بعد البيع فقد وجب البيع". وفي رواية له (¬1): "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع خيار"، وترجم عليها "باب: إذا لم يوقت في الخيار هل يجوز البيع أم لا". وذكره بألفاظ أخر وترجم عليه أبواباً. ورواه مسلم: بألفاظ منها لفظ المصنف بزيادة بعد قوله (¬2): "أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر" إلى آخره بالزيادة إلى ذكرها من عند البخاري أيضاً ومنها (¬3): "إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو قال: يكون بيعهما عن خيار. فإذا كان بيعهما عن خيار، فقد وجب البيع". الثاني: معنى قوله: "أو يخير أحدهما الآخر" أن يقول له اختر إمضاء البيع، فإذا اختار امضاءه وجب البيع -أي لزم، وانبرم- فإن خَير أحدهما الآخر فسكت لم ينقطع خيار الساكت وفي انقطاع خيار القائل وجهان لأصحابنا. أصحهما: الانقطاع لظاهر الحديث. الثالث: الحديث دال على ثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين بعد انعقاد البيع حتى يتفرقا من ذلك المجلس بأبدانهما، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 332) ورقم الحديث (2113). (¬2) مسلم (1531) (44). (¬3) مسلم (1531) (45).

الفقهاء والمحدثين وغيرهم، وهو قول البخاري (¬1) والشافعي وأحمد وابن حبيب من المالكية. ونفاه مالك (¬2) وأبو حنيفة (¬3) ................... ¬

_ (¬1) البخاري، باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (4/ 328) ح "2110". (¬2) فالمالكية: يقولون يلزم العقد بالإِيجاب والقبول، لا يثبت فيه خيار المجلس، لأن الله أمر بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} والخيار منافٍ لذلك، فإن الراجع عن العقد لم يف به ولأن العقد يتم بمجرد التراضي بدليل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} والتراضي يحصل بمجرد حضور الإِيجاب والقبول فيتحقق الالتزام من غير انتظار لآخر المجلس. اهـ. (¬3) فتأول الحنفية حديث خيار المجلس: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" بأنه وارد في مرحلة ما قبل تمام العقد ومعناه: المتساومان قبل العقد، إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه. والمراد بالتفرق: هو التفرق بالأقوال لا بالأبدان. وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، وللآخر الخيار إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول أو الرجوع. اهـ. وقد تعقب ابن عبد البر مذهبهما في التمهيد (14/ 11، 14) قائلاً: قد أكثر المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج لمذهبهما في رد هذا الحديث بما يطول ذكره، وأكثره تشعيب، لا يحصل منه على شيء لازم لا مدفع له؛ ومن جملة ذلك، أنهم نزعوا بالظواهر، وليس ذلك من أصل، مذهبهم؛ فاحتجوا بعموم قول الله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قالوا: وهذان قد تعاقدا، وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقد؛ وبعموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع طعاماً لا يبعه حتى يستوفيه". قالوا فقد أطلق بيعه إذا استوفاه قبل التفريق وبعده. وبأحاديث كثيرة مثل هذا، فيها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إطلاق البيع دون ذكر التفرق، وهذه ظواهر وعموم، لا يعترض بمثلها على الخصوص والنصوص، وبالله التوفيق. واحتجوا أيضاً بلفظة رواها عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا, ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله"، قالوا: فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق؛ لأن الإِقالة لا تصح إلاَّ فيما قد تم من البيوع. وقالوا: قد يكون التفرق بالكلام، كعقد النكاح وشبهه، وكوقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقاً؛ والتفرق بالكلام في لسان العرب معروف أيضاً، كما هو بالأبدان؛ واعتلوا بقول الله عز وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}. وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تفترق أمتي" لم يرد بأبدانهم قالوا ولما كان الاجتماع بالأبدان لا يؤثر في البيع، كذلك الافتراق لا يؤثر في البيع؛ وقالوا إنما أراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المتبايعان بالخيار" -المتساومين. قال: ولا يقال لهما متبايعان، إلاَّ ما داما في حال فعل التبايع، فإذا وجب البيع لم يسميا متبايعين، وإنما يقال كانا متبايعين، مثل ذلك المصلي، والآكل، والشارب، والصائم؛ فإذا انقضى فعله ذلك، قيل كان صائماً، وكان آكلاً، ومصلياً، وشارباً؛ ولم يقل إنه صائم، أو مصل، أو آكل، أو شارب إلاَّ مجازاً، أو تقريباً واتساعاً، وهذا لا وجه له في الأحكام؛ قالوا فهذا يدل على أنه أراد بقوله البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، والمتبابعان بالخيار ما لم يتفرقا -المتساومين. وعن أبي يوسف القاضي نصاً أنه قال: هما المتساومان، قال: فإذا قال بعتك بعشرة، فللمشتري الخيار في القبول في المجلس قبل الافتراق, وللبائع خيار الرجوع في قوله قبل قبول المشتري؛ وعن عيسى بن أبان نحوه أيضاً. وقال محمد بن الحسن: معنى قوله في الحديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا .. أن البائع إذا قال قد =

وربيعة (¬1). وحكى عن النخعي (¬2) وهو رواية عن الثوري (¬3) والأحاديث الصحيحة ترد عليهم وليس لهم عنها جواب صحيح. فمن اعتذاراتهم: أنه حديث خالفه راويه فإن مالكاً رواه ولم يقل به. وروى البيهقي (¬4) عن ابن عيينة أنه حدث الكوفيين بحديث ابن عمر هذا فحدثوا به أبا حنيفة، فقال أبو حنيفة: ليس هذا بشيء، ¬

_ = بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت؛ وهو قول أبي حنيفة، وقد روي عن أبي حنيفة أنه كان يرد هذا الخبر باعتباره إياه على أصوله كسائر فعله في أخبار الآحاد، كان يعرضها على الأصول المجتمع عليها عنده، ويجتهد في قبولها أو ردها؛ فهذا أصله في أخبار الآحاد، وروي عنه أنه كان يقول في رد هذا الحديث: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أو قيد، كيف يفترقان؟ إذن فلا يصح بين هؤلاء بيع أبداً. وهذا مما عيب به أبو حنيفة -وهو أكبر عيوبه، وأشد ذنوبه - عند أهل الحديث الناقلين لمثالبه، باعتراضه الآثار الصحاح، ورده لها برأيه؛ وأما الإِرجاء المنسوب إليه فقد كان غيره فيه أدخل، وبه أقول؛ لم يشتغل أهل الحديث من نقل مثالبه، ورواية سقطاته، مثل ما اشتغلوا به من مثالب أبي حنيفة؛ والعلة في ذلك ما ذكرت لك لا غير؛ وذلك ما وجدوا له من ترك السنن، وردها برأيه؛ أعني السنن المنقولة بأخبار العدول الآحاد الثقات، والله المستعان. اهـ. (¬1) انظر: الاستذكار (20/ 227). (¬2) مصنف عبد الرزاق (8/ 52). (¬3) مصنف عبد الرزاق (8/ 53). (¬4) السنن الكبرى للبيهقي (5/ 272).

أرأيت إن كانا في سفينة. قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال (¬1). ومنها: أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى. ومنها: أنه يخالف القياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها. ومنها: أنه معارض لإِجماع أهل المدينة وعملهم. ومنها: أنه حديث منسوخ. ومنها: أنه محمول على خيار الشرط أو صار إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن. ¬

_ (¬1) قال ابن التركماني: قلت: هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الركبان وشحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من ورعه المشهور ولقد حكى الخطيب في تاريخه أن الخليفة في زمنه أرسل إليه يستفتيه في مسألة فأرسل إليه بجوابها فحدثه بعض من كان جالساً في حلقته بحديث يخالف فتياه فرجع عن الفتيا وأرسل الجواب إلى الخليفة على مقتضى الحديث ويحتمل أن تكون الآفة من بعض رواة الحكاية ولم يتعين ابن عيينة من حدثه بذلك بل قال حدثونا وعلى تقدير صحة الحكاية لم يرد بقوله: ليس هذا بشيء الحديث. وإنما أراد ليس هذا الاحتجاج بشيء يعني تأويله بالتفرق بالأبدان فلم يرد الحديث بل تأوله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال لقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، ولهذا قال أرأيت لو كانا في سفينة أو تأول المتبايعان بالمتساومين علي ما هو معروف من مذهب الحنفية ومذهبه هو قول طائفة من أهل المدينة وإليه ذهب مالك وربيعة والنخعي وأهل الكوفة ورواه عبد الرزاق عن الثوري. اهـ. من السنن الكبرى للبيهقي (5/ 272).

ومنها: حمل المتبايعين على المتساومين وكل هذه اعتذارات عجيبة، وقد قررها الشيخ تقي (¬1) الدين في "شرحه"، وذكر الجواب عنها. وقد أغلظ ابن أبي ذئب على مالك لما بلغه مخالفة الحديث بعبارات مشهورة حتى قال: يستتاب مالك (¬2) من ذلك فأين إجماع أهل المدينة؟ وقد قال به أيضاً من أهل المدينة سعيد بن المسيب والزهري. وهذا عبد الله بن عمر رأس المفتين في وقته بالمدينة كان يرى به أيضاً، "وكان إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه" ورواية البيهقي (¬3) من حديث عبد الله بن عمر، كما رواه عنه نافع آخر ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 5، 26) واكتفى بعزوه إليه عن نقل ما يحتاج نقله في هذا الموضع اكتفاء بوجوده فيه. (¬2) المنقول عن الإِمام مالك -رحمنا الله وإياه- أنه قال: العمل عندي على غيره، لأن أهل بلدنا رأيتهم يقولون: فرقة الكلام. فقال ابن أبي ذئب: يجب أن يستتاب في هذا مالك!! فإنه يروى، ولا يعمل به، قوله: "فرقة الكلام" أي حمل قوله: "حتى يتفرقا" على التلفظ بالإِيجاب، والقبول. وليس المراد التفرق بالأبدان، وعند أكثر أهل العلم أن المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان، وأنهما "أي البائع والمشتري" بالخيار بين فسخ البيع وإمضائه ما لم يتفرقا بالأبدان -كما سيأتي أنه مروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. وقد تعرض لهذه المسألة كثير من الأئمة بالتفصيل وتوضيح مقصد الإِمام مالك -رحمنا الله وإياه- فمنهم القاضي عياض في كتابه "ترتيب المدارك" (1/ 53)، وابن العربي في "القبس" (2/ 844، 845)، ونقل ذلك مفصلاً ابن حجر في فتح الباري (4/ 330). (¬3) السنن الكبرى للبيهقي (5/ 269).

الحديث (¬1)، وتفسير الراوي مقدم على تفسير غيره، ويعضده "حتى يتفرقا من مكانهما" (¬2)، وهي صريحة في أن المراد بالتفرق هو التفرق من المكان لا التفرق بالأقوال، وهو لفظ البيع وفي "سنن أبي داود" (¬3)، و"جامع الترمذي" (¬4)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلاَّ أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله"، قال الترمذي: حديث حسن. قال المصنف: في "عمدته الكبرى" فلو كانت الفرقة بالكلام ولم يكن خيار بعد البيع لم يكن لهذا الحديث معنى حيث قال: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله"، وكذا جعل الترمذي في "جامعه" (¬5) هذا الحديث دليلاً لإِثبات خيار المجلس، واحتج به على المخالف لأن معناه أن يختار الفسخ فعبر بالإِقالة عن الفسخ. لأنها فسخ وما سلف عن أبي حنيفة من قوله: "أرأيت إن كانا في سفينة" ¬

_ (¬1) البخاري (2107)، ومسلم (1531) (45)، والبيهقي (5/ 269). (¬2) هي رواية ابن عمر عند البيهقي. (¬3) أبو داود في البيوع (3456) باب: خيار المتبايعين. (¬4) الترمذي (1247)، والنسائي (7/ 251، 252)، وأحمد (2/ 183)، وابن الجارود (620)، والدارقطني (3/ 6)، والبيهقي (5/ 271)، وسنده حسن كما قال الترمذي. وانظر: تلخيص الحبير (3/ 20) , وأبو داود في البيوع (3456) باب: في خيار المتبايعين، السنن الصغرى للبيهقي (2/ 242). (¬5) الترمذي (3/ 538) باب: ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا.

عجبت منه، فنحن نقول به فإن خيارهما باق ما داما مجتمعين فيها ولو بقيا سنة وأكثر. ومن جملة اعتذاراتهم عن الحديث: استحالة العمل بظاهره، لأنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه فلا يخلوا، إما أن يتفقا على الاختيار أو يختلفا، فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار، وإن اختلفا فإن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإِمضاء فقد استحال أن يثبت لكل واحد منهما على صاحبه الخيار، أو الجمع بين الفسخ والإِمضاء مستحيل فيلزم تأويل الحديث ولا يحتاج إليه ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر. وأجيب: عن هذا بأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يثبت مطلق الخيار، بل أثبت الخيار، وسكت عما فيه الخيار، فنحن نحمله على خيار الفسخ، فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ، على صاحبه. الرابع: الحديث دال أيضاً على أن خيار المجلس ينقطع بالتخاير منهما أو من أحدهما. الخامس: الحديث دال أيضاً على أنهما إذا تبايعا بشرط الخيار ووقع التبايع عليه أن البيع لازم من غير خيار المجلس، هذا ظاهر لفظ الحديث حيث علق التخيير بالتبايع وجعله أمراً موجباً للبيع، ولا معنى لوجوبه إلاَّ عدم ثبوت خيار المجلس، لكن الفقهاء قد فسروا انقطاع خيار المجلس بالتخاير، إما لإِمضاء البيع أو فسخه، ولم يذكروا أنه إذا شرطه أنه يكون مسقطاً لخيار المجلس، بل قالوا:

خيار المجلس ثابت بأصل البيوع لا يسقطه شيء، وحكوا خلافاً فيما إذا تبايعا وشرطا عدم الخيار مطلقاً. والأصح عند الشافعية: عدم صحة البيع. وقيل: يصح، وفي ثبوت الشرط على هذا وجهان. ***

الحديث الثاني

الحديث الثاني 272/ 2/ 52 - عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الوجه الأول: هذا الحديث باللفظ المذكور هو للبخاري (¬2) في، "باب: إذا بيَّن البيعان ولم يكتما ونصحاً". رواه مسلم (¬3) في صحيحه بدون قوله: "أو قال حتى يتفرقا" وقال: "وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، ثم قال مسلم: وُلد حكيم بن حزام في جوف الكعبة وعاش مائة وعشرون سنة. وفي ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2079)، ومسلم (1532)، وأبو داود في البيوع (3459) باب: خيار المتبايعين، والنسائي (7/ 244، 245)، والدارمي (2/ 250) , والطيالسي (1316)، والترمذي (1246)، والبيهقي (5/ 269) , والبغوي (2051)، وأحمد (3/ 402، 403، 434). (¬2) البخاري (4/ 309) ح (2079). (¬3) مسلم (1532).

رواية للبخاري (¬1): "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، قال: همام -أحد رواته- وجدت في كتابي: "يختار ثلاث مراراً -فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحاً ويمحقا بركة بيعهما". وقال أبو داود: في "سننه" (¬2): أما همام فقال: "حتى يتفرقا أو يختارا ثلاث مرار". الوجه الثاني: في التعريف براويه هو حكيم -بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف- بن حِزام -بكسر الحاء المهملة ثم زاي مفتوحة- بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو خالد الأسدي المكي، ابن أخي خديجة -رضي الله عنهما- أسلم عام الفتح هو وبنوه: عبد الله، وخالد، ويحيى، وهشام، وشهد بدراً مشركاً، وكان إذا اجتهد في يمينه يقول: والذي نجاني أن أكون قتيلاً يوم بدر. وروي عنه أنه قال: ولدت قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة، وأعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله حين وقع فدى قبل أن يولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين، وولد حكيم في جوف الكعبة كما سلف، ولا نعرف من ولد بها غيره وأما ما روي أن علياً ولد في جوفها فلا يصح. وعاش مائة وعشرين سنة؛ ستين في الجاهلية وستين في الإِسلام، قاله إبراهيم بن المنذر، واستشكله فإنه من مسلمة الفتح، وأوَّل على أن المراد بالإِسلام من حين ظهوره لا من حين إسلامه، فإنه مات بالمدينة سنة أربع وخمسين في قول جماعة، وقال البخاري: سنة ستين، وقيل: سنة ¬

_ (¬1) البخاري (2114). (¬2) أبو داود (3459).

خمسين حكاه ابن حبان في "ثقاته"، قال ابن الصلاح في "علوم الحديث": وعاش أيضاً حسان بن ثابت كحزام، قال: ولا يعرف لهما ثالث. قلت: هذا عجيب، فلهم ثالث ورابع وخامس وسادس وسابع وثامن وتاسع وقد ذكرتهم في "المقنع في علوم الحديث" فاستفدهم منه (¬1). أعتق حكيم في الجاهلية مائة رقبة، وأعتق في الإِسلام مثلها، وساق في الجاهلية مائة بدنة، وساق في الإِسلام مثلها، وقال -عليه الصلاة والسلام- له: "أسلمت على ما سلف لك من خير" وحج ومعه مائة بدنة، قد جللها بالحبرة وكفها عن أعجازها وأهداها، ووقف بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم أطواق الفضة منقوش بها عتقاء لله عن حكيم بن حزام، وأهدى ألف شاة. وكان سيداً فاضلاً غنياً، وكان ممن حسن إسلامه من المؤلفة. روى له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً اتفق البخاري ومسلم على أربعة منها، وروى عنه ابنه حزام (¬2) وسعيد بن المسيب وجماعة، وترجمته ¬

_ (¬1) المقنع (ص 648): حويطب بن عبد العزي، حمنن بن عوف بن عبد عوف أخو عبد الرحمن بن عوف، سعيد بن يربوع، النابغة الجعدي، لبيد بن ربيعة، أوس بن مَغْراء السعدي، نوفل بن معاوية، واللجلاج. وانظر: ريح النسرين فيما عاش من الصحابة مائة وعشرين للسيوطي، فإن هذا على الإِطلاق. (¬2) قال مصعب الزبيري: لم يكن لحكيم بن حزام ابن يقال له: حزام. اهـ. من المؤتلف والمختلف للدارقطني (576)، وكذا نقل البخاري في =

موضحة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعها منه (¬1). فائدة: حكيم -بفتح الحاء- يشتبه بحُكيم -بضمها- وهم جماعة، وبحليم -وباللام بدل الكاف- منهم الحليمي الإِمام فإنه نسبة إلى جده حليم. وحزام: -بالحاء والزاي- يشتبه بأربعة أشياء أخر محل الخوض فيها كتب المؤتلف والمختلف (¬2)، وقد ذكرتهم في مختصري في ذلك. ¬

_ = التاريخ الكبير (2/ 1/ 116)، ولم يذهب المصعب في نسب قريش (231)، ولا الزبيري في جمهرة نسب قريش (1/ 353) فما بعدها أن له ولداً باسم (حزام)، اهـ. من حاشية المؤتلف. وقد ورد في حديث أخرجه أبو داود في الإِجارة (3503) باب: الرجل يبيع ما ليس عنده الترمذي (1232)، والنسائي (7/ 289)، ولفظه عن حزام بن حكيم عن أبيه: "قلت يا رسول الله: إن الرجل ليأتيني، فيريد مني البيع، وليس عندي ما يطلب، أفأبيع منه .. قال: لا تبع ما ليس عندك". (¬1) للاستزادة انظر: الإِصابة (1/ 348)، وأسد الغابة (1/ 522)، والجرح والتعديل (3/ 202)، والبداية والنهاية (8/ 68)، وسير أعلام النبلاء (3/ 44)، والمستدرك (3/ 285، 482)، وصحيح البخاري، ومسلم الطبقات الكبرى (1/ 497، 2/ 16، 135 - 152) (3/ 40، 78، 79). (¬2) المؤتلف والمختلف هو ما اتفق في الخط صورتُهُ، وافترق في اللفظ صيغته، وهو من أجل فنون علوم الحديث، حيث يكثروهم الرواة، ولا يتقنه إلاَّ عالم كبير حافظ, إذ لا يتميز فيه وجه الصواب بالقياس، ولا النظر، وإنما هو الضبط والتوثيق في النقل. وقال ابن الصلاح: "هو فن جليل، ومن لم يعرفه من المحدثين كثر عثاره، ولم يعدم مخجلاً". اهـ. والمؤلفات في هذا الفن كثيرة.

الوجه الثالث: تقدم في الحديث قبله الكلام على توقيت خيار المجلس وما يتعلق به. وقوله: "ما لم يتفرقا، أو قال -حتى يفترقا-" هو شك من الراوي. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما". أي بين كل واحد منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن وصدق في ذلك وفي الإِخبار بالثمن وما يتعلق بالعوضين، فالصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة (¬1). ومعنى البركة في بيعهما: حصول النماء والزيادة. وقوله: "وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" أي ذهبت بركته ¬

_ (¬1) ورد من رواية ابن مسعود -رضي الله عنه- ولفظه: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً". أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607)، وأحمد (1/ 393، 439)، والطيالسي (2/ 41، 42)، والترمذي (1972)، وأبو داود في الأدب (4989)، باب: في التشديد في الكذب، والسنة للبغوي (13/ 152). وورد أيضاً مثله في الترغيب في الصدق عن أبي بكر -رضي الله عنهما- ولفظه: "ألا وعليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور وهما في النار" الحديث. أخرجه أحمد (1/ 3، 5، 7)، ابن ماجه (3849)، والحميدي (7).

وهي الزيادة والنماء، وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً (التاجر الصدوق مع النبيين والصديقيين والشهداء) قال الترمذي (¬1): حديث حسن. وحقيقة الصدق: النهي عن مطالعة النفس بحيث لا يحصل لها إعجاب بالعمل وأقله استواء السر والعلانية، كما قاله القشيري، وقال سهل: لا يشم رائحة الصدق عبد واهن نفسه أو غيره، ودرجات الصدق غير منحصرة وبعد ذلك كله فالسائل مسؤول عن صدقه، قال تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} (¬2). الوجه الرابع: يؤخذ من الحديث ستة أحكام. أولها: ثبوت خيار المجلس كما علمته. ثانيها: وجوب الصدق في البيع بذكر مقدار أصل الثمن في الإِخبار، وما في الثمن أو السلعة من عيب وغيره. ثالثها: تحريم الكذب في ذلك. ¬

_ (¬1) الترمذي (1209)، والدارمي (2/ 247)، والسنة للبغوي (8/ 4)، والدارقطني (3/ 7)، والدر المنثور (2/ 144) , والحاكم (2/ 6)، والحديث فيه رجل لا يعرف أبو حمزة عبد الله بن جابر وأيضاً عدم سماع الحسن من أبي سعيد وقد ورد له شاهد من رواية ابن عمر عند ابن ماجه (2139) والحاكم (2/ 6) وفيه رجل ضعيف واسمه كلثوم بن جوشن القشيري. قال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 387): هذا الحديث لا أصل له وكلثوم ضعيف الحديث. اهـ. (¬2) سورة الأحزاب: آية 8.

رابعها: الحث على تعاطي الصدق، وعلى منع تعاطي الكذب. خامسها: أن الصدق سبب البركة، والكذب سبب محقها. سادسها: ذكر الصدق وإن ضر ظاهراً، وترك الكذب وإن زاد ظاهراً، فإنه يضر باطناً وظاهراً. فائدة: سئل ثعلب (¬1): هل بين "يفترقان" أو "يتفرقان" فرق؟ فقال: نعم، أخبرنا ابن الأعرابي (¬2) عن المفضل (¬3)، قال: يفترقان بالكلام، ويتفرقان بالأبدان. ... ¬

_ (¬1) أحمد بن يحيى ثعلب ولد سنة مائتين ووفاته سنة إحدى وتسعين ومائتين. انظر: تاريخ العلماء النحويين (181)، ومراتب النحويين (151)، وتاريخ بغداد (5/ 204). (¬2) محمد بن زياد الأعرابي ولد سنة خمسين ومئة، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين. انظر: تاريخ العلماء النحويين (205)، وإشارة التعيين (311)، وتاريخ بغداد (5/ 282، 285). (¬3) المفضل بن محمد بن يعلى الضبي. توفي سنة ثماني وسبعين ومئة. انظر: تاريخ العلماء النحويين (214)، وتاريخ بغداد (13/ 121، 122)، وإشارة التعيين (352).

53 - باب ما نهى عنه من البيوع

53 - باب ما نهى عنه من البيوع ذكر فيه -رحمه الله- عشرة أحاديث: الحديث الأول 273/ 1/ 53 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن المنابذة"، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن ينظر إليه، أو يقلبه، "ونهى عن الملامسة"، والملامسة: لمس (¬1) الثوب لا ينظر إليه (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها (¬3): المنابذة: -بالذال المعجمة- مفاعلة من نبذ ¬

_ (¬1) في متن عمدة الأحكام زيادة: (الرجل) وهي موجودة في صحيح مسلم. (¬2) البخاري (2144، 2147)، ومسلم (1512)، وأبو داود (3377، 3378، 3379) في البيوع، باب: بيع الغرر، والنسائي (7/ 260، 261)، وابن ماجه (2170)، وابن الجارود (592)، والبيهقي (5/ 341، 342)، وعبد الرزاق (14987)، وابن أبي شيبة (7/ 43)، والدارمي (2/ 253). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 30)، وانظر: الاستذكار (20/ 193) للاطلاع على تعريف العلماء للمنابذة.

الشيء نبذه إذا طرحه، وقد فسرها في الحديث بعدم تقليبه ورؤيته، وفيه تأويلات أخرى. أحدها: أن يجعلا نفس النبذ بيعاً قائماً مقام الصيغة، وهذا تأويل الشافعي -رضي الله عنه- ووجه النهي: فقدان الصيغة، نعم يجيء فيه الخلاف في المعاطاة، فإن المنابذة مع قرينة البيع هي نفس المعاطاة. ثانيها: أن يقول: بعتك على أني إذا نبذته إليك لزم البيع. ثالثها: أن المراد به نبذ الحصى فيجعل ما وقعت عليه مبيعاً، أو غاية لمساحة ما وقعت عليه من الأرض المبيعة أو تعليق مدة الخيار المشروط على نبذها (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2) في هذا الحديث أن المنابذة:- "أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه. ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض"، يعني أنه يجب البيع بنفس النبذ، ولا يبقى لواحد منهما خيرة في حله، وبهذا تحصل المفسدة العظيمة، إذ لا يدري أحدهما ما حصل له، فيعم الخطر، ويكثر القمار والضرر. الوجه الثاني: الملامسة (¬3): مفاعلة، وأصلها: لا تكون إلاَّ بين ¬

_ (¬1) وقد ذكرها النووي في شرح مسلم. (¬2) انظر: تخريج حديث الباب. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (4/ 27)، وفتح الباري (4/ 359)، الاستذكار (20/ 193) للاطلاع على تعريف العلماء للملامسة.

اثنين، وأصلها: من لمس يلمس -بضم الميم وكسرها- إذا أجرى يده على الشيء، وقد فسرها في الحديث "بلمس الثوب لا ينظر إليه" وفيه تأويلات أخرى: أحدها: جعل نفس اللمس بيعاً بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا. ووجه النهي: التعليق والعدول عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعاً. وقال المتولي من الشافعية: له حكم المعاطاة. وثانيها. أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب فقد وجب البيع، وانقطع الخيار. ووجه النهي: وجود الشرط الفاسِد. ثالثها: وهو تفسير الشافعي -رضي الله عنه- أن يلمس ثوباً مَطْوِيٍّ أو في ظلمة، ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2): "والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلبه إلاَّ بذلك"، وفيه من رواية أبي هريرة (¬3): "أما ¬

_ (¬1) الاستذكار (20/ 196). (¬2) من رواية أبي سعيد، انظر: أول الحديث. (¬3) في صحيح مسلم (1511) (2). والحديث أخرجه البخاري أطرافه (368)، ومسلم (1511)، والترمذي (1310) , والنسائي (7/ 259، 260، 261)، وابن ماجه (2169)، والموطأ (2/ 666)، والبيهقي (5/ 241)، وأحمد (2/ 144، 380، 476, 480)، وابن أبي شيبة (7/ 43).

الملامسة: فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل". ووجه النهي: فيه أنه بيع غائب ومن يصحح بيع الغائب يبطله أيضاً، فإن فيه إقامة اللمس مقام النظر، وهل يخرج على صحة نفي خيار الرؤية؟ (¬1). الوجه الثالث: هذان البيعان فاسدان على جميع التأويلات وهما من بياعات الجاهلية، ورواية المصنف تقتضي أن يكون الفساد من جهة عدم النظر والتقليب، فإن كان هذا التفسير من جهة الشارع - صلى الله عليه وسلم - فيتعين المصير إليه دون غيره، وكذا إن كان من الصحابي (¬2)، فإنه يترجح على غيره من تفسير التابعي وغيره، وحينئذ يستدل على منع بيع الأعيان الغائبة عملاً بالعلة، ومن يشترط ¬

_ (¬1) قال أبو عمر ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (20/ 196): هذا قول الشافعي، يدل على صحة ما روي عنه، وما روى الربيع عنه في أنه يجيز البيع على خيار الرؤية. اهـ. (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 359) وهذا التفسير الذي في حديث أبي هريرة اقعد بلفظ الملامسة والمنابذة، لأنها مفاعلة، فتستدعي وجودَ الفعل من الجانبين، وظاهره أنه مرفوع، لكن وقع للنسائي -انظر: تخريجه- ما يشعر بأنه من كلام من دونه - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: وزعم أن الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمساً، وأما المنابذة فأن يقول: انبذ ما معي وتنبذ ما معك ليشتري أحدهما عن الآخر، ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر ونحو من هذا الوصف، فالأقرب أن يكون ذلك من كلام الصحابي لبعده أن يعبر الصحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "زعم". اهـ.

الصفة فيه لا يكون الحديث دليلاً عليه لأنه لم يذكر فيه وصفاً، ثم في كلا الموضعين يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين، فإذا عُلل بعدم الرؤية المشروطة: فالفرق ظاهر، وإذا فسر بأمر لا يعود إلى ذلك: احتيج حينئذٍ إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة (¬1) عند من يجيزها. تنبيه: وقع في "شرح الفاكهي" أن تفسير المنابذة والملامسة من عند المصنف وهو من الأعاجيب، فإنه ثابت في نفس الحديث، وقد تقدم أنه يحتمل أن يكون مرفوعاً وموقوفاً على الصحابي. خاتمة: استدل بعض المالكية بهذا الحديث على بيع المعاطاة، فإنه علل النهي بعدم الرؤية، فعند وجودها يلزم البيع. قال: وفيه دلالة أيضاً على جواز بيع الأعمى وشرائه، لأنه علل بعدم النظر إليه، وفيها ثلاثة أقوال عند المالكية، ثالثها: الفرق بين ما يدرك باللمس أو الشم دون غيره، واستحسنه اللخمي، والأصح عند الشافعية أنه لا يصح مطلقاً إلاَّ إذا رأى شيئاً قبل العمى مما لا يتغير وصفه، وصححنا ذلك من البصير. ... ¬

_ (¬1) مسألة المعاطاة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول. مثالها: أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع الثمن، أو بالعكس. ويسمى بيع المعاطاة، أو التعاطي أو المراوضة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 274/ 2/ 53 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا, ولا يبع حاضر لباد، ولا تُصِرُّوا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر" (¬1). وفي لفظ: "فهو بالخيار ثلاثاً" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: أصل "لا تلقوا" لا تتلقوا، فحذفت إحدى التائين تخفيفاً، وشرط الحذف مثل هذا تجانس الحركتين. الثاني: الركبان: جمع راكب وهم راكبوا الإِبل في السفر، العشرة فما فوقها، قاله ابن السكيت وغيره، والجمع اركب، والركبة ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2140)، ومسلم (1520)، وأبو داود في البيوع (3438) باب: في النهي عن النجش، والترمذي (1222)، والنسائي (7/ 71)، وابن ماجه (2174)، والبيهقي في المعرفة (8/ 159، 160)، والموطأ (2/ 683). (¬2) مسلم (1524) (24، 25).

-بالتحريك- أقل من الركب، والاركوب -بالضم- أكثر من الركب، والركبان: الجماعة منهم، وقال بعضهم: يطلق على ركبان الدواب، والمراد هنا القادمون من السفر وإن كانوا مشاة. فائدة: الفارس راكب الفرس، كما يقال لراكب البعير راكب، واختلف أهل اللغة: في راكب الحمار هل يقال له فارس على حمار؟ أو لا يقال إلاَّ حمار (¬1). الثالث: صورة التلقي أن يتلقى طائفة يحملون متاعاً فيشتريه منهم قبل قدومهم البلد ومعرفتهم بالسعر، وهو من البيوع المنهي عنها للتحريم. قال الجمهور: وهذا النهي لمراعاة أهل البادية. وقيل: لمراعاة أهل البلد خشية أن يحبسه المشتري فيضيق بالحال عنهم. ثم اعلم أن إمام الحرمين والغزالي: ذكرا في صورة المسألة أن يكذب في سعر البلد ويشتري منهم بأقل من ثمن المثل. وذكر صاحب "التنبيه" فيها أن يخبرهم بكساد ما معهم ليغبنهم، وكذا قال المتولى، قال: أو يخبرهم بكثرة المؤنة عليهم في الدخول. ولم يتعرض الرافعي والنووي لشيء من ذلك. فرع: لو لم يقصد التلقي بل خرج لشغل آخر فرآهم فاشترى منهم فخلاف عند الشافعية والمالكية، وجهٌ عدم العصيان عند التلقي. ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح مادة (ف، ر، س).

ووجهٌ مقابله وهو الأصح عند الأكثرين من الشافعية شمول المعنى فعلى الأول لا خيار لهم، وإن كانوا مغبونين. وقيل: إن أخبروا بالسعر كاذباً فلهم الخيار. فرع: لو تلقاهم فباعهم ما يقصدون شراءه فهل هو كالمتلقي للشراء؟ فيه وجهان للشافعية: ولم يرجحوا شيئاً منهما فيما علمت. فرع: شرط تحريم التلقي أن يكون المتلقى عالماً بالتحريم، فإن لم يعلمه فلا إثم، اللهم إلاَّ أن يمكنه التعلم فينبغي تأثيمه فيما يظهر. تنبيهات: قد يلوح من الحديث إثبات الخيار للمغبون لأجل الغبن. أحدها: خالف أبو حنيفة في هذا فلم يأخذ بهذا الحديث كما نقله القاضي عياض (¬1) عنه، وأجاز التلقي إلاَّ أن يضر بالناس فكرهه (¬2). وقال الأوزاعي (¬3): مثله. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 179). (¬2) قال أبو عمر بن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 74): قال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان التلقي في أرض لا يضر بأهلها، فلا بأس به، وإن كان يضر بأهلها فهو مكروه. اهـ. (¬3) وقال أيضاً في الاستذكار (21/ 74): وقال الأوزاعي: إذا كان الناس من ذلك شباعاً، فلا بأس به، وإن كانوا محتاجين، فلا يقربوا السلع حتى يُهبط بها إلى الأسواق. =

واختلف فيه إذا وقع، فعن مالك وبعض أصحابه: أنه ينهى ولا ينتزع منه (¬1) ورأى بعض أصحابه فسخه (¬2). وأحمد أثبت له الخيار: كما جاء في الحديث (¬3)، وكذا الشافعي (¬4)، على ما سيأتي، ومال إليه بعض أصحاب مالك. والمشهور عن مالك وأكثر أصحابه أن يعرض على أهل السوق (¬5)، فإن لم يكن سوق فأهل المصر ليشترك فيها من شاء منهم (¬6). ¬

_ = ولم يجعل الأوزاعي القاعد على بابه تمر به السلع، لم يقصد إليها، فيشتريها متلقياً، والمتلقي عنده التاجر المقاصد إلى ذلك الخارج إليه. (¬1) سئل مالك عن الذي يتلقى السلعة، فيشتريها، وتوجد معه، أترى أن تؤخذ منه، فتباع للناس فقال مالك: أرى أن ينهي عن ذلك، فإن نهي عن ذلك، ثم وجد، قد عاد نُكل. (¬2) قال سحنون: وقال لي غير ابن القاسم: يفسخ البيع. (¬3) في مسلم (1517): "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" وأخرج ابن أبي شيبة أنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقاه متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق", وأبو داود في البيوع (3437) باب: في التلقي، والترمذي (1221)، والاستذكار (21/ 76)، والتمهيد (13/ 322). (¬4) انظر: الاستذكار (21/ 73)، والتمهيد (13/ 320)، ومعرفة السنن والآثار (8/ 167)، والأم (3/ 92)، ومغني المحتاج (2/ 236)، والمهذب (1/ 292). (¬5) انظر: الاستذكار (21/ 71) فقرة (30473). (¬6) انظر: الاستذكار (21/ 71، 72) فقرة (30474).

ومستند الخلاف في صحة البيع وفساده ينبني على مسألة أصولية، وهي أن النهي يدل على الفساد أم لا (¬1)، ومستند من صححه أن النهي لأجل الأضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع. واعلم: أن نهي التحريم ثلاثة أقسام (¬2): أحدها: ما يقتضي تحريم عين المنهي عنه كنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن الميتة، فذلك يقتضي تحريم الغبن وفساد العقد عليها. ثانيها: ما يقتضي تحريم وصف في المنهى وأصل في ذات المنهى عنه كنهيه عليه الصلاة والسلام عن الزنا، فذلك يقتضي تحريم العقد وفساده ولا يقتضي تحريم المعقود عليه بل يرجع كل واحد من المتعاقدين إلى أصل ماله. ثالثها: ما يقتضي تحريم وصف في المنهى عنه، إما لأجل البائع، أو المشتري ونحوها، وإما لأجل وصف في الآلة المستعملة كآنية الذهب والفضة، والحرير لمن لا يحل له لبسه، وكبيع الركبان وما شاكله من العقود فهو محل الخلاف. ¬

_ (¬1) هذه المسألة فيها خلاف بين الأصوليين فمنهم من يقول إن النهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات والمعاملات، وقال أبو بكر الباقلاني: إن النهي لا يقتضي الفساد مطلقاً وحجته في ذلك أن الفساد يحتاج إلى دليل غير النهي. أما قول الرازي في هذه المسألة: فقد فرق بين العبادات والمعاملات فيقتضي الفساد في العبادات بخلاف المعاملات فلا يقتضي النهي الفساد. اهـ. بتصريف من تقريب الأصول (188). (¬2) انظر: البحر المحيط (2/ 444، 445)، والمحصول (1/ 2/ 486).

فمنهم: من صححه ويكون التحريم بمعنى الأثم. ومنهم: من أفسده. ومنهم: من فصّل، فقال: إن كان الوصف لأمر خارج عن المنهى عنه كبيع الركبان وقت النداء اقتضى التحريم وصحة العقد، وإن كان لأجل ذات المنهى عنه كالذهب والفضة والحرير اقتضى التحريم وفساد الفعل لأن التحريم فيها للسرف والخيلاء، وما فيها من تغيير الحكمة في الذهب والفضة عما وضعت له، وهو كونها نقداً قيماً للأشياء، ومن تغيير الحكمة في الحرير جعله للإِناث دون غيرهن، من حيث أن لبسه للترفه والخنوثة والكسل، وجميعه مناف لوصف الرجولية، وهذا المذهب حكاه الآمدي (¬1) عن أكثر أصحاب الشافعي، واختاره ونقله ابن برهان (¬2) في "الوجيز" عن الشافعي نفسه. الوجه الثالث: إذا قلنا بصحة البيع في التلقي فلهم الخيار إذا عرفوا الغبن سواء أخبرهم بسعر البلد كاذباً أو لم يخبرهم، وما وقع في لفظ بعض المصنفين من أنه يخبرهم بالسعر كاذباً ليس بشرط في إثبات الخيار، وأصح الوجهين أن الخيار على الفور. ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم التغلبي الآمدي ولد عام (551) وتوفي سنة (631). انظر: ميزان الاعتدال (1/ 439)، ولسان الميزان (3/ 134)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 79). (¬2) أحمد بن علي بن محمد بن برهان توفي سنة عشرين وخمسمائة. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 279)، وفيات الأعيان (1/ 82)، ومن مؤلفاته: البسيط، والوسيط، والوجيز.

وقيل: يمتد ثلاثة أيام (¬1)، ولو كان الشراء بسعر البلد أو أكثر فالأصح أنه لا خيار لهم نظراً لانتفاء الضرر، ووجه مقابله عموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" رواه مسلم (¬2) من طريق أبي هريرة أيضاً، ولا خيار أيضاً إذا كان الشراء بدون سعر البلد مع علمهم، أو ابتدأ القادمون والتمسوا منه الشراء وهم عالمون بسعر البلد أو غير عالمين ولا خيار لهم قبل أن يقدموا ويعرفوا السعر، قاله البغوي (¬3) وغيره. ولو غبنوا ولم يطلعوا على الغبن حتى رخص السعر وعاد إلى ما أخبروا به، هل يستمر خيارهم فيه وجهان؟ حكاهما الماوردي (¬4) وغيره. الرابع: قال القاضي عياض: اختلف عندنا في حدِّ التلقي الممنوع، فعن مالك كراهة ذلك على مسيرة يومين (¬5)، وعن مالك تخفيفه وإباحته على ستة أميال (¬6)، ولا خلاف في منعه إذا كان فوق ¬

_ (¬1) أن الأصح أن الخيار يمتد لورود الحديث بذلك "فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار" فأطلق - صلى الله عليه وسلم - إثبات الخيار له ولم يقيده بكونهم غير عالمين بالسعر ولا بكونه شراه منهم بأقل من السعر. (¬2) مسلم كتاب البيوع (1517) (17) باب: تحريم تلقي الجلب. (¬3) السنة للبغوي (8/ 116، 117). (¬4) الحاوي الكبير (5/ 349). (¬5) الاستذكار (21/ 71). (¬6) التمهيد (18/ 84، 85)، والاستذكار (21/ 70). وجاء عنه مسافة (1848 م) أي: ميل ذكرها ابن جزى في القوانين الفقهية (257، 260).

المصر وأطرافه (¬1). وقال بعض المتأخرين: ولذلك يجوز تلقيها في أول السوق لا في خارجه (¬2)، وكذلك لو لم يكن للسلعة سوق فشراؤها إذا دخلت البلد جائز وإن لم يبلغ أسواقه. الوجه الرابع من الكلام على الحديث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" (¬3)، هو مفسر عند ¬

_ (¬1) المراجع السابقة. (¬2) الاستذكار (21/ 74)، والتمهيد (13/ 321). (¬3) قال ابن الأثير -رحمنا الله وإياه- في جامع الأصول (1/ 502، 503): "لا يبع بعضكم على بيع بعض". وقال في موضع آخر: "لا يبع بعضكم على بيع أخيه"، والمعنى فيهما واحد وفيه قولان: أحدهما: أن يشتري الرجل السلعة ويتم البيع، ولم يفترق المتبايعان عن مقامهما ذلك، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض رجلٌ آخر سلعةً أخرى على ذلك المشتري، تشبه السلعة التي اشتراها ليبيعها له، لما في ذلك من الإِفساد على البائع الأول، إذْ لعله يرد للمشتري التي اشتراها أولاً, ويميل إلى هذه، وهما وإن كان لهما الخيار ما لم يتفرقا على هذا المذهب، فهو نوع من الإِفساد. والقول الثاني: أن يكون المتبايعان يتساومان في السلعة، ويتقارب الانعقاد، ولم يبق إلاَّ اشتراط النقد أو نحوه، فيجيء رجل آخر يريد أن يشتريَ تلك السلعة، ويخرجَها من يد المشتري الأول، فذلك ممنوع عند المقاربة، لما فيه من الإِفساد، ومباح أول العرض والمساومة. هذا تأويل أصحاب الغريب، وهو تأويل الفقهاء، إلاَّ أن لفظ الفقهاء هذا: قالوا: إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد، فطلب طالب السلعة بأكثر من الثمن ليرغّب البائع في فسخ العقد، فهذا هو البيع على بيع الغير، وهو =

الشافعية بأن يقول لمن اشترى في مدة الخيار افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهو حرام لأنه يوغر الصدور ويورث الشحناء، وكذلك الشراء على الشراء. وقد فسر بعضهم الحديث به، فقال: معنى: "لا يبع" هنا لا يشتري، وأما بيعه سلعته على بيع أخيه فهو غير منهى عنه، أن يقول البائع قبل لزومه: افسخ البيع وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، ونحو ذلك، إما لعدم لزوم العقد فالبيع قد انبرم وإما قبله فالفعل حرام والعقد صحيح عند من يرى، أن النهي الخارج عن ذات الشيء لا يقتضي فساده، وخصص ابن كج (¬1)، هذا بما إذا لم يكن في البيع غبن فاحش، أما إذا كان المشتري مغبوناً غبناً فاحشاً فله أن يعرفه ويبيع على بيعه لأنه ضرب من النصيحة وهذا معدود من أفراده، وفي معناه ما إذا كان البائع مغبوناً فيدعوه إلى] (¬2) الفسخ فيشتريه منه بأكثر. ¬

_ = محرَّم لأنه إضرار بالغير، ولكنه منعقد، لأن نفس البيع غير مقصود بالنهي، فإنه لا خلل فيه، وكذلك إذا رغَّب المشتري في الفسخ بعرض سلعة أَجود منها بمثل ثمنها، أو مثلها بدون ذلك الثمن، فإنه مثله في النهي. (¬1) هو يوسف بن أحمد بن كج. قتله العيارون ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 198)، ووفيات الأعيان (6/ 63). (¬2) إلى هنا نهاية السقط في ن هـ.

ومن الفقهاء من فسر البيع [على البيع] (¬1) بالسوم على السَّوم (¬2)، وهو أن يتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع ولم يعقداه، أو يكون المبيع [في العرف] (¬3) عند المشتري فيقول آخر أنا أشتريه منك بأزيد مما أُعطيت فيها أو يأتي إلى المشتري فيعرض عليه مثلها أو أجود منها بأنقص من ذلك الثمن، وإنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن وحصول التراضي صريحاً كما هو مقرر في الفروع. قال هذا القائل: ويدل على أن المراد بالبيع على البيع السوم على السوم ما في النسائي (¬4) من حديث ابن عمر رفعه: "لا يبع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر" فقوله: "حتى يبتاع أو يذر" دال على أن البيع لم يقع وأن النهي إنما هو في السوم، وهذا عجيب منه، ووقع في ذلك صاحب "القبس" (¬5) أيضاً فقال: معنى "لا يبع" لا يسم على سومه، لأن البيع إذا وقع لا يتصور بعده بيع، [وكأنهما] (¬6) غفلا أن صورة ذلك وقوعه في زمن الخيار كما أسلفناه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) قال ابن الأثير -رحمنا الله وإياه- في جامع الأصول (1/ 503): وأما السوم على سوم أخيك: فأن تطلب السلعة بزيادة على ما استقر عليه بين المتساومين قبل البيع، وإنما يحرم على من بلغه الخبرُ، فإن تحريمه خفي، قد لا يَعْرِفُهُ. اهـ. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) النسائي (7/ 258)، وعند ابن عساكر من رواية أبي الدرداء (5/ 349)، وذكره ابن حجر ولم يتعقبه بشيء في الفتح (4/ 353). (¬5) القبس (850) ولم يذكره بلفظه بل معناه. (¬6) في الأصل وكأنما وما أثبت من ن هـ.

تنبيهات: أحدها: [ظاهر] (¬1) الحديث يقتضي النهي مطلقاً وإن كان في غنيمة أو ميراث، وفي الدارقطني (¬2): "إلاَّ الغنائم والميراث". وجمهور أهل العلم على إباحة البيع والشراء فيمن يزيد (¬3)، وبه قال الشافعي وكرهه بعض السلف، قال المازري (¬4): وكره بعض أهل العلم بيع المزايدة في الحلق خوفاً من الوقوع في المحذور، وهو الضرر، قال: وإن قلنا إنما منع من ذلك مع التراكن للبيع خرج بيع الحِلق من ذلك. [تنبيه] (¬5): اختلف فيما إذا وقع السوم على السوم أو الخطبة على الخطبة بعد التراكن هل يفسخ العقد أم لا؟ ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) سنن الدارقطني (3/ 11)، وابن الجارود (570)، وذكر ابن حجر في الفتح (4/ 354) أن ابن خزيمة أخرجه وذكره، ولم يتعقبه بشيء. (¬3) ورد في ذلك حديث وإسناده ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع حلساً وقدح. أخرجه أبو داود (1641)، والنسائي (7/ 259)، والترمذي (1218) وقال: حديث "حسن"، وابن ماجه (2198)، وأحمد (3/ 100، 114)، والطيالسي (1326). وضعفه ابن حجر في التلخيص (3/ 15)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 23). (¬4) المعلم بفوائد مسلم (2/ 138). (¬5) في الأصل بياض وأقرب إلى رسم الكلمة ما أثبت. أو كلمة: وجه. وهذا ليس له تأثير على سياق الكلام.

فذهب الشافعي والكوفيون وجماعة من العلماء: إلى إمضاء العقد وأن النهي ليس على الوجوب. وقال داود: هو على الوجوب، ولمالك قولان كالمذهبين وفي النكاح قول ثالث يفسخ قبل البناء [والمضي] (¬1) بعده. الثالث: ظاهر قوله "بعضكم" جواز البيع على بيع الذمى والأكثرون على المنع فيه أيضاً. [تنبيه آخر] (¬2) مما يشبه ما نحن فيه الزيادة على الساكن وأولى بالتحريم لشدة الضرر، وقد ذكر الصعبي في "شرحه" أنه نقل عن بعض علماء السلف المتورعين من الشافعية الإِفتاء بالمنع وهو ظاهر لا شك فيه. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تناجشوا" هو كما تقدم في "تلقوا" من حذف إحدى التائين وهو تفاعلوا من النجش -بفتح النون وإسكان الجيم- وأصله من الاستثارة ومنه نجشت الصيد أنجشه -بضم الجيم- نجشاً إذا استثرته. وسمي الناجش في السلعة ناجشاً: لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها. قال ابن الصلاح: وهذا هو الصحيح لا كما قال الغزالي أنه الرفع. وقال ابن قتيبة (¬3): أصل النجش الختل وهو الخِداع، ومنه قيل ¬

_ (¬1) في الأصل (والمعنى)، وما أثبت لا يستقيم المعنى إلاَّ به. (¬2) ما أثبت يقتضيه سياق الكلام وفي النسخة بياض لم يظهر إلاَّ كلمة آخر. (¬3) غريب الحديث (1/ 199).

للصائد ناجش لأنه يختل الصيد ويحتال له، وكل من استثار شيئاً فهو ناجش. وقال الهروي: قال أبو بكر: النجش المدح والإِطراء. قال ابن الأثير (¬1): إنه الصحيح، فعلى هذا معنى الحديث: لا يبيع أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها بلا رغبة. وحقيقة النجش عند الفقهاء: أن يزيد في ثمن السلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره ويغره ليزيد ويشتريها، وهو من المنهيات للضرر، والناجش آثم لأجل خدعته وحكى [القزويني] (¬2) عن مالك أن بيع النجش مفسوخ (¬3) واعتل [لأنه] (¬4) منهى عنه، قال: [وبهذا] (¬5) اعتل ابن الجهم لما [رد] (¬6) على الشافعي فقال: الناجش عاصٍ فكيف يكون من عصى الله تعالى يتم بيعه، ولو صح هذا بعد [العقد] (¬7) في الإِحرام والعدة (¬8). ¬

_ (¬1) جامع الأصول (1/ 504). (¬2) في هامش المعلم بفوائد مسلم (2/ 140)، وفي أصل الكتاب القرويون. (¬3) حكى هذا ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 72، 74) عن أصحابه. وهو رأي أهل الظاهر. وأما نقله عن مالك فجعل له الخيار (21/ 78) وساقه بلفظ التضعيف عنه في الاستذكار (21/ 67)، والتمهيد (13/ 348، 349) (18/ 193، 194). (¬4) في المعلم (بأنه). (¬5) في المعلم (هكذا). (¬6) في الأصل (ورد)، وما أثبت من المعلم. (¬7) في الأصل بيع وما أثبت من المعلم. (¬8) انظر: المعلم بفوائد مسلم (2/ 140).

قلت: لا يرد لأن النهي لأمر خارج عن العقد كما سلف. تنبيهات: أحدها: قيَّد الفقيه ابن الرفعة -[رحمه الله تعالى] (¬1) - الزيادة في الثمن بالزيادة على ما تساويه العين، وفيه إشعار بعدم التحريم فيما إذا زاد عند نقص القيمة ولا رغبة له وفيه نظر (¬2). ثانيها. هل للمشتري الخيار أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: نعم للتدليس، كالتصرية. وأصحهما: لا وهو ظاهر النص لتفريطه حيث لم يتأمل ولم يراجع أهل الخبرة، ومحل الخلاف إذا كان بمواطأة من البائع فإن لم يكن فلا خيار كما جزم به الرافعي في "شرح المهذب" المسمى "بالوافي" أنه يشترط فيه أيضاً أن يكون الناجش من أهل الخبرة بالقيمة وإلاَّ فلا خيار، وتعرض له الإِمام في صورة المسألة أيضاً (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) وهذا القول للأحناف كما سيأتي. (¬3) اختلف العلماء في حكم البيع إذا كانت المشترى مغبوناً بسبب النجش. فعند الإِمام أحمد ومالك: أن البيع صحيح وأن للمشترى الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد. وعند الأحناف والشافعية: البيع صحيح مع الإِثم فهو مكروه تحريماً عند الحنفية للنهي الوارد فيه: "لا تلقوا الركبان" لكن لا يكره عند الحنفية إلاَّ إذا زاد المبيع عن قيمته الحقة، فإن لم يكن بلغ القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس، لأنه عون على العدالة. وعند الشافعية: حرام. =

ووقع في "شرح ابن العطار" الجزم بثبوت الخيار عند المواطأة، وهو أحد الوجهين في المسألة وكأنه تبع في ذلك مفهوم كلام الشيخ تقي الدين (¬1) في الشرح فإنه يقتضيه. وجزم الفاكهي في "شرحه" بثبوت الخيار إذا علم أن الناجش من قِبَل البائع. فرع: لو قال أُعطيت بهذه السلعة كذا [كذباً] (¬2) ليغر المشتري ففي ثبوت الخيار الخلاف المذكور. التنبيه الثالث: نص الشافعي في "اختلاف الحديث" (¬3): على أن الناجش إنما يعصي إذا كان عالماً بالنهي ونقله أيضاً عنه البيهقي (¬4) في "سننه" والمتولي (¬5) في "تتمته"، وقال به القاضي أبو الطيب (¬6) والرافعي (¬7) لم يطلع عليه بل أبداه بحثاً. ¬

_ = وعند الظاهرية: البيع فاسد. (¬1) إحكام الأحكام (4/ 37). (¬2) في ن هـ (كذا). (¬3) اختلاف الحديث (154). (¬4) السنن الكبرى (5/ 344). (¬5) هو عبد الرحمن بن مأمون أبو سعد المتولي، ولد عام (426، 478)، صاحب "التتمة". انظر: طبقات الشافعية للسبكي (5/ 106، 108)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 264). (¬6) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر القاضي أبو الطيب، ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وتوفي ببغداد في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة. تاريخ بغداد (8/ 358)، وطبقات الشافعية لابن الصلاح (178)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 226). (¬7) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم أبو القاسم الرافعي. قيل إنه لم =

الوجه السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يبع حاضر لباد"، الحاضر: المقيم بالبلد. والبادي: المقيم بالبادية، وفي معناه: القروي، وهو المقيم بالقرى المضافة إلى البلاد. وصورة بيع الحاضر للبادي المنهي عنه (¬1)، أن يقدم البدوي أو القروي بمتاع تعم الحاجة إليه ليبعه بسعر يومه، فيقول البلدي: اتركه لأبيعه على التدريج بأغلى. وذلك إضراراً بالبلد وحرام إن علم بالنهي، وتصرف أصحابنا في ذلك وقيدوا التحريم بما ذكرناه (¬2) ¬

_ = يجد زيتاً للمطالعة في قرية بات فيها فتألم، فأضاء له عرق كرمة فجالس يطالع ويكتب عليه. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 75)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 264). (¬1) قال ابن الأثير -رحمنا الله وإياه- في جامع الأصول (1/ 504): (حاضرُ لبادٍ) الحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي: المقيم بالبادية، والمنهي عنه: هو أن يأتي البدوي البلدة، ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصاً، فيقول له الحاضر: اتركه عندي لأغالي في بيعه، فهذا الصنيع محرم لما فيه من الإِضرار بالغير، والبيع إذا جرى مع المغالاة منعقد، فهذا إذا كانت السلعة مما تعم الحاجة إليها، فان كانت سلعة لا تعم الحاجة إليها، أو كثر بالبلد القوت، واستغنى عنه، ففي التحريم تردد. يعوَّل في أحدهما على عموم ظاهر النهي وحَسْم باب الضرر. وفي الثاني على معنى الضرر، وقد جاء في بعض الأحاديث عن ابن عباس: أَنه سئل عن معنى: لا يبع حاضرُ لبادٍ؟ قال: لا يكون له سمساراً. (¬2) يحسن بنا نقل عبارة إحكام الأحكام لظهورها ووضوح معناها (4/ 38) فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد، فإن لم =

[فاحترزوا "بالمتاع" التي تعم الحاجة إليه عما إذا كان الاحتياج إليه نادراً فإنه لا يحرم] (¬1). واحترزوا بقولهم: "فيقول البلدي" عما إذا التمس البدوي منه بيعه تدريجاً فإنه لا يحرم، وهل يشترط أن يظهر بيع ذلك المتاع بيعه في البلد حتى لو لم يظهر لقلته أو لكبر البلد أو لعموم وجوده ورخص السعر لا يحرم، فيه وجهان أوفقهما: لإِطلاق الخبر كما قال الرافعي أنه لا يشترط بل يحرم. ووجه مقابله انتفاء المعنى وهو الإِضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس، وهذا النهي لمراعاة أهل البلد، واحتمل فيه غبن [البادي] (¬2) ومنع من تلقيه نظراً للمصلحة العامة. فائدة: اعلم أن أكثر هذه الأحكام تدور بين اتباع اللفظ واعتبار ¬

_ = يظهر -لكثرته في البلد، أو لقلة الطعام المجلوب- ففي التحريم وجهان: ينظر في أحدهما إلى ظاهر اللفظ، وفي الآخر إلى المعنى، وهو عدم الإِضرار، وتفويت الربح، أو الرزق على الناس، وهذا المعنى منتف. وقالوا أيضاً: يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه، دون ما لا يحتاج إليه إلاَّ نادراً، وأن يدعوا البلدي البدوي إلى ذلك، فإن التمسه البدوي منه فلا بأس، ولو استشاره البدوي، فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي. اهـ. وهذا العرض بمثابة ذكر شروط جواز تولي الحضري البيع عن البدوي. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة.

المعنى؛ قال الشيخ تقي الدين (¬1): وينبغي أن ينظر في المعنى إلى ظهوره وخفائه، فإن ظهر ظهوراً كثيراً فلا بأس باتباعه، وتخصيص الحديث به، أو تعْميمه على قواعد القيَّاسيين. وإن خفي ولم يظهر ظهوراً قوياً. فاتباع اللفظ أولى. فأما ما ذكر من اشتراط: "أن يلتمس [البدوي] (¬2) ذلك": فلا يقوى لعدم دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه. فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه ظاهراً. وأما اشتراط: "دعاء الحاجة إلى الطعام" فمتوسط في الظهور وعدمه. لاحتمال أن يراعى مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (¬3). وأما اشتراط: "أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد"، فكذلك أيضاً، هو متوسط في الظهور، لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح أو الرزق على أهل البلد. وهذه الشروط منها: ما يقوم الدليل الشرعي عليه، كشرطنا العلم بالنهي. ولا إشكال فيه. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 38). (¬2) في إحكام الأحكام (البلدي). (¬3) مسلم من حديث جابر (1522)، والترمذي (1223)، وابن ماجه (2176)، وأحمد (2/ 307)، والنسائي (7/ 256)، وابن أبي شيبة (6/ 239).

ومنها: ما يوجد باستنباط المعنى. فيخرج على قاعدة أصولية: وهي أن النص [إذا] (¬1) استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص، هل يصح أم لا؟ ويظهر لك هذا باعتبار ما ذكرناه من الشروط. تنبيهات: أحدها: هذا النهي محمول عند مالك على أهل العمود ممن لا يعرف الأسعار، ولفظ "البادي" صريح فيه، وأما من يقرب من المدينة ويعرف السعر فلا يدخل في ذلك (¬2). وعندهم قول آخر: أنه عام في كل بدوي طارٍ على [كل] (¬3) بلد وإن كان من أهل الحضر، حكاه القاضي، وقال: إنه قول أصبغ، وكأنه تأول التنبيه بالبدوي على الطارىء والجاهل، ومفهوم العلة في الحديث تقوية قوله -عليه الصلاة والسلام-: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". وعمم ابن المواز المالكي النهي أيضاً، وقال: لا يبع مدني لمصريًّ، ولا عكسه. وحمله المازري (¬4)، على المدني الجاهل بالأسعار الذي يمكن غبنه وينفع أهل المدينة بوروده عليهم مع كونه غالباً يربح فيما أتى به. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: المعلم بفوائد مسلم (2/ 139)، والاستذكار (21/ 80). (¬3) الزيادة من هـ. (¬4) المعلم بفوائد مسلم (2/ 139، 246).

ثانيها: قال المازري (¬1): اختلف عندنا في الشراء هل يمتنع كما امتنع البيع له؟ فقيل: هو بخلاف البيع لأنه إذا صار الثمن في يديه أشبه أهل الحضر فيما يشترونه فيجوز أن يشتري له الحاضر، فإن وقع البيع على الصفة التي نهى عنها، ففي فسخه خلاف. قلت: وهذه المسألة لا نقل فيها عندنا وتردد فيها ابن الرفعة في "مطلبه"، نعم اختار البخاري (¬2) في "صحيحه" المنع، وقال: "باب: لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة" قال: وكرهه ابن سيرين وإبراهيم للبائع والمشتري، قال: وقال إبراهيم: [إن] (¬3) العرب تقول: بع لي ثوباً، وهي تعني الشراء (¬4) ثم روى الحديث مختصراً. ثالثها: ذهب أبو حنيفة وعطاء ومن قال بقولهم كما حكاه القاضي عنهم إلى أن الحديث معمول به [] (¬5) وأن ذلك مباح. ثم اختلفوا في تأويل الحديث وعلة رده. فخصه بعضهم: بزمنه -عليه الصلاة والسلام- بخلاف اليوم، ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 139). انظر: المعلم (4/ 183). (¬2) البخاري الفتح (4/ 372). (¬3) ساقطة في الأصل ون هـ وهي في البخاري. (¬4) انظر في تخريجها: فتح الباري (4/ 372، 373)،وتغليق التعليق (3/ 252). (¬5) في ن هـ، زيادة (وأن ذلك به وأن ذلك محمول به).

وظاهر قول هؤلاء: أنه منسوخ (¬1). ورده بعضهم: بحديث النصيحة (¬2) لكل مسلم وإليه أشار البخاري (¬3) حيث قال: "باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ هل يعينه أو ينصحه؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استنصح أحدكم أخاه [فلينصح له] (¬4) قال: ورخص فيه عطاء ثم ذكر فيه حديث جرير والنصح لكل مسلم ثم ذكر الحديث من طريق ابن عباس مرفوعاً: "لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد" قال ابن عباس: "لا يكون له سمساراً". وقيل: كان هذا النهي عن تربص الحاضر بسلعة البادي والزيادة في السوق لا أن يبيعوه بسعر يومه لأن البادي غير مقيم فيبيع بسعر يومه فيرتفق بذلك الناس فإذا قال الحضري: أنا أتربص لك بها وأبيعها لك حرم الناس ذلك الرفق. وقيل: إنما ذلك في البلاد الضيقة التي يستبين فيها ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (18/ 200)، والاستذكار (21/ 84). (¬2) حديث تميم الداري -رضي الله عنه- ولفظه: "الدين النصيحة" الحديث. انظر: مسلم (55)، والنسائي (7/ 156، 157)، والحميدي (837)، وأحمد (4/ 102)، والبغوي (3514)، وأبو عوانة (1/ 36، 37). (¬3) البخاري الفتح (4/ 370). (¬4) في الأصل (فلينصحه)، وما أثبت من ن هـ والبخاري. انظر: تغليق التعليق (3/ 253)، وأخرجه البيهقي (5/ 347)، وروى مسلم بعضه في صحيحه (1522)، وابن ماجه بمعناه (3747).

[الضرر] (¬1) وغلاء السعر إذا لم يبيع الجالب متاعه فأما البلاد الواسعة التي لا يظهر الضرر فيها فلا بأس. وقيل: ذلك على الندب ليس على الوجوب وهو دعوى وكذا ما سلف. ثم اختلف من أوجب إذا وقع فعند الشافعي وابن وهب وسحنون: [عصى] (¬2). وعند ابن القاسم: يفسخ ما لم يفت. رابعها: إذا استشار البدوي البلدي في ادخاره وبيعه على التدريج فهل يرشده؟ وجهان لأصحابنا قال أبو الطيب ابن سلمة (¬3)، وأبو إسحق (¬4)، نعم. بذلاً للنصيحة (¬5). ¬

_ (¬1) في ن هـ (الضرورة). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) هو محمد بن المفضل بن سلمة بن عاصم، أبو الطيب ابن سلمة الضبي، توفي سنة (308). انظر: ابن قاضي شهبة (1/ 66، 67)، ابن هداية الله (45، 47)، والإسنوي (2/ 23). (¬4) هو إبراهيم بن علي بن يوسف أبو إسحاق ولد -رحمه الله- سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة وتوفي سنة ست وسبعين وأربعمائة. انظر: ابن هداية الله (170، 171)، وابن قاضي شهبة (1/ 251، 254). (¬5) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 83): الدين النصيحة عام، "ولا يبع حاضر لباد" خاص، والخاص يقضي على العام، لأن الخصوص استثناء، كما قال: "الدين النصيحة" حق المسلم أن ينصح أخاه، إلاَّ أنه لا يبع حاضر لباد" يختلفوا أنه [يستعمل على هذا الحديثان]. يستعمل العام منهما في ما عدا المخصوص. اهـ.

وقال أبو حفص بن الوكيل (¬1): لا. توسيعاً على الناس. [الوجه الرابع] (¬2): قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تصُروا الغنم" هو -بضم التاء وفتح الصاد المهملة ومد الراء بواو وألف- على مثال "لا تزكوا" ونصب لفظ "الغنم" هذا هو الصحيح تقييداً ولغةً وروى في غير مسلم "بفتح التاء وضم الصاد" من الصّر ورواه بعضهم: "بضم التاء من غير واو الجمع بعد الراء ورفع الغنم" على ما لم يسم فاعله من الصّر أيضاً وهذا لا يصح رفعه مع اتصال ضمير الفاعل وإنما يصح مع إفراد الفعل (¬3)، كما قال الشيخ تقي الدين (¬4)، قال: ولا نعلم رواية حذف فيها الضمير. والتصرية: مأخوذة من الجمع تقول صريت الماء في الحوض إذا جمعته فالمعنى: لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة مستمرة. وعبارة الشافعي (¬5): التصرية ربط أخلافها اليومين والثلاثة لجمع لبنها. ¬

_ (¬1) هو محمد بن عمر بن مكي المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل، ولد في شوال سنة خمس وستين وستمائة وتوفي في ذي الحجة سنة ست عشرة وسبعمائة بالقاهرة. البداية والنهاية (14/ 80)، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 233). (¬2) في ن هـ (الوجه السابع). (¬3) انظر: فتح الباري (4/ 362). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 42). (¬5) جامع الأصول (1/ 500)، ومعالم السنن (5/ 84).

وقال أبو عبيدة (¬1). هو من صرّي اللبن في ضرعها إذا حبسه وأصلها حبس الماء، قال: ولو كانت من الربط لكانت مصرورة أو مصررة. قال الخطابي (¬2). وقول أبي عبيدة حسن، وقول الشافعي صحيح. والعرب تَصُرُّ الحلوبات، ويسمى ذلك الرباط: صراراً. واستشهد بقول العرب: [العبد] (¬3) لا يحسن الكَرَّ، وإنما يحسن الحلب والصّرَ، قال: ويحتمل أن تكون المصراة، أصلها: مصرورة فأُبدل من إحدى الراءين [ألفاً] (¬4) كقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (¬5) أي دسَّها كرهو [اجتماع] (¬6) ثلاثة أحرف وإن كانت في الصورة [حرفين] (¬7) لكون الحرف المشدد عندهم بحرفين في اللفظ. إذا تقرر ذلك فيتعلق بالتصرية مسائل: الأولى: لا خلاف أن التصرية حرام لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري، والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعاً من الشرع، قال المتولي: وهي حرام وإن لم يقصد البيع لأنه يضر بالحيوان. قال المازري (¬8): والتصرية أصل في تحريم الغش وفي ¬

_ (¬1) غريب الحديث (2/ 240)، ومعالم السنن (5/ 84). (¬2) معالم السنن (5/ 84) مع زيادة عبارات هناك. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في معالم السنن (5/ 86) ياءً، وأيضاً في جامع الأصول (1/ 500). (¬5) سورة الشمس: آية 10. (¬6) في ن هـ ساقطة. (¬7) في ن هـ ساقطة. (¬8) المعلم بفوائد مسلم (2/ 248).

الرد بالعيب وقد كان شيخنا أبو محمد بن عبد الحميد يجعلها أصلاً في [أن] (¬1) النهي إذا كان لحق الخلق لا يوجب فساد البيع، لأن الأمة أجمعت على تحريم الغش في البيع، ووقع النهي عنه هنا ثم خيّره (¬2) بعد ذلك بين الرد والإِمساك، والفاسد لا يصح التماسك به. الثانية: النهي ورد عن فعل المكلف، وهو ما يصدر باختياره وتعمده، ورتب عليه الحكم المذكور. فلو تَحفَلَت بنفسها، أو نسيها المالك بعد أن صرّاها, لا لأجل الخديعة، هل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف للشافعي. فمن نظر إلى العيب أثبته، لأن العيب مثبت للخيار، ولا يشترط فيه تدليس البائع. ومن نظر إلى أن الحكم المذكور خارج عن القياس خصه بمورده، وهو حالة العمد فإن النهي إنما يتناولها فقط. وصحح البغوي في "تهذيبه" (¬3) فيما إذا تحفلت بنفسها ثبوت الخيار وقطع الغزالي بعدمه وتبعه "صاحب الحاوي الصغير" لحصول التدليس، والمسألة الثانية لم نرها إلاَّ في كلام الشيخ تقي الدين (¬4). ووقع لابن الرفعة في إيرادها عنه نكتة لطيفة ذكرتها في "شرح الحاوي" فراجعها ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة ومثبتة في الأصل والمعلم. (¬2) الضمير هنا يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المعلم. (¬3) هو الحسين بن مسعود بن محمد محيي السنة أبو محمد البغوي من تصانيفه التهذيب لخصه من تعليق شيخه، توفي بمرو الروذ في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة. انظر: البداية والنهاية (12/ 193)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 281). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 42).

منه، وحكى الفاكهي الخلاف المذكور عن الشافعية فيما إذا كان الضرع مملوءاً لحماً وظنه المشتري لبناً، ولم أقف على ذلك عندنا ونقل عن مذهبهم عدم ثبوت الخيار [به] (¬1). الثالثة: رواية المصنف ذكر فيها "الغنم" [فقط] (¬2) وفي الصحيحين (¬3) "الإِبل، والبقر" ملحقة بهما، لأن في "سنن أبي داود" (¬4) "من ابتاع محفلة" وهل يتعدى الحكم إلى غير هذه الثلاثة، فيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا. جموداً على ما ذكر في الحديث , ولأن لبن غيرها لا يقصد إلاَّ نادراً. وأصحهما: نعم. فيعم كل مأكول والجارية والأتان نظراً إلى المعنى ولرواية أبي داود المذكورة ولأن كثرة اللبن في الأم مقصود ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري (2148)، ومسلم (1515) (11) (1524)، وأبو داود (3443) (3445) في البيوع، باب: من اشترى مصراة فكرهها، والترمذي (1251) (1252) في البيوع باب: ما جاء في المصراة. (¬4) (3446)، وابن ماجه (2240) ذكره في جامع الأصول (1/ 505) , قال الخطابي: إسناده ليس بذاك، وقال المنذري: والأمر كما قال. اهـ. وسيأتي كلام المؤلف في تضعيفه، وضعفه ابن حجر في الفتح (4/ 364)، قال: ففي إسناده ضعف. وقد قال ابن قدامة إنه متروك الظاهر بالاتفاق. اهـ. وضعفه البيهقي والمنذري من أصل جميع بن عمير أحد رواته. والمحفلة: هي المصراة.

لتربية الولد، ولا يرد مع الجارية والأتان شيء على الأصح؛ أما في الجارية فلأن لبنها لا يعتاض عنه غالباً، وأما في الأتان فلنجاسته. قال الشيخ تقي الدين: ومن هذا يتبين لك أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث، لأن شرط القياس: اتحاد الحكم فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى وكذا الجارية. الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بعد أن يحلبها" هو مطلق في الحلبات لكن [قد] (¬1) تقيد في الرواية الأخرى في الكتاب "يختار ثلاثة أيام" سواء حلبها مرة أو مرات. واتفقت المالكية: على أنه إذا حلبها مرة ثانية أن له الرد، إن أراده. واختلفوا في حلبها الثالثة: هل يكون رضي يمنع الرد أم لا يمنع الرد؟ ورجحوا أنه لا يمنع لإِطلاق الحديث، ولأن التصرية لا تتحقق إلاَّ بثلاث حلبات. لجواز أن يكون نقص الحلبة الثانية لاختلاف المرعى، أو لأمر غير التصرية ولا يتحقق إلاَّ بعد الحلبة الثالثة، وإذا كانت لفظة "حلبها" مطلقة فلا دلالة لها على الثانية والثالثة. وإنما يؤخذ ذلك من حديث آخر. الخامس: إن قلت كيف خص -عليه الصلاة والسلام- الخيار بعد الحلب وهو ثابت قبله إذا علمت التصرية؟ ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

فالجواب: أنه خرج على الغالب كما ستعلمه. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإن سخطها ردها" يقتضي إثبات الخيار بعد التصرية. واختلف أصحاب الشافعي هل هو على الفور أم يمتد ثلاثة أيام؟ على وجهين: أصحهما: عندهم الأول قياساً على خيار الرد بالعيب، ويتأولون الحديث بأنه محمول على الغالب إذ التصرية لا تظهر فيما دون الثلاث غالباً لاحتمال إحالة النقصان على اختلاف العلف كما سبق، أو تأذى الحيوان أو غيرهما. وصحح الثاني: جماعة كثيرة منهم اتباعاً للنص وهو الحق، وقد نص [على] (¬1) الشافعي في "الإِملاء" كما أفاده الروياني. وفي "اختلاف العراقيين" كما أفاده القاضي أبو الطيب. قال الشيخ تقي الدين: وهو الصواب لوجهين: أحدهما: تقديمه على القياس. ثانيهما. أنه خولف القياس في أصل الحكم، لأجل النص. فيطرد ذلك، ويتبع في جميع موارده. تنبيه: "الواو" في قوله: "أو صاعاً من تمر" يجوز أن تكون عاطفة للصاع على الضمير في ردها، ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة، وهي لا تستقيم إلاَّ بزيادة (ذلك). وتكون العبارة (رد على ذلك) ... إلخ.

ويجوز أن تكون "واو" "مع" قاله الفاكهي وبنى على أن الأول لا يقتضي فورية الصالح مع الرد بخلاف الثاني. السابع (¬1): يقتضي الحديث رد شيء معها عندما يختار ردها، وهو صاع، -وقد تقدم بيانه في كتاب الزكاة- وفي كلام بعض المالكية: ما يدل على خلافه، من حيث أن الخراج بـ "الضمان"، ومعناه: أن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهته، تكون له بضمانه، فاللبن المحلوب إذا فات غَلّةِ. فلتكن للمشتري. ولا يرد له بدلاً. والصواب: الرد، للحديث إذ هو خاص لمعنى أن اللبن يعطى المبيع وليس من الغلة الحاصلة، في يد المشتري، بل كان موجوداً عند البائع وفي حال العقد ووقع العقد عليه وعلى الشاة جميعاً، فهما مبيعان بثمن واحد، وتعذر رد اللبن لاختلاطه بما حدث في ملك المشتري فوجب رد عوضه، ثم لو سلم أن اللبن غلة لكان الخراج بالضمان عاماً والخاص يقضي عليه. الثامن (¬2): الحديث يقتضي رد الصاع مع الشاة بصريحه. ويلزم منه عدم رد اللبن. سواء كان باقياً أو تالفاً، والشافعية قالوا: إن كان اللبن باقياً ولم يتغير فأراد رده على البائع هل يلزمه قبوله؟ وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه أقرب إلى مستحقه. وأصحها: لا؛ لذهاب طراوته، واتباع الحديث أولى في تعيين ¬

_ (¬1) ذكر هذه المسألة في إحكام الأحكام. (¬2) ذكر هذه المسألة في إحكام الأحكام.

الرد [فيما] (¬1) نص عليه. وزادت المالكية على هذا فقالوا: لو رضى البائع باللبن هل يجوز له ذلك؟ فيه قولان. ووجهوا المنع: بأنه بيع للطعام قبل قبضه من حيث أنه وجب له الصاع بمقتضى الحديث، وكأنه باعه باللبن قبل قبضه وهو ممتنع. ووجهوا الجواز: بأنه بدل ليس بيعاً بناء على عادتهم في اتباع المعاني، دون اعتبار الألفاظ. [التاسع] (¬2): الحديث يقتضي تعيين جنس المردود في الثمن فمنهم من ذهب إلى ذلك وهو الصواب للنص عليه، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- أيضاً: "وصاعاً من تمر لا سمراء" وهي البر. رواه مسلم (¬3). ومنهم من عداه: إلى غالب قوت البلد والحديث راد عليهم خصوصاً إن كانت السمراء غالب قوت أهل المدينة. وأغرب من هذا أن بعض الشافعية قال: لا يتعين القوت بل يقوم غيره مقامه حتى لو عدل إلى مثل اللبن أو قيمته عند إعواز المثل [اجبر] (¬4) البائع على قبوله كسائر المتلفات. فرع: حلب غير المصراة ثم اطلع على عيب بها فمنصوص الشافعي -رضي الله عنه- جواز الرد مجاناً لأنه قليل غير معتنى بجمعه بخلاف المصراة. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل (الثالثة)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) مسلم (1524). (¬4) زيادة من ن هـ.

[وقيل: يرد بدل اللبن، كالمصراة] (¬1)، قال ابن الرفعة. وهو أظهر. قال الماوردي (¬2): قيمته. وقال البغوي (¬3): يرد صاعاً من تمر، وجزم ابن أبي عصرون (¬4) بأنه لا يردها لتلف بعض المبيع، والمسألة مبسوطة في الفروع. واختلفت المالكية فيما إذا رضى بعيب التصرية ثم رد بعيب آخر غيرها. فقال محمد: لا يرد عوض [ما حلب] (¬5) ورأى [قصر] (¬6) الحديث على ما ورد، وذكر عن أشهب: أنه يرد الصاع، ومال إليه بعض المتأخرين منهم. [العاشرة] (¬7): الحديث دال على تعيين المقدار في الصاع ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وفتح الباري (4/ 368)، وانظر: جامع الأصول (1/ 502). (¬2) هو أبو الحسن علي بن محمد. انظر: الحاوي الكبير (5/ 243). (¬3) السنة للبغوي (8/ 125)، وفتح الباري نقلاً عنه (4/ 368). (¬4) هو عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون مولده في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وتوفي في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة. انظر: السير (21/ 125، 129)، ووفيات الأعيان (3/ 53، 57)، وطبقات ابن الصلاح (512). (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) في ن هـ ساقطة. (¬7) في الأصل (الرابعة)، وما أثبت من ن هـ.

مطلقاً سواء قل اللبن أو كثر , وهو الأصح عند الشافعي. ومنهم من قال: إنه [يتقدر] (¬1) بقدر اللبن اتباعاً لقياس الغرامات وهو ضعيف، وحديث أبي داود (¬2) "مثله أو مثليّ لبنها قمحاً" ليس إسناده [بذلك] (¬3)، وإن لم يضعفه هو. واختلف المالكية: إذا كانت الغنم التي صرت كثيرة هل يرد بجميعها صاعاً واحداً أو لكل شاة صاعاً. قال المازري (¬4): [والأصوب] (¬5) أن يكون حكم الكثير منها غير الواحد إذ من المستبشع في القول أن يغرم متلف [لبن] (¬6) ألف شاة كما يغرم متلف لبن شاة واحدة. فإن احتج بأنه -عليه الصلاة والسلام- ساوى بين لبن الشاة و [لبن] (¬7) الناقة مع أن الناقة أكثر. قلنا: قد قال بعض أهل العلم إنما ذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يكون ذلك حدّاً يرجع إليه ليرتفع الخصام، واعترض ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) سبق تخريجه والحكم عليه. (¬3) في هـ (بذاك). (¬4) المعلم بفوائد مسلم (2/ 250). (¬5) في الأصل بياض، وفي هـ (الأصول) , وما أثبت من المعلم. (¬6) زيادة يقتضيها السياق وهي ساقطة من الأصل ون هـ ومثبتة في المعلم، وفتح الباري (4/ 369). (¬7) زيادة من ن هـ.

الفاكهي: بأنه لم لا يكون جودة لبن الشاة وإن قل مقابلاً لكثرة لبن الناقة فيكونان كالمتساويين من حيث المعنى. وأجاب: بأنه يعارضه اختلاف الإِبل أنفسها بكثرة الحلب وقلته. الحادية عشرة: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث وروى عن مالك قول أيضاً بعدم القول به، والذي أوجب ذلك: أن قيل إنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة. وما كان كذلك لم يلزم العمل به. أما الأول: وهو أنه مخالف لقياس الأصول المعلومة فمن وجوه: الأول: أن المعلوم من الأصول: أن ضمان [المثليات] (¬1) بالمثل. وضمان المتَقَوَّمات بالقيمة من النقدين. وههنا إن كان اللبن مثلياً كان ينبغي ضمانه بمثله لبناً، وإن كان متقوماً ضمن بمثله من النقدين، وقد وقع ههنا مضموناً بالتمر. فهو خارج عن [الأصليين] (¬2) جميعاً. الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي تقدير ضمان المضمون بقدر التالف. والمضمون هنا مختلف بقدر الضمان بمقدار واحد. وهو ¬

_ (¬1) في ن هـ (المتلفات). (¬2) في الأصل (الأصوليين)، ما أثبت من ن هـ، وإحكام الأحكام (4/ 51).

الصاع مطلقاً. فخرج عن القياس الكلي من اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها. الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجوداً عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد، كما لو ذهب بعض أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب، فإنه يمتنع الرد، وإن كان حادثاً بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري. فلا يضمنه، وإن كان مختلطاً بما كان منه موجوداً عند العقد منع الرد، وما كان حادثاً بعده لم يجب [ضمانه] (¬1). الرابع: إثبات الخيار ثلاثاً من غير شرط مخالف للأصول فإن الخيار الثابت بأصل الشرع لا يتقدر بالثلاث، كخيار العيب، وخيار الرؤية عند من يثبته، وخيار المجلس عند من يقول به. الخامس: يلزم من القول بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور، وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعاً من تمر، فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها. السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور، [و] (¬2) هو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاع تمر، فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن، [فيكون قد باع شاة مع صاع بصاع] (¬3) وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم [فإنكم] (¬4) تمنعون مثل ذلك. ¬

_ (¬1) في ن هـ الضمان. (¬2) زيادة من ن هـ، وإحكام الأحكام (4/ 52). (¬3) عبارة إحكام الأحكام (4/ 52)، فيكون قد باع صاعاً وشاة بصاع. (¬4) في هـ (فإنهم).

السابع: إذا كان اللبن باقياً لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع، وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلاَّ مع فواتها كالمغصوب وسائر المضمونات. الثامن: قال بعضهم: إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط. فإن نقصان اللبن لو كان عيباً لثبت به الرد من غير تَصْرِية، ولا يثبت الرد في الشرع إلاَّ بعيب أو شرط. وأما المقام الثاني: -وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفاً لقياس الأصول المعلومة: لم يجب العمل به- فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع, وخبر الواحد مظنون، والمظنون لا يعارض المعلوم. أجاب القائلون: بظاهر الحديث: بالطعن في المقامين جميعاً، أعني أنه مخالف للأصول، وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به. أما [(¬1)] الأول: -وهو أنه مخالف للأصول- فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول، ومخالفة قياس الأصول. وخص الرد بخبر الواحد بالمخالفة في الأصول، لا بمخالفة قياس الأصول. وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول (¬2). وفي هذا نظر. وسلك ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 53) زيادة (المقام). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 251) -بعد ما ذكر هذا بدليل أن الأصول-: الكتاب والسنّة والإِجماع القياس. والكتاب والسنّة =

آخرون [تخريج] (¬1) جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها. أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإِبل، وليست بمثل له ولا قيمة، والجنين يضمن بالغُرّة وليست بمثل له ولا قيمة، وأيضاً فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت [المماثلة] (¬2) وهنا تعذرت. أما الأول: فمن أتلف شاة لبوناً كان عليه قيمتها مع اللبن. ولا يجعل بإزاء لبنها لبناً آخر، لتعذر المماثلة. وأما الثاني: -وهو أنه تعذرت المماثلة ههنا- فلأن ما يرده مع اللبن عوضاً عن اللبن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار لجواز أن يكون حال رده وعند العقد أكثر من اللبن الموجود أو أقل. وأما الاعتراض الثاني فقيل في جوابه: أن بعض الأصول لا تتقدر بما ذكرتموه، كالموضحة فإن أرْشها مقدر، مع اختلافها ¬

_ = في الحقيقة هما الأصل. والآخران مردودان إليهما. فالسنّة أصل القياس. فكيف يرد الأصل والفرع؟ بل الحديث الصحيح أصل بنفسه. فكيف يقال: إن الأصل يخالف القياس؟ إلى أن قال: وقال ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلاً من الأصول. ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر. لأنه إن وافقه فذاك. وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما. لأنه رد للخبر بالقياس. وهو مردود باتفاق. فإن السنّة مقدمة على القياس بلا خلاف. اهـ. (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 53) (تجريح). (¬2) في ن ب (هل المهايأة)، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام.

بالكبر والصغر، والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات، والحرُّ ديته مقدرة وإن اختلف في الكبر والصغر وسائر الصفات، والحكمة فيه أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر بقصد قطع النزاع فيه بتقدير شيء معين. وتُقدّم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة. وأما الاعتراض الثالث، فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص؟ إذا كان لاستعلام العيب؛ [و] (¬1) إذا لم يكن الأول ممنوع، والثاني مسلم. وهذا النقص لاستعلام العيب، فلا يمنع الرد. وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفاً لغيره إذا كان مماثلاً له وخولف في حكمه. وهذه الصورة هنا انفردت عن غيرها، [لأن] (¬2) الغالب أن هذه المدة [هي التي يتبين بها أن اللبن المجتمع بأصل الخلقة جبلة] (¬3) واللبن المجتمع بالتدليس. [فهي] (¬4) مدة يتوقف [علم] (¬5) العيب عليها غالباً، بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيها، وخيار المجلس ليس [للاستعلام] (¬6). ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 55) (أو). (¬2) في الأصل ون هـ (بأن)، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬3) عبارة إحكام الأحكام (هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلقة، واللبن). (¬4) في المخطوطة (فهو)، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬5) زيادة من إحكام الأحكام. (¬6) في إحكام الأحكام (لاستعلام العيب).

وأما الخامس فقد قيل فيه: أن الخبر وارد على العادة، والعادة أن لا تباع شاة بصاع. وفيه ضعف. وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة: فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض. وأما السادس فقد قيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهباً بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقابلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض. وأما السابع فقيل في جوابه: أن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وأحدهما للبائع، والآخر للمشتري. وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو غصب عبداً فأبق، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه، لتعذر الرد. وأما الثامن فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس كما لو باع رحاً دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به المشتري بل قد يقال أن ها هنا شرطاً معنوياً وهو أن المشتري رأى ضرعاً مملوءاً فظن أن ذلك عادتها فكانه اشترط له ذلك من حيث المعنى فجاء الأمر بخلافه فوجب الرد لفقدان الشرط المعنوي فإنه كاللفظ. وأما المقام الثاني: -وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد- فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه، يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول نص صاحب الشرع عليها، وهو

موجود في خبر الواحد، فيجب اعتباره. وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع، وكون خبر الواحد مظنوناً، فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير [المقطوع] (¬1) به، لجواز استثناء محل الخبر [عن] (¬2) ذلك الأصل. قال الشيخ تقي الدين (¬3): وعندي أن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارت، ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن هذا الحديث، وهي ادعاء النسخ وأنه يجوز أن يكون ذلك حيث كانت العقوبة بالمال جائزة (¬4)، وهو ضعيف، فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير، وهو غير سائغ. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (مقطوع). (¬2) في إحكام الأحكام (من). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 57). (¬4) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 92): وقالت طائفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز القول بحديث المصراة، وادعوا أنه منسوخ بالحديث الوارد في أن الخراج بالضمان، والغلة بالضمان وقال أيضاً (21/ 93) وقالوا: وهذا كله يبين أن الحديث منسوخ كما نسخت العقوبات في غرامة مثليّ الشيء، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حريسة الجبل التي لا قطع فيها غرامة مثليها، وجلدات نكال نسخه قول الله عز وجل: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وكذلك قوله: صاعاً من تمر منسوخ أيضاً بتحريم الربا، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الطعام بالطعام ربا، إلاَّ هاء وهاء، وجعل فيمن استهلك طعاماً طعاماً مثله، قال: فإن فات، فقيمته ذهباً، أو ورقاً. قالوا، وهذا كله يدل على أن الحديث منسوخ.

ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلاً وشرط الخيار، فالشرط فاسد، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد، وإلاَّ بطل وأما رد الصاع، فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت. وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية، وما ذكر يقتضى تعليقه بفساد الشرط، سواء [وجدت] (¬1) التصرية أم لا. ثم اعلم بعد ذلك أن الصحيح الذي قال به فقهاء المحدثين العمل بالحديث وهو الموافق للسنة وممن قال به الشافعي والليث وابن أبي ليلى وأبو ثور وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة والسنة إذا وردت لا يعترض عليها بالمعقول. ومن الحكايات الصحيحة (¬2) في هذا الباب ما أنبأنا به عن أبي الفضل أحمد بن عساكر عن أبي المظفر عبد الرحيم السمعاني عن والده الحافظ عبد الكريم عن أبي المعمر المبارك الأزجي عن أبي القاسم [يوسف] (¬3) بن علي الزنجاني عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، قال سمعت القاضي أبي الطيب الطبري قال: كنا في حلقة الذكر بجامع المنصور فجاء شاب خراساني فسأل عن مسألة المصراة فطالب بالدليل فاحتج المستدل بحدبث أبي هريرة الوارد فيها، فقال الشاب: وكان حنفياً أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما إن استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع فوثب الناس من ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (أحدث). (¬2) انظر: القبس (852)، وفتح الباري (4/ 364، 365) قال الذهبي: إسناده ثقات. (¬3) ساقطة من ن هـ.

أجلها وهرب الشاب من يديها وهي تتبعه فقيل له تب تب، فقال: تبت فغابت الحية فلم ير لها أثراً وهذا إسناد جليل صحيح رواته كلهم ثقات. الوجه الثامن: من الكلام على الحديث يستنبط منه تحريم التدليس وأنه موجب للخيار، وإن كان بتحسين المبيع الذي يؤدي إلى الخدع والغرر وإقامة الفعل مقام النطق في مثل هذا كما إذا سوّد شعر الجارية [الشابة] (¬1) أو جعّد شعر السبطة ونحو ذلك. والأصح عند الشافعية أنه إذا لطخ ثوب العبد بالمداد ليخيل به كتابته أنه لا خيار به لتقصير المشتري بعدم الامتحان والسؤال. وقيل: نعم للتلبيس والتدليس، وهو محكى عن المالكية. الوجه التاسع: في أحكام الحديث ملخصة. الأول: تحريم تلقي الركبان وقد سلف شرطه. الثاني: تحريم البيع على بيع أخيه وقد سلف شرطه أيضاً. الثالث: تحريم النجش. الرابع: تحريم (¬2) الحاضر للبادي وقد تقدم شرطه أيضاً. الخامس: تحريم التصرية. السادس: ثبوت الخيار بها. السابع: ثبوت الرد بها بعد حلبها إن اختاره المشتري. ¬

_ (¬1) في الأصل (الشايب)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) لعل فيه زيادة (بيع).

الثامن: أن البدل عن اللبن مقدر من الشرع بصاع تمر مطلقاً كما سلف. التاسع: امتداد خيار الرد بالتصرية ثلاثة أيام وقد سلف ما فيه. العاشر: رواية الخيار ثلاثاً جعلها أبو حنيفة والشافعي أصلاً في ضرب أجل الخيار وأنه لا زيادة فيه على هذه المدة. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: قليل الخيار وكثيره جائز. ومالك لا يرى للخيار أصلاً محدود لا يتعدى بل قدر ما يتخير فيه المشتري؛ ويختلف ذلك باختلافه؛ فليس اختيار الثوب كاختيار العبد وسكنى الدار. وبيع الخيار عند المالكية [جائز] (¬1) ضرب له أجلاً أم لا، ويضرب الحاكم للبيع من الأجل قدر ما يتخير فيه مثلاً، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في إبطاله إذا لم يضرب له أجل وهو رخصة خارجة عن الأصل للضرورة الداعية للبحث عن المشتري ويقضي معرفته وأخذ رأي من [يريد] (¬2) مشورته فيه. الحادي عشر: فيه أيضاً أن العقد المنهى عنه المحرم إذا كان لأجل الآدمي لم يدل على الفساد ولا يفسخ العقد ألا ترى أن التصرية غش محرم ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- لم يفسخ العقد ولكن جعل الخيار للمشتري. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ.

الثاني عشر: فيه أيضاً أن بيع الخيار موضوع لتمام البيع واستقراره لا للفسخ، وهو أحد القولين، [عند المالكية] (¬1). وقيل: إنه موضوع للفسخ. قال القرطبي في "مفهمه" (¬2): والأول أولى لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن رضيها أمسكها"، والإِمساك: إنما هو استدامة التمسك لما قد ثبت وجوده كما قال -عليه الصلاة والسلام- لغيلان: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن" (¬3) أي [استدم] (¬4) حكم العقود السابقة. ... ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) المفهم (2684). (¬3) الموطأ (586)، والشافعي في الأم (5/ 163)، والترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وابن حبان (4157). (¬4) في الأصل (استلزم)، وما أثبت من ن هـ والمفهم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 275/ 3/ 53 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع حبل الحبلة" وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن ننتج الناقة ثم تنتج [الذي] (¬1) في بطنها (¬2). ¬

_ (¬1) في ن هـ (التي). سيأتي في الوجه الثاني أنها رواية. (¬2) البخاري أطرافه (2143)، ومسلم (1514)، والنسائي (7/ 293)، وابن ماجه (2197)، ومالك (2/ 653)، وأبو داود في البيوع (3380) باب: بيع الغرر، وابن الجارود (591)، والبغوي (2107)، والبيهقي (5/ 340، 341). تنبيه: قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 357) على قوله: "وكان بيعاً بتبايعه أهل الجاهلية". قال الإِسماعيلي: وهو مدرج، يعني أن التفسير من كلام نافع، وكذا ذكره الخطيب في "المدرج" وأخرجه البخاري (2256) في السلم: باب السلم إلى أن تنتج الناقة، وفيه: فسره نافع: إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك". وقال قبله: لا يلزم من كون نافع فسره لجويرية أن لا يكون ذلك التفسير مما حمله عن مولاه ابن عمر. فقد أخرج البخاري في مناقب الأنصار =

قيل: إنه كان يبيع الشارف -وهي الكبيرة المسنة- بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته. الكلام عليه من وجوه: الأول: حبل الحَبَلَة: -بفتح الباء فيهما- وروى بعضهم حبْل بإسكانها وهو غلط. والحبلة: هنا جمع حابل، كظالم وظَلَمة، قال الأخفش: يقال حبلت المرأة فهي حابل والجمع نسوة حبلة، وقال [ابن] (¬1) الأنباري (¬2): الهاء في الحبلة للمبالغة ووافقه بعضهم. واتفق أهل اللغة: على أن الحبل مختص بالآدميات، ويقال: في غيرهن الحمل، يقال: حملت المرأة ولداً وحبلت بولد، وحملت الشاة بسخلة، ولا يقال حبلت، قال أبو عبيد (¬3): لا يقال لشيء من الحيوان حبلى إلاَّ ما جاء في هذا الحديث. ¬

_ = (3843) باب: أيام الجاهلية، ومن طريق عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلى أن قال: فظاهر هذا السياق أن هذا التفسير من كلام ابن عمر، ونقل عن ابن عبد البر الجزم بأنه من تفسير ابن عمر. اهـ. ورواية مسلم صريحة بأن التفسير من كلام ابن عمر -رضي الله عنه-. انظر: الاستذكار (20/ 96). (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في هامش الأصل وقع في الفاكهي ابن الأعرابي بدلها وكأنه تصحيف. وما أثبت يوافق ما في المفهم (2674). (¬3) انظر: لسان العرب (3/ 32) فقد ساقه عن ابن سيده.

الثاني: [اختلف العلماء] (¬1) في المراد بالنهي عن بيع حبل الحبلة، فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها، وهذا التفسير ثابت في الصحيحين عن ابن عمر وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم. وقال آخرون: هو بيع ولد ولد الناقة الحابل في الحال، وهو تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه [أبي] (¬2) عبيد القاسم بن سلاَّم (¬3) وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد وإسحق وهو أقرب إلى اللغة (¬4) لكن تفسير الراوي مقدم على تفسير غيره عند الشافعي ومحققي الأصوليين إذا لم يخالف الظاهر لأنه أعرف (¬5)، وفيه قول ثالث حكاه القاضي (¬6) ثم القرطبي (¬7) عن المبرد أنه قال: حبل الحبلة عندي حمل الكرمَةِ قبل أن تبلغ، والحبلة: الكرمة (¬8) بسكون ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. انظر هذا المبحث في الاستذكار (20/ 96)، ولسان العرب (3/ 32). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) انظر: غريب الحديث (1/ 208)، لسان العرب (3/ 32). (¬4) الاستذكار (20/ 97). (¬5) الاستذكار (2/ 96). (¬6) مشارق الأنوار (1/ 175). (¬7) المفهم (2674). (¬8) وقد ورد في الحديث تسمية العنب حبلة. انظر: النهاية (1/ 334)، قال في اتفاق المباني وافتراق المعاني ص 226. الحبلة: الأصل من أصول الكرم، وفي الحديث: "لما خرج نوح من السفينة غرس الحبلة". اهـ. لسان العرب (3/ 31).

الباء وفتحها ولم يذكر القرطبي التفسير الذي قبله بل اقتصر على هذا وعلى الأول وما قاله المبرد هو عين نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن بيع الثمار حتى يبدوا صلاحها وسيأتي. واعلم أن في الصحيح في تفسير ابن عمر بحبل الحبلة "ثم تنتج الذي في بطنها" كما ذكره المصنف ورأيت في نسخة صحيحة من البخاري "التي" (¬1) بدل "الذي" وفيه عنه أيضاً "ثم تحمل الذي نتجت". الثالث: هذا البيع كانت الجاهلية تبتاعه -كما ذكره في الحديث- فأبطله الشارع للمفسدة المتعلقة به لأنه بيع إلى أجل مجهول على التفسير الأول (¬2) ولانتفاء الملك وغيره من شروط البيع على التفسير الثاني (¬3)، وكذا على التفسير الذي ذكره المصنف، وكان السر فيه أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل، والتشاجر والتنازع المنافي للمصلحة الكلية. ¬

_ (¬1) وهي لفظ الموطأ (1319). (¬2) قال ابن الأثير -رحمنا الله وإياه- في النهاية (1/ 334): على قوله: "نهى عن حبل الحبلة" وإنما نهى عنه لمعنيين. وقيل: أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة، فهو أجل مجهول ولا يصح ومنه حديث عمر -رضي الله عنه-: لما فتحت مصر أرادوا قسمتها، فكتبوا إليه فقال: لا، حتى يغزو منها حبل الحبلة". حيث منع من القسمة لتعليقه على أمر مجهول. اهـ. بتصرف. (¬3) وقال ابن الأثير أيضاً: أحدهما أنه غرر وبيع شي. لم يخلق بعدُ، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج النتاج. اهـ. وانظر: لسان العرب (3/ 32).

الرابع: على التفسير الأول يصير هذا أصلاً في النهي عن البيع بثمن إلى أجل مجهول كالبيع إلى عطاء السلطان حقوق المرتزقة لأنه يتقدم أو يتأخر. نعم إن كان وقته معلوماً جاز. قال المازري (¬1): واختلف في المذهب عندنا في البيع إلى العطاء فمن أجازه رآه معلوماً في العادة، ومن أباه رآه يختلف في العادة. الخامس: الجزور: -بفتح الجيم- من الإِبل يقع على الذكر والأنثى، وهي مؤنثة، والجمع الجزر قاله الجوهري، وقد سلف الكلام عليها أيضاً في الحديث الأول من باب التمتع. والنتاج: الولادة، يقال: نُتِجَت الناقة على ما لم يسم فاعله تُنْتَجُ نَتَاجاً، وقد نَتَجها أهلها نتجاً، وأنتجت الفرس إذا حان نتاجها، وقال يعقوب: إذا استبان حملها وكذلك الناقة فهي نَتُوجٌ، ولا يقال مُنْتِجٌ، وأتت الناقة على منتجها أي الوقت الذي تنتج فيه، وهو مفعل -بكسر العين-، ويقال: للشاتين إذا كانتا بسناً واحدة نتيجة، وغنم فلان نتائج أي في سن واحدة، قاله الجوهري (¬2). ... ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 245، 246). (¬2) انظر مختار الصحاح (ن ت ج) لسان العرب مادة (ن ت ج).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 276/ 4/ 53 - وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، [نهي] (¬1) البائع والمشتري" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: معنى: "يبدو" يظهر، وهو بفتح الواو غير مهموز، ويقال: بدا إذا ظهر -من غير همز- وبدأ في الشيء إذا شرع فيه -بالهمزة-، قال النووي (¬3): ومما ينبغي أن تتنبه له أنه يقع في كثير من كتب المحدثين وغيرهم: "حتى يبدوا" -بالألف في الخط- وهو خطأ، والصواب: حذفها في مثل هذا للناصب. وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب، مثل: زيد يبدوا، والاختيار ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري (2194)، ومسلم (1534)، والنسائي (7/ 262) , وأبو داود في البيوع (3367) باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وابن ماجه (2214)، والدارمي (2/ 251، 252)، والبغوي (2077)، والموطأ (2/ 618)، والبيهقي (5/ 99، 299)، وأحمد (2/ 62)، وعبد الرزاق (14315). (¬3) شرح مسلم (10/ 178).

حذفها أيضاً , ويقع مثله: "حتى يزهو" وصوابه: حذف الألف كما ذكرنا. واعترض الفاكهي، فقال: تخصيصه "يبدوا" أو "تزهوا" [بمفردهما] (¬1) عجيب، فإن ذلك يقع كثيراً في غيرهما في كتب المحدثين وغيرهم نحو يغزو، ويلهو، وأشباههما. قلت: لا عجيب مما ذكره فتأمله، قَالَ: وقَولُه: "والصواب حذفها للنَّاصِب" أعْجب (¬2) من الذي قبله، إذ ليس في العربية ألف يحذفها الناصب، وإنما يحذف الناصب النون من الأمثلة الخمسة لا غير، قال: ثم إن قوله: "والصواب حذفها للناصب" ليشعر بأنها كانت موجودة قبل دخول الناصب، وليس الأمر كذلك قطعاً. وقوله: "إن إثباتها في ذلك خطأ" ليس متفقاً عليه، بل اختيار الكسائي لحاق هذه الألف في حال النصب فرقاً بين الاتصال والانفصال، قال ابن عصفور: فيكتب عنده أن يغزوا زيد عمر -بالألف بعد الواو- ولن يغزوك -بغير ألف- لانفصال الفعل من الظاهر في المسألة الأولى، واتصاله بالضمير في الثانية، كما كتبوا: ضربوا زيداً -بالألف بعد الواو- ولم يثبتوا الألف في ضربوك، فكان اللائق به أن يقول لا يجوز إثباتها عند الجمهور ونحو ذلك. وقوله: "وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب" ليس كذلك كما تقدم آنفاً من كلام الكسائي ومن قال بقوله، قال: "فكان عدم هذا التنبيه خيراً من وجوده هذا كلامه ولا يخلوا من تحامل". ¬

_ (¬1) في الأصل (لمفردها)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ زيادة (أغرب).

الثاني: قوله: "حتى يبدو صلاحها" فسيأتي تفسيره في الحديث الخامس (¬1): "حتى يحمر" وفي رواية، "قيل: وما تزهوا؟ قال: تحمار أو تصفار" وضبط بعض أصحابنا: بدو الصلاح: بظهور مبادىء النضج والحلاوة فيما لا يتلون، وفي غيره بأن يأخذ في الحمرة والسواد، وهو حد بدخوله كما بينته في كتب الفروع فإنه محله. الثالث: قوله: "نهى البائع والمشتري" هو تأكيد للمنع وإيذاناً بأن المنع وإن كان احتياطاً لحق الإِنسان فليس له تركه مع ارتكاب النهي فيقول: أسقطت حقي من الاحتياط ليس فإن الاحتياط هنا لمصلحة مشتري الثمار، وهي قبل بدو الصلاح معرضة للآفات والعاهات فإذا حصل عليها شيء منها أجحف به ولهذا ورد في الحديث الآتي: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ يستحل أحدكم [مال] (¬2) أخيه؟ "، فلذلك وقع المنع منه للبائع والمشتري لأجل منع الشرع وكأنه لقطع النزاع والتخاصم. وعبارة النووي في شرحه (¬3): "أما البائع فلأنه يريد أكل المال بالباطل، وأما المشتري فلأنه يوافقه على حرام، ولأنه يضيع ماله وقد نهينا عن إضاعة المال". الرابع: أكثر الأمة على أن النهي المذكور للتحريم وحمله أبو حنيفة على التنزيه، وبناه على أصله في رد أخبار الآحاد ¬

_ (¬1) ص 85، 86. (¬2) في ن هـ (ملك). (¬3) شرح مسلم (10/ 183).

بالقياس. وأخرج الفقهاء من عمومه بيعاً بشرط [القطع] (¬1) اعتباراً للمعنى الذي لأجله نهى عن بيعها قبل بدو الصلاح، فإنها قبله معرضة للآفات والعاهات، فإذا بدأ صلاحها أَمنت العاهة فيها غالباً وقل غررها وكثر الانتفاع بها لأكل الناس إياها رطباً فلا يقصدون بشرائها الغرر، فإذا اشتريت على القطع لم يكن بذلك بأس لزوال الغرر بالقطع، وهذا إجماع إلاَّ ما شذ مما روي عن ابن أبي ليلى والثوري على ما حكاه القرطبي (¬2) عنهما. قال أصحابنا: ولو شرط [القطع] (¬3) أو [ثم] (¬4) لم يقطع فالبيع صحيح ويلزمه البائع بالقطع فإن تراضيا على إبقائه جاز وإن باعها بشرط التبقية فالبيع باطل بالإِجماع، لأنه ربما تلفت قبل إدراكها كما أسلفناه فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل. واختلف العلماء في بيعها مطلقاً من غير شرط قطع ولا إبقاء. فذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء: إلى المنع منه استدلالاً بعموم هذا الحديث وإطلاقه [فإنه] (¬5) إذا خرج [من] (¬6) العموم بيعها بشرط القطع دخل باقي الصور التي من جملتها الإِطلاق. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) المفهم (2710). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في الأصل (فإذا)، وما أثبت من ن هـ. (¬6) في ن هـ (عن).

وقال ابن القاسم: إن جذها مكانه فالبيع جائز. وقال ابن القصار: البيع فاسد حتى يشترط الجذاذ، وبه قال القاضي عبد الوهاب والأبْهري، قال اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن عند عدم العادة لأن محل البياعات على التقابض في الثمن والمثمن. قال ابن الجلاب: فإن شرط قطعها فبقّاها مشتريها ضمن مكيلتا [] (¬1) إن كانت معلومة أو قيمتها إن كانت مجهولة. قال [الفاكهي] (¬2): وإنما قال ذلك لأنهما ينهيان أن يكونا دخل على التبقية، ومالك ينظر إلى فعلهما لا إلى قولهما، -وعندهم حكاية قولين: الجواز، وعدمه فيما إذا اشترطا وقف البيع حتى ينظر هل تسلم الثمرة فيمضي البيع أو لا؟ (¬3). [الرابع] (¬4): مفهوم الحديث أنه إذا بدأ صلاحها صح بيعها وهو كذلك فيجوز بيعها مطلقاً، وبشرط القطع وبشرط الإِبقاء ثم إذا بيعت بشرط الإِبقاء ومطلقاً لزم البائع تبقيتها إلى أوان الجذاذ لأن ذلك هو العادة فيها، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجب شرط القطع، وشذ ابن حبيب فقال: هي على الجد حتى يشترط البقاء. ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (واو). (¬2) في ن هـ (الرافعي). (¬3) في الأصل زيادة (فلا). (¬4) في ن هـ (الخامس).

فرع: ذهب مالك والكوفيون وأكثر العلماء إلى جواز بيع السنبل المشتد. وفصلت الشافعية فقالوا: إن كان السنبل شعيراً أو ذرة أو ما في معناهما مما يرى حباته [جاز بيعه. وإن كان حنطة ونحوها: مما يستتر] (¬1) حباته بالقشور التي تزال في الدارس فقولان: أصحهما، وهو الجديد: لا يصح. وأما قبل الاشتداد: فلا يصح بيع الزرع إلاَّ بشرط القطع، وإذا باعه قبل اشتداده مع الأرض بلا شرط جاز تبعاً للأرض وكذا التمر قبل الصلاح إذا بيع مع الشجر بلا شرط تبعاً. [وكذا] (¬2) حكم البقول في الأرض: لا يجوز بيعها في الأرض، إلاَّ بشرط القطع. وكذا لا يصح بيع البطيخ ونحوه: قبل بدو صلاحه. ... ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (هكذا).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 277/ 5/ 53 - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمار حتى تُزهى"، قيل: وما تُزهى؟ قال (¬1): "تحمر"، قال: "أرأيت إذا منع الله الثمرة، بِمَ يستحل أحدكم مال أخيه؟ " (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث رواه البخاري بهذا اللفظ إلاَّ أنه قال: "يأخذ" بدل "يستحل" وترجم عليه، "باب: إذا باع الثمار قبل بدو الصلاح ثم أصابته عاهة فهو من البائع" (¬3)، وفي رواية له: "نهى أن ¬

_ (¬1) في متن العمدة وإحكام الأحكام زيادة (حتى). (¬2) البخاري أطرافه (1488)، ومسلم (1555)، والموطأ (2/ 618) , والنسائي (7/ 264)، والبغوي (2080، 2081)، والبيهقي (5/ 300) , وابن الجارود (604)، وأحمد في المسند (3/ 115، 221، 250) , والبيهقي في معرفة السنن (8/ 73، 74)، والأم (3/ 47)، وأبو داود (3371) في البيوع، باب: ما جاء في كراهة بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، والترمذي (1228)، وابن ماجه (2217)، والحاكم (2/ 19) , والدارقطني (3/ 47)، وابن أبي شيبة (6/ 508). (¬3) البخاري مع الفتح (4/ 398) ح (2198).

تباع ثمرة النخل حتى تزهو" يعني حتى تحمر، وترجم عليها: "بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها" (¬1)، وفي رواية له: "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها"، وفي رواية له: "وعن النخل حتى يزهو قيل: وما تزهو؟ قال: يحمار أو يصفار"، وترجم عليها: "بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها" (¬2)، وفي رواية له: "نهى عن بيع ثمر التمر حتى يزهو". فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر. أرأيت إن منع [الله] (¬3) الثمرة بِم تستحل مال أخيك؟ " (¬4) ذكرها في "باب: بيع المخاطرة" (¬5). ورواه مسلم بألفاظ: أحدها: نهى عن بيع ثمر النخل حتى تزهو. فقلنا لأنس: وما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر. أرأيت إن منع الله الثمرة بِم تستحل مال أخيك؟ (¬6). ثانيها: نهى عن بيع الثمرة حتى تُزهى، قالوا: وما تُزهى؟ قال: تحمر. فقال: إذا منع الله الثمرة بِم تستحل مال [أخيك"؟ (¬7)] (¬8). ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح (4/ 393) ح (2195). (¬2) البخاري مع الفتح (4/ 397) ح (2197). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) ح (2208). (¬5) البخاري مع الفتح (4/ 404). (¬6) (1555) (15). (¬7) في ن هـ (أخيه). (¬8) مسلم (1555) (15).

ثالثها: "إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه" (¬1). الثاني: قوله: "أرأيت" إلى آخره قال عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين" ليس بموصول عنه في كل طريق. قلت: هذا أمر اختلف فيه قديماً، فالصواب: كما قاله الدارقطني وغيره أنه من قول أنس كما ذكره عبد الحق، قال أبو زرعة: الداروردي، ومالك بن أنس [يرويانه] (¬2) مرفوعاً والناس يروونه موقوفاً من كلام أنس. ووقع في كلام الشيخ تقي الدين الجزم برفعه وتبعه ابن العطار وليس بجيد (¬3). ¬

_ (¬1) (1555) (16). (¬2) في ن هـ (برواياته). (¬3) قال ابن عبد البر في التمهيد (2/ 190)، وأما قوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه" فيزعم قوم أنه من قول أنس بن مالك، وهذا باطل بما رواه مالك وغيره من الحفاظ في هذا الحديث إذ جعلوه مرفوعاً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى أبو الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. اهـ. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- تأييداً لهذا الكلام في الفتح (4/ 398): على قوله: "أرايت إن منع الله الثمرة" الحديث. هكذا صرح مالك برفع هذه الجملة، وتابعه محمد بن عباد عن الداروردي عن حميد مقتصراً على هذه الجملة الأخيرة، وجزم الدارقطني وغير واحد من الحفاظ بأنه أخطأ فيه، وبذلك جزم ابن أبي حاتم في العلل (1/ 379) عن أبيه وأبي زرعة، والخطأ في رواية عبد العزيز من محمد بن عباد، فقد رواه إبراهيم بن حمزة عن الداروردي كرواية إسماعيل بن جعفر الآتي ذكرها، ورواه معتمر بن سليمان وبشر بن المفضل عن حميد فقال فيه: =

الثالث: قوله: "حتى تُزهى"، قال ابن الأعرابي (¬1): يقال زها النخل يزهوا إذا ظهرت ثمرته، وأزها يزهى إذا احمر أو اصفر، وقال الأصمعي (¬2): لا يقال في النخل أزهى، إنما يقال يزهى. وحكاهما أبو زيد لغتين، وقال الخليل: أزهى النخل بدأ صلاحه. وقال الخطابي (¬3): يروى "حتى تزهو"، والصواب: في العربية حتى "تزهى" بضم التاء لا غير أي لأن الأصل حتى تزهو لأنه ¬

_ = "قال أفرأيت" إلخ، قال: فلا أدري أنس، قال: "بم يستحل" أو حدث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الخطيب في "المدرج" ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد فعطفه على كلام أنس في تفسير قوله "تزهى" وظاهره الوقف، وأخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون، والخطيب من طريق أبي خالد الأحمر كلاهما عن حميد بلفظ: "قال أنس أرأيت إن منع الله الثمرة" الحديث، ورواه ابن المبارك وهشيم كما تقدم آنفاً عن حميد فلم يذكر هذا القدر المختلف فيه، وتابعهما جماعة من أصحاب حميد عنه على ذلك. قلت: وليس في جميع ما تقدم أن يكون التفسير مرفوعاً، لأن مع الذي رفعه زيادة على ما عند الذي وقفه، وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قول من رفعه، وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ما يقوي رواية الرفع في حديث أنس، ولفظه "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو بعت من أخيك ثمراً فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق"؟. اهـ. (¬1) تهذيب اللغة (6/ 371). (¬2) تهذيب اللغة (6/ 371). (¬3) معالم السنن (5/ 41).

من الزهو فكان لقلب الواو ياء موجبان: وقوعها رابعة وكسر ما قبلها، فهو كبدعي ويعزى وأشباهها إذا عديت بهمزة النقل، فلما قلبت الواو ياء صار تزهى. قلت: وما صوَّبه الخطابي فهو مروي أيضاً في الحديث، وعليه اقتصر المصنف وعلى أن بعضهم أنكر ما صوبه. قال ابن الأثير: منهم من أنكر يزهى كما أن منهم من أنكر تزهو (¬1). والصواب: تخريج الروايتين على اللغتين، زهت تزهو، وأزهت تزهي، فمن نقل حجة على من لم ينقل إذا كان ثقة. قال الخطابي (¬2): والإِزهاء في [الثمر] (¬3) أن يحمر أو يصفر، وذلك علامة الصلاح فيها، ودليل خلاصها من الآفة. وقال الجوهري (¬4): "الزَّهْوُ" -بفتح الزاي وأهل الحجاز يقولون بضمها- وهو البسر الملون. يقال: إذا ظهرت الحمرة أو الصفرة في النخل فقد ظهر فيه "الزُّهْوُ"، وقد "زَهَا" النخل "زهواً"، وأزْهَى لغة. وقال الشيخ تقي الدين (¬5): "الإِزهاء" تغير لون الثمرة [إلى] (¬6) حالة الطيب، ولم يذكر في هذه اللفظة غير ذلك. ¬

_ (¬1) إلى هنا نهاية كلام ابن الأثير في النهاية (2/ 323). (¬2) معالم السنن للخطابي (5/ 41). (¬3) في ن هـ (الثمرات) , وما أثبت يوافق المعالم. (¬4) انظرة مختار الصحاح مادة (ز هـ ا). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 63). (¬6) في إحكام الأحكام (في).

الرابع: قوله "حتى تحمر" (¬1) كذا اقتصر [عليه] (¬2) المصنف وقد أسلفت لك في رواية أخرى "وتصفر"، وفي أخرى: "تحمار أو تصفار"، ونقل القاضي عن الخطابي (¬3): أنه لم يرد بقوله: "يحمار ويصفار" اللون الخالص [وإنما أراد لون خالص] (¬4) في كمودة، ولذلك قال: "تحمار وتصفار"، ولو أراد اللون الخالص لقال: "تحمر وتصفر". قلت: قد قاله في الرواية الأخرى. الخامس: قوله: "بم" تكتب هكذا بغير ألف فإن "ما" الاستفهامية إذا كانت مخصوصة بالإِضافة كقولهم: "تجيء وجيت" ومثل: "هأنت" أو بحرف الجر كقوله تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} (¬5)، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (¬6)، حذفت ألفها وهذا بخلاف "ما" الخبرية (¬7) كقولك: "رغبت فيما رغبت فيه"، و"جئت لما جئت إليه" [] (¬8). فإنها لا تحذف. والفرق: أن ما كثر استعماله التمس تخفيفه، و"ما" الاستفهامية أكثر من الخبرية. ¬

_ (¬1) كلمة (حتى) ساقطة من متن الحديث في سياقه. (¬2) في الأصل (على)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) معالم السنن للخطابي (5/ 42). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) سورة الحجر: آية 54. (¬6) سورة النبأ: آية 1. (¬7) انظر: أدب الكاتب لابن قتيبة (194)، ط. محي الدين عبد الحميد. (¬8) كتب علامة صح في الأصل.

وأيضاً: "فما" الاستفهامية اسم تام [غير] (¬1) مفتقر إلى صلة ولا صفة. و"ما" الخبرية موصولة، والموصول والصلة كالشيء الواحد، فلو حذفت ألف الخبرية لوقع الجر فيه حشو الكلمة، ومحل الحذف إنما هو الظرف وليس كذلك التامة إذ لا صلة لها فوقع الحذف فيها طرفاً لا حشواً. السادس: في هذه الرواية إشارة إلى ما تقدم من كون الثمار قبل بدو صلاحها عرضة للآفات والعاهات وهي قوله: " [أرأيت] (¬2) إن منع الله [الثمرة] (¬3) " إلى آخره. ووقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬4): عند ذكر حديث أنس هذا سبق قلم عن الكاتب فإن فيه: "مثل هذا في المعنى حديث أنس الذي بعده", وصوابه: "مثل هذا في المعنى حديث ابن عمر الذي قبله، فتنبه له". السابع: فيه أيضاً دلالة على منع بيع الثمرة قبل الإِزهاء وقد تقدم الكلام عليه واضحاً في الحديث قبله (¬5). الثامن: فيه أيضاً دلالة على أنه يكتفي بمسمى الإِزهاء ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) إحكام الأحكام (4/ 61) والسياق في النسخ التي بين يدي: ومثل هذا في المعنى حديث أنس الذي بعده. وليس فيه ملابسة ولكن لعله اطلع على نسخة أخرى غير الموجودة الآن، وتم تصحيحها من المحقق. (¬5) ص 81.

وابتدائه، من غير اشتراط [تكماله] (¬1)، لأنه جعل مسمى الإِزهاء غاية للنهي، وبأوله يحصل المسمى، ويحتمل أن يستدل به على العكس، لأن الثمرة المبيعة قبل الإِزهاء -أعني ما لم يُزْه من الحائط- إذا دخل تحت اسم الثمرة، فيمتنع بيعه قبل الإِزهاء. ذكره الشيخ تقي الدين (¬2) وقال: إن قال بهذا قائل فله أن يستدل بذلك. انتهى، وإنما يقول بذلك إن قاله ظاهري محض لا يُراعى المعنى الذي سنذكره على الأثر. التاسع: فيه أيضاً دلالة على أن زهو [بعض] (¬3) الثمرة كافٍ في جواز البيع من حيث ينطلق عليها أنها أزهت بإِزهاء بعضها مع حصول المعنى، من الأمن من العاهة غالباً، ولولا وجود المعنى كان تسميتها "مزهية" بإِزهاء بعضها قد لا يكتفي به لكونه مجازاً (¬4)، وأيضاً لو قيل بإِزهاء الجميع لأدى إلى فساد الحائط أو أكثره، والله تعالى أمتن علينا فجعل الثمار لا تطيب دفعة وإحدة إطالة لزمن التفكه. وعند المالكية (¬5) أنه لو كان الذي أزهى باكورة لم يجز بيع متأخره معه، بل تباع الباكورة وحدها، قالوا: وإنما منع أن تباع معه لاستقبال المتأخر بعدم الإِزهاء فهو داخل تحت النهي، قال: الأبهري منهم، ولأنه لا يؤمن فيه الجائحة إذا بيع في هذا الوقت، ¬

_ (¬1) في ن هـ بكامله. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 63). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: إحكام الأحكام (4/ 64). (¬5) انظر: المبحث كاملاً في الاستذكار (19/ 81، 109).

فيكون بيعه غرراً وقد تهى عنه، وكذا لو كان في الحائط نوعان من النخل صيفي وشتوي، لم يبع أحدها بطيب الآخر كما لا يجوز بيع ثمرة السنة الثانية مع الأولى. واختلفوا فيما إذا لم يزه الحائط ويزهى ما حوله من الحوائط، فقال مالك: يجوز بيعه. وقال ابن القاسم: أحب إليّ أن لا يبيعه حتى يزهى. قال ابن يونس: والأول أقيس لأنه لو ملك ما حوله من الحوائط جاز بيع بعضها بإزهاء بعض. قال القاضي عبد الوهاب: ولأن الزمان الذي تؤمن فيه العاهة غالباً قد حصل. والأصح عند الشافعية: أنه إذا اختلف الحائط لا يتبع أحدهما الآخر. العاشر: فيه دلالة أيضاً كما قال القاضي: على أن المعتبر بدو صلاحها سواء كان في الوقت الذي جرت العادة بطيبها فيه. أم لا وأنه لا يعتبر الوقت الذي جرت العادة بطيبها فيه، قال: وذهب بعض العلماء إلى اعتبار الوقت فلو بكرت لم تعتبر الباكورة، قال: وإنما يعتبر الوقت في غير الباكورة أما هي فيجوز بيعها وإن بكرت عن الوقت، وهذا قد قدمناه عن المالكية. الحادي عشر: يؤخذ من قوله: "أرأيت" إلى آخره أن مال الغير لا يحل ولا يستحل إلاَّ بالوجوه الشرعية لا بالحيل ولا ببعض شروط الحل دون بعض.

الثاني عشر: قد يؤخذ منه أيضاً وضع الجوائح، وفيه حديث في "صحيح مسلم" (¬1) من حديث جابر أنه -عليه الصلاة والسلام-: "أمر بوضع الجوائح" وهو مذهب الإِمام أحمد. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة والليث وآخرين المنع. وقال مالك (¬2): إن كانت دون الثلث، لم يجب وضعها وإن كانت الثلث، فأكثر وجب والمسألة مبسوطة في الفروع والخلافيات. الثالث عشر: فيه أيضاً السؤال عن معنى اللفظ الغريب والجواب عنه وبيان حكمته. ... ¬

_ (¬1) مسلم كتاب المساقاة (1554)، وأبو داود (3474)، والنسائي (7/ 265)، وأحمد (3/ 309)، والتمهيد (2/ 195). (¬2) انظر: الاستذكار (19/ 110، 115).

الحديث السادس

الحديث السادس 278/ 6/ 53 - عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ"، قال: فقلت لابن عباس: ما قوله "حاضر لباد؟، قال: لا يكون له سمساراً" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: "السمسار" الدلال وأصله القيم بالأمر الحافظ له ثم استعمل في متولى البيوع، والشراء لغيره وكأنها لفظة أعجمية (¬2)، ¬

_ (¬1) البخاري (2158)، ومسلم (1521)، وأبو داود في الإِجارة (3439) باب: في النهي أن يبيع حاضر لباد، وابن ماجه (2177)، والنسائي (7/ 257). (¬2) انظر: المعرب للجواليقي (201)، قال: عربت، قال أحمد شاكر في تعليقه عليه. قلد المؤلف في هذا الليث. ولا دليل على تعريبها. اهـ. انظر قصد السبيل (2/ 152) قال في اللسان: السمسار الذي يبيع البر للناس، السمسار: القيم بالأمر الحافظ له (واستشهد بقول الأعشي: فأصبحت ...) وهو في البيع اسم الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطاً لإِمضاء البيع ... السمسرة البيع والشراء. اهـ.

ويقال لجماعة السمسار: السماسرة وسماهم -عليه الصلاة والسلام- تجاراً (¬1). [و] (¬2) السمسرة: [البيع] (¬3) والشراء. الثاني: تقدم الكلام على فقه الحديث في الحديث الثاني من الباب واضحاً فليراجع منه. الثالث: فيه أيضاً دلالة على تحريم تعاطي أسباب الشيء المنهى عنه لأن الدلال لما كان سبباً لتعاطي هذا البيع المحرم حرم عليه الكلام والدخول فيه وكما حرم عليه السمسرة فيه كذلك يحرم عليه أن يكون وكيلاً في بيعه تبعاً. الرابع: فيه السؤال عما يجهله الإِنسان والجواب عنه بمقتضى ما يعلمه المجيب. ... ¬

_ (¬1) وقد ورد بذلك حديث عن قيس بن أبي غرزة: "كنا نسمى السماسرة فسمانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحسن منه، فقال: يا معشر التجار". رواه أحمد (4/ 6، 280)، وصححه الحاكم في المستدرك (2/ 5، 6)، والترمذي (1208)، وأبو داود (3326)، والنسائي (3797، 3798)، وابن ماجه (/)، والإِصابة (5/ 262). (¬2) في هـ (أو) (¬3) زيادة من ن هـ.

الحديث السابع

الحديث السابع 279/ 7/ 53 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: [(¬1)] أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كرماً: أن يبيعه بزبيب كيلاً، أو كان زرعاً: أن يبيعه بكيل طعام. نهى عن ذلك كله" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "المزابنة" مأخوذة من الزبن وهو الدفع، ومنه الزبانية، لأن الغبن فيها يكثر غالباً لبنائها على التخمين فيزيد المغبون رفعه والغابن إمضائه فيتدافعان. الثاني: ذكر في الحديث أمثلة لها وحاصلها يرجع إلى بيع معلوم بمجهول من جنسه، ووجه النهي فيها أنه بيع مال الربا بجنسه ¬

_ (¬1) في ن هـ (والمزابنة). (¬2) البخاري أطرافه (2171)، ومسلم (1542)، والنسائي (7/ 266)، والموطأ (2/ 624)، والمسند للشافعي (2/ 153)، والبيهقي في السنن (5/ 307)، والأم (3/ 62)، والرسالة (906)، وعبد الرزاق (14489)، والبيهقي في معرفة السنن (8/ 93).

من غير تحقق المساواة في المعيار الشرعي -وهو الكيل- فنهى عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة. الثالث: قوله "ثمر حائطه" هو بالثاء المثلثة. وقوله: "بتمر كيلاً" هو بالمثناة فوق لأنه اليابس، والأول الرطب، وإن كان حكم الرطب في الأرض والتمر على رؤوس النخل بعكسه، ولو باع الرطب على رؤوس النخل والبسر على الأرض فهو كبيعه بالرطب، ولو باعه بالطلع ففيه ثلاثة أوجه في الماوردي. ثالثها: يجوز بطلع الذكر دون طلع الإِناث. والحائط: البستان. [الرابع] (¬1): في الحديث دلالة على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا على ما سيأتي في الباب (¬2) بعده. واتفقوا: على أنه ربا. وأجمعوا: على تحريم بيع العنب بزبيب إلاَّ في العرايا. وأجمعوا أيضاً: على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية وهي المحاقلة مأخوذة من الحقل وهو الحرث ومواضع الزرع وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعاً. وقال أبو حنيفة: إن كان مقطوعاً جاز بيعه بمثله من اليابس لكنه داخل تحت نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن بيع الرطب بالتمر. ¬

_ (¬1) في ن هـ (رابعها). (¬2) ص 140.

الخامس: صح النهي (¬1) عن تسمية العنب كرماً فإن الكرم الرجل المسلم، قيل: سمى كرماً من الكرم -بفتح الراء- لأن الخمرة المتخذة منه تحمل عليه (¬2)، فكره أن يسمى به وجعل المؤمن أحق ما يستحق من الكرم، ويقال: لرجل كرْم -بإسكان الراء وفتحها- أي كريم، وقال الزمخشري: أراد أن يقرر ما في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬3) بطريقة أنيقة ومسلك لطيف (¬4)، وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية العنب كرماً، ولكن الإِشارة إلى أن المسلم التقي جدير بأن لا يشارك فيما [سماه] (¬5) الله [(¬6)] به. وقوله: "إنما الكرم الرجل المسلم" أي المستحق للاسم المشتق من الكرم: الرجل المسلم، وهذا [الذي] (¬7) قاله حسن ¬

_ (¬1) لحديث علقمة بن وائل عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تقولوا: الكَرْمُ، ولكن قولوا: الحيلة أو العنب". البخاري في الأدب المفرد (795)، ومسلم (2248)، والدارمي (2/ 118). حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا: العنب الكرم، إنما: الكرم الرجل المسلم". البخاري (6182، 6183)، ومسلم (2247)، والبغوي (3385)، وأبو داود (4974) في الأدب، باب: في الكرم وحفظ المنطق، وأحمد (2/ 316، 272). (¬2) أي تحث على الكرم ومكارم الأخلاق. انظر: فتح الباري (10/ 567). (¬3) سورة الحجرات: آية 13. (¬4) الفائق للزمخشري (3/ 257)، وفيه بقية كلام بعده لم يذكره المؤلف. (¬5) في الأصل (سواه)، وما أثبت من ن هـ والفائق. (¬6) في ن هـ زيادة (تعالى)، وهي غير موجودة في الفائق. (¬7) زيادة من ن هـ.

[لكنه] (¬1) يمتنع أن يراد المعنيان؛ النهي بدلالة النص والمعنى الآخر بإشارته، إذا تقرر ذلك. فقوله هنا "وإن كان كرماً" إن كان من كلامه - صلى الله عليه وسلم - فتحتاج إلى الجمع بين قوله ونهيه، فتأمله ولا تخفى على الفطن (¬2). ... ¬

_ (¬1) في الأصل (لكيلا)، وما أثبت من هـ. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (4/ 386) بعد كلام سبق: وقد ورد النهي عنه كما سيأتي الكلام عليه في الأدب (10/ 564, 566)، ويجمع بينهما بحمل النهي على التنزيه ويكون ذكره هنا لبيان الجواز، وهذا كله بناء على أن تفسير المزابنة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى تقدير كونه موقوفاً. فلا حجة على الجواز فيحمل النهي على حقيقته. اهـ، محل المقصود منه.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 280/ 8/ 53 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة، وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وأن لا تباع إلاَّ بالدينار والدرهم إلاَّ العرايا" (¬1). المحاقلة: بيع الحنطة في سنبلها بصافية. الكلام عليه من وجوه: وينبغي أن نعلم قبل الخوض فيها أن هذا الحديث ليس في نسخ شرح الشيخ تقي الدين رأساً (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1487)، ومسلم (1536) (84)، والنسائي (7/ 263، 264، 270)، والترمذي (1290)، وأبو داود (3370، 3373)، والبغوي (2071)، والبيهقي (5/ 301، 307، 309)، وأحمد (3/ 320، 361)، وابن أبي شيبة (7/ 129)، وابن ماجه (2216)، والحميدي (1292). (¬2) قال الصنعاني في حاشيته على إحكام الأحكام (4/ 66): إعلم أن الشارح لم يتكلم على هذا الحديث، ولم يثبت في بعض نسخ العمدة. اهـ.

الأول: "المحاقلة" قد فسرها المصنف، وهي مأخوذة من الحقل وهي المساحات التي تزرع كما أسلفته في الحديث قبله فسميت محاقلة لتعلقها بزرع في حقل. وقال الماوردي (¬1): الحقل هو السنبل وهو في لسان العرب الموضع الذي يكون فيه الشيء كالمعدن. وذكر النسائي في "سننه" أن المحاقلة والمخابرة: بيع الكرم بكذا كذا صاعاً. قال المحب في "أحكامه": وهو تفسير غريب غير مشهور. ووجه النهي عن هذا العقد أنه بيع [مقصود] (¬2) مستتر بما ليس من صلاحه، وبيع حنطة وتبن بحنطة، فإن الصافية الخالصة من التبن] (¬3) وحينئذ فهو من باب قاعدة: مد عجوة. لعدم العلم بالمماثلة أيضاً، ولو باع شعيراً في سنبله بحنطة صافية وتقابضا في المجلس، أو باع زرعاً قبل ظهور الحب بحب من جنسه جاز لأن الحشيش غير ربوي. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (6/ 253) مع تغيير في الألفاظ. المحقل: هو المسنبل، وهو في لسان العرب الموضع الذي يكون الشيء فيه ... إلخ. (¬2) في هـ (معصوب). (¬3) هكذا في المخطوط وقد تتبعت المراجع ولم أعثر على شيء في هذه العبارة والموجود من ذلك في المجموع (9/ 309) العبارة الآتية (أحدهما: أنه بيع حنطة وتبن بحنطة وذلك ربا، والثانية: أنه بيع حنطة في سنبلها).

الثاني: "المزابنة" تقدم الكلام عليها في الحديث قبله، الثمرة حتى يبدو صلاحها تقدم أيضاً في الحديث الرابع. الثالث: "المخابرة" من الخَبِيرُ وهو الأكَّار -أي الفلاح- أو من الخَبارِ، وهي الأرض الرخوة، أو من الخُبْر وهو شرب [الماء] (¬1) أو الزرع أو من الخُبْرَةُ، -بضم الخاء- وهي النصيب، أو من خَيْبر لأنه -عليه الصلاة والسلام- عامل أهل خيبر عليها. أقوال (¬2) الجمهور على الأول. وحقيقتها: عمل الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل وهي قريبة في المعنى من المزارعة إلاَّ أن البذر فيها من المالك كذا فرق بينهما جمهور الشافعية وهي ظاهر نص الشافعي. وقيل: هما بمعنى ونقله صاحب "البيان" عن أكثر الأصحاب ولا يوافق عليه. نعم جزم به الجوهري في"صحاحه" (¬3). وكذا ابن الأثير في "جامعه" (¬4). وقال البندنيجي: إنه لا يعرف في اللغة فرق بينهما، وأشار الشافعي إلى أن القياس التسوية بينهما وبين المساقاة، لكن السنة فرقت [بينهما] (¬5)، والمعنى أن تحصيل منفعة الأرض ممكنة ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: لسان العرب (4/ 13). (¬3) الصحاح (خ ب ر). (¬4) جامع الأصول (1/ 480). (¬5) زيادة من ن هـ.

بالإِجارة, فلم يجز الحمل عليها ببعض ما يخرج منها كالمواشي بخلاف الشجر. وقال ابن سريج: بجواز المزارعة، وهو مذهب أحمد ووافق الشافعي أبو حنيفة. [وقال مالك: لا تجوز؛ لا منفرداً ولا تبعاً إلاَّ ما كان من الأرض بين الشجر.] (¬1). وقال: بجواز المزارعة والمخابرة ثلاثة من كبار [] (¬2) الشافعية ابن خزيمة وصنف فيه، وابن المنذر، والخطابي. وقال (¬3): ضعف الإِمام أحمد حديث النهي. وقال: إنه مضطرب، كثير الألوان. قال: ومن أبطلها لم يقف على علته. وقال النووي في "الروضة" (¬4): المختار جوازهما وتأويل الأحاديث على ما إذا شرط الواحد زرع قطعة ولآخر أخرى. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ زيادة (أصحاب). (¬3) أي الخطابي في معالم السنن (5/ 54) مع وجود زيادة في المعالم لم يذكرها المؤلف، وما ساقه المؤلف ذكره النووي نقلاً عن الخطابي. انظر: الروضة (5/ 168). (¬4) الروضة للنووي (5/ 168)، قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في المسائل الماردينية (103): إذ قد يحصل لأحدهما شيء، والآخر لا يحصل له شيء، وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المخابرة والمزارعة، فإنهم كانوا يعاملون على الأرض بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك، فأما المزارعة فجائزة بلا ريب. اهـ.

قلت: أو تحمل أحاديث النهي عن المزارعة على شيء مجهول يدل عليه حديث رافع بن خديج الآتي في باب الرهن (¬1) وغيره إن شاء الله [أو على أن النهي على التنزيه والإِرشاد إلى عمارتها كالنهي عن بيع (¬2) الهر فإنه محمول على التنزيه من [حيث] (¬3) أن الناس يتواهبون وهذا التأويل نقل معناه عن ابن عباس وأشار إليه البخاري (¬4) وغيره] (¬5). فرع: من أجاز المزارعة والمخابرة هل يشترط فيها ما يشترط في المساقاة من اللزوم والتأقيت مقتضى مذهبنا الاشتراط وبه صرح الحنفية، وعمل الناس على خلافه. فرع: جوز الشافعي وأبو حنيفة وكثيرون إجارة الأرض بالذهب والفضة والطعام والنبات وسائر الأشياء سواء كان بجنس ما يزرع فيها أم غيره، ويستثنى إجارتها بجزء ما يخرج منها كالثلث والربع كما سلف. وقال ربيعة: يجوز بالنقدين فقط. وقال مالك: يجوز بهما وبغيرهما إلاَّ الطعام. وقال المازري (¬6): مشهور مذهب مالك النهي عن كرائها بما تنبته وإن لم يكن طعاماً. ¬

_ (¬1) ص 485 من هذا الجزء المبارك إن شاء الله. (¬2) حديث النهي عن بيع الهر. أخرجه مسلم (1569)، وانظر: تمام تخريجه ص 131. (¬3) في هـ (حديث) , وما أثبت اجتهاد. (¬4) البخاري أطرافه (2330). (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) المعلم بفوائد مسلم (2/ 273).

وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وجماعة من المالكية وآخرون: تجوز إجارتها بالنقدين وتجوز المزارعة بالثلث والربع وغيرها. وقال طاووس والحسن: لا يجوز مطلقاً سواء أَكْراهَا بطعام أو نقداً وبجزء من زرعها لإِطلاق النهي عن كراء الأرض إلاَّ أن يمنحها أخاه وجوابه ما سلف. الرابع: في الحديث دلالة أيضاً على منع بيع الثمرة بجنسها يابساً إلاَّ في العرايا وسيأتي في الباب بعده وعلى جواز بيعها بعد بدو صلاحها بالذهب والفضة مطلقاً. وقوله: "إلاَّ العرايا" استثناء من المزابنة للرخصة في ذلك على ما سيأتي في (¬1) بابها وهي مستثناة أيضاً من الغرر ومن ربا التفاضل والنسآ والذي سوغها ما فيها من المعروف والرفق وإزالة الضرر. وهي جمع عرية وسيأتي في بابها سبب تسميتها (¬2) بذلك وقد سمت العرب عطايا خاصة بأسماء خاصة كالمنيحة: لشاة اللبن، والإِفقار: لما [يركب] (¬3) فقارة وغيرهما. ... ¬

_ (¬1) ص 140. (¬2) ص 134. (¬3) في هـ (نزلت)

الحديث التاسع

الحديث التاسع 281/ 9/ 53 - عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن" (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سبق في الحديث السابع من باب الإِمامة. الأول: مقتضى النهي عن ثمن الكلب تحريم بيعه والعموم في كل كلب سواء المعلم وغيره وسواء ما يجوز اقتناؤه وغيره. وهو صريح في أنه لا يحل ثمنه ويلزم من ذلك أنه لا قيمة على متلفه وبهذا، قال جمهور العلماء: منهم أبو هريرة والحسن البصري وربيعة والأوزاعي والحكم وحماد والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2237)، ومسلم (1567)، وأبو داود في البيوع (3428) باب: في حلوان الكاهن، والترمذي (2276)، والنسائي (7/ 309)، ومالك في الموطأ (2/ 656)، والشافعي في الأم (7/ 221)، وابن ماجه (2159)، والبيهقي (6/ 126)، والسنن الصغرى له (2/ 276)، ومعرفة السنن والآثار له (8/ 172).

وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة وتجب القيمة على متلفيها. وحكى ابن المنذر عن عطاء وجابر والنخعي جواز بيع كلب الصيد دون غيره. وعن مالك روايات (¬1): أحدها: لا يجوز بيعه لكن تجب القيمة على متلفه. ثانيها: يصح بيعه وتجب القيمة. وثالثها: لا. فيهما، ونقل الفاكهي عن بعضهم: أنه حكى عن مالك جواز بيع الكلب في ثلاثة مواضع في الشركة، وفي التفليس، وفي المغنم. وقال ابن القاسم: يكره للبائع، ويجوز للمشتري للضرورة. حكاه القرطبي في "مفهمه" (¬2). وقال المازري (¬3) منهم: سبب اختلاف أصحابنا في بيع كلب الصيد أن من لم يبلغه النهي فيه عدد منافع الكلب ونظر هل جميعها يحرم فيمنع البيع أو محلل فيجيزه أو مختلفة فينظر هل المقصود المحرم أو المحلل ويجعل الحكم للغالب أو يكون فيه منفعة واحدة محرمة خاصة وهي مقصودة فيمتنع أو يلتبس كونها مقصودة فيقف أو يقول بالكراهة؟ ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 249). (¬2) المفهم (5/ 2797). (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 241).

قال: ومن كره البيع، قال: ليس إباحة المنفعة تجيز البيع كأم الولد ينتفع بها ولا تباع، قال: ومن أجازه حمل الحديث على ما لا يحل اقتناؤه واتخاذه أو على أنه كان حين أمر بقتل الكلاب (¬1) فلما وقعت الرخصة في كلب [الزرع] (¬2) وما ذكر معه وأجيز اقتناؤه وقعت الرخصة. واختلف أيضاً قول مالك في ما أبيح منها: [فقيل] (¬3) بالإِجازة وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقيل: بالمنع. قلت: وحجة الجمهور هذا الحديث والذي بعده وغيرها من الأحاديث الصحيحة كحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال [نهى] (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وقال: "إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً"، رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬5). وكحديث ¬

_ (¬1) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بقتل الكلاب، فننبعث في المدينة وأطرافها فلا ندع كلباً إلاَّ قتلناه حتى إنا لنقتل كلب المرية من أهل البادية يتبعها". البخاري (3223)، ومسلم (1570)، وأحمد (3/ 113)، والنسائي (7/ 184، 185)، وابن ماجه (3202) وجاء النسخ في حديث أبي هريرة ولفظه: "أمر بقتل الكلاب إلاَّ كلب صيد أو غنم أو ماشية". مسلم (1571). (¬2) في ن هـ (الضرع). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) أخرجه أبو داود في البيوع (3482) باب: في أثمان الكلاب، والنسائي (7/ 309)، وأحمد (1/ 278، 289، 350، 235)، وابن حزم في المحلى (9/ 10)، والبيهقي في البيوع (6/ 6)، والطيالسي (1317). =

أبي هريرة رفعه: "لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي". رواه أبو داود بإسناد حسن (¬1) وصح من حديث ابن عباس أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" رواه أبو داود بإسناد صحيح (¬2). قال ابن المنذر: لا معنى لقول من جوز بيع الكلب لأنه مخالف للثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, قال: ونهيه -عليه الصلاة والسلام- ¬

_ = وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (5/ 126). وقال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (3/ 3): وأخرج أبو داود حديث ابن عباس وأبي هريرة ورجالهما ثقات. اهـ. وقال في الفتح (4/ 426): إسناده صحيح. (¬1) أبو داود في البيوع (3484) باب: في أثمان الكلاب، والنسائي (7/ 190)، والبيهقي (6/ 6)، والطحاوي (4/ 52). وقال الحافظ في التلخيص (3/ 3): رجاله ثقات. وسكت عنه المنذري في مختصر السنن (5/ 127). وقال في الفتح (4/ 426): إسناده حسن. وصححه ابن القيم في زاد المعاد (5/ 746). (¬2) أبو داود في البيوع (3341) باب: في ثمن الخمر والميتة، وأحمد (1/ 247، 293، 322)، والبيهقي (6/ 13، 14)، وإسناده صحيح. وقد ورد عن عمر من رواية ابن عباس، عند البخاري (2223) (3460)، ومسلم (1582)، وابن الجارود (577)، والبيهقي (8/ 286)، والبغوي (2041)، وأبو يعلى (1/ 178)، والنسائي (7/ 177)، وابن ماجه (3383)، وعبد الرزاق (8/ 195، 196)، والحميدي (13): ومن رواية أبي هريرة أيصاً، وجابر بن عبد الله.

عام يدخل فيه جميع الكلاب، قال: ولا يعلم خبراً عارض الأخبار الثابتة، يعني: صحيحاً. وقال البيهقي (¬1): الاستثناء المذكور في كلب الصيد [ليس] (¬2) ثابتاً في الأحاديث الصحيحة. قلت: وأما الأحاديث الواردة في النهي عن ثمن الكلب إلاَّ [كلب] (¬3) صيد فرواية: "ثلاث كلهن سحت فذكر كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب إلاَّ كلباً ضارياً" (¬4)، وعن عثمان -رضي الله عنه- أغرم إنساناً ثمن كلب قتله عشرين بعيراً" (¬5). وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه فقضي في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهماً، وفي كلب ماشية بكبش (¬6)، وكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث كما نقله عنهم النووي في شرح مسلم (¬7). ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (6/ 6، 7)، والسنن والمعرفة (8/ 177) انظر ت (2) ص 126. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) السنن الكبرى (6/ 6). (¬5) السنن الكبرى (6/ 7)، والأم (3/ 12)، والسنن والمعرفة (8/ 175). قال البيهقي: قال الشافعي: فكيف يأمر بقتل ما يغرم من قتله قيمته. وقال أيضاً: إنها رواية منقطعة. انظر: السنن والمعرفة (8/ 175)، والسنن (6/ 7). (¬6) السنن والمعرفة (8/ 176)، وقد ضعفها بالانقطاع بين ابن جريج وعمرو بن شعيب والطريق الثانية بجهالة أحد رواته. السنن الكبرى (6/ 7، 8). ونقل عن البخاري فيه: بأن هذا حديث لم يتابع عليه. قال الشيخ: والصحيح عن عبد الله بن عمرو خلاف هذا. اهـ. (¬7) شرح مسلم (10/ 233).

وقال الشيخ تقي الدين (¬1): ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث. واحتج من جوز البيع من القياس بأنه حيوان يجوز الانتفاع به فأشبه الفهد ولأنه يجوز الانتفاع به والوصية به فأشبه الحمار. والجواب: عن الأول [أنه] (¬2) لا يسلم القياس المذكور، فإنه ظاهر بخلاف الكلب. وعن الثاني: بأن الوصية تحتمل ما لا يحتمل غيرها بدليل جوازها بالمجهول والمعدوم والآبق والعلة في منع ثمنه عند الشافعي نجاسته مطلقاً وهي قائمة في المعلم وغيره. ومن يرى طهارته اختلف قوله في المعلم منه وعلة المنع غير عامة عنده. وقال القرطبي (¬3): جل مذهب مالك ومشهوره على جواز الاتخاذ، وكراهة البيع, ولا يفسخ إن وقع، قال: وكأنه لما لم يكن الكلب عنده نجساً، وكاد مأذوناً في اتخاذه لمنافعه الجائزة، كان حكمه حكم جميع المبيعات، لكن الشرع نهى عن بيعه تنزيهاً، لأنه ليس من مكارم الأخلاق، وهذا انتصاراً منه لمذهبه. ثم قال: فإن قيل: فقد سوى -عليه الصلاة والسلام- بين ثمنه، وبين مهر البغي، ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 67)، وانظر: كلام الصنعاني في حاشيته، أي حديث استثناء كلب الصيد. وانظر: مبحث لابن القيم -رحمنا الله وإياه- في "زاد المعاد" على هذا الحديث وعلى المنع من بيعه (5/ 766، 772). (¬2) في ن هـ (أنا). (¬3) المفهم (4/ 444)، ذكره في فتح الباري (4/ 427).

وحلوان الكاهن، والمهر، والحلوان، محرمان بالإِجماع، فليكن ثمن الكلب كذلك. الجواب: أنا كذلك نقول لكنه محمول على الكلب الغير مأذون فيه [قال] (¬1) [لئن] (¬2) سلمنا: أنه [مساوٍ] (¬3) للكل، [لكان] (¬4) هذا النهي هنا قُصد به القدر المشترك الذي بين التحريم والكراهة إذ كل واحد منهما منهي عنه. ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منهما من دليل آخر، كما اتفق ها هنا فإنا إنما علمنا تحريم مهر البغي، وحُلوان الكاهن بالإِجماع، لا بمجرد النهي سلمنا ذلك، لكنا لا نسلم: أنه يلزم من الاشتراك في مجرد العطف الاشتراك في جميع الوجوه، إذ قد يعطف الأمر على النهي، والإِيجاب و [القبول] (¬5) على النفي. وإنما ذلك في محل مخصوص كما هو مبين في الأصول. تنبيه: وقع في "جواهر" القاضي نجم الدين القمولي -رحمه الله- حكاية وجه في مذهب الشافعي في بيع الكلب الذي يجوز اقتناؤه وهو وهم منه [وقد] (¬6) حكاه هو في "البحر" أصل "الجواهر" (¬7) عن بعض أصحاب مالك فاجتنب ذلك. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) زيادة من هـ، والمرجع السابق. (¬3) في المفهم (متناول). (¬4) في المرجع السابق (لكن). (¬5) في ن هـ ساقطة والمرجع السابق. (¬6) في ن هـ (وهو). (¬7) سبق التعريف بمؤلفه.

فرع: اختلف أصحابنا في صحة إجارة الكلب للصيد والحراسة على وجهين: أحدهما: يصح لأنها منافع تستحق بالإِعارة، فاستحقت بالإِجارة كسائر المنافع. وأصحها: لا. لأنه لا قيمة لعينه فكذا منفعته. فرع: تصح الوصية بالكلب المعلم كما سبق لثبوت الاختصاص فيه وانتقاله من يد إلى يد بالإِرث. قاعدة: منافع الأعيان المقصودة للمكلفين إما أن تكون كلها مباحة، أو محرمة، أو بعضها حراماً، وبعضها مباحاً. فالأول: كالعروض. والثاني: كالخمر والخنزير فيجوز بيع الأول إجماعاً دون الثاني. أما الثالث: فإن كان الأغلب هو المقصود فالحكم له كالدابة تركب ولا تؤكل ولا يشرب لبنها وإن كان كلاهما مقصود غلب التحريم. الوجه الثاني: "مهر البغي" هو ما تأخده الزانية على الزنا وسماه مهراً مجازاً أما مجاز التشبيه به صورة، إن لم يكن "المهر" في الوضع ما يقابل به النكاح. وإما المجاز اللغوي: إن كان وضعه فيها ذلك والإِجماع قائم على تحريم ذلك لما فيه من مقابلة الزنا بعوض. الثالث: "البغي" -بفتح الباء وكسر الغين- الزانية، ووزن بغي فعول بمعنى فاعله.

وقيل: فعيل بمعنى فاعل ورد بأنه لو كان فعيلاً لزمه التاء كرجيمه بمعنى راجمة وأجيب، عن عدم لحاقه التاء بوجهين: أحدهما: أنه للمبالغة. ثانيهما: أنه على النسب كطالق وطامث. وجمع البغي: بغايا، والبِغا في قوله تعالى: {عَلَى الْبِغَاءِ} (¬1) ممدود وهو الزنى والفجور، يقال: بغت المرأة تبغي بغا -بكسر الياء والمد- وامرأة بغي، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (¬2). وأصل البغي: الطلب غير أنه أكثر ما يستعمل في طلب الفساد وفي الزنا كما قاله القرطبي (¬3). وحديث أبي هريرة أنه -عليه الصلاة والسلام-: "نهى عن كسب الإِماء" رواه البخاري (¬4) والمراد به كسبهن بالزنا أيضاً وشبهه لا بالغزل والخياطة ونحوها بدليل رواية أبي داود (¬5) من حديث ¬

_ (¬1) سورة النور: آية 33. (¬2) سورة مريم: آية 20. (¬3) المفهم (5/ 2802). (¬4) البخاري (2283، 5348)، وأبو داود في البيوع (3383) باب: في كسب الإِماء. (¬5) أبو داود في البيوع (3284) باب: في كسب الإِماء. قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الإِشراف -عقيب هذا الحديث-: رافع هذا غير معروف. وقال غيره: مجهول. اهـ. وذكره ابن حجر في الفتح (4/ 427) وسكت عنه، وقال أيضاً في الإِصابة (2/ 187) بعد ذكره للحديث وترجمة راويه: وقال أبو عمر رافع بن =

رفاعة بن رافع: "إلاَّ ما عملت يدها" هكذا بإصبعه نحو الخبز والغزل والنفش، قال الخطابي (¬1): والنفش: نتف الصوف أو ندفه. وفي حديث آخر (¬2): "نهى عن كسب الأمة، حتى يعلم من أين هو". فرع: لو أكرهت على الزنا فليست ببغي ولها المهر إن كانت حرة ولا حد عليها. ولو طاوعت. وهي أمة فقيل: يجب المهر للسيد إذ لا يملك إسقاطه وإلاَّ صح المنع لهذا الحديث. الرابع: "حلوان الكاهن" ما يعطى على كهانته وهو حرام بالإِجماع لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل وفي معنى ذلك: حل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب كالتنجيم. والحلوان: مصدر حلوته حلواناً إذا أعطيته. قال الهروي وغيره: أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو من حيث أن مأخذه سهلاً بلا كلفة ولا في مقابلة مشقة، يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو كأعسلته إذا أطعمته العسل. ¬

_ = رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان: لا تصح له صحبة والحديث غلط. قال: لم أره في الحديث منسوباً فلم يتعين كونه رافع بن رفاعة بن مالك فإنه تابعي لا صحبة له بل يحتمل أن يكون غيره، وأما كون الإِسناد غلطاً فلم يوضحه وقد أخرجه ابن منده من وجه آخر عن عكرمة فقال عن رفاعة بن رافع، والله أعلم. اهـ. انظر: أسد الغابة (2/ 152). (¬1) معالم السنن (5/ 76). (¬2) أبو داود في البيوع (3285) باب: في كسب الإِماء، وذكره ابن حجر في الفتح (4/ 427).

قال أبو عبيد (¬1): ويطلق الحلوان أيضاً على غير هذا وهو أن يأخذ الرجل مهر ابنته لنفسه وذلك عيب عند النساء قالت امرأة: تمدح زوجها. لا يأخذ الحلوان عن بناتنا (¬2). والحلوان: أيضاً الرشوة. ونَقل الخطابي (¬3) عن ابن الأعرابي: أنه يقال: لحلوان الكاهن النَّشْغُ، والصِّهْميم، ونقل البغوي (¬4) والقاضي عياض: إجماع المسلمين علي تحريم حلوان الكاهن لأنه عوض عن محرم ولأنه أكل المال بالباطل وكذلك أجمعوا على تحريم أُجرة المغنية بالغناء والنائحة بالنوح، قال الخطابي (¬5): وحلوان العراف أيضاً حرام. ¬

_ (¬1) غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 52)، وانظر أيضاً: المنتخب لكراع (772). (¬2) ذكره في غريب الحديث (1/ 52) ولم يعزه. (¬3) غريب الحديث (1/ 243). (¬4) شرح السنة (8/ 23). (¬5) معالم السنن (5/ 370). قال الشيخ سليمان -رحمنا الله وإياه- في تيسير العزيز الحميد (360، 363): قوله: قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحرهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. ش: البغوي -بفتحتين- اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف، وعام أهل خراسان وكان ثقة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقهاً زاهداً، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة. قوله: العراف الذي يدعي معرفة الأمور إلى آخره. هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة , وأحسن منه كلام شيخ الإِسلام: أَن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم. كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى، وقال الإِمام أحمد: العراف طرف من السحر والساحر أخبث. وقال أبو السعادات: العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به، وقال ابن القيم: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفاً وعرافاً. والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة السحر ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من اتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهناً وعرافاً أو في معناهما فمن أَتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد. وقد ورث هذه العلوم عنهم أَقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أَولياء وأن ذلك كرامة، ولا ريب أَن من ادعى الولاية واستدل عليها بأخباره ببعض المغيبات، فهو من أَولياء الشيطان لا من أولياء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الرحمن، إذ الكرامة أَمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها. ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي الله ويقول للناس إعلموا إني أعلم المغيبات فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسباباً محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في وصف الكهان: "فيكذبون معها مائة كذبة". فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة النجم: آية 32]. وليس هذا من شأن الأولياء بل شأنهم الإِزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم فكيف يأتون الناس يقولون: اعرفوا أنّا أولياء وأنّا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق. وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوت يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعودونه الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلاَّ قليلاً خوفاً من النار، ثم يقوم إلى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد، والمؤمنين، والفرقان، والذاريات، والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء لا أهل الدعوى والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة، وعلم الغيب بل مجرد دعواه علم الغيب كفر, فكيف يكون المدعي لذلك ولياً لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على خفافيش البصائر. =

والفرق بين الكاهن والعراف: أن الكاهن: إنما يتعاطى الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار. والعراف: هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوها من الأمور، وقال في موضع آخر الكاهن هو الذي يدعي مطالعة الغيب ويخبر الناس عن الكوائن، قال: وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور فمنهم من كان يزعم أن له رئياً من الجن وتابع يلقي إليه الأخبار ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهمه الذي أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافاً وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقفها كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة، ومتهم المرأة بالريبة فيعرف من صاحبها ونحو ذلك من الأمور، ومنهم من كان يسمى المنجم كاهناً، قال: وحديث النهي عن إتيان الكاهن (¬1) يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم وعن النهي عن تصديقهم والرجوع إلى قولهم. ¬

_ = نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة. اهـ. (¬1) لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أتى عرافاً، أو ساحراً، أو كاهناً، فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -". أخرجه البزار (2067)، وأبو يعلى (5408)، وأورده ابن حجر في المطالب العالية (2/ 356). وذكره في مجمع الزوائد (5/ 118) وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن يريم وهو ثقة". وقد ورد من رواية بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم (2230)، وأحمد (4/ 68) (5/ 380). ويشهد له حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 429) وصححه الحاكم.

ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهناً وربما دعوه عرافاً فهذا غير داخل في جعلة النهي وإنما هو مغالطة في الأسماء وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطب وأباح العلاج والتداوي هذا آخر كلامه (¬1). قال الماوردي في آخر "أحكامه السلطانية" (¬2): ويمنع المحتسب من يكتسب بالكهانة واللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطي. ... ¬

_ (¬1) عن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تداووا، فإن الله لم ينزل داءً إلاَّ وقد أنزل له شفاء، إلاَّ السام والهرم". أخرجه الحميدي (824)، وابن ماجه (3436)، وأحمد (4/ 278)، والبخاري في "الأدب المفرد" (291)، وأبو داود (3855) في الطب، باب: في الرجل يتداوى، والترمذي (2038)، والبيهقي (9/ 343)، والبغوي في شرح السنة (3226)، والطيالسي (1232). قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (4/ 15): وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفعُ داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلاَّ بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزٌ ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا يدفع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلاَّ كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً. اهـ. (¬2) الأحكام السلطانية (258).

الحديث العاشر

الحديث العاشر 282/ 10/ 53 - عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث معدود في أفراد مسلم كما نبه عليه عبد الحق وغيره فإن ينبغي للمصنف أن ينبه عليه لئلا يوهم أنه من المتفق عليه ولم ينبه على ذلك أحد من الشراح فتنبه له وأغرب الحميدي فلم يذكره رأساً في "جمعه بين الصحيحين" في ترجمة رافع مع أن مسلماً كرره في البيوع من صحيحه وفي بعض ألفاظه "شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام". الثاني: في التعريف براويه وهو أبو عبد الله، ويقال: أبو رافع، ويقال: أبو خديج رافع بن خديج بفتح الخاء المعجمة ثم قال مهملة مكسورة ثم مثناة تحت ثم جيم بن رافع بن عدي بن يزيد بالمثناة فوق ثم زاي ثم مثناة تحت ثم دال مهملة الأنصاري الحارثي ¬

_ (¬1) مسلم (1568)، والترمذي (1275)، وأبو داود في الإِجارة (3421) باب: في كسب الحجام، وأحمد (3/ 464، 465).

من بني حارثة المديني شهد أُحد وما بعدها له أحاديث مجموعها ثمانية وسبعون حديثاً اتفقا على خمسة منها وانفرد مسلم بثلاثة كذا قالوا وهذه الأحاديث قد عدها الحميدي في "جمعه" فلم يذكر هذا الحديث [قلت] (¬1): فيكون مسلم انفرد إذن بأربعة كان يخضب بالصفرة ويحفي شاربه وكان يعد من الرماة أصيب بسهم يوم أحد في ترقوته، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيداً" (¬2) فتركها لا يحس منها شيئاً [دهراً] (¬3) وكان إذا ضحك فاستغرق بدأ ذلك السهم وانتقضت جراحته في زمن عبد الملك ابن مروان ومات يالمدينة قبل ابن عمر بيسير سنة أربع وسبعين أو في أول سنة ثلاث وسبعين وهو ابن ست وثمانين سنة (¬4). روى له الشيخان وأصحاب السنن والمسانيد، ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) ذكره في الإِصابة (2/ 187). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) قال ابن حجر في الإِصابة -رحمنا الله وإياه- (2/ 187): [رافع] بن خديج بن رافع بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسى الحارثي أبو عبد الله أو أبو خديج أمه حليمة بنت مسعود بن سنان بن عامر من بني بياضة ... عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج بها وشهد ما بعدها وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمه ظهير بن رافع وروى عنه ابنه عبد الرحمن وحفيده عباية بن رفاعة والسائب بن يزيد ومحمود بن لبيد وسعيد بن المسيب ونافع بن جبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو النجاشي مولى رافع وسليمان بن يسار وآخرون =

وروى عنه ابنه رفاعة وخلق وعنه ابن عمر والسائب بن يزيد من الصحابة [وغيرهما] (¬1) من التابعين. فائدة: خديج يشتبه بخديج -بضم الخاء المهملة ثم دال مفتوحة ثم ياء مثناة تحت ثم جيم- وهم جماعة منهم معاوية بن خُديج الصحابي. ¬

_ = واستوطن المدينة إلى أن انتقضت جراحته في أول سنة أربع وسبعين فمات وهو ابن ست وثمانين سنة وكان عريف قومه بالمدينة، كذا قال الواقدي في وفاته. وقد ثبت أن ابن عمر صلَّى عليه وصرح بذلك الواقدي وابن عمر في أول سنة أربع كان بمكة عقب قتل ابن الزبير ثم مات من الجرح الذي أصابه من زج الرمح فكأن رافعاً تأخر حتى قدم ابن عمر المدينة فمات فصلى عليه ثم مات ابن عمر بعده أو مات رافع في أثناء سنة ثلاث قبل أن يحج ابن عمر فإنه ثبت أن ابن عمر شهد جنازته فقد أخرج من طريق أبي نصرة، قال أبو نصرة، خرجت جنازة رافع بن خديج وفي القوم ابن عمر فخرج نسوة يصرخن فقال ابن عمر اسكتن فإنه شيخ كبير لا طاقة له بعذاب الله. وقال يحيى بن بكير: مات أول سنة ثلاث وسبعين فهذا أشبه. وأما البخاري فقال: مات في زمن معاوية وهو المعتمد وما عداه واهٍ وسيأتي مسنده في ذلك في ترجمة أم عبد الحميد في كنى النساء. وأرخه ابن قانع سنة تسع وخمسين. وأخرج ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد عن رجاله أصاب رافعاً سهم يوم أحد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت لك يوم القيامة إنك شهيد، فلما كانت خلافة عثمان انتقض به ذلك الجرح فمات منه. كذا قال، والصواب خلافة معاوية كما تقدم ويحتمل أن يكون بين الانتقاض والموت مدة. اهـ. (¬1) في ن هـ ساقطة.

الوجه الثالث: "الخبيث" الردي من كل شيء وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب (¬1) ومهر البغى (¬2) في الحديث قبله وإطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضى التعميم في كل كلب ولم يثبت تخصيص شيء منه كما سبق فيجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو لا يدل على الحرمة صريحاً وكذلك جاء في كسب الحجام أيضاً ولم يحمل على التحريم عند جمهور العلماء غير أن ذلك بدليل خارج وهو أنه -عليه الصلاة والسلام- "احتجم وأعطى الحجام أجرة" أخرجه الشيخان (¬3) في صحيحهما "ولو كان حراماً لم يعطه" (¬4) فإن ثبت أن ¬

_ (¬1) ص 107. (¬2) ص 114. (¬3) البخاري (2102، 2277، 2281)، ومسلم (1577) (64)، وأبو داود في البيوع (3424) باب: في كسب الحجام، والترمذي (1278)، وابن ماجه (3483)، والدارمي (2/ 272)، والطيالسي (1/ 262)، والبيهقي (9/ 337)، والطحاوي (4/ 131)، والحميدي (1217)، وأحمد (3/ 100، 182): هذا من رواية أنس وقد ورد من رواية ابن عباس وجابر -رضي الله عنهم- ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 94). (¬4) من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- البخاري (1835)، ومسلم (1202)، وأبو داود في المناسك (1835) باب: المحرم يحتجم، والترمذي (839)، والنسائي (5/ 193)، والدارمي (2/ 37)، والحميدي (500، 501)، وابن ماجه (3081)، والدارقطني (1/ 239)، البيهقي (4/ 263)، وأحمد (1/ 215، 221). قال في شرح السنة للبغوي (8/ 18): اختلف أهل العلم في كسب الحجام، فذهب قوم إلى تحريمه. وذهب بعضهم إلى أن الحجام، إن =

لفظة الخبيث ظاهرة في التحريم بخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل، لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل. قال الشيخ تقي الدين (¬1): "وأما الكلب": فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد. كان ذلك دليلاً على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع متعددة لا تنحصر في النجاسة. قلت: قد قدمنا في الحديث قبله نقل اتفاق الحفاظ على ضعفه فالحديث باق على عمومه إذن (¬2). ¬

_ = كان حراً، فهو حرام، وإن كان عبداً، فإنه يعلفه دوابه، وينفقه على عبيده قولاً بظاهر الحديث. وذهب الأكثرون إلى أنه حلال، والنهي على جهة التنزيه عن الكسب الدنيء، والترغيب فيما هو أطيب وأحسن من المكاسب، يدل عليه أنه أمره بعد المعاودة بأن يُطعم رقيقه، ولولا أنه حلال مملوك له لكان لا يجوز أن يطعم منه رقيقه، لأنه لا يجوز أن يُطعم رقيقه إلاَّ من مال ثبت عليه ملكه، كما لا يجوز أن يأكل بنفسه، والدليل عليه ما في المتفق عليه من حديث أنس بن مالك قال: "حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو طيبة فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه. اهـ. (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 70). (¬2) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 770) أنه لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناء كلب الصيد بوجه. أما حديث جابر -رضي الله عنه-، فقال الإِمام أحمد وقد سئل عنه: هذا من الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف، وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف على جابر، وقال الترمذي: لا يصح إسناد هذا الحديث. اهـ. =

الوجه الرابع: قد نقلنا عن الجمهور أنه لا يحرم كسب الحجام فهو مكروه كراهة تنزيه سواء فيه الحر والعبد وبه قال أحمد في المشهور عنه، وقال: في رواية أخرى وبها قال (فقهاء المحدثين يحرم على الحر دون العبد احتجاجاً بالحديث الذي أسلفناه (¬1) فإن الذي حجمه أبو طيبة وأمر - صلى الله عليه وسلم -[أهله] (¬2) أن يخففوا عنه من خراجه (¬3). وحمل الجمهور الأحاديث الواردة فيه على منع التنزيه والارتفاع عن دنىء الأكساب ولو كان حراماً لم يفرق فيه بين الحر والعبد فإنه لا يجوز للرجل يطعم عبده ما لا يحل (¬4). قال القاضي عياض (¬5): وجعلوا إباحته هذه ناسخة لقوله: "إنه خبيث" قال: والخبيث الحرام، قال: ولأنه آخر الأمر من نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وقد قيل إن النهي عنه قد يحتمل أن يكون ببيع ¬

_ = ولفظ الحديث: عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن ثمن الكلب، إلاَّ كلب الصيد". رواه الترمذي (1281). (¬1) ص 125. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) انظر التعليق (1) و (2) (ص 125). وحديث تخفيفه عن أبي طيبة الخراج من رواية جابر -رضي الله عنهما- عند أحمد (3/ 353) الطحاوي في معاني الآثار (4/ 130)، والطيالسي (1/ 261)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 94) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى ورجاله ثقات، إلاَّ أنه من رواية جعفر بن أبي وحشية، عن سليمان بن قيس، وقيل: إنه لم يسمع منه. (¬4) انظر كلام البغوي -رحمنا الله وإياه- في ت (4/ 117). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 251).

ما يقصده من الحيوانات لمن يستجيز أكلها من الكفرة أو لاستعمالها في بعض الأشياء. واحتج لذلك: برواية: "نهى عن ثمن الدم" (¬1) قال ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2086)، وأبو داود في البيوع (3483) باب: في أثمان الكلب، والبيهقي (6/ 6)، والبغوي (2039)، وأحمد (4/ 308، 309) من رواية أبي جحيفة. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 790): فصل الحكم السادس: خبثُ كسبِ الحجَّام، ويدخُلُ فيه الفاصد والشارِط، وكل من يكون كسبُه من إخراج الدم، ولا يدخل فيه الطبيب، ولا الكحَّال ولا البيطارُ لا في لفظه ولا في معناه، وصحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "أنَّه حكم بخُبثه وأَمَرَ صَاحِبَه أَنْ يَعْلِفَه نَاضِحَه أَوْ رَقيقَهُ"، وصحَّ عنه "أنه احتجمَ وأعطى الحجامَ أجرَهُ". فأشكل الجمعُ بينَ هذين على كثير من الفقهاء، وظنوا أن النهيَ عن كسبه منسوخٌ بإعطائه أجره، وممِن سلك هذا المسلكَ الطحاوي، فقال في احتجاجه للكوفيين في إباحة بيع الكلابِ, وأكلِ أثمانها: لما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلابِ، ثم قال: "ما لي وللكلاب"، ثم رخص في كلب الصيد، وكلبِ الغنم، وكان بيعُ الكلاب إذ ذاك والانتفاعُ به حراماً، وكان قاتله مؤدياً للفرض عليه في قتله، ثم نُسِخَ ذلك، وأباح الاصطيادَ به، فصار كسائر الجوارح في جواز بيعه، قال: ومثلُ ذلك نهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الحجام، وقال: "كسبُ الحجام خبيث" ثم أعطى الحجام، أجرَه، وكان ذلك ناسخاً لمنعه وتحريمه ونهيه. انتهى كلامه. وأَسهلُ ما في هذه الطريقة أنها دعوى مجردة لا دليلَ عليها، فلا تُقبل، كيف وفي الحديث نفسه ما يُبطلها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلِ الكلاب، ثم قال: "ما بالُهم وبالُ الكلاب" ثم رخَّص لهم في كلب الصيد. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال ابنُ عمر: أمرَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقتلِ الكِلابِ إلاَّ كَلْبَ الصيدِ أو كلب غَنمٍ أو ماشية. وقال عبدُ الله بن مغفَّل: أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلابِ ثم قال ما بالُهم وبَالُ الكِلاَب، ثم رخَّصَ في كلب الصيد، وكلب الغنم. والحديثانِ في "الصحيح" فدلَّ على أن الرخصةَ في كلب الصيد وكلب الغنم وقعت بعد الأمر بقتل الكلاب، فالكلبُ الذي أذن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في اقتنائه هو الذي حرَّم ثمنه، وأخبر أنه خبيثٌ دونَ الكلب الذي أمر بقتله، فإن المأمورَ بقتله غيرُ مستبقى حتى تحتاج الأمة إلى بيان حكم ثمنه، ولم تجر العادةُ ببيعه وشرائه بخلاف الكلب المأذون في اقتنائه، فإن الحاجة داعية إلى بيان حكم ثمنه أولى مِن حاجتهم إلى بيان ما لم تجرِ عادتُهم ببيعه، بل قد أُمِرُوا بقتله. ومما يُبين هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأربعة التي تُبذل فيها الأموال عادة لحرص النفوس عليها وهي ما تأخذُه الزانية والكاهِنُ والحجَّامُ وبائع الكلب فكيف يُحمل هذا على كلب لم تَجْرِ العادةُ ببيعه، وتخرج منه الكلاب التي إنما جرت العادة ببيعها هذا من الممتنع البينِ امتناعُه، وإذا تبين هذا، ظهر فساد ما شبه به من نسخ خُبثِ أجرة الحجام، بل دعوى النسخ فيها أبعد. وأما إعطاءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الحجام أجره، فلا يُعارض قوله: "كسب الحجام خبيث" فإنه يقل: إن إعطاءه خبيث، بل إعطاؤه إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز، ولكن هو خبيثٌ بالنسبة إلى الآخذ، وخبثُه بالنسبة إلى أكله، فهو خبيثُ الكسب، ولم يلزم من ذلك تحريمُه، فقد سمى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثوم والبصل خبيثين مع إباحة أكلهما، ولا يلزم من إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجَّام أجرَه حِل أكلِه فضلاً عن كون أكله طيباً، فإنه قال: "إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ العَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأبَّطُهَا نَارَاً"، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد كان يُعطي المؤلفةَ قلوبُهم مِن مال الزكاة والفيء مع غناهم، وعدم حاجتهم =

[وقد] (¬1) قيل إنما كره ذلك لأنه لم يشترط أجرة معلومة قبل العمل وإنما يعمل غالباً بأجر مجهول، قال: وهذا لا تعلق فيه وقد أجاز العلماء مثل هذا على ما استمرت به العادة في المكارمة وإن كان لابن حبيب ما ظاهره المنع في كل إجارة حتى تسمى الأجر. ¬

_ = إليه، ليبذُلوا من الإِسلام والطاعة ما يَجِبُ عليهم بذلُه بدون العطاء، ولا يَحِلُّ لهم توقُف بذله على الأخذ، بل يجبُ عليهم المبادرةُ إلى بذله بلا عوض. وهذا أصل معروف مِن أصول الشرع أن العقد والبذل قد يكونُ جائزاً، أو مستحباً، أو واجباً من أحد الطرفين، مكروهاً أو محرماً من الطرف الآخر، فيجب على الباذِل أن يَبْذُلَ، ويحرم على الآخذ أن يأخذه. وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجَّام من جنس خُبث أكل النوم والبصل، لكن هذا خبيثُ الرائحة، وهذا خبيثٌ لكسبه. فإن قيل: فما أطيبُ المكاسب وأحلُّها؟ قيل هذا فيه ثلاثةُ أقوال للفقهاء: أحدها: أنه كسبُ التجارة. والثاني: أنَّه عملُ اليد في غير الصنائع الدنيئة كالحجامة ونحوِها. والثالث: أنه الزَّراعةُ، ولكل قولٍ مِن هذه وجه من الترجيح أثراً ونظراً، والراجح أن أحلَّها الكسبُ الذي جعل منه رِزق رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو كسبُ الغانمين وما أُبيح لهم على لسان الشارع، وهذا الكسبُ قد جاء في القرآن مدحُه أكثرَ مِن غيره، وأثني على أهله ما لم يُثْنَ على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخيرِ خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حيث يقولُ: "بُعِثْتُ بالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي"، وهو الرزقُ المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجعل أحب شيء إلى الله، فلا يُقاومه كسب غيره، والله أعلم. (¬1) زيادة من ن هـ.

خاتمة: جاء في "صحيح مسلم" (¬1) النهي عن ثمن السنور أيضاً فأخذ بظاهره أبو هريرة وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد فقالوا لا يجوز بيعه وعامة العلماء على خلافه وحملوا النهي على ما لا ينتفع به أو على أنه نهي تنزيه ليعتاد الناس هبته وإعارته كما هو الغالب (¬2) وتضعيف الخطابي (¬3) وابن عبد البر (¬4) النهي لا يقبل بل الجواب ¬

_ (¬1) مسلم (1569)، وابن ماجه (2161) , وأبو داود في البيوع (3479) باب: في ثمن السنور، والترمذي (1279)، والنسائي (7/ 309)، وأحمد (3/ 297، 339، 349، 386)، والدارقطني (271). (¬2) قال في حياة الحيوان للدميري (1/ 577) بعد ما ذكر، كما هو الغالب، فإن كان مما ينفع وباعه صَحَّ البيع، وكان ثمنه حلالاً، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلاَّ ما حكى ابن المنذر عن أبي هريرة، وطاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، أنه لا يجوز بيعه محتجين بهذا الحديث، وأجاب الجمهور بأنه محمول على ما ذكرنا وهذا هو المعتمد. (¬3) انظر: معالم السنن (5/ 125). قال بعد كلام سبق: وقد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث، وزعم أنه غير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (20/ 125): وقد روى في ثمن الهر حديث لا يثبت رفعه في النهي عنه. اهـ. وقال أيضاً في التمهيد (8/ 402): بعد سياق الحديث: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب والسنور"، قال: وحديث أبي سفيان عن جابر لا يصح لأنها صحيفة. وقال أيضاً (8/ 403): وليس في السنور شيء صحيح وهو على أجل الإِباحة. وبالله التوفيق. اهـ. أقول: وقد صحح النووي -رحمنا الله وإياه- الحديث في شرحه لمسلم (10/ 234)، قال متعقباً ابن عبد البر: وهذا غلط من ابن عبد البر لأن =

عنه ما ذكرناه. ... ¬

_ = مسلماً قد رواه كما ترى في صحيحه من رواية معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير وهو ثقة أيضاً والله أعلم، قال ابن القيم -رحما الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 773). الحكم الثاني: تحريمُ بيع السِّنور، كما دل عليه الحديثُ الصحيح الصريح الذي رواه جابر، وأفتى بموجبه، كما رواه قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضَّاح، حدثنا محمد بن آدم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه كره ثمن الكلب والسنور. قال أبو محمد: فهذه فتيا جابر بن عبد الله، أنه كره بما رواه، ولا يُعرف له مخالف مِن الصحابة، وكذلك أفتى أبو هريرة -رضي الله عنه-، وهو مذهبُ طاووس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وجميع أهل الظاهر، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهي اختيارُ أبي بكر عبد العزيز، وهو الصواب لصحة الحديث بذلك، وعدم ما يُعارضه، فوجب القولُ به. قال البيهقي: ومن العلماء من حمل الحديث على أن ذلك حين كان محكوماً بنجاستها، فلما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ". أخرجه مالك (1/ 23) أحمد (5/ 303). صار ذلك منسوخاً في البيع. ومنه من حمله على السنور إذا توحَّش، ومتابعة ظاهر السنَّة أولى. ولو سمع الشافعي -رحمه الله- الخبر الواقع فيه، لقال به إن شاء الله، وإنما لا يقول به مَنْ توقَّف في تثبيت روايات أبي الزبير، وقد تابعه أبو سفيان عن جابر على هذه الرواية من جهة عيسى بن يونس، وحفص بن غياث عن الأعمش، عن أبي يسفيان. انتهى كلامه. ومنهم من حمله على الهرِّ الذي ليس بمملوك، ولا يخفى ما في هذه المحامل من الوهن.

54 - باب العرايا وغير ذلك

54 - باب (¬1) العرايا وغير ذلك أي من بيع النخل المزبن، والعبد بما معه، والقبض في البيع، وحكم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، وذكر في الباب ستة أحاديث: الحديث الأول 283/ 1/ 54 - عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها" (¬2). ولمسلم: "بخرصها تمراً، يأكلونها رطباً". ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (بيع)، وأيضاً في إحكام الأحكام (4/ 71)، وهي غير موجودة في متن العمدة. (¬2) البخاري أطرافه (2173)، ومسلم (1539)، والنسائي (7/ 267، ومالك (1/ 619)، وابن ماجه (2269)، ومعاني الآثار (4/ 28، 29)، والحميدي (399)، والترمذي (1302) , والبيهقي في الكبرى (5/ 309، 311)، ومعرفة السنن والآثار له (8/ 98، 99)، وعبد الرزاق (14486)، وأحمد (5/ 182، 188، 190)، والشافعي في المسند (2/ 150)، والرسالة له (908).

الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في كتاب الصيام في الحديث الرابع منه. الثاني "العريّة" مشددة الياء مشتقة من التعري وهو التجرد [وهي النخلة] (¬1) يعريها صاحبها غيره ليجعل له ثمرتها عامة فيعروها أي يأتيها ويتردد إليها فهي عريّة بمعنى مفعولة كما قاله الهروي والجوهري (¬2) وغيرهما. أو بمعنى فاعلة كما قاله الأزهري (¬3) والجمهور لأنها عريت من حكم ما في البستان فخلى مالكها عنها من بين نخله. قال الجوهري (¬4): إنما دخلت فيها الهاء لأنها أفردت وصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة، والأكيلة ولو جئت بها مع النخلة لقلت نخلة عري. وقيل: سميت عريّة لأنها عريت من جملة التحريم وعلة المزابنة. [الثالث:] (¬5) [اختلف] (¬6) العلماء في تفسير العرايا على أقوال: ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في غريب الحديث (1/ 231، 293) (3/ 221) (4/ 154، 413) مع اختلاف في سياق الكلام. مختار الصحاح (183). (¬3) تهذيب اللغة (3/ 156). (¬4) مختار الصحاح (183). (¬5) في ن هـ بياض بمقدار كلمة. (¬6) في ن هـ (اختلفوا).

أحدها: أنها بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصاً فيما دون خمسة أوسق قاله الشافعي وأحمد وآخرون فيخرص الخارص ما على النخلة أو النخلات من الرطب إذا يبس فيقول هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجيء منه أربعة أوسق من التمر مثلاً فيبيعه صاحبه بمثلها تمراً ويتقابضان في المجلس. الثاني: هي أن يعرى الرجل أي يهب ثمرة نخلة أو نخلات ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له فيشتريها منه بخرصها تمراً ولا يجوز ذلك لغير رب البستان قاله مالك. قال القرطبي (¬1): وحاصل مذهبه أنها عطية ثمرة نخلة، أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أعطيها أن يبيعها إذا بدأ صلاحها من كل أحدٍ بالعين والعروض ومن يعطيها خاصة بخرصها تمراً وذلك بشروط. أحدها: أن يكون أقل من خمسة أوسق وفي الخمسة خلاف. ثانيها: أن يكون بخرصها من نوعها وما فيها نخلاً وعنباً وفي غيرهما مما يوسق ويدخر للقوت [خلاف] (¬2). ثالثها: أن يقوم بالخرص عند الجذاذ. رابعها: أن يكون المشتري جملتها لا بعضها. خامسها: أن يكون بيعها عند طيبها، فلو باعها من المعرى قبل ذلك على شرط القطع لم يُجز، لتعدى محل الرخصة، ووافقه ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2715). (¬2) في ن هـ ساقطة.

أحمد في تفسير العريّة كما نقله القاضي عنه قال: إلاَّ أنه خالفه في جواز بيعها من ربها وغيره وهو قول الأوزاعي لظاهر إطلاق الحديث وعموم بيعها. ثالثها: هي أن يهب رجل ثمر نخلة أو نخلات ولم يقبضها الموهوب له فيريد الواهب أن يعطي الموهوب له تمراً ويتمسك بالثمرة قاله أبو حنيفة وأبو يوسف وإنما جاز له ذلك لأنه ليس من باب البيع بل من باب الرجوع في الهبة التي لم تجب بناء على أن الهبة لا تجب إلاَّ بالقبض وظواهر الأحاديث ترد هذا التفسير. قال القرطبي (¬1): وهذا المذهب فيه إبطال لحديث العريّة [من أصله فيجب إطراحه. وذلك: أن حديث العريّة] (¬2) تضمن بأنه بيع مرخص فيه في مقدار مخصوص. وأبو حنيفة: يلغي هذه القيود الشرعية. وادعى هو قبل ذلك أن الحاصل من نقل أهل اللغة أنها عطية لا بيع وقوى بذلك مذهبه وقواه الشيخ تقي الدين لشهرة تفسيرها بذلك من أهل المدينة وتداوله عندهم وبأن قوله في الحديث "رخص لصاحب [العريّة] (¬3) " يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره وهي الهبة الواقعة وانشدوا في تفسير العرايا قول الشاعر وهو سويد بن [الصامت] (¬4) كما ذكره القرطبي: ¬

_ (¬1) المفهم (4/ 394). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في الأصل ون هـ (الصلت)، وما أثبت من غريب الحديث أبي عبيد (1/ 231).

ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح ونقل النووي في "شرحه" (¬1): عن أحمد أن مذهبه في العرايا كمذهب الشافعي وهو مخالف لما أسلفناه عن حكاية القاضي عنه، قال: وظواهر الأحاديث ترد تأويل مالك وأبي حنيفة. ونقل القرطبي (¬2): عن أحمد مثل ما نقله القاضي عياض عنه ولم يذكر عنه مخالفته في جواز بيعها من ربها وغيره ونقل عن إسحاق أيضاً بموافقتها كالأوزاعي ثم قال: وأما الشافعي: فلم يعرج في تفسيرها على اللغة المعروفة فيها. قلت: قوله حجة في اللغة، قال: وكأنه اعتمد في مذهبه على تفسير يحيى بن سعيد -راوي الحديث- فإنه فسرها بما ذكره. قال: وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، لأن يحيى بن سعيد ليس صحابياً، فيقال: فهمه عن الشارع، ولا رفعه إليه، ولا ثبت به عرف غالباً شرعي حتى يرجحه على اللغة. وغايته أن يكون رأياً ليحيى، لا رواية له. قلت: [يبعد] (¬3) رجوع هذا إلى الرأي وقد وافق الشافعي (¬4) ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووي (10/ 189). (¬2) المفهم (4/ 394). (¬3) في الأصل (ينظر)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) انظر: تفسير النافعي-رحمنا الله وإياه- للعرايا في الأم (3/ 55)، وفي المعرفة والآثار للبيهقي (8/ 103)، وفي تهذيب اللغة للأزهري (3/ 155) فإنه قد قسمها إلى ثلاثة أصناف.

الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيدة وحكاه البغوي في شرح السنَّة" (¬1) عن أكثر الفقهاء. قال القرطبي: ثم يعارضه تفسير ابن إسحاق (¬2)، فإنه فسرها بأن يهب الرجل الرجل النخلات، فيشق عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها، قال: ثم هو عين المزابنة المنهى عنها [ووضع رخصة في موضع] (¬3) لا ترهق إليها حاجة أكيدة، ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشترى لها بالتمر متمكن من بيع ثمره بعين [أو عروض، ويشتري بذلك رطباً] (¬4). قلت: قد يفسر ذلك وهذه رخصة من المزابنة فينبغي الأخذ بها: "فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" (¬5). ¬

_ (¬1) (8/ 87). (¬2) المفهم (4/ 394)، البخاري مع الفتح (4/ 390)، والترمذي (1300)، وأبو داود البيوع (3366) باب: تفسير العرايا، والبيهقي (5/ 310). (¬3) في الفتح (4/ 393) في قصة. (¬4) في الفتح (4/ 393)، وشرائه بالعين ما يريد من الرطب. (¬5) البزار (990)، والطبراني في الكبير (11880)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 276)، وعبد الرزاق (20569)، وذكره في مجمع الزوائد (3/ 162)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب، وقد جاء من رواية ابن عمر ولفظه: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". أحمد (2/ 108) البزار (988، 989)، ومسند الشهاب (1078)، وابن الإِعرابي في معجمه (223/ 1)، وصححه الألباني في الإِرواء (3/ 9). وعن عائشة -رضي الله عنها- في الثقات لابن حبان (7/ 185)، =

الرابع: قوله: "بخرصها" أي بحرزها، قال الجوهري (¬1): "الخرص" حرز ما على النخل من الرطب والاسم الخرص بالكسر، تقول كم خرص أرضك؟ وقال النووي (¬2): روى بخرصها بكسر الخاء وفتحها والفتح أشهر ومعناه: بقدر ما فيها إذا صار تمراً فمن فتح قال هو مصدر أي اسم [للفعل] (¬3) ومن كسر قال [هو] (¬4) اسم [للشيء] (¬5) المخروص (¬6)، وقال القرطبي (¬7): الرواية هنا بالكسر. وقوله: "تمراً" هو منصوب على التمييز. وقوله: "رطباً" هو منصوب على الحال. ¬

_ = والكامل لابن عدي (5/ 1718)، ولفظه: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه". قلت: وما عزائمه؟ قال: فرائضه. وضعفه الهيثمي في المجمع (3/ 163). وعن أبي هريرة عند أبي نعيم في أخبار أصفهان (1/ 286): وضعفه الألباني في الإِرواء (3/ 12). وعن ابن مسعود بلفظ: "إن الله عز وجل يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه"، عند أبي نعيم في الحلية (2/ 101)، والطبراني في الكبير (10030)، وقد جاء من رواية أنس وأبي الدرداء وأبي أمامة ووائلة وابن الأسقع. انظر الإِرواء (3/ 10). (¬1) مختار الصحاح (79). (¬2) شرح مسلم (10/ 184). (¬3) في الأصل ون هـ (الفعل)، وما أثبت من شرح مسلم. (¬4) في الأصل ون هـ (إنه)، وما أثبت من شرح مسلم. (¬5) في الأصل ون هـ (الشيء)، وما أثبت من شرح مسلم. (¬6) انتهى كلام النووي -رحمنا الله وإياه-. (¬7) المفهم (5/ 2719).

الخامس: قد أسلفنا في الباب (¬1) قبله تحريم بيع المزابنة وتفسيرها وأن العرايا مستثناة منها ومن غيرها رخصة للحاجة إليها ولما كان التمر والزبيب مضبوطتين بالكيل والرطب والعنب بالخرص قريبتين إلى الضبط وعدم الخطأ في مقداره غالباً رخص فيه لضرورة الناس إليه وألحق الماوردي (¬2) البسر بالرطب وقياسه إلحاق الحصرم بالعنب. السادس: يؤخذ من الحديث الرخصة في الرطب وإلحاق العنب به قياساً، وقال المحاملي (¬3) وابن الصباغ (¬4): نصا وقد أسلفنا آنفاً عن الماوردي البسر أيضاً، [وهل يتعدى إلى غيرهما من الثمار فيه قولان للشافعي: أصحهما: المنع، والثانى: نعم للحاجة كما جوز في العنب القياس] (¬5). السابع: يؤخذ منه أيضاً أن الرخصة عامة بجميع الناس الأغنياء والفقراء حيث أطلق الرخصة من غير تقييد بأحد وهو أصح قولي ¬

_ (¬1) ص 97. (¬2) الحاوي الكبير (5/ 218). (¬3) أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن المحاملي البغدادي، ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة وتوفي في ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة. طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 174)، وفيات الأعيان (1/ 57). (¬4) عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ، ولد سنة أربعمائة وتوفي في جمادى الأولى، وقيل: في شعبان سنة سبع وسبعين وأربعمائة. وفيات الأعيان (2/ 385)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 251). (¬5) في ن هـ ساقطة.

الشافعي. والثاني: أنها تختص بالفقراء لأنهم سبب الرخصة كما ذكره الشافعي في "الأم" (¬1) لكن بغير إسناد وحكاه الشيخ تقي الدين وجها (¬2) وتبع الفوراني (¬3) في ذلك ومثار الخلاف أن اللفظ العام إذا ورد على سبب خاص هل يخصصه أو هو على عمومه وفيه خلاف أصولي (¬4). ¬

_ (¬1) نقل الماوردي -رحمنا الله وإياه- في الحاوي (5/ 218) عن الشافعي جوازها للمضطر المعسر وللغني الموسر بخلاف ما ذكره في اختلاف الحديث (267) فإنه يفهم منه أنها خاصة بالفقراء. وقد ناقش ابن حجر -رحمنا الله وإياه- هذا الاستدلال، وقال: على تقدير صحته فليس فيه حجة للتقيد بالفقير لأنه لم يقع في كلام الشارع وإنما ذكره في القصة ... إلخ (4/ 392، 393). (¬2) أحكام الإِحكام (4/ 74). (¬3) هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن فوران، توفي في شهر رمضان سنة إحدى وستين وأربعمائة عن ثلاث وسبعين سنة. لسان الميزان (3/ 433)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 248). (¬4) قال في تقريب الوصول (144): ولا يخصص العموم وروده على سبب خاص خلافاً للشافعي قال محققه: محل الخلاف في هذه المسألة إذا لم توجد قرينة على التخصيص ولا على التعميم غير اللفظ نفسه والقولان: العموم والقصر على السبب منقولان عن مالك والشافعي وكثير من أصحابهما والقول بالعموم للجمهور ومن أمثلة اللفظ العام الوارد على سبب خاص: قصة الأنصاري الذي قبّل الأجنبية، ونزل به قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألي هذه يا رسول الله، ومعنى ذلك هل حكم هذه الآية يختص بي لأني سبب نزولها، فأفتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن العبرة بعموم لفظ: =

الثامن: يؤخذ من إطلاق الرواية الأولى: جواز بيع الرطب على رؤوس النخل برطب على رؤوس النخل خرصاً فيهما أو برطب على وجه الأرض كيلا، لكن الرواية الثانية: مقيدة بجواز بيع خرصها تمراً يأكلونها رطباً فيؤخذ منها عدم بيع العريّة بالرطب على الشجر وبالرطب على الأرض. وقد اختلف أصحابنا فيما إذا باع رطباً بمثله على أوجه: أصحها: المنع لأنه ليس في معنى الرخصة. وثانيها: يجوز لأنه قد يشتهي ما عند غيره وفي "الصحيح" (¬1) من حديث زيد بن ثابت أنه -عليه الصلاة والسلام- (رخص في بيع العريّة بالرطب أو بالتمر) ولم يرخص في غير ذلك وهو دال لهذا الوجه ويتأوله. الأول: بأن "أو" هنا للشك لا للتخيير والإِباحة بل معناها رخص في بيعها بأحد النوعين وشك فيه الراوي فيحمل على أن المراد التمر كما صرح به في سائر الروايات. وثالثها: إن اختلف النوع جاز وإلاَّ فلا. ورابعها: إن كان أحدهما على الأرض لم يجز وإن كانا على النخل، فإن اختلف النوع جاز وإلاَّ فلا, ولو باع الرطب على الأرض، بالرطب على الأرض، لم يجز وجهاً واحداً. لأن أحد ¬

_ = "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" لا بخصوص السباب حيث قال: "بل لأمتي كلها"، وهو نص نبوي في محل النزاع. اهـ. (¬1) البخاري (2184)، ومسلم (1539)، وقد ورد بلفظ "بالرطب وبالتمر ولم يرخص في غير ذلك". أخرجه النسائي (7/ 267)، والطبراني في الكبير (5/ 111)، والبيهقي (5/ 311).

المعاني في الرخصة أكل الرطب على التدريج طرياً وذلك لا يحصل بما على وجه الأرض كذا قطع به الشيخ تقي الدين (¬1) وتبعه ابن العطار عليه وليس كما قطعا به فقد قال القفال: إنه على الخلاف لأنه إذا جاز البيع وهما على النخل واحتملت جهالة الخرص فالجواز مع تحقق المساواة بالكيل أولى. قلت: وليس ببعيد. فرع: لو باع رطباً مقطوعاً مخروصاً تمراً بتمر فوجهان بناء على أن الخرص أجل أم لا حكاه إمام الحرمين، وقال المحاملي: لا خلاف في بطلانه. التاسع: يؤخذ من الحديث أيضاً نظر الإِمام لرعيته وفكره في مصالحهم وما يحتاجون إليه من أمور دنياهم على وجه الشرع. ... ¬

_ (¬1) أحكام الإِحكام (4/ 74).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 284/ 2/ 54 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق" (¬1). هذا الحديث فيه بيان مقدار ما يرخص فيه في العريّة من بيع المزابنة ولا شك في جوازه فيما دون خمسة أوسق وفي عدم جوازه فيما زاد على خمسة أوسق ومن حكى الجواز فيه فهو غالط ففي جوازه في خمسة أوسق قولان: أظهرهما: المنع لأن الأصل التحريم وهي رخصة وشككنا في هذا المقدار فوجب الأخذ باليقين والخلاف راجع إلى أن النهي عن بيع المزابنة ورد أولاً ثم رخص في العرايا أو لم يرد إلاَّ مقروناً بالرخصة فيها فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع ¬

_ (¬1) البخاري (2190)، ومسلم في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر (4/ 10/ 187) النووي، والترمذي (1301)، وأبو داود (3364)، والنسائي (7/ 268)، وفي الكبرى له (6132)، ومالك (2/ 482)، والبيهقي في السنن (5/ 311)، والبغوي (8/ 90).

التحريم، وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم وهو مشهور مذهب مالك اتباعاً لما وجد عليه العمل عندهم بالمدينة. تنببهات: أحدها: هذا الشك من داود بن الحصين الراوي عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة فاعلمه. ثانيها: لفظة "دون" المفهوم منها مطلق الدونية وإن قل وبهذا يرد على ما احتج به عبد الحق في "نكته" لمشهور مذهبه أن الراوي لما لم يحد ما دونها فلو أجزنا أربعة أوسق أو أقل أمكن أن يكون دون ذلك فمراعات ذلك يؤدي إلى طرح القول بالعريّة فوجب إذن الاقتصار على الخمسة التي هي حد في الزكاة وقياسه العريّة على الزكاة غريب أيضاً. ونقل المازري (¬1): عن بعضهم [أنه لما] (¬2) شك الراوي فلا وجه [للتعلق] (¬3) بروايته في تحديد مقدار ما دون [خمسة] (¬4) [الأوسق] (¬5) ولكن وقع في بعض الروايات أربعة أوسق فوجب الانتهاء إلى هذا المتيقن وإسقاط ما زاد عليه وإلى هذا المذهب ذهب ابن المنذر وألزم المزني الشافعي أن يقول به. انتهى. وهذه الرواية ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 265). (¬2) في المرجع السابق (إذا). (¬3) ما أثبت من المرجع السابق، وفي الأصل ون هـ (التعليق). (¬4) في ن هـ والمعلم (الخمسة). (¬5) في المعلم غير موجودة.

رواها الإِمام أحمد من حديث حابر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أذن لأهل العرايا أن يبتاعوها بخرصها يقول "الوسق والوسقين والثلاثة والأربع" (¬1). ¬

_ (¬1) الإِمام أحمد في المسند (3/ 360)، وابن حبان (5008)، والبيهقي (5/ 311)، وصححه ابن خزيمة (2469)، وصححه الحاكم (1/ 317)، وسكت عنه الذهبي، ونقل ابن حجر في الفتح تصحيح ابن خزيمة، والحاكم, وسكت عنه (4/ 389) وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة (4/ 110). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري في مناقشة مقدار العريّة (4/ 388): على قوله: "في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق" بعد كلام سبق في تخريج الشك: وقد اعتبر من قال بجواز بيع العرايا بمفهوم هذا العدد ومنعوا ما زاد عليه، واخلفوا في جواز الخمسة لأجل الشك المذكور، والخلاف عند المالكية والشافعية، والراجح عند المالكية الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشافعية الجواز فيما دون الخمسة ولا يجوز في الخمسة، وهو قول الحنابلة وأهل الظاهر، فمأخذ المنع أن الأصل التحريم وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ منه بما يتحقق منه الجواز ويلغى ما وقع فيه الشك. وسبب الخلاف أن النهي عن بيع المزابة هل ورد متقدماً ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن بيع المزابنة وقع مقروناً بالرخصة في بيع العرايا؟ فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم، ويرجح الأول رواية سالم المذكورة في الباب قبله. واحتج بعض المالكية بأن لفظة "دون" صالحة لجميع ما تحت الخمسة فلو عملنا بها للزم رفع هذه الرخصة، وتعقب بأن العمل بها ممكن بأن يحمل على أقل ما تصدق عليه وهو المفتى به في مذهب =

وأما أصحابنا فصرحوا بأنه يكفي أن ينقص عنها ما يتعلق عليه الاسم حتى قال القاضي الماوردي (¬1) يكفي نقصان ربع مد. ¬

_ = الشافعي، وقد روى الترمذي حديث الباب من طريق زيد بن الحباب عن مالك بلفظ "أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق" ولم يتردد في ذلك، وزعم المازري أن ابن المنذر ذهب إلى تحديد ذلك بأربعة أوسق لوروده في حديث جابر من غير شك فيه فتعين طرح الرواية التي وقع فيها الشك والأخذ بالرواية المتيقنة، قال: وألزم المزني الشافعي القول به. اهـ، وفيما نقله نظر، أما ابن المنذر فليس في شيء من كتبه ما نقله عنه وإنما فيه ترجيح القول الصائر إلى أن الخمسة لا تجوز وإنما يجوز ما دونها، وهو الذي ألزم المزني أن يقول به الشافعي كما هو بين من كلامه، وقد حكى ابن عبد البر هذا القول عن قوم قال: واحتجوا بحديث جابر، ثم قال: ولا خلاف بين الشافعي ومالك ومن اتبعهما في جواز العرايا في أكثر من أربعة أوسق مما لم يبلغ خمسة أوسق ولم يثبت عندهم حديث جابر. قلت: حديث جابر الذي أشار إليه أخرجه الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم أخرجوه لهم من طريق ابن إسحاق "حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والأربع، لفظ أحمد، وترجم عليه ابن حبان "الاحتياط أن لا يزيد على أربعة أوسق" وهذا الذي قاله يتعين المصير إليه، وأما جعله حداً لا يجوز تجاوزه فليس بالواضح، واحتج بعضهم لمالك بقول سهل بن أبي حثمة "أن العرية تكون ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة"، وسيأتي ذكره في الباب الذي يليه ولا حجة فيه لأنه موقوف. اهـ. (¬1) الحاوي الكبير (5/ 216).

ثالثها: "الوسق" ستون صاعاً كما تقدم بيانه واضحاً في الحديث الثاني من كتاب الزكاة (¬1). رابعها: لو زاد على ما دون خمسة أوسق في صفقتين كل منها دون خمسة أوسق جاز عندنا قياساً على الصفقة الأولى خلافاً لأحمد ثم الصفقة هنا متعددة بتعدد المشترى والعقد (¬2) وكذا البائع (¬3) في الأصح لأن تعددها بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري وفيه وجه آخر أنه لا يجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة نظراً إلى الربويات فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة والظاهر من الحديث أنه محمول على صفقة واحدة من غير تعدد بائع ومشترٍ جرياً على العادة والغالب. خامسها: إذا زاد في صفقة على خمسة أوسق بطل في الجميع لأنه بالزيادة صار مزابنة وخرجه الجوري (¬4) -بضم الجيم- ثم واو ثم راء من الشافعية في الجائز على قولي تفريق الصفقة. سادسها: قال القاضي عياض (¬5): الحديث دال على اختصاصها بما يوسق ويكال ويحتج به لأحد القولين لاختصاص ذلك بالتمر والزبيب وما في معناه مما ييبس ويدخر ومآخذه الكيل. ¬

_ (¬1) (5/ 45) من هذا الكتاب المبارك. (¬2) الحاوي الكبير (5/ 217). (¬3) الحاوي الكبير (5/ 219). (¬4) علي بن الحسين القاضي أبو الحسين الجوري. طبقات الشافعية للأسنوي (122)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 129)، وطبقات ابن الصلاح (2/ 614). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 208).

سابعها: أدخل البخاري (¬1) هذا الحديث في "باب: الرجل يكون له ممرٌ أو شرب في حائط أو [في] (¬2) نخل". وكذا أدخل فيه الحديث الآتي بعده وكذا حديث زيد السالف أول الباب وكذا حديث جابر السالف في الباب قبله. ... ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح (5/ 49). (¬2) زيادة من البخاري.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 285/ 3/ 54 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع نخلاً قد أُبرت، فثمرها للبائع، إلاَّ أن يشترطه المبتاع". ولمسلم: "ومن ابتاع عبداً فماله للذي باعه إلاَّ أن يشترطه المبتاع" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: ولمسلم: إلى آخره ظاهر إيراده أنها من أفراده وليس كذلك فقد أخرجها البخاري (¬2) أيضاً في "باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخلٌ ولفظه "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2203)، ومسلم (1543)، وأبو داود في البيوع (3434) باب: العبد يباع وله مال. الكبرى للنسائي (4/ 21)، وابن ماجه (2210)، والنسائي (7/ 297)، والشافعي في الأم (3/ 41)، والسنن الكبرى للبيهقي (5/ 297)، والترمذي (1244)، ومالك في الموطأ (2/ 617)، والبزار في مسنده (1/ 224)، ومسند عمر لابن النجاد (97). انظر: مسند الفاروق لابن كثير (1/ 344). (¬2) البخاري مع الفتح (5/ 49) ح (2379).

فثمرتها للبائع إلاَّ أن يشترطه المبتاع [ومن ابتاع عبد وله مال فما له للذي باعه إلاَّ أن يشترطه المبتاع] (¬1) وكأن المصنف اغتر بكون البخاري لم يذكره في صحيحه في "باب: من باع نخلاً قد أبرت" (¬2) وفي "باب: بيع النخل بأصله" (¬3) بهذه الزيادة وإنما اقتصر على القطعة الأولى فظن أن الثانية من أفراد مسلم فاجتنب ذلك وهذا الموضع الذي أخرجنا هذه الزيادة منه هو بعد هذا بكراريس فاستفد ذلك. وقد وقع للمصنف أيضاً مثل ذلك في "عمدته الكبرى" وكأنه أخذه منها ثم رأيت بعد ذلك ابن العطار اعتذر عن المصنف بشيء غلط فيه، فقال: في "شرحه" هذه الزيادة التي أضافها المصنف إلي مسلم رواها الشيخان أيضاً في صحيحيهما لكن من رواية سالم عن أبيه أن عمر فجعلاها من مسند عمر لا من مسند ابنه ولم تقع هذه الزيادة في حديث نافع عن ابن عمر ولا يضر ذلك لأن سالماً ثقة وهو أجل من نافع فزيادته مقبولة وقد أشار النسائي والدارقطني إلى ترجيح رواية نافع وهي إشارة مردودة، قال: فحينئذٍ المصنف معذور من حيث أنه روى الحديث عن عبد الله بن عمر، والزيادة عنه أيضاً، والذي خرجاه في صحيحيهما روايتهما لها عن عبد الله بن عمر عن عمر مرفوعاً فجعلاها من مسند عمر لا من مسند ابنه هذا كلامه وهو اعتذار عجيب ووهم فاحش فإن هذا الحديث لم يروه الشيخان ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) البخاري مع الفتح (4/ 401) ح (2204). (¬3) البخاري مع الفتح (4/ 404) ح (2206).

من حديث ابن عمر عن أبيه أصلاً (¬1)، ولم يذكره (¬2) الحميدي أيضاً في "جمعه بين الصحيحين" من روايته، والحديث ثابت فيهما، من حديث سالم عن أبيه، وهو ابن عمر مرفوعاً بلفظ المصنف جميعه، ذكره مسلم هنا والبخاري في الباب السالف الذي عزيناه إليه، ثم رأيت في بعض نسخ البخاري عقب ذكره الحديث المذكور بكماله، وعن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر "في العبد" (¬3) انتهى، وقد ساقه [هو] (¬4) قبل [ذلك] (¬5) ومسلم الحديث عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً "في النخل" فقط فالله أعلم بحال هذه الزيادة (¬6) ولئن ثبت فلا يضرنا فإن الحديث قد أخرجاه من طريق ابن عمر كما أسلفناه فالاعتراض باقٍ على المصنف، وكأن ابن العطار توهم هذا بما ذكره شيخه النووي في "شرح مسلم" (¬7)، فإنه قال قوله ¬

_ (¬1) انظر أيضاً كلام الزركشي في النكت، مجلة الجامعة الإِسلامية، عدد (75، 76)، فإن الذي من حديث نافع عن ابن عمر خلاف هذا. انظر: الفتح (4/ 401)، ومسلم (3/ 1137). (¬2) انظر: مسلم (3/ 1137). (¬3) انظر: الفتح (5/ 49). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) في الأصل (دم)، وما أثبت من هـ. (¬6) قال في تعليق النكت للزركشي نقلاً عن ابن خضر: قال شيخنا -رحمه الله تعالى-: الزيادة ثابتة في رواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة. والزيادة عند أبي داود من طريق مالك بالسند المذكور في البيوع (3434) في باب: العبد يباع وله مال. قال المنذري: وأخرجه النسائي موقوفاً. (¬7) شرح مسلم (10/ 191).

-عليه الصلاة والسلام-: "ومن ابتاع عبداً فماله للذي باعه إلاَّ أن يشترطه المبتاع" هكذا روى هذا الكلام البخاري ومسلم من رواية سالم، عن أبيه، ابن عمر (¬1)، ولم تقع هذه الزيادة في حديث نافع، عن ابن عمر، ولا يضر ذلك، وسالم ثقة بل هو أجل من نافع فزيادته مقبولة، وقد أشار النسائي (¬2) والدارقطني إلى ترجيح رواية نافع، ¬

_ (¬1) قال في تعليق النكت للزركشي، نقلاً عن ابن خضر: قال شيخنا -رحمه الله-، أي ابن حجر: وقد وقع على الصواب في شرح العمدة للشيخ سراج الدين ابن الملقن، لأن في شرح مسلم عن عمر كما ساقه ابن العطار. انظر: النكت. أقول: وهكذا رجح ابن كثير في مسند الفاروق (1/ 344)، والبزار في مسنده (1/ 224)، لكن جاء في إسناد البزار وابن كثير عن عمر. وأيضاً في مسند عمر لابن النجاد (97). (¬2) جاءت الإِشارة في رواية نافع وقد وقع الاختلاف بين سالم ونافع في رفعها ووقفها, لا في إثباتها ونفيها، فسالم رفع الحديثين جميعاً، ونافع رفع حديث النخل عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووقف حديث العبد على ابن عمر، عن عمر، وقد رجح مسلم ما رجحه النسائي، ورجح البخاري رواية سالم في رفع الحديثين، ونقل ابن التين، عن الداوودي، وهو وهم من نافع، والصحيح ما رواه سالم في العبد والثمرة. قال ابن التين: لا أدري من أين أدخل الوهم على نافع مع إمكان أن يكون عمر قال ذلك -يعني على جهة الفتوى- مستنداً إلى ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فتصح الروايتان. قال الحافظ: قد نقل الترمذي في الجامع (3/ 538) عن البخاري تصحيح البخاري تصحيح الروايتين، ونقل عنه في العلل: (1/ 499، 500) ترجيح قول سالم (الفتح 5/ 52). =

وهذه إشارة مردودة (¬1) هذا كلامه وهو كلام صحيح [لا إعتراض] (¬2) عليه وليس به ذكر عمر أصلاً. الوجه الثاني: "النخل" اسم جنس والنخيل جمع وليس بجنس والنخل يذكر ويؤنث قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)} (¬3) وقال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} (¬4) وقد تسمى النخلة شجرة وفي الحديث: (ما شجرة لا يسقط ورقها) (¬5) ثم فسرت بالنخلة وأما النخل في قول الشاعر: رأيت بها قضيباً فوق دعص (¬6) ... عليه النخل أينع والكرُوم (¬7) ¬

_ = قال أبو داود في السنن (3/ 716): واختلف الزهري ونافع في أربعة أحاديث هذا أحدها. اهـ. وتبعه ابن عبد البر في التمهيد (13/ 282، 289)، وانظر كلام الدارقطني في العلل (2/ 50)، والبزار في مسنده (1/ 224)، ومسند الفاروق لابن كثير (1/ 344). (¬1) قال الحافظ ابن حجر -رحمنا الله واياه- في الفتح (5/ 51): أما نفي تخريجها فمردود فإنها ثابتة عند البخاري هنا من رواية ابن جريج، عن ابن مليكة، عن نافع لكن باختصار. اهـ. (¬2) في الأصل (الاعتراض)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) سورة القمر: آية 20. (¬4) سورة الحاقة: آية 7. (¬5) البخاري أطرافه (61). (¬6) في هامش الأصل: الدعص قطعة من الرمل مستدير. انظر: لسان العرب (4/ 354): والدعص قور من الرمل مجتمع. (¬7) الكَرْم نوع من الصياغة التي تصاغ في المخانق، وجمعه كُرُوم. اهـ، من لسان العرب (12/ 78).

فقالوا: هو ضرب من الحلى والكروم القلائد. [الوجه] (¬1) الثالث: معنى "أُبرت" تشققت، والتأبير: التلقيح وهو تشقيق الكمام عنه، ويقال: له الأبار سواء تشقق بحط شيء من ذكر طلع النخل فيها أم بنفسها لكن يسمى وضع الذكر فيها تلقيحاً قال أهل اللغة: أبرت النخل بتخفيف الباء الموحدة أُبره بضمها أبراً كأكلته أكلاً وأبرته بالتشديد أُوبرّه تأبيراً كعلمته أعلمه تعليماً. ويقال: المخفف نخلة مأْبُورة ومن المشدد مُؤَبّرة. والأبَار: في غير النخل عقد ثمره وثبات ما يثبت وسقوط ما يسقط من نوره (¬2). واختلف أصحاب مالك في الزرع هل أباره الظهور من الأرض أو الأفراك. تذنيب: جميع النخل لا يؤبر، بل يؤبر بعضه، ويتشقق بإتيان ريح الفحول إليه، الذي يحصل به تشقيق الطلع. الرابع: دل الحديث (¬3) بمنطوقه على أنه إذا باع الشجرة بعد التأبير فالثمرة للبائع ومفهومه وهو مفهوم الشرط أن ما لم يؤبر للمشترى ودل الاستثناء أنها تكون للمشتري عند اشتراطها له وإن تأبرت بأن يقول اشتريت النخلة بثمرتها هذه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) انظر: الاستذكار (19/ 82) شرح مسلم (10/ 190). (¬3) انظر: أقوال العلماء مبسوطة في الاستذكار (19/ 83، 85).

وخالف أبو حنيفة فقال: تبقى الثمار للبائع أُبرت أو لم تؤبر وبالأول قال الشافعي ومالك والليث والأكثرون. وقال الشافعي: والأكثرون أيضاً إذا باعها قبل التأبير وشرط ثمرتها لنفسه جاز. وخالف مالك في هذا، وقال: في أشهر قوليه يالمنع ومقابل قول أبي حنيفة قول ابن أبي ليلى أنها للمشترى قبل التأبير وبعده فأما الأكثرون فأخذوا في المؤبرة بمنطوق الحديث وفي غيرها بمفهومه وهو دليل الخطاب وهو حجة عندهم. وأما أبو حنيفة: فأخذ بمنطوقه في المؤبرة وهو لا يقول بدليل الخطاب فألحق غير المؤبرة بالمؤبرة. واعترض عليه: بأن الظاهر يخالف المستتر في حكم التبعية كما أن الجنين يتبع الأم في البيع ولا يتبعها الولد المنفصل. وأما ابن أبي ليلى: فقوله مخالف لصريح السنة ولعله لم يبلغه الحديث. قال القرطبي (¬1): والقول بدليل الخطاب (¬2) في مثل هذا ظاهر ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2727). (¬2) دليل الخطاب: هو مفهوم المخالفة وهو الذي يطلق البعض عليه اسم المفهوم في الأكثر، وهو: إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. وهو حجة عند مالك والشافعي خلافاً لأبي حنيفة وكل مفهوم فله منطوق، ولا خلاف أن المنطوق حجة، لأنه الذي وضع له اللفظ، مثال ذلك: "إنما الولاء لمن أعتق"، فمنطوق هذا اللفظ إثبات الولاء لمن =

لأنه لو كان غير المؤبر حكم المؤبر لكان تقييده بالشرط لغواً لا فائدة له ثم قال: فإن قلت: فائدته التنبيه بالأعلى على الأدنى قيل له [ليس] (¬1) هذا بصحيح لغةً ولا عرفاً ومن جعل هذا بمنزلة قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬2) تعين أن يقال لفهمه أف، وتف. فرع: لو اشترى النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشترى الأصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور مذهب مالك. ويرى لها حكم التبعية وبداية جمهور الشافعية والنووي وأهل الظاهر وفقهاء الحديث لإِطلاق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. الخامس: يؤخذ من الحديث جواز أبار النخل وكذا غيره من الثمار وهو إجماع لأنه في معناه. السادس: حقيقة التأبير إنما هو للكل وقد أجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع إذا كان في بستان واحد واتحد النوع وباعها صفقة واحدة وجعل ذلك كالنخلة الواحدة فلو اختلف النوع فوجهان لأصحابنا. ¬

_ = أعتق، ومفهومه نفي الولاء عمن لم يعتق وهو عشرة أنواع: مفهوم العلة، الصفة، -وبينهما فرق-، الشرط، الاستثناء، الغاية، الحصر، الزمان، المكان، العدد، اللقب. اهـ. من تقريب الوصول (169، 173). باختصار. (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) سورة الإِسراء: آية 23.

أصحها: أن الثمر يبقى للبائع دفعا للضرر وسوء المشاركة. وقال: ابن خيران (¬1) غير المؤبر للمشترى والمؤبر للبائع. وعند المالكية: أنه إذا أُبر البعض دون البعض فإن كانا متساويين فلكل واحد منهم حكم نفسه وإن كان أحدهما أكثر من الآخر فقيل الحكم كذلك وقيل: [الأقل] (¬2) يتبع الأكثر حكاه المازري (¬3) قال: ولو كان المبيع أرضاً يزرعها ولم يظهر فقولان. أحدهما: للمشتري كالتمر إذا لم يؤبر. والثاني: للبائع لأنه من الجنس الذي لا يتأبر ولا يتكرر فأشبه ما دفن في الأرض. ولما حكى القاضي ما قدمناه عن المازري في أن الأقل هل يتبع الأكثر أم لا؟ قال: هذا، إذا كان الأبار مميزاً فإن كان مختلطاً لا يتميز فأقوال: أحدها: لا يجوز البيع حتى تكون كلها للمشتري. وثانيها: لا يجوز حتى تكون كلها للبائع. وثالثها: أنه يفسخ البيع، قال: والحديث إنما يدل على بيعها إلاَّ إذا أُبرت كلها فلا يلحق به غيره إلاَّ بدليل. السابع: قد يؤخذ من الحديث أنه إذا باع ما لم يؤبر مفرداً ¬

_ (¬1) هو الحسين بن صالح بن خيران أبو علي البغدادي. مات سنة عشرين وثلاثمائة. انظر: تاريخ بغداد (8/ 53) وفيات الأعيان (1/ 400) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 92). (¬2) في الأصل (أكل)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 267)، مع اختلاف في بعض الكلمات.

بالعقد بعد تأبير غيره من البستان أنه يكون للمشترى لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر فيقتضي مفهوم الحديث أنه ليس للبائع وهو أصح الوجهين عندنا لأنه بإِفراده بالبيع انقطع عن حكم التبعية. الثامن: أدخل من هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين والأصح ههنا إفراد كل بستان بحكمه لأن لاختلاف البقاع أثراً في وقت التأبير، ولأنه لا يلزم منه ما لم يلزم في البستان الواحد من سوء المشاركة. التاسع: يؤخذ من الحديث أيضاً أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد جائز. العاشر: يؤخذ منه أيضاً جواز بيع النخيل المؤبر بعد التأبير وقبله وهل تدخل الثمرة فيها عند الإِطلاق من غير تعرض للثمرة بنفي ولا إثبات فيه ما قدمناه من المذاهب. الحادي عشر: يؤخذ منه [أيضاً]، (¬1) جواز بيع العبد وما في معناه. الثاني عشر: يؤخذ منه أيضاً أن العبد إذا ملّكه السيد مالاً ملكه وهو قول [مالك والشافعي] (¬2) في القديم لإِضافة المال إليه باللام وهي ظاهرة في الملك لكنه إذا باعه بعد ذلك كان ماله للبائع إلاَّ أن يشترطه المشترى بظاهر الحديث. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل (الشافعي ومالك)، وما أثبت من ن هـ.

وقال الشافعي: في الجديد وأبو حنيفة لا يملك العبد شيئاً أصلاً قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} (¬1) وكما لا يملك بالإِرث ولأنه مملوك فأشبه البهيمة وتأولا الحديث على أن يكون في يد العبد شيء من مال السيد فأضيف ذلك المال إلى العبد للاختصاص والانتفاع لا للملك كما يقال "جل الدابة" "وسرج الفرس" قالا فإذا باع السيد العبد فذلك المال للبائع إلاَّ أن يشترطه المبتاع فيصح لأنه يكون باع شيئين العبد والمال الذي في يده بثمن واحد وذلك جائز، قالا: ويشترط الاحتراز من الربا. قال الشافعي: فإن كان المال دراهم لم يجز بيع العبد وملك الدراهم بدراهم وكذا إن كان دنانير. وقال مالك: يجوز أن يشترطه المشترى وإن كان دراهم والثمن دراهم وكذا في جميع الصور لإِطلاق الحديث، وكأنه لا حصة للمال من الثمن. وقال الباجي (¬2): من المالكية لا يجوز اشتراط مال العبد إلاَّ بثلاث شروط: أن يشترط جميعه في نفس العقد للعبد، لا لنفسه، فإن شرط بعضه، أو كله بعد العقد, أو شرطه لنفسه، فقولان: في كل مسئلة. وقال المازري (¬3): زوال ملك السيد عن عبده على أربعة أوجه: ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 75. (¬2) المنتقى (4/ 170). (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 267).

أحدها: بعقد معاوضة كالبيع , والنكاح، والمال في ذلك للسيد إلاَّ أن [يشترطه المبتاع] (¬1) خلافاً للحسن البصري والزهري في قولهما (¬2): يتبع المال العبد في البيع والحديث يرد عليهما. الثاني: أن يزول بالعتق وما في معناه من العقود التي يقتضي العتق سقوط النفقة كالكتابة، فالمال للعبد إلاَّ أن يشرطه السيد، خلافاً لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إنه للسيد في العتق (¬3). ثالثها (¬4): أن يزول ملكه بالصدقة والهبة، وفيهما قولان: عندهم، لأن فيها شبهاً من العتق الذي يتبع فيه المال ومن البيع الذي لا يتبع، قال القرطبي في "مفهمه" (¬5): والأرجح إلحاقها بالبيع، وقطعها عن العتق، لاختصاصه بمعنى لا يوجد في غيره، واختلف قول مالك في الوصية به. ¬

_ (¬1) في المعلم: يُشْتَرط عليه. (¬2) في المعلم: إن المال. (¬3) قال في المعلم بعده: ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أعتق عبداً وله مال فماله له إلاَّ أن يشترطه السيد" فنحن نعيد الضمير في قوله: "له" على العبد لأنه المذكور نطقاً. وإنما ذكر السيد بكناية عنه ترجع إليه عند قوله: "من أعتق" فلا بد أن يضمر عقيب قوله: "أعتق" عاتدٌ يعود إلى "السيد" بحكم مقتضى لفظه: "مَن" وعَوْد الضمير والكناية على الصريح أولى من عوده على الكناية والإِضمار، ولأن الكناية يملك بها ماله وهي سبب العتق فنفس العتق أولى. اهـ. (¬4) العبارة في المعلم تخالف سياق المؤلف لها (2/ 268). (¬5) المفهم (5/ 2729).

رابعها (¬1): إذا سلمه في الجناية هل يسلمه بماله قولان عندهم لأن المال يتبع الرقبة وينتقل بانتقالها. فائدة: نحوية أسلفنا آنفاً أن اللام، للملك، وللأختصاص، والملك: قد يكون حقيقة نحو "الدار لزيد" ومجازاً نحواً "أباً لك" وفرق القرافي بين الملك والاستحقاق والاختصاص. فقال: المال [إن] (¬2) أضيف إلى من يعقل كانت اللام للملك وإلاَّ فإن شهدت العادة له به فللاستحقاق كالسرج للدابة وإن لم تشهد به بل كانت ثبتت بشهادة العادة وغيرها فهو للاختصاص بالملك، والاختصاص بالملك، أخص من الاستحقاق، والاستحقاق أخص من الاختصاص. قلت: وللام معان أُخر (¬3). أحدها: التخصيص نحو: هذا ابن لزيد. ثانيها: التعليل نحو: شربت لأروى، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬4). ثالثها: التوكيد نحو "لزيد قائم". ¬

_ (¬1) قال في المعلم: الوجه الثالث: الجناية فالمال فيها يتبع الرقبة وينتقل بانتقالها. اهـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) انظر: بسط معانيها وأقسامها في كتاب رصف المباني في حروف الصعاني للمالقي (218، 257)، ومعاني الحروف للزجاج (40) وما بعدها. (¬4) سورة الإِسراء: آية 78.

رابعها: للعاقبة قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬1)، وقال: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬2). وقال الشاعر: له ملك ينادي كل يوم ... لدو للموت وابنوا للخراب (¬3) خامسها: للقسم نحو قولك: "لله لا تبقى أحد". سادسها: زائدة ولا تزاد إلاَّ مع مفعول به متعد إلى واحد وزيادتها ضربان. قياسيه: وهي أن تزاد مقوية لعامل ضعف بالتأخير نحو: {كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (¬4) أو بالفرعية نحو: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬5). وغير قياسيه: وهي في غير ذلك نحو: {رَدِفَ لَكُمْ} (¬6)، وقد أول على التضمين قالوا: وتأتي اللام أيضاً بمعنى عن قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا ...} (¬7) الآية، -أي عن الذين آمنوا-. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 179. (¬2) سورة القصص: آية 8. (¬3) البيت لأبي نواس وهو في ديوانه ص 200، وجاء نسبتها لأبي العتاهية كما في الأغاني (3/ 155)، ديوانه (23، 24). (¬4) سورة يوسف: آية 43. (¬5) سورة البروج: آية 16. (¬6) سورة النمل: آية 72. (¬7) سورة الأحقاف: آية 11.

الوجه الثالث عشر: يؤخذ من الحديث أيضاً أنه إذا باع عبداً أو جارية وعليها ثياب لا تدخل في البيع مطلقاً بل تكون للبائع إلاَّ أن يشترطها المبتاع لأنه مال في الجملة وهو أصح الأوجه للشافعية. والوجه الثاني: دخولها عملاً بالعرف، قال الرافعي: في "المحرر" وهو الأشبه وفي المسألة وجه ثالث: أنه يدخل ساتر العورة فقط لأن ستر العورة واجب [فما سترها] (¬1) تابع له. ... ¬

_ (¬1) في هـ (فيها يسترها).

الحديث الرابع والخامس

الحديث الرابع والخامس 286 - 287/ 4 - 5/ 54 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬1). وفي لفظ: "حتى يقبضه" (¬2) وعن ابن عباس: مثله (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2124)، ومسلم (1526)، وأبو داود في البيوع (3492) باب: بيع الطعام قبل أن يستوفى، وابن ماجه (2226)، ومالك (2/ 640)، والنسائي (7/ 285)، والدارمي (2/ 252)، وأحمد (2/ 63، 64)، والبغوي (2087)، والبيهقي (5/ 311)، والطحاوي (2/ 37)، والنسائي في الكبرى (4/ 35). (¬2) مسلم (1526)، وأحمد (2/ 111)، وأبو داود في البيوع (3495) باب: بيع الطعام قبل أن يستوفى، النسائي (7/ 286)، والبيهقي (5/ 314)، والنسائي في الكبرى (4/ 36). (¬3) البخاري أطرافه (2132)، ومسلم (1525)، والنسائي (7/ 285، 286)، وابن ماجه (2227)، وأبو داود في البيوع (3496، 3497) باب: بيع الطعام قبل أن يستوفي. الترمذي (1291)، وابن الجارود =

الكلام عليهما من وجوه: الأول: هذا الحديث من طريقيه ترجم عليه البخاري (¬1) "بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك" ثم ذكر حديث ابن عمر باللفظين المذكورين وذكر قبله حديث ابن عباس بلفظ أما الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع [حتى] (¬2) يقبضه، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلاَّ مثله. وذكر مسلم (¬3) حديث ابن عمر أيضاً باللفظين المذكورين وبلفظ ثالث "حتى يستوفيه ويقبضه" وبغير ذلك من الألفاظ وفي أخرى "حتى تكتاله". [وذكر حديث ابن عباس بلفظ "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس: أحسب كل شيء مثله. وفي رواية "فلا يبعه حتى يقبضه"] (¬4) وفي أخرى "حتى تكتاله". ¬

_ = (606)، والبغوي (2089)، وأحمد (2/ 356، 368)، والبيهقي (5/ 312، 313)، والطحاوي (2/ 39)، والطيالسي (2602)، وابن أبي شيبة (6/ 368، 369)، والنسائي في الكبرى (4/ 36). وقد ورد أيضاً من رواية جابر -رضي الله عنهما- عند مسلم (1529) أحمد (3/ 392) الببهقي (5/ 312) الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 38). (¬1) البخاري مع الفتح (4/ 349). (¬2) في الأصل ون هـ (قبل أن)، وما أثبت من البخاري. (¬3) صحيح مسلم (3/ 1160). (¬4) زيادة من ن هـ.

الثاني: "الطعام" أصله في اللغة ما يؤكل، قاله الجوهري (¬1)، قال: وربما خص بالبر كما في حديث أبي سعيد في الفطرة (¬2) أي السالف في بابه. الثالث: في فقه الحديث هو نص في منع بيع الطعام قبل قبضه بأن يشتريه من رجل ولم يقبضه ويبيعه، الآخر وخالف فيه، عثمان البتي (¬3) فقال: يجوز في كل مبيع. وقال أبو حنيفة: [لا] (¬4) يجوز في كل شيء إلاَّ العقار وما لا ينقل لتعذر الاستيفاء فيه ولم يذكر النووي والقشيري وما لا ينقل، ونقله عنه القرطبي (¬5) وغيره. ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (167). مادة: (ط ع م). (¬2) سبق تخريجه في الحديث الثاني، في باب: صدقة الفطر. (5/ 146) من هذا الكتاب المبارك. (¬3) هو أبو عمر عثمان البتي، بياع البتوت. انظر: طبقات ابن سعد (7/ 21)، وسير أعلام النبلاء (6/ 148). (¬4) زيادة من المحقق عفى الله عنه. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: إنما المهر، والجعل، وما يؤخذ من الخلع من الطعام، وغيره، فجائز أن يباع ما ملك بهذه الوجوه قبل القبض. قالا: والذي لا يباع قبل قبضه ما اشتري، أو استؤجر به، قالا: وكل ما ملك بالشراء، فلا يجوز بيعه قبل القبض إلاَّ العقار وحده. اهـ، من الاستذكار (19/ 259). (¬5) المفهم (5/ 2692).

وقال مالك (¬1): لا يجوز في الطعام، ويجوز فيما عداه وحمل الطعام على عمومه ربوياً كان أو غير ربوي في مشهور الروايتين عنه وألحق بالشراء جميع المعاوضات ووافقه كثيرون. وروى ابن وهب عن مالك: تخصيصه بما فيه الربا من الأطعمة. وقال آخرون (¬2): لا يجوز في المكيل والموزون ويجوز فيما سواه. وقال الشافعي (¬3): لا يصح مطلقاً طعاماً كان أو عقاراً أو منقولاً أو نقداً أو غير ذلك ووافقه ابن حبيب وسحنون فيما فيه حتى يستوفيه. ومذهب عثمان حكاه المازري (¬4) والقاضي ولم يحكه الأكثرون بل نقلوا الإِجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه. ¬

_ (¬1) لأنه جعل حديث حكيم بن حزام "إذا اشتريت شيئاً، فلا تبعه حتى نقبضه" مجملاً، يفسره قوله - صلى الله عليه وسلم - "من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه"، فخصه بالطعام دون ما عداه، انظر: الاستذكار (19/ 261، 262، 263). (¬2) وهذا رأي إسحاق بن راهويه وأبو عبيد، فقالا: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه. اهـ. الاستذكار (19/ 260). (¬3) انظر: الاستذكار (19/ 259): كل ما ملك بشراء، أو عوض من جميع الأشياء كلها عقاراً كان غير مأكولاً كان، أو مشروباً مكيلاً أو موزوناً، أو غير مكيل، ولا موزون، ولا مأكول، ولا مسروق فلا يجوز بيع شيء منه قبل القبض. اهـ. (¬4) المعلم بفوائد مسلم (2/ 251).

قالوا: إنما الخلاف فيما سواه وهو شاذ متروك ويعتذر عنه بأن هذه الأحاديث لم تبلغه. وحجة الشافعي الأحاديث الصحيحة فيه وقول ابن عباس السالف "وأحسب كل شيء فيه مثله" وصح أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى "عن ربح ما لم يضمن" (¬1) وهو عام في الطعام وغيره وخص الطعام في هذا الحديث لكثرة وقوع البيع فيه عندهم ولعموم الحاجة إليه. وفي "صحيح ابن حبان" (¬2)، أن حكيم بن حزام، قال: يا رسول الله إني رجل أشتري المتاع، فما الذي يحل لي منها وما يحرم عليّ، فقال: "يا ابن أخي إذا ابتعت بيعاً، فلا تبعه حتى تقبضه". وفي "صحيح الحاكم" (¬3) من حديث ابن عمر نهى ¬

_ (¬1) من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل بيع، وسلف، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". أخرجه أبو داود في البيوع (3504) باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده. (¬2) النسائي في الكبرى (4/ 36)، والنسائي (7/ 286، 289)، والترمذي (1232)، وابن ماجه (2187)، وأبو داود في البيوع (3503) باب: الرجل يبيع ما ليس عنده، وأحمد (3/ 402، 403، 434)، وابن الجارود (602)، والدارقطني (2/ 8، 9)، والطيالسي (1318)، والبيهقي (5/ 312)، وابن حبان (4983). (¬3) أبو داود (3499) في البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يستوفى البيهقي (5/ 314)، وأحمد (5/ 191) , والطبراني في الكبير. قال المنذري: =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". وحجة مالك: للمشهور عنه الوقوف مع ظاهر الأحاديث وعضده بما ذكره في "موطئه" (¬1) من أنه مجمع عليه بالمدينة وأنه لا خلاف عندهم في منعه وقصره على ما بيع بكيل أو وزن من الطعام تمسكاً بدليل خطاب الأحاديث السالفة. ثم اختلف أصحابه هل هذا المنع شرع غير معلل أو معلل بالعينه؟ وإليه أشار في "الموطأ" حيث أدخل هذا الحديث في بابها وهو الذي عنى ابن عباس حيث قال في الصحيح (¬2) "يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ" أي مؤخراً، وكأنهم قصدوا إلى أن يدفعوا ¬

_ = وفيه محمد بن إسحاق وقد تقدم الكلام عليه. اهـ. وحيث صرح محمد بن إسحاق بالتحديث فقد زالت علة التدليس. الطبراني في الكبير (4781)، وأيضاً وجود متابعة جرير بن حازم عنده (4782)، من رواية زيد بن ثابت. فقد ورد من رواية ابن عمر بلفظ "قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه". انظر: البخاري أطرافه (2123)، ومسلم (1527)، وأبو داود (3494) في البيوع. ابن ماجه (2229)، وابن الجارود (607)، وأحمد (2/ 142)، ومالك (2/ 641)، والنسائي (7/ 287)، والبيهقي (5/ 314)، والبغوي (3088). (¬1) الموطأ (2/ 642). الاستذكار. انظر: فقرات (19/ 1301، 1302) (28997). (¬2) البخاري أطرافه (2132)، ومسلم (1526) (31).

ذهباً في أكثر منه، والطعام محلّل، وفي البخاري عنه "دراهم بدراهم والطعام مرجأ" (¬1). قال المازري (¬2): وقد [تردد] (¬3) بعض أصحابنا في الطعام إذا أمن فيه من العينه التي هي سبب للمنع على ما قال ابن عباس: هل يمنع بيعه قبل قبضه لظاهر الخبر أو يسهّل فيه؟ قال: ورأيته يميل للتسهيل في مقتضى كلامه إذا وقع البيع فيه بالنقد، وما أظن عثمان البتي سلك في مقالته السالفة إلاَّ هذه الطريقة. الرابع: ظاهر الحديث ونصه يقتضي اختصاص المنع بأن يكون الطعام مملوكاً بالبيع دون الهبة والصدقة والقرض ونحو ذلك. والأصح عند الشافعية: أن الإِجارة والرهن والهبة كالبيع. واستثنوا من ذلك: الإِعتاق والتزويج والاستيلاد والوقف دون الكتابة على الأصح وفي الصدقة اضطراب لمتأخريهم. واستثنوا أيضاً: ما إذا ملكه بإرث وكان الموروث يملك التصرف فيه أو وصية أو عاد إليه بفسخ عقد وغير ذلك من المسائل التي محلها كتب الفروع. وفي "اللطيف" لابن خيران (¬4) جواز قضاء الدين به أيضاً. وعند المالكية: أن الإِجارة كالبيع لأنها بيع منافع في الحقيقة ¬

_ (¬1) البخاري (2132). (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 252). (¬3) في المرجع السابق (تَرَجَّح)، وفي ن هـ (ترد). (¬4) سبقت ترجمته.

وكذا النكاح لأن المرأة مبتاعة له بمنافع بضعها وكذا من ملك طعاماً بإرش جناية أو مصالحة عن دم أو قضاء دين فإنه لا يجوز له بيعه قبل قبضه لأن حقيقة البيع انتقال الملك بعوض بخلاف القرض فإنه يجوز عندهم بيعه قبل قبضه لأن حقيقة البيع انتقال الملك بعوض بخلاف القرض ليس بيعاً وكذا من وهب له طعام أو تصدق به عليه. ولا يجوز عند الشافعية: التولية، والشركة، قبل القبض وأجازهما مالك: مع الإِقالة، لأنها عقود المقصود بها المعروف والرفق فأشبهت القرض عنده ولا شك أن التولية والشركة بيع فيدخلان تحت الحديث وفي كون الإِقالة بيعاً خلاف فمن لا يراها بيعاً لا يدرجها تحت الحديث. واستثنى مالك: ذلك على خلاف القياس لما تقدم وقد ذكر أصحابه في ذلك حديثاً يقتضي الرخصة فيها كذا ذكره الشيخ تقي الدين (¬1) عن أصحابه ولم يبين الحديث وهو حديث مرسل عن سعيد بن المسيب من حديث ذكره كأنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا بأس بالتولية والإِقالة والشركة في الطعام قبل أن يستوفى" ذكره أبو داود (¬2) وقال: هذا قول أهل المدينة وآخر مثله عن عبد الرزاق، عن ابن خديج، قال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً مستفاضاً بالمدينة قال: "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه إلاَّ أن يشرك فيه، أو يوليه، أو يقيله" (¬3). ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 82). (¬2) أبو داود في المراسيل (145). (¬3) المصنف لعبد الرزاق (8/ 49).

وألزم القرطبي (¬1) الشافعي وأبا حنيفة القول بهما , وقال: هما مرسلان صحيحان مشهوران وقد نص الشافعي على أنه يعمل بمراسيل سعيد بن المسيب وأبو حنيفة على العمل بالمرسل مطلقاً، قال: وقد خالفا في التولية والشركة ووافقا في الإِقالة. فرع: اختلف العلماء في الورقة التي تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه بأن يكتب فيها لإِنسان كذا وكذا من الطعام أو غيره فيبيع ذلك لإِنسان قبل أن يقبضه ويسمى بيع الصك قبل قبضه ولا يصح عند أصحابنا (¬2). وغيرهم: الجواز. والثاني: المنع لنهي أبي هريرة عنها في "صحيح مسلم" (¬3). والأول: أوّله على أن المشتري ممن خرج له الصك باعه لثالث قبل أن يقبضه المشتري فكأن النهي عن البيع الثاني لا عن الأول لأن الأول مالك وليس بمشتر فأشبه بيع ما ورثه قبل قبضه. خاتمة: حكم الجزاف حكم المقدر من الطعام في المنع من بيعه قبل قبضه وقبضه نقله وبه قال الكوفيون والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود والأحاديث شاهدة لهم به. ¬

_ (¬1) المفهم (4/ 379). (¬2) انظر: شرح السنة للبغوي (8/ 142)، ومعرفة السنن والآثار (8/ 111)، والسنن الكبرى للبيهقي (5/ 312)، والاستذكار (19/ 265). (¬3) مسلم (1528) (40) الموطأ والناهي زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/ 641). وانظر أيضاً: كتاب السنة للبغوي (8/ 142)، ومصنف عبد الرزاق (8/ 28)، والاستذكار (19/ 265، 267).

وخالف مالك: فحملها على الأولى وأنه لو باع الجزاف قبل نقله جاز لأنه بنفس تمام العقد والتخلية بينه وبين المشتري صار في ضمانه وإليه صار سعيد بن المسيب والحسن وجماعة. تنبيه: منع بيع المبيع قبل قبضه، قيل: معلل بضعف الملك بدليل انفساخه بالتلف فلا يستفيد به ولاية التصرف. وقيل: معلل بتوالي ضمانين على شيء واحد يعني اجتماعهما عليه وإستبعد الرافعي التعليلين وجعل الاعتماد على الأخبار. تذنيب: القبض ورد في الحديث مطلقاً وهو محمول على العرف فقبض كل شيء بحسبه كما بيناه في كتب الفروع وهذا كما في الإِحياء، والحرز. فإنهما محمولان على العرف أيضاً. ***

الحديث السادس

الحديث السادس 288/ 6/ 54 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا هو حرام" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عند ذلك (قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها، جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه" (¬1) جملوه: [أي] (¬2) أذابوه. (¬3) [الكلام عليه من وجوه: الأول: "العام" اسم للسنَّة سميت بذلك لأن الشمس والقمر ¬

_ (¬1) البخاري في أطرافه (2236)، ومسلم (1581)، وأبو داود في البيوع (3487)، باب: في ثمن الخمر والميتة، والترمذي (1297)، والنسائي (7/ 309، 310)، وابن ماجه (2167)، وابن الجارود (578)، وأحمد (3/ 326)، والبغوي في تقسيمه (2/ 139)، والبيهقي (5/ 354). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) من هنا بداية سقط في هـ، وينتهي في بداية الوجه الثالث من حديث عمر -رضي الله عنه- في الوقف ص 434.

والليل والنهار يعوم فيها في الفلك ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} (¬1) وهو مصدر عام يعوم عوماً وعاما وعاومت النخلة إذا حملت سنة ولم تحمل أخرى (¬2). "والفتح" هو فتح مكة وكان في عشرين رمضان في السنة الثانية من الهجرة كما سلف في باب حرمة مكة وإنما قيده "بعام الفتح" تنبيها على ما كانوا يعتمدونه في الأحكام من الأخذ بالآخر فلآخر منها. الثاني: قوله "إن الله ورسوله حرم" كذا الرواية "حرّم" مسند إلى ضمير الواحد. وكأن أصله: حَرَّما. لأنه تقدم اثنان، لكن تأدب - صلى الله عليه وسلم -، فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين، لأن هذا من نوع [مارد] (¬3) على الخطيب الذي قال: "ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: بئس الخطيب أنت. قل: ومن يعص الله ورسوله" (¬4) ¬

_ (¬1) سورة يس: آية 40. (¬2) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/ 252). (¬3) في الأصل (ما ورد)، وبه لا يستقيم الكلام. (¬4) أحمد (4/ 379)، ومسلم (870) في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، وأبو داود في الصلاة، باب: الرجل يخطب على قوس (1099)، وفي الأدب، باب: [85]، والنسائي (1/ 90)، والحاكم (1/ 289)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/ 296). قال النووي -رحمنا الله وإياه- في معنى هذا في شرح مسلم (6/ 159): (قوله: (إن رجلاً خطب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بئس =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"). قال القاضي وجماعة من العلماء: إنما أنكر عليه لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيماً لله تعالى بتقديم اسمه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: "لا يقل أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان"، والصواب أن سبب النهي أن الخطب شأنها البسط والإِيضاح واجتناب الإِشارات والرموز ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ليفهم. وأما قول الأوليين فيضعف بأشياء، منها: أن مثل هذا الضمير قد تكرر في الأحاديث الصحيحة من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" وغيره من الأحاديث، وإنما ثنى الضمير ههنا لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم، فكلما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف خطبة الوعظ، فإنه ليس المراد حفظه وإنما يراد الاتعاظ بها. ومما يؤيد هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: "الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلاَّ نفسه ولا يضر الله شيئاً". والله أعلم. وقال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (7/ 468) على قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله ورسوله ينهيانكم": في رواية سفيان "ينهاكم" بالإِفراد وفي رواية عبد الوهاب بالتثنيه، وهو دال على جواز جمع اسم الله مع غيره في ضمير واحد، فيرد به على من زعم أن قوله للخطيب: "بئس خطيب القوم أنت"، لكونه قال: "ومن يعصهما فقد غوى". قال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمنا الله وإياه- في تيسير العزيز =

وصار هذا مثل قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (¬1) نبه عليه القرطبي في "مفهمه" (¬2) وقال غيره هو من وادي قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (¬3) ومذهب سيبويه فيه وهو المختار أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها تقديره عنده والله أحق أن ترضوه ورسوله أحق أن ترضوه فالهاء في ترضوه تعود على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال المبرد: لا حذف في الكلام ولكن فيه تقديم وتأخير تقديره: والله أحق أن ترضوه ورسوله، فالهاء على هذا تعود ¬

_ = الحميد (420): على قوله "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما": فيه جمع ضمير الرب سبحانه، وضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد أنكره على الخطيب، لما قال: ومن يعصهما، فقد غوى. وأحسن ما قيل فيه، قولان: أحدهما: ما قاله البيضاوي وغيره، أنه ثنى الضمير هنا؛ إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب إلى المحبتين، لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإِفراد في حديث الخطيب، إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. قلت: وهذا جواب بليغ جداً. الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب، والأولى، وهذا على الجواز. وجواب ثالث: وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل، فيكون أرجح. اهـ. وانظر أيضاً: كلام صديق جنس خان في كتابه: السراج الوهاج من كشف طالب صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 261). (¬1) سورة التوبة: آية 3. (¬2) المفهم (4/ 461). (¬3) سورة التوبة: آية 62.

على الله تعالى جل ذكره، وقال الفراء (¬1): المعنى: ورسوله أحق أن ترضوه والله افتتاح كلام وهو بعيد وألزم المبرد أن يجيز ما شاء الله وشئت بالواو ولأنه يجعل الكلام ملة واحدة وقد نهى عن ذلك [الأثيم] (¬2) ولا يلزم ذلك سيبويه لجعله الكلام جملتين. وقيل: أحق أن ترضوه خبر عن الاسمين لأن الرسول تابع لأمر الله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (¬3) {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ} (¬4) وقيل: "إفراد الضمير وهو في موضع التثنية". الثالث: "الخمر" هو الشراب المعروف وهي مؤنثة على اللغة الفصحى المشهورة وذكر أبو حاتم السجستاني (¬5) في كتابه " [المذكر] (¬6) والمؤنث" في موضعين منه أن قوماً فصحاء يذكرونها ¬

_ (¬1) معاني القرآن للفراء (1/ 445). (¬2) هكذا في الأصل، ولعلها (الخطيب) كما يتضح من السياق. (¬3) سورة الفتح: آية 10. (¬4) سورة النساء: آية 80. (¬5) هو أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، توفي في رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. انظر: مراتب النحويين (130، 132)، وأخبار النحويين البصريين (93، 96)، وتاريخ العلماء النحوين (73، 74). (¬6) في الأصل (المذكور)، وما أثبت من تاريخ العلماء النحويين (81، 82)، لالك هذه الحكاية منه رزقنا الله وإياك العلم النافع والعمل الصالح. وحدَّث سَهْلُ بن محمد، قال: كنتُ أنا والتَّوَّزِيّ عندَ أبي الحسن الأخْفَشِ، فقال لي التَّوَّزِيّ: ما صَنَعْتَ في كتاب "المُذكَّر والمُؤنَّث"؟ قلتُ: قد جمعتُ منه شيئاً. قال: فما تقولُ في الفِرْدَوْس؟ قلتُ: مُذكَّر. قال: فإنَّ الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}. =

قال سمعت ذلك ممن أثق به وذكرها ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (¬1) ما جاء فيه لغتان التذكير والتأنيث ولا يقال خمره بالهاء في اللغة الفصيحة وقد تكرر استعمالها بالهاء في "الوسيط" وهي لغة قليلة فلا إنكار عليه وفي "المقدمات" أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (الشيطان يحب الخمرة) وكذا هو في الرواية بالهاء وكذا ذكر هذه اللغة الجوهري (¬2) وغيره، قال الجوهري خمرة، وخمر، وخمور، كتمرة وتمر، وتمور، وقال ابن مالك (¬3): في مثلث الخمرة الخمر، ولماذا سميت بذلك؟ أقوال: أحدها: لسترها العقل وأصل هذا الحرف التغطية. ثانيها: لأنها تغطى حتى يدرك. ثالثها: لأنها تخامر العقل أي تخالطه قاله ابن الأنباري (¬4) ومنه سمي الخمار لأنه يغطي الرأس. ¬

_ = قلتُ: ذَهَب إلى مَعْنَى الجَنَّة، كما قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، فأَنَّثَ الْمِثْلَ. وكما قال الشاعر: وإنَّ كِلاباً هذه عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وأنتَ بَرِىءٌ مَن قَبائِلِهَا الْعَشْرِ فقال لي: يا عاقل، أليسَ الناسُ يقولون: نسألُك الفِرْدَوْسَ الأعْلَى؟ فقلتُ: يا نائِم، هذه الحُجَّةُ حُجَّتِي، لأنَّ الأعْلَى مِن صِفَاتِ المُذكَّرِ، ولو كان مُؤَنَّثاً لقِيل، العُلْيَا. (¬1) أدب الكاتب (225، 226)، ط. محمد محيي الدين عبد الحميد. (¬2) مختار الصحاح (85). (¬3) وانظر أيضاً: المثلث لابن السيد البطليوسي (1/ 503، 509). (¬4) الزاهر (1/ 436).

رابعها: لأنها تركت فاختمرت واختمارها تغيرها قاله ابن الأعرابي. ولها عدة أسماء ذكر ابن بري (¬1): منها نحو المائة، وابن المعتز مائة وعشرة. وزاد عليه أبو القاسم علي بن جعفر اللغوي مائتين وأربعين اسماً وتوسط ابن دحية فبلغها في كتابه "تنبيه البصائر في أسماء أم الكبائر" إلى مائة وتسعين وقد ذكرتها ملخصة في "لغات المنهاج" فمن أراده راجعه منها. الرابع: "الميتة" بفتح الميم ما زالت عنه الحياة لا بذكاة شرعية وبالكسر الهيئة يقال: مات فلان مَيْوَتة حسنة والأصل في موته المفتوحة الميم مَوْتَة فلما اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فبقيت ميتة بالتشديد ثم خففت بحذف إحدى اليائين كما فعلوا ذلك في هبن ولبن وشبههما فهي تكتب سواء ووصل ابن درستويه أسماء الموت إلى مائة وعشرة اسماً وزاد عليه أبو القاسم علي بن جعفر اللغوي ثلاثمائة وخمسين اسماً. الخامس: "لخنزير" بكسر الخاء معروف، قال ابن الأثير في كتابه "المرصع في الآباء والأمهات" هو أبو جهيم، وأبو زرعة، وأبو دلف، وأبو عقبة، وأبو علبة، وأبو قادم. ¬

_ (¬1) هو جمال العلماء وتاج الأدباء، أبو محمد عبد الله بن بري له مؤلفات منها "حواشي على الصحاح" و"حواشي على درة الغواص" مات في شوال سنة (582)، وكانت ولادته في الخامس من شهر رجب سنة (599) ترجمته في بغية الوعاة (2/ 34)، ووفيات الأعيان (3/ 108).

قال أبو البقاء في "إعرابه" (¬1) النون: في خنزير أصل وهو على مثال غربيب، قال: وقيل زائدة. قلت: ولم يذكر الجوهري غيره وقال اللبلي: وزنه فعليل ويحتمل أن تكون النون زائدة لأنها قد يزاد ما فيه فيكون وزنه فعليلا، قال عبد الحق: واشتقاقه من الخزر وهو النظر بمؤخر العين وكل خنزير أخزر. السادس: "الأصنام" جمع صنم وهو الوثن أيضاً كما قاله الجوهري (¬2). وقال غيره: الوثن: ما كان غير مصور. وقيل: ما كان له جثة من خشب، أو حجر، أو فضة، أو جوهر، أو غيره سواء المصور أو غيره. والصنم: صورة بلا جثة (¬3). "والسفن": واحدها سفينة، قال ابن دريد: هي فعلية بمعنى فاعلة لأنها تسفن الماء أي تقشره (¬4). السابع: الحديث دال على تحريم بيع الخمر وهو إجماع كما ¬

_ (¬1) إملاء ما منَّ به الرحمن عن وجوه الإِعراب والقراءات في جميع القرآن. للعكبري (1/ 319). (¬2) انظر: مختار الصحاح (158). (¬3) انظر: قصد السبيل (2/ 234). (¬4) انظر: لسان العرب (6/ 286).

نقله ابن المنذر وغيره وذلك إما لنجاستها كما سيأتي وإما أنه ليس فيها منفعة مباحة مقصودة أو للمبالغة في التنفير عنها وقول بعض أصحابنا في الخمرة المحترمة إنها طاهرة ويجوز بيعها شاذ، وأقوى في الشذوذ منه القول بجواز بيعها مع نجاستها حكاه ابن الرفعة وكذا قول بعضهم بجواز بيع العنقود المستحيل باطنه خمراً كل ذلك لا يلتفت مع هذا الإِجماع. وفيه دلالة على تحريم شربها وهو إجماع أيضاً وقد لعن - صلى الله عليه وسلم - عشرة بسببها (¬1) وقال: (من شربها لم تقبل له صلاة أربعين ¬

_ (¬1) ولفظه من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله الخمر، ولعن شاربها، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها"، وفي لفظ "لعنت الخمر على عشرة وجوه: لعنت الخمر بعينها ... إلخ". أخرجه أحمد (2/ 25، 71، 97)، وأبو داود في الأشربة (3674) باب: العنب يعصر للخمر، وابن ماجه (3380)، والبيهقي (8/ 287)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4/ 144)، والنسائي في الكبرى ()، وصححه أحمد شاكر في المسند (7/ 12، 206) (8/ 80)، وطرقه كثيرة في المسند. وصححه الألباني في إرواء الغليل (1529، 2385)، وله شواهد من حديث أنس وابن عباس. أما رواية ابن عباس. فأخرجها أحمد (1/ 316)، والطبراني في الكبير (12976)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4/ 145). أما رواية أنس فهي عند ابن ماجه (3381)، والترمذي (1295). قال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 180): رواته ثقات، وأيضاً الحافظ في التلخيص (4/ 73).

صباحاً) (¬1) "ومن شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة" (¬2) "ومن شربها في الدنيا ولم يتب منها سقاه الله من طينة الخبال وهي صديد ¬

_ (¬1) ولفظه عن ابن عمر -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب خمراً فسكر، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن مات منها دخل النار". أخرجه البغوي مطولاً (11/ 357)، والطيالسي (1/ 339)، وأحمد (2/ 35)، وحسنه أحمد شاكر في المسند (7/ 60)، الترمذي (1863) وقال: "هذا حديث حسن. وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". في النسائي (8/ 316)، وعبد الرزاق في المصنف. وله شاهد من رواية عبد الله بن عمرو مطولاً عند أحمد (2/ 189، 176، 197)، وابن ماجه (3377)، والنسائي (8/ 314، 317)، والدارمي (2/ 111)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (4/ 145، 146)، البزار (3/ 357) وقال: رواه النسائي وابن ماجه خلا قوله "لم يتب الله عليه"، وابن أبي شيبة (8/ 200) موقوفاً، وصححه أحمد شاكر في المسند (6644، 6659، 6773) فإنه قد أطال الكلام عليه فراجعه. وله شاهد آخر من رواية عياض بن غنم عند أبي يعلى (12/ 206) وذكره في مجمع الزوائد (5/ 70) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني، وفيه المثنى بن الصباح وهو متروك، وقد وثقه أبو محصن حصين بن نمير، والجمهور على ضعفه. اهـ. (¬2) البخاري (5575)، ومسلم (2003)، وأبو داود في الأشربة (3679) باب: النهي عن المسكر البغوي (3013)، والترمذي (1861)، والنسائي (8/ 296، 297)، والدارقطني (4/ 248)، ومالك (2/ 746) علماً أن هذه الأحاديث يدخل بعضها في بعض ولكون المؤلف لم يسقها نصاً خرجتها لإِطلاع القارىء على مواضعها.

أهل النار وعصارتهم" وورد "أن مد منها كعابد وثن" (¬1). فرع: انفرد أبو حنيفة فقال: يجوز أن يوكل المسلم ذمياً في بيع الخمر وشرائه حكاه النووي في "شرح المهذب" ثم قال: وهو فاسد منابذ للأحاديث الصحيحة في النهي عن بيعها وانفرد أيضاً بقوله: إنه لا يحرم على أهل الذمة بيعها والمسئلة مبنية على خطاب الكافر بالفروع. الثامن: الحديث دال أيضاً على تحريم بيع الميتة وهو إجماع أيضاً كما نقله ابن المنذر وغيره وأخذ من تحريم بيعها نجاستها وكذا أخذ من تحريم بيع الخمر والخنزير نجاستهما وعدو العلة فيها بالنجاسة إلى تحريم بيع كل نجس فإن الانتفاع بها لم يعدم. أما الميتة: فإنه ينتفع بها في إطعام الجوارح، وأكل المضطرين إذا أشرفوا على الهلاك. ¬

_ (¬1) ولفظه من حديث ابن عباس "من لقي الله مدمن خمر، لقيه كعابد وثن". انظر: أحمد (1/ 272)، والبزار (2934)، والطبراني في الكبير (12428)، وعبد الرزاق (17070)، وأورده ابن أبي حاتم في العلل (2/ 26)، وضعفه أيضاً أحمد شاكر في المسند (4/ 150)، وذكره في مجمع الزوائد (5/ 74) وقال: "رواه أحمد، والبزار، والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، إلاَّ أنَّ ابن المنكدر، قال: حدثت عن ابن عباس". اهـ. وله شاهد من رواية أبي هريرة عند ابن أبي شيبة (8/ 193، 119)، وابن ماجه (3375)، وقال البخاري في التاريخ (1/ 129): ولا يصح حديث أبي هريرة في هذا. اهـ.

وأما الخمر: فينتفع بها وجوباً في الغاص بلقمة، إذا لم يجد غيرها. وغير ذلك. وقد نقل ابن المنذر الإِجماع على نجاسة الخنزير لكن مذهب مالك طهارته وحكى الماوردي عن داود طهارة شحمه لأن الله تعالى إنما حرم لحمه اقتصاراً على النص وهو عجيب (¬1) فإن الشحم مع اللحم. وانفرد مالك بطهارة الكلب وأنه يغسل من ولوغه تعبداً كما أسلفناه عنه في كتاب الطهارة مع حكاية الخلاف عنه أيضاً فيه. فرع: اختلف في الانتفاع بشعر الخنزير فمنعه ابن سيرين والحاكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق ورخص فيه الحسن البصري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف حكاه كله ابن المنذر. التاسع: جميع أجزاء الميتة يحرم بيعها (¬2) كما قررناه حتى ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 761): وأما تحريمُ بيع الخنزير، فيتناولُ جملته، وجميعَ أجزائه الظاهرة والباطنة، وتأمل كيف ذكر لحمه عند تحريم الأكل إشارة إلى تحريم أكله ومعظمه اللحم، فذكر اللحم تنبيهاً على تحريم أكلِه دونَ ما قبله، بخلاف الصيد، فإنه لم يقل فيه: وحرم عليكم لحم الصيد، بل حرم نفس الصيد، ليتناول ذلك أكله وقتله. وههنا لما حرم البيع ذكر جملته، ولم يخص التحريمَ بلحمه ليتناول بيعه حياً وميتاً. اهـ. (¬2) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 753، 756): ويدخل في تحريمِ بيعِ الميتة بيعُ أجزائها التي تحلُّها الحياة، وتُفارقها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بالموت، كاللحم والشحم والعصب، وأما الشعرُ والوبرُ والصوف، فلا يدخل في ذلك، لأنه ليس بميتة، ولا تحله الحياة. وكذلك قال جمهورُ أهل العلم: إن شعور الميتة وأصوافها وأوبارَها طاهرة إذا كانت من حيوان طاهر، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، والليث، والأوزاعي، والثوري، وداود، وابن المنذر، والمزني، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، وأصحاب عبد الله بن مسعود، وانفرد الشافعي بالقول بنجاستها، واحتجَّ له بأن اسمَ الميتة يتناولُها كَما يتناول سائر أجزائها بدليل الأثر والنظر، أما الأثُر، ففي "الكامل" لابن عدي: من حديث ابن عمر يرفعه: "ادْفِنُوا الأَظْفَارَ، والدَّمَ والشَّعَرَ، فَإنَّها مَيْتَةٌ". وأما النظر، فإنه متصل بالحيوان ينمو بنمائه، فينجس بالموت كسائر أعضائه، وبأنه شعر نابت في محل نجس، فكان نجساً كشعر الخنزير، وهذا لأن ارتباطه بأصله خِلقة يقتضي أن يثبت له حكمُه تبعاً، فإنه محسوب منه عرفاً، والشارع أجرى الأحكامَ فيه على وفق ذلك، فأوجب غسله في الطهارة، وأوجبَ الجزاء بأخذه من الصيد كالأعضاء، وألحقه بالمرأة في النكاح والطلاقِ حِلاً وحرمة، وكذلك هاهنا، وبأن الشارعَ له تشوف إلى إصلاح الأموالِ وحفظها وصيانتها، وعدم إضاعتها. وقد قال لهم في شاة ميمونة: "هلاَّ أَخْذْتُم إهَابَها فَدَبغْتُمُوه فَانْتَفَعْتُم بِهِ". ولو كان الشعر طاهراً، لكان إرشادُهم إلى أخذه أولى، لأنه أقلُّ كلفة، وأسهل تناولاً. قال المطهِّرُونَ للشعور: قال الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، وهذا يعم أحياءها وأمواتَها، وفي مسند أحمد: عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس -رضي الله عنه-، قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشاة لميمونة ميتة، فقال: ألاَّ انتفعتم "بإهابها"، قالوا: وكيفَ وهي ميتة؟ قال: "إنَّما حَرُمَ لَحْمُهَا". وهذا ظاهرٌ جداً في =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إباحة ما سوى اللحم، والشحمُ، والكبدُ والطحال، والألية كُلُّها داخلة في اللحم، كما دخلت في تحريم لحم الخنزير، ولا ينتقِضُ هذا بالعظم والقَرن، والظفر والحافِر، فإن الصحيحَ طهارة ذلك كما سنقرره عقيب هذه المسألة. قالوا: ولأنه لو أُخِذَ حال الحياة، لكان طاهراً فلم ينجس بالموت، كالبيض، وعكسه الأعضاء. قالُوا: ولأنه لما لم ينجس بجزه في حال حياة الحيوان بالإِجماع، دل على أنه ليس جزءاً مِن الحيوان، وأنه لا روح فيه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أُبيِنَ مِنْ حَيَّ، فَهُوَ مَيْتَةٌ"، رواه أهل السنن. لأنه لا يتألَّم بأخذه، ولا يُحس بمسه، وذلك دليلُ عدم الحياة فيه، وأما النماء، فلا يدل على الحياة والحيوانية التي يتنجَّس الحيوان بمفارقتها، فإن مجرد النماء لو دلَّ على الحياة، ونجس المحل بمفارقة هذه الحياة، لتنجس الزرعُ بيُبسه، لمفارقة حياة النمو والاغتذاء له. قالوا: فالحياةُ نوعان: حياة حس وحركة، وحياة نمو واغتذاء، فالأولى: هي التي يُؤثر فقدُها في طهارة الحي دون الثانية. قالوا: واللحمُ إنما ينجسُ لاحتقان الرطوبات والفضلات الخبيثة فيه، والشعورُ والأصواف بريئة مِن ذلك، ولا ينتقض بالعظام والأظفار لما سنذكره. قالوا: والأصلُ في الأعيان الطهارة، وإنما يطرأ عليها التنجيس باستحالتها، كالرجيع المستحيل عن الغذاء، وكالخمر المستحيل عن العصير وأشباهها، والشعور في حال استحالتها كانت طاهرة، ثم لم يعرض لها ما يُوجب نجاستَها بخلاف أعضاء الحيوان، فإنها عرض لها ما يقتضي نجاستها، وهو احتقان الفضلات الخبيثة. قالوا: وأما حديثُ عبد الله بن عمر، ففي إسنادِه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد. قال أبو حاتم الرازي: أحاديثُه منكرة ليس محله عندي =

قرنها وعظمها، قال القرطبي (¬1): ويستثنى عندنا ما لا تحله الحياة كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر منها، وهو قول أبي حنيفة أيضاً، وزاد أبو حنيفة وابن وهب من المالكية: عظم الفيل وغيره، والسن، والقرن، والظلف، فلا تنجس بالموت لأن الحياة لا تحلها (¬2). ¬

_ = الصدق، وقال علي بن الحسين بن الجنيد: لا يُساوي فلساً، يُحدث بأحاديث كذب. وأما حديثُ الشاة الميتة، وقوله: "ألا انتفعتم بإهابها"، ولم يتعرض للشعر، فعنه ثلاثةُ أجوبة. أحدها: أنه أطلق الانتفاع بالإِهاب، ولم يأمرهم بإزالة ما عليه من الشعر، مع أنه لا بُدَّ فيه من شعر، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يُقيد الإِهابَ المنتفع به بوجه دون وجه، فدل على أن الانتفاع به فرواً وغيره مما لا يخلو من الشعر. والثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أرشدهم إلى الانتفاعِ بالشعر في الحديث نفسِه حيث يقول: "إنَّمَا حَرُمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُها أَوْ لحْمُها". والثالث: أن الشعرَ ليس من الميتة ليتعرض له في الحديث، لأنه لا يحلُّه الموتُ، وتعليلُهم بالتبعية يبطلُ بجلد الميتة إذا دُبغَ، وعليه شعر، فإنه يطهرُ دونَ الشعر عندهم، وتمسكهم بغسله في الطهارة يَبْطُلُ بالجبيرة، وتمسكهم بضمانه من الصيد يبطُل بالبيض، وبالحمل. وأما في النكاح، فإنه يتبع الجملة لاتصاله، وزوال الجملة بانفصاله عنها، وهاهنا لو فارق الجملة بعد أن تبعها في التنجس، لم يُفارقها فيه عندهم، فعلم الفرق. اهـ. (¬1) المفهم (4/ 462، 463). (¬2) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 757) (761، 762): فإن قيل: فهل يدخُل في تحريم بيعها تحريمُ بيع عظمها وقرنها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وجلدها بعد الدباغ لشمول اسم الميتة لذلك؟ قيل. الذي يحرم بيعُه منها هو الذي يحرم أكلُه واستعمالُه، كما أشار إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إنَّ اللهَ تَعَالى إذَا حَرَّمَ شيئاً حَرَّم ثَمَنَهُ". وفي اللفظ الآخر: "إذَا حَرَّمَ أَكْلَ شيءٍ, حَرَّمَ ثَمَنَهُ". فنبَّه على أن الذي يحرم بيعُه يحرم أكله. وقال أيضاً (5/ 761، 762): وأما تحريمُ بيع الأصنام، فيُستفاد منه تحريم بيع كُلِّ آلة متخذة للشرك على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكُتب المشتمِلَةُ على الشرك، وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعُها ذريعةٌ إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع مِن كل ما عداها، فإن مفسدةَ بيعها بحسب مفسدتها في نفسها والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُؤخر ذِكرها لخفة أمرها, ولكنه تدرَّج من الأسهل إلى ما هو أغلظ منه، فإن الخمرَ أحسنُ حالاً مِن الميتة، فإنها قد تصيرُ مالاً محترماً إذا قلبها اللهُ سبحانه ابتداء خلاَّ، أو قلبها الآدمي بصنعته عند طائفة من العلماء، وتُضمن إذا أتلفت على الذمي عند طائفة بخلاف الميتة، وإنما لم يجعل الله في أكل الميتة حداً اكتفاء بالزاجر الذي جعله الله في الطباع مِن كراهتها، والنفرة عنها، وإبعادها عنها، بخلاف الخمر، والخنزير أشدُّ تحريماً من الميتة، ولهذا أفرده الله تعالى بالحكم عليه أنه رجس في قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} [الأنعام: 145]، فالضمير في قوله: "فإنه" وإن كان عوده إلى الثلاثة المذكورة باعتبار لفظ المحرم، فإنه يترجح اختصاص لحم الخنزير به لثلاثة أوجه. أحدها: قربُه منه، والثاني: تذكيرُه دون قوله، فإنها رجس، والثالث: أنه أتى "بالفاء" و"إن" تنبيهاً على علة التحريم لتزجر النفوسُ عنه، ويقابل هذه العلة ما في طباع بعض الناس من استلذاذه، واستطابته، فنفى عنه =

قال: والجمهور على خلافهما في العظم، وما ذكر معه، فإنها تحلها الحياة. وهو الصحيح. فإن العظم والسن يألم، وتُحَسُ به الحرارة والبرودة، بخلاف الشعر، وهذا معلوم بالضرورة. قال: وأما أطراف القرون، والأظلاف، وأنياب الفيل: فاختلف فيها. هل حكمها حكم أصولها فتنجس؟ أو حكمها حكم الشعر؟ على قولين. قالوا: أما الريش: فالشَّعريُّ منه شعرٌ، وأسفله عظم، ومتوسطه، هل يلحق بأصله أم بأطرافه قولان؟ قال: وقد قال بنجاسة الشعور الحسن، والليث، والأوزاعي، لكنها تطهر بالغسل عندهم , وكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل. فقال: تطهر، إن سلقت بالماء. والأصح عند الشافعية نجاسة شعر الميتة إلاَّ الآدمي. وأما جلد الميتة: فلا تباع قبل الدباغ، ولا يُنتفع به، لأنه كلحم الميتة. نعم يجوز استعماله في اليابسات. ¬

_ = ذلك، وأخبر أنه رجس، وهذا لا يحتاج إليه في الميتة والدم، لأن كونهما رجساً أمر مستقر معلوم عندهم، ولهذا في القرآن نظائر، فتأملها. ثم ذكر بعدُ تحريمَ بيع الأصنام وهو أعظم تحريماً وإثماً، وأشد منافاة للإِسلام من بيع الخمر والميتة والخنزير. اهـ.

وانفرد أبو حنيفة بجواز بيعه وهو مذهب جماعة من أهل العلم فلا يجوز بيعها ولا الصلاة عليها ولا بها ولا ينتفع بها إلاَّ في اليابسات دون المائعات إلاَّ في الماء وحده. وذهب الجمهور سلفاً وخلفاً: إلى طهارتها طهارة مطلقة (¬1) ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (6/ 67، 68): حديث ابن عكيم وكلام المنذري، ثم قال: وقال أبو الفرج بن الجوزي: حديث ابن عكيم مضطرب جداً. فلا يقاوم الأول واختلف مالك والفقهاء في حديث ابن عكيم وأحاديث الدباغ. فطائفة قدمت أحاديث الدباغ عليه، لصحتها، وسلامتها من الاضطراب, وطعنوا في حديث ابن عكيم بالاضطراب في إسناده. وطائفة قدمت حديث ابن عكيم لتأخره، وثقه رواته، ورأوا أن هذا الاضطراب لا يمنع الاحتجاج به. وقد رواه شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبيد الله بن عكيم. فالحديث محفوظ. قالوا: ويؤيده: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن افتراش جلود السباع والنمور، كما سيأتي. وطائفة عملت بالأحاديث كلها، ورأت أنه لا تعارض بينها، فحديث ابن عكيم إنما فيه النهي عن الانتفاع بإهاب الميتة. والإِهاب: هو الجلد الذي لم يدبغ، كما قاله النضر بن شميل، وقال الجوهري: الإِهاب الجلد ما لم يدبغ، والجمع: أهب. وأحاديث الدباغ: تدل على الاستمتاع بها بعد الدباغ، فلا تنافى بينها. وهذه الطريقة حسنة لولا أن قوله في حديث ابن عكيم "كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا أتاكم كتابي فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" والذي كان رخص فيه هو المدبوغ. بدليل حديث ميمونة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد يجاب عن هذا من وجهين. أحدهما: أن هذه الزيادة لم يذكرها أحد من أهل السنن في هذا الحديث، وإنما ذكروا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنتفعوا من الميتة -الحديث" وإنما ذكرها الدارقطني، وقد رواه خالد الحذاء وشعبة عن الحكم، فلم يذكرا "كنت رخصت لكم" فهذه اللفظة في ثبوتها شيء. والوجه الثاني: أن الرخصة كانت مطلقة غير مقيدة بالدباغ، وليس في حديث الزهري ذكر الدباغ، ولهذا كان ينكره ويقول: "نستمتع بالجلد على كل حال" فهذا هو الذي نهى عنه أخيراً. وأحاديث الدباغ قسم آخر لم يتناولها النهي، وليست بناسخة ولا منسوخة، وهذه أحسن الطرق. ولا يعارض ذلك نهيه عن جلود السباع، فإنه نهى عن ملابستها باللبس والافتراش، كما نهى عن أكل لحومها, لما في أكلها ولبس جلودها من المفسدة، وهذا حكم ليس بمنسوخ، ولا ناسخ أيضاً، وإنما هو حكم ابتدائي رافع لحكم الاستصحاب الأصلي. وبهذه الطريقة تأتلف السنن, وتستقر كل سنة منها في مستقرها، وبالله التوفيق. وانظر ما قاله المنذري في مختصر السنن والخطابي في معالم السنن. وقال أيضاً في زاد المعاد (5/ 757، 758): وأما الجلد إذا دبغ، فقد صار عيناً طاهرة ينتفع في اللبس والفرش، وسائِر وجوه الاستعمال، فلا يمتنع جوازُ بيعه، وقد نص الشافعي في كتابه القديم على أنه لا يجوز بيعُه، واختلف أصحابُه، فقال القفال: لا يتجه هذا إلاَّ بتقدير قول يُوافق مالكاً في أنه يطهر ظاهرُه دون باطنه، وقال بعضُهم: لا يجوز بيعُه، وإن طهر ظاهره وباطنه على قوله الجديد، فإنه جزءٌ من الميتة حقيقة، فلا يجوز بيعه كعظمها ولحمها. وقال بعضُهم: بل يجوزُ بيعه بعد الدبغ لأنه عين بيعه كعظمها ولحمها. وقال بعضُهم: بل يجوزُ بيعه بعد الدبغ لأنه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عين طاهرة يُنتفع بها، فجاز بيعها كالمذكَّى، وقال بعضهم: بل هذا ينبني على أن الدبغ إزالة أو إحالة، فإن قلنا: إحالة، جاز بَيعُه لأنه قد استحال من كونه جزء ميتة إلى عين أخرى، وإن قلنا: إزالة، لم يجزْ بيعُه، لأن وصف الميتة هو المحرمُ لبيعه، وذلك باق لم يستحل. وبنوا على هذا الخلاف جواز أكله، ولهم فيه ثلاثة أوجه: أكله مطلقاً، وتحريمه مطلقاً، والتفصيلُ بين جلد المأكول وغير المأكول، فأصحاب الوجه الأول، غلبوا حكم الإِحالة وأصحاب الوجه الثاني، غلَّبوا حكم الإِزالة، وأصحاب الوجه الثالث أجروا الدباغَ مجرى الذكاة، فأباحوا بها ما يُباح أكله بالذكاة إذا ذكي دون غيره، والقولُ بجواز أكله باطل مخالف لصريح السنَّة، ولهذا لم يُمكن قائلُه القول به إلاَّ بعد منعه كونَ الجلد بعد الدبغ ميتة، وهذا منع باطل، فإنه جلد ميتة حقيقة، وحساً وحكماً، ولم يحدث له حياةٌ بالدبغ ترفع عنه اسم الميتة، وكون الدبغ إحالةً باطل حساً، فإن الجلد لم يستحل ذاتُه وأجزاؤه، وحقيقته بالدباغ، فدعوى أن الدباغ إحالة عن حقيقة إلى حقيقة أخرى، كما تُحيل النارُ الحطب إلى الرماد، والملاَّحة ما يُلقى فيها من الميتات إلى الملح دعوى باطلة. وأما أصحاب مالك -رحمه الله- ففي "المدونة" لابن القاسم المنعُ من بيعها وإن دبغت، وهو الذي ذكره صاحب "التهذيب". وقال المازَري: هذا هو مقتضى القول بأنها لا تطهرُ بالدباغ. قال: وأما إذا فرعنا على أنها تطهر بالدباغ طهارة كاملة، فإنا نُجيز بيعها لإِباحة جملة منافعها. قلت: عن مالك في طهارة الجلد المدبوغ روايتان. إحداهما: يطهر ظاهرُه وباطنُه، وبها قال وهب، وعلى هذه الرواية جوز أصحابُه بيعه. والثانية: -وهي أشهر الروايتين عنه- أنه يطهر طهارة مخصوصة يجوز معها استعمالُه في اليابسات، وفي الماء وحده دون سائر المائعات، قال أصحابه: وعلى هذه الرواية لا يجوز بيعُه، ولا الصلاة فيه، ولا الصلاةُ عليه. =

وإليه ذهب الشافعي ومالك في رواية ابن وهب. قال القرطبي: وهو الصحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما إهاب دُبغ فقد طهر" (¬1)، وقوله: "دباغ الأديم ذكاته" (¬2). فرع: ما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر، وقد أعطي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق في جسد نوفل بن عبد الله المخزومي عشرة آلاف درهم فلم يأخذها ودفعها إليهم وقال: "لا حاجة لنا بجسده ولا ثمنه"، وذكر الترمذي حديثاً نحوه (¬3). ¬

_ = وأما مذهب الإِمام أحمد: فإنه لا يصح عنده بيع جلد الميتة قبل دبغه. وعنه في جوازه بعد الدبغ روايتان، هكذا أطلقهما الأصحابُ، وهما عندي مبنيتان على اختلاف الرواية عنه في طهارته بعد الدباغ. (¬1) مسلم (366)، والموطأ (2/ 498)، والبغوي (303)، والدارمي (2/ 86)، والطيالسي (1/ 43)، وأحمد (1/ 279، 280)، والدارقطني (1/ 46)، وأبو عوانة (1/ 212، 213)، والحميدي (486)، وأبو داود (4123)، والترمذي (1728)، والنسائي (7/ 173)، وابن الجارود (61). (¬2) من رواية عائشة النسائي (7/ 174)، والدارقطني (1/ 44)، وأحمد (6/ 154، 155). (¬3) الترمذي (4/ 214)، وأحمد (1/ 248)، والطبري في تاريخه (3/ 49)، وابن كثير في البداية وذكره بأسانيد كثيرة (4/ 107)، والبيهقي من طريق حجاج بن أرطاة (9/ 133)، والبيهقي أيضاً في دلائل النبوة (3/ 404) بدون إسناد وفي آخر من رواية ابن إسحاق (4/ 437)، وصحح إسناده أحمد شاكر في المسند (4/ 53) بألفاظ مختلفة. قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه في كتاب الجزية والموادعة (6/ 282) باب: طراح جيف المشركين في البئر: ولا يؤخذ لهم ثمن. =

فرع: يستثنى من الميتة السمك والجراد وقد نص الشارع في حديث آخر على حل أكلهما (¬1) فيحل بيعها ويستثنى من الخنزير خنزير البحر على القول بحل أكله لكن لا يعرف العرب في البحر خنزيراً وسئل مالك عن خنزير البحر فقال اسم يسمونه خنزيراً أي ¬

_ = وساق الحديث رقم (3185) أطرافه (240). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (6/ 282): على قوله "ولا يؤخذ لهم ثمن": أشار به إلى حديث ابن عباس: "إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم". أخرجه الترمذي وغيره، وذكر ابن إسحاق في المغازي "إن المشركين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم جسد نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وكان اقتحم الخندق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة لنا بثمنه ولا جسده"، فقال ابن هشام: بلغنا عن الزهري أنهم بذلوا فيه عشرة آلاف، وأخذه من حديث الباب من جهة أن العادة تشهد أن أهل قتلى بدر لو فهموا أنه يقبل منهم فداء أجسادهم لبذلوا فيها ما شاء الله، فهذا شاهد لحديث ابن عباس وإن كان إسناده غير قوي. اهـ. (¬1) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: "أحسبه قال الكبد والطحال". انظر: البغوي (11/ 244)، وأحمد (2/ 97)، وابن ماجه (3314)، والدارقطني (4/ 272)، والبيهقي (1/ 254)، وصححه البيهقي وصححه أحمد شاكر في المسند (8/ 79، 80)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 202) ,والألباني في صحيح الجامع (1/ 119)، والسلسلة الصحيحة (3/ 111)، والمشكاة (4132) وقال أنه جيد. ونسبه إلى الحاكم فيهما، وأحمد شاكر قال إنه لا يوجد فيه. المسند (8/ 80).

لا تسميه العرب بذلك وأبقاه مالك مرة أخرى من جهة الورع (¬1) والأصح عند الشافعية حل أكله (¬2). العاشر: الحديث دال أيضاً على تحريم بيع الأصنام والعلة فيه كونها ليس فيها منفعة مباحة وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها وفي بيع الأصنام والصور عند الشافعية ثلاثة أوجه: أصحها: المنع لما قلناه. وثانيها: الصحة للانتفاع بكسرها، وتأول الحديث على ما لا ينتفع بمنفصله أو على كراهة التنزيه. ثالثها: واختاره الإِمام والغزالي أنه إن اتخذ من جوهر نفيس صح بيعها فإنها مقصودة في نفسها، وإن اتخذت من خشب ونحوه فلا. وقال القاضي مجلى: إن كانت من جوهر نفيس يقصد رضاضه صح، ومن أصحابنا من منع وإن لم يقصد ولكنه متمول فالظاهر أنه لا يصح، ومن أصحابنا من قال يصح، وصحح المتولى الصحة فيما إذا كانت محلولة تصلح لمنفعة مباحة وإلاَّ فلا وبه جزم الماوردي لكنه قال يكره البيع إذا صلحت لمنفعة مباحة. فرع: الصور التي على الأباريق والأسرة ونحوها مما المقصود غيرهما لا يفسد البيع لأنها تبع. نعم: يكره اتخاذها ويلزم تغييرها قاله القاضي عياض. ¬

_ (¬1) الاستذكار (15/ 304). (¬2) الاستذكار (15/ 305).

فرع: الصليب الذي يظهر فيه إلحاقه بالأصنام. فرع: يلتحق ببيع الأصنام نحتها وتصويرها وكذا جميع ما كان على صور الحيوانات على سقف أو جدار أو وسادة منصوبة أو ستر أو ثوب ملبوس ويجوز ما على الأرض وبساط ومخدة ومقطوع الرأس وصور شجر. الحادي عشر: "فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ " إنما جمعه لاختلاف أنواعه فإنه إسم جنس وحقه الإِفراد. الثاني عشر: يؤخذ مما ذكره في الشحوم أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه. واعترض بعض اليهود والملاحدة: بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان وطئها الأب فإنها تحرم عل الابن ويحل له بيعها بالإِجماع ويأكل ثمنها وهذا تمويه منهم على من لا حاصل عنده لأن جارية الأب لم يحرم على الابن غير الاستمتاع دون غيره من الناس ويحل لهذا الولد الانتفاع بها في جميع الأشياء سوى الاستمتاع وغيره بخلاف الشحوم فإنها محرمة المقصود منها وهو الأكل منها على جميع اليهود وكذلك شحوم الميتة محرَّمة الأكل على كل أحد فكان ما عدا الأكل تابعاً له بخلاف موطوؤة الأب (¬1). الثالث عشر: الصحيح من مذهب الشافعي جواز الانتفاع بشحوم الميتة في طلي السفن والاستصباح بها وغير ذلك ما لم تؤكل ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم للنووي (11/ 8).

أو تستعمل في بدن آدمي وبه قال عطاء وابن جرير (¬1). وقال الجمهور كما حكاه النووي في "شرح مسلم" (¬2): عنهم لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلاً لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة إلاَّ ما خص بدليل وهو الانتفاع بجلدها المدبوغ. وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان: التي أصابتها نجاسة فهل يجوز استعمالها بالاستصباح وغيره في غير الأكل وغير البدن أو يجعل الزيت النجس في صابون أو يطعم العسل المتنجس للنحل أو يطعم الميتة لكلابه أو يطعم الطعام النجس لدوابه كل ذلك فيه خلاف بين السلف. والصحيح من مذهبنا: جواز جميع ذلك (¬3) ونقله القاضي عياض عن مالك وكثير من أصحابه والشافعي والثوري وأبي حنيفة والليث. قال: وروى نحوه، عن علي، وابن عمر، وأبي موسى ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (11/ 6). (¬2) المرجع السابق. (¬3) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 752): والمقصود: أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرَّم الله ورسولُه منها، كالوقيذ، وإطعام الصقورِ والبُزاةِ وغير ذلك. وقد نص مالك على جواز الاستصباح بالزَّيْتِ النَّجس في غير المساجد، وعلى جوازِ عملِ الصابون منه، وينبغي أن يُعْلَمَ أنَّ بَابَ الانتفاعِ أوسعِ من بابِ البيعِ، فليس كُلُّ مَا حَرُم بيعه حَرُمَ الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يُؤخذ تحريمُ الانتفاع مِن تحريم البيع. اهـ.

والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وقال البغوي في "شرح السنة" (¬1): جواز الاستصباح به قول أكثر أهل العلم. قال القاضي: وأجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بينه. وقال عبد الملك: والإِمام أحمد (¬2) وأحمد بن صالح لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كله في شيء من الأشياء، وقد فرق بعضهم بين شحوم الميتة وبين ما تنجس بعارض، فقال: ينتفع بهذا دون الأول حكاه القرطبي (¬3) ووهاه ونقل الفاكهي أن مذهبهم جواز الاستصباح بالدهن النجس في غير المساجد وعمله في الصابون وإن أوجبنا تطهير الثوب منه بعد غسله، قال: والمشهور عندنا منع بيعه وأنه لا يطهر إذا غسل. واعلم أنه قد استدل بقوله -عليه الصلاة والسلام- "لا هو حرام" (¬4) ¬

_ (¬1) البغوي في شرح السنة (8/ 29). (¬2) في شرح مسلم زيادة (بن الماجشون وأحمد). (¬3) المفهم (4/ 465). (¬4) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 749، 753): لهم في بيع الشحوم لهذه المنافع التي ذكروها، فلم يفعل. ونهايةُ الأمر أن الحديثَ يحتمل الأمرين، فلا يحرم ما لم يعلمْ أنَّ الله ورسوله حَرَّمه. قالوا: وقد ثبت عنه أنه نهاهم عن الاستسقاء مِن آبار ثمود، وأباح لهم أن يُطْعِمُوا ما عجنُوا مِنه من تلك الآبار للبهائم، قالوا: ومعلوم أن إيقادَ النجاسةِ والاستصباحَ بها انتفاعٌ خالٍ عن هذه المَفْسدَةِ، وعن ملابستها باطناً وظاهراً، فهو نَفْعٌ مَحْضٌ لا مفسدة فيه. وما كان هكذا، فالشريعةُ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = إنما تحرِّم المفاسدَ الخالصةَ أو الراجحةَ، وطرفَها وأسبابها الموصلةَ إلها. قالوا: وقد أجاز أحمد في إحدى الروايتين الاستصباحَ بشحوم الميتة إذا خالطت دُهناً طاهراً، فإنه في أكثر الروايات عنه يجوز الاستصباحُ بالزيت النجسِ، وطليُ السفن به، وهو اختيارُ طائفة من أصحابه، منهم: الشيخ أبو محمد، وغيره، واحتج بأن ابن عمر أمر أن يُستصبَح به. وقال في رواية ابنيه: صالح وعبد الله: لا يعجبني بيع النَّجِس، ويستصبحُ به إذا لم يمسوه، لأنه نجس, وهذا يعم النَّجسَ، والمتنجَّس، ولو قُدَّرَ أنه إنما أراد به المتنجِّس، فهو صريحٌ في القول بجواز الاستصباح بما خالطه نجاسة ميتة وغيرها، وهذا مذهبُ الشافعي، وأيُّ فرق بين الاستصباح بشحم الميتة إذا كان منفرداً، وبين الاستصباح به إذا خالطه دهن طاهر فنجسه؟ فإن قيل: إذا كان مفرداً، فهو نَجِسُ العين، وإذا خالطه غيره تنجس به، فأمكن تطهيره بالغسل، فصار كالثوب النَّجِسِ، ولهذا يجوز بيع الدُّهْن المتنجِّس على أحد القولين دون دهن الميتة. قيل: لا ريبَ أنَّ هذا هو الفرق الذي عَوَّل عليه المفرِّقون بينهما, ولكنه ضعيف لوجهين. أحدهما: أنه لا يعرف عن الإِمام أحمد، ولا عن الشافعي ألبتة غسل الدهن النجَّس، وليس عنهم في ذلك كلمةٌ واحدةٌ، وإنما ذلك من فتوى بعض المنتسبين، وقد رُوي عن مالك، أنه يَطْهُر بالغسل، هذه رواية ابن نافع، وابن القاسم عنه. الثاني: أن هذا الفرق وإن تأتَّى لأصحابه في الزيت والشيرج ونحوهما، فلا يتأتَّى لهم في جميع الأدهان، فإن منها ما لا يُمكن غسله، وأحمد والشافعي قد أطلقا القولَ بجواز الاستصباح بالدهن النجس من غير =

على منع طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح بها وفيه نظرٌ لأن ¬

_ = تفريق. وأيضاً فإن هذا الفَرق لا يُفيد في دفع كونه مستعملاً للخبيث والنجاسة، سواء كانت عينيةً أو طارئةً، فإنه إن حرم الاستصباح به لما فيه من استعمال الخبيث، فلا فرق، وإن حرم لأجل دُخان النجاسة، فلا فرق، وإن حرم لكون الاستصباح به ذريعة إلى اقتنائه، فلا فرق، فالفرق بين المذهين في جواز الاستصباح بهذا دونَ هذا لا معنى له. وأيضاً فقد جوز جمهورُ العلماء الانتفاعَ بالسِّرقين النَّجس في عمارةِ الأرض للزَّرْع، والثمر، والبقل مع نجاسة عينهِ , وملابسةِ المستعمل له أكثر من ملابسة الموقَدِ، وظهورِ أثره في البقول والزروع، والثمار، فوق ظهور أثر الوقيد، وإحالةُ النار أتم من إحالة الأرض، والهواء والشمس للسِّرقين، فإن كان التحريم لأجل دُخَان النَّجَاسَةِ، فَمن سَلَّمَ أن دُخَان النجاسةِ نجس، وبأيَّ كتاب، أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ثبت ذلك؟ وانقلابُ النجاسةِ إلى الدُّخان أتمُّ من انقلابِ عينِ السرقينِ والماءِ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمراً أو زرعاً، وهذا أمر لا يُشَكُّ فيه، بل معلوم بالحسَّ والمشاهدةِ، حتى جوز بعضُ أصحاب مالك، وأبي حنيفة -رحمهما الله- بَيْعَه، فقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العَذِرةِ، لأن ذلك من منافع الناس. وقال ابن القاسم: لا بأس ببيع الزَّبْل. قال اللخميُّ: وهذا يدل من قوله على أنه يرى بيع العَذِرةِ. وقال أشهب في الزَّبْل: المشتري أعذر فيه من البائع، يعني في اشترائه. وقال ابن عبد الحكم: لم يَعْذُرِ الله واحداً منهما، وهما سِيَّان في الإِثم. قال: وهذا هو الصوابُ، وأن بيع ذلك حَرَامٌ وإن جاز الانتفاع به، والمقصود: أنه لا يلزم من تحريم بيع الميتة تحريم الانتفاع بها في غير ما حرم الله ورسوله منها إلى أنه قال: فليس كل ما حرم بيعه حرم الانتفاع به، بل لا تلازم بينهما، فلا يؤخذ تحريم الانتفاع من تحريم البيع. اهـ.

الضمير في هو يعود في البيع لا على الانتفاع "لا تبيعوا الشحوم فإن بيعها حرام"، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- أعاد تحريم البيع بعد ما بين القائل له أن فيه منفعة إهداراً لتلك المنافع التي ذكرت وبهذا يقوى مذهب الشافعي في جواز الانتفاع بها. وادعى بعضهم: أنه جاء في رواية لما قيل إنه يدهن بها السفن، فقال: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" فيحمل على الكراهة ويحترز من النجاسة أن تمسه. قلت: وفي الباب حديث صريح في الاستصباح بالدهن النجس وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن فأرة وقعت في السمن فقال: "إن كان جامداً فخذوها وما حولها فألقوه وإن كان ذائباً أو مائعاً فاستصبحوا أو فانتفعوا به" رواه الطحاوي في "بيان المشكل" (¬1)، وقال: عبد الواحد بن زياد المذكور ¬

_ (¬1) الطحاوي في مشكل الآثار "المعتصر" (1/ 272). وقد ورد من رواية أبي هريرة عند أبي داود ولفظه "إذا وقعت الفأرة في السمن: فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". أخرجه أبو داود في الأطعمة (3694) باب: في الفأرة تقع في السمن، وأحمد (2/ 233، 265، 490)، وهذا التفريق غلط كما بينه البخاري. والترمذي (1798)، وأبو حاتم الرازي في العلل (2/ 9، 12)، والدارقطني وغيرهم. قال المنذري -رحمنا الله وإياه- في مختصر السنن (5/ 339): وذكره الترمذي معلقاً (1798) وقال: هو حديث غير محفوظ، سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: هذا خطأ. قال: والصحيح حديث =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. وسأنقل لك كلام ابن القيم -رحمنا الله وإياه- عليه من تهذيب السنن. والحديث أخرجه اليخاري أطرافه (235)، وأبو داود في الأطعمة (3693) باب. في الفأرة تقع في السمن، والترمذي (1798)، والنسائي (7/ 178)، وأحمد (6/ 329، 330، 335)، والبيهقي (9/ 353)، والطبراني في الكبير (23/ 429)، (24/ 15)، والدرامي (1/ 188)، ومالك (2/ 972)، وعبد الرزاق (1/ 84)، والحميد (1/ 149)، وابن شيبة (8/ 380). ولفظه "عن ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنهما-: "أن فأرة وقعت في سمن، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألقوا ما حولها وكلوا". قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (5/ 336، 341): (حديث: "الفأرة تقع في السمن" قد اختلف فيه إسناداً ومتناً، والحديث من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة، ولفظه: "أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوه" رواه الناس عن الزهري بهذا المتن والإِسناد، ومتنه خرجه البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي، وأصحاب الزهري كالمجمعين عليه. وخالفهم معمر في إسناده ومتنه، فرواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال فيه: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". ولما كان ظاهر هذا الإِسناد في غاية الصحة: صحح الحديث جماعة، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحكي عن محمد بن يحيى الذهلي تصحيحه. ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه؛ ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأً محضاً. قال الترمذي في جامعه: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذا خطأ، وقد أشار أيضاً إلى علة حديث معمر من وجوه. فقال: باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد، أو الذائب، ثم ذكر حديث ميمونة. وقال عقبه: قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقوله إلاَّ عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولقد سمعته منه مراراً. ثم قال: حدثنا عبدان حدثنا عبد الله عن يونس، عن الزهري: "سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد، أو غير جامد: الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل". فذكر البخاري فتوى الزهري في الدابة تموت في السمن وغيره، الجامد والذائب: أنه يؤكل. واحتجاجه بالحديث من غير تفصيل: دليل على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته، ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتج به، فحيث أفتى بحديث الإِطلاق، واحتج به: دل على أن معمراً غلط عليه في الحديث إسناداً ومتناً. ثم قد اضطرب حديث معمر، فقال عبد الرزاق عنه: "فلا تقربوه"، وقال عبد الواحد بن زياد عنه: "وإن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل". وقال البيهقي: وعبد الواحد بن زياد أحفظ منه -يعني: من عبد الرزاق. وفي بعض طرقه "فاستصبحوا به" وكل هذا غير محفوظ في حديث الزهري. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فإن قيل: فقد رواه أبو حاتم البستي في صحيحه من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائباً فلا تقربوه" رواه عن عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان عن الزهري، وكذلك هو في مسند إسحاق. فالجواب: أن كثيراً من أهل الحديث جعلوا هذه الرواية موهومة معلولة، فإن الناس إنما رووه عن سفيان، عن الزهري مثل ما رواه سائر الناس عنه، كمالك وغيره من غير تفصيل. كما رواه البخاري وغيره. وقد رد أبو حاتم البستي هذا, وزعم أن رواية إسحاق هذه ليست موهومة برواية معمر عن الزهري، فقال: ذكر خبر أوهم بعض من لم يطلب العلم من مظانه: أن رواية ابن عيينة هذه معلولة أو موهومة -ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة الحديث: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". وهذا لا يدل على أن حديث إسحاق محفوظ، فإن رواية معمر هذه خطأ، كما قاله البخاري وغيره، والخطأ لا يحتج به على ثبوت حديث معلول، فكلاهما وهم. ثم قال أبو حاتم: ذكر الخبر الدال على أن الطريقين جميعاً محفوظان: حدثنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -فذكره، قال: "إن كان جامداً ألق ما حولها وكله، وإن كان مائعاً لم تقربه". قال عبد الرزاق: وأخبرني عبد الرحمن بن بوذويه أن معمراً كان يذكر أيضاً عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. فهذه مثل رواية سفيان عن الزهري عن عبيد الله بالتفصيل. فتصير وجوه الحديث أربعة. وجهان عن معمر، وهما: أحدهما: عبد الرزاق عنه عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بذكر التفصيل. الثاني: عبد الرحمن بن بوذويه عنه عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بالتفصيل أيضاً. ووجهان عن سفيان. أحدهما: رواية الأكثرين عنه عن الزهري عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بالإِطلاق من غير تفصيل. والثاني: رواية إسحاق عنه، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بالتفصيل. وأما رواية معمر: فإنه خالف أصحاب الزهري في حديثه المفصل في إسناده ومتنه في حديث أبي هريرة، وخالف أصحاب الزهري في المتن في حديث عبيد الله، عن ابن عباس، ووافقهم في الإِسناد. وهذا يدل على غلطه فيه، وأنه لم يحفظه كما حفظ مالك وسفيان وغيرهما من أصحاب الزهري. وأما حديث سفيان: فالمعروف عن الناس منه: ما رواه البخاري في صحيحه، عن الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنه سمع ابن عباس عن ميمونة -فذكره من غير تفصيل، وكذلك رواه سعيد بن عبد الرحمن وأبو عمار عن سفيان. قال البخاري في صحيحه: باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري قال: أخبرني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة "أن فأرة وقعت في سمن، فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوه"، قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقوله إلاَّ عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مراراً. حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله عن يونس، عن الزهري: سئل عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: بلغنا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" كذا من حديث عبيد الله بن عبد الله. حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا مالك عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوه". هذا آخر كلام البخاري. وأما الحديث الذي رواه ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: ألقوها وما حولها، وكلوا ما بقي، فقيل: يا نبي الله، أرأيت إن كان السمن مائماً؟ قال: انتفعوا به، ولا تأكلوه" فعبد الجبار بن عمر ضعيف، لا يحتج به. وروي من وجه آخر ضعيف عن ابن جريج عن ابن شهاب. قال البيهقي: والصحيح عن ابن عمر من قوله في فأرة وقعت في زيت, قال: "استصبحوا به وادهنوا به أدمكم". وفيه دليل: على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل لم ينجسه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وذلك: أن غمس الذباب في الإِناء قد يأتي عليه، فلو كان نَجَّسَه إذا مات فيه لم يأمره بذلك؛ لما فيه من تنجيس الطعام، وتضييع المال، وهذا قول عامة العلماء، إلاَّ أن الشافعي قد علق القول فيه، فقال في أحد قوليه: إن ذلك ينجسه. وقد روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال في العقرب يموت في الماء "إنها تنجسه". وعامة أهل العلم على خلافه. وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء، وتؤخر جناح الشفاء، وما أرَبُها إلى ذلك؟ قلت: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل، وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جُمع فيها بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألَّف بينها، وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها. لجدير أن لا يُنكر اجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد، وأن الذي ألهم النَّحْلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة، وأن تَعْسِل فيه، وألهم الذَّرَّة أن تكتسب قوتها وتدَّخره لأوان حاجتها إليه: هو الذي خلق الذبابة، وجعل لها الهداية إلى أن تقدَّم جَناحاً وتؤخر جناحاً، لما أراد من الابتلاء الذي هو مَدْرَجة. وقد روي هذا الحديث عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد، ولكن الصواب: أنه موقوف عليه، ذكره البيهقي) اهـ. وابن عباس راوي الحديث أفتى فيما إذا ماتت أن تلقى وما حولها وتؤكل. انظر: مجموع الفتاوى (20/ 519) (21/ 491، 498)، فقد فصل وأجاد وأفاد -رحمه الله-.

فيه ثقة: إذا انفرد بحديث قبل حديثه وكذلك إذا انفرد بزيادة قبلت زيادته، وانفرد داود فقال بجواز بيع الزيت النجس دون السمن (¬1). الرابع عشر: [قوله] (¬2) -عليه الصلاة والسلام-: "قاتل الله اليهود" أي: قتلهم. كقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} قاله الهروي، قال: وسبيل (فَاعَلَ) أن يكون من اثنين، وربما يكون من واحد، كقولك: سافرتُ وطارقت النعل. وقال ابن عباس: لعنهم. وقد جاء مصرحاً به في رواية أخرى (¬3)، وقال غيره: عاداهم. الخامس عشر: قوله: "قاتل الله اليهود" إلى آخره فيه تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء وأن العلة تحريماً فقط فإنه -عليه الصلاة والسلام- وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم. السادس عشر: استدلت المالكية بهذا على سد الذرائع من حيث أن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكن لما كان مسبباً إلى أصل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به. ¬

_ (¬1) قال الخطابي في معالم السنن -رحمنا الله وإياه- (5/ 339): وقال داود: إن كان هذا سمناً. فلا يجوز تناوله ولا بيعه. وإن كان زيتاً لم يحرم تناوله وبيعه. وذلك أنه زعم أن الحديث إنما جاء في السمن، وهو لا يعدو لفظه ولا يقيس عليه من طريق المعنى غيره. اهـ. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) انظر: الوجه العشرون، وقد سبق تخريجه.

السابع عشر: يؤخذ منه جواز الدعاء على من فعل المحرم أو إستباحه أو تحيل على فعله أما من تحيل على الخلاص من فعله والخروج منه فليس داخلاً في جواز الدعاء عليه وذمه وقد أمر الله تعالى أيوب بالضرب بشمراخ النخل وهو الضغث لما حلف على الضرب بمائة سوط (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: المفهم (4/ 466). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في "الفتاوى" (33/ 147، 148) في إيضاح هذه الآية: أنه لم يكن في شرع من قبلنا كفارة اليمين بل كانت اليمين توجب عليهم فعل المحلوف عليه أمر الله أيوب أن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به ولا يحنث، لأنه لم يكن في شرعه كفارة يمين، ولو كان في شرعه كفارة يمين كان ذلك أيسر عليه من ضرب امرأته ولو بضغث، فإن أيوب كان قد رد الله عليه أهله ومثلهم معهم، لكن لما كان ما يوجبونه باليمين بمنزلة ما يجب بالشرع كانت اليمين عندهم كالنذر والواجب بالشرع قد يرخص فيه عند الحاجة، كما يرخص في الجلد الواجب في الحد إذا كان المضروب لا يحتمل التفريق، بخلاف ما النزمه الإِنسان بيمينه في شرعنا فإنه لا يلزم بالشرع فيلزمه ما التزمه، وله مخرج في شرعنا بالكفارة، ولكن بعض علمائنا لما ظنوا أن الأيمان من ما لا مخرج لصاحبه منه بل يلزمه ما التزمه، فظنوا أن شرعنا في هذا الموضع كشرع بني إسرائيل احتاجوا إلى الاحتيال في الأيمان. اهـ. محل المقصود منه. وقال العلاَّمة صديق حسن خان -رحمنا الله وإياه- في تفسيره "فتح البيان" (8/ 177): (وخذ) معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له خذ (بيدك ضغثاً) هو عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها، وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان، وأصل المادة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تدل على جمع المختلطات، قال الواحدي: الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وعن ابن عباس قال: الضغث هو الأسل، وقال أيضاً: الضغث القبضة من المرعى الرطب، وقال أيضاً: الحزمة. (فاضرب به) أي: بذلك الضغث (ولا تحنث) في يمينك والحنث الإِثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه. أو ترك ما حلف على فعله، لأنهما سببان فيه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها، وقال يحيى بن سلام وغيره: إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخله تقرباً إليه فإنه إذا فعل ذلك برىء. فحلف ليضربنها إذا عوفي مائة جلدة، وقيل: باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها. وأخرج أحمد في الزهد عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس، فقالت أمرأة أيوب: يا عبد الله إن ههنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه، قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره. فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة ... إلى أن قال: وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك؟ قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، حكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي ثور =

وأمر به -عليه الصلاة والسلام- في ذاك الزاني الذي أفتى أن يضربوه بها ضربة واحدة (¬1). ¬

_ = وأصحاب الرأي. وقال عطاء هو خاص بأيوب، ورواه ابن القاسم عن مالك. اهـ. (¬1) عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال أحدهما: أحبن المستسقي من الحبن وهو داء يأخذ في البطن فيعظم منه ويرم -وقال الآخر: مقعد- كان عند جواري سعد فأصاب امرأة حبل، فرمته به، فسئل فاعترف، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، قال أحدهما: فجلد بأثكال النخل، وقال الآخر بأثكول النخل". أخرجه البغوي (10/ 302) الشافعي (2/ 288) ومن طريقه البيهقي في السنن (8/ 230). الدارقطني (3/ 100) النسائي (8/ 242، 243). انظر: كلام صاحب التعليق المغنى على الدارقطني (3/ 100)، وأبو داود في الحدود (4472)، في باب إقامة الحد على المريض. قال المنذري: وقد روي عن أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي أمامة عن أبيه، وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي أمامة عن سعيد بن سعد بن عبادة، وروي أيضاً عن أبي حازم عن سهل بن سعد. وانظر: جميع هذه الروايات في المعجم الكبير (5446، 5521، 5522، 5568، 5587، 5820)، والدارقطني (3/ 100)، والنسائي (8/ 242، 243) الكبرى له. وأخرجه أحمد في المسند من رواية سعد بن عبادة (5/ 222)، وابن ماجه (2574). قال في الزوائد: مدار الإِسناد على محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة البغوي (2591)، والبيهقي في السنن (8/ 230). قال الحافظ في تلخيص الحبير (4/ 59): ورواه الدارقطني من حديث فليح =

وأمر أيضاً بوضع اليد على الأنف عند الخروج من الصلاة بالحدث إيهاماً للرعاف (¬1) وبهذا يرد على ما أطلقه القاضي من قوله ¬

_ = عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: وهم فيه فليح، والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل، ورواه أبو داود (4472) من حديث الزهري عن أبي أمامة، عن رجل من الأنصار ورواه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل ابن حنيف، عن أبيه، ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد الخدري، فإن كانت الطرق كلها محفوظة، فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله مرة، وقال في "بلوغ المرام" (314) إسناد هذا الحديث حسن، ولكن اختلف في وصله وإرساله. وورد أيضاً من رواية عبد الله بن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة زمنة ضعيفة لا تقدر أن تمتنع ممن أرادها، ورآها عظيمة البطن، حبلى، فقال لها ممن؟ فذكرت رجلاً أضعف منها ... إلخ. أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 81). (¬1) ابن ماجه (1222)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة: (إسناد صحيح رجاله ثقات). انظر: الدارقطني (1/ 157)، وابن خزيمة (1018)، وأبو داود (1114)، والحاكم (1/ 184، 260)، وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (2/ 254). والمنتقى لابن الجارود (222). قال أبو داود -رحمنا الله وإياه-: رواه حماد بن سلمة، وأبو أسامة عن هشام عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكرا عائشة -رضي الله عنها-. وانظر أيضاً كلام البيهقي. ولفظه: "إذا أحدث أحدكم وهو في الصلاة، فليأخذ على أنفه ثم لينصرف". =

في الحديث دلالة على إبطال الحيل والحجة على من قال بها في إسقاط حدود الشرع من الكوفيين فالتفصيل الذي ذكرناه هو الصواب. الثامن عشر: يؤخذ منه أيضاً أن المحرم إذا أحرم، حرم عليه جميع ما يتعلق به ما هو سبب إلى تحليله فإنه -عليه الصلاة والسلام- دعا على اليهود حيث أذابوا الشحوم وباعوها وأكلوا أثمانها لأن تحريمها لذاتها لا لوصفها فإن التحريم للوصف يزول بزواله ألا ترى إلى قوله في حديث بريدة الآتي في كتاب الفرائض (¬1) في ذلك اللحم الذي تصدق بها "هو عليها صدقة ولنا هدية" فلما تغير الوصف من الصدقة إلى الهدية صار حلالاً بخلاف المحرم لعينه. التاسع عشر: قد فسر المصنف معنى "جملوه" يقال: أجمل الشحم. وجاء رباعي وثلاثي، والجميل: الشحم المذاب. وفي رواية "اجتملوها"، قال أبو عبيد (¬2): يقال: جملت، وأجملت، واجتملت. ¬

_ = قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (1/ 248): إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رُعافاً، وفي هذا باب من الأخذ بالأدب في ستر العورة، وإخفاء القبيح من الأمر، والتورية بما هو أحسن منه، وليس يدخل في هذا الباب الرياءُ والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء، وطلب السلامة من الناس. اهـ. (¬1) الحديث الرابع من كتاب الفرائض سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى. (¬2) غريب الحديث (3/ 407).

العشرون: روى أبو داود (¬1) بإسناد صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا عند الركن فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال: لعن الله اليهود ثلاثاً وفي لفظ قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" وهذا محمول على ما المقصود منه الأكل بخلاف ما المقصود منه غيره كالعبد، والبغل، والحمار الأهلي فإن أكلها حرام ويجوز بيعها بالإِجماع. ... ¬

_ (¬1) سبق تخريجه وصححه ابن القيم في زاد المعاد (5/ 746). انظر: الحديث التاسع، في باب: ما ينهى عنه من البيوع حديث أبي مسعود.

55 - باب السلم

55 - باب السَّلم السلم: والسلف: بمعنى سُمَّي سلماً لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفاً لتقديمه. قال الماوردي (¬1): والسلف: لغة عراقية، والسلم: لغة حجازية. قلت: وقد أخرج مسلم في صحيحه الحديث باللفظين. وفي "غريب الحديث للخطابي" (¬2): أن في حديث ابن عمر ¬

_ (¬1) الشرح الكبير للماوردي (7/ 3). (¬2) غريب الحديث للخطابي (2/ 411). أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 15). قال الخطابي في حديث ابن عمر: "أنه كان يكره أن يقول السَّلم، وكان يقول السلف" إلى أن قال: السَّلَم: الاستسلام، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، أي من استسلم وأعطى المقادة، وكذلك الإِسلام إنما هو الطاعة لله والانقياد لأمره, وأحدها مشتق من الآخر، كره ابن عمر أن يقال: أسلمت إلى فلان أو أعطيته السَّلَم بمعنى السلف، وأحب أن يكون هذا الاسم محضاً في طاعة الله لا يدخله شيء غيره. اهـ. وذكره ابن عبد البر عن عمر في الاستذكار (20/ 19)، ولعله =

أنه كان يكره أن يقال السلم بمعنى السلف، وكان يقول الإِسلام لله ضن بالاسم الذي هو موضوع للطاعة أن يمتهن في غيرها وصيانة من أن يستذل فيما سواها. وأخرجه البيهقي (¬1) في "سننه" أيضاً: موقوفاً على ابن عمر. وفي حد السلم عبارات لأصحابنا: أحسنها أنه بيع موصوف في الذمة ببدل يُعطي آجلاً بلفظ السلم، فإن أورد بلفظ البيع انعقد بيعاً على الأصح لا سلماً. 289/ 1/ 55 - وذكر المصنف في الباب حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في الثمار: السنتين والثلاث. فقال: "من أسلف في شيء فليسلف في كل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" (¬2). والكلام عليه من وجوه: الأول: فيه دلالة على جواز السلم في الجملة، وهو إجماع من ¬

_ = وهم منه -رحمنا الله وإياه-. (¬1) السنن الكبرى (6/ 29). (¬2) البخاري أطرافه (2239)، ومسلم (1604)، والترمذي (1311)، وأبو داود (3463)، والنسائي (7/ 290)، وابن ماجه (2280)، والدارمي (2/ 260)، والحميدي (510)، والدارقطني (3/ 3، 4)، وابن الجارود (614، 615)، والبغوي (2125)، والبيهقي (6/ 18، 19، 24)، مع زيادات في بعض الروايات كزيادة الحميدي في "تمر معلوم".

الأمة؛ وحكى الماوردي (¬1) وجهين في أنه عقد غرر جوز للحاجة أم لا. الثاني: فيه أيضاً دلالة على جواز السلم إلى السنتين والثلاث. الثالث: فيه دلالة أيضاً على جواز السلم فيما ينقطع في أثناء المدة إذا كان موجوداً عند المحل، فإنه إذا سلم في الثمرة السنتين والثلاث، فلا محالة ينقطع في أثناء المدة إذا حملت الثمار على الرطب. فرع: لو غلب على الظن وجوده، لكن لا يحصَّله إلا بمشقة عظيمة كالعدد الكثير من الباكورة فأقرب الوجهين عندنا البطلان. الرابع: "الواو" في قوله "ووزن" بمعنى "و" التقدير: فليسلم في كيل معلوم إذا كان المسلم فيه مكيلاً أو وزن معلوم إذا كان موزوناً، لأنا لو أخذناها على ظاهرها من معنى الجمع لزم أن يجمع في الشيء الواحد بين السلم فيه كيلاً ووزناً، وذلك يفضي إلى عزة الوجود. وهو مانع من صحة السلم. فتعين حملها على ما ذكرناه من التفصيل. فرع: العد والزرع في معنى الكيل والوزن، وخص الكيل والوزن على الذكر لأنها الغالب، وحاصل ذلك أن العلم بقدر المسلم فيه لا بد منه إما كيلاً أو وزناً أو عداً أو ذرعاً. تنبيه: أجمعوا على اشتراط وصفه بما يضبط به, وإنما لم يذكر ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (7/ 9).

في الحديث لأنهم كانوا يعملون به، فاستغنى عنه، واعتنى بذكر ما كانوا يحلون به من المقدار والأجل. فرع: لو عين كيلاً فسد إن لم يكن معتاداً، وإلا فلا في الأصح، وكذا لو عين ميزاناً معتاداً. الخامس: يصح السلم في المكيل وزناً، وعكسه على الأصح عند الشافعية، لأن المقصود معرفة المقدار بخلاف الربويات على المشهور للتعبد. وقيل: لا يجوز في الموزون كيلاً وحمل أمام الحرمين إطلاق الأصحاب جواز قيل الموزون على ما يعد الكيل في مثله ضابطاً حتى لو أسلم في فتات المسك والعنبر ونحوهما كيلاً لم يصح. وقال الرافعي: يجوز السلم في اللآلىء الصغار إذا عم وجودها كيلاً ووزناً فكأنه اختار إطلاق الأصحاب. الخامس: استدل بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلى أجل معلوم" من منع السلم في الحال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وهؤلاء يوجهون الأمر في قوله: "فليسلف" إلى الأجل والعلم معاً. والشافعي ومن وافقه: في جوازه حالاً يوجهون الأمر في العلم فقط، ويكون التقدير: إن أسلم إلى أجل فليسلم الثمن لأجل معلوم لا إلى أجل مجهول كما تقدم في الكيل والوزن، ولأنه إذا جاز مع الأجل المعلوم وفيه الغرر البيِّن، فمع الحال أولى لأنه أبعد من الغرر.

فرع: لو أطلق السلم حمل على الحلول عندنا على الأصح. وقيل: لا ينعقد. وبناهما الماوردي (¬1) على الخلاف في أن الأصل في السلم التأجيل والحلول رخصة، أم بالعكس أو هما أصل فالأول على الأول والثاني على الثاني. السادس: لا بد من العلم بالأجل كما دل عليه الحديث، فلا يجوز تأقيته بالحصاد والجذاذ وقدوم الحاج، وبه قال الشافعي خلافاً لمالك وإحدى الروايتين عن أحمد وجوّز ابن خزيمة (¬2) تأقيته ¬

_ (¬1) الحاوي (7/ 24). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (4/ 435)، واختار ابن خزيمة من الشافعية نأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي ابعث لي ثوبين إلى الميسرة"، وأخرجه النسائي، وطعن ابن المنذر في صحته بما وهم فيه، والحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب لأنه ليس في الحديث إلاَّ مجرد الاستدعاء، فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه، ولذلك لم يصف الثوبين. اهـ. ولفظه عند النسائي في السنن الكبرى (4/ 42)، عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: كان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردين قطريين، فكان إذا جلس فعرق فيهما ثقلا عليه، وقدم لفلان اليهودي بزمن الشام، فقلت: لو أرسلت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة فأرسل إليه قال: قد علمت ما يريد محمد إنما يريد أن يذهب بمالي أو يذهب بهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذب قد علم أني من أتقاهم لله وآداهم للأمانة", وفي السنن الصغرى (7/ 294)، والترمذي (1213)، وحلية الأولياء (3/ 347)، والبداية والنهاية (9/ 250)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1248)، وسنن النسائي =

بالميسرة لحديث مختلف فيه. السابع: يصح السلم في الحيوان خلافاً لأبي حنيفة، وقد يستدل له بقوله: "من أسلم في شيء" على الصحة، لكن المراد به هنا التمر لقوله في رواية أخرى: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم" إلى آخره. خاتمة: لصحة السلم شروط عندنا، بسَّطناها في كتب الفروع. ومن شروطه عند المالكية: أن لا يكون أكثر منه، لأنه سلف جر منفعة. وليس من شرطه أن يكون المسلَم إليه مالكاً للمسلِّم فيه خلافاً لبعض السلف. ولا أن يكون موجوداً عند العقد خلافاً لأبي حنيفة. وأقل الأجل في السلم عند ابن القاسم خمسة عشر يوماً، وهو المشهور عندهم، وقال غيره: ثلاثة أيام، ولم يحدها ابن عبد الحكم في روايته عن مالك، بل قال أياماً يسيرة، حكاه القرطبي عنه (¬1) قال: وهذا في البلد الواحد، وأما البلدين فيُغنى ما بينهما من المسافة عن اشتراط الأجل إذا كانت معلومة وتعين وقت الخروج. ¬

_ = (957)، وفي الحلية والبداية زيادة "لأن يلبس أحكم من رقاع شتى خير له من أن يستدين ما ليس عنده"، ومن رواية أنس عند أحمد (3/ 244)، وفي تاريخ بغداد (3/ 155) مع اختلاف في الألفاظ. (¬1) المفهم (5/ 2894).

فرع: رؤية مال السلم يكفي عن معرفة قدره على الأظهر عند الشافعي خلافاً لمالك وأحمد. فرع: يجوز عند المالكية (¬1) أن يتأخر رأس السلم ثلاثة أيام بشرط ودونه، ولا يجوز الزيادة على ذلك بالشرط، فإن وقع بطل. وعند الشافعية وأهل الكوفة لا بد من تسليمه في المجلس. ... ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2893).

56 - باب الشروط في البيع

56 - باب الشروط في البيع ذكر فيه ثلاثة أحاديث: الأول 290/ 1/ 56 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءَتني بريرة فقالت: كاتَبْتُ أَهلي عَلى تسعِ أوَاقٍ، في كلِّ عَامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني. فقلت: إن أحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أعُدَّها لَهُم، [ويَكُونَ] (¬1) وَلاَؤُكِ لي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِهَا، فقالت لَهُمْ، فأبَوْا عَلَيْهَا. فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِم، ورَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ، فقالت: إنِّي عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فأبَوْ إلاَّ أنْ يكُونَ لَهُم الْوَلاءُ (¬2)، فأخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: (خُذِيَها، وَاشْتَرطِي لهُم الوَلاَءَ، فإِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ)، فَفَعَلَتْ عائشة، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ، فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: ما بالُ رجالٍ يشترطونَ شرُوطاً لَيْسَتْ في كتابِ اللهِ ما كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ في كتاب اللهِ: ¬

_ (¬1) ساقطة من إحكام الأحكام. (¬2) في متن العمدة زيادة "فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -".

فَهُوَ باطلٌ وَإنْ كانَ مَائَةَ شَرْط، فقضاءُ الله أحق, [وَشَرْطُهُ] (¬1) أوْثَقُ, [فإنما] (¬2) الولاء لمن أعتق) (¬3). هذا حديث عظيم كثير الأحكام، والقواعد والفوائد والفرائد، وقد اعتنى الأئمة بتعداد فوائده وآدابه وعنوا به ونكته وبلَّغوها عدداً جماً كابن جرير الطبري وابن خزيمة إمام الأئمة وغيرها ونحن نذكر مهم ذلك فنقول: الكلام عليه من وجوه: الأول: بريرة -بفتح الباء الموحدة ثم راء مهملة ثم مثناة تحت ثم راء مهملة ثم هاء- على وزن فعلية مأخوذة من البرير وهو ثمر الأراك. ويجوز كما قال القرطبي (¬4): أن تكون من البِرِّ وأن تكون بمعنى: مفعولة. أي: مَبْرُورة كأكيلة السّبُع بمعنى مأكولة. ويجوز أن تكون بمعنى: فاعلة. كرحيمة بمعنى: راحمة. كانت لعتبة بن أبي لهب. ¬

_ (¬1) في متن العمدة "وشرط الله". (¬2) في متن العمدة "وإنما". (¬3) البخاري (2561)، ومسلم (1075، 1504)، وأبو داود في العتق (3929)، باب: في بيع المكاتب الترمذي (2124)، والنسائي (7/ 305)، والسنن الكبرى له (3/ 194). (¬4) المفهم (5/ 2635).

وقال ابن عبد البر (¬1): كانت مولاة لأبي أحمد بن جحش. وقيل: لأناس من الأنصار وزعم النووي في "تهذيبه" (¬2): أنها بريرة بنت صفوان ولم ير له سلفاً. ذكرها: بقي بن مخلد فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً واحداً (¬3). وفي النسائي (¬4) من حديث يزيد بن رومان عن عروة عن بريرة كان فيّ ثلاث سنن قال: وحديث يزيد بن رومان خطأ وروى عبد الملك (¬5) عنها حديث: "إن الرجل يدفع عن باب الجنة بعد أن ¬

_ (¬1) الاستذكار (17/ 152) قال فيه، عن عائشة أن بريرة أعتقت وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد. اهـ. المقصود الإِصابة (6/ 130). قال في الإِصابة (8/ 29) بريرة: مولاة لعائشة، وقيل كانت مولاة لقوم من الأنصار، وقيل لآل عتبة بن أبي لهب، وقيل لبني هلال، وقيل لآل أبي أحمد بن جحش. وفي هذا القول نظر فقد تقدم في ترجمة زوجها مغيث، أنه مولى أبي أحمد، والثاني خطأ فإن مولى عتبة سأل عائشة عن حكم هذه المسألة فذكرة له قصة بريرة. اهـ. (¬2) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 332)، وذكره ابن حجر في الفتح (9/ 411). (¬3) انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر (378). (¬4) انظر: تحفة الأشراف (11/ 271)، والنسائي الكبرى (3/ 196)، وقد رواه البخاري وغيره من رواية عائشة (5097، 5279)، ومسلم (1504)، والنسائي (6/ 162)، والنسائي في الكبرى (4/ 51)، ومالك في الموطأ (562). (¬5) معجم الطبراني الكبير (24/ 205)، والخطيب في تاريخه (14/ 29)، =

ينظر إليها بملء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق" ورواية عبد الملك عنها تدل على تأخيرها إلى بعد الأربعين. وذكر العسكري: أن أمها لها صحبة. الثاني: لفظ "بريرة" اسم جليل في الأصل غير صفة وهي واحدة البربر كما سلف فليس من الصفة في شيء فلذلك لم يغير -عليه الصلاة-. اسمها وإنما غير "برة" إلى "جويرية" و"برة بنت أبي سلمة" وبنت جحش إلى "زينب"، وقال: "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم" (¬1) لأنه صفة. وقول القرطبي (¬2) السالف: أنه يجوز أن تكون فعلية من البِرَّ ليس بجيد. ¬

_ = والكامل لابن عدي (3/ 1140)، وذكره في مجمع الزوائد (7/ 298)، وكنز العمال (39921)، وجمع الجوامع (5506)، والإِصابة (8/ 29)، قال في مجمع الزوائد: وفيه عبد الخالق بن زيد بن واقد وهو ضعيف. اهـ. (¬1) بلفظ: "كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمها إلى جويرية، وكان يكره أن يقال خرج من عند برة"، مسلم: 38، كتاب: الأدب ح (16)، وأحمد (1/ 358)، والأدب المفرد (831). وحديث زينب بنت جحش وزينب بنت أبي سلمة عند مسلم والبخاري (6192)، وأبو داود (4953) وفي الأدب المفرد. ابن ماجه، والدارمي. تنبيه: وردت رواية شاذة أن اسم ميمونة برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة نبه على ذلك الحافظ في الفتح (10/ 475). (¬2) انظر ص 225.

قولها "كاتبت" قيل: إنها أول كتابة كانت في الإِسلام وأول مكاتب في الإِسلام سلمان (¬1). وقيل: أول من كوتب عبد لعمر بن الخطاب يكنى أبا أمية (¬2). قال الروياني: والكتابة إسلامية لا تعرف في الجاهلية (¬3). الرابع: "كاتبت" فاعلت من الكتابة التي هي العقد وإما من معنى الإِلزام كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} (¬4). كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء ¬

_ (¬1) جمع ابن حجر في الفتح (9/ 411)، بأن أولية سلمان في الرجال وأولية بريرة في النساء. (¬2) انظر مصنف ابن أبي شيبة (14/ 139)، والفتح (9/ 411). (¬3) قال الأزهري: وسميت المكاتبة كتابة في الإِسلام، وفيه دليل على أن هذا الإِطلاق ليس عربياً. اهـ. من تهذيب اللغة. انظر الزاهر (275). (¬4) سورة النساء: آية 103، قال في المصباح المنير (525)، (كاتبت) العبد (مكاتبة) و (كتاباً) من باب قاتل قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} و (كتبنا) (كتاباً) في المعاملات و (كتابة) بمعنى وقول الفقهاء (باب الكتابة) فيه تسامح لأن (الكتابة) اسم المكتوب وقيل (للمكاتبة) كتابة تسمية باسم المكتوب مجازاً واتساعاً لأنه يكتب في الغالب للعبد على مولاه كتاب بالعتق عند أداء النجوم ثم كثر الاستعمال حتى قال الفقهاء (للمكاتبة) (كتابة) وأن لم يكتب شيء قال الأزهري وسميت (المكاتبة) (كتابة) في الإِسلام وفيه دليل على أن هذا الإِطلاق ليس عربياً وشذ الزمخشري فجعل (المكاتبة) و (الكتابة) بمعنى واحد ولا يكاد يوجد لغيره ذلك ويجوز أنه أراد الكتاب فطغا القلم بزيادة الهاء قال الأزهري (الكتاب) و (المكاتبة) وإن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال منجم =

والعبد ألزم نفسه المال الذي كاتب عليه. الخامس: "الأهل" (¬1) هنا السادة والملاّك وقد أسلفنا في شرح الخطبة أن ظاهر نص الشافعي أن الأهل كالآل وأنه وجه عندنا في الوصايا الأشبه دخول الزوجة أيضاً. وحكى المتولي عن ثعلب: أنهم نسل الآباء: كالإِخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، وأولادهم دون الأولاد، قال: فيحمل عليه وهذا كله في أهل بيت الرجل. وفي "أهله" دون لفظ "البيت" وجوه عندنا أرجحها في "الروضة" (¬2) أنه كل من تلزمه نفقته والمسئلة مبسوطة في "شرحي للمنهاج" في باب الوقف والوصايا فمن أراد الإِمعان في ذلك وقف عليه. ¬

_ = ويكتب العبد عليه أنه يعتق إذا أدى النجوم وقال غيره بمعناه و (تكاتبا) كذلك فالعبد (مكاتب) بالفتح اسم مفعول وبالكسر اسم فاعل لأنه (كاتب) سيده فالفعل منهما والأصل في باب المفاعلة أن يكون من اثنين فصاعداً يفعل أحدهما بصاحبه ما يفعل هو به وحينئذ فكل واحد فاعل ومفعول من حيث المعنى. وانظر أيضاً تهذيب اللغة (10/ 150)، النظم المستعذب (2/ 111). (¬1) انظر شرح الخطبة في مقدمة الكتاب وشرح حديث "122" ت "6". (¬2) أبو حنيفة يخص الأهل بالزوجة، لأن الأهل حقيقة في الزوجة، قال تعالي: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}، و {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} ويؤيده العرف. وقال الصاحبان: يشمل الأهل كل من تلزمه نفقته ما عدا خدمه، لأن اللغة تستعمل الأهل في أقارب الرجل وعشيرته، قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ}، والأولى الاعتماد على العرف.

وأغرب بعضهم: فاستنبط من قولها: "إن أحب أهلكِ" ومن قولها "فأبوا" إن بريرة كانت مشتركة. السادس: "الأواق" (¬1) جمع أوقية كما سلف بيانه واضحاً في الحديث الثاني من كتاب الزكاة وذكرنا هناك مقدارها ووقع في بعض نسخ مسلم "وقية" (¬2) بغير ألف وهي لغة كما أسلفناها هناك وأن الجمهور على إثبات الألف كما وقع في الكتاب. السابع: قولها: "على تسع أواق، في كل عام أُوقية" هذا هو الصواب وفي رواية معلقة للبخاري (¬3): "أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين" ورجح القرطبي (¬4) الأولى على هذه فإنها من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وهذه من رواية يونس عن ابن شهاب أثبت في حديث أبيه [وجدته] (¬5) من غيره، قال: ويحتمل أن تكون هذه الخمس الأواقي هي التي استحقت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة. ¬

_ (¬1) انظر التمهيد (22/ 169). (¬2) انظر شرح مسلم (10/ 145). (¬3) انظر فتح الباري (5/ 185)، كتاب: المكاتب، باب: المكاتب ونجومه في كل سنة نجم. وتعليق التعليق (3/ 349). (¬4) المفهم (5/ 2637). (¬5) في المفهم جده. والذي يفهم من السياق خالته -أي عائشة- لأن جده الزبير وجدته أسماء لم يرد ذكرهما هنا والراجح [خالته] فليصحح.

وقال غيره: لولا ما روى أنها لم تكن أدت من كتابتها شيئاً لجمع بينهما بأن تكون أصل الكتابة تسعاً والباقي وقت السؤال خمساً (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (5/ 187)، وقد وقع في هذه الرواية المعلقة أيضاً مخالفة للروايات المشهورة في موضع فيه نظر وهو قوله في المتن: "وعليها خمس أواقي نجمت عليها في خمس سنين" والمشهور ما في رواية هشام بن عروة الآتية بعد بابين عن أبيه: "أنها كاتبت على تسع أواق في كل عام أوقية" وكذا في رواية ابن وهب عن يونس عند مسلم، وقد جزم الإِسماعيلي بأن الرواية المعلقة غلط، ويمكن الجمع إن التسع أصل والخمس كانت باقية عليها، وبهذا جزم القرطبي والمحب الطبري، ويعكر عليه قوله في رواية قتيبة "ولم تكن أدت من كتابتها شيئاً" ويجاب بأنها حصل الأربع أواق قبل أن تستعين بعائشة ثم جاءتها وقد بقيت عليها خمس، وقال القرطبي: يجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام، ويؤيده قوله في رواية عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- الماضية في أبواب المساجد: "فقال أهلها إن شئت أعطيت ما يبقى" وذكر الإِسماعيلي أنه رأى في الأصل المسموع على الفربري في هذه الطريق أنها كاتبت على خمسة أوساق وقال: إن كان مضبوطاً فهو يدفع سائر الأخبار. قلت: لم يقع في شيء من النسخ المعتمدة التي وقفنا عليها إلاَّ الأواقي، وكذا في نسخة النسفي عن البخاري، وكان يمكن على تقدير صحته، أن يجمع بأن قيمة الأوساق الخمسة تسع أواق، لكن يعكر عليه قوله: "في خمس سنين" فيتعين المصير إليه إلى الجمع الأول وقوله في هذه الرواية, فقالت عائشة ونفست فيها هو بكسر الفاء جملة حالية أي رغبت. اهـ.

الثامن: اختلف العلماء في جواز بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب. (¬1) ¬

_ (¬1) عرض أقوال أهل العلم في بيع المكاتب: 1 - جمهور أهل العلم: لا يباع إلاَّ على أن يمضي في كتابته عند مشتريه، ولا يبطلها، وهذا عندي بيع الكتابة لا بيع الرقبة. 2 - وقالت طائفة: بيعه جائز ما لم يؤد من كتابته شيئاً، لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئاً. 3 - وقال آخرون: إذا رضي المكتب بالبيع، جاز لسيده بيعه. وهو قول أبي الزناد، وربيعة، وهو قول الشافعي، ومالك أيضاً، إلاَّ أن مالكاً اختلف قوله في كيفية تعجيز المكاتب، ولا يرى بيع رقبة المكاتب إلاَّ بعد التعجيز. وأما رأي الشافعي: فإنه يقول إذا رضي المكاتب بالبيع، فهو منه رضى بالتعجيز، وتعجيزه إليه، لا إلى سيده، لأن بريرة رضيت أن تباع، وهي كانت المساومة لنفسها، والمختلفة بين سادتها الذين كاتبوها، وبين عائشة التي اشترتها. 4 - وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: لا يجور أن يباع إلاَّ للعتق، فكذلك بيعت بريرة. 5 - وقال آخررن: لا يجوز أن تباع حتى تعجز، فإذا عجزت نفسها جاز بيها، وذكروا أن بريرة عجزت نفسها, وللمكاتب أن يعجز نفسه، كان له مال ظاهر أو لم يكن. 6 - وقال آخرون: لا يجوز بيع المكاتب ويجوز كتابة، المكاتب على أنه إن عجز، فللذي اشترى كتابته رقبته، وإن مات المكاتب ورثه دون البائع وإن أدى كتابته إلى الذي اشترى، كان ولاؤه للبائع الذي عقد كتابته. وهو قول لمالك وأصحابه. =

أحدها: جوازه وهو قول عطاء والنخعي وأحمد ومالك في رواية الشافعي في أحد قوليه استدلالاً بهذا الحديث وعليه بوب البخاري بيع المكاتبة إذا رضي المكاتب فإن بريرة كانت مكاتبة وباعتها الموالي واشترتها عائشة وأمر - صلى الله عليه وسلم - ببيعها وعليه بوب البخاري (¬1) "بيع المكاتب إذا رضي [المكاتب] ". وثانيها: منعها وهو قول ابن مسعود وتبعه أبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه وبعض المالكية ومالك في رواية عنه وحملوا الحديث على أن بريرة عجزت نفسها وفسخوا الكتابة بعجزها وضعفها عن الأداء والكسب بدليل سعيها بين عائشة وأهلها وهو دليل على رضاها ورضاهم بإبطالها ومتى رضى السيد والعبد بإبطالها بطلت (¬2). ¬

_ = 7 - وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بيع المكاتب لما في ذلك من نقض العقد له، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لأنه يدخله بيع الولاء. وكذلك لا يجوز بيع كتابته، ولا بيع شيء مما بقي منها عليه، والبيع في ذلك كله فاسد مردود. اهـ. من الاستذكار (23/ 298)، التمهيد (22/ 176). (¬1) البخاري مع الفتح (5/ 194). في الفتح لا يوجد ما بين القوسين. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (22/ 176)، وفيه إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع وإن لم يكن عاجزاً عن أداء نجم قد حل عليه، خلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلاَّ بالعجز، لأن بريدة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم، ولا أخبرت بأن النجم قد حل عليها, ولا قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم فلم تؤديه؟ ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلاَّ بالعجز عن أداء نجم قد حل، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سألها أعاجزة هي أم لا؟ وما كان ليأذن في =

ومنهم من حمله: على أن عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة، مستدلاً على ذلك بقول عائشة في الصحيح: "فإن أحبوا أن أقضي عنكِ كتابتكِ" وذلك يشعر بأن المشترَى: هو الكتابة، لا الرقبة، وقد أجاز مالك بيع كتابته خاصة ويؤدي للمشتري فإن عجز رق له (¬1). والثالث: جوازه للعتق (¬2) دون الاستخدام وهو ظاهر الحديث وفي جواز بيعه إذا كان ظاهر المال ورضى بالعجز قولان للمالكية وكذا لهم خلاف فيما إذا لم يتبين له مال ظاهر ولكنه قادر على التكسب وتحصيل النجوم. التاسع: اختلف العلماء أيضاً في بيع العبد بشرط العتق على قولين. أحدهما: أنه باطل، كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه [أو] (¬3) لا يهبه. ¬

_ = شرائها إلاَّ. بعد علمه - صلى الله عليه وسلم - أنها عاجزة- ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها، وأما خبر الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئاً ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح من حديث بريدة هذا ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يعارضه ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها. اهـ. (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 91) أجيب بأنه خلاف سياق الحديث ولفظه. ومن الأعذار أن بريرة إنما فاوضت أهلها في كتابتها واتفقت معهم على هذا القدر ولم يقع العقد بعد، ولذلك بيعت. وأجيب: بأنه خلاف سياق الحديث أيضاً. (¬2) قال أيضاً: لأن الكتابة إعتاق. (¬3) في إحكام الأحكام بالواو.

والثاني: [وهو أصح قولي الشافعي إنه صحيح والحديث دال عليه] (¬1) [وهو مذهب مالك أيضاً والأول قول أبي حنيفة لكنه قال إن وقع البيع مضى بالثمن وخالفه صاحباه فقالا يمضي بالقيمة] (¬2) [ومن منع البيع منع أن تكون] (¬3) عائشة مشترية للرقبة ويحمل [الحديث] (¬4) على قضاء الكتابة عن بريرة، أو على شراء الكتابة، والأول ضعيف، مخالف [لقوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيح لعائشة "ابتاعي"] (¬5). وأما الثاني (¬6): فهو [يحتاج] (¬7) فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع ¬

_ (¬1) العبارة في المرجع السابق: وهو الصحيح أن العقد صحيح لهذا الحديث. (¬2) غير موجود في المرجع السابق. (¬3) العبارة في المرجع السابق: ومن منع من بيع العبد بشرط العتق فقد قيل: إنه يمنع كون ... إلخ. (¬4) غير موجودة في المرجع السابق. (¬5) العبارة في المرجع السابق: مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات، وهو قوله -عليه السلام-: "ابتاعي" قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 91) على قوله: "ابتاعي" فإنه ظاهر أن المراد ابتاعي رقبتها، بل لا يحمل إلاَّ عليه، وكيف يعبر - صلى الله عليه وسلم - بابتاعي عن قضاء الكتابة عن بريرة؟ هذا لا يفهمه اللفظ. اهـ. (¬6) وقال أيضاً قوله: "وأما الثاني" وهو أن الشراء للكتابة نفسها، فيه أولاً أنه لا يوافق لفظ ابتاعي، فإن المعروف أن المتبادر منه في شراء الأعيان، ولو فرض صحة بيع غيرها فما يتبادر عند الاطلاق إلاَّ بيع الأعيان. (¬7) في المرجع لسابق "محتاج".

البيع بشرط العتق، مع جواز البيع [المكاتب] (¬1)، ويكون [قد] (¬2) ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين، [وهذا] (¬3) يستمد من (¬4) إحداث القول الثالث (¬5). العاشر: إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق، فهل يصح الشرط، أو يفسد؟ فيه قولان للشافعي: أصحهما [الأول] (¬6) لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم ينكر إلاَّ اشتراط الولاء. والعقد تضمن أمرين: اشتراط العتق. واشتراط الولاء. [ولم ينكر إلاَّ الثاني فيبقى] (¬7) الأول مقرراً عليه، ويؤخذ من ¬

_ (¬1) في المرجع السابق "الكتابة وقد". (¬2) غير وجودة في المرجع السابق. (¬3) في المرجع السابق "ولهذا". (¬4) في المرجع السابق زيادة "مسألة". (¬5) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- قوله: "على مسألة إحداث القول الثالث" إشارة إلى ما ذكره الأصوليون أنه إذا اتفق السلف من الأمة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث أو لا؟ المختار أنه لا يجوز إذا لم يرفع القولين، وهنا قد رفع القولين، لأنه رفع القول بجواز بيع المكاتب، والقول بجواز بيعه بشرط العتق. (¬6) العبارة في المرجع السابق: أن الشرط يصح. (¬7) العبارة في المرجع السابق: "ولم يقع الإِنكار إلاَّ للثاني فيبقى"، قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- (4/ 92) فيكون ثبوته بالتقرير، وهو أحد أقسام السنة.

لفظ الحديث، فإن (¬1) من ضرورة [اشتراط الولاء] (¬2) اشتراط العتق (¬3) فيكون من لوازم اللفظ، لا من مجرد التقدير، ومعنى صحة الشرط أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري، فإن امتنع (¬4)، فالأصح عند الشافعية إجباره عليه. الحادي عشر: [ظاهر الحديث صحة] (¬5) اشترط الولاء للبائع [حيث قال] (¬6): واشتراطي لهم الولاء. ولا يأذن (¬7) في عقد باطل، ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة: قوله "اشترطي لهم الولاء. (¬2) غير موجودة في المرجع السابق. (¬3) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 92): فإن ثبوت الولاء فرع ثبوت العتق، فيكون اشتراط العتق من لوازم اللفظ، أي من لوازم قوله: "اشترطي لهم الولاء" فإنه لا ولاء إلاَّ لمن أعتق، فقد وقع صحة البيع بشرط العتق من دلالة التقرير ودلالة لازم اللفظ، إلاَّ أن يقال: إنه بعد إفادة اللفظ اللازمة لا يلاحظ التقرير. (¬4) في المرجع السابق زيادة: فهل يجبر عليه أم لا؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي، وإذا قلنا لا يجبر أثبتنا الخيار للبائع قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- على قوله "أثبتنا الخيار للبائع" وذلك لأنه لم يبعه إلاَّ بشرط العتق، وإذا لم يقع الشرط ثبت له الخيار. (¬5) غير موجودة في المرجع السابق. (¬6) العبارة في المرجع السابق: هل يفسد العقد؟ فيه خلاف. وظاهر الحديث أنه لا يفسده لما قال فيه، قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- على قوله: "وظاهر الحديث لا يفسده" هذا مبني على أن اللام في "لهم" على أصلها, لا أنها بمعنى "علي" ويأتي الكلام في ذلك -إن شاء الله-. (¬7) في المرجع السابق: النبي - صلى الله عليه وسلم -.

[وإذا صح العقد فالشرط باطل لظاهر الحديث أيضاً ولأن] (¬1) القياس يقتضي أن الأثر يختص بمن صدر منه السبب، والولاء من آثار العتق (¬2)، فمختص بمن صدر منه العتق [وهو المشتري المعتق] (¬3) وهذا التمسك والتوجيه في صحة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "واشترطي لهم الولاء" وسيأتي (¬4) على الأثر وأبدى الإِمام فيه بحثاً أثبته الرافعي وجهاً وأنكره عليه لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يأذن في باطل. الثاني عشر: وهو أشكل ما في الحديث وأصعبه أنه -عليه الصلاة والسلام- كيف أذن في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن لهم في وقوع البيع، على هذا الشرط ويدخل البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟ وفي ذلك نوع خداع من عائشة لهم في ذلك. فاختلف الناس في الكلام على هذا الإِشكال، العظيم ¬

_ (¬1) العبارة في المرجع السابق: -وإذا قلنا إنه صحيح، فهو يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي- والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه، وموافق للقياس أيضاً من وجه، وهو أن ... إلخ. الصنعاني قال -رحمنا الله وإياه- على قوله: "موافق لألفاظ الحديث وسياقه" لأنه ما سبق إلاَّ لإِنكار ذلك، وموافقته للقياس فقد أوضحها الشارح المحقق. اهـ. (¬2) ما بعده غير موجود في المرجع السابق في هذا الموضع. (¬3) في المرجع السابق: وهو المعتق. (¬4) إلى هنا انتهى نقله من إحكام الأحكام.

فمنهم من صَعُب عليه، فأنكر هذه اللفظة. أعني قوله: "اشترطي لهم الولاء" وقد نقل ذلك المازري (¬1) عن يحيى بن أكثم وقد وقع في كثير من الروايات سقوطها وهذا ما شجع يحيى على إنكارها. ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 225) , ويحيى بن أكثم -بفتح الهمزة وبمثلثة- ابن محمد التميمي الأسيدي أبو محمد، قال أحمد: ما عرفناه ببدعة، مات سنة 242. وقد وصل هذا الأثر الخطابي في معالم السنن (4/ 246) ط دار المعرفة في بيروت -عن أبي رجاء الغنوي عن أبيه عن يحيى. والمنقول عنه في ذلك قوله: "هذا لا يجوز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتوهم أنه يأمر بغرور أحد. وقال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في أعلام الحديث (2/ 1057) وقد اختلف الناس في قوله "اشترطي لهم الولاء" فذهب بعضهم إلى أن هذه اللفظة لا تصح في الرواية، وأنها شيء تفرد به مالك، عن هشام عن عروة لم يتابع عليه. اهـ. وقال الخطابي في إعلام الحديث (2/ 1057)، وليس الأمر على ما ذهبوا إليه، وقد تابع مالكاً في روايته عن هشام بن عروة، جرير بن عبد الحميد، وأبو أسامة -حماد بن سلمة- وقد ذكر أبو عبد الله من رواية أبي أسامة في غير هذا الموضع من الكتاب. اهـ. وقال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في تلخيص الحبير (3/ 13) قال الرافعي: قالوا: إن هشام بن عروة تفرد بقوله: "اشترطي لهم الولاء" ولم يتابعه سائر الرواة والله أعلم. وقد قيل: إن عبد الرحمن بن نمر تابع هشاماً على هذا، فرواه عن الزهري عن عروة نحوه. اهـ. انظر الاستذكار (23/ 189، 210)، وبالتأكيد (23/ 200)، التمهيد (22/ 180).

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وبلغني عن الشافعي (¬2) قريب منه، وأنه قال هذه اللفظة تفرد بها هشام بن عروة عن أبيه دون غيره من الثقات الأثبات والأكثرون على إثبات هذه اللفظة للثقة برواتها، واختلفوا في التأويل والتخريج على وجوه: أحدها: أن "لهم" بمعنى "عليهم" لقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬3) بمعنى عليهم، وقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬4)، أي: فعليها وهذا منقول عن الشافعي (¬5) وغيره. قال النووي (¬6): وهو ضعيف لأنه -عليه الصلاة والسلام- أنكر الاشتراط ولو كان كما قاله صاحب هذا التأويل لم ينكره. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 94)، قال ابن حجر-رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 190) واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابي في "المعالم" بسنده إلى يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك، وعن الشافعي في "الأم" الإِشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرحة بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، وروايات غيره قابلة للتأويل، وأشار غيره إلى أنه روى بالمعنى الذي وقع له، وليس كما ظن، وأثبت الرواية آخرون وقالوا: هشام ثقة حافظ، والحديث متفق على صحته فلا وجه لرده. اهـ. (¬2) الأم (3/ 16). (¬3) سورة الرعد: آية 25. (¬4) سورة الإِسراء: آية 7. (¬5) انظر معرفة السنن (14/ 462)، والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 339)، وساقه في الاستذكار (23/ 201). (¬6) انظر شرح مسلم (10/ 140).

وقد يجاب عن هذا: بأن -عليه الصلاة والسلام- ما أنكر إلاَّ ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر. وقال الشيخ تقي الدين (¬1): أيضاً فيه ضعف. أما أولاً: سياق الحديث (¬2) وكثيراً من ألفاظه ينفيه. وأما ثانياً: فلأن "اللام" لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فقد يكون في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع، وقد لا يكون. ثانيها (¬3): أن يكون الاشتراط المذكور بمعنى ترك المخالفة ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 94). (¬2) قال الصنعاني -رحما الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 94) قوله: "أما أولاً فلأن سياق الحديث" ضعيف بأمرين: أما الأول: فلم نافاته كثيراً من ألفاظه, قال النووي: تأويل "اللام" بمعنى "على" هنا ضعيف لأنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر الاشتراط ... إلخ، كلامه -وقد سبقت الإشارة إليه-. والثاني: أن "اللام" للاختصاص المطلق فكيف تجعل بمعنى "على" التي للاضراب؟ لأنك تقول شهد له، أي: لنفعه، وشهد عليه لاضراره، فالقرينة ظاهرة من السياق، فههنا، أي: فيما مثلنا به في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع، بخلاف الحديث فإنه ليس فيه ما يدل على ذلك حتى يبد لها باللفظ الدال على الاضرار، وحاصل مراده أن اللام لمطلق الاختصاص وجعلها بمعنى "على" صيرها لمعنى الاضرار. (¬3) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 95) على كلام لم يسقه المؤلف -ما فهمته من كلام بعض المتأخرين وتلخيصه-. قال: قوله: "وتلخيصه" هذا الجواب تصرف في لفظ الفعل، والأول =

لما شرطه البائعون، وعدم إظهار النزاع فيما دعوا إليه، مراعاة لمصلحة الشرع في العتق وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل، ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الأذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه -سبحانه وتعالى-، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإِباحة والتجويز؟ وذلك موجود في كلام الله تعالى على ما قاله المفسرون في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ} (¬1)، وليس المراد بالإِذن: إباحة الله تعالى الأضرار بالسحر، ولكنه لما خَلَّى بينهم وبين ذلك الإِضرار أطلق عليه لفظ "الإِذن" مجازاً. قال الشيخ تقي الدين، وهذا وإن كان محتملاً -إلاَّ أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ-. ثالثها: أن لفظة: "لاشتراط" (¬2) و"الشرط" وما تصرف منها ¬

_ = تصرف في الحرف، ولخصه ابن حجر فقال: معنى "اشترطي" اتركي مخالفتهم فيما يشترطون ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه لتنجيز العتق لتشوف الشارع إليه، وقد يعبر عن الترك بالفعل كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أي: بتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإِذن إباحة الإضرار بالسحر. اهـ. (¬1) سورة البقرة: آية 102. (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (5/ 191) فزعم الطحاوي أن المزني حدثه به عن الشافعي بلفظ: و"اشرطي" بهمزة قطع بغير تاء مثناة، ثم وجهه بأن معناه: أظهري لهم حكم الولاء، والاشتراط الإِظهار -ثم ساق بيت أوس بن حجر إلى أن قال- وأنكر غيره الرواية. =

يدل على الإِعلام والإِظهار. ومنه: أشراط الساعة، والشرط اللغوي، والشرعي. ومنه قول أوس بن حَجَر -بفتح الحاء والجيم-. فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا أي: اعلمها وأظهرها، وإذا كان كذلك حمل "اشترطي" على معنى: أظهري حكم الولاء وبينيه واعلمي أنه لمن أعتق، على عكس ما أورده السائل وفهم من الحديث. ويؤيد هذا ما نقله الطحاوي عن الشافعي أنه روى هذه اللفظة عن مالك عن هشام بن عروة بإسناده ولفظه وقال فيها: "واشرطي لهم الولاء" بغير تاء. ¬

_ = والذي في "مختصر المزني" و"الأم" وغيرهما عن الشافعي كرواية الجمهور "واشترطي" بصيغة أمر المؤنث من الشرط. اهـ. قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 96) والشارح المحقق أجرى هذا الاحتمال في الرواية الثانية هنا, ولا يقال لا بد من حمل اللفظة في البيت على اشترط لأنا نقول: قد أشار بقوله "إن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منها يدل على الإِعلام" واعلم أنه سكت عليه الشارح كالمرتضى له، وكذلك سكت عليه الحافظ ابن حجر. ثم قال: قلت: ويخفى أن قيامه - صلى الله عليه وسلم - خطيباً وقوله: "ما بال قوم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله" يشعر بأن الشرط في كلام عائشة كالشرط في كلامهم، وإلاَّ لكان إعلام عائشة لهم بحكم الله تعالى في الولاء كافياً إلاَّ أن يقال إنه - صلى الله عليه وسلم - أكد إعلامهم بحكم الله، ولكن التأسيس خير من التأكيد، وكذلك "اللام" تأتي بمعنى "عليهم"، إلاَّ أنه عندي أقرب الوجوه، على ما فيه. اهـ.

لكن قال القرطبي (¬1): هذه الرواية حيث مما انفرد بها الشافعي عن مالك والجمهور من الأئمة الحفاظ على ما تقدم. الرابع: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان قد أخبرهم أن "الولاء لمن أعتق" ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه، فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ (¬2)، لمخالفتهم الحكم الشرعي، وغاية ما في الباب إخراج لفظة الأمر عن ظاهرها وقد وردت خارجة عن مواضعها (¬3) في غير موضع يمتنع إجراؤها فيها على ظاهرها كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬4) {فَمَنْ شَاءَ} (¬5) ومعلوم أنه ليس المراد إطلاق المشيئة منهم في عملهم وكفرهم، وعلى هذا الوجه لا يبقى غرور (¬6). ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2642). (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 96) على قوله: "فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ" يريد به قوله: "اشترطي" فإنه رمز يراد به ذلك على ما نبينه قريباً. (¬3) وقال أيضاً على قوله: "وقد وردت خارجة عن ظاهرها في مواضع" إلاَّ أنه يرد عليه ما أورده قريباً من أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من اللفظ، فالقرينة ما ذكرناه. اهـ. (¬4) سورة فصلت: آية 40. (¬5) سورة الكهف: آية 29. (¬6) قال الحافظ ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 191) , ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - حين خطبهم قال: "ما بال رجال يشترطون ... " إلخ فوبخهم بهذا القول مشيراً إلى أنه قد سبق منه بيان حكم الله لإِبطاله، إذ لو لم يسبق منه بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة لا بتوبيخ الفاعل، لأنه كان يكون =

الخامس: أن يكون إبطال هذا الشرط عقوبة لمخالفتهم حكم الشرع، فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية المسامح بها لأجل الشرط، ويكون هذا من باب العقوبة بالمال، كحرمان القاتل الميراث. السادس: أن ذلك خاصاً بهذه القضية لا عام في سائر الصور، وسبب التخصيص بإبطال هذا الشرط للمبالغة في الرجوع عنه المخالفة للشرع، كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصاً بتلك الواقعة، مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج، وهذا قاله أصحابنا في كتب الفقه. قال النووي (¬1): وهو أصح التأويلات. ¬

_ = باقياً على البراءة الأصلية. اهـ. قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية: (4/ 97) إلاَّ أنه يبعده أن عائشة كانت جاهلة لكون الولاء لمن أعتق، بدليل أنها قالت لبريرة: "إن أحب أهلك أن أعدها ويكون ولاؤك لي"، فإنها لو كانت عالمة بأن الولاء لمن أعتق لم تحتج إلى ذلك قطعاً، ومن البعيد أن يعلمه أهل بريرة ولا تعلمه عائشة. اهـ. (¬1) شرح مسلم (10/ 140)، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (5/ 191)، وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلاَّ بدليل، ولأن الشافعي نص على خلاف هذه المقالة. اهـ. قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 98)، وكأن هذا التعقب في غير شرحه على العمدة، أو أنه في نسخة منه لم نجدها. اهـ.

وقول الشيخ تقي الدين (¬1): إن هذا الوجه جعله بعض متأخري الشافعية إلاَّ صحّ في تأويل الحديث أراد به النووي وقوى بعضهم الوجه الرابع وقال إنه أظهرها برواية البخاري (¬2) "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاءوا" -فاشترتها وأعتقتها واشترط أهلها الولاء- ومال إليه الأصيلي أيضاً. الثالث عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما الولاء لمن أعتق" دال على "إن" كلمة "أن" للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عن من لم يعتق، فدل على أن مقتضاها الحصر. وقد قررنا ذلك في حديث "إنما الأعمال بالنيات" كما سلف لك، وقد أثبت العلماء الولاء في صور بغير العتق لكنها في معناه، كما إذا باعه أو أعتقه على مال، أو كاتبه أو استولدها، وعتقت بموته. ويثبت الولاء للمسلم على الكافر وعكسه، وإن كانا لا يتوارثان في الحال لعموم الحديث. واختلفوا: فيمن أعتق وشرط أن لا ولاء له وهو المسمى "بالسائبة" (¬3). ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 98). (¬2) البخاري كتاب المكاتب -باب إذا قال المكاتب اشترني وأعتقني، فاشتراه لذلك ح (2565). (¬3) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في إحكام الأحكام (4/ 99) بالسين المهملة، شبوه بسوائب الجاهلية حيث أضاع ولاءه مولاه، قالوا ويكون ولاؤه لبيت مال المسلمين. اهـ انظر الاستذكار (23/ 223، 225).

ومدهب الشافعي ومن وافقه: إلى ثبوت الولاء، وأن الشرط لاغٍ، لأنه ثابت بالشرع، فلا يحذف بالشرط. ولا ولاء بالحِلْف، ولا بالموالاة، ولا بالإِسلام -وهو أن يسلم الرجل على يد الرجل- ولا بالتقاطه اللقيط، كما هو ظاهر الحديث في حصره الولاء للمعتق وهو مذهب مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأحمد وداود والجمهور (¬1). وقال ربيعة والليث وأبو حنيفة وأصحابه: من أسلم على يديه رجل فولاؤه له (¬2). وقال إسحاق: يثبت للملتقط الولاء (¬3). وقال أبو حنيفة: يثبت الولاء بالحلف ويتوارثان به والحديث ¬

_ (¬1) للاطلاع على أقوال أصحاب المذهب: الشرح الكبير مع المغني (3/ 7)، وحاشية ابن عابدين (488/ 5)، والفوائد الشنشورية (35)، ونهاية المحتاج (6/ 9، 10)، والشرح الكبير للمالكية: (4/ 416)، وتفسير ابن جرير (8/ 288)، والاستذكار (23/ 205، 207)، والتمهيد (3/ 80). (¬2) اختلف أهل العلم فيمن أسلم على يديه رجل هل يكون ولاؤه له على ثلاثة أقوال:- المنع مطلقاً، الولاء له مطلقاً، التفصيل: فقيل: إن عقل عنه ورثه، وقيل: إن والاه ورثه وقيل: إن كان حربياً وأسلم على يديه ورثه وإلاَّ فلا. اهـ. من التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية (41). (¬3) الالتقاط: هو أخذ طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ في شارع أو غيره أو ضل. واختلفوا على قولين، عدم التوريث، ثبوت التوريث بالالتقاط. اهـ. من المرجع السابق انظر الاستذكار (22/ 157، 159).

دال للجمهور (¬1). الرابع عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام- "ما بال أقوام" إلى قوله: "وإن كان مائة شرط" مقتضاه أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط مبالغة في إبطال جميع الشروط التي ليست في كتاب الله تعالى وكأنه من باب قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (¬2) ولا شك أن من الشروط ما هو صحيح كاشتراط الرهن والكفيل والخيار ونحو ذلك. ومنها ماهو باطل كما هو مقرر في الفروع ومعلوم أن الأول جميعه ليس في كتاب الله وظاهر الحديث يقتضي بطلانه ولا بد من تأويله على أن المراد بكتاب الله تعالى حكم الله، وهو أعم أن يكون في كتاب الله أو مستنبطاً منه. وأن المراد به ما بينه الشارع في سنته واستنبطه العلماء منها، فيكون المراد بالحديث نفي كونها في كتاب الله ¬

_ (¬1) المراد به ما كانوا يفعلون في الجاهلية حيث كان الرجل يرغب في خلة الآخر فيعاقده، ويقول له: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك ويقبل الآخر ثم توارثوا في الإِسلام بهذا الحلف بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، وقد اختلف العلماء هل بقي ذلك في الإِسلام فيكون من أسباب الأرث أو نسخ على قولين: الأول: أن الأرث به لم ينسخ وإنما حدث وارث آخر هو أولى منه كحدوث ابن لمن له أخ. الثاني: أن ولاء الحلف والمعاقدة منسوخ بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}. اهـ. من المرجع السابق بتصرف. (¬2) سورة التوبة: آية 80.

بواسطة أو بغيرها من حيث إن كلها في كتاب الله فالذي في كتاب الله تعالى هو المنصوص عليه فيه من الأحكام بغير واسطة والذي هو بواسطة كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬2)، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ ...} (¬3) الآية. الخامس عشر: "الولاء" (¬4) بفتح الواو والمد وأصله من الولي وهو القرب، وهو سبب يورث به ولا يورث وسيأتى الكلام على لفظ العتق في بابه آخر الكتاب إن قدر الله الوصول إليه. السادس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما بال رجال)، أي: أخالهم و"البال" من الألفاظ المشتركة. السابع عشر: في المراد بكتاب الله وشرطه أقوال: أحدها: حكمه كما قدمته ونسبة هذا قوله في حديث العسيف: "لأقضين بينكما بكتاب الله" (¬5) وليس التغريب والرجم في نص الكتاب. ثانيها: القرآن، قال الداودي: وكأنه إشارة إلى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الحشر: آيه 7. (¬2) سورة النساء: آية 59. (¬3) سورة النساء: آية 83. (¬4) سيأتي تعريفه إنشاء الله في كتاب: الفرائض. (¬5) البخاري (2695، 2696)، ومسلم (1697)، ومالك في الموطأ (2/ 822)، وأحمد (4/ 115، 116)، والدارمي (2/ 177). وسيأتي تخريجه في الحديث الثاني من كتاب الحدود.

{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1)، وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (¬2). وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} (¬3). وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4). ثالثها: قال القاضي (¬5) عياض: وعندي أنه الأظهر أنه ما أعلم به -عليه الصلاة والسلام- من قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬6) و"مولى القوم منهم" (¬7) و"الولاء لحمة كلحمة النسب" (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 5. (¬2) سورة الأحزاب: آية 37. (¬3) سورة النساء: آية 188. (¬4) سورة الحشر: آية 7. (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 165). (¬6) حديث الباب. (¬7) مسند أحمد (3/ 448) (4/ 430)، وسنن الدارمي (2/ 244)، ومعجم الكبير (12/ 197)، وذكره في مجمع الزوائد (1/ 195) (10/ 31)، ونصب الراية (4/ 148)، وكنز العمال (29642)، ومشكاة المصابيح (3051) , وتلخيص الحبير (4/ 214). وقد ورد بلفظ "مولى القوم من أنفسهم" عند البخاري وأبي داود والبيهقي، والبغوي في السنة وغيرهم. (¬8) أخرجه الشافعي (2/ 72، 73)، والحاكم (4/ 341)، والبيهقي =

الثامن عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: (قضاء الله أحق وشرطه أوثق)، أي: أحق بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع. وشرطه أوثق باتباع حدوده التي حدها. التاسع عشر: ظاهر هذا عدم اشتراط المشاركة بين المفضل والمفضل عليه إذ ما شرطوه من ثبوت الولاء لهم باطل، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (لا مشاركة بين الحق والباطل) (¬1) إلاَّ أن يقال إن ذلك جاء على ما اعتقده أو على إن صيغة أفضل ليس على بابها ويكون كقول تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬2)، أي: يقين، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (اسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر) (¬3) فإن أعظم بمعنى عظيم كما سلف في باب المواقيت. العشرون: في فوائده على وجه الاختصار: الأولى: جواز الكتابة بالسنة تقريراً لحكم الكتاب (¬4). الثانية: جواز كتابة الأنثى للتقرير لأن الآية ليست نصاً فيها إذ الدين ظاهر في الذكر فقديتوهم اختصاصها به لعجز النساء وضعفهن ¬

_ = (10/ 292)، وعبد الرزاق (16149)، وسعيد بن منصور (284)، ابن أبي شيبة (6/ 122)، وابن حبان (4950)، وأشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (23/ 44)، وقال: والمحفوظ في هذا ما أخرجه عبد الرزاق ... إلخ. (¬1) لم أجده بعد البحث. (¬2) سورة الروم: آية 27. (¬3) انظر الجزء الثاني، كتاب: المواقيت ص 236. (¬4) انظر الاستذكار (23/ 192).

عن التكسب غالباً فبين الحديث دخولها أيضاً. الثالثة: جواز كتابة الأمة المزوجة لأنها كانت مزوجة. الرابعة: جواز كتابتها دون إذن زوجها ورضاه. لأنه لم يذكر في الحديث (¬1). الخامسة: إنه ليس لزوجها منعها من الكتابة وإذا أدى ذلك إلى فراقها باختيارها إن كان عبداً على قول الجمهور أو كيف كان على القول الآخر لترك الاستفصال في الحديث (¬2). السادسة: أن الزوج لا يدخل في كتابتها فيجوز كتابة أحد الزوجين دون الآخر ولا يدخل ولدها أيضاً فإن ولد بريرة لم يلحقها في ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق. (¬2) قال مالك في الموطأ (789) الأمر عندنا، أن المكاتب إذا كاتبه سيده تبعه ماله، ولم يتبعه ولده، إلاَّ أن يشترطهم في كتابته. وهذا هو قول مالك، والشافعي، والليث بن سعد، والأوزاعي حجتهم حديث ابن عمر: "من أعتق عبداً له مال، فماله له، إلاَّ أن يشترطه السيد". وانظر تفصيل المسألة في الاستذكار (23/ 147، 151، 292,259). وقال أيضاً (260)، وقوله: "ولم يتبعه ولده" فإن المعنى فيه، أن ولده ليسوا بمال بيده، ولا ملك له، وإنما هم عبيد سيده، فلا يدخلون في الكتابة إلاَّ بالشرط. (¬3) المرجع السابق (23/ 193).

السابعة: جواز كتابة من لا مال له ولا حرفة لترك الاستفصال (¬1) وهو ظاهر سؤالها لعائشة أيضاً وهو مذهب مالك والشافعي والثوري وجماعة غيرهم (¬2). واختلف عن مالك في كتابة من لا حرفة له (¬3). وكرهها الأوزاعي وأحمد وإسحاق وروى مثله عن عمر (¬4) خلافاً لمن تأول من السلف أن المراد بالخير في الآية المال وهو عند أكثرهم الدين والأمانة والقوة على الكسب عند بعضهم (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (23/ 196). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق (23/ 196، 249، 250). (¬4) المرجع السابق (23/ 196، 250). (¬5) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (23/ 193، 194)، وفيما وصفنا دليل على أن قول من تأول قول الله -عز وجل-: {اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ} أن الخير ها هنا المال، ليس بالتأويل الجيد، وإن كان قد روى عن جماعة من المسلمين. والدليل على ضعف هذا التأويل إجماع العلماء على أن مال العبد للسيد، إن شاء أن ينتزعه من عنده انتزعه ومن قال منهم: إن العبد يملك، ومن قال: إنه لا يملك، فكيف يكاتبه بماله إلاَّ أن يشأ ترك ذلك له. وأصح ما في تأويل الآية، والله أعلم أن الخير المذكور فيها هو القدرة على الاكتساب مع الأمانة، وقد يكتسب بالسؤال كما قيل: السؤال آخر كسب الرجل، أي أرذل كسب الرجل. اهـ. وقال أيضاً (23/ 247). واختلفوا أيضاً في قوله عز وجل: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}: [النور:33]: فقالت طائفة: الخير المال، والغنى، والأداء. وقال آخرون: الصلاح والدين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال آخرون: الخير ها هنا حرفة يقوى بها على الاكتساب. وكرهوا أن يكاتبوا من لا حرفة له فيبعثه عدم حرفته على السؤال. وقال آخرون: الدين والأمانة، والقوة على الأداء. وقال آخرون: الصدق، والقوة على طلب الرزق. قاله مجاهد، وعطاء. قال عطاء: هو مثل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]. قال ابن جريج: قلت لعطاء أرأيت إن لم أعلم عنده مالاً، وهو رجل صدق؛ قال: ما أحسب خيراً إلاَّ المال. وقاله مجاهد. وقال عمرو بن دينار: هو كل ذلك؛ المال والصلاح. وقال طاووس: المال، والأمانة. وقال الحسن، وأخوه سعيد، والضحاك، وأبو رزين، وزيد بن أسلم، وعبد الكريم: الخير: المال. وقال سفيان: الدين، والأمانة. وقال الشافعي: إذا جمع القوة على الاكتساب والأمانة. وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، قال: إن علمتم عندهم أمانة. والثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: صدقا ووفاء. قال أبو عمر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، مالاً. قال: ويقال: علمت فيه الخير، والصلاح والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال: علمت عنده المال. ومن قال: إن مال المكاتب لسيده إذا عقدت كتابته، فلا يكون الخير عنده =

الثامنة: إنه ليس له منعها من السعي. التاسعة: أنه لا حق له في خدمتها، إذ لو كان كذلك لمنعها (¬1). العاشرة: جواز الاستعانة على نجوم الكتابة بأهل الخير والفضل وقوله -عليه الصلاة والسلام- لحكيم بن حزام "لا تسئل أحداً" (¬2) يحمل على الأولى. الحادية عشرة: إعانة المكاتب في كتابته ولا خلاف في ذلك فيما إذا كانت الإِعانة من التطوع واختلف في معونته من الفرض حكاه المالكية (¬3). ¬

_ = إلاَّ القوة على الكسب، والتحرف. (¬1) أي في كتابتها. انظر لهما المرجع السابق (23/ 192)، وقال فيه: ولو استدل مستدل من هذا المعنى، بأن الزوجة ليس عليها خدمة زوجها لكان حسناً. اهـ. (¬2) البخاري الفتح (3/ 265، 266)، كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، ومسلم (1035)، والترمذي (2463)، والنسائي، كتاب: الزكاة، باب: (91)، وأحمد (3/ 402)، والبيهقي (4/ 196)، والحاكم (2/ 3)، والطبراني في الكبير (3/ 211)، والسنة (6/ 115). (¬3) وأما قوله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} [60 من سورة التوبة]، فقال مالك والأوزاعي: لا يعطى المكاتب من الزكاة شيئاً لأنه عبد ما بقي عليه درهم والعبد لا يعطى منها موسراً كان أو معسراً ولا من الكفارات من أجل أن ملك العبد عنده غير مستقر ولسيده انتزاعه، هذا في الكفارات. وأما في المكاتب فإنه ربما عجز فصار عبداً. * قال مالك: ولا يعتق من الزكاة إلاَّ رقبة مؤمنة، ومن اشترى من زكاته رقبة مؤمنة فأعتقها كان ولاءها لجماعة المسلمين. * وهو قول عبيد الله بن الحسن. * وقال أبو ثور: لا بأس أن يشتري الرجل الرقبة من زكاته فيعتقها على عموم الآية. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = * وقال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، وابن شبرمة: لا يجزىء العتق من الزكاة. * ومعنى قول الله تعالى عندهم {وَفِي الرِّقَابِ} هم المكاتبون، فإن أعطى المكاتب في أخذ كتابته ما يتم به عتقه كان حسناً، وإن أعطاه في غير تلك الحال ثم عجز أجزته. * وقد روي عن مالك أنه يعان المكاتب. * وهو قول الطبري، والأول هو تحصيل مذهب مالك. * وقال الشافعي: الرقاب المكاتبون من جيران الصدقة، فإن اتسع لهم السهم أعطوا حتى يعتقوا وإن دفع ذلك الوالي إلى من يعتقهم فحسن، وإن دفعه إليهم أجزأه. اهـ. وانظر الاستذكار (23/ 258). * واختلفوا أيضاً في قوله عز وجل: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. * فقالت طائفة: الخير المال، والغنى، والأداء. * وقال آخرون: الصلاح والدين. * وقال آخرون: الخير ها هنا حرفة يقوى بها على الاكتساب. * وكرهوا أن يكاتبوا من لا حرفة له فيبعثه عدم حرفته على السؤال. * وقال آخرون: الدين والأمانة، والقوة على الأداء. * وقال آخرون: الصدق، والقوة على طلب الرزق. * قاله مجاهد، وعطاء. * قال عطاء: هو مثل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180]. * قال ابن جريج: قلت لعطاء أرأيت إن لم أعلم عنده مالاً، وهو رجل صدق، قال: ما أحسب خيراً إلاَّ المال. * وقاله مجاهد. * وقال عمرو بن دينار: هو كل ذلك، المال والصلاح.

الثانية عشرة: جواز سؤال ذلك قبل الحلول لأنه روى أنها لم تكن قضت شيئاً من كتابتها. الثالثة عشرة: أن سؤال ذلك لا يوجب تعجيزه. الرابعة عشرة: اكتسابه في الحال له لا لسيده إلاَّ إذا عجز لقولها "أعينيني" لأن مقصود الكتابة لا يتم إلاَّ به. الخامسة عشرة: جواز حكاية ما يقع من ذلك خصوصاً إذا قصد به تعريف الأحكام. السادسة عشرة: جواز تصرف المرأة في مالها بالشراء والإِعتاق وغيرهما إذا كانت رشيدة من غير إذن زوجها وإرسالها إلى من تعامله بغير إذنه أيضاً. السابعة عشرة: جواز الاستعانة بالمرأة المزوجة بغير إذن زوجها ¬

_ = * وقال طاووس: المال، والأمانة. * وقال الحسن، وأخوه سعيد، والضحاك، وأبو رزين، وزيد بن أسلم، وعبد الكريم: الخير: المال. * وقال سفيان: الدين، والأمانة. * وقال الشافعي: إذا جمع القوة على الاكتساب والأمانة. * وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، قال: إن علمتم عندهم أمانة. * والثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: صدقاً ووفاء. قال أبو عمر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النو ر: 33] مالاً. * قال: ويقال: علمت فيه الخير، والصلاح والأمانة، ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال: علمت عنده المال.

لقولها: "أعينيني" ولم ينكر عليها وهو راجع إلى ما قبله (¬1). الثامنة عشرة: جواز شراء السلعة بأكثر من ثمن مثلها، لأن عائشة بذلت بعدِّ ما سموه نسيئة في تسعة أعوام والأجل مقابلة قسط من الثمن. التاسعة عشرة: جواز سؤال الأمة من يشتريها ويعتقها، وإن كان قد يضر بالسيد لفك الرقبة من ربقة الرق. العشرون: جواز الاستدانة لمن ليس له مال عند حاجته إليه خلافاً لمن منعه، لأن كتابة بريرة مع مواليها سببه الاستدانة ممن لا شيء له. الحادية والعشرون: المبادرة إلى إجابة السائل، وعرض ما يفعل من الخير معه عليه، وعلى من يتعلق به إمضاء ذلك الخير. الثانية والعشرون: أن الكتابة تكون على، نجوم لأنها كوتبت على تسع أواق، في كل عام أوقية. ومذهب الشافعي وغيره: أنها لا تجوز على نجم واحد بل على نجمين فصاعداً. وقال مالك والجمهور: تجوز على نجم وعلى نجمين. وحكى عن بعضهم: أنه لا تجوز إلاَّ على ثلاثة. وعند مالك أنه إذا لم يسم أجلاً، ولا نقد النجم، [أنجمت عنده] (¬2) بقدر سعايته وقوته وإن كره السيد. ومنعها الشافعي جملة. وقال: ليست بكتابة. ¬

_ (¬1) أي السادس عشر. (¬2) زيادة من إكمال إكمال المعلم (4/ 160).

الثالثة والعشرون: بجواز فسخ الكتابة إذا أعجز المكاتب نفسه. وإن كان فيه إبطال حرية، لتقدم بريرة على سعيها من عائشة وأهلها في فسخ كتابتها. إذ لو لم يكن فسخاً لأمر بشرائها وإعتاقها، وأخبر أن الولاء لها. وهل يتوقف التعجيز على إذن الحاكم (¬1)؟ فيه خلاف للمالكية. وكذا لهم خلاف في رضاه بتعجيز نفسه، وإن كان له مال. فقال ابن شهاب وربيعة وأبو الزناد: إذا رضي بالبيع فهو عجز، وجاز بيعه. وقال مالك: لا يجوز ذلك إلاَّ بعجزه عن الأداء، ولا يكون له مال وتأول بعضهم عجز بريرة ولذلك استعانت بعائشة. الرابعة والعشرون: جواز بيع المكاتب وقد علمت المذاهب فيه. الخامسة والعشرون: جواز بيع المكاتب بشرط العتق عند من قال به كما سلف. السادسة والعشرون: جواز بيع الرقيق بشرط العتق كما سلف أيضاً. السابعة والعشرون: المكاتب غير عتيق بنفس الكتابة، وأنه عبد ما بقي عليه درهم، كما صرح به الحديث المشهور في سنن أبي داود وغيره، وهو قول عامة العلماء وفقهاء الأمصار. وحُكي عن بعض السلف: أنه حر بنفس الكتابة، وهو غريم بالكتابة، ولا يرجع إلى الرق أبداً (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الاستذكار (23/ 297). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (23/ 231)، وهذا قول ترده السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة بريرة، من حديث عائشة وغيرها، أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها, ولم تكن قضت من كتابتها =

وحكى عن بعضهم: أنه إذا عجز أُعتق فيه بقدر ما أدى. رُوِيَ عن علي -رضي الله عنه- (¬1). وحكى عن بعضهم: أنه إذا أدى الشطر من كتابته فهو حر، وهو غريم بالباقي (¬2)، وحُكِيَ عن عمر بن الخطاب (¬3). ¬

_ = شيئاً -وذكر طرق الحديث- إلى أن قال- فهذا يدل ويبين أن المكاتب عبد جائز بيعه للعتاقة إذا عقدت كتابته، ولم يؤد منها شيئاً، وأنه لو كان بعقد كتابته حراً غريماً من الغرماء، لم يجز بيعه عند أكثر العلماء. (¬1) قال ابن عبد البر أيضاً: أنه إذا عجز يعتق منه بقدر ما أدى، ويورث، ويرث، ويؤدَّي بقدر ما أدى من كتابته -روى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن علي -رضي الله عنه-. أقول: هذا العطف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى علي -رضي الله عنه- لعله خطأ من الناسخ- ثم ساق الحديث بإسناده عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: "يُؤَدَّي المكاتب بقدر ما أدى دية حُرَّ، وبقدر ما رق منه دية عبدٍ". -أخرجه أبو داود (4581) في الديات: باب في دية المكاتب، والنسائي في القسامة والقود، باب دية المكاتب. وفي كتاب العتق في الكبرى. وعن علي -رضي الله عنه- قال: "يعتق المكاتب بقدر ما أدى" مصنف عبد الرزاق (8/ 410)، معرفة السنن (14/ 447)، والسنن الكبرى (10/ 331). (¬2) إذا أدى قيمته فهو غريم، روى عن شريح وابن مسعود. (¬3) انظر الاستذكار (23/ 234)، ودليلهم ما روى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إذا أدى المكاتب الشطر، فلا رق عليه" مصنف عبد الرزاق (8/ 325، 410)، والمحلى (9/ 33، 229)، ومعرفة السنن (14/ 447)، والسنن الكبرى (10/ 325). وقد روى عنه خلافة أنه قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم"، وقد تقدم تخريجه. =

وعن ابن مسعود وشريح مثل هذا، إذا أدى الثلث (¬1)، وعن عطاء مثله إذا أدى ثلاثة أرباع المال (¬2). السابعة والعشرون: جواز إعطاء الصدقات لموالي قريش خلافاً لمن منع ذلك، لأن بريرة مولاة لهم، ولم ينكر -عليه الصلاة والسلام- الصدقة عليها، فإن كانت هذه الصدقة واجبة كان دليلاً لمن جوّز إعطائها لمواليهم، وهو أحد الوجهين عند الشافعية، والصحيح المنع. الثامن والعشرون: ثبوت الولاء للمعتق، وهو إجماع، سواء كان عبداً أو أمة إذا أعتقه عن نفسه. واختلفوا فيها إذا أعتقه عن رجل بعينه أو عن جماعة المسلمين. فمذهب مالك (¬3): أن الولاء للمُعتَقِ عنه، سواء كان رجلاً بعينه أو جماعة المسلمين. وحمل الحديث على أن المراد به من أعتق عن نفسه، بدليل ما إذا أعتق الوكيل عن غيره بإذنه. قلت: الوكيل يخرج بقوله - صلى الله عليه وسلم - "صحيح البخاري" (¬4): "إن الولاء لمن أعطى الورق وولى النعمة". وقال باقي الأئمة الأربعة فيما حكاه ابن هبيرة: إن الولاء لمن ¬

_ = قال ابن عبد البر في الاستذكار (23/ 241)، وهذا الإِسناد خير من الإِسناد عنه، بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه. (¬1) انظر الاستذكار (23/ 235)، ومصنف عبد الرزاق (8/ 410). (¬2) المرجع السابق وفيه أقوال أخرى، راجعه للاطلاع عليها. (¬3) انظر الاستذكار (23/ 209). (¬4) البخاري (6760)، (456)، المسند (6/ 186)، شرح السنة للبغوي (8/ 350)، الترمذي (2125)، وأبو داود (2916)، ومسلم، والنسائي، والبيهقي.

أعتق قال: وزاد أبو حنيفة فقال: إنه للمُعتِق ولو كان المُعتَق عنه أذن في أن يُعتَق عنه (¬1). وقال ابن نافع المالكي في المعتق [عن] (¬2) جماعة المسلمين: إن الولاء له دونهم، وألزمه بعضهم أن يقول بمذهب المخالف بذلك في المعين. قلت: وقد يفرق بينهما. وقال جماعة من السلف: يتولى من شاء، فإن مات قبل ذلك فولاؤه للمسلمين. وقيل: يشتري بتركته رقاب فيعتقن حكاها القاضي. واختلف في ولاء المكاتب والعبد يشتري نفسه من سيده. فقيل: ولاؤه لسيده، وهو قول مالك وأكثر العلماء. وقيل: لا ولاء عليه. قال المازري (¬3): وكان بعض شيوخنا يخالف في قوله: أنت حر عن المسلمين ويرى أن بقوله: أنت حر، استقر الولاء له، واستئنافه بعد ذلك جملة ثانية هي قوله: "لا ولاء ليّ عليك" لا يُغير حكم الأولى، لأنه إخبار عن أن حكم الجملة الأولى المستقرة بالشرع ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار -رحمنا الله وإياه- (23/ 210)، قال أبو حنيفة: إن قال أعتق عني عبدك على مالٍ ذكره، فالولاء للمُعْتَقِ عنه، لأنه بيعٍ صحيح، إذا قال: أعتق عبدك عني بغير مالٍ، فالولاء للمُعْتِقِ، لأن الآمر لم يملك منه شيئاً، وهي هبة باطلة، لأنها لا يصح فيها القبض. اهـ. (¬2) في الأصل: (على)، وما أثبت أولى. (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 227).

على خلاف ما حكم الله به , فيكون إخباره كذباً، فلا يلتفت إليه. التاسعة والعشرون: أنه لا ولاء بغير العتق، وقد تقدم ما فيه. الثلاثون: ثبوت الولاء للمسلم على الكافر (¬1) وعكسه لعموم الحديث كما سلف. الحادية والثلاثون: الأدب في الخطبة بالتعريض دون التصريح لمن بلغه عن رجل أو جماعة ما يكره لقوله "ما بال رجال" ولم يسمهم ولم يواجههم بالخطاب، لأن المقصود يحصل من غير شناعة عليهم. وهو حسن بالغ. قال الفاكهي (¬2): ولا أبعد أن يكون هذا المعنى أصله في كتاب الله تعالى، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ...} (¬3) الآية. وما كان مثل هذا، وقال تعالى في سورة التوبة "ومنهم" و"منهم". الثانية والثلاثون: شرعية الخطبة للأئمة الكبار لأمر يحدث من وقوع بدعة أو مخالفة للشرع، ليبين ذلك للناس، ليعرف الخطأ من الصواب، منكراً على من يخالف الشرع. الثالثة والثلاثون: بدأة الخطيب بحمد الله والثناء عليه. الرابعة والثلاثون: شرعية قول "أما بعد" في الخطب بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، وذلك سنة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث، وقد أهملها ¬

_ (¬1) الاستذكار (23/ 225، 226). (¬2) ورد اسمه هكذا في الكتاب والصواب "الفاكهاني" انظر: البداية والنهاية (14/ 168)، الدرر الكامنة (3/ 178). (¬3) سورة البقرة: آية 8.

الخطباء، فينبغي لهم التفطن لها. الخامسة والثلاثون: التغليظ في إزالة المنكر والمبالغة في تقبيحه. السادسة والثلاثون: جواز السجع في الكلام إذا لم يكن بتكلف لقوله -عليه الصلاة والسلام- "كتاب الله أحق" إلى آخره، وإنما نهى -عليه الصلاة والسلام- عن سجع الكهان وما أشبهه بما فيه تكلف، وإقسام على علم غيب وإبطال حق (¬1). السابعة والثلاثون: أن بيع الأمة المزوجة ليس بطلاق، ولا ينفسخ به النكاح، وبه قال جماهير العلماء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الاستذكار (23/ 204). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في التمهيد (3/ 59)، وفي تخيير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة بعد أن بيعت من عائشة -رضي الله عنها- دليل على أن بيع الأمة ليس بطلاق لها، وفي ذلك بطلان قول من قال: بيع الأمة طلاقها, لأن بيعها لو كان طلاقاً لم يخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن تبقى مع من طلقت، أو تطلق نفسها, لأنه محال أن تخير، وهي مطلقة، وهذا واضح يغني عن الإكثار فيه، وهذا القول يروي عن بعض الصحابة، وأكثر الفقهاء وعلى خلافة بحديث بريرة هذا والله أعلم وقال أيضاً (22/ 183). وفي هذا الحديث دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق لها, لأن العلماء قد أجمعوا -ولم تختلف في ذلك الآثار أيضاً- أن بريرة كانت إذ اشترتها عائشة ذات زوج -إلى أن قال- وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها، خيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -بين أن تقر عند زوجها، وبين أن يفسخ نكاحها، وفي تخييره لها في ذلك دليل أن بيع الأمة ليس بطلاقها, لأن بيعها لو كان طلاقاً، ما خيرت وهي مطلقة، وعلى القول بأن بيع الأمة ليس بطلاق لها جماعة فقهاء =

وقال سعيد بن المسيب: هو طلاق. وعن ابن عباس: أنه فسخ للنكاح، وهذا الحديث يردهما، فإنها خيرت في بقائها معه، كما ستعلمه في حديثها الآتي في آخر كتاب الفرائض إن شاء الله. الثامنة والثلاثون: جواز بيع أحد الزوجين دون الآخر. التاسعة والثلاثون: جواز شراء العبد نفسه من مولاه لأنه حقيقة الكتابة، وكذا مساومته، لأنها ساومت مواليها في حق نفسها. الأربعون: صحة اشتراط الولاء للبائع وفيه ما سلف. الحادية والأربعون: منعه لإِنكاره -عليه الصلاة والسلام-. الثانية والأربعون: أن المكاتب إذا أدَّى النجوم من الصدقة أو من غيرها وجب عليه القبول أو الإِبراء، وليس له الرد. ¬

_ = الأمصار من أهل الرأي والحديت، وجمهور السلف. وقد روى عن بعضهم أن بيع الأمة طلاق لها، وممن روى ذلك عنه، ابن مسعود، وابن عباس، وقال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة -رحمه الله- في فتوى ابن عباس -رضي الله عنه- إن بيع الأمة طلاقها مع روايته لقصة بريرة وتخيير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها بعد البيع والعتق وشهادته أنه رأى زوجها يتبعها في الأسواق دليل على أن المخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخبر وإن كان فقيهاً عالماً مبرزاً، قد يعزب عنه بعض دلائل الخبر الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ابن عباس قد عزب عنه مع علمه وفهمه وفقهه -موضع الاستدلال بذلك إذا كان يقول: بيع الأمة طلاقها، قال: ومن هذا الباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها لمن لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى له من سامع. اهـ. الاستذكار (17/ 159) (19/ 79).

الثالثة والأربعون: إذا عجل نجومه قل محلها وجب قبولها إذا لم يكن ضرر لقول عائشة: "أعدها لهم" ولم ينكر عليها. الرابع والأربعون: أنه يعتق بأداء النجوم قبل محلها خلافاً لمن منعه (¬1). الخامسة والأربعون: أن غير المكاتب إذا أدى عنه مال الكتابة عتق بذلك، ويكون كأدائه عن نفسه لقولها "أعدها لهم". السادسة والأربعون: قبول خبر الواحد إذا كان مصدقاً، لأنه -عليه الصلاة والسلام- وعائشة قبلا خبر بريرة عن أهلها وبنيا عليه. السابع والأربعون: قبول خبر الأمة المصدقة، وكذا العبد، وإن ردت شهادتهما. الثامنة والأربعون: جواز تزويج المرأة الحسناء بالرجل الذميم ومنعه قوم. التاسعة والأربعون: أن التأجيل في المعاملات والحقوق إنما يكون بالسنة العربية القمرية، لقولها: "في كل عام أوقية" والعام إنما هو بالعربية. الخمسون: أن مال الكتابة لا حد فيه، لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يستفصل عن ذلك، وهو وقت بيانه، وفيه غير ذلك من الفوائد فمن أراد استيفاءها والإِحاطة بطرق حديثها نظرها من التأليف التي أشرنا إليها، وهذا عيونها ومهماتها وسنذكر قطعة أخرى منها في حديثها الآخر الذي ذكره المصنف آخر الفرائص إن شاء الله الوصول إليه وقدره. ... ¬

_ (¬1) انظر الاستذكار (123، 318، 321).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 291/ 2/ 56 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، أنه كان يسير على [جمل فأعيا] (¬1)، فأراد أن يسيبه (¬2)، فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا لي وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله (¬3) قال: "بعنيه بأوقية". قلت: لا، ثم قال: "بعنيه"، فبعته بأُوقية، واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في أثري، فقال: "أتراني ماكستك لأخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك" (¬4). هذا حديث عظيم مشتمل على فوائد جمة. والكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في متن العمدة: (جمل له، قد أعيا). (¬2) في متن العمدة زيادة: قال. (¬3) في متن العمدة زيادة: قط ثم. (¬4) البخاري (2718)، ومسلم (715) , والنسائي (7/ 297، 298)، والنسائي في الكبرى (4/ 45/ 6233)، وأحمد (3/ 299، 314، 325، 328، 350، 362)، وأبو داود (3505)، والترمذي (1253)، والبيهقي (5/ 337)، وشرح السنة للبغوي (8/ 56).

الأول: معنى "أعي" كلَّ. يقال: أعيا الرجل في الشيء فهو معيي، ولا يقال عيان، وأعياه الله. وأعيا عليه الأمر، وتعايا ويعيا بمعنى (¬1). وقوله: "فأراد أن يسيبه"، أي يطلقه متجرد منه لا أن يجعله سائبة لا يركبه أحد، كما كانت الجاهلية تفعله. الثاني: "الوقية" بحذف الألف لغة، كما أسلفته في الحديث قبله، والأشهر إثباتها. الثالث: وقع هنا أنه باعه "بأُوقية". قاله وهب وزيد بن أسلم أيضاً (¬2). وفي رواية "بأربعة دنانير" قال عطاء (¬3): وهو سواء على حساب الدينار عشرة دراهم؛ وهذا وقع في كتاب الشروط للبخاري في قوله: "بأربعة دنانير" هذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة، ¬

_ (¬1) فائدة: عَيِىَ في اللسان. وأعْيَ: كَلَّ وتَعِب. اهـ من طبقات الشافعية لابن السبكي (4/ 328). (¬2) هذه الرواية وما بعدها برقم (2718)، والفتح (5/ 314). (¬3) قال ابن حجر-رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 320) على قوله: "وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة" هو من كلام المصنف، قصد به الجمع بين الروايتين، وهو كما قال بناء على أن المراد بالأوقية، أي من الفضة، وهي أربعون درهماً، وقوله: "الدينار" مبتدأ. وقوله: "بعشرة" خبره، أي دينار ذهب بعشرة دراهم فضة، ونسب شيخنا ابن الملقن هذا الكلام إلى رواية عطاء -كما في سياقه هنا- ولم أر ذلك في شيء من الطرق لا في البخاري ولا في غيره، وإنما هو من كلام البخاري. اهـ.

وفي الصحيح (¬1) أيضاً "بأوقية ذهب"، وفي البخاري (¬2)، وقال: داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر "اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال: بأربعة أواق"، "وقال أبو إسحاق عن سالم، عن جابر بمائتي درهم"، وقال أبو نضرة عن جابر: "اشتراه بعشرين ديناراً". قال البخاري: قول الشعبي "بوقية" أكثر. وعزا النووي في شرحه (¬3) إلى البخاري، أنه رواه بثمانمائة درهم، ولم أرها فيه. ولعله بمائتي درهم كما أسلفته، لكن ذكرها ابن التين أيضاً. وجمع الداودي بين هذه الروايات فقال: ليس لأوقية الذهب وزن معلوم. وأوقية الفضة أربعون درهماً. قال: وسبب الاختلاف أنهم رووه بالمعنى. فالمراد وقية ذهب، كما سبق، ويحمل عليها من قال: "أُوقية" وأطلق، ومن قال: "خمس أواق"، فالمراد: خمس أواق من الفضة، وهي بقدر قيمة أوقية من ذهب في ذلك الوقت، فيكون الإِخبار بأُوقية الذهب عما وقع عليه العقد وبأواقي الفضة عما حصل به الإِيفاء، ويحتمل أن هذا كله زيادة على الأوقية كما قال في رواية "فما زال يزيدني" ورواية "أربعة دنانير" موافقة، أو يحتمل أن أوقية الذهب إذ ذاك وزن أربعة دنانير. ورواية "أوقيتين" يحتمل أن ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المرجع السابق إلى آخر كلام البخاري. (¬3) شرح مسلم (11/ 31). وانظر: رد ابن حجر هذه الرواية في الفتح (5/ 320).

أحدهما وقع بها البيع، والأُخرى زيادة، كما قال في رواية "وزادني أوقية" ورواية "درهم أو درهم" موافقة لرواية "وزادني قيراطاً" ورواية "عشرين ديناراً" محمولة على دنانير صغار كانت لهم، ورواية "أربعة أواق" شك فيها الراوي، فلا اعتبار بها، وفي هذا الجمع نظر، وكيف يعمل في رواية الثمانمائة درهم، ورواية الطحاوي "سبع أواق" أو "تسع أواق" لا جرم. قال القرطبي (¬1): إنه تكلف بيِّن وتقدير أمر لم يصح نقلاً، ولا استقام ضبطه مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، والحاصل أن البيع وقع بثمن معلوم لهما، وزاده عند القضاء زيادة محققة ولا يضرنا جهلنا بمقدار ذلك (¬2). وعند ابن إسحاق (¬3): أنه أعطاه فيه درهماً، فقال اغبن يا رسول الله. قال السهيلي (¬4): وروى من وجه صحيح أنه كان يقول له كلما زاده درهماً قد أخذته بكذا والله. يغفر لك. فكأنه أراد بإعطائه إياه درهماً درهماً أن يكثر استغفاره له. وما ذكرناه عن الداودي من أنه ليس لأوقية الذهب وزن معلوم، يخالفه قول الخليل: إنها سبعة مثاقيل. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2877). (¬2) انظر: فتح الباري، فإنه وجه الروايات حسب توجيه المصنف (5/ 320). (¬3) السيرة لابن إسحاق (3/ 218)، ومسند أحمد (3/ 375). (¬4) الروض الأنف (3/ 254). أخرجه ابن حبان (7141، 7142)، والنسائي في فضائل الصحابة (144)، والترمذي (3852)، والحاكم (3/ 565).

وقال غيره: بسبعة ونصف حكاها صاحب "المغيث" (¬1). وقال ابن سيده (¬2): الأوقية: زنة سبعة مثاقيل، وزنه أربعين درهماً. الرابع: هذا الشراء منه - صلى الله عليه وسلم - كان بطريق تبوك، كما قدمناه عن رواية البخاري. وفي "طبقات ابن سعد" (¬3): إن ذلك كان من رجوعه من غزوة ذات الرقاع. وكذا ذكره ابن إسحاق (¬4)، وفي البخاري (¬5): في "باب: من ضرب دابة غيره في الغزو"، عن جابر قال: سافرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره -قال أبو عقيل: أحد رواته لا أدري غزوة أم عمرة- وساق الحديث. وفي رواية له في "باب: استئذان الرجل الإِمام" [في الجهاد (¬6)] (¬7) "غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -" وساق الحديث. وكذا ذكره (¬8) في "باب: طلب الولد" من كتاب النكاح. ¬

_ (¬1) انظر: هذا وما قبله المجموع المغيث (1/ 109). (¬2) المخصص (12/ 266). (¬3) طبقات ابن سعد (2/ 61). (¬4) في السيرة (3/ 218). (¬5) الفتح (6/ 65) ح (2861). (¬6) غير موجودة في الفتح. (¬7) المرجع السابق (6/ 121) ح (2967). (¬8) أي البخاري (9/ 341) ح (5245، 5246).

وفي رواية له (¬1): "فأعطاني ثمن الجمل والجمل وسهمي مع القوم". وفي رواية الطحاوي (¬2): أن بيعه الجمل كان حين أقبلوا من مكة إلى المدينة. الخامس: "واستثنيت حُملانة" هو بضم الحاء وسكون الميم، أي الحمل عليه، والمفعول محذوف، أي حملانه إياي أو متاعي أو نحو ذلك، فالمصدر فيه مضاف إلى الفاعل. وقوله: "فأرسل في إثري" هو بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحها، وفي رواية لمسلم (¬3): "فلما وليت قال: "ادعوا لي جابراً"، قلت: الَآن يرد عليّ الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه، فقال: "خذ جملك، ولك ثمنه". ¬

_ (¬1) في البخاري كتاب الاستقراض، باب: الشفاعة في وضع الدين ح (2405، 2406)، والفتح (5/ 67). (¬2) عند ابن حبان (6517، 4911)، وأبو يعلى (1898). انظر كلام ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 320) حيث جمع بن مختلف الروايات ورجح أنه كان في غزوة، وأنها غزوة ذات الرقاع، وعلل ذلك بأن ذات الرقاع بعد أُحد بسنة واحدة على الصحيح، لأنه سأله: هل تزوج أم لا؟ فأجابه بأنه تزوج ثيباً لأن أباه استشهد بأُحد وترك أخواته، فتزوج ثيباً لتمشطهن وتقوم عليهن. وكانت غزوة تبوك بعدها بسبع سنين. (¬3) مسلم ص (1079)، وفي البخاري أيضاً كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير. ح (2097)، والفتح (4/ 320)، وابن حبان (7143).

السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أتراني ماكستك؟ ". قال أهل اللغة: المماكسة: المكالمة في النقص من الثمن، وأصلها النقص، ومنه مكس الظالم وهو ما يأخذه وينتقصه من أموال الناس. قال ابن الأثير (¬1): وذكر الزمخشري في "فائقه" (¬2) أنه روى "ماكستُك" من المكاس، ومعناه ظاهر، وروى: "أنما كِسْتُك" وهو من كايسته فَكِسْتُهُ، أي كنت أكيس منه. وقوله: "لأخذ جملك"، قال القرطبي (¬3): هو بكسر لام كي، ونصب الفعل المضارع. كذا جميع الرواة، قال: وقد قُيِّد على أبي بحر "لا. خُذ جملك" على "لا" النافية "وخذ" على الأمر، قال: والمعنيان واضحان. قلت: والأول أوضح لأن في الثاني نوع تأكيد فيه "خذ جملك" مرة أخرى. السابع: استدل بهذا الحديث الإِمام أحمد ومن وافقه على جواز بيع الدابة، ويشترط البائع لنفسه ركوبها؛ وبه قال ابن شبرمة وجماعة، وجوّزه مالك إذا كانت مسافة الركوب قريبة، وحمل الحديث على هذا. ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز ذلك مطلقاً، سواء قلَّت المسافة أو كثُرت. ولا ينعقد احتجاجاً بالنهي عن بيع وشرط. ¬

_ (¬1) جامع الأصول (1/ 519). (¬2) الفائق (3/ 290). وزاد رواية "إنما ماكستك"، من المكاس. اهـ. (¬3) المفهم (5/ 2874).

قال القرطبي (¬1): وزاد أن هذا أولى من حديث جابر إما لأنه ناسخ له، أو مرجح عليه. وأجابوا عن هذا الحديث: بأنها واقعة عين تطرق إليها احتمالات. قالوا: ولأنه -عليه الصلاة والسلام-: أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع. قالوا: ويحتمل أن الشرط لم يكن في نفس العقد، ولعله كان نسأها، فلم يؤثر ثم تبرع -عليه الصلاة والسلام- بذلك. قلت: وهو صريح رواية النسائي الآتية: "أخذته بكذا وكذا، وقد أعرتك ظهره إلى المدينة". وظاهر إحدى روايات الصحيح "فبعته منه بخمس أواق، قال: قلت: علي أن لي ظهره إلى المدينة. قال: ولك ظهره إلى المدينة. فلما قدمت المدينة أتيته به فزادني وقية ثم وهبه لي"، فهذا شاهد كون الاشتراط وقع بعد العقد، وأيَّد القاضي أبو الطيب هذا بأنه جاء في بعض ألفاظ الخبر "فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة". وهذه الرواية إن ثبتت كان معنى "نقدني الثمن" قرره لي، إذ صريح الروايات أنه إنما وفاه الثمن بالمدينة، وظاهر رواية الكتاب تدل على أنه وقع الشرط في العقد. وجاء ذلك لأنه لم يكن بيعاً مقصوداً وإنما منفعته لا مبايعته. وكذا رواية البخاري على "أن لي فقار ظهره" و"شرط ظهره إلى المدينة"، ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2872).

وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لك ظهره" و"تبلغ عليه إلى أهلك" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر اختلاف الروايات في الفتح (5/ 314) ح (2718)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 318). قوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف: (الاشتراط أكثر وأصح عندي) أي أكثر طرقاً وأصح مخرجاً، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة: هل وقع الشرط في العقد عند البيع أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد شرائه على طريق العارية؟ وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي المذكورة، لكن اختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب من سفيان، والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عدداً من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح، ويترجح أيضاً بأن الذين رووه بصيغة الاشتراط معهم زيادة، وهم حفاظ فتكون حجة، وليست رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره, لأن قوله: "لك ظهره" و"أفقرناك ظهره" و"تبلغ عليه" لا يمنع وقوع الاشتراط قبل ذلك. وقد رواه عن جابر بمعنى الاشتراط أيضاً أبو المتوكل عند أحمد ولفظه "فبعني ولك ظهره إلى المدينة" لكن أخرجه المصنف في الجهاد من طريق أخرى عن أبي المتوكل. فلم يتعرض للشرط إثباتاً ولا نفياً، ورواه أحمد من هذا الوجه بلفظ: "أتبيعني حملك؟ قلت: نعم. قال: أقدم عليه المدينة" ورواه أحمد من طريق أبي هبيرة عن جابر بلفظ: "فاشترى مني بعيراً فجعل لي ظهره، حتى أقدم المدينة" ورواه ابن ماجه وغيره من طريق أبي نضرة عن جابر بلفظ: "فقلت يا رسول الله هو ناضحك إذا أتيت المدينة". ورواه أيضاً عن جابر نبيح العنزي عند أحمد فلم يذكر الشرط، ولفظه: "قد أخذته بوقية، قال: فنزلت إلى الأرض، فقال: ما لك؟ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: جملك. قال: اركب، فركبتت حتى أتيت المدينة"، ورواه أيضاً من طريق وهيب بن كيسان عن جابر، فلم يذكر الشرط، قال فيه: "حتى بلغ أوقية، قلت: قد رضيت، قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته. ثم قال: يا جابر هل تزوجت" الحديث. وما جنح إليه المصنف من ترجيح رواية الاشتراط هو الجاري على طريقة المحققين من أهل الحديث، لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف، إلاَّ إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرد به الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان الترجيح، قال ابن دقيق العيد: إذ اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات، أما إذا وقع الترجيح لبعضها بأن تكون رواتها أكثر عدداً أو أتقن حفظاً فيتعين العمل بالراجح، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل الأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح، وقد جمح الطحاوي إلى تصحيح الاشتراط لكن تأوله بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة لقوله في آخره: "أتراني ماكستك ... إلخ" قال: فإنه يشعر بأن القول المتقدم لم يكن على التبايع حقيقة، ورده القرطبي بأنه دعوى مجردة وتغيير وتحريف لا تأويل، قال: وكيف يصنع قائله في قوله: "بعته منك بأُوقية" بعد المساومة؟ وقوله: "قد أخذته" وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة في ذلك؟ واحتج بعضهم بأن الركوب إن كان من مال المشتري فالبيع فاسد، لأنه شرط لنفسه ما قد ملكه المشتري، وإن كان من ماله ففاسد، لأن المشتري لم يملك المنافع بعد البيع من جهة البائع، وإنما ملكها لأنها طرأت في ملكه. وتعقب بأن المنفعة المذكورة قدرت بقدر من ثمن المبيع، ووقع البيع بما عداها، ونظيره من باع نخلاً قد أبرت واستثنى ثمرتها، والممتنع إنما هو استثناء شيء مجهول للبائع والمشتري، أما لو علماه معاً فلا مانع، فيحمل ما وقع في هذه القصة على ذلك. وأغرب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن حزم فزعم أنه يؤخذ من الحديث أن البيع لم يتم لأن البائع بعد عقد البيع مخير قبل التفرق، فلما قال في آخره: "أتراني ماكستك" دل على أنه كان اختار ترك الأخذ، وإنما اشترط لجابر ركوب حمل نفسه، فليس فيه حجة لمن أجاز الشرط في البيع، ولا يخفى ما في هذا التأويل من التكلف. وقال الإِسماعيلي: قوله: "ولك ظهره" وعد قام مقام الشرط، لأن وعده لا خلف فيه، وهبته لا رجوع فيها, لتنزيه الله تعالى له عن دناءة الأخلاق، فلذلك ساغ لبعض الرواة أن يعبر عنه بالشرط، ولا يلزم أن يجوز ذلك في حق غيره. وحاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد، وإنما وقع سابقاً أو لاحقاً، فتبرع بمنفعته أو لا، كما تبرع برقبته أخراً. ووقع في كلام القاضي أبي الطيب الطبري من الشافعية أن في بعض طرق هذا الخبر "فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة" واستدل بها على أن الشرط تأخر عن العقد، لكن لم أقف على الرواية المذكورة، وإن ثبتت فيتعين تأويلها على أن معنى "نقدني الثمن" أي قرره لي، واتفقنا على تعيينه، لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن قبضه الثمن إنما كان بالمدينة، وكذلك يتعين تأويل رواية الطحاوي "أتبيعني جملك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار" الحديث، فالمعنى أتبيعني بدينار أوفيكه إذا قدمنا المدينة. وقال المهلب: ينبغي تأويل ما وقع في بعض الروايات من ذكر الشرط على أنه شرط تفضل، لا شرط في أصل البيع ليوافق رواية من روى "أفقرناك ظهره" و"أعرتك ظهره" وغير ذلك مما تقدم، قال: ويؤيده أن القصة جرت كلها على وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضاً قول جابر "هو لك، قال: لا بل بعنيه" فلم يقبل منه إلاَّ بثمن رفقا به, وسبق الإِسماعيلي إلى نحو هذا، وزعم أن النكتة في ذكر البيع أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبر جابراً على وجه لا يحصل لغيره طمع في مثله، فبايعه في جمله على اسم البيع ليتوفر عليه بره، ويبقى البعير قائماً على ملكه، فيكون ذلك أهنأ =

قال البخاري (¬1): "والاشتراط أكثر وأصح عندي". وقال المغيرة (¬2): هذا في قضائنا حسن، لا نرى به بأساً. وعند الطحاوي (¬3): "يا جابر أتبيعني ناضحك هذا إذا قدمنا المدينة بدينار؟ والله يغفر لك"، قلت: يا رسول الله إذا قدمنا المدينة فهو لك، قال: فبعنيه بدينارين والله يغفر لك" الحديث. وهي مخالفة لما سلف. واعلم: أن بعضهم أشار إلى اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث ¬

_ = لمعروفه. قال: وعلى هذا المعنى أمره بلالاً أن يزيده على الثمن زيادة مهمة في الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإِحسان إليه من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك. وتعقب بأنه لو كان المعنى ما ذكر، لكان الحال باقياً في التأميل المذكور عند رده عليه البعير المذكور والثمن معاً، وأجيب بأن حالة السفر غالباً تقتضي قلة الشيء بخلاف حالة الحضر فلا مبالاة عند التوسعة من طمع الآمل. واقوى هذه الوجوه في نظري ما تقدم نقله عن الإِسماعيلي من أنه وعد حل محل الشرط. وأبدى السهيلي في قصة جابر مناسبة لطيفة غير ما ذكره الإِسماعيلي، ملخصها أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر جابراً بعد قتل أبيه بأحد أن الله أحياه وقال: ما تشتهي فأزيدك، أكد - صلى الله عليه وسلم - الخبر بما يشتهيه فاشترى منه الجمل، وهو مطيته بثمن معلوم، ثم وفر عليه الجمل والثمن وزاده على الثمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم بثمن هو الجنة ثم رد عليهم أنفسهم وزادهم، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. اهـ. (¬1) المرجع السابق. (¬2) البخاري، الفتح (6/ 121). (¬3) ابن حبان (7141)، وقد سبق تخريجه.

مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب، فإن بعض الألفاظ صريح في الاشتراط، وبعضها ليس بصريح. قال الشيخ تقي الدين: وإذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج. قال: وهذا صحيح بشرط تكافؤ الروايات، أو تقاربها. أما إذا كان الترجيح واقعاً لبعضها -إما لأن رواته أكثر، أو أحفظ- فينبغي العمل بها. إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالأقوى، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح. فتمسك بهذا الأصل. فإنه نافع في مواضع عديدة. منها: أن المحدثين يعللون الحديث بالاضطراب، ويجمعون الروايات العديدة. فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف. والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق، فما كان منها ضعيفاً أسقط عن درجة الاعتبار، ولم يجعل مانعاً من التمسك بالصحيح القوي. قال: ومذهب مالك، وإن [قال بظاهر] (¬1) الحديث فهو يخصصه باستثناء الزمن اليسير (¬2). وربما قيل إنه ورد ما يقتضي ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل [وإن كان ظاهر]، وما أثبت من إحكام الأحكام (4/ 104). (¬2) قال الشيخ علي الهندي -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على حاشية إحكام الأحكام (4/ 105) كذا. ولعله المجهول. اهـ. (¬3) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 105) على هذه العبارة: أي الاستثناء الزمن اليسير، وكأنه يريد حديث: "إلا أن يكون معلوماً".

قلت: لعله أشار إلى رواية البخاري "أنه كان بطريق تبوك". تنبيه: اختلف الناس في بيع وشرط: فصححهما ابن شبرمة لهذا الحديث (¬1). وأبطلهما أبو حنيفة: لحديث النهي عن بيع وشرط (¬2). ¬

_ (¬1) ودليلهم حديث الباب قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (19/ 75)، وأما أحمد بن حنبل، فمذهبه الذي لا اختلاف عنه فيه أن البيع إذا كان فيه شرطٌ واحدٌ، وهو بيعٌ جائزٌ، وإذا كان فيه شرطان بطل البيع على ظاهر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا تبع ما ليس عندك". قال أحمد: ومن شرطين في بيع أن يقول: أبيعك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، وكذلك إن باعه بدراهم على أن يأخذ ذهباً، أو يبيع منه بذهب على أن يأخذ منه دراهم. وحجته في بطلان البيع بشرطين حديث عبد الله بن عمرو: "لا يحل بيع وسلف، ولا شرطان في بيع ولا تبع ما ليس عندك". وقال ابن حجر في الفتح (5/ 315) في إسناده مقال، وهو قابل للتأويل. اهـ. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- (19/ 73) وحجة من رأى أن البيع في ذلك فاسداً أن البائع لم تطب نفسه على البيع، إلاَّ بأن يلتزم المشتري شرطه، وعلى ذلك ملكه ما كان يملكه، ولم يرض بإخراج السلعة من يده إلاَّ بذلك، فإذا لم يُسلم له شرط لم يملك عليه ما ابتاعه بطيب نفس منه، فوجب فسخ البيع بينهما لفساد الشرط الذي يمنع منه المبتاع من التصرف فيما ابتاعه تصرف ذي الملك في ملكه. وقالوا أيضاً إن هذا الحديث -أي حديث الباب- اختلفت ألفاظه اختلافاً لا تقوم معه حجة. لأن منها ألفاظاً تدل على أن الخطاب الذي جرى بين =

وصحح ابن أبي ليلى البيع وأبطل الشرط تمسكاً بحديث بريرة السالف (¬1)، وفي ذلك حكاية مشهورة (¬2). ¬

_ = جابر وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه بيان أن الشرط كان في نص العقد، ومنها ما يدل على أنه لم يكن بيعاً، ومنها ما يدل على أن البيع وقع على ذلك الشرط ومع هذا الاختلاف لا تقوم معه حجة. اهـ. (¬1) جاء في رواية عن الشافعي، كما رواه عنه أبو ثور أن البيع جائز، والشرط فاسد. انظر: الاستذكار (19/ 72). وقال فيه: وقول ابن أبي ليلى في هذا الباب كله مثل قول أبي ثور على حديث عائشة في قصة بريرة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز البيع وأبطل الشرط. وقول أبي ثور في هذا: كل شرط اشترط البائع على المبتاع مما كان البائع يملكه، فهو جائز مثل ركوب الدابة، وسكنى الدار، وما كان من شرط على المشتري بعد ملكه مما لم يكن في ملك البائع، مثل أن يعتق العبد، ويكون ولاؤه للبائع، وأن لا يبيع، ولا يهب، فهذا شرط لا يجوز، والبيع فيه جائز، والشرط باطل. اهـ. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (23/ 203). * ومن قال من أهل العلم من يرى أن الشرط الفاسد يفسد البيع، ومنهم من يرى أنه لا ينعقد بيع، ولا شرط أصلاً، ومنهم من يرى أن الشرط لا يضر البيع كائناً ما كان. * وهذه أصول يحتمل أن يفرد لها كتاب. * وقد ذكرنا في "التمهيد" خبر عبد الوارث بن سعيد الثوري، قال: قدمت مكة، فوجدت أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة، فقلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟ فقال: البيع باطل، والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فسألته، فقال: البيع =

الثامن: قد يؤخذ من الحديث جواز بيع الدار المستأجرة بأن يجعل هذا الاستثناء المذكور في الحديث أصلاً، ويجعل بيع الدار المستأجرة مساوياً له في المعنى، فيثبت الحكم. قال الشيخ تقي الدين (¬1): إلاَّ أن في كون مثل هذا معدوداً فيما يؤخذ من الحديث وفائدة من فوائده نظر. التاسع: في الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - في ابتعاث جمل جابر وإسراعه بعد إعيائه. وفي رواية في "الصحيح" (¬2): أنه عليل فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإِبل قدامها يسير، فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتِك. قال: أفتبيعنيه؟، فاستحييت، ولم يكن لنا ¬

_ = جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته، فقال: البيع جائز، والشرط جائز، فقلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق، اختلفوا في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع، وشرط البيع باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أشتري بريرة، فأعتقها، وإن اشترط أهلها الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، البيع جائز، والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا لك، حدثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر، قال: بعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة، وشرط لي حملانها، أو ظهرها إلى المدينة" البيع جائز، والشرط جائز. وانظر التمهيد (22/ 185). (¬1) إحكام الأحكام (4/ 105). (¬2) مسلم بشرح النووي (11/ 31)، والبخاري الفتح (6/ 121 ح (2967).

ناضح غيره. قال: فقلت: نعم فسبقته إلى المدينة ولا مني خالي على بيعه". وفي رواية أخرى في الصحيح (¬1): "فنخسه فوثب، فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه فما أقدر عليه". وفي رواية أخرى فيه (¬2) "فنخسه ثم قال لي: اركب بسم الله فما زال يزيدني ويقول والله يغفر لك". وفي رواية "أنه ضربه بقضيب"، وفي النسائي (¬3): "فأخذ بذنبه ثم زجره". وعند ابن إسحاق (¬4): "فجعل يواهق النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬5). فائدة استطرادية: هذا الخال الذي لامه في بيع الجمل ذكر ابن نقطة أنه كان منافقاً قال: واسمه الجد بن قيس السلمي، وهو ابن عم البراء [بن مالك] (¬6)، وقيل: إنه تاب وحسنت توبته، وتوفي في خلافة عثمان (¬7). ¬

_ (¬1) مسلم بشرح النووي (11/ 34). (¬2) المرجع السابق. (¬3) البخاري (2309). (¬4) (7/ 298) ح (4639). (¬5) السيرة (3/ 217)، ومعنى المواهقة: المسابقة والمجاراة والمعارضة في المشي والسرعة. (¬6) هكذا ابن مالك، والصحيح أنه ابن معرور كما في الفتح (7/ 222). انظر: ما بعده. (¬7) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 316)، فقدمت المدينة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني. ووقع عند أحمد من رواية نبيح المذكورة: "فأتيت عمتي بالمدينة، فقلت لها: ألم ترى أني بعت ناضحنا، فما رأيتها أعجبها ذلك"، وسيأتي القول في بيان تسمية خاله في أوائل الهجرة إن شاء الله تعالى. وجزم ابن لقطة -هكذا, ولعله ابن نقطة كما في أعلى فلتصحح- بأنه جد بفتح الجيم وتشديد الدال بن قيس، وأما عمته فاسمها هند بنت عمرو، ويحتمل أنهما جميعاً لم يعجبهما بيعه لما تقدم من أنه لم يكن عنده ناضح غيره. وقال أيضاً في الفتح (7/ 221 - 222). قوله: (شهد بي خالاي العقبة) لم يسمهما في هذه الرواية, ونقل عن عبد الله بن محمد -وهو الجعفي- أن ابن عيينة قال: أحدهما البراء بن معرور، كذا في رواية أبي ذر، ولغيره: قال أبو عبد الله يعني المصنف، فعلى هذا فتفسير المبهم من كلامه، لكنه ثبت أنه من كلام ابن عيينة من وجه آخر عند الإِسماعيلي، فترجحت رواية أبي ذر. ووقع في رواية الإِسماعيلي "قال سفيان: خالاه البراء ابن معرور وأخوه" ولم يسمه. والبراء بتخفيف الراء ومعرور بمهملات يقال: إنه كان أول من أسلم من الأنصار، وأول من بايع في العقبة الثانية كما تقدم، ومات قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر واحد، وهو أول من صلى إلى الكعبة في قصة ذكرها ابن إسحاق وغيره، وقد تعقبه الدمياطي فقال: أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي وأخواها ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة. وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر قلت: لكن من أقارب أمه، وأقارب الأم يسمون أخوالاً مجازاً، وقد روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال: "حملني خالي الحر ابن قيس -هكذا هنا والذي في الإِصابة (1/ 239) جد ابن قيس فليتنبه له- في السبعين راكباً =

العاشر: فيه جواز ضرب الدابة حثاً على السير. الحادي عشر: قال الفاكهي: انظر هل فيه رواية الحديث بالمعنى لقوله: "فدعا لي" ولم يصرح باللفظ المدعو به؟ قلت: قد أسلفنا أنه: "دعا له بالمغفرة"، لكن الظاهر أنه كان بعد ذلك. ¬

_ = الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، فخرج إلينا معه العباس عمه فقال: يا عم، خذ لي على أخوالك" فسمى الأنصار أخوال العباس لكون جدته أم أبيه عبد المطلب منهم، وسمى الحر ابن قيس خاله لكونه من أقارب أمه وهو ابن عم البراء بن معرور، فلعل قول سفيان "وأخوه" عني به الحر ابن قيس، وأطلق عليه أخا وهو ابن عمر لأنهما في منزلة واحدة في النسب، وهذا أولى من توهيم مثل ابن عيينة، لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم، فعلى هذا فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة وإما عمرو، والله أعلم. قوله في الطريق الثانية (أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله (أنا وأبي) عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين، وقد تقدم أنه كان من النقباء. قوله (وخالاي) تقدم القول فيهما، وقرأت بخط مغلطاي: بريد عيسى بن عامر بن عدي بن سنان وخالد بن عمرو بن عدي بن سنان لأن أم جابر أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، يعني فكل منهما ابن عمها بمنزلة أخيها، فأطلق عليهما جابر أنهما خالاه مجازاً. قلت: إن حمل على الحقيقة تعين كما قاله الدمياطي، وإلاَّ فتغليط ابن عيينة مع أن كلامه يمكن حمله على المجاز بأمر فيه مجاز ليس بمتجه، والله المستعان. ووقع عند ابن التين "وخالي" بغير ألف تشديد التحتانية وقال: لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإِفراد بكسر اللام وتخفيف الياء". اهـ.

وفي "جامع الترمذي" (¬1): "استغفر لي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ليلة البعير خمساً وعشرين مرة"، ثم قال حسن غريب. وفي رواية النسائي (¬2): "تبيعنيه يا جابر؟ قلت: بل هو لك، قال: اللهم اغفر له، وارحمه، قد أخذته بكذا وكذا، وقد أعرتك ظهره إلى المدينة". وفيه رواية في الصحيح أنه للجمل أيضاً. الثاني عشرة: فيه تفقد الأمير والكبير والعالم أحوال أصحابه وسؤاله عن أحوالهم وإعانتهم عليها بما تيسر من حال أو مال في السفر والحضر. الثالث عشر: فيه استعمال مكارم الأخلاق، وذلك بأن يجعل ما يفعله من الإِعانة على سبيل المعاوضة، لتطيب خاطر من يفعل ذلك به، ويكون قصده بذلك ثواب الآخرة. الرابع عشر: فيه جواز طلب البيع وثمنه، والمناقصة حال المساومة، وأما بعد العقد واستقرار الثمن ممن لم يعرض سلعته للبيع. الخامس عشر: فيه أنه لا بأس بمحاورة الأكابر بكلمة "لا"، وأنه لا تقتضي التأثيم. السادس عشر: فيه التعبير بصيغة الأمر عن غير الأمر، وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بعنيه". ¬

_ (¬1) الترمذي (3852)، والنسائي فضائل الصحابة (144)، والحاكم (3/ 565)، وابن حبان (7142). (¬2) (7/ 299).

السابع عشر: فيه المبادرة إلى تسليم المبيع إلى البائع وقت تسليمه، ونقد المشتري الثمن عقب تسليمه. الثامن عشر: فيه أن لفظة "خذ" صريح في الهبة. التاسع عشرة: فيه أن الهبة لا تقع إلا على الأعيان بعد قبضها وتسليمها. العشرون: قد يؤخذ منه أن الهبة لا تحتاج إلى قبول إذ لم يذكر في الحديث، وهو مذهب مالك، فتصح عنده. بدون إيجاب وقبول خلافاً للشافعية. الحادي والعشرون: فيه إضافة الجمل والدراهم إلى جابر إضافة إحسان وتكريم بدليل بدليل قوله: "فهو لك"، وذلك يحتمل إما للإِخبار عما كان في ضميره، وإما إنشاء التمليك له. الثاني والعشرون: ترجم عليه ابن حبان (¬1) في صحيحه وقوع البيع بالمراضاة من غير إيجاب وقبول. خاتمة: هذا الحديث ذكره مسلم في صحيحه من طرق إلى جابر. وأما البخاري: فإنه ذكره في [ستة عشر] (¬2) موضعاً من صحيحه فيما حضرني، وفي بعضها التعرض للشرط، وفي بعضها السكوت عنه وذكر غيره. ¬

_ (¬1) ابن حبان (11/ 278). (¬2) ذكرها في عشرين موضعاً، ولعله خطأ من النساخ. انظر: أطرافه في ح (443).

الأول: في كتاب الوكالة (¬1) في باب إذا وكل [رجل] (¬2) رجلاً أن يعطي شيئاً ولم يبين كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه الناس. ولم يذكر فيه اشتراط الركوب، وفيه أنه باعه بوقية بأربعة دنانير وزاده في المدينة قيراطاً، فلم يكن القيراط يفارق جراب جابر: وفي رواية لمسلم "فأخذه أهل الشام يوم الحرة" (¬3). الثاني: في باب (¬4): الاستقراض في باب: من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته. ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 485) ح (2309). (¬2) زيادة من المرجع السابق. (¬3) الحرة: هي حرة واقم، وتقع شرقي المدينة. وقع فيها القتال بين أهل الشام وأهل المدينة سنة 63. قال ابن حزم في جوامع السيرة -رحمنا الله وإياه- (357 - 358) من أكبر مصائب الإِسلام وخرومه، لأن أفاضل المسلمين وبقية الصحابة، وخيار المسلمين من جلة التابعين قُتِلُوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً، وجالت الخيل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا كان فيه أحد حاشا سعيد بن المسيب، فإنه لم يفارق المسجد، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان ومروان بن الحكم عند مجرم بن عقبة المري، بأنه مجنون لقتله، وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، وهل مسرف أو مجرم الإِسلام هتكاً وأنهب المدينة ثلاثاً، واستخف بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدت الأيدي إليهم، وانتهبت دورهم ... إلخ. انظر الروض الأنف (3/ 256). (¬4) في البخاري "كتاب" بدل "باب" الفتح (5/ 53) ح (2385).

الثالث: فيه أيضاً في باب: حسن القضاء (¬1). الرابع: في باب: الشفاعة في وضع الدين (¬2). ووصله بقصة. الخامس: في كتاب: الهبة. في باب: الهبة المقبوضة وغير المقبوضة (¬3). السادس: في كتاب الشروط: في باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز (¬4). السابع: في كتاب الجهاد (¬5): في باب: من ضرب دابة غيره في الغزو، وفيه: "اتبيع الجمل؟ قلت: نعم. فلما دخلنا المدينة ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت عليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط. فقلت له: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل ويقول: الجمل جملنا. فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أواق من ذهب، فقال: أعطوها جابراً. ثم قال: استوفيت الثمن؟ قلت: نعم قال: الثمن والجمل لك". الثامن: في باب: استئذان الرجل الإِمام (¬6). التاسع: في باب: الصلاة إذا قدم من سفر (¬7). ¬

_ (¬1) الفتح (5/ 59) ح (2394). (¬2) الفتح (5/ 67) ح (2406). (¬3) الفتح (5/ 225) ح (2603، 2604). (¬4) الفتح (4/ 314) ح (2718). (¬5) الفتح (6/ 65) ح (2861). (¬6) الفتح (6/ 121) ح (2967). (¬7) الفتح (6/ 193) ح (3087) في الجهاد.

العاشر: فيه في باب: الطعام عند القدوم (¬1). الحادي عشر: في كتاب: الصلاة إذا قدم من سفر (¬2). الثاني عشر: في كتاب النكاح (¬3): في باب: تزويج الثيبات، وذكر فيه قصة تزويجه أيضاً. الثالث عشر: فيه في باب: طلب الولد (¬4). الرابع عشر: فيه عقب هذا في باب: تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة (¬5). الخامس عشر: في كتاب النفقات: في باب: عون المرأة زوجها (¬6) في ولده. ولم يذكر فيه قضية البيع، بل قضية التزويج فقط. السادس عشر: كتاب الدعوات (¬7) في باب: الدعاء ¬

_ (¬1) الفتح (6/ 194) ح (3089، 3090). (¬2) هذه الترجمة مكررة بهذا اللفظ، ولم يسبق أن عقد -رحمه الله- تراجم مكررة سوى هذه فلينتبه. كتاب الصلاة (443). (¬3) الفتح (9/ 121) ح (5079، 5080). (¬4) الفتح (9/ 341) ح (5245، 5246). (¬5) الفتح (9/ 342) ح (5247). (¬6) الفتح (9/ 513) ح (5367). (¬7) الفتح (11/ 190) ح (6387)، فنقول وبالله التوفيق، ومنه استمد العون والتسديد، فات المؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكر هذه الأبواب، وهي: 1 - كتاب العمرة، باب: لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة، الفتح (3/ 620) ح (1801). =

للمتزوج، وهذه عادة البخاري تكرار الحديث الواحدة في عدة أبواب، كما كرر حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) في سبعة مواضع كما سلفت لك أول الباب وحديث أبي سفيان وهرقل في عشرة مواضع (¬2). وحديث الألف دينار التي رميت في البحر في سبعة مواضع (¬3)، ونعمت العادة رضي الله عنه وعنا به (¬4). فائدة: جليلة أبداها السهيلي -رحمه الله (¬5) - حيث قال: في الحكمة في اشترائه الجمل وإعطائه ثمنه لطيفة جداً، لأنه كان يمكنه أن يعطيه ذلك العطاء دون مساومة الجمل، ولا شراء ولا شرط ¬

_ = 2 - كتاب البيوع، باب: شراء الدواب والحمير، الفتح (4/ 320) ح (2097). 3 - باب من عقل بعيره على البلاط، أو باب المسجد. الفتح (5/ 117) ح (2470). 4 - باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. الفتح (7/ 357) ح (4052). 5 - باب لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة، مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم. الفتح (9/ 339) ح (5243، 5244). (¬1) سبق تخريجه أول الكتاب. (¬2) انظر فتح الباري أطرافه في حديث رقم (7). (¬3) الفتح (3/ 362)، أطرافه (1498). (¬4) هذا من التوسل البدعي فلا يجوز. (¬5) في الروض الأنف (3/ 255)، لعبد الرحمن السهيلي. وُلد سنة (508، 581) تح عد الرحمن الوكيل. بتصرف.

توصيل، وذلك أنه سأله: هل تزوجت؟ فذكر له مقتل أبيه وما خلف من البنات. وقد كان الرسول أخبر جابراً أن الله تعالى قد أحيا أباه ورد عليه روحه، وقال: ما تشتهي فأزيدك. فأكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبر بما يشتبهه، فاشترى منه الجمل، وهو مطيته، كما اشترى الله تعالى من المؤمنين والشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة، ونفس الإِنسان مطيته، كما قال عمر بن عبد العزيز: "إن نفسي مطيتي"، ثم زادهم زيادة فقال: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" (¬1)، ثم رد عليهم أنفسهم التي اُشتُرِيَتْ منهم، فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} (¬2)، فأشار - صلى الله عليه وسلم - باشتراء الجمل من جابر وأعطائه الثمن وزيادة، ثم رد الجمل المشترى عليه، أشار بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله تعالى بأبيه فشاكل الفعل مع الخبر كما تراه، وحاشى لأفعاله -عليه الصلاة والسلام- أن تخلوا من حكمة بل كلها ناظرة إلى القرآن العظيم ومنتزعة منه. ... ¬

_ (¬1) سورة يونس: آية 75. (¬2) سورة آل عمران: آية 76.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 292/ 2/ 56 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا, ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أُختها [لتكفأ ما في إنائها] (¬1)) (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث لم يظهر لي وجه مناسبة ايراده في هذا الباب فإنه معقود للشروط في البيع ولم يذكره المصنف في "عمدته الكبرى" في هذا الباب وإنما ذكره في باب النجش وغير ذلك ثم ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 106) لتُكفىء ما في صفحتها. (¬2) البخاري أطرافه (2140)، ومسلم (1413، 1515)، ومالك (2/ 523) في النكاح، وأبو داود (2080) في النكاح، باب: في كراهية أن يخطب الرجل على خِطبة. النسائي (6/ 71، 72، 73)، (7/ 258)، والترمذي (1134)، وابن ماجه (2172)، وابن الجارود (677)، وأحمد (2/ 274، 487، 462، 411، 457)، والحميدي (1027)، وابن حبان (4046)، والبيهقي (5/ 345)، والطحاوي (3/ 4).

رأيت بعد ذلك البخاري (¬1) ترجم على القطعة الأخيرة بباب: الشروط التي لا تحل في النكاح. وذكرها بلفظ: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها, لتستفرغ صفحتها، فإنما لها ما قدر لها" ونقل عن ابن مسعود أول الباب (¬2) أنه قال: لا تشترط المرأة طلاق أختها. ثم اعلم أن اللفظ الذي أورده المصنف هو لفظ رواية البخاري (¬3)، وترجم عليه باب: لا يبع على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، حتى يأذن له أو يترك. ولم يذكر في هذا الباب غير هذا الحديث، وحديث ابن عمر (¬4): "لا يبع بعضكم على بيع بعض" وأما مسلم فرواه بألفاظ نحو رواية البخاري. الثاني: سلف الكلام في الحديث الثاني (¬5) فيما نهى عنه من البيوع على بيع الحاضر للبادي والنجش والبيع على بيع أخيه فأغنى عن إعادته. وقوله: "ولا تناجشوا" كأنه على تقدير القول أي وقال: ولا تناجشوا. ¬

_ (¬1) البخاري "الفتح" (9/ 219)، ح (5152). (¬2) انظر: المرجع السابق. (¬3) البخاري "الفتح" (4/ 352). (¬4) البخاري أطرافه (2139)، ومسلم (1412)، والنسائي (7/ 258)، وابن ماجه (2171)، والموطأ (2/ 683)، وأحمد (2/ 63)، والترمذي (1292)، والبغوي (2093)، وابن حبان (4965)، والبيهقي (5/ 344)، والطحاوي (3/ 3). (¬5) ص 31 من هذا الجزء المبارك.

الثالث: الخِطبة هنا بكسر الخاء بخلاف خُطبة العقد والعيد ونحوهما فإنها بالضم. والخطبة على الخطبة حرام إذا صرح بإجابته بالإِجماع لما فيه من إيغار الصدور، فإن لم يجب ولم يرد ولم يحرم على الأظهر من قولي الشافعي إذا ليس فيه إبطال شيء مقرر بينهما فلو أذن الخاطب ارتفع التحريم لقوله -عليه الصلاة والسلام- "إلاَّ بأذنه" (¬1). متفق عليه من حديث ابن عمر والترك كالإِذن كما جاء في رواية البخاري، ويشترط في التحريم أن يكون عالماً بالنهي، كما نبه عليه القاضي حسين في "تعليقه"، فلو خالف وخطب وتزوجها عصى، وصح العقد عند الشافعي وجمهور العلماء (¬2)، لأن المحرم الخطبة لا العقد, لأنه إنما حرم لأجل إيغار الصدور، وذلك لا يعود على أركان العقد بالاختلال ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد. وعن مالك (¬3) حكاية قولين في فسخ العقد إذا وقعت الخطبة على الخطبة بهذا التراكن. وفي قول ثالث: يفسخ قبل البناء لا بعده. واختلف عندهم هل هو تسمية الصداق أو الرضا بالزوج. وقال داود الظاهري (¬4): بالفسخ أيضاً. ¬

_ (¬1) انظر: ت (4) ص 294، وسنن أبي داود (2081)، وعبد الرزاق (14868)، وابن أبي الجعد (3160). (¬2) انظر: الاستذكار (16/ 12). (¬3) انظر: الاستذكار (16/ 12). (¬4) الاستذكار (16/ 13).

وحديث فاطمة بنت قيس الآتي في كتاب الطلاق (¬1) في خطبة أبي جهم ومعاوية لها: لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول. فلذلك لم ينكر -عليه الصلاة والسلام- خطبة بعضهم على بعض. وقوله -عليه الصلاة السلام- بعد ذلك: "أنكحي أسامة" هو أشارة منه لا خطبة لها ولئن كان خطبة فهي لم تنعم للأولين. وذكر الطبرى عن بعضهم أنه جعل حديث فاطمة هذا ناسخاً للنهي وهو عجيب (¬2). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه -إن شاء الله-. والحديث أخرجه مسلم وأبو داود (2284) , والنسائي (6/ 208). واقعة مناسبة للموضوع ما ذكره ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 11)، بعد سياقه للإِسناد. أن جريراً بن عبد الله البجلي أمره عمر بن الخطاب أن يخطب عليه امرأة من دوس، ثم أمره مروان بن الحكم من بعده أن يخطبها عليه، ثم أمره عبد الله بن عمر بعد ذلك فدخل عليها، فأخبرها بهم الأول فالأول، ثم خطبها معهم لنفسه، فقالت: والله ما أدري أتلعب أم أنت جاد؟ قال: بل جاد، فنكحته، فولدت له ولدين. اهـ. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 9)، ولا أعلم أحداً ادعى نسخاً في أحاديث هذا الباب، فدل ذلك على أن المعنى ما قاله الفقهاء من الركون، والرضا، والله أعلم. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في "تهذيب السنة" (3/ 25)، وذكر الطبري أن بعضهم قال: نهيه أن يخطب الرجل على خطبة أخيه منسوخ بخطبته - صلى الله عليه وسلم - لأسامة فاطمة بنت قيس. قال ابن القيم الجوزية: يعني بعد أن خطبها معاوية وأبو جهم. قال: وهذا =

رابعها: تمسك الخطابي (¬1): بظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا يخطب على خطبة أخيه" وقال: لا يحرم إذا كان كافراً. وهو قول الأوزاعي (¬2) أيضاً. ووجه عنه الشافعية (¬3). وقال الجمهور: لا فرق. والتقييد بأخيه خرج على الغالب فلا مفهوم له، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} و {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ونظائره (¬4). ¬

_ = غلط، فإن فاطمة لم تركن إلى واحد منهما، وإنما جاءت مستشيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأشار عليها بما هو الأصلح لها، والأرضى لله ولرسوله، ولم يخطبها لنفسه، ومورد النهي إنما هو خطبة الرجل لنفسه على خطبة أخيه، فأما إشارته على المرأة إذا استشارته بالكفىء الصالح فأين ذلك من الخطبة على خطبة أخيه؟ فقد تبين غلط القائل، والحمد لله. وأيضاً فإن هذا من الأحكام الممتنع نسخها، فإن صاحب الشرع علله بالأخوة، وهي علة مطلوبة البقاء والدوام، لا يلحقها نسخ ولا إبطال. اهـ. أما ابن حجر في الفتح فلم ينسب هذا القول للطبري وإنما ذكره الطبري ورده على قائله (9/ 200). (¬1) معالم السنن (3/ 24). (¬2) الفتح (9/ 200). (¬3) انظر: الفتح (9/ 200) مستدلين بحديث عقبة بن عامر: "المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته حتى يذر". (¬4) قال أيضاً: وبناه بعضهم مع أن هذا المنهى عنه هل هو من حقوق العقد =

خامسها: يقتضي هذا الحديث وغيره أنه لا فرق بين الخاطب الفاسق وغيره. وخالف ابن القاسم المالكي فقال (¬1): تجوز الخطبة على الخطبة، ونقله الشيخ تقي الدين (¬2) عن المالكية وقال: إنه من تصرفهم قال: وكون الخطبة لا تحرم إلاَّ بعد التراكن من تصرف الفقهاء أيضاً نظراً إلى المعنى وهو وقوع العداوة وإيحاش النفوس وتعدى نظرهم بعد ذلك فيما به يحصل تحريم الخِطبة. وذكروا أموراً لا تستنبط من الحديث. سادسها: معنى "لتكفأ ما في إنائها" تقلبه. قال أهل اللغة يقال: كفأت الإِناء إذا قلبته وفرغته، فلم يبقى فيه شيء. قال الهروي (¬3): "تكفي ما في أنائها" من كفأت القدر إذا كببتها لتفرغ ما فيها. وهذا مثال لإِمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها. وقال الكسائي: كفأت الأناء كببته، وأكفأته أملته. وقد أسلفت ذلك عنه في كتاب الطهارة وغيرها، وأن غيره قال إنه يستعمل ثلاثياً ورباعياً بمعنى واحد. ¬

_ = واحترامه أو من حقوق المتعاقدين؟. فعلى الأول: فالراجح ما قال الخطابي. وعلى الثاني: فالراجح ما قال غيره. (¬1) انظر: الفتح (9/ 200)، أي: تجوز الخطبة على الخطبة الفاسق. (¬2) انظر: إحكام الأحكام (4/ 106). (¬3) غريب الحديث (3/ 36).

وقيل: هو هنا كناية عن الجماع والرغبة في كثرة الولد والأول أظهر. وقال النووي (¬1): في "شرحه" معنى الحديث نهى المرأة الأجنبية أن تسأل طلاق زوجته وأن ينكحها ويصير لها من نفقته معروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بإِكفأ ما في الإِناء مجازاً ثم ذكر مقالة الكسائي السالفة، واقتصر عليها. قال: والمراد بأختها غيرها، سواء كانت في النسب أو في الإِسلام أو كافرة. قلت: ويؤيده رواية مسلم (¬2): "ولا تسأل المرأة طلاق الأخرى لتكتفىء ما في إنائها" والمحب الطبري قال في "أحكامه": المراد "أختها" في الدين فإنها في النسب لا تجتمع معها، وذكر في موضع آخر رواية عن ابن حبان (¬3) "لا تسأل المرأة طلاق أختها، فإن المسلمة أخت المسلمة". وقال الشيخ تقي الدين (¬4): استعمل في هذا المجاز، حيث جعل طلاق المرأة بعد عقد النكاح بمثابة تفريغ الصحفة بعد امتلائها. وفيه معنى آخر، وهو الإِشارة إلى الرزق لما يوجبه النكاح من النفقة، وغيرها فإن الصحفة وملأها من باب الأرزاق، وأكفاؤها قلبها. ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووي (9/ 193). (¬2) انظر: مسلم مع النووي (9/ 199). (¬3) ابن حبان (4070). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 107).

قلت: وذكره "الصحفة" ليس في رواية المصنف، وهو ساقها أولاً بلفظ "الأناء"، لا بلفظ "الصحفة"، وكأنه تبع في ذلك النووي في "شرحه" (¬1) فإنه ذكره بلفظ "الصحفة"، وكثيراً ما يتبعه ويشير إليه كما بينته في مواضع من هذا الشرح، إنما ذكر ذلك لأنه في رواية لمسلم (¬2): "لتكتفيء ما في إنائها أو ما في صحفتها" على الشك. وقال أبو عبيد (¬3): لم يرد الصحفة خاصة إنما جعلها مثلاً لحظها منه، كأنها إذا طلقها أمالت نصيبها منه إلى نفسها. قال الفاكهي: قريب منه يسمى عند علماء البيان: التمثيل والتتخييل عند التعبير بالذوات عن المعاني ومنه قولهم: ما زال يفتل في الذروة والعازب حتى بلغ منه مراده. والمعنى: أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقاً يشبه حاله فيه حال الرجل يجيء إلى البعير الصعب فيحكه ويفتل الشعر في ذروته وعازبه حتى يستأنس. فالصحفة: هنا كالذروة والعازب. سابعها: يجوز في "تسأل" الرفع والكسر كما نبه عليه النووي في "شرح مسلم" فالأول: على الخبر الذي يراد به النهي وهو المناسب لقوله قبله "ولا يخطب ولا يبع". والثاني: على النهي الحقيقي. وقوله: "لتكفأ" كذا هو في "صحيح البخاري". وفي "صحيح مسلم "لتكتفىء" كماسبق. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 192). (¬2) المرجع السابق (9/ 198). (¬3) انظر غريب الحديث (3/ 36).

قال القاضي في "مشارقه" (¬1): وروى أيضاً: "لتستكفىء إنائها" تفتعل وتستفعل من ذلك أي تكبه وتقلبه من جبر زوجها بطلاقه إياها قال: وقد تسهل الهمزة في هذا كله. ثامنها: في الحديث أحكام غير ما سلف. منها: تحريم السعي في التفريق بين المرأة وزوجها بالطلاق وغيره مما في معناه أو أشد منه، إذا كان المقصود دنيوي، سواء كان الساعي رجلاً أو امرأة، ويخرج بالدنيوي الديني فإنه مشروع. ومنها: الإِشارة إلى تحريم الحسد للناس، والنظر إلى ما في أيديهم للإِستئثار به عنهم، وزواله مطلقاً. ومنها: الإشارة إلى الرضا بالمقسوم وإليه الإِشارة برواية البخاري السالفة "فإن لها ما قدر لها" وإذا ابتلى بالطلب لما يجوز طلبه وعدم الرضا فيسأل الله دون غيره. فإن المفاتيح بيده وإن كان لا بد سائلاً فليسأل الصالحين. ومنها: الإِشارة إلى النظر إلى من هو دونك في الدنيا. وقد أمر به -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المشهور (¬2). واستنبط بعضهم منه عدم وجوب نفقة البائن في عدتها من ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (1/ 344). (¬2) ولفظه: "إذا رأى أحدكم من فضل عليه في الخلق أو الرزق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه" من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-. أخرجه مسلم (2963)، وأحمد (2/ 314)، والبغوي (4099)، والترمذي (2513)، وابن ماجه (4142) بألفاظ مختلفة.

حيث إنه جعل الطلاق سبباً لتفريغ إنائها وانقطاع حظها منه به، وفيه بعد، واحترز بالبائن عن الرجعي وألزم هذا المستنبط الأوزاعي ومن وافقه بأن يقولوا: لا يحرم على المسلمة أن تسأل طلاق الذمية، لأنها ليست أختها, ولهم أن ينفصلوا عن هذا بالرواية السالفة عن مسلم "لا تسأل المرأة طلاق الأخرى لتكتفىء ما في إنائها" والله الموفق. ***

57 - باب الربا والصرف

57 - باب الربا والصرف وفيه ثلاث لغات: أحدها: القصر ويكتب بالألف وبالواو والياء. ثانيها: الرما بالميم بدل الباء وبالمد. ثالثها: الربا بفتح الراء وبالمد حكيت عن القَلْعِيّ (¬1). وحده في الشرع: أنه اسم لمقابلة عوض بعوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع ما خير في البدلين، أو أحدهما فإذا باع ربويّاً بمثله، واتفق الجنس فلا بد من الحلول والمماثلة [والتفرق قبل التقابض] (¬2). وإن اختلف وكان من نوعه كذهب وفضة وحنطة شعير جاز التفاضل. ¬

_ (¬1) هو الإِمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن القاسم، وُلد سنة عشرين وثلاثمانة وتوفي بقلعة أيوب من الأندلس في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 444)، وشذرات الذهب (3/ 104، 105). (¬2) لعله غلط من الناسخ: فإنه لا يجوز التفرق قبل التقابض. وتكون العبارة هكذا (بعد التقابض)، أو (وعدم التفرق قبل التقابض).

الحديث الأول

فأما الصرف: مصدر صرف يصرف صرفاً إذا دفع ذهباً وأخذ فضة أو عكسه فإن باع ذهباً بمثله أو فضة بمثلها سميت مراطلة. وهل الصرف مشتق من التقلب، ومنه صرف الدرهم أو من الصريف وهو الصوت المتولد عن تحريك أحد النقدين؟ أو من الوزن ومنه: "لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً" أقوال وصحح النووي في "شرحه لمسلم" (¬1): أنه سمى صرفاً لصرفه عن مقتضى المبايعات من جواز التفاضل وعدم التفرق قبل التقابض والتأجيل. وإنما خص المصنف الصرف بالذكر وإن كان داخلاً في الربا لأن الربا فيه أضيق من غيره وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث: الأول 293/ 1/ 57 - عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالورق ربا إلاَّ هاءً وهاءً، والبر بالبر ربا إلاَّ هاءً وهاءً، والشعير بالشعير ربا إلاَّ هاءً هاءً" (¬2). (¬3) ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 9). (¬2) البخاري (2174)، ومسلم (1586)، والترمذي (1243)، وأبو داود (3348)، في البيوع، باب: في الصرف، النسائي (7/ 273)، وابن ماجه (72259، 2260)، وابن الجارود (651)، وأحمد (1/ 24، 35، 45)، والموطأ (2/ 636، 637)، والحميدي (12)، والبغوي (5207)، والدارمي (2/ 258)، وعبد الرزاق (14541)، وابن أبي شيبة (7/ 99، 100)، والبيهقي (5/ 283، 284). (¬3) لفظه في متن العمدة "الذهب بالذهب ربا، إلاَّ هاء وها، والفضة بالفضة ربا، إلاَّ هاء وهاء" والباقي مثله.

والكلام عليه من وجهين: وننبه قبل الخوض فيها إلى أن في الصحيحين في آخر الحديث "والتمر بالتمر ربا إلاَّ هاءً وهاءً" وكان الأولى للمصنف أن لا يحذف هذه الزيادة فإنها مهمة. الأول: في ألفاظه. الأول: الذهب: مذكر وربما أنث. فقيل: ذَهَبَةٌ والجمع: أذْهَابٌ، وذهوب. وذكر الثعلبي في تفسير سورة براءة: عن نفطويه قال: سمى الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى. وسميت الفضة: فضة. لأنها تنفض ولا تبقى. ويقال: للذهب خِلاص بكسر الخاء. قال الحريري في "درة الغواص" (¬1): هذه اللفظة مما يهمون فيها فيقولون: للذهب خِلاص بكسر الخاء والاختيار كسرها، واشتقاقه من أخلصته النار بالسبك. قلت: وللذهب أسماء نظمها ابن مالك -رحمه الله (¬2) - في ¬

_ (¬1) درة الغواص (84، 85). ويقولون للذهب خلاص بفتح الخاء والاختيار فيه أن يقال بالكسر واشتقاقه من أخلصته النار بالسبك. (¬2) انظر: المنتخب من غريب كلام العرب (1/ 281)، فقد ذكر اسماء كثيرة غيرها في البيتين. ولعله الكتاب الذي لابن مالك: جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المتوفي سنة 672 هـ. =

بيتين فقال: نَضْرُ نَّضِيرُ نُّضَارٌ زِبْرِجٌ سِيَراً ... وزُخْرُفٌ عَسْجَدٌ عِقْيَانٌ الذَّهَبُ والتَّبْرُ ما لم يُذَبْ وأشْرَكُوا ذَهباً ... وفِضَّةَ في نَسِكٍ هكذا الغَرَبُ الثاني: "الورق" بفتح الواو وكسر الراء ويجوز إسكانها مع فتح الواو وكسرها حكاهن الفراء (¬1) وغيره. وحكى الصاغاني (¬2) في كتابه "شوارد اللغات": لغة رابعة وهي: فتح الواو والراء قال: وقرأ أبو عبيدة "فأبعثوا أحدكم بوَرَقِكُمْ". قال أكثرُ أهل اللغة: وهو مختص بالدراهم المضروبة (¬3). وقال جماعة منهم يطلق على كل الفضة وإن لم تكن مضروبة. وفي "تفسير القرطبي" (¬4): في أثناء سورة الفاتحة أن الورق بكسر الراء الدراهم وبفتحها المال. والمراد بالورق هنا: جميع صنوفها وإن قل. ¬

_ = اسمه: الألفاظ المختلفة، في المعاني المؤتلفة. انظر طبقات الشافعية لابن السبكي (8/ 68)، والوافي بالوفيات (3/ 362) وتم ضبطها من الطبقات. (¬1) معاني القرآن (2/ 137)، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (627). (¬2) كتاب الشوادر (24)، انظر: كتاب بصائر ذوي التمييز (5/ 198). (¬3) انظر: هذا وما بعده في لسان العرب (15/ 275). (¬4) (1/ 146) لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ت (671).

الثالث: "البر" اسم من أسماء القمح ومن أسمائه الحنطة والسمراء. و"الشعير" -بفتح الشين- على المشهور ويجوز كسرها. وقال ابن مكي الصقلي (¬1): كل ما كان في وسطه حرف حلق مكسوراً يجوز كسر ما قبله وهي لغة تميم قال: وزعم الليث أن قوماً من العرب يقولون في كل ما كان على فعَيل، فِعِيل بكسر أوله وإن لم يكن في أوله حرف حلق فيقال: كبير، كثير، وجليل، وكريم وما أشبهه. الرابع: "هاءَ وهاءٍ" ممدود مفتوح الهمزة على الفصيح الأشهر، وأصله هاك، فأبدلت المدة من الكاف ومعناه: "خذ هذا" ويقول صاحبه مثله عن غير تراخ، كما جاء في الحديث: "يداً بيد" فكأنها اسم من أسماء الأفعال، كما يقول "هاؤم" (¬2) وأنشد بعض ¬

_ (¬1) في تثقيف اللسان (186). (¬2) قال في لسان العرب (15/ 10)، فقد اختلف في تفسيره، فقال بعضهم: أن يقولَ كلُّ واحد من المتبايعين هاءَ, أي: خُذْ فيُعْطِيْه ما في يده ثم يفترقان، وقيل: هاكَ وهاتِ أي خُذْ وأعْطِ، قال: والقول هو الأول، انظر: جامع الأصول (1/ 415)، والمفهم (5/ 2834). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 378). "إلاَّ هاء وهاء": بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون، وحكى القصر بغير همز وخَطَّأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة، لكن قليلة، والمعنى: خذ وهات، وحكي: "هاكِ" بزيادة كاف مكسورة، ويقال: "هاء" بكسر الهمزة، بمعنى هاتِ وبفتحها بمعنى: خذ، بغير تنوين، وقال ابن الأثير: هاء وهاء، هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء، فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر "إلاَّ يداً بيد"، =

أهل اللغة في ذلك: ¬

_ = يعني مقابضة في المجلس، وقيل: معناه خذ وأعط، قال: وغير الخطابي يجيز فيها السكونَ على حذف العوض، ويتنزل منزلة "ها" التي للتبيه، وقال ابن مالك: "ها" اسم فعل بمعنى: خذ، وإن وقعت بعد "إلاَّ" فيجب تقدير قول قبله يكون به محكيّاً، فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلاَّ مقولاً عنده من المتابعين: هاء وهاء، وقال الخليل: كلمة تستعمل عند المناولة، والمقصود من قوله: "هاء وهاء" أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس. اهـ. قال صاحب العين: هو حرف يستعمل في المناولة تقول هاء وهاك وإذا لم تجىء بالكاف مددت فكان المدة في هاء خلف من كاف المخاطبة فتقول للرجل هاء وللمرأة هاي وللاثنين هاؤما وللرجال هاؤموا وللنساء هاؤن. وفي المنتهى تقول هاء يا رجل بهمزة ساكنة مقال مع أي خذ وفي الجامع فيه لغتان بألف ساكنة وهمزة مفتوحة وهو اسم الفعل ولغة أخرى ها يا رجل كأنه من هاي بهاي فحذفت الياء للجزم ومنهم من يجعله بمنزلة الصوت ها يا رجل وها يا رجلان وها يا رجال وها يا امرأة وها يا امرأتان وها يا نسوة. وفي شرح المشكاة فيه لغتان المد والقصر والأول أفصح وأشهر وأصله هاك فأبدلت من الكاف معناه حذ فيقول صاحبه مثله والهمزة مفتوحة ويقال بالكسر ومعناه التقابض. وقال ابن مالك: وحق ها أن لا يقع بعدها إلاَّ كما لا يقع بعدها خذ وبعد أن وقع يجب تقدير قول قبله يكون به محكياً، فكأنه قبل: ولا الذهب بالذهب، إلاَّ مقول عنده من المتبايعين هاء وهاء. وقال الطيبي ومحله النصب على الظرفية والمستثنى منه مقدر، يعني بيع الذهب بالذهب ربا في جميع الأزمنة إلاَّ عند الحضور والتقابض. اهـ.

لما رأت في قامتي انحناء ... والمشي بعد قَعَس (¬1) إجناءَ (¬2) أجلَت وكان حبها إجلاءَ (¬3) ... وجعلت نصف غَبوقي (¬4) ماء تمزج لي من بُغضها السقاء ... ثم تقول من بعيد هاء (¬5) دحرجة، إن شئتَ، أو إلقاء (¬6) ... ثم تمنى أن يكون داء لا يجعل الله له شفاء ولا يجوز أن تكون ضرورة إذ لا يجوز في الشعر مد المقصور. وإنما يجوز قصر الممدود رجوعاً إلى الأصل، إذ القصر الأصل نبه عليه الفاكهي، وفيه على هذا لغتان: الأول: أنها تقال للمذكر والمؤنث، والواحد والاثنين، والجمع بلفظ واحد من غير زيادة، كأنهم جعلوها صوتاً، مثل صَهْ ومَهْ. ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في حاشية إحكام الأحكام (4/ 108) , أقول: القعس بالقاف والعين والسين المهملتين مفتوحتين هو من الإِبل: المائل الرأس والعنق والظهر كما في القاموس. (¬2) قال أيضاً: "إجناء"، بكسر الهمزة وجيم، أقول: في القاموس أجنأ أشرف كاهله على صدره فهو أجنأ والقعس هو ميلان الرأس والظهر من الطراوة والإِجناء عكس ذلك وهو إشراف الكاهل على الصدر من الكبر. (¬3) وقال: "إجلاء" من أجلوا تفرقوا، وأجلى القوم من الموضع والدار تفرقوا عنها. (¬4) وقال: الغبوق شرب اللبن بالعشى، وهو إخبار أنها خلطت ماء كراهة له وبغضاً، ولذا قال "تمزج"، أي: تخلط اللبن لأجل بغضها إياه. (¬5) وقال: "وهاء" محل الشاهد، أي: خذ الإِناء الذي فيه الغبوق. (¬6) تدحرج دحرجة، والدحرجة التتابع في حدور، أو تلقيه القاء، أي: إنها لا تقبضه الإِناء بيدها بغضاً له, وتمنى أن يكون فيه الداء.

والثانية: تلحق بها العلامات المفرقة. فتقول للمذكر: هآء، وللمؤنث: هائي، وللأثنين هاءا, وللجميع هاؤوا، كالحال في هاؤم وهلم. وفي "هاء" لغة ثانية وهي القصر وإسكان الهمزة، فتقول "هاء" كما تقول: خذ وفيها اللغتان المقدمتان، حكاهما ثابت وغيره من أهل اللغة وفي "هآ" أيضاً لغة ثالثة "هاءِ" بالمد وكسر الهمزة وهي للواحد والأثنين والجمع بلفظ واحد، غير أنهم زادوا التاء مع المؤنث فقالوا هائي. ولغة رابعة: ها بالقصر وترك الهمزة حكاها بعض اللغويين وأنكرها أكثرهم (¬1). وخطأ الخطابي وغيره (¬2) من رواها من المحدثين كذلك. قال النووي (¬3): وليست بخطأ بل صحيحة وإن كانت قليلة أي لأن الهمزة سهلت فيها. ¬

_ (¬1) انظر: اللغات في لسان العرب (15/ 10). (¬2) في إصلاح غلط المحدثين (45)، وضبط "هاءَ وهاءَ"، ممدودان. والعامة ترويه: هَا وهَا مقصورتين. وقال في لسان العرب موضحاً كلامه (15/ 10)، وقال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه ها وها، ساكنة الألف، والصواب مَدُّها وفَتْحُها لأن أصلها هاكَ، أي: خُذْ، فحُذفت الكاف وعوضت منها المدة والهمزة، وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العِوَضِ، وتتنزل منزلة ها التي للتثنية، انظر: معالم السنن (5/ 20). (¬3) شرح مسلم (11/ 12).

وفي "ها" أيضاً لغة خامسة أو أنها "هاءَك" بمدة، وهمزة مفتوحة، وكاف خطاب مكسورة للمؤنث، حكاها القاضي (¬1) ولا يبعد كما قال القرطبي (¬2): إن "هاء" هذه هي اللغة الأولى، وإنما زادوا عليها كافاً لخطاب المؤنث خاصة فلا تكون خامسة. أو أنها للأصل كما قدمناه. وأبدلت المدة من الكاف. وقولى: إنها الأصل كذا قاله النووي في "شرحه" والمازري (¬3) قبله ولا يتوهم منه أن الكاف من نفس الكلمة في الأصل كالدال من زيد. وأما المراد أن ذلك أصلها إستعمالاً ثابتاً وهي حرف خطاب كالكاف في ذلك وأولئك لا حظ لها في الاسمية يدل على ذلك استعمال الهمزة موضعها، كما في هذا الحديث واللفظة موضوعة للتقابض كما أسلفناه. الوجه الثاني: في أحكامه وتقدم عليه أن الإِجماع قائم على تحريم الربا في الجملة، وهو نص الكتاب والسنة الشهيرة، وهو من الكبائر، وقيل: إنه ما أحل في شريعة قط. وبينت السنة المجمل الذي يجري فيه الربا، فذكر في هذا الحديث خمسة أشياء الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، كما زدنا هذه وإن كان المصنف أسقطها من روايته وفي "صحيح مسلم" (¬4) من حديث عبادة بن ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 267). (¬2) المفهم (4/ 471). (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 304). (¬4) مسلم (1587) , أبو داود في البيوع (3349)، باب: في الصرف، النسائي (7/ 276، 277)، والطحاوي في معاني الآثار (4/ 66)، =

الصامت وغيرهـ ذكر الملح فهذه ستة أشياء منصوص عليها فحمل أهل الظاهر عليها وقالوا: لا يحرم الربا فيما سواها بناء على أصلهم الفاسد في نفي القياس، وجميع العلماء سواهم عدوه إلى ما في معناها، وهو ما يشاركها في العلة، ثم اختلفوا في العلة. فعند الشافعي: العلة في النقدين كونهما قيم الأشياء غالباً، فلا يتعدى الربا منهما إلى غيرها من الموزونات وغيرها, لعدم المشاركة، والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة، فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم (¬1). ¬

_ = والبيهقي (5/ 276، 277، 283)، وابن ماجة (4454)، وأحمد (5/ 320)، والدارقطني (3/ 24)، والترمذي (1240)، وعبد الرزاق (14193)، وابن أبي شيبة (7/ 103، 104). (¬1) والمطعوم يشمل الأمور التالية: 1 - ما قصد للطعم والقوت كالبر والشعير، فإن المقصود منهما التقوت، أي: الأكل غالباً، ويلحق بهما ما في معناهما كالفول والأرز والذرة والحمص والترمس ونحوها من الحبوب التي تجب فيها الزكاة. 2 - أن يقصد به التفكه، وقد نص الحديث على التمر فيلحق به ما في معناه، كالزبيب والتين. 3 - أن يقصد به إصلاح الطعام والبدن، أي: للتداوي وقد نص الحديث على الملح، فيلحق به ما في معناه من الأدوية القديمة كالسنامكي والسقمونيا والزنجبيل، ونحوها من العقاقير المتجانسة كالحبة اليابسة. وعلى هذا فلا فرق بين ما يصلح للغذاء أو يصلح البدن، فإن الأغذية لحفظ الصحة، والأدوية لرد الصحة وبه يكون المطعوم. =

وقال مالك: في الذهب والفضة كقول الشافعي (¬1) وخالف في الأربعة. وقال: العلة فيها كونها تدخر للقوت وتصلح له فعداه إلى الترتيب لأنه كالتمر وإلى القطنية لأنها في معنى البر والشعير (¬2). وخالفهما أبو حنيفة في الجميع فقال: العلة في النقدين الوزن وفي الأربعة الكيل فيتعدى إلى كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما، وإلى كل مكيل كالجص والأشنان وغيرهما. وقال سعيد ابن المسيب وأحمد والشافعي في القديم: العلة في الأربعة كونها مطعومة وموزونة أو مكيلة فعلى هذا لا ربا في ¬

_ = فتكون علة عندهم: الطعم أو النقدية، أما ما ليس بطعم كالجبس أو الحديد، فإنه يصح بيعه بجنسه متفاضلاً، كعروض التجارة, لأنها، أي: المذكورة كلها ليست أثماناً. (¬1) سيأتي عند الكلام في العلة عند الشافعية. (¬2) اختلف العلماء في علة الربا، فعند الشافعية: العلة في الذهب والفضة النقدية والثمينة بمعنى كونهما أثماناً للأشياء سواء كانا مضروبين أم غير مضروبين ولا تعتبر قيمة الصفة في الذهب والفضة فيشترطون المماثلة في الكمية أثناء البيع ولا نظر إلى القمة أما ما عداهما وهي الأصناف الأربعة الباقية فالعلة الطعمية: أي كونها مطعومة. وعلة الربا عند المالكية في تحريم ربا الفضل أمران: الاقتيات والادخار أي أن يكون الطعام مقتاتاً بمعنى أن الإِنسان لو اقتصر عليه في أكله لكفاه كالتمر والبر والشعير، وأما العلة الأخرى وهي الإِدخار وهي كونه صالحاً للاإدخار -أي الحفظ- فلا يفسد مع الزمن.

البطيخ والسفرجل ونحوهما مما لا يكال ولا يوزن (¬1). وقال ابن هبيرة هي رواية عن أحمد: وأظهر الروايات عنه وهي اختيار الخرقي (¬2) وشيوخ أصحابه، ونقله عن أبي حنيفة أيضاً أن العلة في الأربعة: الجنس مع الكيل لحنطة وشعير، وجص وأشنان وشبه ذلك. وعن أحمد (¬3) رواية ثالثة: أن العلة فيها كونه مأكول جنس، فيدخل سائر المأكولات، ويخرج ما عداها، والمسألة مبسوطة في الخلافيات، وقد ذكر البيهقي في "خلافياته" بأسانيده عدة أحاديث دالة للصحيح من مذهب الشافعي أن العلة في الأربعة الطعم، ورد بها على أبي حنيفة أن العلة كونها مكيلة. منها حديث مسلم (¬4) عن معمر بن عبد الله رفعه "الطعام بالطعام مثلاً بمثل". ونقل القرطبي (¬5) أنه تابع أهل الظاهر على نفي تعليل هذا ¬

_ (¬1) مذهب الإِمام أحمد -رحمه الله-: يحرم الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه، ولو كان قليلاً كتمرة بتمرة، وما دون الأرزة من نقد، ذهب، أو فضة، لا في ماء، ولا فيما يوزن عرفاً لصناعته من غير ذهب أو فضة كمعمول من نحاس أو حديد أو قطن ونحوه. اهـ. المغني (4/ 1، 135). (¬2) مختصر الخرقي (64)؛ والمغني (6/ 54، 55). (¬3) المرجع السابق (6/ 56). (¬4) مسلم (1592)، وأحمد (6/ 401)، والبيهقي (5/ 283). (¬5) المفهم (4/ 469).

الحكم بعض من قال بالقياس بناء على أنه لم يجد دليلاً عليه أو على أنه لم يجد لعلة ذلك فرعاً يلحقه بها، فتكون العلة قاصرة، ولا يعلل بها، قال: وهو مذهب أبي حنيفة. وجمع القرافي عشرة أقوال في العلة بماذا. أحدها: الجنسية. والثاني: كونه ربوياً. والثالث: كونه مكيلاً أو موزوناً. والرابع: كونه مطعوماً. والخامس: كونه مقتاتاً. والسادس: كونه مدخراً مع اتحاد الجنسية. والسابع: كونه متمولاً. والثامن: كونه مقتاتاً. مدخراً مع الغلبة. والتاسع: كونه مقتاتاً مدخراً. والعاشر: أن العلة مختلفة في الجميع فعلة البر القوت غالباً، والشعير القوت نادراً، والتمر بالتفكة غالباً، والملح كونه مصلحاً للأقوات، والنقدين كونها رأس الأموال، وقيم المتلفات. تتمات: الأولى: الإِجماع قائم على جواز بيع الربوي بالربوي الذي لا يشاركه متفاضلاً ومؤجلاً كبيع الذهب بالحنطة والفضة بالشعير وغيره من المكيل. وعلى المنع من بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه حالاً كالذهب بالذهب.

وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير (¬1). وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس (¬2) إذا كان يداً بيد كصاع حنطة بصاعيّ شعير. وما يروى عن ابن عباس وابن عمر من تخصيص الربا بالنسيئة قد رجعا عنه، حين بلغهما حديث أبي سعيد "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع صاع بصاعين" كما ذكره مسلم عنهما في صحيحه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: حديث الباب. (¬2) انظر: الاستذكار (19/ 219). (¬3) مسلم (1596)، والطيالسي (622)، والإِمام أحمد (5/ 200، 204، 206، 208، 209)، والدارمي (2/ 259) , والنسائي (7/ 281)، وشرح معاني الآثار (4/ 64)، والبيهقي (5/ 280). قال ابن عبد البر في الاستذكار: قال أبو عمر: لم يتابع ابن عباس على تأويله في قوله في حديث أسامة هذا أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين، إلاَّ طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه، وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابنة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها، وليس أحد بحجة عليها. وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك، وقال: لا علم لي بذلك إنما أسامة بن زيد أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الربا في النسيئة". اهـ. وقال ابن عبد البر في التمهيد: لقد ذهب ابن عباس, وأسامة بن زيد وابن أرقم، والزبير، وابن جبير، وغيرهم إلى أن الربا المحرم فقط: هو ربا النسيئة؛ لقوله -عليه السلام- في الحديث المتفق عليه من حديث أسامة: "لا ربا إلاَّ في النسيئة" وهؤلاء يرد عليهم بالأحاديث التي ثبت بها تحريم =

الثانية: الحديث دال على تحريم الربا في الجملة على ما ذكرنا. ودال أيضاً: على اشتراط التقابض في بيع الربوي إذا اتفقا في علة الربا، سواء اتفق جنسهما كذهب بذهب أم اختلف كذهب بفضة، فإنه -عليه الصلاة والسلام- نبه في هذا الحديث بمتفق الجنس على مختلفه، حيث قال: "الذهب بالورق ربا"، واستدلت المالكية بذلك على اشتراط التقابض عقب العقد، حتى لو أخره عن العقد وقبض في المجلس لا يصح عندهم. قال القرطبي (¬1): وبالغ مالك في هذا حتى منع المواعدة على الصرف والحوالة والوكالة على عقد الصرف دون القبض. ومنع أن يعقد الصرف، ويقوم إلى مقر دكانه ثم يفتح صندوقه، ويخرج ذهبه. ¬

_ = ربا الفضل، لذا نقل جابر بن زيد أن ابن عباس رجع عن قوله، ثم جاء إجماع التابعين على تحريم الربا بنوعيه، فرفع الخلاف. وأما تأويل الحديث السابق فهو أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة إلى أجل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ربا إلاَّ في النسيئة" فهذا بناء على ما تقدم من السؤال، فكأن الراوي سمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله، أو أن القصد من قوله: "لا ربا" الربا الأكمل الأعظم خطورة الأكثر وقوعاً، الأشد عقوبة، كما تقول العرب: "لا عالم في البلد إلاَّ فلان" مع أن فيها علماء غيره, وإنما القصد نسب الأكمل علماً، لا نفي نسب أصل العلم. اهـ.

قلت: وأعتبر الشافعي التقابض في المجلس، وإن طال الزمان يوماً أو أياماً، ما لم يتفرقا، وبه قال أبو حنيفة وآخرون. قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهذا أدخل في المجاز، والأول أقرب إلى حقيقة اللفظ. وقد جمع في الحديث مختلف الجنس ومتفرقه فاقتضى ذلك تحريم النساء، لكنه لا يسمى نساء إلاَّ إذا افترقا عن المجلس من غير قبض. وأما النووي فقال في "شرحه" (¬2): لا حجة لأصحاب مالك في هذا الحديث. الثالث: هذا الحديث ذكره عمر -رضي الله عنه- على سبب، وهو أن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال: طلحة بن عبيد الله: وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك، ثم ائتنا، إذا جاء خادمنا يعطك ورقك، فقال: عمر بن الخطاب: "كلا، والله! لتعطينه ورقه، أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكر الحديث (¬3) الذي ساقه المصنف وبالزيادة التي أسقطها كما نبهنا عليها، وإنما قاله طلحة بن عبيد الله لأنه ظن جوازه كسائر البياعات، وما كان بلغه حكم المسألة فأبلغه إياه عمر -رضي الله عنه- فترك المصارفة. الرابعة: يؤخذ من الحديث (¬4): أن البر والشعير صنفان، وبه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 109). (¬2) شرح مسلم (11/ 13). (¬3) أخرجه البخاري (2134)، ومسلم (1586). (¬4) الاستذكار (20/ 31، 50)، للإِطلاع على أقوال العلماء في هذه المسألة.

قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وفقهاء المحدثين وآخرون. وقال مالك، والليث، والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام من المتقدمين: أنها صنف واحد. وهو محكى عن عمر وسعد وغيرهما من السلف. واتفقوا على أن الدخن صنف، وأن الذرة صنف، والأرز صنف، إلاَّ الليث بن سعد، وابن وهب المالكي فقالوا: إن هذه الثلاثة صنف واحد. خاتمة: في تقسيم (¬1) حسن فقهي: وهو أن التبايع يقع تارة بالثمن، وتارة بالعين، وتارة بهما، وكل إما بالحلول أو بالأجل أو بهما فإن فقدا جميعاً كان بيعاً بنقد. وإن باع عيناً بعين مثلها كالذهب به سمى مراطلة. وإن بيع بعين خلافه كالذهب بالورق سمى صرفاً كما سلف. وإن باع عرضاً بعين فالثمن العين، والمثمن ما يقابله. وهذا ¬

_ (¬1) قال الشيخ عبد الله العنقري -رحمنا الله وإياه- في حاشية الروض (2/ 22)، على قوله: "فتناول البيع تسع صور إلخ ... ". عين بعين، كهذا الكتاب بهذا الدينار، عين بدين، كهذا الكتاب بدينار غير معين، عين بمنفعة، كهذا الثوب بعلو بيت ليضح عليه بنياناً، دين بعين كعبد موصوف بهذه الدناير، دين بدين كعبد موصوف بعبد موصوف. دين بمنفعة، كجارية موصوفة بموضع بحائطه يفتحه بابا، منفعة بعين كممر دار بهذه الدراهم، منفعة بدين كممر دار بدراهم في الذمة، منفعة بمنفعة كممر دار بممر دار.

أصح الأوجه عندنا: أن الثمن النقد والمثمن بما يقابله، فإن لم يكن نقداً وكانا نقدين فالثمن ما اتصلت به الباء، وإن كانا مؤخرين جميعاً، فذلك الدين بالدين، وهو منهى عنه (¬1). والحوالة: أصح الأوجه عندنا أنها بيع دين بدين (¬2) استثنى ¬

_ (¬1) وهو الوارد بحديث ابن عمر مرفوعاً "نهى عن بيع الكالىء بالكالىء". أخرجه الدارقطني (319)، والحاكم (2/ 57)، والبيهقي (5/ 290)، مشكل الآثار (1/ 346)، معاني الآثار (2/ 208). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (20/ 61، 62): وأما الحوالة به، فرأى مالك أن الحوالة إن كانت نقل ذمة إلى ذمة، وتحول ما على ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه برضا المستحيل، فإنه عنده بيع من البيوع؛ لأن البيع كل ما تعاوض عليه المتعاوضان، فلم تجز الحوالة في الطعام لمن ابتاعه كما لا يجوز بيعه قبل قبضه. * وقول الشافعي في ذلك كقول مالك. * قال الشافعي: ولرجل عليه طعام، فأحال به على رجل له عليه طعام لم يجز من قبل أن أصل ما كان له بيع، وأحالته به بيع منه له بالطعام الذي عليه بطعام على غيره. * وأما أبو حنيفة، وأصحابه، فلا بأس عندهم بالحوالة، في السلم كله طعاماً كان، أو غيره، وهو عندهم من باب الكفالة، وجائز عندهم للمسلم أن يستحيل بما سلم فيه على من أحاله عليه المسلم إليه كما له أن يأخذ به رهناً، وكفلا، وأخرجوا الحوالة من البيع، كما أخرجها الجميع من باب الدين بالدين ومن باب البيع أيضاً. * ولو كانت الحوالة من البيع ما جاز أن يستحيل أحد بدنانير من دنانير، أو بدراهم من دراهم؛ لأنه ليس هاء وهاء. * وأما قول مالك بأن أهل العلم قد أجمعوا أنه لا بأس بالشركة والتولية، =

للحاجة، وإن نقد أحدهما وأُخر الآخر، فإن كان المؤخر هو الدين, والمقدم هو العرض، فذلك البيع إلى أجل وإن كان العكس فذلك السلم. ... ¬

_ = والإِقالة في الطعام، وغيره إلى آخر كلامه. * وأحسبه أراد أهل العلم في عصره، أو شيوخه الذين أخذ عنهم. * وأما سائر العلماء، فإنهم لا يجيزون الشركة، ولا التولية في الطعام لكن ابتاعه قبل أن يقبضه، فإن الشركة، والتولية بيع من البيوع. وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه. اهـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 294/ 2/ 57 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل. ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا الورق إلا مثلاً بمثل. ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا منها غائباً بناجز". وفي لفظ: "إلا يداً بيد"، وفي لفظ: "إلا وزناً بوزن مثلاً بمثل سواء بسواء" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: ذكر الوزن في الحديث من أفراد مسلم، كما نبه عليه عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين"، ولم أرها أنا أيضاً في البخاري، فإن البخاري ذكره هنا مطولاً ومختصراً، فلفظه في المطول كرواية المصنف سواء، إلى قوله: "بناجز"، ولفظه في ¬

_ (¬1) البخاري (2177)، ومسلم (1584) , والنسائي (7/ 278, 279)، وفي الكبرى (4/ 30)، والطيالسي (2181)، وموطأ مالك (2/ 633)، والشافعي في المسند (2/ 157)، والترمذي (1241)، والحميدي (3/ 4، 9، 51، 53، 61، 73)، وعبد الرزاق (8/ 121، 122).

المختصر: "الذهب بالذهب مثلاً بمثل والورق بالورق مثلاً بمثل"، وذكره مسلم: من طرق مطولاً كرواية البخاري، ومطولاً بلفظ: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئاً غائباً منه بناجز إلا يداً بيد"، ومختصراً بلفظ: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزناً بوزن، مثلاً بمثل، سواءً بسواء". واعلم أن جماعة من الشراح أسقطوا قطعة من هذا الحديث، فذكره الفاكهي فيما رأيته في نسختين منه بلفظ: "لا تبيعوا الذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها, ولا تبيعوا منها غائباً بناجز"، فأسقط لفظة "بالذهب" وأسقط ذكر "الفضة" رأساً. وذكره الصعبي فيما رأيته بخطه: "لا تبيعوا الذهب بالذهب" إلى آخره، وأسقط ذكر "الفضة" بكمالها، وكذا أورده بعضهم فيما رأيته بخطه. وكذا أورده ابن العطار وقال: "لا تبايعوا" بدل: "لا تبيعوا"، وذكره الشيخ تقي الدين في "شرحه" على الصواب كما بدأت به، فتنبه لذلك. الثاني: في التعريف براويه، وقد سلف في كتاب الصلاة، وهذه عادتتا لا نعيد شيئاً سلف فاعلمه. الثالث: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تُشفوا"، بضم التاء وكسر الشين وتشديد الفاء، رباعي من أشف، أي: لا تفضلوا يقال: أَشْفَفْتُ بعض ولدي على بعض، أي: فضلتهم.

والشِف: بكسر الشين: الزيادة. ويطلق أيضاً على النقصان، فهو من الأضداد. يقال: شَف الدرهم بفتح الشين، شِف بكسرها إذا زاد وإذا نقص. وأشفه غيره يشفه (¬1). الرابع: المؤجل (¬2): [أو] (¬3) الغائب عن المجلس. والناجز: الحاضر، ومعناه: لا تبيعوا مؤجلاً بحاضر من الذهب بالذهب، ولا من الذهب والفضة. وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك، وكذلك حكم الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير. وكذا كل شيئين اشتركا في علة الربا: أما إذا باع ديناراً بدينار كلاهما في الذمة، ثم أخرج كل واحد الدينار أو بعث من أحضر له ديناراً من بيته وتقابضا في المجلس، فيجوز عند الشافعية وآخرين، بلا خلاف، لأن الشرط عندهم أن لا يتفرقا حتى يتقابضا، كما سلف في الحديث قبله، وقد حصل، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تبيعوا شيئاً غائباً منه بناجز إلا يداً بيداً" كما سلف. وادعى القاضي عياض (¬4): اتفاق العلماء على أنه لا يجوز بيع أحدهما مؤجلاً أو غائباً عن المجلس، وليس كما قال لما علمته. الخامس: قوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب" إلى آخره، هو ¬

_ (¬1) انظر: المصباح المنير (2/ 317)؛ وذيل الأضداد للصاغاني (234)، رقم (524). (¬2) انظر: هذه المسألة وما بعدها في شرح مسلم (11/ 10). (¬3) لعلها زيادة من النساخ ولا مكان لها. (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 264).

متناول لجميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء، وصحيح ومكسور، وحلى وتبر، وغير ذلك، وسواء الخالص والمخلوط بغيره. وهذا كله مجمع عليه كما نقله عنهم النووي في "شرح مسلم" (¬1). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إلا وزناً بوزن" إلى آخره، يحتمل الجمع بينهما للتوكيد والمبالغة للإِيضاح، واقتصر عليه النووي في "شرح مسلم" (¬2). وقال الشيخ تقي الدين (¬3): اعتبار التساوي، ويوجب أن يكون التساوي في هذا بالوزن لا بالكيل، والفقهاء قرروا أنه يجب التمائل بمعيار الشرع، فما كان موزوناً فبالوزن، وما كان مكيلاً فبالكيل، أي: وما كان معدوداً أو مذروعاً فبه. وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون هذه الألفاظ تأكيداً، ويحتمل أن يزيد المثلية في الصفة والوزن في المقدار، و"سواء بسواء". راجع لهما معاً. وقد اختلف في المراطلة عندهم: هل يشترط استواء الوزن مماثلة العين أم لا؟ (¬4). ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 10). (¬2) (11/ 12). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 112). (¬4) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (19/ 241، 246): * قال أبو عمر: أما المراطلة الذي ذكر عن سعيد بن المسيب، فلا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خلاف بين علماء المسلمين فيها، فإذا كان الذهبان متقاربين لا يدخل فيهما من غيرهما, ولا نقصان في أحد الكفتين، ولا زيادة يحتاج فيها إلى وزن أو غيره، لأن السنة المجتمع عليها أن المماثلة بالذهب والورق، والوزن، فإن كانت المراطلة ذهباً بذهب، فزادت إحداهما، فأخذ صاحب الزيادة فيها ورقاً، أو كانت المراطلة ورقاً بورق، فأخذ صاحب الزيادة فيها ذهباً، فهو موضع اختلف فيه الفقهاء: * فمذهب مالك، وأصحابه أنه لا يجوز ذهب بفضة، وذهب، ولا ذهب وفضة بفضة على حال، ولا يجوز عندهم أن يشتري ما زاد في المراطلة من أحد الذهبين بفضة، ولا من أحد الفضتين بذهب، ولا بغير ذلك، ولا يصح عندهم مع الصرف بيع. * وهو قول الشافعي، والليث بن سعد. * ولا يجوز عند مالك، والليث، والشافعي بيع فضة بنوعين من الفضة، ولا بيع فضة بنوعين من الذهب، ولا يجوز عندهم بيع ألف درهم سود بألف درهم بيض، وسود، ولو كانت بيض كلها بسود كلها جاز؛ لأنه لو استحق أحد الذهبين رجع فيه إلى القيمة فيدخله التفاضل. * وأجاز ذلك كله أبو حنيفة، وأصحابه, لأنه ذهب بذهب مثلاً بمثل، وفضة بفضة مثلاً بمثل. * قالوا: ولما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بالمماثلة دل على أن الاعتبار بها في الورق، لا في القيمة. * وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعي: غرر أن يشتري عشرة دراهم، ودنانير باثني عشر درهماً. * وروى نحوه عن الثوري. * وروي عنه أنه قال: كان ينبغي أن يحدث الفضل بقيمتها إزاءه. * وروي عن إبراهيم النخعي مثل قول أبي حنيفة، والأوزاعي. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = * وإنما أجازوا ذلك؛ لأنهم جعلوا من الاثني عشر درهماً عشرة دراهم بإزاء العشرة الدراهم، وجعلوا الدرهمين بإزاء الدينار، ومعلوم أن الدرهمين ليستا ثمناً للدينار فيدخله التفاضل، لا محال، والله أعلم. * ومن حجتهم أن قالوا: جائز بيع دينار بدرهم، يداً بيد من كل مالك لنفسه، جائز الأمر في ماله، فإذا جعلنا ما زاد على المماثلة من الفضة مقابلاً موازناً للذهب جاز؛ لأنا قد بعنا العشرة درا بثلثها وزناً، وإلاَّ خرج علينا في بيع الذهب بالورق متفاضلاً مثلاً. * وروى عبيد الله بن موسى، عن الثوري، قال: أخبرني عثمان ابن الأسود، عن مجاهد، قال: إذا وضعت ذهبك في كفة الميزان, ووضع ذهبه في الكفة الأخرى، ثم اشتريت منه كذا وكذا قيراطاً بدرهم، فلا بأس. وروى عبد الرزاق وغيره، عن الثوري، عن عثمان ابن الأسود، عن مجاهد في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل قال: يأخذ فضله ذهباً. * قال مالك، في الرجل يراطل الرجل، ويعطيه الذهب العتق الجياد، ويجعل معها تبراً ذهباً غير جيدة، ويأخذ من صاحبه ذهباً كوفية مقطعة، وتلك الكوفية مكروهة عند الناس، فيتبايعان ذلك مثلاً بمثل: إن ذلك لا يصلح. * قال مالك: وتفسير ما كره من ذلك، أن صاحب الذهب الجياد أخذ فضل عيون ذهبه في التبر الذي طرح مع ذهبه، ولولا فضل ذهبه على ذهب صاحبه، لم يراطله صاحبه بتبره ذلك، إلى ذهبه الكوفية، فامتنع، وإنما مثل ذلك كمثل رجل أراد أن يبتاع ثلاثة أصوع من تمر عجوة، بصاعين ومد من تمر كبيس. فقيل له: هذا لا يصلح، فجعل صاعين من كبيس، وصاعاً من حشف، يريد أن يجيز، بذلك، بيعه، فذلك لا يصلح، لأنه لم يكن صاحب العجوة، ليعطيه صاعاً من العجوة بصاع من حشف، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولكنه إنما أعطاه ذلك، لفضل الكبيس، أو أن يقول الرجل للرجل: يعني ثلاثة أصوع من البيضاء، بصاعين ونصف من حنطة شامية، فيقول: هذا لا يصلح إلاَّ مثلاً بمثل، فيجعل صاعين من حنطة شامية، وصاعاً من شعير، يريد أن يجيز بذلك البيع فيما بينهما. فهذا لا يصلح؛ لأنه لم يكن ليعطيه بصاع من شعير، صاعًا من حنطة بيضاء، لو كان ذلك الصاع مفرداً، وإنما أعطاه إياه لفضل الشامية على البيضاء، فهذا لا يصلح، وهو مثل ما وصفنا من التبر. * قال مالك: فكل شيء من الذهب والورق والطعام كله، الذي لا ينبغي أن يباع إلاَّ مثلاً بمثل فلا ينبغي أن يجعل مع الصنف الجيد من المرغوب فيه، الشيء الرديء والمسخوط؛ لجاز البيع، وليستحل بذلك ما نهي عنه من الأمر الذي لا يصلح. * وذكر كلاماً يرد فيه المعنى، واللفظ دون زيادة شيء غير ما تقدم إلى آخر الباب. * وبمعنى ما رسمه مالك في هذا الباب يقول الشافعي -رحمه الله-. * قال: ولو راطل مئة دينار عتق مروانية، وعشرة من ضرب مكروه، بمئة دينار وعشرة هاشمية فلا خير فيه من قبل أن قيم المروانية أكثر من قيم الهاشمية، وهذا الذهب بالذهب متفاضلاً، ولا بأس أن يراطل الدنانير الهاشمية التامة بالعتق الناقصة مثلاً بمثل في الوزن. * ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذهب بالذهب إلاَّ مثلاً بمثل. * قال الشافعي: ولا يجوز مد عجوة بدرهم بمدي عجزة، ولا دينار ودرهم بدينارين. قال أبو عمر: هذا كله مذهب مالك، وأصحابه. * وأما البصريون، والكوفيون جائز ذلك كله عندهم؛ لأن رديء التمر، =

السابع: في الحديث أحكام: الأول: تحريم بيع جميع أنواع الذهب بعضها ببعض متفاضلاً، وكذا الفضة بالفضة. الثاني: تحريم بيع الغائب فيها بالحاضر إذا تفرقا من غير قبض. الثالث: اشتراط القبض في المجلس، وتقدم ما فيه، وجوّز ابن علية التفرق عند اختلاف الجنس، وهو محجوج بالأحاديث والإِجماع، ولعلها لم تبلغه (¬1). والرابع: الحث على التساوي في الربويات بكل ما يمكن من الوزن والكيل، وإن قلت الزيادة, لأن لفظة الشفوف تقتضي الزيادة ¬

_ = وجيده لا يجوز إلاَّ مثلاً بمثل، فكذلك رديء البر وجيده، ورديء الورق، وجيدها، ورديء الذهب وجيده، لا يجوز الرديء من ذلك كله والوسط، والجيد إلاَّ مثلاً بمثل. فإذا كانت المماثلة، ولم يكن تفاضل، ولا زيادة، فجائز حلال عندهم. * وكذلك يجوز عندهم مد عجوة ودرهم بمدي عجوة؛ لأنَّ المد بإزاء المد الثاني بالدرهم. * وكذلك الفضة، والفضة والذهب بالذهب على هذا المذهب الذي قدمنا ذكره عنهم، وبالله التوفيق. (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (20/ 41)، وشذا بن علية في ذلك أيضاً، فقال: إذا اختلف النوعان كالبر بالشعير، والبر بالزبيب، فليس بواحد بأضعاف الآخر، يداً بيد، ونسيئة قياساً لكل ما يكال على ما يوزن. اهـ.

غير المكسرة، ومنه: شفافة الإِناء، وهي البقية القليلة فيه من الماء وإن حمل الحديث على التأكيد والمبالغة، فتكون الدلالة على غير الموزون من باب أولى. ***

الحديث الثالث

الحديث الثالث 295/ 3/ 57 - وعنه قال جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر بَرْنيٍّ. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أين هذا"؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديءٌ، فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عند ذلك: "أوه (¬1)، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" (¬2). الكلام عليه من وجوه: وبلال: تقدمت الإِشارة إلى ترجمته في أول الأذان. الأول: هذا الحديث أخرجه مسلم كذلك إلاَّ أنه قال: "ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر، ثم اشتر به"، وقال: "لمطعم" بدل "لتطعم". ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام مكررة وسيأتي الكلام عليه. (¬2) البخاري (2201)، ومسلم (1593)، والنسائي (7/ 271, 272)، وفي الكبرى له (4/ 25)، والبيهقي (5/ 291)، والبغوي (2064)، والدارقطني (3/ 17)، وأحمد (3/ 62)، والدارمي (2/ 257، 258)، وابن الجارود (ح 653).

وأخرجه البخاري (¬1) في باب: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود: بلفظ المصنف سواء إلاَّ أنه قال: "أوَّه، أوَّه، عين الربا لا تفعل" مرتين. ووقع في شرح الشيخ تقي الدين وغيره: تكرار "عين الربا" دون "أوَّهْ" (¬2) وكذا هو في "العمدة الكبرى" للمصنف. الثاني: في ألفاظه: الأول: "البرني" بالفتح ضرب من التمر أصفر مدور، واحدته برنية، وهو أجود التمر، كما قاله صاحب "المحكم" (¬3). وقال أبو حنيفة الدينوري (¬4): أصله فارسي معرب ودعوى صاحب "التنبيه" أن المعقلي أجود منه ليس كما قاله وقد تبدل من يائه جيم قال الراجز: المطعان اللحم بالعشج ... وبالغداةِ [قلق] (¬5) البرنِجَّ ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 490)، ح (2312). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 112)، وبالنسخ التي بين يدي مكررة مرتين. (¬3) لسان العرب (1/ 392). (¬4) هو أحمد بن داود بن ونند الدينوري المتوفي سنة (282)، له كتاب ما تلحن فيه العامة، كتاب: النبات، كتاب: الأنواء، وما نقله عنه في لسان العرب (1/ 392). (¬5) في قصد السبيل (1/ 275) كسر. وأيضاً في لسان العرب (1/ 392)، وقبله: خالي عُوَيْفٌ وأبو عَلِجَّ =

يريد بالعشى وقلق البرني. قال الجويني في "فروقه" (¬1): في الزكاة كنت بالمدينة فدخلا أصدقائي، فقال: كنا عند الأمير فتذاكروا أنواع تمر المدينة، فبلغت أنواع الأسود ستين نوعاً، ثم قالوا: وأنواع الأحمر؟ فبلغت هذا المبلغ. فائدة: رأيت أن أذكرها هنا: وقع في شرح "ألفاظ المختصر" للأزهري (¬2) أن العجوة جنس من التمر معروف، وأنها ألوان، وأن الصيحاني الذي يحمل من المدينة منها. وكلام "الموطأ" صريح في تغايرها. ¬

_ = وبعدهما: يُقلَعُ بالوَدِّ و [بالصَّيصِجِّ] في قصد السبيل: وبالصيصي. ومعنى "بَرْنّي" أصله "بارني" فالبار: الحمل. وني تعظيم ومبالغة. ويذكر عن الخفاجي: أن "بر" بمعنى حمل "وني" بمعنى جيد. اهـ. من قصد السبيل. (¬1) هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن حيويه أبو محمد الجويني يلقب بركن الإِسلام توفي بنيسابور في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة. وفيات الأعيان (2/ 250)؛ وطبقات الشافعية (3/ 308)؛ وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 209)، له كتاب الفروق مجلد ضخم. (¬2) في الزاهر: (157، 200) هو محمد بن أحمد ابن الأزهر أبو منصور الأزهري الهروي. "تهذيب اللغة"، و"شرح مشكل ألفاظ مختصر المزني"، واسمه "الزاهر في غرائب ألفاظ الإِمام الشافعي الذي نقله عنه المزني" توفي سنة سبعين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء (16/ 315)، وطبقات الشافعية للنووي (1/ 83).

لا جرم قال المحب الطبري في "أحكامه": في أول الجنائز لم أر ذلك لغيره، والمشهور عند أهل المدينة المغايرة بين العجوة والصيحاني. الثاني: "الرديء" مهموز. الثالث: "يطعم" بفتح العين أي يأكل، والماضي مكسور العين. الرابع: "أوه" كلمة توجع وتحزن، كما قاله أهل اللغة وهي مشددة الواو، ويقال: بالمد والقصر. وقال القاضي (¬1): وقد قيل أيضاً أووه بضم الواو ومدها. وقد قيل في قوله تعالى: {أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}، أي: كثير التأوه خوفاً وشفقة، وهو من هذا. ¬

_ (¬1) قال القاضي عياض -رحمنا الله وإياه- في مشارقه (1/ 52)، قوله: "أوه عين الربا" رويناه بالقصر وتشديد الواو وسكون الهاء. وقيل: بمد الهمزة قالوا: ولا موضع لمدها إلاَّ لبعد الصوت. وقيل: بسكون الواو وكسر الهاء ومن العرب من يمد الهمزة ويجعل بعدها واوين اثنين فيقول: أووه وكله بمعنى التذكير والتحزن ومنه: "إن إبراهيم لا واه" في قول أكثرهم أي كثير التأوه شفقاً وحزناً وقيل أوه دعاء وهو يرجع إلى قريب منه. وأنشد البخاري تأوه أهة الرجل الحزين. كذا للأصيلي مشدداً وللقابسي وأبي ذر آهة بالمد وكلاهما صواب أي توجع الرجل الحزين وفي رواية ابن السماك عن المروزي أوهة وهو خطأ. اهـ. انظر: فتح البخاري (4/ 490).

وقال النووي في "شرحه" (¬1): بعد أن نقل أهل اللغة أن "أوه" كلمة تحزن وتوجع في هذه الكلمات لغات، الصحيحية المشهورة في الروايات "أَوَّه" بهمزة مفتوحة، ثم واو مفتوحة مشددة، وهاء ساكنة. ويقال: بنصب الهاء منونة. ويقال: "أوه" بإسكان الواو وبكسر الهاء منونة وغير منونة بلا هاء. ويقال: "أوّ" بتشديد الواو منونة بلا هاء. ويقال: "اآه" بمد الهمزة وتنوين الهاء مكسورة من غير واو. الخامس: معنى "عين الربا" حقيقة الربا وآكده وفي رواية البخاري بالتكرار. السادس: "بيع التمر ببيع آخر" الألف واللام في التمر للعهد في الرديء لا للجيد. وقوله: "ثم اشتر به" يعني به الصاع الجيد، ويكون المعنى بعه على صفقة أخرى، أو على معنى زيادة "الباء" كأنه قال: بعه بيعاً آخر. قال الشيخ تقي الدين (¬2): يحتمل هذا، ويحتمل أيضاً أن يريد ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 12)، انظر: لسان العرب فقد ساق لغات كثيرة ومعانيها (1/ 274). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 114).

به بمبيع -أي أقام المفعول- كما قالوا: أنت رجائي بمعنى مرجوي، ويراد به الثمن ويقويه قوله: "ثم اشتر به" وبأن زيادة الباء في مثل هذا ليس بقياس وجزم غيره من الشراح بالأول، وقال عود المعنيين إلى محلين أولى من عودهما إلى محل خصوصاً إذا استقام المعنى به. الوجه الثالث: في أحكامه: فيه أن للإِنسان أن يبحث عما يستريب فيه حتى يكشف له حاله، كذا استنبطه منه القرطبي (¬1) وعبارة غيره: فيه أن للإِنسان أن يستخبر عن الطعام الذي لا يعلم أصله، وإن كان ظاهر الآتي به حسناً ليس في ذي ظالم ونحوه، أو الآتي به معروفاً عند الذي آتى به إليه، وهو خلاف ما ذكره الغزالي في بعض كتبه. الرابع: النص على تحريم ربا الفضل في التمر، وهو إجماع إلاَّ من خصص الربا بالنسيئة، وقد رجع عنه، كما أسلفت في الحديث الأول. الخامس: اهتمام التابع بمتبوعه في أكله وجميع أموره، وإطعامه الجيد الطيب دون الرديء، وإعلامه بذلك. السادس: السؤال عن تصرف المتبوع له عن كيفيته وهو راجع إلى الأول. السابع: تعليم العلم وتقبيح المحرم بتجنبه، وتعلم غيره. قال القاضي: وإنما يؤدبه على ما فعل, لأنه كان في أوائل تحريم الربا. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2849).

الثامن: ما احتج به الشافعي ومن وافقهم على استعمال الحيل في البياعات في مسألة العينة (¬1)، كما يفعله بعض الناس، توصلاً إلى مقصود الربا، بأن يريد أن يعطيه مائة بمائتين، فيبيعه ثوباً بمائتين، ثم يشتريه منه بمائة، وموضع الدلالة من الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له "بعه واشتره ببيع آخر" ولم يقصد بذلك سوى الخلاص من القدر الممنوع منه شرعاً، وهو عدم التماثل في الربويات [لا كثرة ولا غيرها] (¬2)، ولم يفصل بين أن يشتري من المشترى أو من غيره، فدل على أنه لا فرق وبهذا قال أبو حنيفة أيضاً: كما نقله عنه القاضي. وخالف مالك وأحمد وغيرهما فقالوا: إنه حرام. ويجيبوا: بأن الحديث مطلق لا عام، فيحمل على بيعه من غير البائع، أو على غير صورة المنع. فإن المطلق يكتفي في العمل به بصورة واحدة. وفي هذا الجواب نظر، كما أبداه الشيخ ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 400)، واستدل به على جواز بيع العينة وهو أن يبيع السلعة من رجل بنقد ثم يشتريها منه بأقل من الثمن لأنه لم يخص بقوله: "ثم اشتر بالدراهم جنيباً" غير الذي باع له الجمع، وتعقب بأنه مطلق، والمطلق لا يشمل ولكن يشيع فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها, ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء, ممن باعه تلك السلعة بعينها, وقيل: إن وجه الاستدلال له لذلك من جهة ترك الاستفصال ولا يخفي ما فيه. (¬2) في إحكام الأحكام (4/ 114) ولا بين أن يقصد التوصل إلى شراء الأكثر أولاً. وانظر: شرح مسلم (11/ 21)، والفتح (4/ 400، 401).

تقي الدين (¬1): لأنا تفرق بين العمل بالمطلق فعلاً، كما إذا قال لامرأته: إن دخلتِ الدار فأنت طالق، فإنه يصدق بالدخول مرة واحدة، وبين العمل بالمطلق حملاً على المقيد، فإنه يخرج اللفظ من الإِطلاق إلى التقييد. التاسع: عدم سد الذرائع، كما قررناه في الوجه الذي قبله (¬2). العاشر: أن التفاضل في الصفات لا اعتبار به في تجويز الزيادة. الحادي عشر: لم يأمر -عليه الصلاة والسلام- بلالاً برده (¬3)، وإنما نهاه عن فعله وأمره أن يبيع التمر ببيع آخر، ثم يشتريه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 114). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4/ 401)، قال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع؛ لأن بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، ويكون الثمن لغواً، قال: ولا حجة في هذا الحديث لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه، التمر الأول، ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه، بل بإطلاقه والمطلق يحتمل التقييد إجمالاً، فوجب الاستفسار، إذا كان كذلك فتقييده بأدنى دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع. اهـ. (¬3) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- "إن القصة وقعت مرتين: مرة لم يقع فيه الأمر بالرد، وكان ذلك قبل العلم بتحريم الربا، ومرة وقع فيها الأمر بالرد، رذلك بعد تحريم الربا والعلم به، ويدل على التعدد أن الذي تولى ذلك في إحدى القصتين سواء بين غزية عامل خيبر، وفي الأخرى بلال. وعد الطبري من طريق سعيد بن المسيب عن بلال قال: "كان عندي تمر دون فابتعت منه تمراً أجود" وفيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الربا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بعينه، انطلق فرده على صاحبه وخذ تمرك وبعه بحنطة أو شعير ثم اشتر به من هذا التمر ثم جئنى به". وأما سكوت من سكت من المحدثين في الحديث عن ذكر فلسخ البيع الذي باعه العامل على خيبر، فلأنه معروف في الأصول أن ما ورد التحريم به لم يجز العقد عليه، ولا بد من فسخه؛ وقد جاء الفسخ منه منصوصاً في هذا الحديث: ذكر مسلم بن الحجاج، قال حدثنا مسلمة بن الحجاج، قال حدثنا سلمة بن شيب، قال حدثنا الحسن بن أعين، قال حدثنا معقل، عن أبي قزعة الباهلي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر فقال: ما هذا التمر منتمرنا، فقال الرجل: يا رسول الله بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا الربا، فردوه ثم بيعوا تمرنا، واشتروا لنا من هذا, ولو لم يأت هذا منصوصاً، احتمل ما ذكرنا، واحتمل أن يكون عامل خيبر فعل هذا على أصل الإِباحة التي كانوا عليها، ثم نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - تحريم الربا بعد عقد صفقته على أصل ما كان عليه -كما قال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا. يريد: فما لم يؤمروا ولم ينهوا، فعلهم- وبالله التوفيق. - وقال أيضاً في التمهيد (20/ 58) انظره. - وقال أيضاً في الاستذكار (19/ 145). وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بردّ هذا البيع من حديث بلال بن رباح ومن حديث أبي سعيد الخدري أيضاً. وروى منصور، وقيس بن الربيع عن أبي حمزة، عن سعيد بن المسيب، عن بلال قال: كان عندي تمر دون، فابتعت أجود منه في السوق بنصف كلية صاعين بصاع، وأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من أين لك هذا؟ " فحدثته بما صنعت هذا الربا بعينه، انطلق، فرده على صاحبه، وخذ تمرك، وبعه =

والمأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على بائعه وإذا رده استرد الثمن. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) من حديث أبي سعيد أيضاً أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لمن اشترى صاعًا بصاعين هذا الربا، رده، ثم بيعوا تمرنا فاشتروا لنا من هذا". وجمع بينهما بوجهين: على تقدير اتحاد القصة وهو الظاهر: الأول: أن بعض الرواة حفظ ذلك، وبعضهم لم يحفظه، فقدمت رواية من حفظ, لأنها زيادة من ثقة، وهي مقبولة. ¬

_ = بحنطة، أو شعير، ثم هذا التمر، ثم ائتيني به" إلخ. اهـ. محل المقصود ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 112) وقال: رواه البزار في الكبير بنحوه وزاد "فإذا اختلفت النوعان فلا بأس واحد بعشرة ورجال البزار رجال الصحيح إلاَّ أنه من رواية سعيد بن المسيب عن بلال ولم يسمع سعيد من بلال، وله في الطبراني أسانيد بعضها من حديث ابن عمر عن بلال باختصار عن هذا ورجالها ثقات وبعضها من رواية عمر بن الخطاب عن بلال بنحو الأول وإسنادها ضعيف. ورواية أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني، فقال: "ما هذا؟ " قال: اشتريته صاعاً بصاعين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوه، عين الربا لا تفعل". أخرجه الإِمام أحمد (3/ 62)، والبخاري في الوكالة (2312) باب "إذا باع الوكيل شيئاً فاسدال فبيعه مردود"، ومسلم في المساقاة (1594) باب "بيع الطعام مثلاً بمثل" من طرف عن معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، وأخرجه النسائي في البيوع (7/ 272 و 273) باب "بيع التمر بالتمر متفاضلاً". (¬1) (1594).

الثاني: أن في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أوه عين الربا" ما يفهم الرد، ويؤيده قوله بعده: "لا تفعل" ثم أرشده إلى ما يفعل. وفيه وجه ثالث: وهو أنا أسلمنا بتعدد الواقعة، فتحمل رواية الكتاب على أنه جهل بائعه، ولا يمكن معرفته، فصار مالاً ضائعاً لمن عليه دين بقيمته، وهو التمر الذي قبله عوضاً عنه (¬1). العاشر: في قوله: "لا تفعل" وفي رواية مسلم "رده" دلالة كما قال القرطبي على وجوب فسخ صفقة الربا، وأنها لا تصحح بوجه، قال: وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول: إن بيع الربا جائز بأصله، من حيث إنه بيع ممنوع بوصفه، من حيث هو ربا فيسقط الربا، ويصح البيع، ولو كان على ما ذكر ما فسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع، ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (11/ 22). (¬2) المفهم (5/ 2850)، انظر: الفتح (4/ 401)، قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (19/ 145) والبيع إذا وقع محرماً، فهو مفسوخ مردود، وإن جهله فاعله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه إصرنا، فهو رد". وقال أيضاً (19/ 146). وفي اتفاق الفقهاء على أن البيع إذا وقع بالربا، فهو مفسوخ أبداً دليل واضح على أن بيع عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصاعين بالصاع كان قبل نزول آية الربا، وقبل أن يتقدم إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن التفاضل في ذلك، =

الحادي عشر: فيه جواز الوكالة أيضاً كما سلف عن البخاري (¬1). ... ¬

_ = ولهذا سأله عن فعله ليعلمه بما أحدث الله فيه من حكمه، ولذلك لم يأمر بفسخ ما لم يتقدم فيه إليهم، والله أعلم. وقد احتج بظاهر هذا الحديث من أجاز أن يبيع الرجل الطعام من رجل بالنقد، ويبتاع منه بذلك النقد طعاماً قبل الافتراق، وبعده؛ لأنه لم يخص فيه بائع الطعام ولا مبتاعه من غيره. (¬1) كما بوب عليه البخاري في صحيحه في كتاب الوكالة: باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود. انظر: الفتح (4/ 490) ح (2312).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 296/ 4/ 57 - عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب، وزيد بن أرقم عن الصرف فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني, وكلاهما يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق ديناً (¬1). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2180)، ومسلم في باب الربا (4/ 11/ 16) النووي، والنسائي (7/ 280)، وفي الكبرى له (6169)، وأحمد (4/ 371، 368، 374)، وابن أبي شيبة (5/ 300). فائدة: قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في "الفتح" (4/ 382)، على قوله: "باب بيع الورق بالذهب نسيئة" البيع كله إما بالنقد أو بالعرض حالاً أو مؤجلاً، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف، وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمناً والعرض عوضاً، وبيع العرض بالعرض يسمى مقابضة، والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخراً فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخراً فهو السلم، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلاَّ في الحوالة عند من يقول: "إنها بيع". اهـ. انظر ص 319.

الأول: في التعريف برجاله. أما أبو المنهال: فهو سيَّار بن سلامة، وقد سلف في الحديث الرابع من كتاب الصلاة (¬1). وكذا البراء بن عازب سلف في باب الأمامة. وأما زيد بن أرقم: فسلف في باب جامع (¬2). الثاني: في أحكامه: الأول: السؤال عن العلم من أهله والتورع عن الفتيا إذا وُجد من يقوم بها، وقد جاء أن المسألة كانت تعرض على عشرين ومائة من الصحابة فيتراجعونها بينهم. الثاني: الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، والتواضع لهم، إنما يعترف بالفضل لأهل الفضل أولو الفضل، والاعتراف والتواضع من النعم الجليلة، ويكفي في التواضع أنه ضد الكبر. وقد قال -عليه الصلاة والسلام- حكاية عن الله تعالى: "العظمة إزارى والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته" (¬3). الثالث: موافقة أهل الحق ومقاصدهم. الرابع: تحريم ربا النساء في النقدين لاجتماعهما في علة واحدة. ¬

_ (¬1) (2/ 254). (¬2) (3/ 341). (¬3) مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، وشرح السنة (3592)، وأحمد (2/ 376، 414)، والأدب المفرد للبخاري (552).

وقوله: "ديناً"، أي: مؤجلاً. أما إذا باعه في الذمة حالاً فإنه يجوز عند جماعة كشرط التقابض في المجلس كما سلف في الحديث الثاني. خاتمة: ترجم البخاري (¬1) على هذا. الحديث بيع الورق بالذهب نسيئة، ثم أخرجه باللفظ المذكور. وأما مسلم (¬2)، فأخرجه بقصة، وهي أن شريك أبا المنهال باع ورقاً نسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إليه، فأخبره، فقال أبو المنهال: هذا أمر لا يصلح، قال: قد بعته في السوق، فلم ينكر ذلك عليّ أحد، فأتيت البراء فسألته، فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونحن نبيع هذا البيع. فقال: "ما كان يداً بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا، وأئت زيد بن أرقم، فإنه أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته، فقال: مثل ذلك". وفي رواية عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب عن الصرف، فقال: سل زيد بن أرقم، فهو أعلم فسألت زيداً. فقال سل البرِاء فإنه أعلم ثم قالا: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الورق بالذهب ديناً" ... ¬

_ (¬1) "الفتح" (4/ 319)، ح (2180، 2181). (¬2) مسلم (1589)، انظر: "جامع الأصول" (1/ 554).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 297/ 5/ 57 - عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلاَّ سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل، فقال: يداً بيد؟ فقال: هكذا سمعت) (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا اللفظ هو لمسلم، ولم يذكر البخاري قوله: "فسأله رجل" إلى آخره، ولفظه بعد قوله: "سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة، كيف شئنا، أو الفضة بالذهب كيف شئنا" وترجم عليه قبل هذا باب: بيع الذهب بالذهب (¬2) وذكره بلفظ: ¬

_ (¬1) البخاري (2175)، ومسلم (1590)، والنسائي (7/ 280، 281)، وفي الكبرى له (4/ 32)، والبيهقي (5/ 282)، وابن حبان (5014) , معرفة السنن والآثار (11044)، وأحمد (5/ 38، 39)، وابن أبي شيبة (7/ 106، 107). (¬2) الفتح (4/ 379).

"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاَّ سواء بسواء، والفضة بالفضة إلاَّ سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، كيف شئتم". الثاني: في التعريف براويه واسمه نقيع بن الحارث بن كلدة وقيل: ابن مسروح الثقفي نزل البصرة، ثم تحول إلى الكوفة، وكان صالحاً ورعاً، وقيل له: أبو بكرة لأنه تدلى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببكرة من حصن الطائف، فأسلم وهو ابن ثمان عشرة وأعتقه - صلى الله عليه وسلم - ولم يمت حتى رأى من صلبه مائة ولد ذكر، وأعقب منهم سبعة روى له مائة حديث واثنان وثلاثون حديثاً اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بواحد، روى عنه أولاده: عبيد الله، ومسلم، وروّاد، وعبد العزيز والحسن، وجماعة، واعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع أحد، ولم ينزل البصرة أحد أفضل منه ومن عمران بن حصين، كما قاله الحسن البصري. مات بالبصرة سنة خمسين أو إحدى أو اثنين أو ثلاث وخمسين أقوال (¬1). الثالث: في فن المبهمات: هذا الرجل السائل هو ثابت ابن حميد، وكما جاء مصرحاً به في "مسند الإِمام أحمد" (¬2)، وفي رواية: ثابت بن عبد الله، فاستفد ذلك فلم أر أحداً من الشراح نبه عليه. الثالث: في فقهه، وفيه أحكام: ¬

_ (¬1) انظر: الثقات لابن حبان (3/ 411)؛ وأسد الغابة (5/ 151)؛ والاستيعاب (2/ 628)؛ وتاريخ خليفة (218). (¬2) (5/ 37) والموجود ثابت بن عبيد. فليصحح.

الأول: المراد هنا بالأمر الإِذن والإِباحة. الثاني: جواز التساوي في الربويات إذا كانت من جنس واحد، ولا بد من الحلول والتقابض في المجلس. الثالث: جواز التفاضل إذا اختلف الجنس بشرط القبض في المجلس. وقوله: "كيف شئنا"، أي. بالنسبة إلى التفاضل والتساوي، لا بالنسبة إلى الحلول والتأجيل. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) من حديث عبادة: "إذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد". الرابع: أن الفتيا في التوقيفيات كالربويات ونحوها موقوفة على السماع. خاتمة: يؤخذ من اشتراط المساواة في بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مع المسألة المشهورة بقاعدة: مدعجوة، وهو مذهب عمر بن الخطاب وابنه جماعة من السلف، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، ابن عبد الحكم ودليلهم حديث القلادة، التي فيها خرز وذهب، وابتيعت بالذهب، فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا تباع حتى تفصل" كما أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (1587)، وأبو داود (3349)، وابن ماجه (4454)، والنسائي (7/ 274). (¬2) مسلم (1591)، والنسائي (7/ 279)، وأبو داود (3351)، الشافعي وأصحابه لا يجوز عندهم أن يباع شيء فيه حلية فضة قليلاً كان أو كتيراً =

وذهب أبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح (¬1): إلى جواز ¬

_ = بشيء من الفضة بحال من الأحوال, لأن المماثلة المأمور بها، والمفاضلة المنهي عنها في الفضة بالفضة لا يوفق منها في السيف وما كان مثله على حقيقته. وعلى هذا يتبين لنا من مذهب الشافعية المنع مطلقاً وهو رواية عن أحمد. والعلة عندهم بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهذه علة ضعيفة فإن الانقسام إذا باع شقصاً مشفوعاً. وما ليس بمشفوع -كالعبد، والسيف، والثوب- إذا كان لا يحل: عاد الشريك إلى الأخذ بالشفعة، فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه. والحديث أخرجه مسلم في باب الربا (11/ 17) النووي، أبو داود، كتاب: البيوع، باب: في حلية السيف تباع بالدراهم (3212). ونعربف مسألة مد عجوة: إن يبيع مالاً ربوياً بجنسه ومعها أو مع أحدهما من غير جنسها. (¬1) قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (5/ 23)، وقال أبو حنيفة: إن كان الثمن أكثر مما فيه من الذهب جاز، وإن كان مثله، أو أقل منه لم يجز، وهذا هو الجواز مطلقاً وهو رواية عن أحمد حتى إنه ليجوز -عند الأحناف- بيع ألف درهم بخمسمائة درهم في منديل أو قفيزي حنطة بقفيز في زنبيل. اهـ. قال ابن تيمية: والصواب في هذه الصورة أنه لا يجوز. قال: فأما ما ذهب أليه أبو حنيفة: فإنه يخرج على القياس, لأنه يجعل الذهب بالذهب سواء، ويجعل ما فضل عن الثمن بإزاء السلعة، غير أن السنة قد منعت هذا القياس أن يجري، ألا تراه يقول: "إنما أردت الحجارة أو التجارة، فقال: لا حتى تميز بينهما" فنفى صحة هذا البيع، مع قصده إلى أن يكون الذهب الذي هو الثمن الخرز بعضه بإزاء الذهب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الذي هو مع الخرز مصارفة، وبعضه بإزاء الحجارة التي هي الخرز بيعاً وتجارة، حتى يميز بينهما، فتكون حصة المصارفة متميزة عن حصة المتاجرة، فدل على أن هذا البيع على الوجهين فاسد. فمثلاً: يقولون لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بعضه أكثر مما فيه من الفضة، ولا يجوز بيعه بفضة مثلها، أو أقل منها، ويحتاج إلى أن يقبض حصة الفضة في المجلس، ويقبض السيف. اهـ. قال الخطابي في معالم السنن (5/ 24)، وبيان فساد هذا البيع من جهة المعنى على وجوه. أحدها: أنه عقد تضمن بيعاً وصرفاً. ومتى جهل التماثل في الذهب بالذهب وقت العقد بطل الصرف، ولا سبيل إلى معرفة التماثل إلاَّ بعد التمييز والتفضيل، فتكون التسوية حينئذٍ بينهما بالوزن. فروى أصحاب أبي حنيفة عنه أنه قال: إذا باع صبرة من الطعام بصبرة من جنسه جزافاً لم يجز، وإن خرجا عند الكيل متساويين، وفي هذا اعتبار التماثل خال العقد. وهو نظير مسألة الصرف. والوجه الثاني: أن الصفقة إذا تضمنت شيئين مختلفين في الجنس كان الثمن مفضوضاً عليهما بالقيمة، وإذا كان كذلك، وأردنا أن نقسط الثمن عليهما بالقيمة، وأسقطنا قيمة الخرز من جملة الثمن -لن ندر: كم مقدار ما يبقى منه؟ وهل يكون مثل الذهب المشترى مع الخرز، أو أقل منه، أو أكثرُ؟ فبطل العقد للجهالة. والوجه الثالث: أن أحكام عقد الصرف لا تلائم أحكام سائر العقود, لأن من شرطه التقابض قبل التفرق، وانقطاع شرط الخيار وسائر العقود يصح من غير تقابض، ويدخلها شرط الخيار، فلم يجز الجمع بينهما في صفقة واحدة، لتنافي معانيهما. ولأن حكم أحدهما لا ينبني على حكم الآخر. قال الشيخ: وهذا معنى قوله: "لا، حتى يتميز" وتأويله: تميز العقدين، لا تميز المبيع، وعلى هذا القول: لا يجوز بيع فضة وسلعة معها بدينار. =

البيع بأكثر مما فيه من الذهب، ولا يجوز بمثله ولا دونه. قالوا: والقلادة كان فيها اثني عشر ديناراً واشترى باثني عشر وحجة الأولين إطلاق قوله: "حتى يفصل"، روواية أبي داود إنما: "أردت الحجارة، فقال: لا حتى تميز بينهما". وذهب مالك وأصحابه وآخرون (¬1): إلى جواز بيع السيف ¬

_ = وقد ذهب إليه بعض الفقهاء. اهـ. (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (19/ 227)، قال مالك: من اشترى مصحفاً أو سيفاً أو خاتماً. وفي شيء من ذلك ذهب أو فضة بدنانير أو دراهم، فإن ما اشترى من ذلك بدنانير فإنه ينظر إلى فيمتهد فإن كانت قيمة ذلك الثلثين، وقيمة ما فيه من الذهب الثلث، فذلك جائز لا بأس به. إذا كان ذلك يداً بيد. ولا يكون فيه تأخير. وما اشترى من ذلك بالورق، مما فيه الورق نظر إلى قيمته، فإن كان قيمة ذلك الثلثين، وقيمة ما في من الورق الثلث، فذلك جائز لا بأس به، إذا كان ذلك يداً بيد، ولم يزل ذلك من أمر الناس عندنا. اهـ. قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (5/ 25)، وهذا قول لا وجه له، ولا فرق بين القليل والكثير فيما يدخله الربا, لأن أحداً لم يجوز الحبة من الذهب بالحبتين لأنها يسير، كما لم يجوز الدينار بالدينار وبين الدرهم بالدرهمين. اهـ. قال ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (4/ 465) (29/ 463، 464): والثالث: الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلاً أو لا يكون، وهذا مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه. فإن كان المقصود هو البيع الجائز، وما فيه من مقابلة ربوي بربوي على وجه التبع كبيع الغنم، وفي كل منهما لبن وصوف، أو بيع غنم ذات لبن بلبن، وبيع دار مموة بذهب، وبيع الحلية الفضية بذهب، وعليها ذهب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يسير موهت به، ونحو ذلك. قال ابن تيمية: فهذا الصواب فيه أنه جائز، كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها في البيع تبعاً، وقد جاء مع ذلك الحديث الذي رواه مسلم مرفوعاً، كما رواه سالم عن أبيه، ورواه نافع عن ابن عمر مرفوعاً: "من ابتاع عبداً وله مال، فماله للبائع إلاَّ أن يشترط المبتاع". وأما إن كان المقصود الصنفين كليهما مثل: أن يكون على السلاح ذهب، أو فضة كثير. قال ابن تيمية: فهذا إذا كان معلوم المقدار، وبيع بأكثر من ذلك، ففيه نزاع مشهور، والأظهر أنه جائز. ومن جنس هذا بيع الذهب المخيش بالفضة إذا علم مقدار ما فيه من الفضة، والذهب. قال ابن تيمية: وهذا على ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون المقصود بيع فضة بفضة متفاضلاً، أو بيع ذهب بذهب متفاضلاً، ويضم إلى الأنقص من غير جنسه جلة، فلا يجوز ذلك أصلاً. والثاني: أن يكون المقصود بيع أحدهما، أو بيع عرض بأحدهما، وفي العرض ما ليس مقصوداً، مثل بيع السلاح بأحدهما وفيه حلية يسيرة, أو بيع عقار بأحدهما وفي سقفه وحيطانه أحدهما، فيجوز هذا عند أكثر العلماء، وهو الصواب. وبيع المخيشة بذهب عند السبك بفضة مثله هو من هذا الباب، فإذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب مقبوض جاز ذلك. أما إذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثرُ منها لأجل الصناعة: لم يجز. والثالث: أن يكون كلا الأمرين مقصوداً، مثل أن يكون على السلاح ذهب، أو فضة كثير، فهذا إذا كان معلوم المقدار، أو بيع بأكثر من ذلك فالأظهر جوازه. =

المحلى بذهب وغيره مما هو في معناه مما فيه ذهب، فيجوز بالذهب إذا كان المبيع فيه تابعاً لغيره، وقدروه بأن يكون الثلث فما دونه. وحكاه القرطبي (¬1) عن كافة العلماء. وذهب حماد بن أبي سليمان (¬2) إلى جواز بيعه بالذهب مطلقاً، سواء باعه بمثله من الذهب أو أقل أو أكثر, وهو غلط مخالف لصريح الحديث المذكور. ... ¬

_ = ويتخرج على مسألة "مد عجوة" جواز بيع الأكاديس الإِفرنجية بالدراهم الإِسلامية وذلك في أظهر قولي العلماء عند ابن تيمية، ومثل ذلك بيع الدراهم المغشوشة بالدراهم الخالصة. اهـ. (¬1) المفهم (4/ 479). (¬2) قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (5/ 23)، وقول حماد: قول منكر، لمخالفته الحديث وأقاويل عامة العلماء، وفساده غير مشكل، لما فيه من صريح الربا. اهـ.

58 - باب الرهن وغيره

58 - باب الرهن وغيره أي: من الحوالة، والتفليس، والشفعة، والوقف، والهبة، والعمرى، والمساقاة، والمؤاجرة، والأخبار على وضع الجذوع، والغصب، وذكر فيه ثلاثة عشر حديثاً: الأول 298/ 1/ 58 - عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيِّ طَعاماً، وَرَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَديدٍ) (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في المبهمات: هذا اليهودي يعرف بأبي الشحم كما رواه الشافعي والبيهقي (¬2) في الحديث وقالا هو رجل من بني ظفر، وضبطه بعض العصريين بهمزة ممدودة قال: واختلف في تسميته بذلك. فقيل: لأنه كان يأكل الشحم. ¬

_ (¬1) البخاري (2068)؛ ومسلم (1603)؛ والنسائي في الكبرى (6202، 6246)؛ وأحمد (6/ 42، 160، 230)؛ والبيهقي في الكبرى (6/ 36)؛ وابن ماجه (2436)؛ وابن الجارود (664)؛ والبغوي (2129). (¬2) مسند الشافعي (149)؛ وسنن البيهقي (6/ 36)، وقال فيه: هذا منقطع.

وقيل: لأنه لا يأكل ما ذبح على الأصنام وليت شعري من أين له ذلك وكأنه التبس عليه بأآبي اللحم (¬1). ووقع في "نهاية" (¬2) إمام الحرمين: تسميته بأبي شحمة. الثاني: هذا الطعام كان ثلاثين صاعاً من شعير، كما ذكره البخاري في بعض طرقه، كما ستعلمه في الوجه السابع. وفي الترمذي (¬3): من حديث ابن عباس "بعشرين صاعاً" ثم قال: حسن صحيح، ورواها النسائي أيضاً. قال الشيخ تقي الدين: في آخر "الاقتراح" (¬4): وهو على شرط البخاري. قال ابن الطلاع: وفي "مصنف ابن السكن": "بوسق شعير ¬

_ (¬1) اختلف في اسمه -أي أبي اللحم- فقيل عبد الله بن عبد الملك، وقيل: الحويرث بن عبد الله بن خلف بن مالك بن غفار وهذا أظهر، وقيل خلف بن عبد الملك، قتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، انظر: توضيح مشتبه النسبة (1/ 145). (¬2) هو عبد الله بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية إمام الحرمين أبو المعالي ابن الشيخ أبي محمد الجويني النيسابوري (419 - 478)، له تصانيف منها "النهاية" ابن قاضي شهبة (1/ 275)، وابن هداية الله (174 - 176). (¬3) الترمذي كتاب البيوع، باب: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل (1214) إلاَّ أنه قال: "بعشرين صاعًا من طعام"، والنسائي في كتاب البيوع، باب: مبايعة أهل الكتاب (7/ 303)، وابن ماجه (2439). (¬4) الاقتراح (466، 467).

أخذ لأهله" (¬1). وفي "المدونة": إنه قضى بذلك ديناً كان عليه. قال: وفي غير البخاري أنه كان لضيف طرقه ثم فداها أبو بكر (¬2). الثالث: هذه الدرع هي: ذات الفضول (¬3)، قاله أبو عبد الله محمد بن أبي بكر التلمساني في كتابه "الجوهرة". الرابع: هذا الحديث ترجم عليه البخاري (¬4) باب: الكفيل في السلم ثم رواه بلفظ: "اشترى طعاماً من يهودي بنسيئة، ورهّنه درعاً له من حديد". ثم ترجم عليه عقب هذا باب: الرهن في السلم (¬5). ثم رواه بلفظ "اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل معلوم، وارتهن منه درعاً من حديد". ¬

_ (¬1) أقضية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن الطلاع القرطبي (117) وفي سنن البيهقي (6/ 36). (¬2) هذا والذي قبله ذكره في المرجع السابق. (¬3) سميت بذلك لطولها وأصلها من سعد بن عبادة أرسل بها إليه - صلى الله عليه وسلم - لما سار إلى بدر ذكر ذلك حماد بن إسحاق في تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - (101)، إنسان العيون (3/ 428)، انظر: زاد المعاد (1/ 130)، 1390هـ، المواهب اللدنية للقسطلاني (1/ 232)، وتاريخ الخميس (2/ 189). (¬4) الفتح (4/ 433)، ح (2251). (¬5) الفتح (4/ 433)، ح (2252).

وترجم عليه في باب. من رهن درعه (¬1) ثم رواه بلفظ "اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعه". ثم ترجم عليه الرهن عند اليهود وغيرهم (¬2)، ثم رواه بلفظ: "اشترى من يهودي، ورهنه درعه". ورواه في الرهن من حديث أنس بلفظ: "رهن درعه بشعير" وترجم عليه الرهن في الحضر (¬3). ورواه في البيوع من حديث عائشة بلفظ: "اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنه درعه" (¬4) وترجم عليه شراء الطعام إلى أجل. ¬

_ (¬1) ح (2509). (¬2) الفتح (5/ 145)، ح (2513). (¬3) الفتح (5/ 145)، ح (2508). (¬4) الفتح (4/ 302)، ح (2068)، والذي في البخاري، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة. (قد ذكرنا هذا الباب ضمن ما فات على الشارح). فات المؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكر ما بوب عليه البخاري في هذا الحديث وقد ذكر بعضها مضمن في الشرح وللفائدة رأيت ذكرها مفردة: 1 - في كتاب البيوع: (أ) باب شراء الإِمام الحوائج بنفسه ح (2096). (ب) باب شراء الطعام إلى أجل ح (2200). 2 - في كتاب الاستقراض: (أ) باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته ح (2386). 3 - كتاب الجهاد والسير: (أ) باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب ح (2916). 4 - في كتاب المغازي: (أ) باب ما قيل في درعه ح (4467).

رواه مسلم بألفاظ. أحدها. اشترى طعاماً من يهودي بنسيئة، فأعطاه درعاً له رهناً" ثانيها: "اشترى من يهودي طعاماً، ورهّنه درعاً من حديد" وهذا ما أورده المصنف. ثالثها: "أشترى من يهودي طعاماً إلى أجل، ورهنه درعاً له من حديد"، وفي رواية إسقاط قوله "من حديد". الخامس: الرهن في اللغة: الثبوت والدوام، ومنه الحالة الراهنة. وقال الماوردي (¬1): هو الاحتباس ومنه "كل نفس بما كسبت رهينة". ورهنته أفصح من أرهنته. وفي الشرع: جعل عين مال وثيقةً بدين، يستوفي منها عند تعذر استيفائه ممن هو عليه، ويطلق أيضاً على نفس العين. السادس: والدرع بكسر الدال مؤنثة. وحكى الجوهري (¬2) وغيره: تأنيثها. وجمعها: أَدْرُعٌ وأَدْرَاعٌ. وجمع الكثرة: دروع وتصغيرها دريع بلا هاء. ¬

_ (¬1) النكت والعيون تفسير الماوردي (6/ 148). (¬2) انظر: مختار الصحاح (91)؛ والمصباح المنير (192).

وأما درع المرأة: فمذكر بالاتفاق وجمعه أدراع: "ودرعت المرأة" لبته ودرعتها إياه. السابع: اختلف هل فك - صلى الله عليه وسلم - هذا الدرع قبل موته أم لا؟ قيل: نعم لحديث "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه" رواه ابن حبان في صحيحه (¬1)، وهو منزه عن ذلك. وقيل: لا, لأن في "صحيح البخاري" في أواخر كتاب المغازي (¬2) من حديث عائشة قالت: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه ¬

_ (¬1) ابن حبان (3061)، والترمذي (1079)، وابن ماجه (2413)، والدارمي (2/ 262)، والطيالسي (2390)، والبيهقي (6/ 76)، والبغوي (2127)، وأحمد (2/ 440، 475، 508)، والحاكم (2/ 26، 27)، وصححه ووافقه الذهبي. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 143)، وفيه دليل على أن المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه"، قيل: هذا محله في غير أنفس الأنبياء فإنها لا تكون معلقة بدين فهي خصوصية وهو حديث صححه ابن حبان وغيره "من لم يترك عند صاحب الدين ما يحصل له به الوفاء" وإليه جنح الماوردي. فائدة: ذكر ابن الطلاع في: "الأقضية النبوية" أن أبا بكر أفتك الدرع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن روى ابن سعد عن جابر أن أبا بكر قضى عدات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن علياً قضى ديونه. وروى إسحاق بن راهوية في مسنده عن الشعبي مرسلاً "أن أبا بكر أفتك الدرع وسلمها لعلي بن أبي طالب. وأما من أجاب بأنه - صلى الله عليه وسلم - أفتكها قبل موته، فمعارض بحديث عائشة -رضي الله عنها-.اهـ. (¬2) الفتح (8/ 151)، ح (4467)، وانظر: التعليق السابق.

مرهونة عند يهودي بثلاثين يعني صاعًا من شعير". ورواه في أثناء الجهاد (¬1) في باب ما قيل: في درعه - صلى الله عليه وسلم - باللفظ المذكور، وقال: "عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير" وفي "مسند أحمد" (¬2) من حديث أنس "ما وجد ما يفتكها حتى مات". قال الماوردي: وهو الأصح، والحديث محمول على من لم يخلف وفاء. الثامن: اختلف في عدوله -عليه الصلاة والسلام- عن معاملة مياسير الصحابة كعثمان، وابن عوف، إلى اليهودي على أقوال. أحدها: أنه لبيان الجواز. ثانيها: لأنه لم يكن عند أحدهم طعام فاضل عن حاجته لغيرهم. ثالثها: كراهة أن يرده منه بغير رضاه، وأيضاً فإنهم لا يأخذون رهنه (¬3). التاسع: في أحكامه: الأول: جواز الرهن في الحضر، وقد وقع التصريح به في بعض روايات الحديث واتفق العلماء على جوازه في السفر عند عدم الكاتب. وخصه مجاهد وداود بهذه الصورة لظاهر الآية. ¬

_ (¬1) الفتح (6/ 99)، ح (2916). (¬2) المسند (3/ 238)، والبيهقي (6/ 36، 37)، ومسند أبي يعلى (3061). (¬3) انظر: الفتح (5/ 141).

وقالا: لا يجوز الرهن إلاَّ فيها. وجوزه الباقون حضراً وسفراً، وقالوا: الآية خرج الكلام فيها الأغلب، لا على سبيل الشرط (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح (5/ 140). وقوله: "في الحضر إشارة إلى أن التقييد بالسفر في الآية خرج للغالب فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر كما ذكره وهو قول الجمهور، واحتجوا له من حيث المعنى بأن الرهن شرع توثقة على الدين لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، فإنه يشير إلى أن المراد بالرهن الاستيثاق، وإنما قيده بالسفر لأنه مظنة فقد الكاتب، فأخرجه مخرج الغالب، وخالف في ذلك مجاهد والضحاك فيما نقله الطبري عنهما، فقالا: لا يشرع إلاَّ في السفر، حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود وأهل الظاهر، وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرع به الراهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك. وقد أشار البخاري إلى ما ورد في بعض طرقه كعادته، وقد تقدم الحديث في "باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة" في أوائل البيوع من هذا الوجه بلفظ: "ولقد رهن درعاً له بالمدينة عند اليهودي" وعرف بذلك الرد على من اعترض بأنه ليس في الآية والحديث تعرض للرهن في الحضر. وقال الشنقيطي -رحمنا الله وإياه- في أضواء البيان (1/ 228). تنبيه: أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية. أن الرهن لا يكون مشروعاً إلاَّ في السفر كما قاله مجاهد والضحاك وداود والتحقيق جوازه في الحضر. وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي =

الثاني: جواز معاملات الكفار، وعدم اعتبار الفساد في معاملتهم، والإِجماع قائم على جواز معاملتهم، إذا لم يتحقق تحريم ما معهم إلاَّ ما استثتى من بيع المسلم منهم السلاح والمصحف والعبد المسلم ونحو ذلك. ومنع ابن حبيب المالكي: بيع الحرير والكتان والبسط من أهل الحرب, لأنهم يتجملون به في حروبهم وأعيادهم وبيع الطعام أيضاً، لعلهم أن يضعفوا ورهن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدرع عند اليهودي, لأنه لم يكن من أهل حرب والأمر ههنا ممن يخشى منه التقوى بها كبيعها. الثالث: جواز رهن السلاح عند الذمي، كما قررنا ومثله المعاهد. الرابع: ثبوت أملاك أهل الذمة على ما في أيديهم. الخامس: جواز الشراء بالثمن المؤجل المؤخر قبضه, لأن الرهن إنما يحتاج إليه حيث يكون الثمن مؤجلاً أو حيث لا يتأتي ¬

_ = بثلاثين صاعًا من شعير. وفي الصحيحين أنها درع من حديد. وروى البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - رهن درعاً عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيراً لأهله. ولأحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس مثل حديث عائشة فدل الحديث الصحيح على أن قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه جرى على الأمر الغالب، إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر، وإنما يتعذر غالباً في السفر، والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كما ذكرناه في هذا الكتاب مراراً، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

إقباضه في الحال غالباً، وعليه ترجم البخاري (¬1) فقال باب: من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه، أو ليس بحضرته. ثم ذكره بلفظ: "اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد". السادس: اتخاذ الدرع والعدد للأعداء والتحصن منهم، وأنه غير قادح في التوكل، وإليه الإِشارة بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬2). السابع: فيه أيضاً ما كان - صلى الله عليه وسلم - من الفقر والحاجة والتقلل من الدنيا والزهد فيها مع تمكنه منها وعرضها عليه وإعراضه عنها (¬3). ¬

_ (¬1) الفتح (5/ 53)، ح (2386). (¬2) سورة الأنفال: آية 60. (¬3) ومنه حديث عمر أنه دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على سرير مرمول بشريط، وإذا أهب مطروحة في ناحية البيت، فبكى عمر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يبكيك يا عمر؟ " قال: يا رسول الله ذكرت كسرى وقيصر، وما هما فيه من أمر الدنيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا عمر! لو شئت أن تسير الجبال الراسيات ذهباً وفضة لسارت". أخرجه ابن سعد (1/ 466)، ووكيع في الزهد (1/ 338). وقد ورد بسنداً آخر عن الحسن عن أنس في المسند (3/ 139)، والبيهقي في الدلائل (1/ 291) وغيرهم. وجاء من رواية ابن عباس بلفظ "نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد فقال: "ما يسرني أنه ذهب لآل محمد أُنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وعندي منه ديناران". أخرجه أحمد (1/ 300)، وأبو يعلى (5/ 84)، ح (2684)، ومن رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- "ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً" رواه البخاري (6445)، ومسلم (991).

الثامن: فيه أيضاً جواز الاستيثاق بالرهن والكفالة في الدين والسلم، وذلك لعموم قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ...} الآية ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث بباب الكفيل (¬1). والرهن (¬2) في السلم وقد منع الرهن في السلم كما أسلفناه عنه، وما ذكرناه من المنع عن زفر والأوزاعي هو ما نقله القرطبي (¬3) عنهما. وأما القاضي (¬4) عياض. فإنه حكى الكراهة عنهما فقط، وحكاها عن أحمد أيضاً قال: ومذهب مالك وكافة السلف الجواز فيهما. ... ¬

_ (¬1) انظر: ت (4)، ص 356. (¬2) انظر: ت (5)، ص 356. (¬3) المفهم (4/ 518). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 296).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 299/ 2/ 58 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيء فَلْيَتْبَع" (¬1). الكلام عليه من وجوه: [الثاني] (¬2): هذا الحديث أخرجه البخاري هنا بلفظين. أحدهما: هذا وترجم عليه باب: الحوالة، وهل يرجع [في الحوالة] (¬3). الثاني: "مطل الغني ظلم، ومن اتبع على مليء فليتبع"، ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (287)، ومسلم (1564)، وأبو داود (3345) في البيوع، باب: المطل. النسائي (7/ 317)، والبغوي (2152)، وأحمد (2/ 379 - 465)، والبيهقي (6/ 70)، وعبد الرزاق (15355)، وابن أبي شيبة (7/ 79)، والترمذي (1308)، وابن ماجه (2403)، وابن الجارود (560)، ومالك (2/ 644). (¬2) هذا غلط من الناسخ لان المخطوط قد طمس الأول فيكون هو الأول. (¬3) الفتح (4/ 464)، ح (2287). وفي المخطوط (فيها)، وما أثبت من الفتح.

وترجم عليه إذا أحال على مليء فليس له رد (¬1)، وذكره في أداء الديون بلفظ: "مطل الغني ظلم" فقط. وأخرجه مسلم (¬2) بلفظ المصنف، إلا أنه قال "وإذا" بدل "فإذا". ورواه الإِمام أحمد (¬3) في "مسنده". "وإذا أُحيل أحدكم على مليء فليحتل". الثالث: "المطل" مصدر مطله يمطله، بضم الطاء، مطلاً وماطله مماطلة، فهو ماطل، وهو مشتق من مطلت الحديد إذا ضربتها ومددتها لتطول، وكل ممدود ممطول، فأصله إذن لغة: المد، فمعنى مطله بحقه مد له في الأصل زيادة على ما اتفقا عليه. وعبارة بعضهم: المطل: المدافعة. وعبارة الأزهري. المطل (¬4): إطالة المدافعة. وهو في الشرع كما قال القاضي (¬5) عياض وغيره: منع قضاء ما استحق أداؤه. والغني عند الفقهاء: من لا تحل له الزكاة. ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 466) ,ح (2288) (¬2) انظر: ت (1)، ص 365. (¬3) انظر: ت (1)، ص 365. (¬4) في الزاهر (312)؛ وتهذيب اللغة (13/ 361)، (2/ 282)، (5/ 246)، والمغني في الأنباء عن غريب المهذب والأسماء (1/ 323). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 245).

واختلفوا فيه على أقوال: محل الخوض فيها كتب الخلافيات. والغنى الحقيقي: هو غنى النفس لا كثرة العرض، كما قاله -عليه أفضل الصلاة والسلام- (¬1). الرابع: "الظلم" وضع الشيء في غير موضعه وهو مجاوزة الحد. وقيل: التصرف في غير ملك، وكل منهما مستحيل في حق الله تعالى. الخامس: "المليء" بالهمز، الغنى الكبير. قاله: القلعي (¬2) في "المستغرب"، والأزهري (¬3) قال: إنه الغني ويؤيده أن في رواية سليم (¬4) .................................... ¬

_ (¬1) حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس". أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051)، والترمذي (2373)، والحميدي (1063)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1207، 1210)، وأحمد (2/ 243، 443، 539، 540)، والبغوي (4040). (¬2) هو محمد بن علي بن أبي علي القلعي اليمني توفي سنة (630) فقيه كثير التصانيف منها: "احترازات المهذب"، و"إيضاح النبراس في علم الفرائض"، و"اللفظ المستغرب في شواهد المهذب"، الأسنوي (2/ 324)، وابن قاضي شهبة (2/ 49). (¬3) في الزاهر (231)، وتهذيب اللغة (2/ 282)، (5/ 246). (¬4) هو سليم بن أيوب بن سليم، توفي غرقاً في بحر القلزم عند ساحل جدة بعد الحج في صفر سنة سبع وأربعين وأربعمائة وقد نيف على الثمانين، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 68)؛ وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 225).

والبندنيجي (¬1) من كبار فقهاء الشافعية: "غنى" بدل "مليء"، وكذا عنى به صاحب "المستغرب على المهذب" أنه الغني. قال: وأصله الواسع الطويل (¬2). الثامن: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع"، هو بإسكان التاء المثناة فوق فيهما، أعني -في "أُتْبِعَ"، وفي "فَلْيَتْبَعْ". وهذا هو الصواب المشهور في الروايات، والمعروف في اللغة والغريب. ونقل القاضي (¬3): عن بعض المحدثين في الكلمة الثانية أنه بتشديدها, وليس بصواب. قال الخطابي (¬4): الصواب الأول. وأصحاب الحديث يروونه ¬

_ (¬1) هو محمد بن هبة الله بن ثابت، الإِمام أبو نصر البندنيجي نزيل مكة توفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة بمكة وقد نيف على الثمانين. طبقات الشافعية للسبكي (3/ 85)، وابن قاضي شهبة (1/ 282). (¬2) انظر: النظم المستعذب (1/ 276). (¬3) في المشارق (1/ 118)، قال: "وفي الحديث وإذا أَتبع أحدكم على ملىء فليتبع"، كذا الرواية ساكنة التاء في الكلمة الأولى معدى على وزن فعل ما لم يسم فاعله، وفي الثانية بتشديد التاء كذا هي عامة رواية شيوخنا في هذه الأصول، وكذا قيده الأصيلي وأبو ذر وغيرهما ورواه بعضهم "فليتبع" بسكون التاء وكسر الباء بعدها وهو وجه الكلام وكذا قيده الجياني بخطه عن أبي مروان بن سراج في بعض أصوله. (¬4) انظر: معالم السنن (5/ 17)، إصلاح غلط المحدثين (54) غريب الحديث للخطابي (1/ 87)، مشارق الأنوار (1/ 119)، نقلاً عنه.

بالتشديد، وهو غلط. والمعنى: إذا أحيل أحدكم بالدين الذي له على موسر، يقال فيه: تبعت الرجل بحقي، أُتبعه تِباعة: فأنا له تبيع إذا طلبته. قال تعالى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} (¬1). وكذا حكى القرطبي في "مفهمه" (¬2) الخلاف في تشديد التاء وتخفيفها في الثانية فقط، فإنه قال: "أُتبع" -بضم الهمزة وتخفيف التاء وكسر الباء- على ما لم يسم فاعله عند الجميع. فأما "فليتَّبع" فبعضهم قيده بتشديد التاء، وكذا قيَّدته على من يوثق به. وقد روي بتخفيفها وهو الأجود، لأن العرب تقول: تبعتُ الرَّجل بحقَّي، ثم ذكر ما أسلفناه. واقتصر الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬3): على التخفيف فيهما, ولم يحك سواه، وقال: إنه مأخوذ من قولنا: أتبعت فلاناً إذا جعلته تابعاً للغير، والمراد هنا: تبعته في طلب الحق بالحوالة. وحكى الروياني (¬4) من كبار الشافعية أنه قيل: -بالتشديد- في الأولى أيضاً، فقال في كتاب "البحر": من أصحابنا أصحاب الحديث يقولون: اتّبع -بالتشديد- وهو غلط، وصوابه: بألف مضمومة وتاء مخففة. وحكى الوجهين الفاكهي من غير عزو ولا حد، فقال الصواب: ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: آية 69. (¬2) (4/ 439). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 118). (¬4) سبقت له ترجمة.

في التأين السكون، وبعض المحدثين والرواة يقولونه بتشديدهما، يقال: تبعت فلاناً بحقي، فأنا أتبعه ساكنة التاء والراء، يقال: ولا يقال اتبعه بتشديدها إلا من المشي خلفه، واتباع أثره في أمر. السادس: ادعى الرافعي (¬1) -رحمه الله وإيانا- في "شرحه للوجيز"، أن الأشهر في الرواية: "وإذا أحيل" بالواو دون "الفاء" ثم قال: فعلى التقدير الأول هو مع قوله: "مطل الغني ظلم"، جملتان لا تعلق للثانية بالأولى، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "العارية مردودة والزعيم غارم". وعلى الثاني: يجوز أن يكون المعنى في الترتيب أنه إذا كان المطل ظلماً من الغني، فليقبل من يحتل بدينه عليه، فإن الظاهر أنه يحترز عن الظلم ولا يمطل. قال الشيخ نجم الدين ابن الرفعة (¬2) في "مطلبه": وهذا إذا كان الوصف بالغنى يعود إلى من عليه الدين، وقد قيل: إنه يعود إلى من له الدين، وعلى هذا لا يحتاج أن يذكر في التقدير من الغني. السابع: "اتبع" يتعدى بنفسه، وعدى هنا "بعلى" تضميناً له معنى أحيل. الثامن: هذا الأمر في قوله: "فليتبع"، وفي قوله: "فليحتل" في رواية الإِمام أحمد للاستحباب وعند الشافعية والجمهور (¬3). ¬

_ (¬1) سبقت له ترجمة. (¬2) سبقت له ترجمة. (¬3) لأنه الأمر عندهم أمر رشاد ليس بواجب فرضاً.

وقال الماوردي: هو للإِباحة لوروده بعد الحظر، وهو نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن بيع الدين بالدين، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬1). وهذا حمل منه، ويحتاج إلى التاريخ في ذلك، وأنه وارد بعده، ولم أر ذلك. وقال أبو ثور (¬2) وابن جرير وداود: إنه للوجوب لظاهر الخبر. وادعى الجوري (¬3) -بضم الجيم- من أصحابنا الإِجماع على الأول لما فيه من الإِحسان إلى المحيل بتحويل الحق عنه، وبترك تكليفه التحصيل بلا طلب. التاسع: في الحديث إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة على ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 2. (¬2) أبو ثور هو إبراهيم بن خالد المتوفي سنة (240). ومذهبه: أنه يجب على من أحيل بحقه على ملىء أن يحتال، وحجته في هذا: ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مطل الغني ظلم، وإذا أُحلت على مليء فأتبعه"، فقوله -عليه السلام-: "فأتبعه"، "فليتبع" أمر، والأمر يفيد الوجوب، ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا عن الوجوب. اهـ. وهو ظاهر مذهب الإِمام أحمد، وداود. انظر: المغني (4/ 576)، وبداية المجتهد (2/ 384)، والعدة (4/ 118)، ونيل الأوطار (6/ 404)، وفقه الإِمام أبي ثور (623)، والاستذكار (20/ 271). (¬3) هو علي بن الحسين القاضي أبو الحسين الجوري مدينة بفارس قال ابن الصلاح: كان من أجلاء الشافعية، انظر: ابن قاضي شهبة (1/ 129)، طبقات الشافعية للأسنوي (122).

المليء معلل بكون مطل الغني ظلماً (¬1). قال الشيخ تقي الدين (¬2): ولعل السبب فيه أنه إذا [تبين] (¬3) كونه ظلماً -والظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه- فيكون ذلك سبباً للأمر بقبول الحوالة عليه، لحصول المقصود من غير [مطل] (¬4). ويحتمل أن يكون ذلك، لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع، بل يأخذه الحاكم قهراً (¬5) ويوفيه. ففي قبول ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 119). قوله: "معلل يكون مطل الغنى ظلماً"، أقول: إنما قال إشعار لأنه كالتوطئة والعلة لقبول الحوالة أي إذا كان المطل ظلماً فليقبل ويحتال بدينه عليه، فإن المؤمن من شأنه أنا يحترز عن الظلم فلا يمطل، ومناسبة الجملة لما قبلها أنه لما دل على أن مطل الغنى ظلم عقبه بأن ينبغي أو يجب قبول الحوالة على المليء، لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفه عن الظلم، وهذا على رواية "فإذا أتبع" بالفاء، وزعم الرافعي أن الأشهر في الروايات الواو وأنهما جملتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى، وهو بالفاء في جميع روايات البخاري. اهـ. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 19). (¬3) في المرجع السابق: تعين. (¬4) في المرجع السابق: ضرر المطل. (¬5) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 119). قوله: "بل يأخذه الحاكم قهراً": استدل باشتراط أن يكون المحال عليه مليئاً أنها إذا صحت الحوالة ثم تعذر القبض بحدوث حادث أو أفلس لم يكن للمحتال رجوع على المحيل "لأنه لو كان له الرجوع لم يكن لاشتراط الغنى فائدة، فلما شرط علم أنه انتقل انتقالاً لا رجوع له كما =

الحوالة تحصيل الغرض من غير مفسدة تأخير الحق، قال: والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل يكون المطل ظلماً. وعلى هذا المعنى الثاني تكون العلة عدم تأخير الحق لا الظلم. العاشر: في أحكامه: الأول: تحريم المطل بالحق ولا خلاف فيه مع القدرة بعد الطلب، واختلف أصحابنا في وجوب الأداء مع القدرة من غير طلب صاحب الحق على وجهين حكاهما الشيخ تقي الدين (¬1). وقال الروياني في "البحر" في آخر كتاب الغصب: يحتمل أن يقال إن كان وجوبه برضى المالك فهو على التراخي، ويتعين بالمطالبة وبالخوف على ضياع المال، وإن كان بغير رضاه فهو على الفور، وإلا فإن وجب بتعدٍ كان على الفور، وإلا كان على التراخي. وقال إمام الحرمين في كتاب القاضي إلى القاضي: قد يقول الفقيه من عليه دين حال يلزمه أداؤه، وإن لم يطلبه صاحبه وإنما سقط وجوبه برضى المستحق بتأخيره. وقال في الزكاة: من عليه دين وهو غير ممتنع من أدائه ومستحقه غير مطالب به لا يتعين أداؤه إلا بمطالبته. قلت: ويؤيده هذا الحديث، فإنه -عليه الصلاة والسلام- ¬

_ = لو عوض عن دينه بعوض ثم تلف العوض في يد صاحب الدين لم يكن له الرجوع. اهـ. (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 118).

أناط الظلم بالمطل والغنى, ولا يتبين الظلم مع الفقر، فلا يثبت مع عدم المطل، والمطل إنما يكون مع الطلب. وكذا قال الشيخ تقي الدين: أنه لا ينبغي أن يؤخذ الوجوب من هذا الحديث, لأن لفظة: "المطل" تشعر بتقديم الطلب. قلت: ولا يخفى جواز التأخير بعذر كغيبة مال ونحوها, ولا يطلق عليه مطل محرم. والحالة هذه. الثاني: عدم تحريم المطل من غير الغنى كما أفهمه، الحديث وهو ظاهر, لأنه معذور، ولا يحل له حبسه، ولا ملازمته ولا مطالبته في الحال، بل يمهل حتى يوسر، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). الثالث: يدخل في مطل الغني كل من عليه حق، وكذا هو قادر على القيام به كالزوجين فيما يتعلق بكل منهما من الحق الذي عليه، وكذا الأصول والفروع والسادة والمماليك والحاكم والناظر وغير ذلك. الرابع: فيه جواز الحوالة (¬2)، وهو إجماع، والأصح عند ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 284. (¬2) الحوالة: -بفتح الحاء-، مشتقة من التحول، بمعنى الانتقال، يقال: تحول من المنزل، إذا تحول عنه وانتقل منه. وشرعاً: "هي تحول الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحتال عليه على سبيل التوثق به". وعرفها بعضهم: بأنها عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة. =

الشافعية أنها بيع دين بدين، واستثنى للحاجة إليها, ولها شروط (¬1) محل الخوض فيها كتب الفروع. الخامس: فيه أيضاً ستحباب قبولها إذا أحيل على مليء، وهو قول الجمهور كما سلف (¬2). السادس: فيه أيضاً ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب وتعاطي ما يقضي لاجتماعها. السابع: استنبط منه القاضي عياض، ثم القرطبي (¬3) أنه لا تجوز الحوالة إلا من دين حال, لأن المطل والظلم إنما صح فيما حل لا فيما لم يحل. ¬

_ = وأركانها: محيل، محال، محال عليه، محال به. فمثلاً: يقول: أحلت زيداً بما كان له عليّ وهو مائة على عمرو. فالمحيل الذي عليه الدين، محتال له وهو زيد، والمال، محتال به. وعمرو ومحتال عليه وهو الذي قبل الحوالة. (¬1) انظر: الاستذكار (22/ 272). (¬2) مذهب الشافعي يستحب له القبول. وقيل الأمر فيه للوجوب كما هي رواية عن أحمد والرواية الأخرى الندب والجمهور على أنه ندب لأنه من باب التيسير على المعسر. وقيل: مباح. وقد سأل ابن وهب مالكاً عنها فقال: هذا أمر ترغيب وليس بإلزام ويبتغي أن يطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرط أن يكون بدين، وإلاَّ فلا حوالة لاستحالة حقيقتها إذ ذاك وإنما تكون حمالة. (¬3) المفهم (4/ 440).

الثامن: استنبط القاضي إسقاط شهادته لتسميته ظالماً (¬1)، وهو ما ذهب إليه سحنون (¬2) وغيره. واعتبر غيره في إسقاطها أن يصير المطل له عادة. ويقتضي مذهبنا اشتراط التكرار كما قاله النووي في "شرح مسلم" (¬3)، وكأن من لم يشترط التكرار رآه كبيرة لأجل ظلمه بذلك. التاسع: استنبط منه بعضهم أن المعسر لا يحل حبسه (¬4) ¬

_ (¬1) اختلف العلماء هل يعد فعله كبيرة أم لا؟. الجمهور: فاعله يفسق لكن هل يثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم لا؟ (¬2) انظر: الاستذكار (20/ 270). (¬3) شرح مسلم (10/ 227)، قال النووي مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار. قال ابن حجر في الفتح (4/ 466)، ورده السبكي في "شرح المنهاج" بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه وابتغاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة، وتسميته ظلماً يشعر بكونه كبيرة والكبيرة لا يشترط فيها التكرار، نعم لا يحكم عليه بذلك إلاَّ بعد أن يظهر عدم عذره. اهـ. (¬4) كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبسون إلاَّ أنه لم يكن لهم حبس معين وكانوا ربما حبسوا في المسجد أو في الدهليز كما يتفق فلما آل الأمر إلى علي -رضي الله عنه- أتخذ حبساً وسماه نافعاً فلم يكن حصيناً وفر منه من كان فيه فاتخذ آخر وسماه مخيساً وله في ذلك الشعر: بنيت بعد نافع مخيساً ... باباً شديداً وأميراً كيساً ألا تراتي كيساً مكيساً وفي بعض الروايات: ألا تراني كيساً مكيساً بنيت بعد نافع مخيساً باباً حصيناً وأميراً كيساً =

وملازمته، ولا مطالبته حتى يوسر، كما أسلفته، وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور. قال الشافعي: لم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مطل المديون ظلماً إلا بالغنى، فلو كان يؤاخذ لكان ظالماً بترك المؤاخذة. وحكى عن شريح حبسه حتى يقضي الدين، وإن كان قد ثبت إعساره (¬1). ¬

_ = ونافع ومخيس اسمان للسجن الذي بناه بالبصرة، وقد كانوا يسمون مواضعهم وعقاراتهم أسماء، وروى أن عمر له سجن يسمى ثمغاً. (¬1) عن طلق بن معاوية قال: كان لي على رجل ثلاثمائة درهم فخاصمته إلى شريح فقال الرجل: إنهم قد وعدوني أن يحسنوا إلي. فقال شريح: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، قال وأمر بحبسه، وما طلبت إليه أن يحبسه حتى صالحني على مائة وخمسين درهماً. أراد شريح بالأمانة ها هنا الدين، وهو القول الرابع في الآية ... وأيضاً شريح حبسه من غير طلب الطالب، ولي هذا مذهبنا بل لا يحبسه ما لم يطلب المدعي من القاضي حبسه، لأن الحبس حق المدعي فيجب متى طلب. وللقضاة في ذلك مذاهب مختلفة: منهم من يرى حبسه ابتداء من غير طلب, لأن ذلك يوصل إلى إيصال الحق إلى مستحقه. قال طلق بن معاوية: حتى صالحني على مائة وخمسين، وذلك لأنهم وعدوا المدعى عليه أن يحسنوا إليه على ما زعم فحط عنه شطر المال وشطر المال إحسان إلخ. انظر: شرح أدب القاضي للخصاف -رحمنا الله وإياه- (217).

وعن أبي حنيفة (¬1) ملازمته. وأبعد من قال ببيعه في دينه، وحكاه ابن حزم الظاهري عن الشافعي، فقال في "محلاه" (¬2) في كلامه على بيع الحر أن زرارة ابن أوفى، قاضي البصرة، من التابعين، باع حراً في دين، ثم قال: ¬

_ (¬1) قال في المرجع السابق (218): هل لرب الدين الطالب أن يلازمه أم يمنعه القاضي من ملازمته؟ قال عامة العلماء: له أن يلازمه. وقال إسماعيل ابن حماد بن أبي حنيفة -رضي الله عنهم-: ليس له ذلك واحتج: بحديث علي -رضي الله عنه- إن لزمته كنت له ظالماً فلو كانت له ولاية الملازمة لم يكن ظالماً بذلك، ولأن التأجيل إلى الميسرة ثابت شرعاً، فصار كما لو ثبت شرطاً، وهناك يمنع ولاية الملازمة، كما امتنع ولاية الحبس كذلك في الأجل الثابت شرعاً. وعامة العلماء: احتجوا بحديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه لازم غريماً له عند سارية ولم ينكر عليه, وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لصاحب الحق اليد واللسان" أراد "باليد" الملازمة و"باللسان" التقاضي. واحتجوا: بقول علي -رضي الله عنه- "ولا أحول بينك وبينه" وقوله: "كنت ظالماً" لم يرد به الظلم الشرعي، وإنما أراد به الظلم العادي العرفي، أي لم يحسن المعاملة معه. وأما المسألة الثانية: فإذا كان معسراً ولازمه الطالب هل يأثم الطالب بالملازمة؟ قال بعضهم: يأثم احتجاجاً بحديث علي -رضي الله عنه- فإنه قال: "كنت له ظالماً ولا أحول بينك وبينه" دل على أنه يأثم بملازمته لكن القاضي لا يحول بينه وبينه. وقال بعضهم: لا يأثم لأن ذلك توسل إلى وصوله إلى حق نفسه. وقوله: "كنت له ظالماً" قد ذكرنا تأويله، والله أعلم. اهـ. (¬2) المحلى (9/ 17).

وقد روينا هذا القول عن الشافعي، وهي قول غريبة لا يعرفها من أصحابه إلا من تبحر في الحديث والآثار، وقال: هذا قضاء عمر وعلي بحضرة [الصحابة رضوان الله عليهم] (¬1)، ولا يعترضهم في ذلك منهم معترض. قال: وقديماً أثر بأن الحر كان يباع في الدين في صدر الإِسلام إلى أن أنزل الله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬2). العاشر: استنبط أصحابنا منه أن الحوالة إذا صحت وتعذر الأخذ بفلس، وجحد وحلف ونحوهما: كموت البينة، وامتناعه لا يرجع على المحيل. وجه الدلالة: أنه لو كان له الرجوع لما كان لاشتراط الملاءة. فائدة, لأنه إن لم يصل إلى حقه رجع به، فلما شرطها علم أنه انتقل انتقالاً لا رجوع به فاشترطت الملاءة حراسة لحقه. وخالف أبو حنيفة فقال: يرجع عليه عند التعذر (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من المحلى. (¬2) سورة البقرة: آية 285. (¬3) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (22/ 273، 275). قال أبو عمر: عند مالك في باب الحوالة حديث مسند، رواه عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء، فليتبع". وهذا الحديث في رواية يحيى عن مالك في "الموطأ" في باب جامع الدين والحول من كتاب البيوع, وهو عند جماعة من رواة "الموطأ" ها هنا. والحوالة عند مالك، وأكثر العلماء خلاف الحمالة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والذي عليه مالك وأصحابه في الحوالة ما ذكره في "الموطأ" إلاَّ أنه لم يذكر: "إذا غرَّه من فلس، علمه فإنه يرجع عليه كالحمالة"، وكذلك لو أحاله على من لا دين عليه، فهي حمالة يرجع بها إن لحقه توّا. وقد ذكر هذا من الوجهين ابن القاسم وغيره عن مالك، قالوا عن مالك: إذا حال غريمه عن غريم له، فقد برىء المحيل، ولا يرجع عليه المحال بإفلاس، ولا موت إلاَّ أن يغره من فلس علمه من غريمه الذي أحال عليه، فإن كان ذلك رجع عليه، وإن لم يغره من فلس علمه إذا كان له دين، وإن غرَّه، أو لم يكن عليه شيء، فإنه يرجع عليه إذا أحاله، قال: وهذه حمالة. وقال الشافعي: يرجع المحيل بالحوالة، ولا يرجع عليه بموت، ولا إفلاس. وهو قول أحمد، وأبي عبيد، وأبي ثور أنه لا يرجع على المحيل بموت، ولا إفلاس، وسواء غرَّه، أو لم يغرَّه من فلس عند الشافعي، وغيره. وقال أبو حنيفة، وأصحابه يبدأ المحيل بالحوالة، ولا يرجع عليه إلاَّ بعد التَّوي. التوي التلف والهلاك، والمراد: تعذر تحصيل الدين بسبب لا دخل للمحال فيه كإفلاس المحال عليه مثلاً. والتَّوي عند أبي حنيفة أن يموت المحال عليه مفلساً، أو يحلف ما له شيء، ولم تكن للمحيل بيَّنة. وقال أبو يوسف، ومحمد: هذا توي، وإفلاس المحال عليه توي أيضاً. وقال شريح، والشعبي، والنخعي: إذا أفلس، أو مات رجع على المحيل. وقال عثمان البتيُّ: الحوالة لا تبرىء المحيل إلاَّ أن يشترط براءته، فإن =

الحادي عشر: فيه دلالة لمسألة أصولية، وهي أن تعليق الحكم بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة. ووجهه أن المتبادر إلى الفهم عرفاً ولغة من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مطل الغني عندهم ظلم"، أن مطل الفقير ليس بظلم، وهذا مذهب الشافعي والأشعري. اللهم إلا أن يظهر أن للتخصيص بتلك الصفة، فائدة أخرى، فلا تدل على ¬

_ = شرط البراءة بيد المحيل إذا أحاله على مليء، وإن أحاله على مفلس، ولم يقل إنه مفلس فإنه يرجع عليه، وإن أبرأه، وإن أعلمه أنه مفلس وأبرأه لم يرجع على المحيل. وروى ابن المبارك، عن الثوري إذا أحاله على رجل فأفلس، فليس له أن يرجع على الآخر إلاَّ بمحضرهما، وإن مات وله ورثة، ولم يترك شيئاً رجع حضروا، أو لم يحضروا. وروى المعافي، عن الثوري: إذا كفل لمدين رجل بمال وأبرأه برىء، ولا يرجع إلاَّ أن يفلس الكبير أو يموت، فيرجع على صاحبه حينئذٍ. وقال الليث في الحوالة: لا يرجع إذا أفلس المحال عليه. وقال زفر، والقاسم بن معن في الحوالة: له أن يأخذ كل واحد منهما بمنزلة الكفالة. وقال ابن أبي ليلى: يبرأ صاحب الأصل بالحوالة. قال أبو عمر: هذا اختلافهم في الحوالة، وأما الكفالة والحمالة، وهما لفظتان معناهما الضمان، فاختلاف العلماء في الضمان على ما أورده بحول الله لا شريك له. اهـ. انظر: الأم (3/ 228)، وفقه الإِمام أبي ثور (624).

نفيه، وخالف أبو حنيفة وابن سريج (¬1) والغزالي (¬2) وغيرهم، فقالوا: إنه ليس بحجة. واختاره الآمدي (¬3)، والإِمام (¬4) في "محصوله" (¬5) و"منتخبه", وقال في "معالمه": إنه يدل عرفًا لا لغة. ¬

_ (¬1) ابن سريج هو أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج توفي سنة (306)، من أعلام الشافعية، انظر: طبقات الأسنوي (2/ 20، 21)، وابن هداية (41). (¬2) محمَّد بن محمد بن أحمد أبو حامد الغزالي ولد بطرس سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة. انظر: طبقات الشافعية للسبكي (4/ 110)، طبقات الشافعية ابن قاضي شهبة. (¬3) هو علي بن أبي علي بن محمَّد بن سالم الثعلبي، سيف الدين الآمدي. ولد بآمد بعد الخمسين وخمسمائة بيسير. وتوفي في صفر سنة إحدى وثلاثين وستمائة. طبقات الشافعية للسبكي (5/ 129)، وابن قاضي شهبة (2/ 79). (¬4) هو محمَّد بن عمر بن الحسين فخر الدين الرازي ولد في رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي بهراة يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة. انظر: النجوم الزاهرة (6/ 197)، وفيات الأعيان (3/ 381)، وابن قاضي شهبة (2/ 65). (¬5) المحصول في علم الأصول للرازي. انظر: الجزء الأول القسم الثاني (228، 245).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 300/ 3/ 58 - وعنه قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم -أو قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول-: (مَنْ أدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدِ رَجُلٍ أوْ إنْسانٍ قَدْ أفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِه مِنْ غَيْرِهِ) (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث أخرجه البخاري كذلك إلاَّ أنه قال: بدل "سمعت النبي"، "سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، وترجم عليه باب (¬2): إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به. وأخرجه مسلم كذلك، وقال: "سمعت النبي -صلي الله عليه وسلم -" بعد قوله: "عند رجل قد أفلس". ¬

_ (¬1) البخاري (2404)، وسلم (1559)، وأبو داود في البيوع، باب: في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده (3519، 3520، 3522)، ورواه برقم (3521) مرسلًا. الترمذي (1262)، والنسائي (7/ 311)، والبيهقي (6/ 45، 47)، ومالك (1345)، وابن ماجه (2358، 2359)، معرفة السنن والآثار (8/ 11810). (¬2) الفتح (5/ 62)، ح (2402).

وفي رواية له: "أيما امرئ فُلِّسَ". وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "في الرجل الذي يُعَدِمُ إذا وُجدَ عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه". وفي رواية له: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفلس الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به". وفي رواية له: "فهو أحق به من الغرماء". وفي رواية له: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أفلس الرجلُ فوجد الرجلُ عنده سلعته بعينها فهو أحق بها". الوجه الثانى: هذا التردد في قوله: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من الراوي عن أبي هريرة/ وهو أبو بكر بن عبد الرحمن الحارث بن هشام (¬1) وقد قال: مرة أخرى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قدمناه عن رواية مسلم. ورواية عراك بن مالك عن أبي هريرة بلفظ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال" كما أسلفنا عن رواية مسلم أيضًا. ورواه بشير بن نهيك عن أبي هريرة بلفظ: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" كما أسلفناه أيضًا، وقد قدمت لك أن رواية مسلم الأولى كرواية ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 63)، على قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو شك من أحد رواته وأظنه من زهير، فإني لم أر في رواية أحد ممن رواه عن يحيى مع كثرتهم فيه التصريح بالسماع، وهذا معشر بأنه كان لا يرى الرواية بالمعنى أصلًا. اهـ.

المصنف: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، أو "قال: سمعت النبي"، وأن رواية البخاري "قال رسول الله"، أو قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ويتعلق برواية مسلم المسألة السالفة في الكلام على حديث: "إنما الأعمال بالنيات" من كتاب الطهارة (¬1) أنه هل يجوز تغيير قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قال الرسول أو عكسه؟ وقد ذكرت هناك ما فيها من الخلاف وهو الوجه الرابع عشر من الكلام على ذلك الحديث فلما وقع الخلاف في ذلك ساغ للراوي التحري في أي اللفظين سمع ليرويه به وقد أسلفت هناك في الوجه الثالث عشر عن الخطيب البغدادي أن أرفع العبارات "سمعت" ثم "حدثنا وحدثني" فلما اختلفت رتبتهما تحرّي الراوي هل قال: قال، أو سمعت؟ الثالث: قوله: "عند رجل" أو "إنسان" الظاهر أنه شك من الراوي أيضًا. الرابع: معنى "أفلس" (¬2): صار مفلسًا، أي: صارت دراهمه ¬

_ (¬1) (1/ 168). (¬2) تعريف المفلس لغة: من لا مال له، وهو المعدم. شرعًا: من دينه أكثرُ من ماله أو من لا يفي ماله بدينه، أو الذي أحاط الدين بماله، أو من لزمه من الدين أكثر من ماله الموجود. التفليس لغة: النداء على المفلس وشهره بين الناس بصفة الإفلاس المأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال. وشرعًا: جعل الحاكم المديون مفلسًا بمنعه من التصرف في ماله أو خلع الرجل عن ماله للغرماء. سبب التسمية: سمي مفلسًا وإن كان ذا مال لأن ماله مستحق الصرف في =

فلوسًا كما وصف الرجل صارت دابته قَطُوفًا، ويجوز كما قال الجوهري (¬1): أن يراد به أنه صار إلى حال، يقال فيها: ليس معه فلس. كما يقال: أقهر الرجل إذا صار في حالة يذل فيها. وهو في الشرع: حجر الحاكم على المديون. والمفلس: المحجور عليه بالديون. الخامس: في الحديث أحكام. أولها: رجوع البائع إلى عين، ما له عند تعذر الثمن بالفلس، وهو مذهب الشافعي ومالك والأكثرون، وألحقوا الموت به. وخالف مالك: فقال: يكون فيه أسوة الغرماء. وخالف أبو حنيفة فقال: لا يرجع فيهما، بل يضارب مع الغرماء. حجة الأكثرين في الفلس: هذا الحديث ودلالته ظاهرة. قال الاصطخري (¬2): لو حكم الحاكم بخلافه نقض حكمه. ¬

_ = جهة دينه، فكأنه معدوم، أو باعتبار ما يؤول من عدم ماله بعد وفاء دينه، أو لأنه يمنع من التصرف في ماله إلَّا الشيء التافه الذي لا يعيش إلَّا به كالفلوس ونحوها. (¬1) انظر: مختار الصحاح (215). (¬2) الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد الاصطخري ولد سنة أربع وأربعين قبل ابن سريج وتوفي في ربيع الآخر وقيل في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وقد جاوز الثمانين. طبقات الشافعية للسبكي =

وفي "الموت" حديث في "سنن أبي داود" و"ابن ماجه" (¬1) من حديث أبي هريرة أيضًا وقال الحاكم (¬2): إنه صحيح الإِسناد ولفظه: (أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه). وحمل أبو حنيفة (¬3) الحديث على الغصب والوديعة. لأنه لم ¬

_ = (2/ 193)؛ وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 109). والآخر: هو عبد الله بن سعيد أبو محمَّد الإِصطخري ولد سنة إحدى وتسعين ومائتين ومات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. تاريخ بغداد (10/ 133)، طبقات ابن قاضي شهبة (1/ 158). (¬1) انظر: ت (1)، ص 383. (¬2) المستدرك (2/ 50)، والبيهقي (6/ 46)، والشافعي (2/ 163)، والدارقطني (3/ 29)، والبغوي (2134)، من طرق عن ابن أبي ذئب، عن أبي المعتمر بن عمرو بن رافع عن عمر بن خلدة الزرقي، عن أبي هريرة مرفوعًا. وفيه أبو المعتمر وهو مجهول كما قال أبو داود، انظر: مختصر أبي داود (5/ 177)، وابن عبد البر في الاستذكار (21/ 35)، والتمهيد (8/ 416)، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 64). (¬3) قال ابن حجر في الفتح (5/ 63)، وخالف الحنفية فتأولوه لكونه خبر واحد خالف الأصول، لأن السلعة صارت بالبيع ملكًا للمشتري ومن ضمانة واستحقاق البائع أخذها منه نقض لملكه، وحملوا الحديث على صورة وهي ما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقيد بالفلس ولا جعل أحق بها لما يقتضيه صيغة أفعل من الاشتراك، وأيضًا فما ذكروه ينتقض بالشفعة, وأيضًا فقد ورد التنصيص في حديث الباب على أنه في صورة المبيع، وذلك فيما رواه سفيان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثوري في جامعه، وأخرجه من طريقه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما عن يحيى بن سعيد بهذا الإِسناد بلفظ: "إذا ابتاعت الرجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها فهو أحق بها من الغرماء" ولابن حبان من طريق هشام بن يحيى المخزومي عن أبي هريرة بلفظ: "إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته" والباقي مثله، ولمسلم في رواية ابن أبي حسين المشار إليها وقيل: "إذا وجد عنده المتاع أنه لصاحبه الذي باعه" وفي مرسل ابن أبي مليكة عند عبد الرزاق "من باع سلعة من رجل لم ينقده ثم أفلس الرجل فوجدها بعينها فليأخذها من بين الغرماء"، وفي مرسل مالك المشار إليه "أيما رجل باع متاعًا"، وكذا هو عند من قدمنا أنه وصله، فظهر أن الحديث وارد في صورة البيع، ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر من باب الأولى. تنبيه: وقع في الرافعي سياق الحديث بلفظ الثوري الذي قدمته، فقال السبكي في "شرح المنهاج" هذا الحديث أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وهو صريح في المقصود، فإن اللفظ المشهور أي الذي في البخاري عام أو محتمل، بخلاف لفظ البيع فإنه نص لا احتمال فيه، وهو لفظ مسلم، قال: وجاء بلفظه بسند آخر صحيح انتهى. واللفظ المذكور ما هو في صحيح مسلم وإنما فيه ما قدمته، والله المستعان، وحمله بعض الحنفية أيضًا على ما إذا أفلس المشتري قبل أن يقبض السلعة، وتعقب بقوله في حديث الباب "عند رجل" ولابن حبان من طريق سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد "ثم أفلس وهي عنده" وللبيهقي من طريق ابن شهاب عن يحيى "إذا أفلس الرجل وعنده متاع" فلو كان لم يقبضه ما نص في الخبر على أنه عنده، واعتذارهم بكونه خبر واحد فيه نظر، فإنه مشهور من غير هذا الوجه، أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد وأبو داود من حديث سمرة وإسناده حسن، وقضى به =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عثمان وعمر بن عبد العزيز كما مضى، وبدون هذا يخرج الخبر عن كونه فردا غريبًا، قال ابن المنذر: لا نعرف لعثمان في هذا مخالفًا من الصحابة. وتعقب بما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه أسوة الغرماء، وأجيب بأنه اختلف على علي في ذلك بخلاف عثمان، وقال القرطبي في "الرمفهم": تعسف بعض الحنفية في تأويله هذا الحديث بتأويلات لا تقوم على أساس، وقال النووي: تأوله بتأويلات ضعيفة مردودة انتهى، واختلف القائلون في صورة وهي ما إذا مات ووجدت السلعة فقال الشافعي: الحكم كذلك وصاحب السلعة أحق بها من غيره، وقال مالك وأحمد: هو أسوة الغرماء، واحتجا بما في مرسل مالك "وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء" وفرقوا بين الفلس والموت بأن الميت خربت ذمته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك، بخلاف المفلس. واحتج الشافعي بما رواه من طريق عمر بن خلدة قاضي المدينة عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" وهو حديث حسن يحتج بمثله، أخرجه أيضًا أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم، وزاد بعضهم في آخره "إلَّا أن يترك صاحبه وفاء" ورجحه الشافعي على المرسل، وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأى أبي بكر بن عبد الرحمن، لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره لم يذكروا ذلك، بل صرح ابن خلدة عن أبي هريرة بالتسوية بين الإفلاس والموتع، فتعين المصير إليه, لأنها زيادة من ثقة. وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي، وجمع الشافعي أيضًا بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما إذا مات مفلسًا، وحديث أبي بكر ابن عبد الرحمن على ما إذا مات مليئًا. والله أعلم. =

يذكر البيع فيه أو على ما قبل القبض وهما ضعيفان كما قال الشيخ تقي الدين (¬1): والأول: ضعيف جدًا لأنه يبطل. فائدة: تعليق الحكم بالفلس. قلت: ورواية مسلم السالفة أنه لصاحبه الذي باعه يرده ردًا صريحًا. والثاني: يضعفه قوله: "أدرك ماله" أو "وجد متاعه" (¬2) فإن ذلك يقتضي إمكان العقد. وذلك بعد خروج السلعة من يده. ¬

_ = قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 24): حديث التفليس حديث صحيح من نقل الحجازيين، والبصريين، رواه العدول، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودفعه طائفة من العراقيين، منهم: أبو حنيفة، وأصحابه، وسائر الكوفيين، وردوه بالقياس على الأصول المجتمع عليها، وهذا مما عيبوا به، وعد عليهم من السنن التي ردوها بغير سنة صاروا إليها؛ لأنهم أدخلوا القياس، والنظر حيث لا مدخل له، وإنما يصح الاعتبار، والنظر عند عدم الآثار. وحجتهم أن السلعة من المشتري وثمنها في ذمته، فغرماؤه أحق بها كسائر ماله، وهذا لا يجهله عالم، ولكن الانقياد إلى السنَّة أولى بمعارضاتها بالرأي عند أهل العلم، وعلى ذلك العلماء. اهـ. (¬1) إحكام الأحكام (4/ 121)، قوله: "تعليل الحكم بالفلس"، قال الصنعاني: لما قدمناه قريبًا من عدم مشاركة غيره له في ملكه. اهـ. (¬2) قال في المرجع السابق، قوله: "أو وجد متاعه"، قال: قوله "عند رجل" دال على أنه قد قبضه المشتري هنا، فإن ذلك يقتضي إمكان العقد. اهـ.

ورده القاضي (¬1) عياض بأوجه: أحدها: أنه نص في الحديث على الموت والفلس دون غيرهما. ثانيها: رواية مالك في "الموطأ" أيما رجل باع مالًا" وهذا مقيد بالبيع فحمل المطلق عليه. ثالثها: أن لفظة "أحق" تقتضي الاشتراك ولا اشتراك فيما ذكره. رابعها: أن الأحقية هنا منتفية فيما إذا تغيرت الصفة بخلاف المودع والمغصوب والمقترض، فإنها أموالهم على كل حال. وأجمل النووي القول في الرد عليه فقال (¬2): تأوله أبو حنيفة بتأويلات ضعيفة مردودة وتعلق بشيء يروي عن علي (¬3)، وابن مسعود وليس بثابت عنهما. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 242). (¬2) في شرح مسلم (10/ 222). (¬3) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 25)، ولا أعلم لأهل الكوفة سلفًا في هذه المسألة إلَّا ما رواه قتادة عن خِلاس بن عمرو، عن علي - رضي الله عنه - قال: وفيه أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها. والآثر أخرجه عبد الرزاق (8/ 266)؛ المحلى (8/ 186). قال: وأحاديث خِلاس عن علي - رضي الله عنه - ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، لا يرون في شيء منها إذا انفرد بها حجة. قال: وروى الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: هو والغرماء فيه شرع، سواء. وليس قول إبراهيم حجة عند الجمهور. ويشبه قوله في هذه المسألة قوله في المسكر، أي: النبيذ. اهـ.

وكذا القرطبي فقال في "مفهمه" (¬1) تعسف بعض الحنفية في تأويل أحاديث الإِفلاس تأويلات لا تقوم على أساس، ولا تتمشى على لغة ولا قياس فلنضرب عن ذكرها لوضوح فسادها. وحجة مالك ما رواه في "موطئه": عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقتضي من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، فإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء)، قال القرطبي (¬2): وهذا مرسل صحيح وقد أسنده أبو داود (¬3) ¬

_ (¬1) (4/ 433). (¬2) المرجع السابق. (¬3) انظر: ت (1)، ص 383. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 22) , بعد سياق الإِمام مالك رحمه الله للحديث من طريقين. مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء". مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمَّد ابن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل أفلس، فأدرك الرجل ماله بعينه، فهو أحق به من غيره". قال أبو عمر: الحديث الأول مرسل في "الموطأ" عند جميع رواته عند مالك.

حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وهو طريق ¬

_ = ورواه عبد الرزاق، عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "الموطأ" سواء. واختلف فيه أصحاب ابن شهاب: فمنهم من أسنده، فجعله عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من جعله، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرنا الرواة بذلك كله، والأسانيد عنهم في "التمهيد". وأما حديث يحيى بن سعيد فمتصل صحيح مسند إلَّا أن قوله في حديث ابن شهاب، عن أبي بكر: وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع إسوة الغرماء"، ليس في حديث يحيى بن سعيد، وهو موضع اختلف فيه العلماء على ما نذكره -إن شاء الله عز وجل. وقد روى هذا الحديث بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أفلس الرجل، فوجد غريمه متاعه بعينه، فهو أحق به"، لم يذكر الموت، ولا حكمه. كذلك رواه قتادة، وغيره، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك رواه أيوب، وابن جريج، وابن عيينة، عن عمرو ابن دينار، عن هشام بن يحيى، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أفلس الرجل، فوجد البائع سلعته بعينها، فهو أحق بها دون الغير" لم يذكر الموت ولا حكمه. ورواه ابن أبي ذئب، عن أبي المعتمر بن عمرو بن نافع، عن عمر ابن خلدة الزرقيّ، قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال أبو هريرة: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" فسوَّى في روايته بين الموت، والفلس. اهـ.

صحيح، قال: ومذهب مالك أولى لأن حديثه أصح من حديث الشافعي, لأن في إسناده مجهول على ما ذكره أبو داود. وللفرق بين المفلس والميت فإن ذمة الميت قد خربت بخلافه هذا كلامه وليته لما نقل عن أبي داود أنه أسنده عقبه بقوله: "حديث مالك أصح" يعني المرسل -فإن أبا داود ذكره عقبه، وكذا نص عليه الحفاظ. وقال: إمامنا الشافعي (¬1) حديث أبي هريرة المتقدم أولى من هذا وحديث ابن شهاب منقطع. وقال أبو حاتم: إن رواية الوصل خطأ. وقال البيهقي (¬2): لا يصح. فحينئذٍ حديث الشافعي أصح كما شهد له إمامنا. ¬

_ (¬1) انظر: كتاب الأم (3/ 213، 215)؛ ومختصر المزني (103)، كتاب التفليس، الاستذكار (21/ 27)؛ ومعرفة السنن والآثار (8/ 249)، وما قبله (243، 250). (¬2) السنن الكبرى (6/ 45)، وقال ابن حجر في الفتح (5/ 64)، ورجحه الشافعي على المراسيل، وقال: يحتمل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن عبد الرحمن, لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا قضية الموت، وكذلك الذين رووا عن أبي هريرة وغيره لم يذكروا ذلك، بل صرح ابن خلدة بالتسوية بين الإفلاس والموت فتعين المصير إليه لأنها زيادة من ثقة. وجزم ابن العربي المالكي بأن الزيادة التي في مرسل مالك من قول الراوي، وجمع الشافعي أيضًا بين الحديثين بحمل حديث ابن خلدة على ما إذا مات مفلسًا، وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن على ما إذا مات مليئًا. والله أعلم. اهـ.

وقول القرطبي (¬1): إن في إسناده مجهول، تبع فيه أبا داود وقد ثبت في "تخريجي الأحاديث الرافعي" (¬2) وغيره أنه معروف ثقة، فظهر رجحان مذهب الشافعي في ذلك، وإذا ثبت النص طاح الفرق وبالله التوفيق. وحمل المازري (¬3): رواية الشافعي على الوديعة والغصب. وقد علمت جوابه، وأنه تعسف. الثاني: رجوعه أيضًا ولو قبض بعض الثمن لإطلاق الحديث، وهو الجديد من قولي الشافعي وخالف في القديم (¬4). ¬

_ (¬1) المفهم (4/ 433). (¬2) انظر: خلاصة البدر المنير (2/ 81). (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 282). (¬4) قال البغوي -رحمنا الله وإياه- في السنة (8/ 187): والعمل على هذا عند بعض أهل المعلم قالوا: إذا أفلس المشتري بالثمن، ووجد البائع عين ماله، فله أن يفسخ البيع، ويأخذ عين ماله. وإن كان قد أخذ بعض الثمن، وأفلس بالباقي، أخذ من عين ماله بقدر ما بقي من الثمن، وهو قول أكثر أهل العلم، قضى به عثمان، وروي عن علي ذلك، ولا نعلم لهما مخالفًا من الصحابة، وإليه ذهب عروة بن الزبير، وبه قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وذهب قوم إلى أنه ليس له أخذ عين ماله، وهو أسوة الغرماء، وبه قال النخعي وابن شبرمة، وأصحاب الرأي، ولو مات مفلسًا، فهو كما لو أفلس في حياته على هذا الاختلاف. وذهب مالك إلى أنه إذا مات مفلسًا، أو أفلس في حياته، وقد أخذ البائع =

فقال: يضارب بباقي الثمن فقط: وعليه اقتصر القرطبي (¬1) في حكايته عنه وليس بجيد منه. وفيه حديث في الدارقطني (¬2) وهو مرسل ولا يصح مسندًا فعلى الجديد إذا باعه وتلف أحدهما وقبض نصف الثمن مثلًا أخذ الباقي، بباقي الثمن، ويكون ما قبضه في مقابلة التالف، وفي قول: مخرج يأخذ نصفه بنصف باقي الثمن ¬

_ = شيئًا من الثمن، فليس له أخذ عين ماله، بل يضارب الغرماء. اهـ. قال ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" 3/ 200: رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس أو الموت، فيه ثلاثة مذاهب: الأول: أنه يرجع إليه في الموت والفلس، وهذا مذهب الشافعي. والثاني: أنه لا يرجع إليه، لا في الموت ولا في الفلس، وهو مذهب أبي حنيفة. والثالث: يرجع إليه في الفلس دون الموت، ويكون في الموت أسوة الغرماء وهو مذهب مالك. اهـ. انظر: الاستذكار (21/ 26، 28) وسيأتي نقلًا منه في ت (1) ص 397، وانظر الفقه الإِسلامي وأدلته (4/ 468، 496). (¬1) المفهم (4/ 433). (¬2) ولفظه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئًا، فهي له، وإن كان قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة الغرباء". وقال دعلج: "فإن كان قضاه من ثمنها شيئًا فما بقي فهو أسوة الغرباء". إسماعيل بن عياش مضطرب الحديث ولا يثبت هذا، عن الزهري مسندًا، وإنما هو مرسل. اهـ، الدارقطني (3/ 30)، وانظر: تخريج الأحاديث الضعاف من الدارقطني (271).

ويضارب بنصف الباقي وهو الربع (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 26، 34)، وانظر: ت (3)، الوجه الثامن، ص (406). قال مالك، في رجل باع من رجل متاعًا، فأفلس المبتاع، فإن البائع إذا وجد شيئًا من متاعه بعينه، أخذه، وإن كان المشتري قد باع بعضه، وفرَّقه، فصاحب المتاع أحق به من الغرماء، لا يمنعه ما فرَّق المبتاع منه، أن يأخذ ما وجد بعينه، فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئًا، فأحب أن يرده ويقبض ما وجد من متاعه، ويكون فيما لم يجد إسوة الغرماء، فذلك له. قال أبو عمر: لا أعلم خلافًا بين الفقهاء القائلين بأن البائع أحق بغير ماله في الفلس أنه أحق أيضًا بما وجد عنه إذا كان المشتري قد باع ذلك أو فوته بوجوه الفوت؛ لأن الذي وجد من سلعته هو عين ماله، لا شك فيه؛ لأنه قطعة منه. قال مالك: فيمن وجد نصف سلعته بعينها عند رجل قد أفلس، قال: أرى أن يأخذها بنصف الثمن، ويحاص الغرماء في النصف الثاني. وكذلك قال الشافعي، قال: لو كانت السلعة عبدين بمئة، فقبض نصف الثمن، وبقي أحد العبدين، وقيمتهما سواء كان له نصف الثمن، أو النصف الذي قبض، ئمن الهالك كما لو رهنهما بمئة، فقبض تسعين، فهلك أحدهما كان الآخر رهنًا بعشرة. هكذا روى المزني. وروى الربيع عنه، قال: لو كانا عبدين، أو ثوبين فباعهما بعشرين قبض عشرة، وبقي من ثمنهما عشرة كان شريكًا فيها بالنصف، يكون نصفهما له، والنصف للغرماء يباع في دينه. وجملة قول الشافعي أنه لو بقي من ثمن السلعة في التفليس درهم لم يرجع من السلعة إلَّا بقدر الدرهم. ومعناه أن ما بقي في يد المشتري المفلس عين مال البائع وقيمته بمقدار ما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بقي له من الثمن الذي من أجله جعل له أخذه، فله أخذه دون سائر غرماء المفلس. وقال أشهب، عن مالك، عن رجل باع من رجل عبدين بمئة دينار وانتقد من ذلك خمسين، وبقيت على الغريم خمسون، ثم أفلس غريمه، فوجد عنده أحد عبديه، وفاته الآخر، فأراد أخذه بالخمسين التي بقيت له على غريمه، وقال: الخمسون التي أخذت ثمن العبد الذاهب، وقال الغرماء: بل الخمسون التي أخذت ثمن هذا. فقال مالك: إذا كان العبدان سواء، رد نصف ما قبض، ولك خمسة وعشرون دينارًا، وأخذ العبد، وذلك أنه إنما اقتضى من ثمن كل عبد خمسة وعشرين دينارًا. قال: ولو كان باعه عبدًا واحدًا بمئة دينار، فاقتضى من ثمنه خمسين رد الخمسين إن أحب وأخذ العبد. قال أشهب: وكذلك العمل في روايات الزيت، وغيرها على هذا القياس. وقال الشافعي في مسألة أشهب عن مالك: العبد أحق به من الغرماء إذا كان قيمة العبدين سواء؛ لأنه ماله بعينه وجده عند غريمه، وقد أفلس، والذي قبضه، وثمن ما فات إذا كانت القيمة سواء كما لو باع عبدًا واحدًا، وقبض نصف لبه، كان ذلك النصف للغرماء وكان النصف الباقي له، فإنه لم يقبض ثمنه ولا يرد شيئًا مما أخذ؛ لأنه مستوف لما أخذ. وأما قول مالك في "الموطأ": فإن اقتضى من ثمن المبتاع شيئًا، فأحب أن يرده إلى آخر قوله. فقد خالفه الشافعي، وغيره في ذلك، فقالوا: ليس له أن يرده، وإنما له أخذ ما بقي من سلعته، لا غير ذلك؛ لإجماعهم على أنه لو قبض ثمنها كله لم يكن له إليها سبيل، فكذلك إذا أخذ ثمن بعضها لم يكن إلى ذلك البعض سبيلًا، وليس له أن يرد بعض الثمن كما ليس له أن يرد جميعه، لو قبضه.

الثالث: رجوع المقرض إلى عين ماله إذا كان باقيًا بعينه وأفلس بعد قبضه، كما ترجم عليه البخاري فيما سلف، ووجهه أن لفظ الحديث أعم من أن يكون المال أو المتاع لبائع أو لمقرض والفقهاء قاسوه عليه بجامع أنه مملوك يقدر [علي] (¬1) تحصيله فأشبه البيع ولا حاجة إليه لاندراجه تحته وبهذا قال الشافعي وأبو محمَّد الأصيلي (¬2) من المالكية. ¬

_ = وحجتهم حديث مالك في هذا الباب، قوله: ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا. وقال جماعة من أهل العلم: إذا قبص من ثمن سلعته شيئًا، لم يكن له أخذها, ولا شيئًا منها. وممن قال هذا: داود، وأهل الظاهر أيضًا، وأحمد، وإسحاق. واختلف مالك، والشافعي أيضًا في المفلس يأبى غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها، وقد وجدها بعينها، ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم لما لهم في قبض السلعة من الفضل: فقال مالك: ذلك لهم، وليس لصاحب السلعة أخذها إذا دفع إليه الغرماء ثمنها. وقال الشافعي: ليس للغرماء هذا مقال: قال: وإذا لم يكن للمفلس، ولا لورثته أخذ السلعة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل صاحبها أحق بها منهم، فالغرماء أبعد من ذلك، وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها، وإن شاء تركها، وضرب مع الغرماء بثمنها. وبهذا قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وجماعة. اهـ. (¬1) زيادة من المصحح ليستقيم بها المعنى. (¬2) هو عبد الله بن إبراهيم أصله من كورة شذونه ورحل به أبوه إلى أصيلا من بلاد العدوة فسكنها ونشأ بها أبو محمَّد. له مصنف على الموطأ سماه =

وخالفه غيره فقال: لا يكون القرض كالبيع. الرابع: الحجر على المفلس وخالف فيه أبو حنيفة (¬1). ¬

_ = بالدليل ذكر فيه خلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة توفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون (138)، ط دار الكتب العلمية. (¬1) قال أبو حنيفة: لا أحجر على المفلس في الدين, لأن مال الله غاد ورائح، فهو لا يرى الحجر على المدين المفلس، كما لا يرى الحجر على السفيه، لأن في الحجر، إهدارًا لحريته وإنسانيته وأهليته، فذلك أخطر من ضرر خاص يلحق الدائن فتنفذ تصرفاته ولا يباع ماله جبرًا عنه، وإنما يؤمر بسداد ديونه، فإن امتثل فلا يتعرض له بشيء، وإن امتنع عن الأداء، حبس حتى يسدد دينه، أو يبيع ماله بنفسه، وشرع حبسه دفعًا لظلمه, لأن قضاء الدين واجب عليه، والمماطلة ظلم، وليس للقاضي أن يبيع ماله جبرًا عنه، لأنه نوع حجر عليه، وهو لا يجوز عنده. والخلاصة: أن أبا حنيفة قال: ليس للحاكم أن يحجر على المفلس، ولا يبيع ماله بل يحبسه، حتى يؤدي أو يموت في السجن. والمفتي به عند الحنيفة هو قول الصاحبين وهو قول جمهور الفقهاء: وهو جواز الحجر على المدين المفلس في تصرفاته المالية، حفاظًا على حقوق الدائنين وأموالهم من الضياع بدليل ما روى الدارقطني، والخلال، وصحع الحاكم إسناده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ وباع ماله في دين كان عليه، وقسمه بين غرمائه، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس لكم إلَّا ذلك. اهـ. من الفقه الإسلامي (5/ 456).

ولابد في الحديث (¬1) من إضمار (¬2) أمور يحمل عليها، مثل: كون السلعة مقبوضة موجودة عند المشتري دون غيره، والثمن غير مقبوض، ومال المفلس لا يفي بالديون، أو كان مساويًا وقلنا، يحجر عليه في صورة (¬3) التساوي، فلو مات أو كاتب العبد فلا رجوع، ولو زال من يد المشتري وعاد إليه فأظهر الوجهين في "الشرح الصغير للرافعي": أنه يجوز الرجوع. وصحح النووي في "الروضة" (¬4) من زياداته مقابله. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 122) , المسألة الثالثة. (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية، قوله: "من إضمار" وأدلته القواعد الشرعية، وقد يؤخذ من الحديث إما كون الثمن غير مقبوض فلأنه يؤخذ من قوله في الحديث: "ماله" فإضافته إليه دالة على بقائه له، وإلَّا لما كانت إضافته إلَّا من المجاز، وأما كون السلعة عند المشتري دون غيره، فلأن قوله: "قد أفلس" عائد إلى الرجل، والمراد به المشتري مثلًا، وأما كون المال لا يفي بالديون، فلأن حقيقة المفلس من لا يفي ماله بدينه. (¬3) وقال أيضًا قوله: "وقلنا يحجر على المفلس في هذه الصورة"، أي: صورة مساواة ماله لديونه، وفيه قولان للشافعية على تفصيل ذلك، قال في المنهاج: ولو كانت الديون بقدر المال فإن كان كسوبًا ينفق من كسبه فلا حجر عليه, لأنه لا حاجة له إليه بل يؤمر بقضاء الدين، وإن لم يكن كسوبًا، وكانت نفقته من ماله فكذا في الأصح لتمكنهم من المطالبة في الحال، والثاني: يحجر عليه لئلا يذهب ماله، واختاره الإِمام. اهـ. (¬4) روضة الطالبين وعمدة المفتين (4/ 156).

وحكى الشيخ تقي الدين (¬1): هذا الخلاف، ولم يرجح شيئًا، لكنه فرضه فيما إذا خرج عنه، ثم رجع إليه بغير عوض. ثم قال: وهذا تصرف في اللفظ (¬2) بالتخصيص، بسبب معنى مفهوم منه، وهو الرجوع إلى العين، لتعذر العوض من تلك الجهة، أو تخصيص بالمعنى (¬3) وإن سلم باقتضاء اللفظ له. تنبيه: للرجوع شروط آخر عند الشافعية (¬4): أن يكون الثمن حالًا. وأن لا يتعلق بالمبيع حق ثالث كالجناية والرهن والشفعة فإن زال التعلق رجع في الأصح. وأن لا يقوم بالبائع مانع من الملك كما لو أحرم وكان المبيع صيدًا، وكما لو كان البائع كافرًا، والمبيع مثله، وأسلم في يد المشتري. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 126)، حيث تصرف المؤلف بالعبارة. (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في إحكام الأحكام (4/ 126)، قوله: "وهذا تصرف في اللفظ"، لفظ متاعه أو ماله العام بالإضافة بسبب معنى مفهوم من الحديث، والمعنى هو الرجوع إلى العين لأنه تعذر العوض منه من جهة المفلس، لأنه عاد إليه بغير عوض. اهـ. (¬3) وقال أيضًا: قوله: "أو تخصيص بالمعنى" الأول كان تخصيصًا بالسبب وهذا بالمعنى، وهو أن المراد وجد عين ماله لم يتصرف فيه المفلس، وهنا قد تصرف فيه ثم عاد بغير عوض فهذا الملك متلقى من غيره فهو مال ذلك الغير صار إلى المفلس. (¬4) انظر: الفقه الإِسلامي (5/ 470، 473).

الخامس: المؤجر كالبائع عند المالكية وهو الصحيح عند الشافعية فيرجع مكترى الدابة والدار إلى عين دابته وداره، وإن كانت أرضًا فصاحبها أحق بالزرع من الغرماء في الفلس دون الموت عند المالكية. وقال ابن القاسم: أحق فيهما وإدراج الإِجارة تحت لفظ الحديث يتوقف على أن المنافع ينطلق عيها اسم "المتاع" أو "المال" وانطلاق اسم "المال" عليها أقوى (¬1)، وقد عُلل منع الرجوع بأن [المنازل تنزل] (¬2) منزلة الأعيان القائمة إذ ليس لها وجود مستقر وإن نوزع في الإِطلاق. فالطريق أن يقال: كما نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬3): اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين ومن لوازم ذلك الرجوع في المنافع -فيثبت بطريق اللازم، لا بطريق الأصالة. فإن المنافع هي المعقود عليها لا العين. قلت: لكن الأصح عند الأصحاب أن المعقود عليه العين لاستيفاء المنافع. فرع: لو ألزم (¬4) ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان بطريق ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (4/ 124)، قوله: "وانطلاق اسم المال عليها أقوى" فيدخل في الحديث، ولكن الإدراك في غالب الإطلاق لا يكون إلَّا للأعيان، ثم هذا مبني على أنه لا يخص اللفظ بالبائع. اهـ. (¬2) العبارة في إحكام الأحكام "المنافع لا تنزل". وهي أولى. (¬3) انظر: العبارة في إحكام الأحكام (4/ 124)، وقد تصرف فيها المؤلف هنا. (¬4) انظر: إحكام الأحكام (4/ 125) , المسألة الخامسة.

الإِجارة، ثم أفلس والأجرة في يده، فإنه يثبت حق الفسخ والرجوع إلى الأجرة واندراج هذا الفرع ظاهر، تحت لفظ الحديث إن أخذنا باللفظ، ولم نخصصه بالبائع. فإن خصصناه به فلحكم ثابت قياسًا، لا نصًا. السادس: قد يمكن أن يستدل بالحديث على حلول الدين المؤجل بالحجر. من حيث أن صاحب الدين كأنه أدرك متاعه، فيكون أحق به. ومن لوازم ذلك أن يحل، إذ لا مطالبة بالمؤجل قبل الحلول (¬1). وهو أحد قولي الشافعي وبه قالت المالكية (¬2) وحكاه ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 124). (¬2) من الآثار التي تترتب على الحجر حلول الديون المؤجلة، وهو عند الحنفية وفي المشهور عند المالكية، لخراب الذمة في الحالتين، وهو عند المالكية ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما، وما لم يقتل الدائن المدين عمدًا، فلا يحل. وأما الحنابلة في أرجح الروايتين والشافعية: في الأظهر، لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه، لأن الأجل حق مقصود للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، ويفترق الفلس عن الموت في أن الميت خربت ذمته وبطلت، وعليه: لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة، بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة، ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله. فإن لم يقتسم الغرماء حتى حل الدين، شارك الغرماء كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته. اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 461)، وانظر: الاستذكار (21/ 34، 35). هل تحل الديون المؤجلة بالموت؟ يرى جمهور العلماء ومنهم أئمة المذاهب كما في بداية المجتهد (2/ 282)، والمغني (4/ 435)، =

القرطبي (¬1) عن الجمهور والأظهر من قولي الشافعي عدم الحلول به، لأن الأجل حق مقصود له، فلا يفوت، والأول قاسه على الموت، لكن الفرق أن ذمة الميت خربت بخلافه. ¬

_ = والمهذب (1/ 327). أن الديون المؤجلة تحل بالموت، كما تحل عند الحنفية والمالكية خلافًا لغيرهم بالتفليس، قال الزهري: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات يدل له ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل، فالذي عليه حال، والذي له إلى أجله". المهذب (1/ 327). وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلَّا بعد قضاء الدين. وإذا لم يحل الدين بالموت، فلا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة, أو يتعلق بالمال: لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها, ولا في ذمة الورثة؛ لأنهم لم يلتزموا الدين، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعلق الدين بأعيان أموال التركة، أو تأجيله؛ لأنه ضرر بالميت، وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما إضرار الميت فلأن ذمته تظل مشغولة بالدين حتى يوفى عنه لحديث "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح. وأما إضرار صاحب الدين (الدائن) فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه، وأما إضرار الورثة فإنهم لا ينتفعون بأعيان التركة ولا يتصرفون فيها. ولأن الموت ما جعل مبطلًا للحقوق، وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك حقًا أو مالًا فلورثته". رواه أحمد وابن ماجه عن أبي كريمة. الجامع الكبير (3/ 178). (¬1) المفهم (4/ 435).

ومن الغريب ما حكاه القرطبي عن الحسن أنها لا تحل بالموت أيضًا (¬1). السابع (¬2): ظاهر الحديث يدل على الاستبداد بالأخذ وإن لم يحكم به حاكم وفيه خلاف بين العلماء. والأصح عند أصحابنا الاستبداد به كخيار العتق. الثامن (¬3): يمكن أن يستدل على أن الغرماء إذا قالوا للبائع لا تفسخ ونقدمك بالثمن أنه لا يسقط حقه من الرجوع لاندراجه تحت لفظ الحديث. وهو الأصح عند الشافعية وعللوه بالمِنَّة، وربما ظهر كريم آخر فيزاحمه فيما أخذ، وفيه وجه عندهم أنه يسقط وعزى إلى مالك. ¬

_ (¬1) المفهم (4/ 435). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (4/ 125)، المسألة الثامنة. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (4/ 124)، المسألة السابعة. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 34)، واختلف مالك والشافعي في المفلس يأبى غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها، وقد وجدها بعينها، ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم لما لهم في قبض السلعة من الفضل. فقال مالك: ذلك لهم، وليس لصاحب السلعة أخذها إذا دفع إليه الغرماء ثمنها. وقال الشافعي: ليس للغرماء هذا مقال: قال: وإذا لم يكن للمفلس ولا لورثته أخذ السلعة, لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل صاحبها أحق بها منهم، فالغرماء أبعد من ذلك، وإنما الخيار لصاحب السلعة إن شاء أخذها، وإن شاء تركها، وضرب مع الغرماء بثمنها. وبهذا قال أبو ثور، وأحمد، وجماعة. اهـ.

التاسع: لو امتنع من دفع الثمن بعد يساره أو هرب أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته فلا فسخ في الأصح عند الشافعية عملًا بمفهوم الحديث، ووجه مقابلة القياس عليه بجامع تعذر الوصول إليه حالًا مع توقعه. (¬1) [العاشر: هذا الأمر في قوله: "فليتبع": وفي قوله: "فليحتل"، في رواية الإِمام أحمد للاستحباب وعند الشافعية والجمهور. وقال الماوردي: هو للإباحة لوروده بعد الحظر وهو: "نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن بيع الدين بالدين"، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬2) وهذا حمل منه ويحتاج إلى التاريخ في ذلك وأنه وارد بعده، ولم أر ذلك. وقال أبو ثور وابن جرير وداود (¬3): إنه للوجوب لظاهر الخبر. وادعى الجوري -بضم الجيم- من أصحابنا الأجماع على الأول لما فيه من "الإحسان إلى المحيل بتحويل الحق عنه، وبترك تكليفه التحصيل بالطلب]. [الحادي عشر] (¬4): في الحديث إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة ¬

_ (¬1) هذا المبحث لا علاقة له هنا وقد سبق في الحديث قبله ص 370، 371. (¬2) سورة المائدة: آية 2. (¬3) نيل الأوطار (6/ 403)، وبداية المجتهد (2/ 384)، والمغني (4/ 576). (¬4) بياض في الأصل.

على الملىء معلل يكون "مطل الغني ظلم". قال الشيخ تقي الدين (¬1): ولعل السبب فيه أنه إذا تبين كونه ظلمًا، والظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه. فيكون ذلك سببًا للأمر بقبول الحواله عليه, لحصول المقصود من غير مطل. ويحتمل أن يكون ذلك لأن الملىء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع، بل يأخذه الحاكم قهرًا ويوفيه. ففي قبول الحوالة عليه تحصيل الغرض من غير مفسدة تأخير الحق، قال: والمعنى الأول أرجح. لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون المطل ظلما. وعلى هذا المعنى الثاني تكون العلة عدم تأخير الحق لا الظلم. [الثاني عشر] (¬2): في أحكامه: [الأول] (¬3): تحريم المطل بالحق ولا خلاف فيه مع القدرة بعد الطلب واختلف أصحابنا في وجوب الأداء مع أنه لا رجوع مع هلاك العين كما سلف وهو ظاهر في الهلاك الحسي، وقد نزّل الفقهاء تصرفات شرعية منزلته كالبيع، والهبة، والوقف، والعتق، ولم ينقضوا هذه التصرفات، بخلاف تصرفات المشتري في حق الشفيع بها فإنهم فصلوا فيها تفصيلًا كما هو معروف في كتب الفروع. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 119). (¬2) بياض في الأصل، وما أثبت يتضح من سياق الكلام. (¬3) بياض في الأصل، وما أثبت يتضح من سياق الكلام. وانظر: المسألة في إحكام الأحكام (118 - 125).

[الحادي عشر] (¬1): إذا باع عبدين -مثلًا- وتلف أحدهما، ثم أفلس أخذ الباقي وضارب بحصة التالف. وفي قول بعيد أنه إذا رجع أخذ الباقي بكل الثمن. ولا يضارب بشيء. فأما رجوعه في الباقي فقد يندرج تحت قوله: "فوجد متاعه" أو "ماله" وأما كيفية الرجوع فلا تعلق للفظ به. الثاني عشر: لو تغيرت صفة المبيع كأن حدث به عيب فأثبت الشافعي الرجوع إن شاء البائع ناقصًا وإن شاء ضارب بالثمن كما في تعييب المبيع في يد البائع، وهذا يمكن دخوله تحت اللفظ فإنه وجده بعينه. والتغيير حدث في الصفة لا في العين، وفي وجه، أو قول يأخذ المبيع ويضارب بما نقص وهو غريب (¬2). ¬

_ (¬1) هذه تكون المسألة الثالثة عشرة، وانظر: إحكام الأحكام (4/ 127)، وانظر: ت (26). (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 37، 38): قال أبو عمر: قال الشافعي فيما روى الربيع، وغيره عنه: ولو كانت السلعة دارًا فبنيت، أو بقعة، فغرست، ثم أفلس الغريم ردت للبائع الدار كما كانت، والبقعة حين باعها, ولم أجعل له الزيادة، ثم خيرته بين أن يعطي قيمة العمارة، والغراس, ويكون ذلك له، أو يكون له ما كان من الأرض لا عمارة فيها، وتكون العمارة الحادثة فيها تباع للغرماء سواء بينهم، إلَّا أن يشاء الغرماء والغريم: أن يقلعوا البيان، والغرس، ويضمنوا لرب الأرض ما نقص الأرض القطع، فيكون ذلك لهم. قال: ولو باع أرضًا، فغرسها المشتري، ثم أفلس، فأبى رب الأرض أن يأخذ الأرض بقيمة الغرس الذي فيها، وأبى الغرماء، أو الغريم أن يقلعوا الغرس، ويسلموا الأرض إلى ربها, لم يكن لرب الأرض إلَّا الثمن الذي =

الثالث عشر: الحديث يقضي الرجوع، ومفهومه أنه لا يرجع في غيره. والزوائد المنفصلة حادثة على ملك المشتري ليست بمتاع البائع، فلا رجوع له فيها (¬1). الرابع عشر (¬2): لا يثبت الرجوع إلَّا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على الفلس. ويؤخذ ذلك من الحديث الذي في لفظه بترتيب الأحقية على الفلس، بصيغة الشرط، فإن المشروط مع الشرط، أو عقبه. ومن ضرورة ذلك تقدم سبب اللزوم على الفلس. ¬

_ = باع به الأرض يحاص به الغرماء. قال أبو عمر: تلخيص قول الشافعي في ذلك أن للبائع ما فيه من الأرض، وأما ما كان فيه بناء، فهو مخير إن شاء أعطى قيمة البناء، وأخذ الأرض والبناء، وإن شاء ضرب مع الغرماء ليس له غير ذلك. وأما الكوفيون، فعلى ما قدمت لك، مال المفلس كله عندهم للغرماء، الذي فلسه القاضي لهم دون صاحب المساقاة، وهو فيها كأحدهم. انظر أيضًا: الفقه الإِسلامي وأدلته (5/ 476). (¬1) الفقه الإِسلامي (5/ 473). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (4/ 128)، المسألة الخامسة عشرة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 301/ 4/ 58 - عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: (جَعَلَ -وفي لفظ: قضى- النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم. فإذا وقعت الحدود، وَصُرِّفَتِ الطرق فلا شفعة) (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بهذين اللفظين: "جعل الشفعة" إلى آخره. و "قضى بالشفعة" إلى آخره، ذكره هنا بلفظ: "قضى" إلى آخره، وذكره في كتاب الشركة كذلك، وترجم عليه باب (¬2): إذا قسم الشركاء الدور أو غيرها، فليس لهم رجوع. وذكره في البيوع (¬3) أيضًا باللفظ المذكور، وترجم عليه بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم. وفي لفظ: له في هذا ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2213)، ومسلم (1608)، ومالك (2/ 713)، وسنن البيهقي (6/ 13)، ومعرفة السنن (8/ 11986)، وأبو داود (3514)، والترمذي (1370)، وابن ماجه (2497). (¬2) الفتح (5/ 134)، ح (2496). (¬3) الفتح (4/ 408)، ح (2214).

الباب في "كل ما لم يقسم". وذكره باللفظ الأول قبل هذا الباب، لكنه قال: "في كل مال لم يقسم" بدل "في كل ما لم يقسم" وترجم عليه بيع الشريك من شريكه (¬1). وكذا ذكره بهذا اللفظ الشيخ تقي الدين (¬2): "في شرحه". وذكره البخاري في الشركة (¬3) بلفظ ثالث: "إنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم -الشفعة" لفظ المصنف سواء. وأخرجه مسلم (¬4) من حديث أبي الزُّبير، عن جابر بألفاظ أقربها إلى رواية المصنف: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وان شاء ترك. فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به". وله في لفظ آخر: "الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط"، والثاني بنحوه. واعلم أن ابن الجوزي لما أخرج الحديث في "تحقيقه" (¬5): من طريق أبي سلمة، عن جابر قال: انفرد بإخراجه البخاري. ولما ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 407)، ح (2213). (¬2) انظر: حديث الباب. (¬3) الفتح (5/ 133، 134)، ح (2495). فات المؤلف -رحمنا الله وإياه- في تبويب البخاري ما يأتي: 1 - في كتاب الشفعة. باب: الشفعة فيما لم يقسم ح (2257). 2 - في كتاب الحيل. باب: الهبة في الشفعة ح (6976). (¬4) انظر: حديث الباب. (¬5) التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 214، 215).

أخرجه من طريق أبي الزبير عن جابر، وقال: انفرد [به] (¬1) مسلم. وهذا هو التحقيق في العزو، وكان المصنف أراد: أن أصله في الصحيحين من حديث جابر، وإن اختلفت الطريق إليه، فيتنبه لذلك. الثاني: الشفعة: بضم الشين وإسكان الفاء، والفقهاء يضمون الفاء، وهو خلاف الصواب، كما نبه عليه صاحب "تثقيف اللسان" (¬2). واختلف في اشتقاقها في اللغة: هل هي من الضم، أو الزيادة، أو التقوية، أو الإعانة، أو الشفاعة على (¬3) أقوال. وهي في الشرع: حق تملك قهري، يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث بسبب الشركة بالعوض، الذي يملك به لدفع الضرر (¬4). -وهو ضرر مؤونة القسمة واستحداث المرافق وغيرها ¬

_ (¬1) في التحقيق بإخراجه وما أثبت من الأصل. (¬2) هو أبو حفص عمر بن خلف بن مكي الصقلي النحوي اللغوي المتوفي سنة (501)، تثقيف اللسان (218). (¬3) تقول شفعت الشيء: ضممته، سميت شفعة, لأن الشفيع يضم ما يتملكه بهذا الحق إلى نصيبه أو ملكه، فيزيده عليه، ويتقوى به، فقد كان الشفيع منفردًا في ملكه، فبالشفعة ضم المبيع إلى ملكه، فصار شفعًا ضد الوتر. (¬4) وعرفها الأحناف: بأنها حق تملك العقار المبيع جبرًا عن المشتري، بما قام عليه، من ثمن وتكاليف، أي: (النفقات التي أنفقها) لدفع ضرر الشريك الدخيل أو الجوار وهذا عند الحنفية, لأن الشفعة تثبت عندهم للشريك والجار. =

لا ضرر سوى المشاركة على الأصح. الثالث: هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة، وقد تضمن أحكامًا: الأول: ثبوتها للشريك في العقار ما لم يقسم، وهو إجماع، ويعني بالعقار الأرض والضياع والنخل على ما فسره أهل اللغة وخصت بالعقار: لأنه أكثر الأنواع ضررًا. وشذ بعضهم فأثبتها في العروض، وهي رواية عن عطاء، قال: يثبت في كل شيء حتى في الثوب. حكى ذلك عنه ابن المنذر (¬1). ¬

_ = أما عند الجمهور: وهو في التعريف الذي ساقه المصنف فالشفعة تثبت للشريك دون الجار. وهذا خاص في العقار على المذاهب الأربعة. أما الظاهرية: فقد أجازوها في المنقول كالحيوان وغيره. اهـ. (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 308)، وقد شذت طائفة، فأوجبت الشفعة في كل شيء وردت روايات في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. منها ما ذكره عبد الرزاق -بإسناده- عن ابن أبي ملكية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشريك شفيع في كل شيء". وساق بإسناده عنه. قال قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء في الأرض، والدار، والدابة، والجارية. قال عطاء: إنما الشفعة في الأرض والدار. فقال له ابن أبي مليكة: سمعتني -لا أم لك-، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول هذا. قال أبو عمر: هذا حديث مرسل، وليس له إسناد غير هذا فيما أعلم، ومن قال بمراسيل الثقات لزمه قبوله. اهـ. =

وعن أحمد رواية أنها تثبت في الحيوان والبناء المنفرد. وحكى الصعبي في "شرحه" عن مالك ثلاث روايات: الأول: ثبوتها في كل منقول. ثانيها: في السفن خاصة (¬1). ¬

_ = وإلى هذا رجع عطاء، وهو قول فقهاء أهل مكة. وسأل عبد الله البجلي، عطاء عن الشفعة في الثوب؟ فقال: له شفعة، وسأله عن الحيوان؟ فقال: له شفعة، وسأله عن العبد؟ فقال له شفعة. وهذا عن عطاء وابن أبي ملكية، بأصح إسناد عنهما. ورواية لحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك. وروى إسقاط الشفعة فيما عدا الأرض، عن ابن عباس، وشريح، وابن المسيب، ويقول ابن حزم: ولا يصح عنهم. وعن عطاء، وقد ذكرنا أنه رجع عن ذلك، وعن إبراهيم، والشعبي والحسن، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وربيعة، ويقول ابن حزم قد صح عنهم -أي: القول بالشفعة. قال ابن عبد البر: ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال قلت: لأيوب أتعلم أحدًا كان يجعل في الحيوان شفعة؟ قال: لا. قال معمر: ولا أعلم أحدًا جعل في الحيوان شفعة. وساق بإسناده عن ابن المسيب قال: ليس في الحيوان شفعة. اهـ. من الاستذكار (21/ 309). (¬1) ونقل الكاساني في البدائع (5/ 12)، عن الإِمام مالك: أنه يرى الشفعة في السفن, لأن السفينة أحد المسكنين، فتجب فيها الشفعة، كما تجب في المسكن الآخر، وهو العقار. لكن هذا لم يصح كما ذكره التنوخي في =

ثالثها: إن بيعت وحدها فلا شفعة، وإن بيعت مع الأرض ففيها الشفعة، لئلا تتفرق على المشتري (¬1). قلت: حديث ابن عباس: "الشفعة في كل شيء" (¬2) ضعَّف الترمذي والبيهقي وصله. وقيل: إن أبا حمزة السكري وهم فيه. قال الترمذي: هو ثقة، يمكن أن يكون الخطأ منه. قلت: فيه نظر, لأنه من رجال الصحيحين، ومن يقول بالمرسل يلزمه القول به. ¬

_ = شرحه لرسالة القيرواني (2/ 193)، عن ابن عبد السلام قال: ما نقله بعض الحنفية عن مالك في السفينة لا يصح. اهـ. وبهذا تتفق المذاهب الأربعة على عدم الشفعة في السفينة. (¬1) وأجاز المالكية الشفعة في البناء والشجر إذا بيع أحدهما مستقلًا عن الأرض، لأن كلًا منهما عندهم عقار، والعقار: هو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، فلا شفعة في حيوان أو عرض تجاري إلَّا إذا بيع تبعًا للأرض. مثاله: الشجر أو البناء موقوفة "محبسة" أو معارة، بأن اقتضت المصلحة إجارة الأرض الموقوفة، سنين، ثم بني فيها المستأجر أو غرس بإذن ناظرها، على أن ذلك له فإذا كان المستأجر متعددًا، وباع أحدهم، فللآخر الشفعة. وأجاز المالكية الشفعة في الثمار والخضروات ونحوها مما له أصل تجني ثمرته، ويبقى في الأرض وقتًا ما، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه منها، ولو مفردًا عن أصله، فللآخر أخذه بالشفعة. (¬2) قال ابن حجر في الفنح (4/ 436)، رجاله ثقات إلَّا أنه أعل بالإرسال. اهـ.

وروى الطحاوي عن محمَّد بن خزيمة بسند صحيح إلى جابر: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء" (¬1)، لكن محمَّد هذا إن لم يكن ابن خزيمة الإِمام فلا أعرفه. وأما ابن المنذر فقال: ليس في هذا الباب حديث صحيح يجب القول به. وأعلم أن صدر هذا الحديث يدل على من يقول بثبوتها في المنقولات، لكن آخره وسياقه يشعر بأن المراد به العقار، وبما فيه الحدود وصرف الطرق (¬2). الثاني: سقوطها بمجرد الجوار (¬3)، لأنه بعد القسمة جار، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور؛ وقال من الصحابة عمر، وعثمان؛ ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وأبو الزناد، ومن غيرهم ربيعة، والأوزاعي، والمغيرة بن عبد الرحمن، ¬

_ (¬1) وقال أيضًا له شاهد من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته. اهـ. (¬2) وقال أيضًا: وقد تضمن هذا الحديث ثبوت الشفعة في المشاع، يشعر ثبوتها في المنقولات، وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وبما فيه العقار. وقد أخذ بعمومها في كل شيء مالك في رواية, وهو قول عطاء، وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات. اهـ. (¬3) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (21/ 265)، في حديث ابن شهاب -يعني حديث الباب- ما ينفي الشفعة في الجوار فإذا لم تجب الشفعة للشريك إذا قسم وضرب الحدود كان الجار الملاصق لم يقسم ولا ضرب الحدود أبعد من أن يجب ذلك. اهـ.

وإسحاق، وأبي ثور (¬1). وقال أبو حنيفة والثوري: تثبت بالجوار (¬2). قال القرطبي (¬3): وقدم أبو حنيفة أولًا الشريك في الملك، ثم الشريك في الطريق، ثم الجار الملاصق، ولا حق للجار الذي بينهما الطريق. ¬

_ (¬1) انظر: السنة للبغوي، ح (2172). (¬2) أوجب أبو حنيفة والثوري الشفعة للحجار لحديث أبي رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الجار أحق بسقبه" وحديث ابن شهاب يعارضه وهو أصح إسنادًا. اهـ. من الاستذكار باختصار وقد توسط ابن القيم -رحمنا الله وإياه- بين الرأيين، فقرر ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكًا مع جاره في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، مثل الطريق أو الشرب وإلَّا فلا شفعة له، انظر: إعلام الموقعين (2/ 123، 132)، تح عبد الحميد. وهذا الرأي أخذ به الشوكاني ورجحه في نيل الأوطار (5/ 333)، عملًا بحديث جابر وإذا كان طريقهما واحدًا. وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- انظر: الفتاوى (30/ 383)، والاختيارات للبعلى (289). (¬3) المفهم (4/ 527)، انظر: الاستذكار (21/ 266)، وحجتهم في اعتبار الشركة في الطريق حديث عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي عن عطاء عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجار أحق بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبًا، إذا كانت طريقهما واحدة" -سيأتي تخريجه- وهذا حديث انفرد به عبد الملك وهو ثقة، وأنكره عليه شعبة وقال: لو جاء عبد الملك بحديث آخر مثل هذا لأسقطت حديثه، وما حدثت عنه بشيء. وقال الثوري: عبد الملك أعدل من الميزان. اهـ. من الاستذكار.

وعن ابن سريج قول للشافعي أنها تثبت للجار الملاصق دون المقابل، واختاره الروياني قال: ورأيت بعض أصحابنا يفتي به. وفي بعض تعاليق ابن الصلاح: أن صاحب "التقريب" خرجه. وفي "النهاية" عن صاحب "التقريب": أنه حكى عن ابن سريج الميل إليه. وحكى بعضهم عن الحسن بن حيّ: أن الشفعة لكل جار. وعن أبي قلابة والحسن: كذلك غير أن أبا قلابة قيد بأربعين دارًا والحسن قيَّده كذلك من كل جانب (¬1). وكتب عمر إلى شريح: أقضى بالشفعة للجار، والملاصق (¬2). وجاءت أحاديث تدل ظاهرًا على ثبوت الشفعة للجار. أحدها: حديث جابر، وفيه: (الجار اْحق بشفعته ينتظر بها إن كان غائبًا، إذا كانت طريقهما واحدًا). رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث غريب (¬3). ¬

_ (¬1) المحلى (10/ 33)، والمجموع (14/ 299، 309)، ونيل الأوطار (5/ 375، 378)، وفتح الباري (4/ 437)، والمغني (5/ 308، 311). (¬2) المحلى (9/ 100)، وأخبار القضاة لوكيع (3/ 192)، والاستذكار (21/ 268). (¬3) أبو داود في البيوع (3518)، والترمذي (1369)، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه (2494)، ومعرفة السنن والآثار (12019)، وأحمد (3/ 203).

قلت: في سنده عبد الملك بن أبي سليمان (¬1)، وقد تكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث. وقال أحمد (¬2) في حديثه: هذا حديث منكر. وقال يحيى: لم يروه غير عبد الملك. وقد أنكروه عليه. أما الترمذي فقال: إنه ثقة مأمون، لا نعلم أحدًا تكلم فيه غير شعبة، من أجل هذا الحديث. الحديث الثاني: حديث أبي رافع، رفعه: "الجار أحق بصقبه". رواه البخاري (¬3)، وهو من أفرادهم، ووهم ابن الجوزي فعزاه في "تحقيقه" (¬4) إلى مسلم أيضًا. والسقب: بالسين والصاد القرب، وأوَّلَ أصحابنا هذا الحديث على أنه أحق بالإحسان والبر، أو على أن المراد الجار الشريك المخالط (¬5). قال الأعشى: ¬

_ (¬1) ترجمته في تاريخ ابن معين (2/ 371)، والثقات لابن حبان (7/ 97)، والتهذيب (6/ 396)، والتاريخ الكبير للبخاري (3/ 1/ 417)، وتاريخ الثقات للعجلي (309)، والضعفاء الكبير (3/ 31). انظر: ت (3) ص 418. (¬2) انظر: الميزان (2/ 656)، والضعفاء الكبير (3/ 31). (¬3) البخاري أطرافه (2258)، وأبو داود (3516)، والنسائي (7/ 320)، وابن ماجه (2495). (¬4) التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 215). (¬5) قال البغوي -رحمنا الله وإياه- في شرح السنة (2172)، والسقب: بالسين والصاد: في الأصل القرب، يريد بما يليه، وبما يقرب منه، يقال: سبقت الدار وأسبقت: أي: قربت، وليس في هذا الحديث ذكر =

أجارتنا، بيني، فإنكِ طالقة (¬1) فسمى الزوج: جاره لمخالطتها له. وقال الشافعي (¬2): يحتمل معنيين لا ثالث لهما: أن يكون أراد الشفعة لكل جار أو أراد بعض الجيران. قال: وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شفعة إلا فيما قسم"، فدل على أن الشفعة للجار الذي لم يقاسم دون الجار المقاسم. وذكر البيهقي (¬3): أن المراد بالحديث أنه أحق بأن يعرض عليه ¬

_ = الشفعة، فيحتمل أن يكون المراد منه الشفعة، ويحتمل أنه أحق بالبر والمعونة، والأول أقوى. اهـ. (¬1) والشطر الثاني: كذاكِ أمور الناس تغدو طارقه. وفي اللسان "طلق" بدل "طالقة" و"غاد" بدل "تغدو". انظر: ديوان الأعشى ص (313)، وفي المحبر (309): أيا جارتنا بيني، فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه (¬2) انظر: معرفة السنن والآثار (8/ 313) وبقية الكلام. قال: فيقع اسم الجوار على الشريك؟ قلت: نعم، وعلى الملاصق، وغير الملاصق: أنت تزعم أن الجوار أربعون دارًا من كل جانب؟ قال: أفتوجدني ما يدلّ على أن اسم الجوار يقع على الشريك؟ قلت: زوجتك التي هي في بيتك يقع عليها اسم جوار. قال حمل ابن مالك بن النابغة: كنت بين جارتين لي، يعني ضُرتين. وقال الأعشى: وساق البيت المذكور. اهـ. وانظر: السنن الكبرى (6/ 106). (¬3) السنن الكبرى (6/ 105، 106).

قبل البيع، واستأنس بأن أبا رافع طلب من سعد أن يبتاع منه بيتين، فقال: له والله لا أزيدك على أربعمائة دينار: إما مقطعة وإما منجمة. فقال أبو رافع: سبحان الله! والله لقد منعتها من خمسمائة نقدًا، فلولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الجار أحق بصقبه، ما بعتك"، وهذا يضعّف قول الأصحاب الحديث على البر والإحسان. الحديث الثالث: حديث الحسن عن سمرة مرفوعًا: (جار الدار أحق بالدار) (¬1) رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه وأعله ¬

_ (¬1) الترمذي (1368)، وأبو داود (3/ 286)، وأحمد (4/ 308)، (5/ 8، 12، 13، 18)، والبيهقي (6/ 106)، والطبراني (7/ 236، 237، 238)، والطحاوي معاني الآثار (4/ 123)، والطيالسي (904)، وابن الجارود (644)، والعلل للترمذي (1/ 568). قال الترمذي في العلل: حديث سمرة صحيح، وروى عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، وروي عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: الصحيح حديث الحسن عن سمرة، وحديث قتادة عن أنس غير محفوظ ولم يعرف أن أحدًا رواه عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن عيسى بن يونس. وقال في السنن: حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "جار الدار أحق بالدار". قال: وفي الباب عن الشريد، وأبي رافع، وأنس، قال: حديث سمرة حديث صحيح، وروى عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. . . . =

غيره بأن الحسن لم يسمع من سمرة، وبأنه روى مرفوعًا عن الحسن. الحديث الرابع: عن أنس (¬1) مثله. رواه الترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عنه. ورواه النسائي أيضًا وصححه ابن حبان. وروى النسائي (¬2) بإسناد صحيح من حديث جابر: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة بالجوار)، وقد يحمل على أن المراد الشريك أو أن الأحاديث محمولة على الندب، أو أن الأحاديث الأول أصح وأشهر. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): استدل بحديث الكتاب على سقوط الشفعة للجار من وجهين. ¬

_ = وروى عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والصحيح عند أهل العلم حديث الحسن، عن سمرة، ولا نعرف حديث قتادة، عن أنس إلَّا من حديث عيسى بن يونس وحديث عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب وهو حديث حسن. وروى إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبي رافع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت محمدًا يقول: "كلا الحديثين عندي صحيح". اهـ. (¬1) معاني الآثار للطحاوي (4/ 122)، وابن حبان (5182)، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 480)، وانظر: التعليق السابق. (¬2) النسائي (7/ 321)، قال السيوطي قوله: "الجوار"، أي: ومراعاة الجوار وهذا لا دليل فيه لا للمثبت ولا للنافي والله تعالى هو الكافي وهو أعلم بما هو الحق الوافي. اهـ. (¬3) إحكام الأحكام (4/ 129).

أحدهما: المفهوم، فإن قوله: "جعل الشفعة في كل ما لم يقسم" يقتضي أن لا شفعة فيما قسم. وقد ورد في بعض الروايات: "إنما الشفعة" وهو أقوى في الدلالة. لاسيما إذا جعلنا: "إنما" دالة على الحصر بالوضع, دون المفهوم. الثاني: قوله: "فإذا وقعت الحدود" إلى آخره، وهو يقتضي ترتب الحكم على مجموع أمرين: وقوع الحدود، وصرف الطرق. وقد يقول من يثبتها للجار -إن المرتب على أمرين لا يلزم منه ترتبه على أحدهما. وتبقى دلالة المفهوم الأول مطلقة-، وهو قوله: "إنما الشفعة في ما لم يقسم"، فمن قال بعدم ثبوتها تمسك بها، ومن خالفها يحتاج إلى إضمار قيد آخر، يقتضي اشتراط أمر زائد، وهو صرف الطرق مثلًا، وهذا الحديث يستدل به، ويجعل مفهومه مخالفة الحكم عند انتفاء الأمرين معًا [أعني] (¬1) وقوع الحدود وصرف الطرق. وقال القاضي (¬2) عياض: لو اقتصر على القطعة الأولى من الحديث، وهي ما إذا وقعت الحدود لكان فيه حجة على عدم شفعة الجوار، لأن الجار بينه وبين جاره حدود، ولكنه لما أضاف إليه و"صرفت الطرق" تضمن أنها تنتفي بشرطين: ضرب الحدود، وصرف الطرق، التي كانت قبل القسمة، ولمن أثبتها أن يقول المراد به صرف الطرق التي يشترك فيها الجاران. ¬

_ (¬1) زيادة من إحكام الأحكام. (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 308).

الوجه الثالث: عدم ثبوتها فيما لا يقبل القسمة، لاسيما رواية البخاري السالفة الدالة على الحصر فيما يقسم، وهذا هو الأصح من قولي الشافعي، ووجه استنباط ذلك من الحديث، أن هذه الصيغة في النفي تشعر بالقبول، فيقال للبصير: لم يبصر كذا. ويقال للأكمه: لا يبصر كذا (¬1)، وإن استعمل أحد الأمرين في الآخر، فذلك للاحتمال. فعلى هذا: يكون في قوله: "فيما لم يقسم" إشعار بأنه قابل للقسمة. وإذا دخلت "إنما" المقتضية للحصر: اقتضت انحصار الشفعة في القابل. كذا قرره الشيخ تقي الدين. واعترض الفاكهي: فقال قولهم إن المستحيل لا ينفى "بلم"، وإنما ينفى "بلا"، وإنما ينفى "بلم" الممكن دون المستحيل فيه نظر، والذي يظهر لي أنه غير مطرد، فإنه قد جاء نفي المستحيل عقلًا وشرعًا "بلم" في أفصح كلام. قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (¬2). الرابع: ثبوت الشفعة بشرطها لكل أحد من مسلم وذمي ومقيم ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 130)، قوله: "لم يبصر كذا"، أي: مع قبوله للإبصار والإدراك بالحاسة، وللأكمة وهو الذي ولد أعمى ويقال له ممسوح العين كما في الكشاف لا يبصر كذا، أي: لعدم قبوله الإبصار لفقد حاسته، فهذا وجه التفرقة بين لم، ولا، ومنه قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} , إلَّا أنه كما قال المحقق قد يستعمل أحد الأمرين، أي: العبارتين في الآخر فيؤتى بلم في الثاني، وبلا في الأول ومنه قوله تعالى: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، مع إمكانه في نفسه. اهـ. (¬2) سورة الصمد: آية 3، 4.

وحضري وغائب وبدوي، ووجه ذلك إطلاق الحديث وعدم بيان من ينسب له. وانفرد الشعبي والحسن وأحمد (¬1)، فقالوا: لا شفعة لذمي على مسلم لحديث أنس رفعه: "لا شفعة لنصراني". قال أبو حاتم (¬2): حديث باطل. وقال الخطيب (¬3): الصحيح وقفه على الحسن. ¬

_ (¬1) تثبت الشفعة عند المالكية والشافعية والظاهرية للذمي الكافر على المسلم كما قال الحنفية، انظر: الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 856). أما عند الحنابلة فلا يثبتون للكافر شفعة في بيع عقار لمسلم لحديث "لا شفعة لنصراني" حديث رواه ابن عدي في الكامل (7/ 2520)، والبيهقي (6/ 108)، والطبراني في الصغير (1/ 206)، وتاريخ بغداد (13/ 435)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 109)، وابن حاتم في العلل (1/ 477)، وقال: هو باطل وذكره في مجمع الزوائد (4/ 159)، وابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 217)، فهو يخصص عموم ما احتجوا به، ولأن الأخذ بالشفعة يختص به العقار، فأشبه الاستعلاء في البنيان، والكافر ممنوع من ذلك بالنسبة للمسلم، ولأن في شركته ضررًا بالمسلم، وانظر: كلام الإِمام أحمد في مسائل أبي داود (203)، وابنه عبد الله (298)، وإسحاق بن هاني (2/ 26)، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، الاختيارات (290)، وابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/ 291، 299)، حيث أطال النفس فيه، وحاشية الروض لابن قاسم (5/ 442)، وانظر: معجم فقه السلف (6/ 133). (¬2) انظر: التعليق السابق. (¬3) انظر: التعليق السابق.

وقال الدارقطني والبيهقي (¬1): إنه الصواب. لا جرم قاله باقي الأئمة الأربعة بثبوت الشفعة له كعكسه. وانفرد الشعبي (¬2) أيضًا بقوله: لا شفعة لمن لا يسكن المصر. ¬

_ (¬1) انظر: ت (1)، ص 426. (¬2) المحلى (9/ 94)، والمغني (7/ 526).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 302/ 5/ 58 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال يا رسول الله، إني أصبن أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها"، قال: فتصدق بها، غير أنه لا يباع أصلها, ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها: "أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا، غير متمول فيه" (¬1). وفي لفظ: "غير متأثل". ¬

_ (¬1) البخاري إلى أطرافه (2313)، ومسلم (1632)، والترمذي (1375)، وأبو داود (2878)، والنسائي (6/ 230)، وفي السنن الكبرى له (4/ 93، 94)، والمسند (2/ 12، 13)، وابن ماجه (2396)، والدارقطني (4/ 194)، والبيهقي في السنن (6/ 162)، والبغوي في شرح السنة (8/ 287)، وابن أبي شيبة (5/ 109).

الكلام عليه من وجوه: الأول: في تحرير لفظه هذا الحديث بلفظيه رواه البخاري كذلك إلَّا أنه قال: "فما تأمر به" (¬1) بدل "تأمرني به"، وقال: "فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول" وقال ابن سيرين: "غير مُتَأَثِّلٍ مالًا" ذكره في آخر كتاب الشروط. وترجم عليه الشروط في الوقف. وذكره في إيتاء الوصايا في باب (¬2): ما للوصي أن يعمل في مال اليتيم وما يأكل منه بقدر عمالته. ولفظه: "أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقال له ثمغ، وكان نخلًا -فقال عمر: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني استفدت مالًا وهو عندي نفيس فأردت أن أتصدق به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره، فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يوكل صديقه غير متمول به" وذكره في باب (¬3): الوقف كيف يكتب؟ بلفظ: أصاب عمر ¬

_ (¬1) الفتح (5/ 354)، ح (2737). (¬2) الفتح (5/ 392)، ح (2764). (¬3) الفتح (5/ 399)، ح (2772).

بخيبر أرضًا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء" إلى آخره. وذكره في الوقف (¬1) للغني والفقير والضيف مختصرًا. وكذا في باب (¬2): نفقة القيم للوقف. ورواه مسلم بلفظ المصنف سواء، وقال: "فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها" إلى آخره، وقال: "لا جناح" (¬3) بدل "ولا جناح" وهي نسخة في الكتاب أيضًا وقال: "متأثل مالًا"، ساقه البخاري أيضًا وفي لفظ له: "لم أُصب مالًا أحب إليّ ولا أنفس عندي منها". الثاني: في ألفاظه: الأول: معنى "أنفس" أجود والنفيس الجيد وقد نفس -بضم الفاء- نفاسة. الثاني: قال الأزهري (¬4): حَبَّسْتُ الأرض: أكثرُ استعمالًا من وقفتها. قال الشافعي -رضي الله عنه -: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا ولا أرضًا تبررًا وإنما حبس أهل الإِسلام. ¬

_ (¬1) الفتح (5/ 199)، ح (2773). (¬2) الفتح (5/ 406)، ح (2777). (¬3) رواية مسلم وأيضًا البخاري (5/ 406)، ح (2778). (¬4) الزاهر (171).

قلت: وأوقفت لغة رديئة (¬1) في وقفت وحقيقة الوقف تحبيس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه يقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته يصرف في جهة خير تقربًا إلى الله تعالى. ¬

_ (¬1) الوقف والتحبيس والتسبيل والتحريم والتأبيد والصدقة، بمعنى واحد. وهو لغة: الحبس عن التصرف، يقال: وقفت كذا: أي حبسته، ولا يقال: أوقفته إلَّا في لغة تميمية، وهي رديئة وعليها العامة. ويقال: أحبس، لاحتبس عكس وقف، فالأولى فصيحة، والثانية رديئة، ومنه الموقف لحبس الناس فيه للحساب. ثم اشتهر: إطلاق كلمة الوقف على اسم المفعول وهو الموقوف، ويعبر الوقف بالحبس، وهذه الألفاظ منها الصريح وهي: وقفت وحبست وسبلت. ومنها الكناية وهي: تصدقت، وحرمت، وأبدت. فلا يصح الوقف بألفاظ الكناية إلَّا بالنية أو الاقتران بأحد الألفاظ الخمسة. ويجوز الوقف بالفعل كمن يؤذن في أرض ويأذن للناس في الصلاة فيها أو يجعل أرضه مقبرة. تعريف الوقف شرعًا: هو حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته وغيره، على مصرف مباح موجود -أو بصرف ريعه على جهة بر وخير- تقربًا إلى الله تعالى. هذا عند الشافعية والحنابلة. أما عند الحنفية: هو حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدق بالمنفعة على جهة الخير. أما عند المالكية: هو جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكًا بأجرة، أو جعل غلته كدراهم، لمستحق، بصيغة، مدة ما يراه المحبس. اهـ. من الفقه الإِسلامي (8/ 153 - 155).

الثالث: قوله: "وتصدقت بها" فيه احتمالان أبداهما الشيخ تقي الدين: الأول: أن يكون راجعًا إلى الأصل المحبس. وهو ظاهر اللفظ، ويتعلق بذلك ما تكلم به الفقهاء من ألفاظ التحبيس، الذي منها: "الصدقة" (¬1) ومن قال منهم بأنه لابد من لفظ يقترن بها، ويدل على معنى الوقف والتحبيس، كالتحبيس في الحديث، وكقولنا "مؤبدة" "محرمة" أو "لا تباع ولا توهب". الثاني: أن يكون قوله: "وتصدقت بها" راجعًا إلى الثمرة (¬2) على حذف المضاف -أي: وتصدقت بثمرتها أو ريعها- ويبقى لفظ: "الصدقة" على إطلاقه (¬3). وبه جزم القرطبي (¬4). الرابع: قوله: "فتصدق فيها" إلى آخره هو محمول -عند ¬

_ (¬1) قال الصنعاني [في الحاشية (4/ 133)، قوله: "التي منها الصدقة" قالوا الألفاظ في هذ الباب ستة -وقد مرت- قالوا: وأصلها الصدقة إلَّا أنها اشتركت بينه وبين غيره تأخرت عن رتبة الصريح وصار أعلى المراتب لفظ الوقف وللشافعية وغيرهم تفاصيل في صريح الوقف وكناياته. اهـ. (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 134)، قوله: "راجعًا إلى الثمرة" لعل هذا يتعين لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "حبست أصلها" فدل على أن المراد بالوقفية الرقبة فعين بقوله: "تصدقت" عن تصرف غلتها يكون تأسيسًا وبيانًا لحكم الغلة، وعلى الأول يكون تأكيدًا، والتأسيس خير من التأكيد. اهـ. (¬3) وقال أيضًا: "ويبقى على إطلاقه" غير مراد به التحبيس. اهـ. (¬4) المفهم (4/ 602).

الشافعي- وجماعة على أن ذلك حكم شرعي ثابت للوقف، من حيث -هو وقف (¬1)، ويحتمل- كما قال الشيخ تقي الدين (¬2): أن يكون ذلك إرشادًا إلى شرط هذا الأمر في هذا الوقف، فيكون ثبوته بالشرط، لا بالشرع (¬3). الخامس: المصارف المذكورة مصارف خير وقربة، وهي جهة الأوقاف فلا يوقف على ما ليس بقربة من الجهات العامة. واختلف أصحابنا فيما إذا وقف على جهة لا يظهر فيها القربة كالأغنياء. والأصح: عندهم الصحة، كما هو مقرر في الفروع مع ما فيه من البحث. السادس: المراد بالقربى هنا قربى عمر - رضي الله عنه - ظاهرًا ويحتمل على بعد أن المراد بها من ذكر في الآية. وبالفقراء: ما هو المقرر في الزكاة. وبالرقاب: ما هو مقرر أيضًا فيها، وهو أما الكتابة كما ذهب إليه الشافعي. وإما العتق، كما ذهب إليه مالك. ¬

_ (¬1) وقال أيضًا: قوله: "ثابت للوقف من حيث هو وقف"، هذا هو الظاهر وأنه صفة كاشفة، فإنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث"، كما قدمنا فالأظهر ما قاله الشافعي. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 134). (¬3) وقال أيضًا قوله: "بالشرط لا بالشرع" لا فائدة للخلاف، لأنه قد أمر الشارع بالشرط، فهو كما لو كان صفة كاشفة، إلَّا أن يقال على تقدير الصفة أنه إذا قال: وقفت اتصف بأنه لا يباع الخ. . . . بخلاف ما إذا شرطا فإنه لابد من النطق به. اهـ.

وقال الزهري: إن سهم الرقاب يقسم بينهما، قال ابن حبيب: ويفدي منه الأساري وخالفه غيره. ولابد أن يكون معناها معلومًا عند إطلاق هذا اللفظ وإلَّا فإن المصرف مجهولًا بالنسبة إليها. والمراد بسبيل الله: الجهاد عند الأكثرين، ومنهم من عداه إلى الحج. وبابن السبيل: المسافر سمي بذلك لملازمته السبيل، والقرينة تقضي اشتراط حاجته. وبالضيف: من نزل بقوم. والمراد: قراه ولا تقتضي القرينة تخصيصه بالفقر. وبالصديق: صديق الوالي عليها والعامل فيها، ويحتمل صديقًا للمحبس وفيه بعد كما قاله القرطبي. السابع: قوله: "غير متأثل"، أي: متخذ أصل مال وجامعه يقال: تأثلت المال اتخذته أصلًا قال الشاعر: ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي أي: المجد القديم المؤصَّل. (¬1) الوجه الثالث: قد أسلفنا في رواية البخاري (¬2) أن اسم هذه ¬

_ (¬1) نهاية السقط والذي ابتدىء عند قول المصنف -رحمنا الله وإياه- في الحديث السادس من أحاديث البيوع "أذابوه: جملوه" من الجزء السابع باب العرايا وغير ذلك. (¬2) الفتح (2764).

الأرض التي وقفها عمر "ثمغ" وهي بفتح الثاء المثلثة ثم ميم ساكنة كما قيده النووي في "شرح مسلم" (¬1). وفي المفهم (¬2) للقرطبي: ضبط الكاتب -فتحها- أيضًا، ثم غين معجمة وفيه أنه كان نخلًا (¬3)، وكذا هو في "صحيح ابن حبان" (¬4) أيضًا و"سنن الدارقطني" والبيهقي. وفي رواية للنسائي (¬5) إنها مائة سهم بخيبر، وأنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "احبس أصلها , وسبل ثمرتها" وهذه الرواية ترجح أحد الاحتمالين السالفين في قوله: "وتصدقت بها" وفي رواية له (¬6): "إنه اشتراها بمائة رأس كانت له". وقيل: إنها أول صدقة تصدق بها في الإسلام. حكاه الماوردي (¬7) من الشافعية. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 86)، قال في معجم البلدان لياقوت (2/ 84)، ثَمْغٌ بالفتح ثم السكون، والغين المعجمة: موضع مالٍ لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. اهـ. المقصود منه، قال أبو عبيد البكري: هي أرض تلقاء المدينة. اهـ. (¬2) (4/ 599). (¬3) انظر: البيهقي (6/ 159). (¬4) ابن حبان (4899)، والبيهقي (6/ 159)، والدارقطني (4/ 186، 187)، وأحمد (2/ 114)، والنسائي (6/ 232). (¬5) النسائي (6/ 232)، وابن ماجه (2397)، والبيهقي (6/ 162). (¬6) النسائي (6/ 232)، ومعنى هذا. (¬7) مسند الإِمام أحمد (2/ 155)، والأوائل لابن أبي عاصم (83)، والأوائل للطبري (59).

وقيل: وقّف - صلى الله عليه وسلم - أموال مخيريق التي أوصى بها له، وقاتل معه، وهو يهودي مات في السنة الثالثة من الهجرة (¬1). وفي كتاب "الوقف" للخبازي (¬2) الحنفي: شيء كثير من ذلك أكثره عن الواقدي. الرابع في أحكامه: [الأول] (¬3): صحة أصل الوقف وهو إجماع وما يروى عن بعض الأئمة (¬4) فيه ردوه إلى أن الوقف بمجرده لا يلزم، وقد خالفه أبو يوسف لما بلغه الحديث ووافقه محمَّد، لكنه يقول من شرط لزومه القبض. وكان إسماعيل بن اليسع (¬5) [في مصر] (¬6) قاضيًا يرى فيه بالرأي المروى عن بعض الأئمة، فأرسل الليث إلى هارون الرشيد إنا لم ننقم عليه دينارًا ولا درهمًا، ولكن أحكامًا لا نعرفها يعني قوله: ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ المدينة لابن شبة (1/ 169)، والسيرة النبوية لابن هشام (2/ 140)، (3/ 38)، والإصابة لابن حجر (6/ 57)، وطبقات ابن سعد (1/ 503، 503)، تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسبل التي وجهها فيها (78). (¬2) هو عمر بن محمَّد جلال الدين مات لخمس بقين من ذي الحجة، سنة إحدى وتسعين وستمائة في عشر السبعين. ترجمته في طبقات الفقهاء لطاش كبرى (122)، تاج التراجم (220). (¬3) ساقطة من ن هـ. (¬4) انظر: الفقه الإِسلامي (8/ 153، 156). (¬5) انظر: كتاب الولاة وكتاب القضاة تأليف أبي عمر محمَّد بن يوسف الكندي (271)، مع اختلاف يسير. (¬6) في ن هـ ساقطة.

بعدم صحته، فأرسل هارون كتابًا فعزله ولا شك في شهرة الوقف على جهة القربات، وتداوله خلفًا عن سلف. وحديث: "لا حبس بعد سورة النساء" (¬1) وهو بفتح الحاء لا بضمها. والمراد به: حبس الزانية بالبيوت [لا هذا] (¬2). الثاني: التقرب إلى الله تعالى بأنفس الأموال وأطيبها وعليه عمل أكابر الصالحين سلفًا وخلفًا كعمر وغيره قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وحديث أبي طلحة في بيرحا شهير في ذلك في الصحيح (¬3). ¬

_ (¬1) البيهقي (6/ 162)، والسنن والمعرفة (9/ 12293)، والطبراني في الكبير (11/ 365)، والدارقطني (4/ 66، 68)، والعقيلي (3/ 397)، وذكره في مجمع الزوائد (7/ 2)، قال الدارقطني: "لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه، وهما ضعيفان"، وقال الهيثمي: فيه ابن لهيعة وهو ضعيف. وضعفه الألباني في الضعيفة (273). قال ابن الأثير في بالنهاية (1/ 329)، أراد أنه لا يوقف مال ولا يزري عن وارثه، وكأنه أشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه، كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حَبَسُوهنّ عن الأزواج، لأن أولياء الميت كانوا أولى بهنّ عندهم، والحاء في قوله: "لاحُبس" يجوز أن تكون مضمومة ومفتوحة على الاسم المصدر. اهـ. (¬2) في ن هـ (لأن هذا). (¬3) البخاري (1461)، ومسلم (998)، وأحمد (3/ 141)، والموطأ (2/ 995، 996)، والبغوي في السنة (1683)، وفي التفسير (1/ 325).

الثالث: أن خيبر فتحت عنوة، وأن الغانمين ملكوها واقتسموها واستقرت أملاكهم على حصصهم ونفذ تصرفاتهم فيها وسيأتي الخلاف في ذلك الباب (¬1). الرابع: استشارة الأكابر وأخذ رأيهم، والائتمار بأمرهم فيما يعرض للشخص من المقاصد الصالحة، وذكر ذلك ليس من باب إظهار العمل للرياء والسمعة، وقد أرشده -عليه الصلاة والسلام- إلى الأصلح في الصدقة، وهو التحبيس من حيث أنه صدقة جارية في الحياة وبعد الموت. الخامس: أن التحبيس صريح في الوقف [وفيه وجه آخر للشافعية (¬2) [أنه كناية] لأنه لم تشتهر اشتهار الوقف] (¬3) وأن لفظة الصدقة لابد فيها من قرينة دالة على الوقف، والأصح عند الشافعية أن قوله: تصدقت. فقط ليس بصريح، وإن نوى إلَّا أن يضيفه إلى جهة عامة أو يقول: تصدقت. بكذا صدقة محرمة، أو موقوفة، أو لا تباع ولا توهب (¬4). السادس: أن أصل الوقف ينتقل إلى الله تعالى قربة بحيث يمتنع بيعه وإرثه وهبته، إذا كان في الصحة وجواز التصدق. ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة: قال الأصمعي سمعت إعرابيًا يقول إذا استخار العبد ربه، واستشار نصيحه، واجتهد رأيه، فقد قضى لنفسه ما عليها ويفعل الله تعالى من أمره ما أحب. انظر: ص 478. (¬2) زيادة يقتضيها السياق من مغني المحتاج (2/ 382). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: مغني المحتاج (2/ 381)، والمهذب (1/ 442).

السابع: أنه لا يناقل به أيضًا لأنه بيع. ونقل الجوري -بضم الجيم- من الشافعية عن أبي يوسف وغيره أنه لو اشترط أن له بيع الوقف إذا عطب أو خرب أو تعطلت منافعه أو إن يصرف ثمنه في أرض غيره، فيكون موقوفًا على ما سمى في وقفه الأول، أو شرط البيع إذا رأى الحظ في نقله إلى موضع آخر إن جميع ذلك جائز. قال: وهو قوي بدليل أن المراد من الوقف وقف الأصل عن البيع والإتلاف، فإذا آل إلى الخراب، وعطب لم يكن لاحتباسه وجه، فكان كمن حبس فرسًا في سبيل الله، فهرم حتى لا يبقى فيه موضع للركوب، فيستبدل به وكعبد قطعت يده أو رجله أو عمى وكإجذاع دار موقوفة إذا انكسرت، وشجر تحطم، فلابد من استبداله، فإذا جاز بيع ذلك والاستبدال به بلا شرط لأنه بيعه أحظ للوقف فكذا بيعه بالشرط أجوز وهذا الذي قواه غريب عند الشافعية، وما اشتهر عن أبي [يوسف] (¬1) من الاستبدال بالوقف إذا كان فيه الحظ رواية منكرة. ومذهب أحمد (¬2) أنه لا تجوز المناقلة به كما حكاه أبو داود والأثرم عنه، وكذا هو في كتب أصحابه ما لم يتعطل الوقف، فإذا تعطل وخرب بيع عندهم. ونقل الجوري أيضًا -بضم الجيم- عن ابن مسعود أن عمر ¬

_ (¬1) في ن هـ أبي حنيفة. (¬2) المغني (8/ 223).

أمر بنقل مسجد (¬1) وعزاه إلى المسعودي وهو ثقة إلَّا أنه تغير بأخره. ورواه القاسم مرسل. الثامن: أن الوقف مخالف لسوائب الجاهلية من حيث أن المقصود منه التبرر، فلو قصد به مضارة أحد أو منع حق لا يثاب باطنًا. التاسع: صحة شرط الواقف المطابق للكتاب والسنَّة واتباعه. العاشر: فضيلة الوقف على من ذكر من الأصناف وما شاكله من الأمور العامة. الحادي عشر: جواز الوقف على الأغنياء من حيث أن بعض المذكورين في الحديث غير مقيد بالفقر، بل مطلق كذوي القربى والضيف، وهو الأصح عند أصحابنا كما سلف. الثاني عشر: المسامحة في بعض الشروط حيث علق الأكل على المعروف وهو غير منضبط. الثالث عشر: تحريم أخذ العمال وغيرهم ممن يليها أكثر مما يستحقه شرعًا، ويأخذ على القيام بمصالح الوقف بالمعروف والتقدير فيه إلى الحاكم. ¬

_ (¬1) المغني (8/ 221)، وحاشية الروض المربع (5/ 564)، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى: يجوز بيع الوقف أو المناقلة لنقص أو رجحان مغلة. واختار هو وتلميذه جواز المناقلة به للمصلحة بشرط أن يكون صادرًا لمن له الولاية على الوقف، من جهة الوقف، أو من جهة الحاكم. انظر: الفتاوى (31/ 92، 93، 213، 225، 238، 252)، والاختيارات للبعلي (295، 313).

الرابع عشر: جواز أكل الضيفان منها بالمعروف، وهو أن لا يتعطل مقصود شرط الواقف. الخامس عشر: كراهة التكثر والتأثل من مال الأوقاف، بل يأكل ما يعتاد شرعًا من غير تجاوز. [السادس عشر] (¬1): فضيلة صلة الأرحام وغيرهم من المحتاجين والوقف عليهم، فإن المراد بالقربى هنا قربى عمر كما سلف. السابع عشر: فيه فضيلة ومنقبة ظاهره لعمر -رضي الله عنه -. الثامن عشر: فيه قبول ما أشير به عليه والمبادرة إليه. التاسع عشر: المبادرة إلى فعل الخير المتعدى. العشرون: وفيه أيضًا جواز ذكر الوالد باسمه من غير كنية وقد تقدم [سره] (¬2) في الوجه الرابع عشر في الكلام على الحديث الخامس من كتاب الزكاة (¬3). الحادي والعشرون: فيه أيضًا جواز وقف المشاع, لأن هذه المائة سهم من حيث كانت مشاعة، كما رده الشافعي ولا يسرى إلى الباقي, لأنها من خواص العتق [ولم ينقل] (¬4) أن الوقف سرى من ¬

_ (¬1) تصحيح الأوجه من ن هـ. (¬2) في هـ (ذكره). (¬3) (5/ 86) من هذا الكتاب المبارك. (¬4) في ن هـ ساقطة.

حصة عمر إلى غيرها من باقي الأرض ولا خلاف عندنا في هذا، وفي "شرح هذا الكتاب للصعبي": أن بعض متأخري الشافعية حكى السراية وربما حكم به بعض متأخري زمنه واختاره ثم قال: وهذا ليس بمشهور وهو كما قاله، قال: ويجمع بين هذا وبين تسمية الأرض بثمغ فإن الظاهر أنها قد أفرزت، فإنها كانت مشاعة أولًا ثم أفرزت بعد الوقف، ولا [يخفى] (¬1) هذا الجمع من نظر. وقال القرطبي في "مفهمه" (¬2): هذه الأرض صارت له بالقسمة، فإنه - عليه الصلاة والسلام - قسم أرض خيبر لما افتتحها عنوة، ورواية النسائي أنه اشتراها بمائة، وليس له مخالف. الثاني والعشرون: روى الدارقطني أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "احبس أصلها" واجعل ثمرها صدقة، قال فكتب" إلى آخره، كذا ذكره بفاء التعقيب، وهو دال على أن الوقف كان حينئذٍ، لا كما ادعاه بعضهم أنه وقف في المرض مضافًا إلى ما بعد الموت وأنه - عليه الصلاة والسلام - أشار به. الثالث والعشرون: فيه أن من وقف وقفًا ولم يعين له ناظرًا يجوز، لأنه قال: لا جناح على من وليها، أن يأكل منها بالمعروف. ولم يعين أحدًا. الرابع والعشرون: فيه أيضًا أن الواقف إذا صار بصفة الموقوف عليه ينتفع بالوقف, لأنه أباح لمن وليه، وقد يليه الواقف، وقد قال ¬

_ (¬1) هكذا ولعله (يخلو). (¬2) المفهم (4/ 599).

- عليه الصلاة والسلام - للذي أهدى البدنة "اركبها". الخامس والعشرون: استدل أحمد بقوله: "لا جناح على من وليها بالمعروف" على أنه إذا شرط لنفسه عند الوقف نفعه مدة حياته صح لأن عمر هو الذي وليها، وخالفه مالك وغيره، لأنه في معنى الواقف على نفسه، وهو لم يرد نفسه وإنما ذكر صفة عامة فإذا اتصف بها دخل.

الحديث السادس

الحديث السادس 303/ 6/ 58 - عن عمر - رضي الله عنه - قال: (حملت على فرس في سبيل الله؛ فأضاعَهُ الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، فظننت أنه يبيعه برخص. فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه"). وفي لفظ: "فإن الذي يعود في صدقته، كالكلب يعود في قيئه" (¬1). والكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ترجم [البخاري عليه] (¬2) على حديث ابن عباس الآتي باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته. ثم ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1490)، ومسلم (1621)، وأبو داود (1593)، في الزكاة: باب الرجل يبتاع صدقته، والبغوي (1699)، وأحمد (2/ 55، 7، 34)، وعبد الرزاق (16572)، والترمذي (668)، والنسائي (5/ 109)، والبيهقي (4/ 151)، والحميدي (15)، ومالك (1/ 282)، وابن ماجه (2390). (¬2) في هـ (عليه البخاري).

ذكره (¬1) بلفظ: "بائعه" بدل: "يبيعه"، والباقي مثله. إلا أنه لم يذكر: "ولا تعد في صدقتك"، وقال: "في صدقته" بدل في: "هبته". [وقال] (¬2): بعد قوله: "بدرهم واحد". ثم ترجم (¬3) عليه بعد ذلك. إذا حمل رجلًا على فرس فهو كالعُمرى والصدقة. وقال بعض الناس: له أن يرجع فيها، وذكره مختصرًا بلفظ: (حملت على فرس في سبيل الله، فرأيته يباع، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك"). وذكره في الجهاد (¬4)، باب: الجعائل والحملان في [سبيل الله] بنحوه. وذكره في باب (¬5): إذا حمل على فرس فرآها تباع، كذلك وفي لفظ: "لا تشتره وإن بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه". وفي بعض طرق البخاري (¬6) أن عمر حمل على فرس له في ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (5/ 235)، ح (2623). (¬2) لعلها وقاله أي جملة: فإن العائد في هبته. . . . الحديث. (¬3) البخاري الفتح (5/ 246)، ح (2636). (¬4) البخاري الفتح (6/ 123)، ح (2970). ما بين القوسين في الفتح (السبيل). (¬5) البخاري الفتح (6/ 139)، ح (3003). ما بين القوسين في المخطوط (كان)، وما أثبت من الفتح. (¬6) البخاري الفتح (5/ 405)، ح (2775)، من رواية ابن عمر.

سبيل الله، أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له فحمل عليها رجلًا. . . . الحديث. ورواه مسلم بألفاظ، منها: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته: كالكلب يعود في قيئه"). ومنها: "لا تبتعه [ولا تعد في صدقتك] " (¬1). ومنها: أنه حمل على فرس في سبيل الله، فوجده عند صاحبه، وقد أضاعه، وكان قليل المال، فأراد أن يشتريه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: "لا تشتره وإن أُعطيته بدرهم، فإن مثل العائد في صدقته: كمثل الكلب يعود في قيئه". وفي رواية للشافعي في "سننه" (¬2): "لا تشتره، ولا شيئًا من نتاجه". ورواه المزني عن الشافعي بلفظ: "دعها حتى يوافيك وأولادها جميعًا". الثاني: اسم هذا الفرس "الورد" (¬3) أهداه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تميم الداري، فأعطاه عمر، ذكره ابن سعد، وقد أسلفنا عن إحدى روايات البخاري أنه - عليه الصلاة والسلام - أعطاه عمر ليحمل عليه، فحمل عليها رجلًا. ¬

_ (¬1) هكذا اللفظ في مسلم وأما في الأصل فهي: وإن أعطاكه بدرهم. (¬2) السنن المأثورة للشافعي (331)، ح (381). (¬3) طبقات ابن سعد (1/ 490).

الثالث: أن (¬1) هذا الحمل حمل تمليك، ليجاهد عليه، لا حبسًا عليه وإن كان محتملًا لكنه مرجوح، لأن الذي أعطيه أراد بيعه، ولم ينكر عليه ذلك، ولو كان حبسًا لم يبع، إلا أن يحمل على أنه انتهى إلى حالة عدم الانتفاع به فيما حبس عليه، وليس في اللفظ ما يشعر به، ولو ثبت أنه حمل تحبيس لكان في ذلك متعلق في مسألة وقف الحيوان، ويدل على أنه حمل تمليك، قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تعد في صدقتك"، وقوله: "فإن العائد في صدقته"، وفي لفظ: "في هبته كالكلب، يعود في قيئه"، ولو كان حبسًا لعلله به، دون الهبة ونحوها. الرابع: معنى "أضاعه" لم يحسن القيام عليه وقصّر في مؤنته، ويحتمل أن يكون أضاعه بكونه استعمله في غير ما جعل له. الخامس: سمي شراءه برخص عودًا في الصدقة من حيث الغرض فيها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص فكأنه اختار عوض الدنيا على الآخرة، مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق، فكيف بالمتصدق أو المملك بسبب تقدم إحسانه بذلك، فيصير راجعًا في ذلك المقدار الذي سومح فيه (¬2). السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك حمل هذا النهي أكثر العلماء على التنزيه، وحمله بعضهم. على التحريم. قال القرطبي: وهو الظاهر من سياق الحديث. ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 136). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (4/ 136)، باختلاف يسير.

السابع: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أعطاكه بدرهم" هو مبالغة في رِخِصِه الحامل على شراه، وفي البخاري كما أسلفناه: "بدرهم واحد"، فلا تضيع الثواب العظيم بشيء من الحقير: قل أو كثر. الثامن: ذكر -عليه الصلاة والسلام- الكلب وعوده في القيء ليكون ذلك مبالغة في التنفير في العود في الهبة والصدقة، ولا شك في شدة كراهة ذلك، وهي من وجهين: الأول: وقوع تشبيه الراجع بالكلب. والثاني: وقوع تشبيه المرجوع فيه بالقيء (¬1)، وكل منهما قذر محرم، و"القيء" مهموز. والعامة تثقله (¬2) [ولا تهمزه]. (¬3) [التاسع]: في أحكام الحديث: الأول: الإِعانة على الغزو بكل شيء حتى بتمليك فرس. الثاني: إن أخذه يملكه. الثالث: أن لأخذه بيعه والانتفاع بثمنه. الرابع: منع من تصدق بشيء أو أخرجه في كفارة أو نذر، ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن تصدق به عليه أو يتهبه أو يتملكه باختيار منه، فلو ورثه منه فلا منع منه ولا كراهة فيه، ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 137). (¬2) انظر: إصلاح غلط المحدثين (32)، وما بين القوسين زيادة منه. (¬3) في الأصل (الثامن)، وما أثبت من هـ.

وأبعد من قال يجب عليه أن يتصدق به (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (9/ 328)، كره مالك، والليث، والحسن بن حَيّ والشافعي شراء الصدقة لمن تصدق بها. * فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخوا العقد ولم يردوا البيع ورأوا له التنزه عنها. * وكذلك قولهم في شراء الإنسان ما يخرجه كفارة اليمين مثل الصدقة سواء، وإنما كرهوا شراءها لهذا الحديث ولم يفسخوا البيع لأنها راجعة إليه بغير ذلك المعنى. * وقد بدأ ذلك في قصة هدية بريرة بما تصدق بها عليها من اللحم. * وقال أهل الظاهر: يفسخ البيع في مثل هذا, لأنه طابق النهي ففسر بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك". * ولم يختلفوا أنه من تصدق بصدقة ثم رزقها أنها حلال له. * رواه بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد وجب أجرك، ورجعت إليك بالميراث"، -مسلم (1149)، وأبو داود (1656)، وابن ماجة (1759)، والترمذي (667) -. * ويحتمل حديث هذا الباب أن يكون على وجه التنزه للرواية أن بيع الصدقة قبل إخراجها أو تكون موقوفًا على التطوع في التنزه عن شرائها. * وقال أبو جعفر الطحاوي: المصير إلى حديث عمر في الفرس أولى من قول من أباح شراء صدقته. * قال أبو عمر: استدل من أجاز للمتصدق له بعد قبض المتصدق عليه له على أن نهيه عن شرائه على التنزه لا على التحريم بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخمسة الذين تحل الصدقة: "أو رجل اشتراها بماله" فلم يخص المعطي من غير المعطي وغير ذلك على العموم. * وقال في هذا الحديث أيضًا: "أو مسكين تُصدق عليه فأهداها المسكين للغني" وهذا في معنى قصة بريدة، وسنوضحه في موضعه إن شاء الله. =

وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق، ولا كراهة. وهذا مذهب الشافعي والجمهور أن المنع للتنزيه. وقال جماعة: للتحريم، قال صاحب "الإِكمال" (¬1) وهو ظاهر الموازية. الخامس: تحريم الرجوع في الهبة والصدقة، وإنما يحرم بعد الإِقباض فيها، والحديث عام في كل هبة، وبه قال طاوس وأحمد، كما حكاه عنهما القرطبي (¬2)، وحكى غيره عن أحمد موافقتنا، وهو أنه خص بجواز رجوع هبة الوالد لولده، وإن سفل لحديث النعمان بن بشير الآتي بحديث ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل حتى إذا شبع قاء، ثم عاد فيه" (¬3). رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي ¬

_ = * وأما ما يوجبه تهذيب الآثار في ذلك عندي فللقول بأنه لا يجوز شراء ما تصدق به؛ لأن الخصوص قاضٍ على العموم لأنه مستبق منه، ألا ترى أنه قد جاء في حديث واحد، يعني: "إلَّا لمن اشتراها بماله" بما لم يكن هذا المتصرف لم يكن كلامًا متدافعًا ولا معارضًا، مجمل الحديثين عندي على هذا استعمال لهما دون رد أحدهما بالآخر وبالله التوفيق. اهـ. (¬1) إما تأليف "الجيلي" سليمان بن مظفر أو تأليف محمَّد بن عبد الرحمن الحضرمي واسمه "الإِكمال لما في التنبيه من الإشكال" والأول أرجح. (¬2) المفهم (4/ 583)، انظر: الاستذكار (22/ 308، 309). (¬3) أبو داود (3539)، في البيوع والإجارات، باب: الرجوع في الهبة، =

وابن حبان والحاكم وغيرهم. ولا رجوع في هبة الأخوة والأعمام من ذوي الأرحام؛ وكل هذا ذهب مالك والأوزاعي أيضًا (¬1). وقال أبو حنيفة (¬2) وآخرون: يرجع كل واهب في هبة الأجنبي إلَّا الوالد، وكل ذي رحم محرم. واعتذروا عن هذا الحديث: بأن رجوع الكلب في قيئه ¬

_ = والترمذي (1299)، والنسائي (6/ 267، 268)، وابن ماجه (2377)، والبيهقي (6/ 179)، والدارقطني (4/ 42، 43)، وابن الجارود (994)، وأحمد (2/ 27)، والحاكم (2/ 46)، وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان (5123). (¬1) الاستذكار (22/ 308). (¬2) الاستذكار (22/ 313، 314)، وانظر: شرح مسلم (11/ 65). فائدة: قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 337)، وقد استشكل ذكر عمر مع ما فيه من إذاعة عمل البر وكتمانه أرجح. أجيب: بأنه تعارض عنده المصلحتان -الكتمان وتبليغ الحكم الشرعي- فرجح الثاني فعمل به. وتعقب: بأنه كان يمكنه أن يقول: حمل رجل على فرس مثلًا، ولا يقول: حملت فيجمع بين المصلحتين والظاهر أن محل رجحان الكتمان إنما هو قبل الفعل وعنده، وأما بعد وقوعه فلعل الذي أعطيه أذاع ذلك فانتفى الكتمان، ويضاف إليه أن في إضافة ذلك إلى نفسه تأكيدًا لصحة الحكم المذكور، لأن الذي تقع له القصة أجدر بضبطها ممن ليس عنده إلَّا وقوعها بحضوره، فلما أمن ما يخشى من الإعلان بالقصد صرح بإضافة الحكم إلى نفسه، ويحتمل أن يكون محل ترجيح الكتمان لمن يخشى على نفسه من الإعلان بالعجب والرياء، أما من أمن لك كعمر فلا. اهـ.

لا يوصف بالحرمة، لأنه غير مكلف، والتشبيه وقع بأمر مكروه في الطبيعة، لتثبت به الكراهة في الشريعة، وفيه نظر. واتفقوا: على كراهة الرجوع مطلقًا تنزيهًا لا تحريمًا. وعن مالك: أنه إن رغب راغب في مواصلة الولد بسبب المال الموهوب لم يكن له الرجوع.

الحديث السابع

الحديث السابع 304/ 7/ 58 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العائد في هبته، كالعائد في قيئه" (¬1). الكلام عليه سلف [في الكلام] (¬2) على الحديث قبله، ولم أرى هذا الحديث في شرح الشيخ تقي الدين (¬3) ولا الفاكهي، وترجم البخاري (¬4) عليه وعلى الذي قبله، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته -كما أسلفناه- وذكره بلفظين: أحدهما: هذا. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2586)، ومسلم (1622)، وابن ماجه (2385)، والبغوي (2200)، وأبو داود (3538)، في الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته، الطبراني (10692)، والبيهقي (6/ 180)، وأحمد (1/ 280، 342)، والطيالسي (2649)، والنسائي (6/ 266)، في متن العمدة زيادة: وفي لفظ: "فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه"، رواه مسلم (1622). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) وهو غير موجود في النسخ التي بين يدي من إحكام الأحكام. (¬4) الفتح (5/ 234)، ح (2621، 2622).

والثاني: ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته: كالكلب يرجع في قيئه. وذكره أيضًا في باب (¬1): هبة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها، بلفظ: "العائد في هبته، كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه". وذكره معلقًا (¬2) بدون: "واو"، بلفظ: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه". ورواه مسلم بألفاظ، منها: لفظ الكتاب قاله ابن منده في "مستخرجه"، وروى هذا الحديث أيضًا مع ابن عباس ابن عمر (¬3) ووالده (¬4). وجابر بن عبد الله وأبي هريرة (¬5) والصديق وعبد الله بن عمرو (¬6). فرع: حكم الرجوع في الهدية حكم الرجوع في الهبة، وفي الصدقة اضطراب عندنا كما ستعلمه في الحديث الآتي، وفي إلحاق الأم والجد والجدات بالأب خلاف عندنا، والأصح الإِلحاق خلافًا لأحمد. ¬

_ (¬1) الفتح (5/ 216)، ح (2589). (¬2) ح (6975). (¬3) عند البخاري أطرافه (1489)، ومسلم (1621)، وأبو داود (1593)، وأحمد (2/ 55)، والترمذي (668)، والنسائي (5/ 109)، والبيهقي (4/ 151). (¬4) انظر: ت (1)، ص 444. (¬5) ابن ماجه (2384)، وأحمد (2/ 259، 430، 492). (¬6) عند النسائي، وأبي داود.

وللرجوع شروط أيضًا محلها كتب الفقه، فلذلك أضربنا عن الكلام فيه (¬1). وعند المالكية خلاف في إلحاق المنافع بالرقاب، فسوى بينهما عبد الملك ويأباه ابن المواز. ¬

_ (¬1) شروط الرجوع خمسة: وهي ألَّا يتزوج الولد بعد الهبة، ولا يحدث دينًا لأجلها، وألا يتغير الموهوب عن حاله، وألَّا يحدث الموهوب له في الموهوب حدثًا، وألا يمرض الواهب أو الموهوب له، فإن وقع شيء من ذلك يمتنع الرجوع، وانظر: معنى هذه الشروط في الاستذكار (22/ 314). نظم موانع الرجوع: ومانع من الرجوع في الهبة ... يا صاحبي حروف "دمع خزقة" فالدال: رمز للزيادة المتصلة في نفس العين، والميم للموت، والعين: للعوض، والخاء: لخروج الموهوب عن ملك الموهوب له، والزاي: للزوجية، والقاف: للقرابة، والهاء: للهلاك.

الحديث الثامن

الحديث الثامن (¬1) 305/ 8/ 58 - عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفعلت هذا بولدك كلهم؟ ". قال: لا. قال: "اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم"، فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وفي لفظ، قال: "فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جور"، وفي لفظ: "فأشهد على هذا غيري" (¬2). ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام السابع فليتنبه. (¬2) البخاري (2586)، ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) النووي. وأبو داود (3542، 3543، 3544)، النسائي (6/ 258، 260)، وفي الكبرى له (4/ 117)، ومالك (2/ 576)، وابن الجارود (ح 991، 992)، والحميدي (2/ 411) , وابن ماجه (2/ 795)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 176)، والبغوي في شرح السنة (8/ 296)، وابن أبي شيبة (7/ 316)، وعبد الرزاق (9/ 97)، وأحمد (4/ 269، 270).

الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ترجم عليه البخاري (¬1) باب: الإشهاد في الهبة، ثم ساقه من حديث الشعبي: سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة (¬2) لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة" عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال: (أعطيت ساير ولدك مثل هذا؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، قال فرجع فرد عطيته. وترجم عليه مثل ذلك الهبة للولد (¬3)، ثم ساقه مختصرًا من حديث ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا، قال: فأرجعه (¬4). ورواه مسلم من طرق. منها: هذه الطريق بهذا اللفظ أيضًا (¬5). بلفظ "فرده". ¬

_ (¬1) الفتح رقم (2587). (¬2) زيادة من هـ. (¬3) الفتح حديث رقم (2586). (¬4) ومما ترجم عليه البخاري: 1 - في كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على جور حديث (2650). (¬5) في هـ زيادة (ومنها هذا الطريق).

ومنها: الطريق الأول بلفظ المصنف الأول ولم يقل سمعت النعمان، وإنما قال: عن النعمان ثم رواه باللفظ الثاني الذي ذكره المصنف، ثم باللفظ الثالث، وقال في آخره: "أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: "فلا إذًا، وكلاهما أيضًا من طريق الشعبي. قال عبد الحق: ولم يذكر البخاري هذا, ولم يقل من هذه الألفاظ إلَّا قوله: "فلا تشهدني على جَوْر" وهو عنده على الشك ثم قال: وقال أبو جرير عن الشعبي: "لا أشهد على جور" ليس عنده إلَّا هذا. ورواه مسلم من حديث أبي الزُّبير عن جابر أيضًا وفيه: "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلَّا على حق". الثاني: وقع في "بسيط" الغزالي "ووسيطه" أن الواهب هو النعمان بن بشير، وغلطوه في [ذلك وإنما هو الموهوب له لكنه لم ينفرد بذلك، فقد رواه المزني عن الشافعي كذلك] (¬1). ونبه عليه البيهقي (¬2): أن الصواب خلافه. الثالث: [قوله] (¬3): "ببعض ماله" قد عرفت من رواية الصحيحين أنه كان غلامًا، وفي رواية لمسلم: "إني قد نحلت النعمان، كذا وكذا من مالي". الرابع: سلف التعريف براوي الحديث في باب الصفوف. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) معرفة السنن والآثار (9/ 62). (¬3) زيادة من ن هـ.

وأما [أمه] (¬1): فهي أخت عبد الله بن رواحة، وزوج [بشير] (¬2) بن سعد الأنصاري، لما ولدت النعمان حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بتمرة، فمضغها، ثم ألقاها في فيه، فحنكه بها. فقالت: يا رسول الله اُدعُ اللهَ أن يكثر ماله وولده، فقال: "أما ترضين أن يعيش كما عاش خاله حميدًا، وقتل شهيدًا، ودخل الجنة، ومن حديثها "وجب الخروج -يعني في الجهاد- على كل ذات نطاق" (¬3). [الخامس] (¬4): "الجور" لغة الميل عن السواء والاعتدال، فكلما خرج عن ذلك فهو جور، سواء [كان حرامًا أو مكروهًا، وقد يكون تارة لهذا، وتارة لهذا وقد استعمل فيه بمعنى الضلال] (¬5) وبمعنى الظلم وكلاهما محرمان. السادس: في أحكام الحديث: الأول: [(¬6)] في جواز تسمية الهبة صدقة. الثاني: شرعية الإِشهاد عليها، كما أسلفناه عن ترجمة البخاري والاحتياط في العقود، بشهادة الأفضل والأكبر. ¬

_ (¬1) في الأصل أخته وما أثبت من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) أخرجه أحمد في مسند (6/ 358)، وقد ساقه في الإصابة (8/ 146)، خطأ في لفظه "فرحت الخزرج على ذات نطاق" فليصحح وسياقه في أسد الغابة في ترجمتها على الصواب. (¬4) في الأصل الثامن وما أثبت من ن هـ. (¬5) في ن هـ ساقط. (¬6) في الأصل زيادة (في)، وما أثبت من هـ.

الثالث: أن للأم كلامًا في مصلحة الولد وماله وأنه مسموع. الرابع: أن المفتى والشاهد لا يفتي ولا يشهد إلَّا بما يسوغ شرعًا. الخامس: الرجوع في المعاملات ونحوها إلى العلماء. السادس: سؤال المفتي والشاهد عن شرط الحكم وما يسوغ فعله، سواء كان الشرط واجبًا أو مندوبًا. السابع: أمر مخالف ذلك بتقوى الله، والعدل بين البقية. الثامن: المبادرة إلى قبول قول الحق، من غير تأخير ولا حرج في النفس. التاسع: التسوية بين الأولاد في العطية من غير تفضيل. وقد نبه على الحكمة في ذلك، وهي محبة الوالد أن يكون برهم له على السواء، فكذلك عطيته لهم، فإن التفضيل يؤدي إلى الانحباس والتباغض، وهل ذلك على الإِيجاب [أو] (¬1) الندب؟ فيه قولان للعلماء. قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: بالثاني، وحكاه القرطبي (¬2) عن الجمهور وأن التفضيل مكروه فقط، والهبة صحيحة (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ (واو). (¬2) المفهم (4/ 585، 586). (¬3) قال الشافعية والمالكية وأبو يوسف من الحنفية وهو رأي الجمهور: يستحب للأب أن يسوى بين الأولاد الذكور والإناث في العطية، فتعطى الإِناث مثل ما يعطى الذكور، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرًا لآثرت النساء على الرجال"، وفي رواية للبخاري: "اتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم"، ولأن العدل في القسمة والمعاملة مطلوب، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد حملوا الأمر في هذه الأحاديث على الندب. اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 34). * وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (22/ 293)، نقلًا عنهم: لا بأس أن يفضل بعض ولده بالنحلة دون بعض، ويؤثره بالعطية دون سائر ولده، وهم مع ذلك يكرهون ذلك مع ما سنذكره عنهم إن شاء الله، والتسوية في العطايا إلى البنين أحب إلى جميعهم. * وكان مالك - رحمه الله - يقول: إنما معنى هذا الحديث الذي جاء فيه فيمن نحل بعض ولده ماله كله. * قال: وقد نحل أبو بكر عائشة دون ولده -قال أبو عمر- ذكره في الموطأ ثم ساقه إسناده عنها إلى أن قال. * واستدل الشافعي بأن هذا الحديث على الندب، بنحو ما استدل به مالك من عطية أبي بكر عائشة دون سائر ولده. * وبما ذكرناه من رواية داود وغيره عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أيسرك أن يكونوا لك في البر". * وقال الشافعي: ترك التفضيل في عطية الأبناء فيه حسن الأدب، ويجوز له ذلك في الحكم. اهـ. محل المقصود. وقال الحنابلة ومحمد بن الحنفية: للأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى في الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين, لأن الله تعالى قسم بينهم كذلك، وأولى ما اقتدى به: هو قسمة الله، ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحال الموت، والميراث المترتب عليه، يدل لهذا أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على حسبه. اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 34). وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فارتجعه" وقوله "فاردده" من حديث مالك وغيره.

وقال الغزالي: ليس مكروهًا، بل تاركًا للأحب وهو ظاهر نصه. وقال طاووس وعروة ومجاهد والثوري وأحمد وإسحاق وداوود: بالأول وأن التفضيل حرام مردود، واحتجوا برواية "لا أشهد على جور"، ونحوها. واستدل الأولون بالرواية الأخرى: "فأشهد على هذا غيري". قالوا: ولو كان حرامًا أو باطلًا لما قال هذا الكلام، وامتناعه عليه الصلاة والسلام من الشهادة على وجه التنزيه. وأجابوا: عن رواية: "لا أشهد على جور" بما أسلفناه من أن الجور في اللغة, هو الميل عن الاستواء والاعتدال، سواء كان حرامًا أو مكروهًا، فتأول هنا على المكروه جمعًا بين الروايتين. وللأولين أن يقولوا: قوله: "فأشهد على هذا غيري" جاء على طريق التهديد والتنفير الشديد، مع ما انضاف إلى ذلك من امتناعه - عليه الصلاة والسلام - عن المباشرة لهذه الشهادة معَلِلًا بأنها جور، والمتبادر إلى الذهن عند إطلاق الجور التحريم لا الكراهة، فتخرج الصيغة عن ظاهر الأذن لهذه القرائن، ويقوى ذلك أيضًا: "فاتقوا الله" فإن ذلك يؤذن بأن التقوى هنا التسوية، وأن التفضيل ليس بتقوى. وأجاب النووي (¬1) عن هذا بأن قال: الأصل في كلام الشارع ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 67).

غير التهديد، ويحتمل عند إطلاقه صيغة أفعل على الوجوب أو الندب، فإن تعذر ذلك فعلى الإِباحة. ومما يستدل به على الجواز: أن الصديق نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا (¬1). وفضل عمر عاصمًا بشيء، وفضل ابن عوف ابنته أم كلثوم. وقطع ابن عمر ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض، وفضل القاسم بن محمَّد بعض ولده (¬2). ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 752). (¬2) انظر: معجم السلف (6/ 151، 154)، ولنختم هذه المسألة بنقل عن ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 191)، وفي لفظ في الصحيح: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأرجعه". وفي لفظ: قال: "فرده". وفي لفظ آخر فيه: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي في كل الصدقة". وفي لفظ لهما: "فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور". وفي آخر: "فأشهد على هذا غيري". وفي آخر: "أيسرك أن يكون بنوك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: فلا يأذن". وفي لفظ آخر: "أفكلهم أعطيت كما أعطيته؟ قال: لا. قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلَّا على حق" وكل هذه الألفاظ في الصحيح، وغالبها في صحيح مسلم. وعند البخاري منها: "لا تشهدني على جور"، قوله: "لا أشهد على جور" والأمر برده، وفي لفظ: "سوَّ بينهم"، وفي لفظ: "هذا جور، أشهد على هذا غيري". =

العاشر: اختلف أصحابنا في صفة هذه التسوية. فقيل: كقسمة الأرث والأصح أن يجعل الأنثى كالذكر، وهو ظاهر الحديث (¬1) وأبعد بعضهم فحكى وجهًا أن الأنثى تفضل عليه، حكيته في "شرح المنهاج" وهو غريب. وبالأول قال ابن شعبان من المالكية وحكاه القرطبي (¬2) عن عطاء، والثوري، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق. ¬

_ = وهذا صريح في أن قوله: "أشهد على هذا غيري" ليس إذنًا، بل هو تهديد لتسميته إياه جورًا. وهذه كلها ألفاظ صحيحة صريحة في التحريم والبطلان من عشرة أوجه من الحديث. ومنها قوله: "أشهد على هذا غيري"، فإن هذا ليس بإذن قطعًا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأذن في الجور، وفيما لا يصلح، وفي الباطل فإنه قال: "إني لا أشهد إلَّا على حق" فدل ذلك على أن الذي فعله أبو النعمان لم يكن حقًا، فهو باطل حقًا، فقوله إذن "أشهد على هذا غيري" حجة على التحريم قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، أي: الشهادة على هذا ليست من شأني، ولا تبغي لي، وإنما هي من شأن من يشهد على الجور والباطل، وما لا يصلح، وهذا في غاية الوضوح. اهـ. وانظر: بدائع الفوائد (3/ 101، 102، 151، 152)، (4/ 128)، وأعلام الموقعين (2/ 205، 310)، وإغاثة اللهفان (1/ 365). (¬1) واستدلوا بحديث يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سووا بين أولادكم، فلو كنت مؤثرًا أحد أثرت النساء على الرجال" من رواية ابن عباس، وظاهر رواية النسائي: "ألا سويت بينهم"، ورواية ابن حبان: "سووا بينهم". (¬2) المفهم (4/ 585).

وبالثاني: قال ابن العطار منهم. واختلف أصحاب مالك فيمن أخرج الإِناث من تحبيسه: هل ينفذ الحبس أم لا؟ فقيل: يفسخ مطلقًا. وقيل: ما لم يمت ولم يجز عنه، قال الإِمام منهم. قال: بعض الشيوخ إن هذه الأقوال تجري في هبة بعض البنين دون بعض. الحادي عشر: جواز رجوع الوالد في هبته لولده على من يقول بصحة التفضيل، ووقع في كلام الشيخ تقي الدين (¬1) أنه لا يجوز رجوعه في الصدقة على ولده، وتبعه ابن العطار، والأصح المنصوص خلافه, لأنها هبة، وصححه الرافعي هنا، نعم جزم في أوائل العارية بالمنع، وصححه في "الشرح الصغير" هنا, لأن قصد المتصدق الثواب في الآخرة، وهو موعود به فتنبه لذلك. الثاني عشر: أن قبض الأب لابنه الصغير ما وهبه له جائز، فإن النعمان كان صغيرًا إذ ذاك. قال القاضي (¬2) عياض: ولا خلاف في هذا بين العلماء فيما يعرف بعينه. واختلف المذهب فيما لا يعرف بعينه كالمكيل والموزون، وكالدراهم. هل يجزي تعيينه والإِشهاد عليه والختم عليه عن القبض ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 138). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 332).

أم لا، حتى يخرجها من يده إلى غيره، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإن لم يخرجه من يده. خاتمه: ذهب الإِمام أبو حاتم بن حبان (¬1) من أصحابنا إلى أنه لا يجوز التفضيل بين الأولاد وبسطه في "صحيحه" بسطًا حسنًا، فأردت أن أذكره لك ملخصًا لكثرة فوائده، فإنه ذكره من طرق، وجمع بين ما قد يفهم تعارضه فقال ذكر الأمر الذي ورد بلفظ الرد والإرجاع مراده نفي جواز ذلك الفعل دون إجازته وإمضائه، ثم روى الحديث من طريق ابن شهاب السالفة، وفيه هذا "العبد" بدل "غلامًا" وفي آخره، قال: "فأردده"، ثم قال: ذكر الأمر بالتسوية بين الأولاد في النحل إذ تركه حيف. ثم ذكر الحديث بلفظ "سوِّو بينهم"، وبلفظ: "فأرجعه"، ثم قال: ذكر البيان، بأن قوله: "فأرجعه"، أراد به لأنه غير الحق، ثم رواه من حديث جابر باللفظ [المذكور] (¬2)، ثم رواه من حديث النعمان، وفيه "لا تشهدني على جور"، وترجم [عليه] (¬3) نفي جواز الإيثار في النحل بين الأولاد. ثم قال: ذكر خبر آخر يصرح بأن الإِيثار بين الأولاد في النحل حيف غير جائز استعماله. وروى حديث النعمان وفيه "فإني لا أشهد على هذا. هذا جور، أشهد على هذا غيري، أعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف" ثم قال قوله: "أشهد على هذا غيري"، أراد به الإِعلام بنفي جواز استعمال الفعل المأمور به ¬

_ (¬1) ابن حبان (11/ 496، 508). (¬2) في ن هـ السالف. (¬3) زيادة من ن هـ.

ولو فعله، فزجر عن الشيء بلفظ الأمر بضده، كما قال لعائشة "اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء، لمن أعتق"، ثم روى من حديث النعمان أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن عمرة بنت رواحة نُفست بغلام، وإني سميته: نعمان، وإنها أبت أن تربيه وحتى جعلتُ له حديقة، في أفضل مالي هو، وأنها قالت: أشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك ولد غيره"؟ قال: نعم، قال: "لا تشهدني إلَّا على عدل، وإني لا أشهد على جور". قال أبو حاتم بن حبان: (¬1) [لا تضاد بين ما ذكرناه من هذه القصة] , لأن النحل من بشير لابنه كان في موضعين متباينين، وذلك أن أول ما ولد النعمان أبت عمرة أن تربيه حتى يجعل له بشير حديقة، ففعل ذلك، وأراد الإِشهاد على ذلك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشهدني إلَّا على عدل، فإني لا أشهد على جور"، [(¬2)] هذا [تصريح] (¬3) بأن الحيف في النحل [بين الأولاد] (¬4) غير جائز، فلما أتى على الصبي مدة، قالت عمرة. لبشير: أنحل ابني هذا، فالتوى عليها مدة سنة أو سنتين [(¬5)]، فنحله غلامًا، فلما جاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) العبارة هكذا (تباين الألفاظ في قصة النحل الذي ذكرناه قد يوهم عالمًا من الناس أن الخبر في تضاد وتهاتر وليس كذلك). (¬2) في الإِحسان زيادة (على ما في خبر أبي حريز). (¬3) في المرجع السابق (تصرح هذه اللفظة). (¬4) زيادة من ن هـ وابن حبان. (¬5) في المرجع السابق زيادة (على ما في خبر أبي حيان التيمي والمغيرة عن الشعبي).

ليشهده قال: "لا تشهدني على جور"، قال ويشبه أن يكون [النعمان] (¬1) قد نسي الحكم الأول، أو توهم أنه قد نسخ، وقوله - عليه الصلاة والسلام -[في الكرة الثانية "لا تشهدني على جور"] (¬2)، زيادة تأكيد في نفي جوازه, [وما يدل على الثاني] (¬3) أنه - عليه الصلاة والسلام - قال له: "ما هذا الغلام"؟ قال: [(¬4)] أعطانيه أبي، [والنحل الأول كان عند امتناع عمرة من تربيته عند ولادته] (¬5) هذا آخر كلامه (¬6). وهو نفيس [وروى الخطابي خبر ¬

_ (¬1) هكذا هنا وأيضًا في صحيح ابن حبان ولعله بشير لأن الهبة قد وقعت منه فلعله وقع سهوًا أو سبق قلم فلينتبه له. (¬2) في المرجع السابق والمخطوط تقديم وتأخير. (¬3) في المرجع السابق زيادة (والدليل على أن النحل في الغلام للنعمان كان ذلك والنعمان مترعرع، أن في خبر أبي عاصم عن الشعبي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما هذا الغلام؟ ". (¬4) في المرجع السابق زيادة (غلام). (¬5) في العبارة هكذا في المرجع السابق (فدلتك هذه اللفظة على أن هذا النحل غير النحل الذي في خبر أبي حريز في الحديقة, لأن ذلك عند امتناع عمرة عن تربية النعمان عندما ولدته، ضد قول من زعم أن أخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تتضاد وتتهاتر، وأبو حريز كان قاضي سجستان). انظر تلخيص ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 212). (¬6) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 212)، بعد سياقه لجمع ابن حبان. قال وهو جمع لا بأس به، إلَّا أنه يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته الحكم في المسألة حتى يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستشهده على العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى: "لا أشهد على =

النعمان هذا جابر السالف، وقال إنه أولى منه لأن جابرًا احفظ له وأضبط, لأن النعمان كان صغيرًا وفي حديث جابر أنه شاوره -عليه الصلاة والسلام- قبل الهبة فدله على ما هو الأولى به] (¬1). قال القرطبي (¬2): حديث النعمان كثرت طرقه باختلاف ألفاظه حتى قال بعض الناس: إنه مضطرب، وليس كذلك، لأنه ليس في ألفاظه تناقض، والجمع ممكن. قال: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب ماله كله لبعض ولده، كما ذهب إليه سحنون، ¬

_ = جور" وجوز ابن حبان أن يكون بشير ظن نسخ الحكم. وقال غيره: يحتمل أن يكون حمل الأمر الأول على كراهة التنزيه، أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة في الأغلب أكثر من ثمن العبد، ثم ظهر لي وجه آخر من الجمع يسلم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جواب وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلَّا أن يهب له شيئًا يخصه به وهبه الحديقة المذكورة تطييبًا لخاطرها، ثم بداله فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلامًا ورضيت عمرة بذلك، إلَّا أنها خشيت أن يرتجعه أيضًا، فقالت: أشهد على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تريد بذلك تثبيت العطية وأن تأمن من رجوعه فيها، ويكون مجيئه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - للإشهاد مرة واحدة وهي الأخيرة، وغاية ما فيه أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ البعض، أو كان النعمان يقص بعض القصة تارة ويقص بعضها أخرى فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه. والله أعلم. اهـ. (¬1) زيادة من هـ. انظر: معالم السنن (5/ 191). (¬2) المفهم (4/ 584).

وكأنه لم يسمع في الحديث نفسه: أن الموهوب كان غلامًا، فإنه إنما وهبه له لما سألته أمه بعض الموهبة من ماله، وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره. تتمات: أحدها: الكراهة والتحريم ظاهر فيما إذا استوى على أولاده في الحاجة وقدرها أو عدمها، فإن تفاوتوا فليس في التفضيل والتخصيص المحذور [السالف] (¬1) فتنبه له. ثانيها: الأم في ذلك كالأب كما صرح به النووي في الروضة (¬2). قال: وكذا الجد والجدة، وكذا الولد إذا وهب لوالديه، قال الدارمي (¬3): فإن فضل فليفضّل الأم. وافهم كلام الغزالي وغيره أن الأقارب كالأخوة لا يجري فيهم الحكم المذكور، ولا يبعد طرده فيهم، لما فيه من الإِيحاش، نعم المحذور في الأولاد عدم البر بخلاف هذا، كما نبه عليه صاحب "المطلب" (¬4) قال: وعلى الجملة لا شك أن التسوية بينهم مطلوبة، ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) روضة الطالبين (5/ 379). (¬3) هو محمَّد بن عبد الواحد بن محمَّد بن عمر بن ميمون أبو الفرج المعروف بالدارمي البغدادي نزيل دمشق مولده سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. توفي بدمشق في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. انظر: تاريخ بغداد (2/ 361، 362)، وابن هداية (149)، وابن قاضي شهبة (1/ 234). (¬4) كتاب في شرح الوسيط في نحو أربعين مجلدًا، وقد أثنى على المؤلف العلماء في كثرة استحضاره للنصوص مؤلفة ابن الرفعة: أحمد بن =

لكنها دون طلب التسوية بين الأولاد. ثالثها: إذا خالف فخص أو فضل، فالأولى أن يعطي للثاني ما يحصل به العدل، وإلَّا استحب له أن يرجع. ... ¬

_ = محمد بن علي. وقد سبقت ترجمته من هذا الكتاب. انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 211).

الحديث التاسع

الحديث التاسع 306/ 9/ 58 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ترجم عليه البخاري، باب: إذا لم يشترط السنين في المزارعة (¬2) ثم ذكره بعد بنحوه. وترجم عليه المزارعة مع اليهود (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2285)، ومسلم (1551)، وأبو داود في البيوع والإجارات، باب: في المساقاة: (3408)، والترمذي (1383)، وابن ماجه (2467)، وابن الجارود (1101)، والدارمي (2/ 270)، والبيهقي (6/ 113، 115، 116)، وشرح معاني الآثار (4/ 113)، ومشكل الآثار له (3/ 282)، وأحمد (2/ 17، 22، 37)، والنسائي (7/ 53)، والبغوي (2177). (¬2) البخاري ح (2329) في الفتح. (¬3) البخاري ح (2331) في الفتح، وأخرجه في عدة مواضع منها باب: المزرعة بالشطر ونحوه، ح (2328)، وفي الإِجارة باب: إذا استأجر أرضًا فمات أحدهما، ح (2285)، وفي فرض الخمس ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - =

الثاني: "خيبر" (¬1) اسم لحصون ومزارع ونخل كانت لليهود بينها وبين المدينة بنحو أربع مراحل. وقال الحازمي: بينهما مسيرة أيام والسلوك إليها من وراء أحد غزاها - صلى الله عليه وسلم - في أواخر المحرم سنة سبع من الهجرة، وقال ابن دحية (¬2) في "تنويره": خرج إليها في صفر سنة سبع لأنه قدم من الحديبية في ذي الحجة تمام سنة ست (¬3). ويقال: خرج لهلال ربيع الأول وفيها عشرة آلاف مقاتل. ونقل ابن الطلاع (¬4): عن ابن هشام أنه قال: كانت في صفر ¬

_ = يعطي المؤلفة قلوبهم (3152)، وفي المغازي، باب: معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر (4248). وفي الحرث والمزارعة، باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله (2338)، وفي الشروط، باب: إذا اشترط في المزرعة إذا شئت أخرجتك (2720)، وفي الشركة، باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة (2499). (¬1) هي ناحية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، يطلق هذا الاسم على الولاية وتشمل هذه الولاية على سبعة حصون. معجم البلدان لياقوت (2/ 409)، ولفظ خيبر بلسان اليهود يعني الحصن. (¬2) ابن دحية: هو عمر بن الحسن بن علي بن فرح بن الظاهري مجد الدين أبو الخطاب البلنسي الأندلسي المعروف بابن دحية بكسر الدال وسكون الحاء سافر إلى مصر وسكن بها ولد سنة خمسمائة وثمانية وأربعين وتوفي بالقاهرة سنة ستمائة وثلاثة وثلاثين له مؤلفًا كثيرة منها التنوير في مولد السراج المنيرة, الآيات البينات في ذكرها ما في أعضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات. اهـ. هدية العارفين (5/ 786). (¬3) في الأصل زيادة وستين وما أثبت من ن هـ. (¬4) الذي في السيرة أنها في المحرم سنة سبع (3/ 378).

سنة ست، وقد أسلفت هذا عنه في الحديث الثاني من كتاب الطهارة في ترجمة أبي هريرة، وذكرت هنا [ك أن الشيخ تقي الدين جزم به في "شرحه" (¬1) ثم رأيت بعد ذلك] (¬2) [أن] (¬3) الشيخ تقي الدين ابن الصلاح جزم [به] (¬4) في "مشكله" أيضًا. ولما غزاها - صلى الله عليه وسلم - فتح الله تعالى عليهم [من] (¬5) حصونهم عدة منها: حصن ناعم، والكتيبة (¬6)، فحاز أموالهم واشتد الحصار على حصنين، وهما الوطيح (¬7) والسُّلالم (¬8) حتى أيقنوا بالهلكة، فسألوا أن يسيرهم ويحقن دمائهم، ويخلوا له الأموال، ففعل ثم سألوا أن يعاملهم في الأموال على النصف، فعاملهم على ذلك على أنه متى ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (1/ 93). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) ساقطة من ن هـ. (¬4) ساقطة من ن هـ. (¬5) في الأصل في وما أثبت من ن هـ. (¬6) الكُتَيْبَة مصغرة: اسم لبعض قرى خيبر، يعني أنه فتحها عنوة لا صلحا. (¬7) الوَطيح بفتح أوله وكسر ثانيه، بعده ياء وحاء مهملة: حصن من حصون خيبر. معجم ما استعجم (4/ 1380). (¬8) سُلَالِم، بضم أوله، وتخفيف ثانيه، وبكسر اللام الثانية: حصن من حصون خيبر معجم ما استعجم (2/ 745). ومنها الشّقّ: بكسر أوله وله وتشديد ثانيه، وادي بخيبر وكان في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معجم ما استعجم (3/ 805). نَطَاة: بفتح أوله، وبهاء التأنيث في آخره، وادي بخيبر المرجع السابق (4/ 1312).

شاء أخرجهم، ولما بلغ ذلك أهل فدك أرسلوا يسألونه في ذلك , وكانت هذه الحصون فيئًا للمسلمين، وكانت فدك خالصة، واستمر اليهود على هذه المعاملة إلى أن مضى صدر من خلافة عمر، فبلغه ما قاله - صلى الله عليه وسلم - في وَجَعَه: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان" (¬1) فأجلاهم عنها. قال الحازمي: ويقال: أراضي خيبر الخيابر: وسميت خيبر باسم رجل من بين العماليق (¬2) اسمه خيبر. ¬

_ (¬1) البيهقي (9/ 208)، وعبد الرزاق (19359)، وذكره في نصب الراية (3/ 454)، وكنز العمال (35148)، (38252)، وتلخيص (4/ 124)، وورد بلفظ "لا يجتمع بأرض الحجاز"، وتمهيد (6/ 463) لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ما خلا نجران، ومشكل الآثار (4/ 13)، وورد بلفظ يعارضه: "أخرجوا يهود نجران" في جمع الجوامع للسيوطي وبلفظ: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب"، والبيهقي (9/ 208)، وحلية الأولياء (8/ 372). وورد بلفظ: "لأخرجن اليهود والنصارى جزيرة العرب حتى لا أدع إلَّا مسلمًا" من رواية عمر -رضي الله عنه- مسلم (1767)، والترمذي (1607)، وأبو داود (3030)، ومسند أحمد (3/ 345)، وجاء من رواية أبي عبيدة، وأحمد (1/ 196)، ومن رواية عمر في المسند (1/ 32)، وابن شيبة (3/ 179)، وابن عباس وغيرهم. وجاء من رواية عائشة -رضي الله عنها- في المسند قالت: "آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يترك بجزيرة العرب دينان". (¬2) اسمه خيبر بن قانية بن مِهلائيل بن إرم بن عبيل أخو عاد بن عوض بن إرم معجم البلدان (2/ 410).

وقيل: بمعاملتهم - عليه الصلاة والسلام - إياهم على الجزء (¬1) من ثمارها. قال المحب في "أحكامه": والأول أظهر. واختلفوا كما قال القاضي عياض: هل فتحت صلحًا أو عنوة أو بجلا أهلها عنها بغير قتال أو بعضها صلحًا، وبعضها عنوة [وبعضها جلا عنها أهله أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة] (¬2)، وقال: وهذا أصح الأقوال وهي رواية مالك (¬3) ومن تبعه وبه قال ابن عيينة ¬

_ (¬1) انظر: الحديث الثامن من أحاديث، باب: ما ينهى عنه من البيوع من هذا الجزء. (¬2) هذه العبارة مكررة. (¬3) قال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 445، 448). أجمع العلماء من أهل الفقه والأثر، وجماعة أهل السير، على أن خيبر كان بعضها عنوة، وبعضها صلحًا، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمها، فما كان منها صلحًا، أو أخذ بغير قتال كالذي جلا عنه أهله، عمل في ذلك كله بسنة الفيء، وما كان منها عنوة، عمل فيه بسنة الغنائم إلَّا أن ما فتح الله عليه منها عنوة، قسمه بين أهل الحديبية وبين ممن شهد الوقعة. وقد رويت في فتح خيبر آثار كثيرة ظاهرها مختلف، وليس باختلاف عند العلماء على ما ذكرت لك، إلا أن فقهاء الأمصار اختلفوا في القياس على خيبر سائر الأرضين المفتتحة عنوة، فمنهم من جعل خيبر أصلًا في قسمة الأرضين، ومنهم من أبى من ذلك ذهب إلى إيقافها، وجعلها قياسًا على ما فعل عمر بسواد الكوفة، وسنبين ذلك كله في هذا الباب -إن شاء الله- فأما الآثار عن أهل العلم والسير بأن بعض خيبر كان عنوة، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وبعضها بغير قتال، فمن ذلك ما روى ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب، أن خيبر كان بعضها عنوة، وبعضها صلحًا، قال: فالكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قاله: من أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق. قال مالك: وكتب أمير المؤمنين يعني المهدي -أن تقسم الكتيبة مع صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم يقسمونها في الأغنياء والفقراء، فقيل لمالك: أفترى ذلك للأغنياء؟ قال لا, ولكن أرى أن يفرقوها على الفقراء. قال إسماعيل بن إسحاق: وكانت خيبر جماعة حصون، فافتتح بعضها بقتال، وبعضها سلمه أهله على أن تحقن دماؤهم. وقال موسى بن عقبة: كان ممن أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -من خيبر نصفها، كان النصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين، فكان الذي لله ولرسوله النصف وهي الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة. وكان الباقي للمسلمين: نطاة والشوق. -والله أعلم- أنه قدم على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ناس كثير بخيبر، فرأى أن لا يخيب مسيرهم، وقال أصحابه أن يشركوهم. قال: ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، مكث عشرين ليلة أو قريبًا منها، ثم خرج غازيًا إلى خيبر، وكان الله وعده إياها- وهو بالحديبية. وقال ابن إسحاق: كانت قسمته خيبر لأهل الحديبية، مع من شهدها من المسلمين ممن حضر خيبر، أو غاب عنها من أهل الحديبية، وذلك أن الله أعطاهم إياها في سفره ذلك. قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى ابن عمر أن عمر قال: أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود. فأخرجهم. وروى ابن وهب عن أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما فتحت خيبر, سألت يهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قرهم على أن يعملوا على =

قال: وفي كل قول أثر مروى. وفي رواية لمسلم (¬1) أنه - عليه الصلاة والسلام -: "لما ظهر على خيبر أرادا إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين"، وهذا دليل لمن قال عنوة إذ حق المسلمين إنما هو في العنوة، وظاهر قول من قال صلحًا أنهم صولحوا على كون الأرض للمسلمين. الثالث: "الشطر" هنا النصف ويطلق أيضًا على النحو والمقصد ومنه قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (¬2) [أي نحوه] (¬3). الرابع: حمل بعضهم معاملته -عليه الصلاة والسلام- لهم على أنها كانت مساقاة على النخيل وأن البياض المتخلل بين النخيل كان يسيرًا، فتقع المزارعة تبعًا للمساقاة (¬4). ¬

_ = النصف مما يخرج منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقركم فيها ما شئنا، فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهام من نصف خيبر يريد والله أعلم ما افتتح عنوة منها بالغلبة والقتال قسم على السهام كما يقسم السبي، وما كان فيئًا، كان له ولأهله ولنوائب المسلمين. وعلى هذا تأتلف معاني الآثار في ذلك عند أهل العلم. اهـ. (¬1) انظر: مسلم مع النووي (10/ 212). انظر: مختصر هذا في ص 476. (¬2) سورة البقرة: آية 144. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: إحكام الأحكام (4/ 140)، فإنه قد ساقه بتصرف، قال في الحاشية قوله: "تبعًا للمساقاة" اختلفوا فيما تجوز عليه المساقاة من الأشجار، فقال داود: تجوز على النخل خاصة، وقال الشافعي: على النخل والعنب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خاصة، وقال مالك: تجوز على جميع الأشجار وهو قول للشافعي، وهذا بناء على جواز المزرعة تبعًا للمساقاة، وبه قال الشافعي وموافقوه وهم الأكثرون، قالوا: تجوز المزارعة تبعًا للمساقاة وإن كانت المزارعة عندهم لا تجوز منفردة فتجوز تبعًا للمساقاة، فيزارعه على النخل ويزارعه على الأرض كما جرى في خيبر. وقال مالك: لا تجوز المزارعة تبعًا ولا منفردة إلَّا ما كان من الأرض بين الشجرة وقال أبو حنيفة، وزفر، المزارعة والمساقاة فاسدتان سواء جمعها أو فرقهما, ولو عقدتا نسختًا، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وسائر الكوفيين وفقهاء المحدثين وأحمد وابن خزيمة وآخرون: تجوز المساقاة والمزارعة مجتمعتين، وتجوز كل واحدة منهما منفردة وهذا هو الظاهر المختار لحديث خيبر، ولا تقبل دعوى إن المزارعة فيها كانت تبعًا للمساقاة، ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة. اهـ. * تعريف المساقاة لغة: مفاعلة من السقي وتسمى عند أهل المدينة المعاملة: مفاعلة من العمل. وشرعًا: هي معاقدة دفع الأشجار إلى من عمل فيها على أن الثمرة بينهما: أو هي عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج. وقيل: هي دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء معلوم من ثمرة. وعند الشافعية: أن يعامل غيره على نخل أو شجر أو عنب فقط، ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمرة لهما. اهـ. * الفرق بين المزارعة، والمساقاة: المساقاة: دفع أرض وشجر لمن يقوم عليه وينميه بجزء منه أو من الثمرة، والمزارعة: دفع أرض لمن يزرعها بجزء منه. وانظر: الفقه الإِسلامي (5/ 633).

وذهب بعضهم: إلى أن صورة هذه صورة مساقاة، وليست حقيقة، وأن الأرض كانت قد ملكت بالاغتنام والقوم صاروا عبيدًا فالأموال كلها له - صلى الله عليه وسلم -، والذي جعل لهم منها بعض ماله، لينتفعوا به لا أنه حقيقة المعاملة، وهذا كما قال الشيخ تقي الدين: يتوقف على أن خيبر استرِقُّوا. فإنه ليس مجرد الاستيلاء يحصل الاسترقاق للبالغين. الخامس: في الحديث دلالة على جواز المساقاة في الجملة، وأنكرها أبو حنيفة لأجل ما فيها من الغرر وبيع الثمر قبل بدو الزهو وأول هذا الحديث على أنهم كانوا عبيدًا (¬1) له وقد سلف ما فيه وقد ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 141)، هذا تأويل الحنفية: قالوا: إن أرض خيبر فتحت عنوة وصار أهلها عبيدًا. وتعقب بضواهر أحاديث المزارعة، ويقول - صلى الله عليه وسلم -:"أقركم ما أقركم الله" وهذا صريح في أنهم لم يكونوا عبيدًا. وقال آخرون: فتحت صلحًا وأقروا على أن الأرض ملكهم بشرط أن يعطوا نصف الثمر فكان ذلك يؤخذ نحو الجزية فلا يدل على جواز المساقاة. وتعقب بأن غالب خيبر فتحت عنوة كما بين في المغازي، بأن عمر أجلاهم، ولو كانت الأرض لهم ما أجلاهم عنها. وقد رد المؤلف عن دعوى العبيد في آخر المسألة السابقة بقوله: يتوقف على أن خيبر الخ. . . . وانظر: التعليق السابق. قال في الاستذكار (21/ 209)، قال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز المساقاة، ولا المزارعة بوجه من الوجوه وادعوا أن المساقاة منسوخة بالنهي عن المزابنة، وأن المزارعة منسوخة بالنهي عن الإجارة المجهولة، وكراء =

وافقه من أصحابه زفر وخالفه صاحباه (¬1). ثم اختلف المجوزون لها فيما يجوز عليه من الأشجار (¬2). ¬

_ = الأرض ببعض ما تخرج، ونحو هذا. وقال ابن أبي ليلى والثوري، وأبو يوسف ومحمد: تجوز المساقاة والمزارعة جميعًا وهو قول الأوزاعي، والحسن بن حي، وأحمد وإسحاق. وحجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساقي يهود خيبر على شرط ما تخرج الأرض والثمرة. اهـ. (¬1) انظر: التعليق السابق. (¬2) قال ابن عبد البر التمهيد (6/ 474، 476). واختلفوا فيما تجوز فيه المساقاة. فقال مالك: تجوز المساقاة في كل أصل ثابت يبقى نحو النخل، والرمان، والتين، والفرسك، والعنب، والورد والياسمين، والزيتون، وما كان مثل ذلك مما له أصل يبقى. وهو قول أبي ثور. قال مالك: ولا تجوز المساقاة في كل ما يجنى، ثم يخلف نحو القصب، والموز، والبقول؛ لأن بيع ذلك جائز، وبيع ما يجنى بعده. قال مالك: وتجوز المساقاة في الزرع إذا استقل على وجه الأرض وعجز صاحبه عن سقيه، ولا تجوز مساقاته إلَّا في هذ الحال بعد عجز صاحبه عن سقيه. قال مالك: لا بأس بمساقاة القثاء والبطيخ، إذا عجز عنه صاحبه، ولا تجوز مساقاة الموز, والقصب بحال. حكى ذلك كله عن مالك ابن القاسم، وابن وهب، وابن عبد الحكم. وقال الشافعي: لا تجوز المساقاة إلَّا في النخل، والكرم؛ لأن ثمرهما بائن من شجره، ولا حائل دونه يمنع إحاطة النظر به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال: وثمر غيرهما متفرق بين أضعاف ورق شجره لا يحاط بالنظر إليه. قال: وإذا ساقى على نخل فيها بياض فإن كان لا يوصل إلى عمل البياض إلَّا بالدخول على النخل، وكان لا يوصل إلى سقيه إلَّا بشرك النخل في الماء، وكان غير مثمر جاز أني ساقى عليه في النخل لا منفردًا وحده. قال: ولولا الخبر في قصة خيبر لم يجز ذلك؛ لأنه كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وهي المزارعة المنهي عنها. قال: وليس للعمل في النخل أن يزرع البياض إلَّا بإذن ربه، فإن فعل كان كمن زرع أرض غيره. قال أبو عمر: ما اعتل به الشافعي في جواز المساقاة في النخل والعنب دون غيرها من الأصول، فإن ثمرتها ظاهرة، لا حائل دونهما يمنع منها؛ لإحاطة النظر إليها ليس بشيء؛ لأن الكمثرى، والتين، وحب الملوك, وعيون البقر، والرمان، والأترج، والسفرجل، وما كان مثل ذلك كله يحاط بالنظر إليه، كما يحاط بالنظر إلى النخل والعنب، والعلة له أن المساقاة لا تجوز إلَّا فيما يجوز فيه الخرص، والخرص لا يجوز إلَّا فيما وردت به السنَّة، فأخرجته عن المزابنة كما أخرجت العرايا منهما، وذلك النخل والعنب خاصة بحديث عتاب بن أسيد في ذلك. حدثناه خلف بن قاسم، حدثنا حمزة بن محمد بن علي، قال: حدثنا خالد بن النضر بالبصرة، قال: حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثي يزيد بن زريع، وبشر بن المفضل، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عتاب بن أسيد، وأمره أن يخرص العنب، وتؤدى زكاته كما تؤدى زكاة النخل تمرًا. ورواه بشر بن منصور، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد فوصله في الظاهر، وليس بمتصل =

فقصرها داود على النخل فقط، وكأنه رأى أن المساقاة رخصة فلم يعدها إلى غير المنصوص عليه، وألحق الشافعي العنب بالنخل، لأنه كالنخل في معظم الأبواب. وحكى الروياني عن الشافعي: أن النص ورد فيه أيضًا وهو ظاهر لفظه في "المختصر". وقال مالك: سبب الجواز الحاجة والمصلحة، فعداه إلى جميع الأشجار، وهو قول الشافعي في القديم. وحكى عن الأمام أحمد أيضًا وهو المختار. ثم للمساقاة شروط (¬1) محل الخوض فيها كتب الفروع، وقد أوضحناها فيها ولله الحمد. [قال الفاكهي: ومشهور مذهب مالك منعها في الزرع إلَّا إذا عجز عنه صاحبه] (¬2). ¬

_ = عند أهل العلم؛ لأن عتاب بن أسيد مات بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أو في اليوم الذي ورد النعي بموته بمكة وسعيد ابن المسيب إنما ولد لسنتين مضتا لخلافة عمر - رضي الله عنه -، فالحديث مرسل على كل حال. وأجاز المساقاة في الأصول كلها أبو يوسف، ومحمد. اهـ. (¬1) شروط المساقاة: أهلية العاقدين، محل العقد، أي: أن من الشجر الذي فيه ثمرة، التسليم إلى العامل، وهو التخلية بين العامل وبين الشجر المعقود عليه، أن يكون الناتج شركة بين الإثنين وأن تكون حصة كل واحد منهما جزءًا مشاعًا معلوم القدر. ولا يشترط بيان جنس البذر، وبيان صاحبه، وصلاحية الأرض للزراعة، وبيان المدة. (¬2) في ن هـ ساقط.

السادس: فيه دلالة أيضًا على وجوب بيان الجزء المساقى عليه من نصف أو ربع (¬1) أو غيرها من الأجر المعلومة فلا يجوز على مجهول، كقوله: على أن لك بعض الثمرة فإنه -عليه الصلاة والسلام- عاملهم على الشطر وهو النصف كما تقدم فيما يظهر. السابع: فيه دلالة أيضًا على جواز المزارعة تبعًا للمساقاة، وهو مذهب الشافعي والأكثرين، لقوله: "من ثمر أو زرع" فليساقيه على النخيل ومزارعة الأرض. أما المزارعة: وحدها فقد سلف الكلام فيها مع المخابرة في الحديث الثامن في باب ما نهى عنه من البيوع (¬2). قال القرطبي (¬3): و "أو" هنا للتنويع أو بمعنى "الواو" كما جاء في رواية أخرى. ¬

_ (¬1) وهو أحد شروط المساقاة، أي: بيان أجرة العامل. (¬2) (7/ 101). (¬3) المفهم (5/ 2759)، كتاب المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

الحديث العاشر

الحديث العاشر (¬1) 307/ 10/ 58 - عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: "كنا أكثر الأنصار حقلًا، وكنا نكرى الأرض، على أن لنا هذه، ولهم هذه: "فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما بالورق: فلم ينهنا" (¬2). ولمسلم: عن حنظلة بن قيس قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به. إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات، وأَقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا، ويسلم هذا، ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلَّا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام الحديث التاسع. (¬2) البخاري أطرافه (2327)، ومسلم (1547)، وأبو داود (3392)، في البيوع، باب: في المزارعة، ومالك (2/ 711)، والنسائي (7/ 41، 43، 46)، وفي الكبرى (3/ 97، 98)، وابن ماجه (2458)،والبغوي (2184)، وأحمد (3/ 465)، (4/ 140، 142)، والبيهقي (6/ 131، 132)، وعبد الرزاق (14453)، والحميدي (1/ 198)، وابن أبي شيبة (5/ 290، 291).

مضمون فلا بأس به" (¬1). "الماذيانات" الأنهار الكبار، و"الجداول" النهر الصغير. الكلام عليه من وجوه: الأول: ترجم البخاري على هذا الحديث بما يكره من الشروط في المزارعة (¬2): ثم ذكره بنحوه اللفظ الأول. وذكره (¬3) قبل ذلك بنحو اللفظ الذي عزاه المصنف إلى مسلم. وقال في آخره: "فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذٍ"، وسياق المصنف الحديث من طريقيه هو لفظ مسلم إلَّا أنه قال: "فلم يكن" بدل "ولم يكن" وقال: "كنا نكرى" بدل "فكنا"، وقال: "وأما الورق" بإسقاط "الباء". الثاني: في التعريف براويه وهو رافع بن خديج، وقد سلف في الحديث العاشر في باب ما نهى عنه من البيوع (¬4). وأما الراوي عنه فهو: حنظلة بن قيس، فهو زرقي أنصاري مدني تابعي فقيه قليل الحديث، روى عن عثمان وغيره، وعنه جماعة منهم الزهري وقال: ما رأيت رجلًا أحزم ولا أجود رأيًا منه , كأنه رجل قرشي. الثالث: في الكلام على ألفاظه. ¬

_ (¬1) مسلم (1547). (¬2) الفتح ح (2332). (¬3) الفتح ح (2327). (¬4) (7/ 122).

الأول: "الحقل" -بفتح الحاء- الأرض التي تزرع وجمع الحقل: محاقل، وواحدها محقلة من الحقل، وهو الزرع وسلف تفسير المحاقلة في باب ما نهى عنه من البيوع (¬1). الثاني: "الكراء" ممدود وهو الإِجارة. الثالث: "الماذِيانات" بدال معجمة مكسورة ثم مثناة تحت ثم ألف ثم نون ثم ألف ثم مثناة فوق. وحكى القاضي (¬2) عن بعض الرواة في غير مسلم: فتح الدال وهو غريب وهذه اللفظة معربة ليست عربية (¬3). وفي معناها قولان: أحدهما: أنها مسايل المياه. ثانيهما: ما نبت على حافتي سيل المياه، وفيها قول. ثالث: وهو أنها ما نبت حول السواقي، وقد فسرها المصنف بالأنهار الكبار. وقال القرطبي (¬4): [هي] (¬5) مسايل الماء المراد بها ¬

_ (¬1) (7/ 102). (¬2) مشارق الأنوار (1/ 376)، ونص الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري (187)، جواز الفتح. انظر: النهاية (4/ 313). (¬3) انظر: المعرب للجواليقي (328)، وقصد السبيل (2/ 431)، وقال: فارسي أو نبطي أو سوادي معرب مشارق (1/ 376). (¬4) المفهم (5/ 2750). (¬5) في الأصل (في)، وما أثبت من ن هـ والمفهم.

[هنا] (¬1) ما نبت على شطوط الجداول، ومسايل الماء، وهو من باب تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان مجاورًا له، أو كان منه بسبب. الرابع: "أقبال" -بفتح الهمزة- ثم قاف. والجداول: جمع جدول أي أوائلها، ورؤسها. وقد فسره المصنف بالنهر الصغير, وهو كالساقية الكبيرة. وقال القرطبي (¬2): الجداول، السواقي، ويسمى [الجدول] (¬3) [الربع] (¬4)، [والجمع: [ربعان] (¬5)، وقال الخليل: الأربعاء الجداول جميع ربيع. وجزم النووي (¬6) في "شرحه": بأن الربيع:] (¬7) الساقية الصغيرة، وقال: في الجداول إنه النهر الصغير كالساقية. ومعنى هذه الألفاظ أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات، وأقبال الجداول وهذه القطعة والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلل هذا دون ذلك وعكسه. ¬

_ (¬1) في المفهم: هاهنا وما أثبت من الأصل ون هـ. (¬2) المفهم (5/ 2750). (¬3) في ن هـ الجمع وما أثبت من الأصل والمفهم. (¬4) في الأصل ون هـ الربيع وما أثبت من المفهم. (¬5) في الأصل ربعًا وما أثبت من المفهم. (¬6) شرح مسلم (10/ 198). (¬7) في ن هـ ساقطة.

الوجه الرابع: في أحكامه. الأول: فيه دلالة على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، ورد على من منعه مطلقًا. والأحاديث المطلقة بالنهي عن كرائها مؤولة وقد أسلفنا المسألة باختلاف العلماء فيها والجواب عما عارضها في الحديث الثامن من باب ما نهى عنه من البيوع. الثاني: فيه دلالة أيضًا على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة مجهولة. الثالث: فيه دلالة أيضًا على جواز كرائها بشيء معلوم [مضمون] (¬1) في الذمة من الطعام لقول رافع: "فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به" وخالف مالك في الطعام، كما أسلفناه عنه هناك. الرابع: فيه قبول خبر الواحد وأنه حجة. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 308/ 11/ 58 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -[قال] (¬1): "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لمن وهبت له" (¬2). وفي لفظ: "من أعمر عُمرى له ولعقبه، فإنها للذي أُعطيها. لا ترجع إلى الذي أعطاها. لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث" (¬3). وقال جابر: "إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت: فإنها ترجع إلى صاحبها" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) مسلم (1625)، والبخاري أطرافه (2625)، وأبو داود (3550)، والنسائي (6/ 277)، والطيالسي (1687)، والبيهقي (6/ 173) , والطحاوي (4/ 92)، وأحمد (3/ 304، 393). (¬3) البخاري (2625)، ومسلم (1625)، وأبو داود (3550)، والترمذي (1350)، ومالك (2/ 756)، والنسائي (6/ 275، 276)، وابن ماجه (2380)، والطحاوي (4/ 93)، والبيهقي (6/ 172). (¬4) مسلم (1625) , وابن الجارود (988)، وأبو داود (3555)، والبيهقي (6/ 172)، وأحمد (3/ 294)، وعبد الرزاق (16887).

وفي لفظ لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمري فهي للذي أعمرها: حيًا، وميتًا ولعقبه" (¬1). والكلام عليه من وجوه: الأول: ترجم البخاري على هذا الحديث ما قيل في العمرى والرقبي (¬2)، وذكره باللفظ الأول بزيادة: "أنها قيل لمن وهبت له". قال عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين"، ولم يخرج البخاري عن جابر في العمرى غيره، ولم يذكر في هذه الترجمة حديثًا في الرقبى. ولفظ مسلم: "أيما رجل أعمر رجلًا عمرى"، بدل "من أَعمر رجلًا عمرى". وله في لفظ آخر: "من أَعمر رجلًا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله: "حقه فيها. وهي لمن أُعمر ولعقبه". وذكره بلفظ جابر أيضًا المذكور في الكتاب وعجيب منه كونه عزى الأخير إلى مسلم فإن ظاهره إن ما عداه في البخاري أيضًا، وقد علمت كلام عبد الحق فيه ولفظ مسلم في الأول: "العمرى لمن وهبت له". والثاني: "العمرى" (¬3) فُعلى من العُمَر [فيه لغة ثالثة فتح العين ¬

_ (¬1) مسلم (1625)، والنسائي (6/ 274)، والبيهقي (6/ 173)، وأحمد (3/ 312، 374، 386، 389)، وابن أبي شيبة (7/ 138، 142). (¬2) ح (2626). (¬3) بضم المهملة وسكون الميم مع القصر، وحكى ضم الميم مع ضم أوله، =

وإسكان الميم] (¬1)، وهي هبة المنافع مدة العمر، وهي على وجوه: أحدها: أن يصرح بها للمعمر ولورثته من بعده فهذه هبة محققه يأخذها الوارث بعد موته، فإن لم يكن فبيت المال. [الثاني] (¬2): أن يعمر ويشترط الرجوع إليه بعد موت المعمر، وفي صحة هذه العمرى خلاف لما فيها من تغيير وضع الهبة والأصح عند الشافعية الصحة، وكأنهم عدلوا به عن قياس سائر الشروط الفاسدة. [الثالث] (¬3): أن يقتصر على أنها للمعمر مدة حياته، ولا يتعرض لما بعد الموت فأشهر أقوال الشافعي في القديم بطلانها لقول جابر السالف. والجديد من مذهبه: الصحة وله حكم الهبة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (العمرى ميراث لأهلها) متفق عليه (¬4). من حديث أبي هريرة، والخلاف في هذه مرتب على التي قبلها، وأولى بالصحة لعدم اشتراط شرط يخالف مقتضى العقد. ¬

_ = وحكى فتح أوله مع السكون مأخوذ من العمر. اهـ. من الفتح (5/ 238). (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ثانيها. (¬3) في ن هـ ثالثها. (¬4) أخرجه مسلم فقط باب العمرى (11/ 73)، وأخرجه البخاري بلفظ "العمرى جائزة" ح (2626).

وقول جابر: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لمن وهبت له) يحتمل حمله على الصورة الثالثة وهو أقرب إذ ليس في اللفظ تقييد، ويحتمل أن يحمل على الثانية، وهو مبين بالكلام بعده في الرواية الأخرى، ويحتمل أن يحمل على جميع الصور إذا قلنا إن مثل هذه الصيغة من الراوي تقتضي العموم، وفي ذلك خلاف بين الأصوليين. الثالث: في ألفاظه: أُعمر: -بضم أوله- على ما لم يسم فاعله أجود من الفتح كما نبه عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط". والعقب: -بفتح أوله وكسر ثالثه وإسكانه أيضًا مع فتح العين وإسكانها- كما في نظائره، أولاد الإِنسان ما تناسلوا. وقوله: "لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" يريد أنها التي شرط فيها له ولعقبه، ويحتمل أن يريد يكون المراد صورة الإطلاق، ويؤخذ كونه وقعت فيه المواريث من دليل آخر، ونص الحديث يبعده. ومعنى قول جابر: "أجازها" أمضاها، وجعلها للعقب لا تعود. وقد نص على أنه إذا قيدها بحياته تعود. وهو تأويل منه. ويجوز أن يكون رواه، أعني كقوله: "إنما العمرى" إلى آخره، فإن كان مرويًا فلا إشكال في العمل به، وإلَّا فيرجع إلى أن تأويل الصحابي الراوي، هل يكون مقدمًا من حيث إنه [قد] (¬1) تقع له قرائن تورثه العلم بالمراد، ولا يتفق تعبيره عنها. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وإحكام الأحكام (4/ 146)، مع التصرف في النقل عنه.

وقوله: "أمسكوا عليكم أموالكم" إلى آخره، المراد به إعلامهم أن العمري هبة صحيحة ماضية، فإنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية يرجع فيها. الرابع: في الحديث أحكام: الأول: صحه العمري، وحكى الماوردي عن داود وأهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث (¬1) ذهبوا إلى بطلانها استدلالًا بعموم النهى كذا نقله عنهم (¬2)، وابن حزم (¬3) من الظاهرية قد قال بالصحة. ثم أجاب الماوردي: بأن النهى متوجه إلى الحكم أو إلى اللفظ الجاهلي والحكم المنسوخ. وقال أحمد (¬4): تصح العمرى المطلقة ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة أنهم. (¬2) الماوردي. الحاوي الكبير (9/ 407). (¬3) قال ابن حزم -رحمنا الله وإياه- في المحلى (9/ 164)، العمرى والرقبى هبة صحيحة تامة يملكها المعمر والمرقب كسائر ماله يبيعها إن شاء وتورث عنه ولا ترجع إلى المعمر ولا إلى ورثته، سواء اشترط أن ترجع إليه أو لم يشترط وشرطه لذلك ليس بشيء. اهـ. محل المقصود منه. أما شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- فإنه قال في الاختيارات (316): تصح العمرى، ويكون الشيء المتبرع به للمُعمَر، -بفتح الميم-، أي: المتبرع له، ثم لورثته من بعده، إلَّا أن يشترط المُعُمِر -بكسر الميم- عودها إليه، فيصح الشرط. اهـ. (¬4) قال أبو عمر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (22/ 321)، من قال في العمري بحديث أبي الزبير عن جابر وما كان مثله في العمري جعل =

[دون] (¬1) المؤقتة. تنبيه: الرّقبى كالعمرى، وقد نص ابن حزم من الظاهرية على صحتها أيضًا (¬2). الثاني: أن الموهوب له يملكها ملكًا تامًا، يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وبه قال الشافعي والملك عنده، وعند ¬

_ = العمري هبة مبتولة ملكًا للذي أعمرها، وأبطل شرط ذكر العمر فيها. * وبهذا قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما. * وهو قول عبد الله بن شبرمة، وسفيان والثوري، والحسن بن صالح، وابن عيينة، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد كل هؤلاء يقولون بالعمري هبة مبتولة يملك المعمر رقبتها، ومنافعها، واشترطوا فيها القبض كسائر الهبات، فإذا أقبضها المُعْمَر ورثها عنه ورثته بعده كسائر أمواله، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطل شرط المُعْمِر فيها وجعلها ملكًا للمُعمِر موروثًا عنه. * قالوا وسواء ذكر المعقب في ذلك والسكوت عنه, لأنه لو أعمرها من أعقبها، أو من لا يكون له عقب كالمحجوب، والعقيم، فقال: لك ولعقبك أو قال ذلك لمن لا عقب، فماتوا قبله لم يكن لذكر العقب معنى يصح، إلَّا أنها حينئذٍ تورث عندهم عنه، وقد يرثه غير عقبه. * قالوا: فذكر العقب لا معنى له في ذلك، وإنما المعنى الصحيح ما جاء به الأثر واضحًا أن العمري تورث عن المعطى لملكه لها بما جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك له حياته، وموته، وهو قول جابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عباس. اهـ. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: ت (3)، ص 494.

الجمهور متوجه إلى الرقبة (¬1). وقيل: إلى المنفعة فقط وهو مشهور مذهب مالك (¬2). وقيل: في العمرى إلى الرقبة وفي الرقبى إلى المنفعة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد (¬3) ويحكى عنهما البطلان فيهما. ¬

_ (¬1) قال أبو يوسف والشافعية والحنابلة: إذا قبضها فهي هبة، وقوله: "رقبي وحبيسة"، باطل: ودليلهم ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أجاز العمري والرقبي -منه حديث الباب- ومنه حديث ابن عمر عند النسائي: "لا عمري ولا رقبي، فمن أعمر شيئًا أو أرقبه، فهو له حياته ومماته"، ولأنه في قوله: "داري لك" تمليك العين، لا تمليك المنفعة، وقياسًا على قوله: "هي عمري". اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 9). قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في المعالم (5/ 195)، على قوله: "فهي له ولعقبه" بيان وقوع الملك في الرقبة والمنفعة جميعًا. اهـ. (¬2) أما المالكية فقد أجازوا العمري وأبطلوا الرقبي كالحنفية، وعرفوا العمري بأنها تمليك منفعة عقار أو غيره لشخص بغير عوض مدة حياته، فماذا مات المعمر له رجع الشيء المعمر لمن أعمره له، إن كان حيًا، ولورثته إن كان ميتًا. (¬3) فعند الأحناف إذا قال: المعمر للمعمر: "هذه الدار رقبى أو حبيسة" فهي عارية في يده، ويأخذها منه متى شاء عند أبي حنيفة ومحمد، واستدلا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أجاز العمري، وأبطل الرقبي"، قال الزيلعي في نصب الراية حديث غريب (4/ 128) , ولأن قوله: ذلك تعليق للتمليك بأمر على خطر الوجود وخطر العدم، والتمليكات لا تحتمل التعليق بالخطر الاحتمالي المتردد بين الوجود وعدم الوجود فلم تصح هبة، وصحت عارية, لأنه دفع الدار إليه، وأطلق له الانتفاع به وهذا معنى العارية. اهـ. وما قبله من الفقه الإِسلامي (5/ 9).

ودليل الجمهور الأحاديث الصحيحة في ذلك ولو قيل بتحريمها النهي وصحتها للحديث لم يبعد كطلاق [الحائض] (¬1) لكنه غريب [في] (¬2) العقود. الثالث: الأمر بإصلاح الأموال باتباع الشرع في التصرف فيها والنهي عن إفسادها بمخالفته والتنبيه على التثبت فيما يخرجه حتى يتروى ويتدبر العاقبة خوفًا من الندم على ما فعل فيبطل أجره أو يقل. الرابع: أن الهبة يملكها الموهوب له مدة حياته، وتورث بعده ولا يرجع فيها الواهب في حياته، ولا بعد من وهبت له. الخامس: [أن] (¬3) الموت والأرث، يقطعان جميع الأملاك. السادس: أن الحيل المحرمة والمكروهة مفسدة للأموال. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقط. (¬2) في ن هـ عن. (¬3) في ن هـ ساقطة.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 309/ 12/ 58 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمنعن جارٌ جارَهُ أن يغرز خشبةً في جداره. ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم) (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ذكره البخاري (¬2) في كتاب المظالم من "صحيحه" باللفظ المذكور [إلَّا أنه قال: "لا يمنع"، بدل "لا يمنعن"، وقال: "لأرمينها"، بدل "لأرمين بها"، وفي نسخة منه: "لأرمين بها". ورواه مسلم بلفظ:] (¬3) "لا يمنع أحدكم جاره" إلى آخره. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2463)، ومسلم (1609)، والترمذي (1353)، وأبو داود (3634)، في الأقضية باب أبواب من القضاء، وابن ماجه (2335)، والحميدي (1077)، والبيهقي (6/ 68)، ومالك (2/ 745)، وأحمد (240/ 2، 396، 463)، والبيهقي في معرفة السنن (9/ 33). (¬2) الفتح (5/ 110)، ح (2463). (¬3) في ن هـ ساقط.

الثاني: اختلف أصحابنا فيما إذا أوصى لجيرانه على أوجه كثيرة أوضحتها في "شرح المنهاج" والأصح عندهم أنه [تصرف] (¬1) إلى أربعين دارًا من كل جانب، وهو قول الأوزاعي، فإنه قال أربعون دارًا من كل ناحية جار. وقال قوم: من سمع الإِقامة فهو جار المسجد ويقرر ذلك في الدور. وقال آخرون: من سمع الأذان. وقال آخرون: من ساكن رجلًا في محلة أو مدينة فهو جاره، ومنه قوله تعالي: {لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)} (¬2). واختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (¬3) على أقوال: أحدها: أن الأول الجار القريب النسيب. والثاني: الجار الذي لا قرابة بينك وبينه، قاله ابن عباس وطائفة. ثانيها: أن الأول المسلم. والثاني: الذمي. ثالثها: أن الأول القريب المسكن منك. والثاني: البعيد. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) سورة الأحزاب: آية 60. (¬3) سورة النساء: آية 36.

قال ابن عطية (¬1): وهذا منتزع من حديث عائشة يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدى؟ قال: إلى أقربهما منك بابًا" (¬2). وقيل: إن الثاني: الزوجة، وقال بعض الأعراب: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه. قلت: وكأن الجار من الألفاظ المشترك فيقع على المخالطة ومنه قول الأعشى (¬3): أجارتنا بيني فإنك طالقة. وعلى من بينه وبينه أربعون دارًا من كل جانب. الثالث: روى خشبه بالأفراد والجمع. قال القاضي عياض: رويناه في "صحيح مسلم" وغيره من الأصول والمصنفات بهما. وقال الطحاوي (¬4): عن روح بن الفرج سألت أبا زيد، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى فقالوا: كلهم بالتنوين على الأفراد. قال عبد الغنى بن سعيد: كل الناس يقولونه بالجمع إلَّا الطحاوي (¬5). ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز (4/ 110). (¬2) البخاري الفتح (2259). (¬3) انظر: مشارق الأنوار (1/ 245)، وشرح مسلم للنووي (11/ 47)، نقلًا عنه سبق في ت (1) ص 421. (¬4) المفهم (5/ 2911)، نقلًا عنه، وشرح مسلم للنووي (11/ 47)، والفتح (5/ 110). (¬5) قال ابن حجر في الفتح (5/ 110)، بعده: وما ذكرته من اختلاف الرواة =

قال القرطبي (¬1): وإنما اعتنى هؤلاء الأئمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف, لأن أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة (¬2) بخلاف الجمع. الرابع: الجِدَارُ، والجُدُرُ: الحائط قال الجوهري (¬3): الجِدارِ: جُدُر، وجمع الجِدْرِ [جُدْران] (¬4). ¬

_ = في الصحيح يرد على عبد الغني بن سعيد إلَّا إن أراد خاصًا من الناس كالذين روى عنهم الطحاوي فله اتجاه. اهـ. (¬1) المفهم (5/ 2911)، مختصرًا قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 110)، على باب: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، قال: كذا لأبي ذر بالتنوين علي إفراد الخشبة، ولغيره بصيغة الجمع وهو الذي في حديث الباب، قال ابن عبد البر: روى اللفظان في الموطأ والمعنى واحد لأن المراد بالواحد الجنس. اهـ. وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين، وإلَّا فالمعنى قد يختلف باعتبار أن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير. اهـ. أقول وبالله التوفيق ومنه العون والتسديد: فكلام ابن عبد البر في التمهيد (10/ 221)، قد روى اللفظان جميعًا في الموطأ عن مالك وقد اختلف علينا فيها الشيوخ في موطأ يحيى على الوجهين جميعًا، والمعنى واحد، لأن الواحد يقوم مقام الجميع في هذا المعنى إذا أتى بلفظ النكرة عند أهل اللغة العربية. اهـ. ولعل ابن حجر ساقه بالمعنى فليتنبه لذلك. (¬2) في ن هـ زيادة بها. (¬3) انظر: مختار الصحاح (48). (¬4) في ن هـ جدرات وما أثبت من الأصل ومختار الصحاح.

الخامس: الضمير في "بها" وبعده في "عنها" عائد إلى غير مذكور لفظًا بل معنى وهي السنة، أي: فوالله لأرمين، بهذه السنة، وألزمكم العمل بها. وقال القاضي حسين والإِمام من أصحابنا: قيل: أراد لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجار بين أكتافكم قصده به المبالغة، وقالا: إن ذلك جرى منه حين ولي مكة أو المدينة. وجاء في سنن أبي داود (¬1): "فنكسوا رؤوسهم، فقال: ما لي أراكم قد أعرضتم؟. . ." الحديث. السادس: "أكتافكم" هو بالمثناة فوق، أي: بينكم، ورواه بعض رواة الموطأ (¬2): "بالنون"، ومعناه أيضًا بينكم. والكتف: الجانب ومعنى الأول، أي: أصرح بينكم وأوجعكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه. وفي رواية في بعض نسخ مسلم، وعليها شرح القرطبي (¬3): "بين أظهركم" وفي رواية لأبي عمر (¬4): "بين أعينكم وإن كرهتم". السابع: في أحكام الحديث: الأول: مراعاة حق الجار في كل شيء، حتى في دخول الضرر في ملكه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ت (1) ص 498. (¬2) في التمهيد (10/ 221)، وكذلك اختلفوا علينا في: "أكتافكم"، و"أكنافكم"، والصواب فيه إن شاء الله: وهو أكثرُ التاء. اهـ. (¬3) المفهم (5/ 2912). (¬4) الاستذكار (22/ 231)، والمفهم (5/ 2912).

الثاني: تقديم حق الشرع على حظ النفس في الأملاك. الثالث: قبول الشرع وإن كرهته النفس والانشراح له من غير إعراض عنه. الرابع: عدم منع الجار من وضع خشبة على حائط جاره عارية إذا كانت خفيفة لا تضر. واختلف العلماء في هذا المنع هل هو للتحريم أو للكراهة؟ وفيه قولان للشافعي. أحدهما: وهو نصه في القديم، وفي البويطي أيضًا، وهو من الجديد أنه للتحريم (¬1). وثانيهما: أنه للتنزيه (¬2)، وحمل الحديث -إذا كان بصيغة ¬

_ (¬1) قال البيهقي -رحمنا الله وإياه- في معرفة السنن (9/ 37)، وأما حديث الخشب في الجدار، فإنه حديث صحيح ثابت لم نجد في سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعارضه، ولا تصح معارضته بالعمومات. * وقد نص الشافعي في القديم والجديد على القول به، ولا عذر في مخالفته، وبالله التوفيق. اهـ. (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- فى إحكام الأحكام (4/ 148)، على قوله: "أنها لا تجب" -أي: بمعنى أنها للتنزيه-، قالوا: إذ لو كان واجبًا لما أطبقوا على خلافه ولا أعرضوا حين حدثهم، قال النووي: كان العمل في ذلك العصر على خلافه إذ لو كان واجبًا لما أعرض الصحابة عنه، ولا أعرضوا حين حدثهم، ومثله قال المهلب، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 111): لا أدري من أين له أن المعرضين كانوا صحابة؟ ولم لا يجوز أن يكونوا غير فقهاء؟ بل هو المتعين، إذ لو كانوا صحابة أو فقهاء يواجههم بذلك، وقد قوى الشافعي في القديم القول بالوجوب بأن عمر قضى به ولم يخالفه أحد، الخ. . .

النهي -على التنزيه- وإذا كان بصيغة الأمر -على الاستحباب، وهذا القول هو الصحيح من مذهب مالك أيضًا، وبه قال: "أبو حنيفة (¬1) والكوفيون وعزى إلى الأكثرين. وبالأول قال أحمد ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (22/ 225، 226). واختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث: فقال منهم قائلون: معناه الندب إلى بر الجار، والتجاوز له والإحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب. وممن قال ذلك؛ مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما. ومن حجتهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلَّا عن طيب نفس منه". وذكر ابن عبد الحكم، عن مالك، قال: ليس يقضى على رجل أن يغرز خشبة في جداره لجاره، وإنما نرى أن ذلك كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الوصاية بالجار. قال: ومن أعار صاحبه خشبة يغرزها في جداره، ثم أغضبه، فأراد أن ينزعها، فليس له ذلك، وأما إن احتاج إلى ذلك بأمر نزل به، فذلك له. قال: وإن أراد أن يبيع داره، فقال: انزع خشبك فليس ذلك له. قال أبو حنيفة، وأصحابه: معنى الحديث المذكور الاختيار، والندب في إسعاف الجار وبرِّه -إذا سأله ذلك- وهو مثل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد، فلا يمنعها"، وهذا معناه عند الجميع الندب على حسب ما يراه الزوج من الصلاح والخير في ذلك. وقال ابن القاسم: سئل مالك عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره". قال مالك: ما أرى أن يقضي به، وما أراه إلا من وجه المعروف من النبي - صلى الله عليه وسلم -. =

وأبو ثور وأصحاب الحديث (¬1): لظاهر قول أبي هريرة وإشعاره ¬

_ = قال ابن القاسم: وسئل مالك عن رجل كان له حائط، فأراد جاره أن يبني عليه سترة يستتر بها منها؟ قال: لا أرى ذلك له إلَّا بإذن صاحبه. وقال آخرون: ذلك على الوجوب إذا لم تكن في ذلك مضرَّة بيِّنة على صاحب الجدار. وممن قال بهذا: الشافعي، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود بن علي، وجماعة أهل الحديث، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنع الجار جاره من ذلك، ألا ترى أن أبا هريرة رأى الحجة فيما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما أرى من ذلك، وقال: والله لأرمين بها بين أكتافكم، وهذا بيِّن في حمله ذلك على الوجوب عليهم، ولو كرهوا, ولولا أنه فهم فيما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب. اهـ. (¬1) وقال أيضًا: (22/ 226، 227). وهو مذهب عمر بن الخطاب، قضى به على محمَّد بن مسلمة للضحاك بن خليفة. وقضى بمثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف على جد يحيى بن عمارة الأنصاري. والقضاء بالمرفق خارج بالسنَّة عن معنى قوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"؛ لأن هذا معناه التمليك، والاستهلاك، وليس المرفق من ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرق في الحكم بينهما فغير واجب أن بجمع ما فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاضٍ يقضي به يسمى "المطَّلب". وروى ابن نافع أنه سئل عن معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" هل ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الوصاية بالجار أم يقضي به القضاة؟ =

بالوجوب. وقوله: (ما لي أراكم عنها معرضين) إلى آخره يقتضي التشديد، ولحوق المشقة فيه، والكراهة لهم, لأنهم فهموا من الحديث الندب دون الإيجاب , فرده عليهم , وبعض من انتصر للثاني أعاد الضمير في جداره إلى الجار، أي إذا وضع خشبة على جدار نفسه، ليس لجاره منعه وإن تضرر بمنع الضوء ونحوه فيكون (¬1) موافقًا للأصول، ورجح بأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور. واختار الروياني: التفصيل من أن يظهر بعيب فاعله أم لا، وإنما يجبر على القول بشروط محل الخوض فيها كتب الفروع فإنه أليق بها، وقد ذكرتها في "شرح المنهاج" وغيره ولله الحمد. الخامس: تبليغ العلم لمن [لم] (¬2) يرده ولا استدعاه إذا كان من الأمور المهمة وإقامة الحجة على المخالف ليرجع. ¬

_ = فقال: أرى ذلك أمرًا دل الناس عليه، وأمروا به في حق الجار. قيل: أفترى أن يقضي به القضاة؟ قال: قد كان المطلب يقضي به عندنا، وما أراه إلَّا دليلًا على المعروف، وإني منه لفي شك. اهـ. (¬1) قال ابن حجر في الفتح (5/ 111)، بعد سياقه: ولا يخفى بعده، وقد تعقبه ابن التين بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وقد رده أكثرُ أهل الأصول، وفيما قال نظر لأن لهذا القائل أن يقول: هذا مما يستفاد من عموم النهي لا أنه المراد فقط، والله أعلم. اهـ. (¬2) في ن هـ لا.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 310/ 13/ 58 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ظلم قِيدَ شبر من الأرض: طُوّقَهُ [. .] (¬1) من سبع أرضين) (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: في ألفاظه: "الظلم" [لغة] (¬3) وضع الشيء في غير موضعه. (وقيد): بكسر القاف وإسكان الياء، أي قدر شبر يقال: قيد، وقاد وقيس، وقاس، بمعنى واحد. [وقيده] (¬4) بالشبر للمبالغة والتنبيه على ما زاد عليه فإنه أولى ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (الله). (¬2) البخاري (2453)، ومسلم في كتاب المساقاة باب تحريم الظلم وغصب الأرض (4/ 11/ 50 - النووي)، والبيهقي في السنن (6/ 98، 99)، وأحمد (6/ 64، 79، 252). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ ساقطة.

منه، ونظيره قوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر: "وإن كان قضيبًا من أراك". وفي معنى: "طوقه", قولان: أحدهما: جعل له الطوق في عنقه كالغل كما قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} (¬1) وبه جزم الشيخ تقي الدين (¬2) وصححه البغوي (¬3). الثاني: أنه يطوق إثم ذلك، ويلزمه كلزوم الطوق في العنق، وفيه قول ثالث: أنه يحمل مثله في سبع أرضين، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬4) ويكلف إطاقة ذلك، ويطول الله عنقه كما جاء في غلظ جلد الكافر وعظم ضرسه (¬5). وفيه قول رابع: أن يخسف به في مثل الطوق بها، ويؤيده رواية البخاري (¬6) من حديث ابن عمر: "خسف به يوم القيامة إلى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 180. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 149). (¬3) شرح السنة (8/ 229). (¬4) سورة آل عمران: آية 161. (¬5) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث" مسلم (2851)، في صفة الجنة، والترمذي (2582)، وأحمد (2/ 328)، والبغوي (15/ 250). (¬6) البخاري أطرافه (2454)، والفتح (5/ 103).

سبع أرضين". وفيه قول خامس: أنه يجمع كل ذلك عليه. قال القرطبي (¬1): وقد دل على ذلك ما رواه [الطبراني] (¬2) في هذا الحديث [وقال] (¬3) كلفه [الله] (¬4) حمله حتى يبلغ سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضي بين [. .] (¬5) الناس". و"الأرضون": بفتح الراء والإِسكان قليل شاذ حكاه ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2914). (¬2) في النسخ (الطبري)، وما أثبت حسب مصدر الحديث فلعله خطأ من النساخ. الحديث في معجم الطبراني الكبير بألفاظ. منها: عن يعلى بن مرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض، كلفه الله أن يحضره حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يفصل بين الناس"، والطبراني (22/ 692)، والمسند (4/ 7173 وابن حبان (5164). ومنها: "من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر"، وابن أبي شيبة (6/ 665)، وابن حبان في الثقات (4/ 48)، والطبراني (22/ 691). * "من ظلم من الأرض شبرًا فما فوقه، كلف أن يحمله يوم القيامة حتى يبلغ الماء، ثم يحمله إلى المحشر"، الطبراني (22/ 695). * "من سرق شبرًا من الأرض أو أنملة جاء يحمله يوم القيامة إلى أسفل الأرضين"، الطبراني (22/ 693). (¬3) في المفهم: قد. (¬4) زيادة من ن هـ والمفهم. (¬5) في المفهم وهـ زيادة (الله).

الجوهري (¬1) وغيره وجمعت بالواو والنون وإن فقدت الشروط جبرًا لها لما نقصها من ظهور علامة التأنيث إذ لم يقولوا أرضه كما جمعوا سنين بالواو والنون عوضًا من حذف لامها. الثاني: هذا الحديث مصرح بأن الأرضين [سبع] (¬2) طباق وهو موافق لقوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (¬3). وأما تأويل المثلية على الهيئة والشكل فخلاف الظاهر، وكذا قول من قال المراد بالحديث سبع أراضين من سبع أقاليم لا إن الأرضين سبع طباق، وهو بعيد كما ذكرته في شرح الخطبة. وأبطلوه بأنه لو كان كذلك لم يطوق الظالم الشبر من هذا الأقليم شيئًا من أقليم آخر، أي لأن الأصل في العقوبات المساواة بخلاف طبقات الأرض، فإنها تابعة لهذا الشبر في الملك، فمن ملك شيئًا من هذه الأرض ملكه وما تحته من الطباق نعم عندنا خلاف في أن المعدن الباطن وهو ما لا يخرج إلَّا بعلاج كذهب وفضة: هل يملك بالحفر والعمل في الموات بقصد التملك والأظهر من قولي الشافعي المنع. والثاني: تملك إلى القرار ولا خلاف عندنا أنه لو أحيا مواتًا فظهر فيه معدن ملكه لأنه من أجزاء الأرض بخلاف الركاز، فإنه مودع فيها. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (13). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) سورة الطلاق: آية 22.

قال القاضي عياض: وقد جاء في غلظ الأرضين وطباقهن وما بينهن حديث ليس بثابت. الثالث: في أحكامه: الأول: تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته. الثاني: إمكان غصب الأرض وهو مذهب الشافعي والجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يتصور غصبها. الثالث: أن بعض العقوبات يكون من جنس المعاصي في الصورة أو أزيد للتنفير عن المعصية ولا يخفى أن هذه العقوبة مقيدة بعدم التوبة من هذه المعصية فأما من تاب منها بشروطها فلا تطوق عليه. الرابع: فيه أيضًا التنبيه على أن من ملك أرضًا ملكها إلى قرارها كما يملك الهواء تبعًا للملك وقد أسلفنا ذلك [. .] (¬1)، والخلاف ثابت عند المالكية أيضًا فيما إذا ملك أرضًا هل يملك ما فيها من معدن أو كنز حكاه القرطبي (¬2). فقيل: نعم. وقيل: هو للمسلمين. الخامس: استدل بهذا الحديث الداودي على أن السبع ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (لك). (¬2) المفهم (5/ 2915).

الأراضين لم يفتق بعضها من بعض قال: لأنه لو فتق بعضها من بعض لم يطوق منه ما ينتفع به غيره (¬1). وفيما ذكره نظر، لأن لفظ السبع عدد وهو مقتضي الانفصال المعدود بعضه من بعض. ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق.

59 - باب اللقطة

59 - باب اللقطة هي بفتح القاف على المشهور، كما أسلفته في الحديث الثاني من باب حرمة مكة مع باقي اللغات الأربع فيها فراجعه من ثم. وذكر المصنف في الباب (¬1) حديثًا واحدًا وهو: 311/ 1/ 59 - عن زيد بن خالد الجهيني - رضي الله عنه - قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن [لقطة] (¬2) الذهب، والورق؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإنه لم تعرف، فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فأداها إليه، وسأله عن ضالة الإِبل؟، فقال: مالك ولها؟ دعها. فإن معها حذاءها [وسقاءها] (¬3) ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة؟ فقال: خذها. فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة الأول. (¬2) مكررة في ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) البخاري (2372)، ومسلم في كتاب اللقطة (4/ 11/ 20، 25) النووي، والترمذي (1372، 1373)، وابن ماجه (2504)، والنسائي في الكبرى =

الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث بوب عليه البخاري أبوابًا (ضالة الإِبل) (¬1)، (ضالة الغنم) (¬2) (إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة، فهي لمن وجدها) (¬3) [إذا [جاء] (¬4) بعدها] (¬5) [من عرفها ولم يدفعها إلى السلطان] (¬6). والسياق الذي ذكره المصنف هو لمسلم. وقال عن "اللقطة الذهب والورق"، بدل من: "لقطة الذهب والورق"، وكذا هو في بعض النسخ وبعض الشروح وروايات البخاري بمعناه، ولم يذكر "الذهب والورق". ¬

_ = (3/ 419)، وأبو داود (1704)، ومالك ففي الموطأ (2/ 579)، وابن الجارود (667)، والحميدي (2/ 357)، والبيهقي في السنن (6/ 185، 186)، والدارقطني (4/ 235)، والبغوي في شرح السنة (8/ 308، 313)، وابن أبي شيبة (5/ 191). (¬1) البخاري (2427)، والفتح (5/ 80). (¬2) الفتح (5/ 83)، ح (2428). (¬3) الفتح (5/ 84)، ح (2429). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) هذا باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه, لأنها وديعة عنده. الفتح (5/ 91)، ح (2436). (¬6) باب من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان. الفتح (5/ 93)، ح (5438).

وذكر عن يحيى بن سعيد أحد رواة الحديث الشك في رفع قوله: "ولتكن وديعة عندك"، وفي رواية لمسلم: "فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءه فأعطها إياه، وإلَّا فهي لك"، وفي رواية له: "عرفها سنة فإن لم تعرف فاعرف عفاصها ووكاءها، ثم فكها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه" (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 83)، على قوله: "ثم عرفها سنة، يقول يزيد: إن لم تعرف استنفق بها صاحبها"، أي: ملتقطها وكانت وديعة عنده: "قال يحيى هذا الذي لا أدري أهو في الحديث أم شيء من عنده"، أي: من عند يزيد، والقائل يقول يزيد هو يحيى بن سعيد الأنصاري. والقائل: "قال" هو سليمان، وهما موصولان بالإسناد المذكور والغرض أن يحيى بن سعيد شك هل قوله: "ولتكن وديعة عنده" مرفوع أو لا، وهذا القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله الثبوت ما قبله في أكثرُ الروايات، وخلوها عن ذكر الوديعة. وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى، وذلك فيما أخرجه مسلم عن القعنبي والاسماعيلي من طريق يحيى بن حسان كلاهما عن سيمان بن بلال عن يحيى فقال فيه: "فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك" وكذلك جزم برفعها خالد بن مخلد، عن سليمان بن ربيعة عند مسلم، والفهمي عن سليمان، عن يحيى وربيعة جميعًا عند الطحاوي، وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم بعد أبواب: "إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه, لأنها وديعة"، قال عليه في الفتح (5/ 91)، أورد فيه حديث زيد بن خالد، من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة، وليس فيه ذكر الوديعة فكأنه أشار إلى رجحان رفع رواية سليمان بن بلال الماضية قبل خمسة أبواب وقد تقدم بيانها، وقال ابن بطال: استراب البخاري بالشك المذكور فترجمه بالمعنى، وقال ابن المنير: أسقطها لفظًا وضمنها معنى لأن قوله: =

الثاني: في التعريف براويه، وهو زيد بن خالد الجهيني -بضم الجيم- من جُهينة (¬1) وهي قبيلة من قضاعة، واسمه: زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة نزلوا الكوفة والبصرة. ينسب إليها خلق كثير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقولي: اسمه زيد بن ليث، قاله السمعاني (¬2) لكن اعترض ابن الأثير عليه وقال: جهينة هو ابن زيد. وزيد هذا أعنى بن خالد مدني صحابي مشهور وكنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو طلحة، ويقال: أبو محمَّد. وروى أيضًا عن عثمان وغيره وعنه ابنه خالد ومولاه أبو عميرة وسعيد بن المسيب وغيرهم، له أحاديث عدتها أحد وثمانون حديثًا اتفقا على خمسة وانفرد مسلم بثلاثة. مات بالمدينة، وقيل: بالكوفة وقيل: بمصر سنة ثمان وسبعين. وقيل: سنة ثمان وسبعين عن خمس وثمانين سنة وكان معه لواء جهينة يوم الفتح (¬3). ¬

_ = "فإن جاء صاحبها فأدها إليه" يدل على بقاء ملك صاحبها خلافًا لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان. اهـ. (¬1) انظر: اللباب (1/ 317)، والأنساب للسمعاني (2/ 134)، ولب اللباب في تحرير الأنساب (1/ 225). (¬2) الأنساب (2/ 134)، واللباب (1/ 317). (¬3) انظر: أسد الغابة (2/ 228).

الثالث: هذا السائل قال الصعبي: في كلامه على رجال هذا الكتاب فيما رأيته بخطه أنه بلال بن رباح المؤذن ولم أر من تعرض له سواه [ثم رأيته بعد في كتاب بن بشكوال (¬1) ¬

_ (¬1) غوامض الأسماء المبهمة (842)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 80)، على قوله: "جاء إعرابي" في رواية مالك عن ربيعة "جاء رجل"، وزعم ابن بشكوال وعزاه لأبي داود وتبعه بعض المتأخرين أن السائل المذكور هو بلال المؤذن، ولم أر عند أبي داود في شيء من النسخ شيئًا من ذلك، وفيه بعد أيضًا لأنه لا يوصف بأنه أعرابي، وقيل: السائل هو الراوي، وفيه بعد أيضًا لما ذكرناه ومستند من قال ذلك ما رواه الطبراني من وجه آخر عن ربيعة بهذا الاسناد فقال فيه: "أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -" لكن رواه أحمد من وجه آخر عن زيد بن خالد فقال فيه: "أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أو أن رجلًا سأل" على الشك وأيضًا فإن في رواية ابن وهب المذكورة عن زيد بن خالد "أتى رجل وأنا معه"، فدل هذا على أنه غيره، ولعله نسب السؤال إلى نفسه لكونه كان مع السائل. ثم ظفرت بتسمية السائل وذلك فيما أخرجه الحميدي والبغوي وابن السكن والبارودي والطبراني، كلهم من طريق محمَّد بن معن الغفاري عن ربيعة، عن عقبة بن سويد الجهني، عن أبيه قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة فقال: "عرفها سنة ثم أوثق وعاءها"، فذكر الحديث وقد ذكر أبو داود طرفًا منه تعليقًا ولم يسق لفظه. وكذلك البخاري في تاريخه وهو أولى ما يفسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد بن خالد. وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني من حديث أبي ثعبة الخشنى، قال: "قلت يا رسول الله الورق يوجد عند القرية. قال: عرفها حولًا" الحديث وفيه سؤال عن الشاة والبعير وهو في أثناء حديث طويل أخرج أصله النسائي، وروى الإسماعيلي في "الصحابة"، من طريق مالك بن عمير، =

] (¬1). وفي صحيح البخاري: "أن أعرابيًا سأل". الرابع: في ألفاظه. قوله: "سئل عن اللقطة الذهب والورق" هو بالألف واللام في "اللقطة" غير مضافة والذهب والورق بدل منها كما قدمته عن رواية مسلم. قال الأزهري (¬2): وأجمع الرواة على تحريك "اللقطة" هنا وإن كان القياس التسكين. ¬

_ = عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة فقال: إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه" الحديث وإسناده واه جدًا، وروى الطبراني من حديث الجارود العبدي قال: "قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللقطة نجدها"، قال: "أنشدها ولا تكتم ولا تغيب" الحديث. اهـ. أقول سماه ابن حجر في الفتح (1/ 186)، بأنه عمير والد مالك -واقتصر عليه-، وانظر: مقدمة فتح الباري (252، 283، 284)، وتلخيص الحبير (3/ 73). قال الصنعاني في سبيل السلام (3/ 123)، ولم يقم برهان على تعيين الرجل. اهـ. (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الزاهر (264)، وقال: واجمع عليه أهل اللغة بدل "واجمع الرواة"، وقال ابن باطيش -رحمنا الله وإياه-: في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء (1/ 435) اللَّقطَةُ: بضم اللام وفتح القاف: هو الشيء الذي يلتقط، وعن الخليل: أنه الذي يُلقطُ الشيءَ، واللقْطَةَ بسكون القاف: ما يلتقط، والأول أشهر. اهـ.

و"العفاص"، و"الوكاء": بكسر أولهما وبعد العين فاء، ثم صاد مهملة، وهو الوعاء من جلد وغيره (¬1). والوكاء: ممدود. الخيط الذي تشد به. قال القاضي عياض: ووهم بعضهم فقصره والصواب: الأول: عند أهل اللغة، وإنما أمر بمعرفتها ليعرف صدق واصفها من كذبه، ولئلا تختلط بماله ويستحب تقييدها بالكتابة خوف النسيان. وعن ابن داود من الشافعية: إن معرفتهما قبل حضور المالك مستحب. وقال المتولي: يجب معرفتهما عند الالتقاط (¬2). فرع: يعرف أيضًا الجنس والقدر وكيل المكيال وطول الثوب وعرضه ودقته وصفاقته. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 81)، وقيل له العفاص: أخذًا من العفص وهو الثنى لأن الوعاء يثنى على ما فيه وقد وقع في زوائد المسند لعبد الله بن أحمد، من طريق الأعمش في حديث؟ "أبي" وخرقتها بدل عفاصها، والعفاص: أيضًا الجلد الذي يكون على رأس القارورة، وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام بكسر الصاد المهملة قلت: فحيث ذكر العفاص مع الوعاء فالمراد الثاني، وحيث لم يذكر العفاص مع الوعاء فالمراد به الأول. اهـ. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (5/ 81)، واختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب لظاهر الأمر، وقيل يستحب وقال بعضهم: يجب عند الالتقاط، ويستحب بعده. اهـ.

وقوله: "ثم عرفها سنة"، إتيان "ثم" (¬1) هنا يدل على المبالغة وشدة التثبت في معرفة العفاص، والوكاء إذ كان وضعها للتراخي والمهلة فكأنه عبارة عن قوله: لا تعجل وتثبت في عرفان ذلك نبه عليه الفاكهي. وقوله: "فإن لم تعرف فاستنفقها" الأمر باستنفاقها أمر إباحة ¬

_ (¬1) وقال أيضًا: (5/ 81). قوله: (عرفها سنة ثم أعرف عفاصها ووكاءها) في رواية العقدي عن سليمان بن بلال الماضية في العلم "اعرف وكاءها، وقال عفاصها" ولمسلم من طريق بشير بن سعيد عن زيد بن خالد "فاعرف عفاصها ووعاءها وعددها" زاد فيه العدد كما في حديث أبي بن كعب. ووقع في رواية مالك كما سيأتي بعد باب "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة" ووافقه الأكثر. نعم وافق الثوري ما أخرجه أبو داود من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث بلفظ: "عرفها حولا، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلَّا اعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك" الحديث. وهو يقتضي أن التعريف يقع بعد معرفة ما ذكر من العلامات. ورواية الباب تقتضي أن التعريف يسبق المعرفة، وقال النووي في شرح مسلم (12/ 23) يجمع بينهما بأن يكون مأمورًا بالمعرفة في حالتين، فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها كما تقدم، ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعريفًا وافيًا محققًا، ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها. قلت: ويحتمل أن تكون "ثم" في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبًا ولا تقتضي مخالفًا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحد والقصة واحدة، وإنما يحسن ما تقدم أن لو كان المخرج مختلفًا فيحمل على تعدد القصة، وليس الغرض إلَّا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق. اهـ.

لا وجوب (¬1). وقوله: "فلتكن وديعة عندك"، قال الشيخ تقي الدين (¬2): ¬

_ (¬1) وقال أيضًا: (5/ 84). قوله: (باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها) أي غنيًا كان أو فقيرًا كما تقدم، أورد فيه حديث زيد بن خالد المذكور من جهة مالك عن ربيعة وفيه قوله "ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلَّا شأنك بها" فيه حذف تقديره فإن جاء صاحبها فأدها إليه وإن لم يجىء فشأنك بها، فحذف من هذه الرواية جواب الشرط الأول وشرط "إن" الثانية والفاء من جوابها، قاله ابن مالك في حديث أبي الآتي في أواخر أبواب اللقطة بلفظ "فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها" وإنما وقع الحذف من بعض الرواة دون بعض، فقد تقدم حديث أبي في أول اللقطة بلفظ "فاستمتع بها" بإثبات الفاء في الجواب الثاني، ومضى من رواية الثوري عن ربيعة في حديث الباب بلفظ "وإلَّا فاستمتع بها" بإثبات الفاء في الجواب الثاني، ومضى من رواية الثوري عن ربيعة في حديث الباب بلفظ "وإلَّا فاستنفقها" ومثله ما سيأتي بعد أبواب من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ "ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه" ولمسلم من طريق ابن وهب المقدم ذكرها "فإذا لم يأت لها طالب فاستنفقها". واستدل به على أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف، وهو ظاهر نص الشافعي، فإن قوله "شأنك بها" تفويض إلى اختياره، وقوله "فاستنفقها" الأمر فيه للإِباحة، والمشهور عند الشافعية اشتراط التلفظ بالتمليك، وقيل تكفي النية وهو الأرجح دليلًا، وقيل تدخل في ملكه بمجرد الالتقاط، وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ربيعة بلفظ "وإلَّا فتصنع بها ما تصنع بمالك". اهـ. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 152)، مع اختلاف يسير.

يحتمل أن يراد بذلك بعد الاستنفاق. ويكون قوله: "وديعة عندك" فيه مجاز في لفظ: "الوديعة" فإنها تدل على الأعيان وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينًا. فتجوّز بلفظ: "الوديعة" (¬1) عن كون الشيء بحيث يُردُّ إذا جاء ربه -أي فإنه يجب عليه رده إليه كسائر الأمانات [ويحتمل أن تكون "الواو"، في قوله: "ولتكن" [بمعنى "أو"] (¬2) فيكون حكمها حكم الودائع والأمانات] (¬3) إذا لم يتملكها فإنه تكون أمانة عنده كالوديعة. قوله: "فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر فأدها إليه" بمعنى إذا تحقق صدق واصفها إما بوصفه لها بأمارة وإما ببينة (¬4) على ¬

_ (¬1) قال الصنعاني في الحاشية (4/ 152)، على قوله: "فتجوّز بلفظ الوديعة" تسميتها في وجوب الرد بالوديعة إطلاق للملزوم على اللازم، ويستفاد من تسميتها "وديعة" أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها، وهو اختيار البخاري تبعًا لجماعة من السلف، انظر: الفتح (5/ 91). (¬2) زيادة من إحكام الأحكام. (¬3) زيادة من ن هـ، وإحكام الأحكام. (¬4) فيه وجوب إقامة النية وذلك لما أخرجه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي، كلهم عن سلمة بن كهيل في هذا الحديث: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعاءها ووكائها فأعطها إياه" وهي زيادة صحيحة ليست شاذة كما قرره الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 78، 79)، حيث قال: وبظاهرها أخذ أحمد ومالك، وقال أبو حنفية والشافعي: إن وقع في نفسه صدقه جاز أن يدفع إليه، ولا يجبر على ذلك إلَّا ببينة, لأنه قد يصيب الصفة، قال الخطابي: إن صحت هذه اللفظة لم يجز مخالفتها، وهي فائدة قوله: "أعرف عفاصها" إلى أن قال: قد صحت هذه الزيادة فيتعين =

اختلاف بين الفقهاء في ذلك فإنه يجب ردها إليه بعد تعريف الملتقط إياها. وقوله: " [وسأله] (¬1) عن ضالة الإِبل"، فالضالة: لا تقع إلَّا على الحيوان، يقال: ضل البعير والإنسان وغيرهما من الحيوان وهي الضوال وأما الأمتعة وما سوى الحيوان فيقال: فيه لقطة ولا يقال: ضال [قال الأزهري: [وغيره] (¬2) يقال، (¬3) [للضوال: الهوامي (¬4) والهوافي، واحدتها: هامية، وهافية، [وهي الهوامل، وقد] (¬5) وهَمَتْ وهَفَتْ، وهملت: إذا [ذهبت] (¬6) على وجهها بلا راع (¬7) [ولا. . . . . . . . . . ¬

_ = المصير إليها، ومع صحة هذه الزيادة يخص صورة الملتقط من عموم البينة على المدعي. اهـ. بتصرف. (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ، وشرح مسلم. (¬3) العبارة في الأصل ون هـ، قاله الأزهري وغيره، وقوله: قالوا ويقال. وما أثبت من شرح مسلم (12/ 21)، لأنها بالنص منه. (¬4) في الزاهر (174) وأما الهوامي: فهي الضوال. التي تهمي على وجه الأرض. (¬5) زيادة من المرجع السابق. (¬6) في المرجع السابق: إذا ضلت فمرت. (¬7) قال ابن عبد البر في الاستذكار -رحمنا الله وإياه- (22/ 333)، (335)، وقد اختلف العلماء في اللقطة، والضالة. * فكان أبو عبيد القاسم بن سلام يفرق بين اللقط والضالة، وقال: الضالة لا تكون إلَّا في الحيوان، واللقطة في غير الحيوان. * قال أبو عبيد: إنما الضوال ما ضل بنفسه، وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يدع اللقطة, ولا يجوز له أخذ الضالة، ويحتج بحديث الجارود عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ضالة المؤمن حرق النار". وبحديث جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يأوي الضالة إلَّا ضال". * وقال غيره من أهل العلم: اللقطة، والضالة سواء في المعني، والحكم فيهما سواء. * وممن ذهب إلى هذا أبو جعفر الطحاوي وأنكر قول أبي عبيد الضالة ما ضل بنفسه، وقال: هذا غلط، لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأفك قوله للمسلمين: "إن أُمَّكُم ضلت قلادتها"، وشرح معاني الآثار (4/ 133)، فأطلق ذلك على القلادة. * وقال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ضالة المؤمن حرق النار"، أخرجه الترمذي تعليقًا (4/ 301)، وعبد الرزاق (10/ 131)، وأحمد (5/ 80)، وشرح معاني الآثار (4/ 133)، والنسائي كما في تحفة الأشراف (2/ 405)، إنما قال ذلك لأنهم أرادوها للركوب والانتفاع، لا للحفظ على صاحبها. * وذلك بين في رواية مطرف بن الشخير، عن أبيه، فذكره وذكر حديث زيد بن خالد الجهني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها"، وأبو داود. * قال أبو عمر في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ضاله الغنم: "هي لك، أو لأخيك، أو للذئب"، وفي ضالة الإبل مالك ولها معها حذاؤها، وسقاؤها" الحديث دليل واضح على أن العلة في ذلك خوف التلف والذهاب، لا جنس الواهب، فلا فرق بين ما ضل بنفسه، وما لم يضل بنفسه، ولا بين الحيوان وغيره , لأن المراد من ذلك كله حفظه على صاحبه، وخوف ذهابه عنه، وإنما خص الإبل, لأنها إذا تركها واجدها, ولم يعرض لها ووجدها صاحبها سالمة عند طلبه لها وبحثه عنها, لأن الذئب لا يُخافُ عليها في الأغلب من أمرها، وصبرها عن الماء فوق صبر غيرها من الحيوان، والله أعلم بما أراد - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. وانظر: التمهيد (3/ 112).

سائق] (¬1). وقوله: "فإن معها حذاءها"، أي خفيها. "وسقاؤها"، أي: جوفها. وقال الماوردي: أعناقها. وقال الشيخ تقي الدين: لما كانت مستغنية عن الحافظ [والمتعهد] (¬2) والنفقة عليه بما رُكِّب في طبعها من الجلادة على العطش، والحفاء، عبر عنها "بالحذاء والسقاء" مجازان. كأنها استغنت بقوتها عن الماء والحذاء، أي فلا حاجة إلى التقاطها لعدم الخوف عليها. وقوله: "وسأله عن الشاة"، إلى آخره يريد أنه لما كانت الشاة الضالة عاجزة عن القيام بنفسها بغير حافظ ومتعهد وخيف عليها الضياع، إن لم يلتقطها أحد. وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها اقتضى الأذن في التقاطها لأنه لابد منه إما لهذا الواجد أو لغيره. الوجه الخامس: في أحكامه. الأول: جواز أخذ اللقطة وهل هو مستحب أو واجب, فيه خلاف وتفصيل محله كتب الفروع، والأصح عدم الوجوب (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من المرجع السابق. (¬2) في إحكام الأحكام (4/ 153)، المتفقد، وقد ساقه المصنف بالمعنى. (¬3) اختلف العلماء في ذلك فذهب فقهاء الحنفية والشافعية إلى أن الأفضل الالتقاط, لأن من واجب المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم: "والله في =

الثاني: وجوب التعريف سنَّة. قال القاضي عياض: وهو إجماع قال: ولم يشترط أحد تعريف ثلاث سنين إلَّا ما روى عن عمر بن الخطاب ولعله لم يثبت عنده (¬1) [وحكى المحب في "أحكامه" عن أحمد أنه يعرفها شهرًا ¬

_ = عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" وهذا في الواثق بأمانة نفسه إذا خاف ضياع اللقطة لئلا يأخذها فاسق فإن لم يخف ضياعها فالتقاطها مباح، لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يأوى الضالة الإضال". أما المالكية والحنابلة: فقالوا بكراهية الالتقاط لقول ابن عمر وابن عباس، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام، ولما يخاف أيضًا من التقصير فيما يجب لها من التعريف وردها لصاحبها وترك التعدي عليها. انظر: بدائع الصنائع (6/ 200)، وفتح القدير (4/ 423)، ومغني المحتاج (2/ 406)، والمغني (5/ 630)، وبداية المجتهد (2/ 299)، والدر المختار (3/ 406)، والاستذكار (22/ 330، 331). (¬1) قال ابن المنذر: لم يقل أحد من أئمة الفتوي أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام، إلَّا شيء جاء عن عمر. اهـ. وقد حكاه الماوردي عن شواذ الفقهاء وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال: يعرفها ثلاثة أحوال، عامًا واحدًا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. . . . وزاد ابن حزم عن عمر قولًا خامسًا وهو أربعة أشهر. اهـ. وقد جاء عن أُبي بن كعب في البخاري (2426)، الأمر بتعريفها ثلاثة أحوال: وقد جمع بين حديث أُبي هذا وحديث زيد بن خالد هذا الذي لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة فقال: يحمل حديث أُبي بن كعب على مزيد من الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها. وحديث زيد على ما لابد منه، أو لاحتياج الإِعرابي واستغناء أُبي. =

وعن آخرين ثلاثة أيام وحكاه عن الشافعي] (¬1). قلت: والتعريف على العادة كما أوضحناه في كتب الفروع ثم هذا إذا أراد تملكها فإن أراد حفظها على صاحبها فقط فالأكثرون من أصحابنا على أنه لا يجب عليه التعريف والحالة هذه والأقوى الوجوب (¬2). الثالث: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين الكثير والقليل في وجوب التعريف، وفي مدته. والأصح عند الشافعية: أنه لا يجب تعريف القليل سنة بل زمنًا يظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا. واختلفوا في ضابط الحقير على خمسة أوجه: ¬

_ = وقد جزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط من الراوي يدل على هذا أن شعبة قال سمعت سلمة بن كهيل بعد عشر سنين يقول عرفها عامًا واحدًا. والثاني: أن يكون عليه السلام علم أنه لم يقع تعريفها كما ينبغي فلم يحتسب له بالتعريف الأول، والثالث: أن يكون قدر له على الورع وهو استعمال ما لا يلزم. اهـ. من التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 233). (¬1) ساقطة من ن هـ. (¬2) قال الشافعية: لا يجب تعريفها لمن أراد حفظها لصاحبها, لأن الشرع إنما أوجب التعريف إذا كان بقصد التملك، لكن المعتمد عندهم وجوب التعريف، وبه اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب تعريفها مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عرفها سنة" فظاهر الأمر يقتضي الوجوب.

أصحها: أنه ما يقل أسف فاقده عليه غالبًا. وباقيها ذكرتها في "شرح المنهاج" وغيره (¬1). الرابع: إباحة استنفاقها بعد تملكها. ¬

_ (¬1) قال في الفقه الإسلامي وأدلته (5/ 776)، وأما الشيء الحقير: فقال الشافعية: الأصلح أن الشيء الحقير، أي: القليل المتمول وهو بقدر الدينار أو الدرهم لا يعرّف سنة، لقول عائشة "لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به" وقدر بما لا تقطع به يد السارق وهو ربع دينار عند الجمهور، وعشرة دراهم عند الحنفية، بل يعرف زمنًا يظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا، وهذا هو الراجح عند المالكية وفي رواية عن أبي حنفية: مضمونها إن كانت قيمة الشيء أقل من عشرة دراهم، أي: دينار يعرفه أيامًا بحسب ما يرى وإن كانت عشرة دراهم فصاعدًا عرفها حولًا، إلَّا أن هذه الرواية ليست هي ظاهر الرواية عند الحنفية، فقد قال الطحاوي: وإذا التقط لقطة فإنه يعرفها سنة، سواءًا كان الشيء نفيسًا أم خسيسًا في ظاهر الرواية وظاهر الرواية عند الحنفية هو ظاهر المذهب عند الحنابلة. وأما الشيء التافه فقد قال الفقهاء: لا خلاف في إباحة أخذ اليسير من الأشياء والانتفاع به من غير تعريف كالتمرة والكسرة والخرقة, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على واجد التمرة حيث أكلها، بل قال له: "لو لم تأتها أتتك"، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تمرة فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"، ويلاحظ أن الأمر بإكمال مدة التعريف إذا كانت اللقطة مما لا يتسارع إليها الفساد، فإن كانت مما يتسارع بها تصدق بها أو أنفقها على نفسه عند الحنفية. وعند الشافعية، يتميز الملتقط بين أن يبيعها ليمتلك ثمنها بعد التعريف، أو يملكها في الحال ويأكلها ويغرم قيمتها. اهـ. انظر الاستذكار (22/ 335، 339).

الخامس: أن الملتقط أولى بذلك من غيره. السادس: وجوب ردها إلى صاحبها بعينها أو ما يقوم مقامه بعد تعريفها واستنفاقها أو تملكها (¬1) إذا تحقق صدقه. وأغرب الكرابيسي من الشافعية فقال: لا يلزمه ردها ولا رد بدلها. وهو قول داود في البدل، وقول مالك في الشاة. واختلف الفقهاء هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أو يكتفي بوصفه لأماراتها التي عرفها الملتقط (¬2) أولًا؟ ومشهور مذهب مالك اعتبار وفي العدد في النقدين ومنشأ الخلاف ذكره في حديث أبي بن كعب وعدم ذكره في حديث زيد بن خالد. واختلفوا: إذا أتى ببعض العلامات المغلبة على الظن صدقه هل يعطاها أو لابد من جميع العلامات على قولين ¬

_ (¬1) قال في الفتح (5/ 91)، قال ويحتمل أن تكون: "الواو"، في قوله: "ولتكن"، بمعنى "أو"، أي: إما تستنفقها وتغرم بدلها وإما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجيء صاحبها فتعطيها له، ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها وهو اختيار البخاري تبعًا لجماعة من السلف، وقال ابن المنير: يستدل به لأحد الأقوال عند العلماء إذا أتلفها الملتقط بعد التعريف وانقضاء وزمنه ثم أخرج بدلها ثم هلكت أن لا ضمان عليه في الثانية، وإذا أدعى أنه أكلها ثم غرمها ثم ضاعت قبل قوله أيضًا وهو الراجح من الأقوال. اهـ انظر المتواري (273) لابن المنير. (¬2) انظر التعليق الآتي.

عندهم (¬1). قالوا: ولو عرف العفاص دون الوكاء أو بالعكس استبرىء بها ثم دفعت إليها ولو عرف العفاص، أو الوكاء، وحده وعرف آخر عدد الدنانير ووزنها كانت لمن عرف العفاص أو الوكاء. وقيل: يقسم بينهما بعد التحالف. السابع: امتناع التقاط ضالة الإبل إذا استغنت بقوتها عن حفظها، وخالف أبو حنيفة، فقال: يجوز مطلقًا. وعند الشافعية: يجوز التقاطها للحفظ دون التملك، اللهم إلَّا أن توجد بقرية أو بلد فيجوز التملك على الأصح، ويلتحق بالإِبل، كل ما امتنع بقوته عن صغار السباع كالفرس والأرنب والظبي. وعند المالكية ثلاثة أقوال في [التقاط الإِبل، ثالثها: يجوز في القرى دون الصحراء وعندهم ثلاثة أقوال أيضًا] (¬2) في إلحاق البقر والخيل والحمير بالإِبل، ثالثها: لابن القاسم يلحق البقر دون غيره ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في الفتح -رحمنا الله وإياه- (5/ 81)، واختلفوا فيما إذا عرف بعض الصفات دون بعض بناء على القول بوجوب الدفع لمن عرف الصفة، قال ابن القاسم: لابد من ذكر جميعها، وكذا قال أصبغ، لكن قال لا يشترط معرفة العدد، رقول ابن القاسم أقوى لثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى، وزيادة الحافظ حجة. اهـ. أقول: ذكر العدد في رواية أبي بن كعب. انظر: البخاري (2426). انظر: الاستذكار (22/ 339، 340)، التمهيد (3/ 112). (¬2) في ن هـ ساقطة.

[إذا كانت بمكان لا يخاف عليها فيه من السباع واحترزت بقولي في الإِبل إذا استغنت بقوتها عن حفظها أما إذا كانت] (¬1) مهزولة لا تنبعث فإنها كالغنم كما شرح به الخطابي (¬2) وعن الفصيل (¬3) منها [فإنه] (¬4) كالشاة. الثامن: التقاط ضالة الشاة إذا خيف إتلاف ماليتها على مالكها (¬5). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 80)، على قوله: "باب: ضالة الإبل"، أي: هل تلتقط أم لا؟ والضال الضائع، والضال في الحيوان كاللقطة في غيره، والجمهور على القول بظاهر الحديث في أن لا تلتقط. وقال الحنفية, الأولى أن تلتقط، وحمل بعضهم النهي على من التقطها ليتملكها لا ليحفظها فيجوز له، وهو قول الشافعية. وكذا إذا وجدت بقرية فيجوز التملك على الأصح عندهم والخلاف عند المالكية أيضًا، قال العلماء: حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس، وقالوا: في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته عن صغار السباع. اهـ. (¬2) معالم السنن (2/ 297). (¬3) قال في المصباح المنير (474)، الفصيل: ولد الناقة لأنه يفصل عن أمه فهو فعيل بمعنى مفعول. اهـ. (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 83) على قوله: "باب ضالة الغنم" كأنه أفردها بترجمة ليشير إلى افتراق حكمها عن الإِبل، وقد انفرد مالك بتجويز أخذ الشاة وعدم تعريفها متمسكًا بقوله: "هي لك" وأجيب بأن اللام ليست للتميك، كما أنه قال أو للذئب والذئب لا يملك باتفاق، وقد أجمعوا على أن مالكها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لأخذها منه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال أيضًا (5/ 82). قوله: (لك أو لأخيك أو للذئب) فيه إشارة إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر، والمراد بالذئب جنس ما يأكل الشاة من السباع. وفيه حث له على أخذها لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك ادعى له إلى أخذها. ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة كما سيأتي بعد أبواب "فقال خذها، فإنما هي لك" الخ، وهو صريح في الأمر بالأخذ، ففيه دليل على رد إحدى الروايتين عن أحمد في قوله: "يترك التقاط الشاة"، وتمسك به مالك في أنه يملكها بالأخذ، ولا يلزمه غرامة ولو جاء صاحبها. واحتج له بالتسوية بين الذئب والملتقط، والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط. وأجيب بأن اللام ليست للتمليك, لأن الذئب لا يملك وإنما يملكها الملتقط على شرط ضمانها. وقد أجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط لأخذها فدل على أنها باقية على ملك صاجها، ولا فرق بين قوله في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب" وبين قوله في اللقطة "شأنك بها أو خذها" بل هو أشبه بالتملك لأنه لم يشرك معه ذئبًا ولا غيره، ومع ذلك فقالوا في النفقة بغرمها إذا تصرف فيها ثم جاء صاحبها. وقال الجمهور: يجب تعريفها، فإذا انقضت مدة التعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها، إلَّا أن الشافعي قال: لا يجب تعريفها إذا وجدت في الفلاة، وأما في القرية فيجب في الأصح. قال النووي: احتج أصحابنا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأولى "فإن جاء صاحبها فأعطها إياه" وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة ولا نفاها فثبت حكمها بدليل آخر انتهى. وهو يوهم أن الرواية الأولى من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط، ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم ولا غيره في =

التاسع: أن الضالة لا تزول ملك صاحبها عنها بضلالها وأنه متى وجدها أخذها. العاشر: جواز قول: رب المال. ورب المتاع. ورب الماشية بمعنى صاحبها، وهذا قول جمهور أهل العلم: ومنهم من كره إضافته إلى ماله روح: دون الدار، والمال، ونحوه وهو غلط (¬1). ¬

_ = حديث زيد بن خالد، نعم عند أبي داود والترمذي والنسائي والطحاوي والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده في ضالة الشاة "فاجمعها حتى يأتيها باغيها". (¬1) أخرج البخاري (2552)، ومسلم (2249)، وأحمد (2/ 423) حديث عن ذلك ولفظه: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، اسق ربك، وليقل سيدي، ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي وغلامي"، قال النووي -رحمنا الله وإياه- في الأذكار (312) يكره أن يقول المملوك لمالكه: ربي، بل يقول: سيدي وإن شاء قال: مولاي، ويكره للمالك أن يقول: عبدي وأمتي ولكن يقول: فتاي، وفتاتي، أو غلامي وساقه الحديث برواياته ثم قال: قلت: قال العلماء: لا يطلق الرب بالألف واللام إلَّا على الله تعالى خاصة، فأما مع الإضافة فيقال: رب المال، ورب الدار، وغير ذلك. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في ضالة الإبل: "دعها حتى يلقاها ربها"، والحديث الصحيح: "حتى يُهم رب المال من يقبل صدقته"، وقول عمر -رضي الله عنه- في الصحيح: رب الصريمة والغنيمة. ونظائره في الحديث كثيرة مشهورة. وأما استعمال حملة الشرع ذلك، فأمر مشهور معروف. قال العلماء: =

الحادي عشر: في معنى الشاة كل ما يسرع إليه الفساد من الأطعمة فيأكله ويضمنه وفيه ما سلف. ¬

_ = وإنما كره للمملوك أن يقول لمالكه: ربي، لأن في لفظه مشاركة لله تعالى في الربوبية. وأما حديث: "حتى يلقاها ربُّها"، "ورب الصريمة" وما في معناهما، فإنما استعمل لأنها غير مكلفة، وما في معناهما، فإنما استعمل لأنها غير مكلفة، فهي كالدار والمال، ولا شك أنه لا كراهة في قول: رب الدار، ورب المال وأما قول يوسف - صلى الله عليه وسلم -: "اذكرني عند ربك"، فعنه جوابان. أحدهما: أنه خاطبه بما يعرفه، وجاز هذا الاستعمال للضرورة، كما قال موسى - عليه الصلاة والسلام - للسامري: "وانظر إلى إلهك"، أي: الذي اتخذته إلهًا. والجواب الثاني: أن هذا شرع مَن قبلنا لا يكون شرعًا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا لا خلاف فيه. وإنما اختلف أصحاب الأصول في شرع مَنْ قبلنا إذا لم يرد شرعنا بموافقته ولا مخالفته، هل يكون شرعًا لنا، أم لا؟ قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 178)، قوله: "باب كراهية التطاول على الرقيق"، وقوله: "عبدي أو أمتي"، وقول الله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ. . . .} إلخ، وقوله: "عبدي أو أمتي"، أي: وكراهية ذلك من غير تحريم استشهدوا للجواز بقوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، وبغيرها من الآيات والأحاديث الدالة على الجواز، ثم أردفها بالحديث الوارد في النهي عن ذلك واتفق العلماء على أن النهي الوارد في ذلك للتنزيه حتى أهل الظاهر، إلَّا ما سنذكره من ابن بطال في لفظ الرب. -فقد نقل عنه في 179 - وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: رب كما لا يجوز أن يقال له إله". اهـ. انظر: الصمت وآداب اللسان (425)، تهذيب السنن (7/ 272، 273).

فروع: إذا عرّفها سنة لم يملكها حتى يختاره بلفظ على أصح الأوجه عندنا. وقيل: تكفي النية. وقيل: تملك بمضي السنة وإن لم يرضى بالتملك إذا قصد عند الأخذ التملك بعد التعريف, لأنه جاء في رواية لمسلم: "فإن جاء صاحبها فاعطها إياه وإلَّا فهي لك" (¬1) [وقيل] (¬2): غير ذلك. ولا يفتقد التقاط اللقطة وتملكها إلى حكم حاكم ولا إلى إذن السلطان بالإجماع، ولا فرق عندنا وعند الجمهور بين الغني والفقير (¬3) وفروع الباب كثيرة مفسرة ومحل الخوض فيها كتب ¬

_ (¬1) طريق التملك عند الجمهور مختلف فيه فعند الحنابلة: تدخل اللقطة في ملك الملتقط عند تمام التعريف حكمًا كالميراث لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا جاء صاحبها، وإلَّا كسبيل مالك"، ولقوله: "فاستنفقها" ولو توقف ملكها على تملكها لبين الرسول له المطلوب. القول الثاني: قول المالكية يملكها الملتقط بأن ينوي تملكها، أي تجديد قصد التملك، لعدم الإِيجاب من الغير. القول الثالث للشافعية: يملكها الملتقط باختياره التملك بلفظ من ناطق يدل عليه مثل: تملكت ما التقطه, لأن تملكها تمليك ببدل، فافتقر إلى اختيار التملك، كما يتملك الشفيع بالشفعة. اهـ. من الفقه الإِسلامي. (¬2) في ن ساقطة. (¬3) اختلف الفقهاء في حكم اللقطة بعد تعريفها سنة على قولين. فعند الحنفية: إذا كان الملتقط غنيًا لم يجز له الانتفاع باللقطة وإنما يتصدق بها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = على الفقراء سواء أكانوا أجانب أم أقارب، ولو أبوين أو زوجة أو ولدًا لأنه مال الغير، فلا يجوز الانتفاع به بدون رضاه، لإطلاق النصوص من قرآن وسنة، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحل مال امرئ مسلم إلَّا بطيب نفس منه"، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئًا فليعرّف سنة، فإن جاء صاحبها، فليردها عليه، وإن لم يأت فليتصدق"، وفي حديث عياض المجاشعي: "من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل، أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلَّا فهي مال الله يؤتيه من يشاء". . . . وأما إذا كان الملتقط فقيرًا فيجوز له الانتفاع باللقطة بطريق التصدق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليتصدق به". . . . فإن عرف صاحبها بعد التصدق بها أو الانتفاع بها، فهو بالخيار: إن شاء أمضى الصدقة، وله ثوابها، وإن شاء ضمن الملتقط، وإن شاء أخذها من الفقير المتصدق عليه بها إن وجده، وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه. وقال جمهور الفقهاء: يجوز للملتقط أن يملك اللقطة وتكون كسائر أمواله سواء أكان غنيًا أو فقيرًا: لأنه مروي عن جماعة من الصحابة كعمر، وابن مسعود، وعائشة، وابن عمر وهو ثابت بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن خالد: "فإن لم تعرف فاستنفقها"، وفي لفظ: "وإلا فهي كسبيل مالك"، وفي لفظ: "ثم كلها"، وفي لفظ: "فانتفع بها"، وفي لفظ: "فشأنك بها"، وفي حديث أبي بن كعب: "فاستنفقها"، وفي لفظ: "فاستمتع بها" وهو حديث صحيح. الرد على الأحناف: 1 - أن حديث أبي هريرة لم يثبت، ولا نقل في كتاب يوثق به. 2 - أن دعواهم في حديث عياش أن ما يضاف إلى الله لا يتملكه إلَّا من =

الفروع وقد أوضحتها فيها, ولله الحمد. ... انتهى الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوَّله كتاب الوصايا ¬

_ = يستحق الصدقة لا برهان لها ولا دليل عليها، وبطلانها ظاهر، فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى خلقًا وملكًا، قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. اهـ. من الفقه الإِسلامي (5/ 781).

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء حقّقه وضَبط نصَّه وعزا آياته وخرّج أحاديثه ووثق نقوله وعلّق عَليه عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء الثامن كتاب الوصايا - كتاب اللعان (312 - 348) حديث دار العاصمة للنشر والتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا

60 - [كتاب] الوصايا

60 - [كتاب] (¬1) الوصايا وهي جمع وصية، مأخوذة من وصيت الشيء أصيه: إذا وصلته، فالموصي وصل ما كان له في حياته بما بعد موته، ويقال: أوصيت لفلان بكذا، أو أوصيت إليه: إذا جعلته وصيًا [والاسم: الوصية والوصاية] (¬2). وهي في الشرع: تفويض خاص بما بعد الموت. وذكر فيه -رحمه الله-[ثلاثة] (¬3) أحاديث: الحديث الأول 312/ 1/ 60 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حق امريءٍ مسلم، له شيء يُوصِي فيه، يبيت ليلتين إلَّا ووصيَّته مكتوبة عنده" (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: (باب) وما أثبت من هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ (أربعة). (¬4) البخاري (1/ 283)، ومسلم (1627) في كتاب الوصية، باب: وصية =

زاد مسلم: قال ابن عمر: "وما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك، إلَّا وعندي وصيتي". الكلام عليه من وجوه: الأول: فيه دلالة على الحث على الوصية لمن له شيء يوصي فيه (¬1). أما من عليه حقوق مالية وله مال، ولم يبق له وقت في الحياة ما يسع وفاءه بنفسه ولا بغيره؛ فإن الوصية بذلك واجبة حتمًا متعينة، ولا يدخل ذلك في لفظ الحديث، إلَّا أن يأول "فيه" بمعنى "عليه" وفيه بمعنى "به"، والإِجماع قائم على الأمر بالوصية، لكنه عند الجمهور منهم الشافعي أمر ندب. وخالف داود وغيره من أهل الظاهر فقالوا: إنه أمر إيجاب؛ لهذا الحديث، ولا دلالة فيه لهم؛ لعدم التصريح به، وإنما هو دالٌّ ¬

_ = الرجل مكتوبة عنده، والترمذي في الجنائز (974)، باب: ما جاء في الحث على الوصية، وابن ماجه (2699)، وابن الجارود (946)، ومالك في الموطأ (2/ 761) في الوصية، باب: الأمر بالوصية، وأحمد (2/ 10، 50، 113)، والنسائي (6/ 238، 239)، والدارمي (2/ 57، 80)، والبغوي (1457)، والبيهقي (6/ 271، 272)، والدارقطني (4/ 150، 151). قال الأزهري -رحمنا الله وإياه- في الزاهر (177): الوصية مشتقة من وصيت أَصِيه الشيء إذا وصلته، وسمت الوصية: وصية لأنه وصل ما كان في الحياة بما بعدها. اهـ. (¬1) في ن هـ زيادة، وفي رواية لمسلم: (يريد أن يوصي فيه).

على تأكيدها والحث عليها والحق الثابت، ولا يلزم منه الوجوب. قال الشافعي: يحتمل، أن يكون معناه: [ما الحزم] (¬1) والاحتياط للمسلم إلَّا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، فيستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحته ويشهد عليها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه؛ لأنه قد يفجأه الموت، وما ينبغي أن يغفل المؤمن عن الموت والاستعداد له. ويحتمل أن يكون معناه: ما المعروف في مكارم الأخلاق إلَّا هذا (¬2)، وهو مثل ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "حق على كل مسلم أن يغتسل في الأسبوع مرة" (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ (الحزم). (¬2) انظر: الأم (4/ 89)، ومعرفة السنن (9/ 185). (¬3) جاء من عدة روايات، من رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على كل مسلم في كل سبعة أيام غسل، وهو يوم الجمعة"، أخرجه النسائي (3/ 93)، وأحمد (3/ 304)، وابن أبي شيبة (1/ 93). ومن رواية: ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله حقًا على كل مسلم أن يغتسل كُلَّ سبعة أيام يومًا، فإن كان له طيب مسه". أخرجه مسلم (857)، وابن ماجه (1090)، وأبو داود (1050) في الصلاة، باب: فضل الجمعة، والبغوي (1059). ومن رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغسل يوم الجمعة على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه". مسلم (846)، وأبو داود (344) في الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، والنسائى (3/ 92).

قال الشيخ زكي الدين (¬1): ويؤيد الأول أنه جاء في رواية: "لا يحل لامرىء مسلم له مال. . . ." الحديث، لكن هذه اللفظة شاذة. قلت: رواها ابن عون عن نافع، عن ابن عمر، ولم يتابع عليها، وفي رواية لابن عبد البر: "لا ينبغي لأحد عنده مال يوصي فيه أن يأتي عليه ليلتان إلَّا وعنده وصيته"، قال أبو عمر: وقول من قال: "مال" أولى من [قول من] (¬2) قال: "شيء"، لأن الشيء يقع على الكثير والقليل، وقد أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلَّا اليسير التافه من المال أنه لا يندب له الوصية (¬3). تنبيه: لو فرغ من وصيته ثم تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه. قال العلماء: ولا يكلف [أن يكتب] (¬4) كل يوم محتقرات المعاملات، وجزئيات الأمور المتكررة، كالشيء الذي جرت العادة باستدانته ورده على قرب للمشقة، ولا خلاف في استحباب الوصية بالقربة، ورخص في الليلتين وكذا الثلاث، كما جاء في رواية لمسلم رفعًا للحرج والعسر فيها، ومن الغرائب حمل هذا الحديث على أنه ¬

_ (¬1) مختصر السنن (4/ 142، 143). (¬2) زيادة من هـ. (¬3) انظر: الاستذكار (23/ 6)،والتمهيد (4/ 290)، مع مختصر السنن (4/ 143). (¬4) في ن هـ ساقطة.

ورد في الوقت الذي كتب عليهم فيه الوصية. الثاني: فيه أيضًا دلالة على أنها لا تشرع لمن ليس له شيء يوصي فيه ولا به. الثالث: جواز العمل بالكتابة فيها، وبه قال الإِمام محمَّد [بن] (¬1) نصر المروزي من أصحابنا، وقال: إنها كافية فيها من غير إشهاد؛ لظاهر الحديث، وخالف إمامه والجمهور، فإنهم قالوا: لابدَّ من الإِشهاد. وعند مالك: أنه إذا لم يشهد لا يعمل بخطه إلَّا فيما يكون فيها من إقرار الحق لمن لا يتهم عليه. الرابع: [فيه] (¬2) منقبة ظاهرة لابن عمر - رضي الله عنه - لمبادرته إلى امتثال الأمر ومواظبته عليه، وقد كان - رضي الله عنه - شديد الاتباع [له] (¬3). الخامس: فيه الحث على تهيؤ الإنسان للموت ويبادر بما عساه أن لا يدركه فإنه لا يدري [متي] (¬4) القدوم. السادس: لعل التقييد بالمسلم خرج على الغالب، فإن الكافر مكلف بالفروع أيضًا على الصحيح. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ ومن شرح مسلم (11/ 76). (¬2) ساقطة من ن هـ. (¬3) ساقطة من ن هـ، ويستقيم المعنى بدونها. (¬4) في ن هـ ساقطة.

خاتمة: أسلفنا أن الوصية قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وعزاها بعضهم إلى باقي الأحكام الخمسة وأنه إن رجا من تركها كثرة الأجر فمكروه، وإن رجا من فعلها كثرته فمستحبة، وإن تقاربا فمباحة، والمحرمة فيما إذا أوصى بمعصية.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 313/ 2/ 60 - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله قد [بلغني من] (¬1) الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلَّا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلَّا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك: قال: قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملًا تبنغي به وجه الله إلَّا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون، اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة" (¬2). ¬

_ (¬1) في ن هـ (بلغ مني)، وفي إحكام الأحكام ونسخ العمدة (بلغ بي من). (¬2) البخاري أطرافه (56)، ومسلم (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، باب: ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، والترمذي في الوصايا (2116)، باب: ما جاء في الوصية بالثلث، والنسائي في الوصايا =

الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وهو أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، واسمه مالك بن وهيب [قال] (¬1) العسكري: وابن إسحاق يقول: أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري، أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وفارس الإِسلام وحارس النبي في مغازيه وسابع سبعة [فيه] (¬2)، أسلم قديمًا وهو ابن سبع عشرة، وقيل: خمس عشرة. وروي عنه أنه قال: أسلمت قبل أن تفرض الصلوات. أمه: حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، روى عنه بنوه إبراهيم ومحمد وعمر وعامر ومصعب وعائشة وغيرهم، شهد بدرًا والمشاهد، وكان أحد الستة أولي الشورى، وقال عمر: إن وليها [سعد] (¬3) فذاك، وإلَّا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن عجزٍ، ولا خيانة. وكان مجاب الدعوة مشهورًا بذلك، دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم سدد رميته وأجب دعوته"، وهو الذي كوَّف الكوفة، وطرد الأعاجم، وتولى قتال فارس، أمَّره عمر على ذلك، وفتح الله على يديه أكثر فارس، وفتح القادسية وغيرها ¬

_ = (6/ 241)، ومالك (2/ 763)، وابن ماجه (8/ 27)، والبغوي (1459)، وابن حبان (4249، 6026). (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ.

[ولي] (¬1) الكوفة لعمر مرتين، ثم ولاه عثمان، ثم عزله بالوليد بن عقبة. ثم كان ممن لزم بيته في الفتنة، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشيء حتى تجتمع الأمة على إمام، ورامه ابنه عمر أن يدعو إلى نفسه بعد قتل عثمان فأبى، ومناقبه جمة. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مئتا [. .] (¬2) وسبعون حديثًا، اتفقا منها على خمسة، وانفرد البخاري بخمسة [. .] (¬3)، ومسلم بثمانية عشر، مات بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على الرقاب إلى البقيع، فدفن بها سنة خمس وخمسين على الأصح، وقيل: سنة ثمان، وهو أشهر وأكثر عن ثلاث وسبعين سنة، وقيل: أربع، وقيل: عن اثنتين وثمانين، وقيل: ثلاث. فائدة: في الصحابة من اسمه سعد بن مالك غير هذا: أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك، وسعد بن مالك العذري، قدم في وفد عذرة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما سعد بن خولة: الواقع في أثناء المتن، فهو من بني عامر بن لؤي كما نقله البخاري في صحيحه عن سفيان، وهو من أنفسهم، وقيل: من حلفائهم، وقال ابن حبان في ثقاته: إنه مولى حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، وذكره موسى بن عقبة ¬

_ (¬1) في ن هـ (تولى). (¬2) في الأصل (حديث)، وما أثبت من هـ. (¬3) في ن هـ زيادة: (عشر).

في البدريين في بني عامر بن لؤي، وكان من مهاجرة الحبشة الثانية، ويقال فيه: ابن خولي بدل من خولة، وغاير العسكري في [الصحابة بينهما] (¬1)، وذكر البخاري أنه هاجر وشهد بدرًا وغيرها، قالوا: وتوفي بالكوفة سنة عشرة، وانفرد ابن جرير فقال: سنة سبع. وهو زوج سبيعة الأسلمية الآتية في باب العدة. وقال ابن عبد البر في الكنى: زوجها هو أبو البيداح بن عاصم بن عدي الأنصاري. الوجه الثاني: في بيان المبهم الواقع فيه، وهو قوله: " (¬2) لا يرثني إلَّا ابنة" وهذه الابنة اسمها [عائشة] (¬3) كما جاء في البخاري، ثم عوفي سعد بعد ذلك، وجاءه عدة أولاد سلف اسمهم في ترجمة أبيهم، قال علي بن المديني (¬4): بنو سعد بن أبي وقاص سبعة: مصعب، وعامر، ومحمد، وإبراهيم , وعمر، ويحيى، وعائشة، وزاد أبو زرعة ثامنًا، وهو إسحاق. الوجه الثالث: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع: وضع اليد على المريض (¬5)، من رواية عائشة ابنته أن أباها قال: تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاءني النبي يعودني، فقلت: يا نبي الله، إني أترك مالًا، وإني لم أترك إلَّا بنتًا واحدة، أفأوصي بثلثي مالي ¬

_ (¬1) في ن هـ تقديم وتأخير. (¬2) في ن هـ زيادة (واو). (¬3) الزيادة من ن هـ. (¬4) كما سيأتي في التعليق رقم (ت 2، ص 28). (¬5) فتح الباري (10/ 120)، (ح 5659).

وأترك الثلث؟ قال: لا، قلت: أفأوصي بالنصف وأترك النصف؟ قال: لا، قلت: أفأوصي بالثلث وأترك لها الثلثين؟ قال: الثلث، والثلث كثير، ثم وضع يده على جبهته، ثم مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال: "اللهم اشفِ سعدًا، وأتمم له هجرته"، فما زلت أجد برده على كبدي فيما يخال إليّ حتى الساعة. وذكره في باب قول المريض: إني وجع (¬1)، من حديث عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني من وجع اشتدَّ بي زمن حجة الوداع، فذكره بنحوه إلى [قوله] (¬2) "امرأتك". وذكره في الوصايا (¬3)، من هذا الوجه أيضًا بلفظ: "جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: "يرحم الله ابن عفراء"، قلت: يا ر سول الله، أُوصي بمالي كله؟ " فذكره بنحوه، وزاد بعد قوله: "في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضرّ بك آخرون، ولم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة". قوله: "ابن عفراء" (¬4)، قيل: إنه وهم ولعله من سعد بن ¬

_ (¬1) فتح الباري (10/ 123)، (ح 5668). (¬2) في ن هـ (أن قال). (¬3) فتح الباري (5/ 363)، (ح 2742). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 364). قوله (قال يرحم الله ابن عفراء): كذا رقع في هذه الرواية في رواية أحمد والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان: "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يرحم الله سعد بن عفراء ثلاث مرات"، قال الداودي: قوله "ابن عفراء": =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = غير محفوظ، وقال الدمياطي: هو وهم، والمعروف "ابن خولة"، قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم فإن الزهري أحفظ منه وقال فيه "سعد بن خولة" يشعر إلى ما وقع في روايته بلفظ "لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة"، وقلت: وقد ذ كرت آنفًا من وافق الزهري وهو الذي ذكره أصحاب المغازي وذكروا أنه شهد بدرًا ومات في حجة الوداع، وقال بعضهم في اسمه "خولي" -بكسر اللام وتشديد التحتانية، واتفقوا على سكون الواو-، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسي فتحها، ووقع في رواية ابن عيينة في الفرائض "قال سفيان وسعد بن خولة رجل من بني عامر بن لؤي". اهـ. وذكر ابن إسحاق أنه كان حليفًا لهم ثم لأبي رهم بن عبد العزى منهم، وقيل: كان من الفرس الذين نزلوا اليمن، وسيأتي شيء من خبره في غزوة بدر من كتاب المغازي إن شاء الله -تعالى- في حديث سبيعة الأسلمية، ويأتي شرح حديث سبيعة في كتاب العدد من آخر كتاب النكاح، وجزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع وهو الثابت في الصحيح، خلافًا لمن قال إنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع، وجوز أبو عبد الله بن أبي الخصال الكاتب المشهور في حواشيه على البخاري أن المراد بابن عفراء عوف بن الحارث أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء وهي أمهم، والحكمة في ذكره ما ذكره ابن إسحاق أنه قال يوم بدر "ما يضحك الرب من عبده؟ قال: أن يغمس يده في العدو حاسرًا، فألقى الدرع التي هي عليه فقاتل حتى قتل"، قال: فيحتمل أن يكون لما رأى اشتياق سعد بن أبي وقاص للموت وعلم أنه يبقى حتى يلي الولايات ذكر ابن عفراء وحبه للموت ورغبته في الشهادة كما يذكر الشيء بالشيء فذكر سعد بن خولة لكونه مات بمكة وهي دار هجرته، وذكر ابن عفراء مستحسنًا لميتته. اهـ. ملخصًا.

إبراهيم، وفي رواية للنسائي: "يرحم الله سعد بن عفراء، مرتين". ثم ذكره -أعني البخاري- بعد من هذا الوجه (¬1) بلفظ: "فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن لا يردني على عقبي، قال: "لعل الله أن يرفعك، وينفع بك ناسًا" , قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنة، أفأوصي بالنصف؟ قال: "النصف كثير"، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير". قال: فأوصي الناس بالثلث، وجاز ذلك لهم. وذكره في الفرائض (¬2) في ميراث البنات بنحو سياقة أفراد المصنف، ولم يقل فيه: "اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم" هذه طرق روايات البخاري (¬3). ¬

_ = وهو مردود بالتنصيص على قوله: "سعد بن عفراء" فانتفى أن يكون المراد عوف وأيضًا فليس في شيء من طرق حديث سعد بن أبي وقاص أنه كان راغبًا في الموت، بل في بعضهما عكس ذلك وهو أنه "بكى فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ فقال: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة" وهو عند النسائي، وأيضًا فمخرج الحديث متحد والأصل عدم التعدد، فالاحتمال بعيد لو صرح بأنه عوف بن عفراء، والله أعلم. وقال التيمي: أن يكون لأمه اسمان: خولة وعفراء. اهـ. ويحتمل أن يكون أحدهما اسمًا والآخر لقبًا، أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو الآخر اسم جدة له، والأقرب أن عفراء اسم أمه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خولي. اهـ. (¬1) فتح الباري (5/ 369)، (ح 2744). (¬2) فتح الباري (12/ 14)، (ح 6733). (¬3) وقد أهمل المؤلف -رحمنا الله وإياه- روايات، منها: =

قال عبد الحق في "جمعه": وفي بعض طرقه: "كثيرًا" و "كثير" وفي بعضها "كبير" بالباء الموحدة، قال: وليس في كتابه "وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها"، أي: وإنما هي من أفراد مسلم، وهو عجيب، فهو فيه في الوصايا (¬1) كما سقته لك، لكنه قال: وهو "يكره" بدل "وكان". وأخرجه مسلم (¬2) بألفاظ منها: "عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله! بلغ بي ما ترى من الوجع". إلى آخر رواية المصنف، وفيه بعض التفاوت. ¬

_ = (أ) في كتاب الإيمان، باب: ما جاء في أن الأعمال بالنية، والحسبة (1/ 136)، (ح 56). (ب) في كتاب الجنائز، باب: رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة (3/ 164)، (ح 1295). (ج) في كتاب مناقب الأنصار، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم" ومرثيته لمن مات بمكة. الفتح (7/ 269)، (ح 3936). (د) في كتاب المغازي، باب: حجة الوداع. الفتح (8/ 109)، (ح 4409). (هـ) في كتاب النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل (9/ 497)، (ح 5354). (و) في كتاب الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع (11/ 179)، (ح 6373). (¬1) انظر: التعليق رقم (3)، ص 17. (¬2) انظر: التعليق رقم (1)، ص 13.

ومنها: أنه -عليه الصلاة والسلام-[دخل] (¬1) على سعد يعوده بمكة فبكى، قال: "ما يبكيك؟ " فقال: قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة، فقال -عليه الصلاة والسلام- "اللهم اشفِ سعدًا، ثلاث، [ثم ذكر قصة الوصية بنحوها. الوجه] (¬2) الرابع: في ألفاظه: الأول: معنى "عادني": زارني، ولا يقال ذلك إلَّا لزيارة المريض، فأما الزيارة فأكثرها للصحيح، وقد تقال: للمريض. وأما قوله -تعالى- {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} (¬3) فكناية عن الموت، [والوجع: اسم لكل مرض، قاله الحربي] (¬4). وقوله: "اشتد بي" قد جاء في الرواية الأخرى التي أسلفناها: "أشفيت منه على الموت" ومعنى: "أشفيت": [قاربت] (¬5)، يقال: أشفى [على كذا] (¬6) وأشافه عليه: [إذا قاربه] (¬7)، قالوا: ولا يقال: أشفى إلَّا في الشر، بخلاف أشرف، وقارب، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ ومسلم. (¬2) ساقطة من ن هـ. (¬3) سورة التكاثر: آية 2. (¬4) زيادة من ن هـ. انظر: معالم السنن (4/ 145)، وبحثت عنه في غريب الحديث للحربي فلم أجده. (¬5) في هـ ساقطة. (¬6) في معالم السنن (على الشئ). (¬7) زيادة من معالم السنن.

وروى أبو نعيم في كتاب "الطب" (¬1): أنه -عليه الصلاة والسلام- لما عاد سعدًا بمكة قال: ادعوا له طبيبًا، فدعي له الحارث بن كلدة فنظر إليه فقال: ليس عليك بأس، ثم وصف له عجوة وحلبة يطحنان ويحسوهما فيبرأ. وفي رواية له: "إن سعدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فعاده فقال يا رسول الله ما أراني إلَّا لما بي، فقال: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضرّ بك قومًا، وينفع بك آخرين، ثم قال للحارث بن كلدة: عالج سعدًا مما به، فقال: والله إني لأرجو أن يكون شفاؤه مما معه في رحله، ثم قال: هل معكم من [هذه الثمرة] (¬2) العجوة شيء؟ قال: نعم، قال: فصنعه له بحلبة ثم أوسعها سمنًا، وحساها، فكأنما نشط من عقال. وقوله: "عام حجة الوداع" هو الصحيح، قال البيهقي (¬3): ¬

_ (¬1) وذكره في الشفاء في الطب "مختصر الطب النبوي" لأبي نعيم ص 51، وجاء من رواية مجاهد عن سعد بن أبي وقاص في سنن أبي داود وفيه انقطاع، وأيضًا لم يذكر أنه في حجة الوداع (5/ 358). (¬2) في هـ (هذا التمرة). (¬3) معرفة السنن والآثار (9/ 179). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 363): قوله (جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا بمكة): زاد الزهري في روايته "في حجة الوداع من وجع اشتد بي" وله في الهجرة "من وجع أشفيت منه على الموت" واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع، إلَّا ابن عيينة فقال: "في فتح مكة" أخرجه الترمذي وغيره من طريقه، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه. وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه =

خالف سفيان الجماعة فقال: عام الفتح، والصحيح: في حجة الوداع. الثاني: قوله: "ولا يرثني إلَّا ابنة" أي من الولد وخواص الورثة، وإلَّا فقد كان له عصبة، فيؤخذ صحة ميراث ذي السهم مع [العصبة] (¬1) ولا خلاف فيه. وفيه قول ثان: إن معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض سواها. وقال القاضي: معناه لا يرثني من الولد ممن يعز عليّ تركه عالة، وإلَّا فقد كان [له عصبة] (¬2) ورثه (¬3). ¬

_ = فقال: "بمكة" ولم يذكر الفتح، وقد وجدت لابن عيينة مستندًا فيه، وذلك فيما أخرجه أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم فخلف سعدًا مريضًا حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرًا دخل عليه وهو مغلوب فقال: يا رسول الله إنَّ لي مالًا، واني أورث كلالة، أفأوصي بمالي" الحديث، وفيه "قلت: يا رسول الله أميت أنا بالدار الذي خرجت منها مهاجرًا؟ قال: لا، إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام. . . ." الحديث. فلعل ابن عيينة اتقل ذهنه من حديث إلى حديث، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع، ففي الأولى يكن له وارث من الأولاد أصلًا، في الثانية كانت له ابنة فقط، والله أعلم. اهـ. (¬1) في هـ (الوصية). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ زيادة (عصبة).

وقيل: يحتمل [أنه لا يرثه من النساء غيرها] (¬1)، وقيل: يحتمل أنه [استكثر بها] (¬2) نصف تركته، أو ظن أنها تنفرد بجميع المال، أو على عادة العرب من أنها لا تعد المال للنساء، إنما كانت تعده للرجال (¬3). الثالث: قوله: "أفأتصدق بثلثي مالي؟ " يحتمل أنه يريد: منجزًا ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 367): قوله (ولم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة): في رواية الزهري ونحوه في رواية عائشة بنت سعد أن سعدًا قال: "ولا يرثني إلَّا ابنة واحدة"، قال النووي وغيره: معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء، وإلَّا فقد كان لسعد عصبات لأنه من بني زهرة وكانوا كثيرًا. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض، أو خصها بالذكر على تقدير لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلَّا هي، أو ظن أنها ترث جميع المال، أو استكثر لها نصف التركة. وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة، فإن كان محفوظًا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عنده في الباب الذي يليه وفي الطب، وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك وروى عنها وماتت سنة سبع عشرة، لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتًا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى وأمها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أُخر أمهاتهن متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها ولم أر من حرر ذلك. اهـ. (¬2) في هـ (استكثرها). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 339).

أو معلقًا بما بعد الموت، وحمله أصحابنا على الثاني لأجل رواية البخاري السالفة: "أفأوصي بثلثي مالي" والشطر ها: النصف؛ بدليل رواية البخاري السالفة: فأوصي بالنصف. الرابع: قوله: "الثلث والثلث كثير"، يجوز في الثلث الأول نصبه ورفعه، كما قال القاضي (¬1)، فالنصب على الإِغراء: أي دونك ¬

_ (¬1) ذكره النووي في شرحه (11/ 76)، وفتح الباري (5/ 365)، قال فيه: قوله (قلت الثلث؟ قال: فالثلث، والثلث كثير): كذا في أكثر الروايات، وفي رواية الزهري في الهجرة "قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير"، وفي رواية مصعب بن سعد عن أبيه عند مسلم "قلت: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير"، وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الباب الذي يليه وقال: "الثلث، والثلث كبير أو كثير"، وكذا للنسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد وفيه: "فقال: أوصيت؟ فقلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله، قال: فما تركت لولدك؟ " وفيه: "أوص بالعشر، قال: فما زال يقول وأقول، حتى قال: أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير"، يعني بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه، وسأذكر الاختلاف فيه في الباب الذي بعد هذا، وقوله: "قال الثلث، والثلث كثير"، بنصب الأول على الإغراء، أو بفعل مضمر نحو عين الثلث، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو المبتدأ والخبر محذوف والتقدير يكفيك الثلث أو الثلث كافٍ، ويحتمل أن يكون قوله: "والثلث كثير"، مسوقًا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه وهو ما يبتدره الفهم، ويحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثيرًا أجره، ويحتمل أن يكون معناه كثير غير قليل، قال الشافعي - رحمه الله -: "وهذا أولى معانيه، يعني أن الكثرة =

الثلث، أو على تقدير فعل، أي: أعط الثلث، أو أخرجه، ونحو ذلك، وقدم القرطبي (¬1) الأول على هذا، والرفع على أنه فاعل بفعل مقدر، أي: يكفيك الثلث، أو على أنه مبتدأ حذف خبره، أي: الثلث كاف، أو خبر حذف مبتدأه: أي المشروع الثلث، ونحو ذلك، وضعف الأول القرطبي بأنه لا يكون [ذلك] (¬2) إلَّا بعد أن يكون في صدر الكلام ما يدل على الفعل دلالة واضحة، كقوله -تعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} (¬3) على خلاف بين الكوفيين والبصريين، فالبصريون [يرفعونه] (¬4) بالفعل، والكوفيون بالابتداء. وقوله: "كثير" هو بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة [كما سلف] (¬5) وكلاهما صحيح. وقوله: "والثلث كثير" يجوز أن يكون مسوقًا لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه، وهو [ما يبتدره] (¬6) الفهم، ويجوز أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل، ويكون تقديره: والثلث كثير، أو كبير أجره. ¬

_ = أمر نسبي"، وعلى الأول عول ابن عباس كما سيأتي في حديث الباب الذي بعده. اهـ. (¬1) المفهم (4/ 544). (¬2) في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق المفهم. (¬3) سورة التوبة: آية 6. (¬4) زيادة من هـ والمفهم. (¬5) زيادة من هـ. (¬6) في هـ (ما يبتدر إليه). وانظر: فتح الباري (5/ 365).

وعبارة الشافعي (¬1): أنه يحتمل أن يكون معناه: كبير، أي غير قليل، وهذا أولى معانيه (¬2)، كما قال. الخامس: قوله: "إن تذر ورثتك أغنياء"، روي بفتح الهمزة وكسرها، فالفتح على تقدير: إنك وتركك ورثتك أغنياء، والكسر على الشرط، قاله القاضي (¬3) ونقله النووي في "شرحه" (¬4) عنه، وأن كلاهما صحيح، وقال القرطبي (¬5): روايتنا بالفتح وأن مع الفعل بتأويل المصدر في موضع رفع بالابتداء، وخبره "خير" المذكور بعده، والمبتدأ وخبره خبر "إنك" تقدير: إنك تركك ورثتك أغنياء خير من تركهم فقراء. وقد وَهَمَ من كسرها وجعلها شرطًا، إذْ لا جواب له، ويبقى "خيرٌ" لا رافع له. [قال] (¬6) غيره: إلَّا أن يحمل على حذف الفاء الجوابية مع المبتدأ، وجعل خير خبرًا للمبتدأ المحذوف ويكون التقدير: إنك أن تذر ورثتك أغنياء فهو خير من أن تذرهم عالة. لكنه بعيد وبأنه [خاص] (¬7) بالشعر فلا يليق ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار (9/ 179). (¬2) في المرجع السابق زيادة (به لأنه أو كرهه لسعد، لقال له: غُضَّ منه). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 340). (¬4) شرح مسلم (11/ 77). (¬5) المفهم (4/ 545). (¬6) في هـ ساقطة. (¬7) في هـ ساقطة.

حمل الحديث عليه (¬1). وقوله: "ورثتك" إنما قاله بعد أن أخبره بأنه إنما يرثه إلَّا ابنة اطلاعًا منه - عليه الصلاة والسلام - على ما سيأتي (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 365): قوله (إنك أن تدع): بفتح أن على التعليل وبكسرها على الشرطية، قال النووي: هما صحيحان صوريان، وقال القرطبي: لا معنى للشرط هنا، لأنه يصير لا جواب له ويبقى "خير" لا رافع له، وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد -يعني ابن الخشاب- وقال: لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظ "خير" من الفاء وغيرها مما اشترط في الجواب، وتعقب بأنه لا مانع من تقديره، وقال ابن مالك: جزاء الشرط، قوله: "خير"، أي فهو خير، وحذف الفاء جائز وهو كقراءة طاوس {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}، قال: ومن خص ذلك بالشعر بعد عن التحقيق، وضيق حيث لا تضيق، لأنه كثير في الشعر قليل في غيره، وأشار بذلك إلى ما وقع في الشعر فيما أنشده سيبويه "من يفعل الحسنات الله يشكرها" أي فالله يشكرها، وإلى الرد على من زعم أن ذلك خاص بالشعر، قال: ونظيره قوله في حديث اللقطة "فإن جاء صاحبها وإلَّا استمتع بها" بحذف الفاء، وقوله في حديث اللعان: "البينة وإلَّا حد في ظهرك". اهـ. قال في إكمال المعلم (4/ 340) يريد لأن فيه حذف الفاء من الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط، الطيبي: الرواية صحيحة وإذا صحت فلا يلتفت إلى من لا يجيز حذف الفاء، وقال: إن سيبويه لا يستدل بالحديث على الأحكام الإعرابية لما شاع من نقل الحديث بالمعنى. اهـ. (¬2) وقال أيضًا: قوله (ورثتك)، قال الزين بن المنير: إنما عبر له - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الورثة ولم يقل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أن تدع بنتك مع أنه لم يكن له يومئذٍ إلَّا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذٍ لم يتحقق، لأن سعدًا إنما قال ذلك بناءً على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بكلام كلي مطابق لكل حالة، وهو قوله: "ورثتك" ولم يخص بنتًا من غيرها. وقال الفاكهي شارح العمدة: إنما عبر - صلى الله عليه وسلم - بالورثة لأنه اطلع على أن سعدًا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة فكان كذلك. وولد له بعد ذلك أربعة بنين ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله يفتح بذلك. قلت: وليس قوله "أن تدع بنتك" متعينًا لأن ميراثه لم يكن منحصرًا فيها، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين، وسأذكر بسط ذلك، فجاز التعبير بالورثة لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو وقع موته إذ ذاك أو بعد ذلك. وأما قول الفاكهي إنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين وإنه لا يعرف أسماءهم ففيه قصور شديد، فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن سعد، ووقع ذكر عمر بن سعد فيه في موضع آخر، ولما وقع ذكر هؤلاء في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبي على ذكر الثلاثة، ووقع في كلام بعض شيوخنا -أي ابن الملقن كما هنا- تعقب عليه بأن له أربعة من الذكور غير الثلاثة وهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق، وعزا ذكرهم لابن المديني وغيره، وفاته أن ابن سعد ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغرًا وغيرهم، وذكر له من البنات ثنتي عشرة بنتًا، وكأن ابن المديني اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم والله أعلم. اهـ. أقول: ذكر ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر ص 118 (36) ولد ما بين ذكر وأنثى.

قال الفاكهي: قيل: إنه ولد له بعد ذلك أربعة بنين، ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بمعرفتهم فألحقهم. قلت: قد قدمنا أن له سبعة أولاد غير هذه الابنة بأسمائهم، فاستفده أنت. وقال القرطبي: فاق من مرضه، وكان له ثلاثة من الولد ذكور، أحدهم اسمه عامر. قلت: فاستفد أنت الأربعة الزائدة عليهم. السادس: "العالة" الفقراء، والفعل منه: عال، يعيل: إذا افتقر. ومعنى: "يتكففون الناس" يسألون الصدقة بأكفهم، وهو من الألفاظ [الوجيزة] (¬1) وحكى صاحب (التنقيب) (¬2) على المهذب، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يمدون ويأخذون ما يعطون بأكفهم، (¬3) يسألون الناس ما في أكفهم. ¬

_ (¬1) في الأصل (الوجيز)، وما أثبت من هـ. (¬2) مؤلفه: محمَّد بن معن بن سلطان شمس الدين، أبو عبد الله الشيباني كان فقيهًا مناظرًا، أديبًا، قارئًا بالسبع، توفي سنة أربعين وستمائة، له التنقيب على المهذب في جزئين فيه غرائب وفيه أوهام في عزو الأحاديث إلى الكتب. اهـ. انظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 89) وسماه السبكي في تكملة شرح المهذب (10/ 4)، والتعيب على المهذب أي صحف الاسم. (¬3) لعله الثاني.

ثالثها: يسألون كفافًا، وفي رواية لمسلم: "يتكففون الناس، [وقال] (¬1) بيده" وهو يؤيد القول الأول والثاني. وقوله: "حتى ما تجعله في فيّ امرأتك" [صدقة] (¬2) فخصها بالذكر، لأن نفقتها دائمة، تعود منفعتها إلى المنفق، فإنما يخرجها في بدنها ولباسها وغير ذلك، بخلاف النفقة على غيرها. السابع: قوله: "قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ " إلى آخره، أي: أخلف بمكة بعد أصحابي، كأنه أشفق من موته بمكة بعد أن هاجر منها وتركها لله، فخشي أن يقدح ذلك بهجرته أو في ثوابه، عليها، أو خشية بقائه بمكة بعد انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض، [فإنهم كانوا] (¬3) يكرهون الرجوع فيما تركوه لله -تعالى-، وقد جاء في رواية أخرى: "أخلف عن هجرتي" أو أنه [سأله] (¬4) عن طول عمره وبقائه بعد أصحابه. قال القاضي عياض: قيل: أن حكم الهجرة باقٍ بعد الفتح لهذا الحديث، وقيل: إنما ذلك لمن هاجر قبل الفتح فأما من هاجر بعده فلا. قال: واختلفوا في أن تخلف المهاجر بمكة: هل يحبط عمله ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) زيادة من هـ. (¬3) في هـ (فكأنهم). (¬4) في هـ (سأل).

إذا مات بها، إذا كان باختياره أم مطلقًا؟ على قولين، قال: وقيل: لم تفرض الهجرة إلَّا على أهل مكة خاصة (¬1). الثامن: قوله: "ولعلك أن تخلف" إلى آخره، المراد بتخلفه: طول عمره وبقائه بعد جماعات من أصحابه، وكان كذلك فعاش بعد ذلك نيفًا على أربعين سنة، وفتح العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا وحكم لهم بالنار وسبيت نساؤهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم، فانتفع به المسلمون، وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق [وتضرر به خلائق] (¬2) ممن استحق بإقامة الحق فيهم، وهذا من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -. قال بعض العلماء من أهل المعرفة: "لعل" معناها الترجي، إلَّا إذا وردت عن الله [ورسله] (¬3) وأوليائه، فإن معناها التحقيق، حكاه ابن العطار كذلك. التاسع: معنى "إمضاء هجرتهم" إتمامها لهم من غير إبطال. ومعنى: "لا تردهم على أعقابهم" أي بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية فيخيب قصدهم، ويسوء حالهم، تقول العرب: رجع فلان على عقبه إذا رجع خائبًا، واستدل بهذا قوم على أن بقاء المهاجر بمكة قادح فيه كيف كان، ولا دليل فيه كما قال القاضي، لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاءً عامًا. ¬

_ (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 341، 342). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في هـ (ورسوله).

العاشر: "البائس" الذي [عليه أثر] (¬1) البؤس. [الحادي عشر] (¬2): قوله: "يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات ¬

_ (¬1) في هـ (عليه أكثر). (¬2) في الأصل (الثاني عشر)، وما أثبت من هـ. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 365): وقول الزهري في روايته: (يرثي له. . . . إلخ)، قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أن قوله: (يرثي. . . . إلخ)، من كلام الزهري، وقال ابن الجوزي وغيره: هو مدرج من قول الزهري، قلت: وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فإنه فصل ذلك، لكن وقع عبد المصنف في الدعوات عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد في آخره "لكن البائس سعد بن خولة، قال سعد: (رئى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . . إلخ)، فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه، ووقع في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الطب من الزيادة: "ثم وضع يده على جبهتي ثم مسح وجهي وبطني ثم قال: اللهم اشف سعدًا وأتمم له هجرته، قال: فما زلت أجد بردها"، ولمسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن المذكورة: "قلت: فادع الله أن يشفيني، فقال: اللَّهم اشفِ سعدًا ثلاث مرات". وقال أيضًا في الفتح (11/ 180): وقوله في آخره: (قال سعد رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . . إلخ)، يرد قول من زعم أن في الحديث إدراجًا، وأن قوله (يرثي له. . . . إلخ)، من قول الزهري متمسكًا بما ورد في بعض طرقه، وفيه قال الزهري. . . . إلخ، فإن ذلك يرجع إلى اختلاف الرواة عن الزهري هل وصل هذا القدر عن سعد أو قال من قبل نفسه: والحكم للوصل لأن مع رواته زيادة علم وهو حافظ، وشاهد الترجمة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم امضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم"، فإن فيه إشارة إلى الدعاء لسعد بالعافية ليرجع =

بمكة"، هذا من كلام الراوي، والمرفوع منه إلى قوله: سعد بن خولة، وقال الراوي ذلك؛ تفسيرًا لبؤسه وتوجعه له وترفيقه عليه. واختلف في قائل هذا الكلام: فقيل: سعد بن أبي وقاص، وقد جاء مفسرًا في بعض الروايات، قال القاضي عياض: وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري. ويحتمل أن يكون قوله: "أن مات بمكة" مرفوعًا، ويرثي له من كلام غيره تفسيرًا لمعنى البائس، إذ روي في رواية: "لكن سعد بن خولة البائس قد مات في الأرض التي قد هاجر منها". واختلف في قصة سعد بن خولة: فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات فيها، قاله عيسى بن دينار وغيره، وذكر البخاري (¬1) أنه هاجر وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها. وقال ابن هشام (¬2): إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد ¬

_ = إلى دار هجرته وهي المدينة ولا يستمر مقيمًا بسبب الوجع بالبلد التي هاجر منها وهي مكة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: الكن البائس سعد بن خولة. . . . إلخ). (¬1) الفتح (3991). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (11/ 180): ونقل ابن المزين المالكي أن الرثاء لسعد بن خولة بسب إقامته بمكة ولم يهاجر، وتعقب بأنه شهد بدرًا ولكن اختلفوا متى رجع إلى مكة حتى مرض بها فمات، فقيل أنه سكن مكة بعد أن شهد بدرًا، وقيل: مات في حجة الوداع، وأغرب الداودي فيما حكاه ابن التين فقال: لم يكن =

بدرًا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر. وقيل: توفي بها سنة سبع في الهدنة، خرج مختارًا من المدينة إلى مكة، وقد أسلفنا ذلك في ترجمته، فعلى هذا وعلى قول عيسى، سبب بؤسه سقوط هجرته، لرجوعه مختارًا وموته بها، وعلى قول الآخرين: سببها موته بمكة على أي حال وإن لم يكن باختياره؛ لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه الذي هجره لله -تعالى- (¬1). وفي (معجم الطبراني الكبير) (¬2) أنه - عليه الصلاة والسلام - ¬

_ = للمهاجرين أن يقيموا بمكة إلَّا ثلاثًا بعد الصدر، فدلَّ ذلك أن سعد بن خولة توفي قبل تلك الحجة، وقيل: مات في الفتح بعد أن أطال المقام بمكة بغير عذر، إذ لو كان له عذر لم يأثم وقد قال - صلى الله عليه وسلم - حين قيل له أن صفية حاضت "أحابستنا هي"، فدل على أن للمهاجر إذا كان له عذر أن يقيم أزيد من الثلاث المشروعة للمهاجرين، وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللفظة، قالها - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع ثم حج فقرنها الراوي بالحديث لكونها من تكملته. انتهى. وكلامه متعقب في مواضع: منها استشهاده بقصة صفيه ولا حجة فيها لاحتمال أن لا تجاوز الثلات المشروعة، والاحتباس الامتناع وهو يصدق باليوم بل بدونه، ومنها جزمه بأن سعد بن خولة أطال المقام بمكة ورمزه إلى أنه أقام بغير عذر وأنه بذلك إلى غير ذلك مما يظهر فساده بالتأمل. اهـ. وانظر: تعليق رقم (2) ص 36، فإنه فيه زيادة فائدة. (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (5/ 342). (¬2) أحمد (4/ 60)، وابن سعد في الطبقات (3/ 146)، والبيهقي في السنن (9/ 19)، والبخاري في التاريخ الكبير، وذكره ابن حجر في فتح الباري (5/ 363)، والمروزي في جزء فيه. =

أمر إن مات سعد بن أبي وقاص من مرضه هذا أن يخرج من مكة وأن يدفن في طريق المدينة، وفي (مسند أحمد) (¬1) أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "يا عمرو القاري، إن مات سعد بعدي فههنا فادفنه، نحو طريق المدينة"، وأشار بيده هكذا. وقد أسلفنا عن رواية الصحيحين "أنه كان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها"، وعن رواية مسلم: "قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة". وترجم المحب الطبري في (أحكامه): كراهة دفن المرء الميت في الأرض التي هاجر منها، ثم ذكر هذا الحديث قال: وفي "عوالي ابن عيينة" من حديث أبي بردة: "قلت لرسول الله: أتكره للرجل أن يموت في الأرض التي هاجر منها؟ قال: نعم" (¬2). ¬

_ (¬1) حديث سفيان بن عيينة (103) مبهمًا: "خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد رجلًا"، فقال: "إن مات فلا تدفنوه بها" ابن سعد في الطبقات (3/ 146). (¬2) جزء فيه حديث سفيان بن عيينة، رواية زكريا المروزي (104)، وابن سعد في الطبقات (3/ 146)، والبيهقي (9/ 19) مرسلًا. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (7/ 267): قوله (ثلاث للمهاجر بعد الصدر): بفتح المهملتين، أي بعد الرجوع من منى، وفقه هذا الحديث أن الإِقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، ولهذا رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويستنبط من ذلك أن إقامة ثلاثة أيام لا تخرج صاحبها عن حكم المسافر، وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا معنى لتقييده بالأولين، قال النووي: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة يعني بعد الفتح، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه، قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجبًا لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواساته بالنفس، وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق، انتهى كلام القاضي، ويستثنى من ذلك من أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإِقامة في غير المدينة، واستدل بهذا الحديث على أن طواف الوداع عبادة مستقلة ليست من مناسك الحج، وهو أصح الوجهين في المذهب، لقوله في هذا الحديث "بعد قضاء نسكه" لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيًا لمناسكه فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج، والله أعلم. وقال القرطبي: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعني به من هاجر من غيرها لأنه خرج جوابًا عن سؤالهم لما تحرجوا من الإِقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله -تعالى-، فأجابهم بذلك، وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة، قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فر بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه في دينه فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة؟ يمكن أن يقال إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون فليس له أن يرجع لشئ من ذلك، وإن كان تركها فرارًا بدينه ليسلم له ولم يقصد إلى تركها لذاتها فله الرجوع إلى ذلك انتهى. وهو حسن متجه، إلَّا أنه خص ذلك بمن ترك رباعًا أو دورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم. اهـ.

الوجه الخامس: في أحكامه: الأول: استحباب عيادة المريض؛ وعيادة الإِمام أصحابه؛ وأنها مستحبة في السفر كالحضر وأولى. الثاني: جواز ذكر المريض ما يجده من شدة المرض لا في معرض التسخط والشكوى، بل لمداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حالة، ولا يكون ذلك قادحًا في خيره وأجر مرضه. الثالث: إباحة جمع المال؛ لقوله: "وأنا ذو مال"، لأن هذه الصيغة لا تستعمل عرفًا إلَّا لمال كثير (¬1)، ومنه: ذو علم، وذو شجاعة، وشبههما، وقد جاء ذلك مبينًا في رواية لمسلم "إن لي مالًا كثيرًا". الرابع: استحباب الصدقة لذوي الأموال. الخامس: مراعاة الوارث في الوصية. السادس: تخصيص جواز الوصية بالثلث، وخالف أهل الظاهر فقالوا: للمريض مرض الموت أن يتصدق بكل ماله، ويتبرع به كالصحيح. ويرده ظاهر الحديث مع حديث الذي أعتق في مرضه ستة أعبد [لا يملك] (¬2) سواهم فأعتق - عليه الصلاة والسلام - ¬

_ (¬1) نقله من شرح مسلم (11/ 76). (¬2) في ن هـ (لا مال). الحديث أخرجه: مسلم (1868)، والترمذي (1364)، والبيهقي (10/ 285)، وأحمد (4/ 426، 428، 430، 431، 439، 440)، وأبو داود في العتق (3958، 3959)، باب فيمن أعتق عبيدًا له لم يبلغهم الثلث، والنسائي (4/ 64)، (8/ 201)، وابن ماجه (2345)، والطبراني =

اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا. . . . رواه مسلم. وزعم بعض أهل العلم فيما حكاه الخطابي (¬1): أن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته. وزعم قوم: أنه إذا لم يكن له ورثة يضع جميع ماله [حيث] (¬2) شاء. وإليه ذهب إسحاق بن راهويه (¬3)، وقد روي عن ابن مسعود (¬4). وذهب بعضهم: إلى أن في قوله -عليه الصلاة والسلام- "والثلث كثير" منعًا من الوصية بالثلث، وأن الواجب أن يقتصر عنه، وأن لا يبلغ بوصيته تمامه. وروي عن ابن عباس أنه قال: "الثلث جنف (¬5)، والربع جنف". ¬

_ = (18/ 335)، وعبد الرزاق (16763)، وسعيد بن منصور (408) من رواية عمران بن حصين. (¬1) معالم السنن (4/ 144). (¬2) في الأصل (كيف)، وما أثبت من ن هـ ومعالم السنن. (¬3) انظر: الاستذكار (23/ 34)، والتمهيد (8/ 382). (¬4) أخرجه عبد الرزاق (9/ 13، 69، 70)، وسنن سعيد بن منصور (3/ 60)، والآثار لأبي يوسف (785)، ولفظه: "إذا كان كذلك جاز له أن يوصي بماله كله"، ذكره في التمهيد (8/ 379). (¬5) الجنف: الميل والجور، ذكره في النهاية (1/ 307). وفي هـ (حيف). وقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه أجاز الوصية بالربع. انظر: سنن البيهقي (6/ 270)، وقال: لو غض الناس من الثلث إلى الربع في الوصية. البخاري (2743)، ومسلم في الوصية، باب الوصية بالثلث، والنسائي (6/ 244)، وابن ماجه (2711).

وعن الحسن البصري (¬1) أنه قال: "يوصي بالسدس، أو بالخمس، أو بالربع". وقال إسحاق (¬2): السنة في الربع، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "الثلث كثير"، إلَّا أن يكون الرجل يعرف في ماله شُبهات فله استغراق الثلث. وقال الشافعي: إذا ترك ورثته أغنياء لم يكره له أن يستوعب الثلث، [وإذا] (¬3) لم يدعهم أغنياء اخترتُ له أن لا يستوعبه (¬4). ونقل النووي في (شرح مسلم) (¬5): عن العلماء من أصحابنا وغيرهم أن ورثته إن كانوا أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعًا وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص منه، ونقله بعد ذلك عن مذهبنا، والذي جزم به في (الروضة) (¬6) تبعًا للرافعي أن الأحسن: النقص عن الثلث مطلقًا. السابع: أن الثلث في باب الوصية في حد الكثرة، وقد [اختلف] (¬7) المالكية في مسائل: ففي بعضها جعلوه داخلًا في حد الكثرة بالوصية؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - "والثلث كثير" ¬

_ (¬1) الاستذكار (23/ 34). (¬2) انظر: (ت5)، ص 39. (¬3) في هـ (وإن). (¬4) إلى هنا انتهى نقله من المعالم. (¬5) شرح مسلم (11/ 77). (¬6) (6/ 122). (¬7) في هـ (اختلفت).

وهذا كما قال الشيخ تقي الدين (¬1) يحتاج إلى أمرين: الأول: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية، بل يؤخذ لفظًا عامًا. الثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذٍ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم، والثلث كثير، فهو معتبر، ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين لم يحصل المقصود [ومثل ذلك] (¬2) [ما] (¬3) ذهب إليه بعض المالكية. أنه إذا مسح ثلث رأسه في الوضوء أجزأه؛ لأنه كثير؛ للحديث، فيقال له: لِمَ قلت إن مسمى الكثرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته، قيل له: لِمَ قلت إن مطلق الثلث كثير، وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس جميع المسائل واطلب تصحيح كل واحدة من هاتين المقدمتين. وقد أجمع العلماء (¬4) في الأعصار المتأخرة على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بما زاد على الثلث إلَّا بإجازته، وشذَّ بعض السلف في ذلك، وأجمعوا على نفوذ الزيادة في باقي المال بإجازته. وأما من لا وارث له: فمذهب الشافعي والجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث، وجوّزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 159). (¬2) في إحكام الأحكام (مثال من ذلك). (¬3) في إحكام الأحكام ساقطة، وهو منقول بمعناه. (¬4) نقل الإجماع ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (23/ 31).

وأحمد في إحدى الروايتين، وروي عن بعض سلف الكوفيين وعن عليّ وابن مسعود (¬1). الثامن: أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم عالة، وحديث (¬2) "ثلاث كيات" للذي خلف ثلاثة دنانير، لابدَّ من تأويله، وأوَّله أبو حاتم ابن حبان (¬3) بأنه كان يسأل الناس إلحافًا وتكثرًا، ومن هذا أخذ بعضهم ترجيح الغني على الفقير وإستحباب النقص من الثلث. وقال السرخسي من الشافعية: من قلَّ ماله وكثر عياله؛ يستحب أن لا يفوته عليهم بالوصية. وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ورثته لا يفضل ماله عن غناهم؛ فالأفضل أن لا يوصي. التاسع: الحث على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب. العاشر: أن صلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد. الحادي عشر: أن الثواب في الإِنفاق مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله -تعالى-؛ فإن الأعمال بالنيات، وما أعزّ ذلك إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة!!. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (23/ 32)، والتمهيد (8/ 379). (¬2) أصله في البخاري بدون لفظ "ثلاث كيات" (2289)، والنسائي (4/ 65)، وأحمد (4/ 47، 50)، والبيهقي (6/ 72)، وابن أبي شيبة (3/ 371). (¬3) صحيح ابن حبان (8/ 55).

الثاني عشر: استحباب الإِنفاق في وجوه الخير. الثالث عشر: أن المباح بالنية يصير طاعة يثاب عليه، فإن زوجة الإِنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا أخبر -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله -تعالى-؛ حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد به وجه الله -تعالى-، ومثله الأكل بنية التقوّي على العبادة، والنوم لينشط للتهجد ودرس العلم ونحو ذلك، والاستمتاع بزوجته أو جاريته للإعفاف وطلب الولد الصالح، وهذا معنى قوله -عليه الصلاة والسلام- "وفي بضع أحدكم صدقة" (¬1). الرابع عشر: أن الأعمال الواجبة أو المندوبة يزداد الأجر في فعلها بقصد الطاعة، فإن قوله: "حتى ما تجعل في فيّ امرأتك" يقتضي المبالغة في تحصيل الأجر، لا تخصيص غير الواجب، كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة، ومات الناس حتى الأنبياء. قال الشيخ تقي الدين (¬2): فيمكن أن يقال: سبب هذا ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره، ¬

_ (¬1) مسلم (720، 1006)، وأبو داود في الأدب (5243، 5244)، باب في إماطة الأذى عن الطريق، وأحمد (5/ 176) من رواية أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 161).

و [أن] (¬1) لا يزيد على براءة الذمة، ويحتمل أن يكون ذلك دفعًا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة، وإطعامه إياها، واجبًا أو غير واجب، لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله، كما جاء في حديث زينب الثقفية، لما أرادت الإِنفاق على من عندها وقالت: "لست بتاركتهم" (¬2) وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم، فرفع ذلك عنها، وأُزيل الوهم. نعم في مثل هذا يُحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم نية عامة، وقد أسلفنا في حديث "إنما الأعمال بالنيات" (¬3) عن الحارث بن أسد المحاسبي أن أكثر السلف على الثاني، وقد دلَّ الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد، حيث قال: "لو مر بنهر ولا يريد أن يستقي به دوابه فشربت كان له أجر" (¬4) أو كما قال. فيمكن أن يتعدى هذا إلى سائر الأشياء، ويُكتفى بنية مجملة أو عامة، ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك. الخامس عشر: تسلية من كره حالة يخالف ظاهرها الشرع، ولا سبب له فيها، فإن سعدًا خاف فوت مقام الهجرة وموته بالأرض ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) البخاري (1466)، ومسلم (1/ 100)، والترمذي (636)، وابن ماجه (1834)، وأحمد (5/ 502)، (6/ 363). (¬3) في أول حديث لهذا الكتاب المبارك. (¬4) ساقه بالمعنى، ولفظه في البخاري: "ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له". البخاري (2371)، وابن حبان (10/ 4671).

التي هاجر منها بسبب المرض الذي وقع به. السادس عشر: أن الإِنسان قد يكون له مقاصد دينية فيقع في مكاره تمنعه منها فيرجو الله خلاصه منها، وذلك مأخوذ من قوله: "ولعلك أن تخلف" إلى آخره. [السابع عشر: سؤال الله إتمام العمل على وجه لا يدخله نفص؛ لقوله: "اللهم امضِ" إلى آخره] (¬1). الثامن عشر: فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، وقد نهي عن تمني الموت لضرٍّ نزل به (¬2) إلَّا لفتنة دين ونحو ذلك. واختلف حال السلف في ذلك: فمنهم من اختار النقلة إلى الله -تعالى-، ومنهم من اختار الحياة وطولها، ومنهم من أسقط اختياره، وأحوالهم في ذلك منزلة على خوفهم على دينهم ورجائهم فضل الله في طول الحياة لكثرة الطاعة، والتفويض إليه من غير اختيار. التاسع عشر: الحث على إرادة وجه الله بالأعمال. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقط. (¬2) ولفظه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضرٍّ أصابه، فإن كان لابدَّ فاعلًا، فيقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". وفي رواية قال أنس: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتمنين أحدكم الموت، لتمنيته". البخاري (5671)، ومسلم (2680)، والترمذي (971)، والنسائي (4/ 3)، وأبو داود (3108، 3109).

العشرون: [جواز] (¬1) تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن والسنَّة وهو قول جمهور أهل الأصول، وهو الصحيح، وفيه أيضًا معجزات كثيرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله لسعد، من طول عمره وفتح البلاد وانتفاع أقوام به، وتضرر آخرين بحياته. وفيه أيضًا: منقبة ظاهرة لسعد وفضائل عديدة، منها مبادرته إلى الخيرات. وفيه أيضًا: كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على جميع خلق الله أحياءً وأمواتًا على حسب مراتبهم. وتقييدها بالشرع. وفيه أيضًا: تعظيم [أمر] (¬2) الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: "ولا تردهم على أعقابهم". وفيه أيضًا: أن كسب المال وصرفه في الوجوه المذكورة أفضل من ترك الكسب أو من الخروج عنه جملةً واحدة، وهذا في كسب الحلال الخليّ عن الشبهة [وأين هو؟] (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل (أهل)، وما أثبت من هـ. (¬3) زيادة ن هـ. أقول: إذا كان كسب الحلال يعز في زمان المؤلف - رحمه الله - فما بالك بهذا الزمان الذي اختلطت فيه المكاسب جملةً وتفصيلًا؟ فنسأل الله العلي القدير أن يرزقنا لقمة حلال، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 314/ 3/ 60 - عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لو أن الناس غَضُّوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الثلث، والثلث كثير" (¬1). معنى: "غضوا" بالغين والضاد المعجمتين: نقصوا [وأصله] (¬2) من غض البصر. و"لو" هنا: حرف تمني, بمعني: ليت. وفيه من الأحكام: استحباب النقص عن الثلث، وبه قال جمهور العلماء مطلقًا، وقد سلف ما فيه في الحديث قبله. وعن الصديق أنه أوصى بالخمس (¬3)، وعن علي نحوه، وعن ابن عمر ¬

_ (¬1) البخاري (2743)، ومسلم (1629)، والنسائي (2711)، والحميدي في المسند (1/ 240، 241)، ومسند أحمد (1/ 230، 233)، والبيهقي (6/ 269)، وابن أبي شيبة (7/ 306)، والطبراني في الكبير (10/ 361). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في سنن سعيد بن منصور (3/ 88)، وعبد الرزاق (9/ 66)، والاستذكار (23/ 34)، وكان - رضي الله عنه - يقول: رضيت في وصيتي بما رضي =

بالربع (¬1)، وهو ظاهر قول ابن عباس (¬2)، وبه قال إسحاق (¬3)، [وعن آخرين: بالسدس] (¬4)، وعن آخرين: بدونه، وعن آخرين: بالعشر؛ لما روي في حديث معاذ أنه قال: "العشر" (¬5). وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة. وروي عن علي وابن عباس وعائشة وغيرهم أنه يستحب لمن له ورثة وماله قليل ترك الوصية؛ لظاهر الحديث الذي قبله (¬6). وما حكيته أولًا عن الجمهور في استحباب النقص من الثلث ¬

_ = الله به لنفسه. يعني من الغنيمة. (¬1) ذكره في الاستذكار (23/ 37) عن عمر من رواية قتادة. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 270)، والاستذكار (23/ 34). (¬3) التمهيد (8/ 382). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) من حديث سعيد بن أبي وقاص، النسائي (6/ 243)، وسنن سعيد بن منصور (332)، وأبو يعلى (2/ 115)، وذكره في كنز العمال برقم (46059)، ورمز له بالترمذي ولم أجده فيه، وذكره في كنز العمال (46102)، من حديث علي - رضي الله عنه - "بأنه مرض. . . ." الحديث. وجاء في سنن سعيد بن منصور (339)، والدارمي (413)، وذكره في كنز العمال (46098) عن العلاء بن زياد قال: جاء شيخ إلى عمر - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين! أنا شيخ كبير. . . . الحديث. (¬6) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 344)، فقد ساق ما ذكره المؤلف.

هو ما حكاه النووي (¬1) عنهم وإيراد القرطبي (¬2) في حكايته عنهم يخالفه، فإنه قال: اختلف في المستحب من الوصيَّة، فالجمهور على أنه الثلث. هذا لفظه. جاء في رواية في الصحيح: "كثير -أو: كبير-" وهو شك من الراوي، والمعنى واحد. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 83). (¬2) المفهم (4/ 551).

باب الفرائض

61 - باب الفرائض

61 - باب الفرائض [هو] (¬1) جمع: فريضة فعيّلة من الفرض، وهو التقدير، ومنه قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬2). أو الحز (¬3): ومنه: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} (¬4)، ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) سورة البقرة: آية 237. (¬3) تعريف الحز: قال في التحقيقات المرضية (10) للشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-: الحز: ومنه فرض القوس وهو الحز الذي في طرفه حيث يوضع الوتر. وذكر معاني أُخر, منها: (أ) الإِنزال: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}. (ب) التبيين: ومنه قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. (ج) الإِحلال: ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}، أي: أحل الله له. (د) وتطلق الفريضة لغة أيضًا على ما فرض في السائمة من الصدقة -وعلى الهرمة- وعلى الحصة المفروضة. وتعريفه اصطلاحًا: هو علم يعرف به من يرث ومن لا يرث ومقدار ما لكل وارث. اهـ. (¬4) سورة النساء: آية 7.

[أي] (¬1): منقطعًا محدودًا. أو الوجوب، والإِلزام، أقوال: ويقال للعالم بها: فرضي, وفارض، وفريض، كعالم، وعليم، حكاه المبرد (¬2). وذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: ¬

_ (¬1) في هـ (أو). (¬2) ذكره في شرح مسلم (11/ 51).

الحديث الأول

الحديث الأول 315/ 1/ 61 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأوْلى رجل ذكر". وفي رواية: "أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر" (¬1). الكلام عليه من وجوه: [وهذه الرواية الثانية من أفراد مسلم كما نبه عليه عبد الحق في جمعه] (¬2). الأول: معنى "ألحقوا الفرائض بأهلها": أعطوا كل ذي فرض فرضه المسمى له في الكتاب أو السنة أو بإجماع الأمة، وكأن استعمال الأهل هنا مجاز. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (6732)، ومسلم (1615)، والدارمي (2/ 368)، والترمذي (2098) في الفرائض، وابن ماجه (2740)، والدارقطني (4/ 70، 71)، وأبو داود (2898) في الفرائض، باب: ميراث العصبة، وابن الجارود (955)، وأبو يعلى (2371)، والبغوي (2216)، والبيهقي (6/ 234، 239)، (10/ 306)، وسعيد بن منصور في السنن (288، 289)، والحاكم (4/ 338)، وابن أبي شيبة (11/ 265، 266). (¬2) في ن هـ ساقطة.

الثاني: معنى "أولى" هنا: أقرب مأخوذ من الولي بإسكان اللام، وهو القرب، وليس المراد هنا: أحق، كما في قولهم: الرجل أولى بماله. لئلا يخلو الكلام عن الفائدة [لأنا] (¬1) لا ندري من هو الأحق. ووقع عند ابن الحذاء، عن ابن ماهان: "فلأدنى" (¬2) بدل "فلأولى" وهو تفسير "لأولى"، أي: أقرب إلى الميت. الثالث: إن قلت: ما فائدة وصف الرجل بالذكورة وهو لا يكون إلَّا ذكرًا، وقد أسقطه أبو داود في روايته وقال: "فَلأَوْلى ذكر؟ " فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه احتراز عن الخنثى، واستضعف. ثانيها: وعليه اقتصر النووي في شرحه (¬3): أنه ذكر للتنبيه على سبب الاستحقاق بالعصوبة، وسبب الترجيح في الإِرث، ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وحكمته: أن الرجال [تلحقهم] (¬4) مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيفان، وإرفاد القاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، وغير ذلك. فإن قلت: الحديث دال على اشتراط الذكورة في العصبة لاستحقاق باقي التركة، وقد تقرر أن الأخوات مع البنات عصبة؟ ¬

_ (¬1) في ن هـ (لأنها)، وما أثبت يوافق شرح مسلم (11/ 53)، والمعلم (2/ 337). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 318)، وفتح الباري (12/ 11). (¬3) شرح مسلم (11/ 53). (¬4) في هـ ساقطة.

فالجواب: ما ذكره [(¬1)] الشيخ تقي الدين (¬2): إن هذا من طريق المفهوم، وأقصى درجاته أن يكون له عموم، فيخص بالحديث الدال على الحكم المذكور، من كون "الأخوات" مع "البنات" عصبة. ثالثها: أنه ذكر لبيان ترتب الحكم على الذكورية دون الرجولية؛ ليدخل فيه الصبي فإنه ذكر ولا يسمى رجل، فعلى هذا يكون قوله "ذكر" "بدلًا" لا "صفة" وكأنه قال: "فلأولى رجل" وذكر أن الحكم ليس منوطًا بالرجولية، بل بالذكورة التي هي أعم، فقال: "ذكر" فكأنه قال أولًا: "فلأولى ذكر" فاستشكل هذا بأن الصفة تابعة للموصوف، والموصوف رجل، فمقتضاه اختصاص الميراث بالبالغ. وأما السهيلي -رحمه الله-: فإنه أبدع في كلامه عليه بما لم يسبق إليه، فقال: هذا الحديث أصل في الفرائض، وفيه إشكال، وتلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا يصح إضافته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أُوتي جوامع [الكلم] (¬3) واختُصر له الكلام اختصارًا، والذي تأوله الناس أن قوله: "ذكر" نعتًا "لرجل" ولا يصح من ثلاثة أوجه: أحدها: عدم الفائدة في وصف "رجل" بذكر، فإنه لا يتصور ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (به). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 164). (¬3) في الأصل (المعلم)، وما أثبت من ن هـ، وأيضًا في فتح الباري (12/ 13).

أن يكون "الرجل" إلَّا "ذكرًا" ويجل كلامه -عليه الصلاة والسلام- عما هو حشوًا لا فائدة فيه، ولا تحته فقه، ولا يتعلق به حكم. الثاني: أنه لو كان كما تأولوه؛ لنقص فقه الحديث، ولم يكن فيه بيان حكم الطفل الذي ليس برجل، وقد علم أن الميراث يجب له، وإن كان ابن ساعة، ولا يقال في اللغة "رجل" إلَّا للبالغ فما فائدة تخصيصه بالبالغ دون الصغير؟ الثالث: أن الحديث إنما ورد لبيان من يستحق الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام، ولو كان كما تأولوه لم يكن فيه بيان لقرابة الأم، والتفرقة بينهم وبين قرابة الأب فبقي الحديث مجملًا لا يفيد بيانًا، وإنما بعث - عليه الصلاة والسلام - ليبين للناس ما نزل إليهم، فإذا ثبت هذا؛ فلنذكر معنى الحديث وننعطف على موضع الإِشكال منه، ومنشأ الغلط فيه بعون الله تعالى فنقول: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أولى رجل ذكر" يريد القريب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب، لا من قبل بطن ورحم، فالأولى هنا: ولي الميت، فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ إضافة النسب، وهو في اللفظ مضاف إلى النسب، وهو الصلب وعبر عن الصلب بقوله: "أولى رجل"؛ لأن الصلب لا يكون والدًا ولا نسبًا، حتى يكون رجلًا. فأفاد بقوله: "لأولى رجل ذكر" نفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبل الأم، كالخال؛ لأن الخال أولى للميت ولاية بطن، لا ولاية صلب، فأفاد بقوله: "ذكر" نفي الميراث [عن

النساء] (¬1) وإن كن من الأولين إلى الميت من قبل صلب؛ [لأنهن إناث] (¬2) فـ "ذكر" نعتٌ "لأولى" ولما كان مخفوضًا في اللفظ ظن أنه نعتًا "لرجل". ولو قلت: من يرث هذا الميت بعد ذوي السهام؟ لوجب أن يقال لك: يرثه أولى رجل ذكر بالرفع؛ لأنه نعت [لفاعل] (¬3). [ولو قلت: من يعطى المال؟ لقيل: أعطِهِ أولى رجل "ذكرًا" بالنصب؛ لأنه نعت "لأولى"] (¬4)، فمن هنا دخل الإِشكال. ومن وجه آخر: وهو أن "أولى" على وزن أفعل، وهذا المثال إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه. فإذا قلت: هو أحسن رجل، فمعناه: أحسن الرجال، وكذلك إذا قلت: أعلم إنسان، فمعناه: أعلم الناس. فيتوهم أن قوله: "أولى رجل" أولى الرجال، وليس كذلك، وإنما هو أولى الميت بإضافة النسب، وأولى صلب بإضافته، كما تقول: هو أخوك أخو الرخاء لا أخو البلاء، وهم أقاربك أقارب الطمع، لا أقارب [الضرر] (¬5)، والناس يقولون: هم إخواني، ولكن إخوان الضحك. وكذلك يقول: مولاي مولى عتق. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وفتح الباري (12/ 13). (¬2) في هـ (لأنه أناس). (¬3) في ن هـ (الأولى). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) في ن هـ ساقطة.

"فالأولى" في الحديث كالولي، ثم قال: فإن قيل: كيف يضاف إلى الواحد وليس بجزء منه؟ قلنا: إذا كان معناه الأقرب في النسب، جازت إضافته، وإن لم يكن جزءًا منه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أمك ثم أمك [ثم أمك]، ثم أباك ثم أدناك فأدناك" (¬1)، ولو أراد دنو المكان؛ لم يجز أن يقول: [أدناك] (¬2)، كما لم يجز أن يقول: هو أفهمك وأعلمك، فهذا جائز في الأدنى والأولى والأقرب إذا أردت به معنى النسب والقرابة، قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} (¬3)، ولولا الألف واللام؛ لأضاف وقال: أوليانا، وإنما جاز هذا لمراعاة المعنى، إذْ معنى: أولاك وأدناك، كمعنى قريبك ونسيبك وأخيك، ثم إذا أردت أن تبين كيف هو نسيبك أو قريبك، قلت: قرابة صلب لا قرابة بطن، وكذلك تقول: هو أولاك، وأولى المرأة المتوفاة أولى رجل، وهذه المرأة هي أولياؤه، وجمعها أوليات. والأولى فإن شئت النسب قلت: هي أولى الميت، ولاية رجل أو ولاية صلب، وإن شئت، قلت: هي أولاه، كما تقول: هو أولاه، ثم تبين النسب فتقول: هي أولى نسبًا، أي. قرابتها من قبل رجل، ولولا قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ذكر" لورثته هذه المرأة بهذه الولاية، ولولا قوله: "أولى رجل" لورث الخال؛ لأنه أولى بهذا التفسير، والشواهد عليه وما يقتضيه لفظ الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، وما بين القوسين ساقطة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) سورة المائدة: آية 107.

إذا تأمل، من المتانة والإِيجاز مع كثرة المعاني على هذا يقتضي أن غيره من التأويل ساقط. لأنه يُخرج لفظه -عليه الصلاة والسلام- عن البلاغة ويجعله من اللفظ المسترذل وحاشى لله من ذلك، والحمد لله الذي وفق لهذه الفائدة وأعان عليها بعد قرع طويل لبابها. انتهى كلامه. وهو جليل حفيل، لكن جاء في رواية للدارقطني (¬1): "فلأولى رحم ذكر" وهو وارد على ما قرره، إلَّا أن يردها إلى رواية "رجل". الوجه الرابع في أحكامه: الأول: البداءة بأهل السهام قبل العصبة، والحكمة فيه أنه لو ابتدىء بالعصبة لاستغرقوا المال، وسقط أصحاب الفروض. الثاني: إرث العاصب ما بقي عنهم. الثالث: تقديم الأقرب فالأقرب منهم، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، ومحل الخوض في ترتيبهم كتب الفقه، فإنه أليق به، وكذا الخوض في بيان العصبة بنفسه، وبغيره، ومع غيره. الرابع: الرجوع في قسمة الفرائض وأنصبائها إلى كتاب الله تعالى، وقد أكد تعالى [. .] (¬2)، ذلك بقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}، كما أكد قسم الصدقات، وفي تولي الباري تعالى قسمة ذلك بنفسه، وكذا قسمته الغنيمة والفيء إشارة إلى شدة تعظيم الأموال وحرمتها، وقطع المنازعة بسببها. ¬

_ (¬1) الدارقطني (4/ 70، 71). (¬2) في ن هـ زيادة (سبحانه).

الخامس: فيه دلالة لمذهب ابن عباس في إسقاط الأخت الشقيقة بالأخ للأب مع البنت؛ لأنه لم يبق "ذكر" بعد "البنت" غيره، وجمهور العلماء على إسقاطه، فإن الله تعالى فرض للأخت النصف كما فرضه للبنت فلم يبق بعد إلحاق الفرائض بأهلها شيء فلم يكن له شيء. [السادس] (¬1): أورد إمام الحرمين والغزالي، هذا الحديث بلفظ: "عصبة" بدل "رجل" ولم أقف عليها في رواية بعد الفحص التام عنها، وادّعى الرافعي شهرتها. وقال ابن الجوزي (¬2): لا يُحفظ. وقال ابن الصلاح (¬3): فيها نظر وبعد عن الصحة من حيث الرواية [ومن حيث اللغة] (¬4)، فإن العصبة في اللغة اسم للجمع، وإطلاقها على الواحد من كلام العامة وأشباههم من الخاصة. وفي حد العاصب: اضطراب ذكرته في "شرح المنهاج" فراجعه منه. ¬

_ (¬1) في ن هـ (خاتمة). (¬2) التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 248). (¬3) ذكره في فتح الباري (12/ 12). (¬4) زيادة من ن هـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 316/ 2/ 61 - عن أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ثم قال: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" (¬1). الكلام عليه من وجوه: ومن [الغريب] (¬2) أن الصعبي حذفه [من] (¬3) شرحه. الأول: هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع مفرقًا ومجموعًا، أولها "الحج" (¬4)، وترجم عليه: توريث دور مكة ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1588)، ومسلم (1614)، والترمذي (2107) في الفرائض، باب: ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر، والدارمي (2/ 370)، وأبو داود (2909) في الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر؟ وابن الجارود (954)، والبغوي (2231)، والبيهقي (6/ 218)، والدارقطني (4/ 69)، وابن أبي شيبة (11/ 370)، ومالك (2/ 519)، وعبد الرزاق (9852)، وأحمد (5/ 208، 209)، وسعيد بن منصور (136). (¬2) في هـ (الغرايب). (¬3) في هـ (في). (¬4) برقم (1588)، فتح (3/ 450).

وبيعها وشرائها، وأن الناس في المسجد الحرام سواء، خاصة لقوله -تعالى-: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬1)، ثم ذكره بلفظ أنه قال: "يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة؟ قال وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟ ". وكان عقيل ورث أبا طالب، هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي -رضي الله عنهما- شيئًا؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب يقول: "لا يرث المؤمن الكافر"، قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2). ثانيها: الجهاد، وترجم عليه: إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون، فهي لهم (¬3). ثم ذكره بلفظ: "قلت: يا رسول الله: أين تنزل غدًا؟ -في حجته- قال: وهل ترك عقيل لنا منزلًا؟ "، ثم ذكر فيه شيئًا آخر لا تعلّق له بما أورده المصنف. [ثالثها] (¬4): في المغازي (¬5) في باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟ بلفظ: أن أسامة قال زمن الفتح: يا رسول الله، أين تنزل ¬

_ (¬1) سورة الحج: آية 25. (¬2) سورة الأنفال: آية 72. (¬3) (ح 3058)، فتح (6/ 175). (¬4) في الأصل (تاسعها)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) برقم (4282)، الفتح (8/ 13، 14).

غدًا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "وهل ترك عقيل من منزل"؟ ثم قال: "لا يرث الكافر المؤمن، ولا يرث المؤمن الكافر". قيل للزهري: من ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب. وقال معمر عن الزهري: "أين ننزل غدًا؟ في حجته"، ولم يقل يونس: "حجته"، و"لا زمن الفتح". [رابعها] (¬1): في الفرائض (¬2)، مقتصر على القطعة الأخيرة منه، وهذا لفظه عن أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"، وترجم عليه بهذه الترجمة، وزاد: [وإذا] (¬3) أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له. وأخرج مسلم القطعة الأولى في الحج (¬4) بألفاظ: أحدها: "يا رسول الله! أتنزل في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ "، ثم [. .] (¬5) ذكره بلفظ البخاري الأولى إلى قوله: كافرين. ثانيها: "يا رسول الله! أين تنزل غدًا؟ وذلك في حجته، حين دنونا من مكة، فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلًا". ¬

_ (¬1) في الأصل (عاشرها)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) (ح 6764)، والفتح (12/ 50). (¬3) في هـ (إن). (¬4) مسلم، كتاب: الحج، باب: النزول بمكة للحاج، وتوريث دورها (1351). (¬5) في هـ[ساق].

ثالثها: "يا رسول الله! أين تنزل غدًا، إن شاء الله؟ وذلك زمن الفتح، قال: "وهل [ترك] (¬1) لنا عقيل من منزل؟ "، وأخرج القطعة الثانية أول الفرائض (¬2)، ولفظه عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" إذا عرفت ذلك فلفظ المصنف بسياقه ليس واحد منها، وأقربها إلى روايته سياقة البخاري له في باب المغازي، ثم تنبه بعد ذلك لما وقع في أحكام (¬3) المجد ابن تيمية فإنه ادَّعى أن القطعة الثانية وهي: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"، لم يروها مسلم، وهو من الأعاجيب، فهي في أول كتاب الفرائض من صحيحه، ووهم أيضًا بعده وهمًا آخر، فقال: إن النسائي لم يخرجه أيضًا، وليس كذلك، فقد أخرجه في سننه (¬4) وتكلم عليه، إنما ذكرت هذا وإن لم يكن ما نحن [فيه] (¬5) لئلا يعترض به على المصنف ويقال: إنه من أفراد البخاري فليتنبه لذلك. الوجه الثاني: قد وضح لك اضطراب الروايات في أنه -عليه الصلاة والسلام- قال ذلك عام الفتح، أوعام حجة الوداع، وأنه جاء في مسلم أنه قال حين دنا من مكة [(¬6)]، فتطلب ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) مسلم، كتاب: الفرائض (1614). (¬3) المنتقى (2/ 471). (¬4) السنن الكبرى (4/ 80، 82). (¬5) في ن هـ (بصدده). (¬6) في الأصل (الثالث)، وما أثبت يوافق ن هـ.

الترجيح (¬1). [الثالث] (¬2): في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث [الثالث] (¬3) من باب دخول مكة نبذة منه. [الرابع] (¬4): عقيل بفتح أوله، هو ابن أبي طالب ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، كنيته أبو عيسى. وقيل غير ذلك، شهد بدرًا مع المشركين، وأُسر يومئذٍ مكره، ثم أسلم قبل الحديبية، وشهد غزوة مؤتة، وكان أسن من جعفر بعشر سنين، وطالب الذي مات كافرًا أسن منه بعشر سنين، وكان جعفر أسن من عليٍّ بعشر سنين، قيل: كان عقيل من أنسب قريش وأعلمهم بآبائها, ولكنه كان مبغضًا إليهم، لأنه كان يعد مساويهم، قدم البصرة ثم الكوفة ثم الشام، وله ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (3/ 451): وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة، ويزيده وضوحًا رواية زمعة بن صالح عن الزهري بلفظ: "لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة, قيل: "أين تنزل أفي بيوتكم" الحديث، وروى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمَّد بن علي بن حسين قال: "قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: هل ترك لنا عقيل من طل"، قال علي بن المديني: ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا من أبيه، لكن في حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك حين أراد أن ينفر من منى، وأخرجه البخاري (1589)، ويحمل على تعدد القصة. اهـ. (¬2) في الأصل (الرابع)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) في ن هـ (السادس). (¬4) في الأصل (الخامس)، وما أثبت من ن هـ.

دار بالمدينة، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب، وكان أسرع الناس جوابًا، وله أحاديث روى عنه ابنه محمَّد وغيره، قال ابن سعد وغيره: قالوا: مات في خلافة معاوية بعدما عمي, وقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- أطعمه بخيبر كل سنة مائة وأربعين وسقًا. ويروى مرفوعًا (¬1): "أعطيت أربعة عشر رفقاء نجباء. . . ."، فذكر منهم عقيلًا. قال حميد بن هلال: سأل عقيل [عليًّا] (¬2) وقال: إني محتاج، قال: اصبر حتى يخرج عطائي، فألح عليه، فقال لرجل: خذ بيده فانطلق به إلى الحوانيت فدقدق الأقفال، وخذ ما فيها. قال: يريد أن يتخذني سارقًا، قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقًا؟ فأتي معاوية فأعطاه مائة ألف، ثم قال له: اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك. فصعد وحمد الله ثم قال: أيها الناس إني أخبركم إني أردت عليًّا على دينه فاختار دينه [عليّ] (¬3) , وأردت معاوية على دينه فاختارني على دينه، فقال معاوية: أهذا الذي تزعم قريش أنه أحمق؟ الوجه [الخامس] (¬4) في ألفاظه ومعانيه: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "وهل ترك لنا عقيل من ¬

_ (¬1) في الحلية لأبي نعيم (1/ 128)، وفي المعجم الكبير للطبراني (6/ 215، 216)، لم يُذكر عقيل منهم. (¬2) في ن هـ (عليها). (¬3) في ن هـ (ساقطة). (¬4) في الأصل (السادس)، وما أثبت من ن هـ.

رباع؟ " سببه ما أسلفناه في طرق الحديث من كونه ورث أبا طالب مع طالب دون عليّ وجعفر. و"الرباع" جمع ربع، وهو المنزل الذي كان يرتعون فيه ويقيمون به، وربع القوم: محلتهم. ومعنى: "هل" هنا: النفي، أي: ما ترك لنا عقيل من دار، وأصل وضعها للاستفهام. وتأتي أيضًا: بمعنى النهي، نحو قوله -تعالى-: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} (¬1)، أي: انتهوا. أو بمعنى قد: نحو قوله - تعالى-: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬2). وفي إضافة الدار [إليه] (¬3) احتمالان للقاضي: أحدها: إضافة سكنى لا ملك، فإن أصلها كان لأبي طالب؛ لأنه الذي كفله حين كان أكبر ولد عبد المطلب، فاحتوى عليها وعلى غيرها من أملاك عبد المطلب، وحازها وحده لسنه على عادة الجاهلية (¬4). ثانيها: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان له فيها نصيب، فأخرجها عقيل عن أملاك بني عبد المطلب، كما فعل أبو سفيان ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 91. (¬2) سورة الإنسان: آية 1. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: شرح مسلم (10/ 120).

وغيره بدور من هاجر من المؤمنين، وقد قال الداودي: باع عقيل ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن هاجر من بني عبد المطلب. وقيل: إنما لم ينزل - عليه الصلاة والسلام - بها؛ لأنه لما هاجر تركها لله، فكره أن يرجع فيما تركه له (¬1). وقيل: لأنه [قد] (¬2) انصرف عنها بالكلية فصارت بمنزلة سائر دور مكة، حكاهما القاضي، قال: وبالثاني استدل ابن أبي صفرة لمالك والليث على من خرج من دار الكفر مسلمًا وبقي أهله وأولاده بدار الكفر ثم غزاها مع المسلمين، فإنه لا يكون أحق بها، [وهي] (¬3) على حكم البلد لا ملك له فيها. قال القاضي: ويرده أنه لو كانت العلة هذه؛ لعلل بها, ولم يعلل بقوله: "وهل ترك لنا عقيل من رباع". وأما الإِرث: فقال المبرد: أصله العاقبة، ومعناه: الانتقال من واحد إلى واحد. الوجه السادس: في أحكامه: الأول: جواز سؤال الكبار والعلماء عن نزولهم أين يكون، إذا قدموا بلدًا أو غيره، فإنه - عليه الصلاة والسلام - أقر أسامة على ذلك، ولم ينكر عليه. ¬

_ (¬1) رد ذلك ابن حجر في الفتح (3/ 452)، (8/ 15). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. انظر ما نسبه للقاضي: إكمال إكمال المعلم (3/ 446، 447).

الثاني: الجواب بأمر يلزم منه الامتناع عما سئل عنه. الثالث: أن مكة فتحت صلحًا، ودورها ورباعها مملوكة لأهلها لها حكم سائر البلدان في ذلك، فتورث عنهم، ويجوز لهم بيعها وإجارتها ورهنها وهبتها والوصية بها وغير ذلك من التصرفات، وبه قال الشافعي وجماعات. وذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وآخرون: إلى أنها فتحت عنوة، فلا يجوز شيء من هذه التصرفات. قال القاضي: وأجاب القائلون بهذا بأنه -عليه الصلاة والسلام- سوغ لأهلها أموالهم ودورهم منًا منه عليهم، ولم يجعلها فيئًا تقسم. ومناظرة الشافعي (¬1) مع إسحاق بن راهويه في إجارة دور مكة مشهورة. ¬

_ (¬1) قال البيهقي -رحمنا الله وإياه- في معرفة السنن (8/ 212، 213): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: قال: أخبرنا أبو الوليد الفقيه، قال: حدثنا أبو جعفر محمَّد بن علي العمري، قال: حدثنا أبو إسماعيل محمَّد بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن محمَّد الكوفي -وكان من الإِسلام بمكان- قال: رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس، ورأيت إسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل حاضرين، قال أحمد بن حنبل لإسحاق: يا أبا يعقوب تعال أُريك رجلًا لم ترَ عيناك مثله، فقال له إسحاق: لم ترَ عيناي مثله؟! قال: نعم، فجاء به فأوقَفَهُ على الشافعي، فذكر القصة إلى أن قال: ثم تقدم إسحاق إلى مجلس الشافعي، وهو مع خاصَّتِهِ جالسٌ فسأله عن سكنى بيوت مكة، أراد الكراء. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقال له الشافعي: عندنا جائز؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟ "، فقال له إسحاق بن إبراهيم: أتأذن لي في الكلام، قال: تكلم. فقال: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك. وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، أنه لم يكن يرى ذلك، وعطاء، وطاوس لم يكونا يريان ذلك. فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بن راهويه الخراساني. فقال له الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، قال إسحاق: هكذا يزعمون. قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بِعَرْكِ أذنيه، أنا أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنت تقول: عطاء، وطاووس، والحسن، هؤلاء لا يرون ذلك، وهل لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّةٌ. فذكر قصة إلى أن قال: فقال الشافعي: قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8]. فنسب الديار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين. فقال له الشافعي: قول الله عزَّ وجلَّ أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ"، نسب الدار إلى مالك أو إلى غير مالك؟ قال إسحاق: إلى مالك. فقال له الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، =

الرابع: أن الكافر لا يرث المسلم، وهو إجماع. الخامس: أن المسلم لا يرث الكافر، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال طائفة: يرثه، منهم معاذ بن جبل ومعاوية وابن المسيب ومسروق، وروي عن إسحاق بن راهويه، واختلف فيه عن أبي الدرداء والشعبي والزهري، والصحيح عن هؤلاء كقول الجمهور، وروى ابن حزم في "محلاه" (¬1) في كتاب الجهاد عن سليمان بن موسى -وهو فقيه أهل الشام- أنه قال: إذا مات للنصراني ولد صغير وله أخ من [أم] (¬2) [مسلم] (¬3) أو أخت مسلمة؛ ¬

_ = وذكر له جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له إسحاق: اقرأ الآية، قال الله -تعالى-: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. فقال له الشافعي: اقرأ أول الآية، قال: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]. ولو كان هذا كما تزعم لكان لا يجوز أن ننشد فيها ضالة، ولا ننحر فيها البُدْنَ، ولا ننثر فيها الأرْوَاث؛ ولكن هذا في المسجد خاصة. قال: فسكت إسحاق ولم يتكلم، فسكت عنه الشافعي. انظر: إلى آخر ص (215). أيضًا مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 214، 216). (¬1) (7/ 323، 324). (¬2) في المخطوطتين (أمة)، وما أثبت من المحلى. (¬3) في ن هـ (أسلم)، وما أثبت يوافق المحلى.

ورثه [إخوة، أو أخته] (¬1) كتاب الله، [ثم كان ما] (¬2) بقي للمسلمين, رواه ابن جريج عنه. واحتج من قال بإرثه منه: بحديث "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه" (¬3). ومن علوه إرث المسلم من الكافر دون عكسه، وبحديث: "الإسلام يزيد ولا ينقص" (¬4). وكأنهم قاسوه أيضًا على النكاح. ¬

_ (¬1) زيادة من المحلى. (¬2) في المخطوطتين (وما)، وما أثبت من المحلى. (¬3) البخاري معلقًا أطرافه في الفتح (3/ 218)، انظر له: تغليق التعليق (2/ 487، 490)، والبيهقي (6/ 205)، والدارقطني (3/ 252)، وتاريخ أصفهان (3/ 218)، وذكره في تلخيص الحبير (4/ 126)، ونصب الراية (3/ 213). (¬4) أبو داود الطيالسي (1436)، وأحمد (230، 236)، والبيهقي (6/ 205، 254، 255)، وأبو داود (2912)، وصححه الحاكم (4/ 345)، قال أبي حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (12/ 50): وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ، ولكن سماعه منه ممكن، وقد زعم الجوزقاني أنه باطل، وهي مجازفة، وقال القرطبي في المفهم: هو كلام محكي ولا يروى، كذا قال، وقد رواه من قدمت ذكره، فكأنه ما وقف على ذلك. اهـ. قال الجوزقاني -رحمنا الله وإياه- في كتاب الأباطيل (2/ 158): وفيه محمَّد بن المهاجر، وهو المتهم به. قال السيوطي -رحمنا الله وإياه- في اللآلئ (2/ 442) بأن ابن المهاجر بريء منه، فقد أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 161) من غير طريقه، إلخ. وضعفه الألباني في السنة لابن أبي عاصم (2/ 463) وفي الضعيفة (1123).

وتأول الجمهور الحديث: على مجرد فضل الإِسلام على غيره من الأديان، دون غيره من الأحكام، كإرث وغيره؛ جمعًا بين الحديثين. ولعل قائله لم يبلغه هذا الحديث، فإنه صريح فيه، ودين الإسلام لم يزل يزيد إلى أن كَمُل في الحين الذي أنزل الله فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1)، ولم ينقص من أحكامه ولا شرائعه التي شاء الله بقاءها شيء، وقد أعلاه الله -تعالى- وأظهره على الدين كله، كما وعدنا، والقياس لا يعارض النص، وأين الجامع بينهما أولًا، وحديث: "الإِسلام يزيد ولا ينقص" في إسناده جهالة. قال القرطبي (¬2): لا يصح، وقال الجوزقاني: [باطل] (¬3)، ثم رأيت بعد ذلك تخريج الحاكم له في مستدركه (¬4) وصحح إسناده. وأجاب القرطبي (¬5): عن حديث "الإِسلام يعلو ولا يُعلى عليه" بأنه لا يصح، ثم قال: هو كلام يُحكى ولا يُروى. هو عجيب منه (¬6) مع ما فيه من المناقضة، فإن البخاري (¬7) أخرجه موقوفًا من قول ابن عباس: "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه". نعم لا يصح ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3. (¬2) المفهم (4/ 567). (¬3) زيادة من ن هـ. انظر: الأباطيل (2/ 158). (¬4) المستدرك (4/ 345). (¬5) المفهم (4/ 567). (¬6) انظر: التعليق رقم (3)، ص 74. (¬7) انظر: التعليق رقم (3)، ص 74.

رفعه (¬1)، ووجه عدم إرثه من جهة المعنى: أن الكافر قطع ما بينه وبين الله -تعالى-، وقطع ما بينه وبين أوليائه وهم المؤمنون، ولانتفاء المناصرة بينهم، وهي قاعدة الإِرث. وهذا الذي ذكرناه في الكافر الأصلي (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (3/ 220): قوله (وقال: الإسلام يعلو ولا يُعلى): كذا في جميع نسخ البخاري لم يعين القائل، وكنت أظن أنه معطوف على قول ابن عباس، فيكون من كلامه، ثم لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير، ورأيته موصولًا مرفوعًا من حديث غيره، أخرجه الدارقطني (3/ 252) ومحمد بن هارون الروياني في مسنده من حديث عائذ بن عمرو المزني بسند حسن، ورويناه في فوائد أبي يعلى الخليلي من هذا الوجه، وزاد في أوله قصة وهي: أن عائذ بن عمرو جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، فقال الصحابة: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا عائذ بن عمرو وأبو سفيان، الإِسلام أعز من ذلك، الإِسلام يعلو ولا يُعلى". اهـ. مع الاطلاع على التعليق رقم (3)، ص 74. (¬2) قال ابن حجر على قول البخاري -رحمهما الله- في صحيحه (12/ 50): قوله (باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم): هكذا ترجم بلفظ الحديث، ثم قال: "وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له"، فأشار إلى أن عمومه يتناول هذه الصورة، فمن قيد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل، وحجة الجماعة أن الميراث يستحق بالموت، فإذا انتقل عن ملك الميت بموته لم ينتظر قسمته، لأنه استحق الذي انتقل عنه ولو لم يقسم المال، قال ابن المنير: صورة المسألة إذا مات مسلم وله ولدان مثلًا مسلم وكافر فأسلم الكافر قبل قسمة المال، قال ابن المنذر: ذهب =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الجمهور إلى الأخذ بما دلَّ عليه عموم حديث أسامة يعني المذكور في هذا الباب إلَّا ما جاء عن معاذ قال: يرث المسلم من الكافر من غير عكس، واحتج بأنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الإِسلام يزيد ولا ينقص" وهو حديث أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من طريق يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عنه، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ ولكن سماعه منه ممكن، وقد زعم الجوزقاني أنه باطل وهي مجازفة، وقال القرطبي في المفهم: هو كلام محكي ولا يروى، كذا قال، وقد رواه من قدمت ذكره فكأنه ما وقف على ذلك، وأخرج أحمد بن منيع بسندٍ قوي عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس، وأخرج مسدد عنه أن أخوين اختصما إليه مسلم ويهودي مات أبوهما يهوديًا فحاز ابنه اليهودي ماله فنازعه المسلم فورث معاذ المسلم، وأخرج ابن أبي شيبة طريق عبد الله بن معقل قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم، وبه قال مسروق وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وإسحاق، وحجة الجمهور أنه قياس في معارضة النص وهو صريح في المراد ولا قياس مع وجوده، وأما الحديث فليس نصًا في المراد، بل هو محمول على أنه يفضل غيره من الأديان ولا تعلق له بالإرث، وقد عارضه قياس آخر وهو أن التوارث يتعلق بالولاية ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله -تعالى-: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وبأن الذمي يتزوج الحربية ولا يرثها، وأيضًا فإن الدليل ينقلب فيما لو قال الذمي أرث المسلم لأنه يتزوج إلينا، وفيه قول ثالث وهو الاعتبار بقسمة الميراث جاء ذلك عن عمر وعثمان وعن عكرمة والحسن وجابر بن زيد وهو رواية عن أحمد، قلت: ثبت عن عمر خلافه

أما المرتد (¬1): فلا يرث المسلم إجماعًا، وهل يرثه المسلم؟ ¬

_ = كما مضى في "باب توريث دور مكة"، من كتاب الحج، فإن فيه بعد ذكر حديث الباب مطولًا في ذكر عقيل بن أبي طالب فكان عمر يقول فذكر المتن المذكور هنا سواء. اهـ. (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (12/ 50): واختلف في المرتد، فقال الشافعي وأحمد يصير ماله إذا مات فيئًا للمسلمين، وقال مالك: يكون فيئًا إلَّا إن قصد بردته أن يحرم ورثته المسلمين فيكون لهم، وكذا قال في الزنديق، وعن أبي يوسف ومحمد لورثته المسلمين، وعن أبي حنيفة ما كسبه قبل الردة لورثته المسلمين وبعد الردة لبيت المال، وعن بعض التابعين كعلقمة يستحقه أهل الدين الذي انتقل إليه، وعن داود يختص بورثته من أهل الدين الذي انتقل إليه ولم يفصل، فالحاصل من ذلك ستة مذاهب حررها الماوردي، واحتج القرطبي في "المفهم" لمذهبه بقوله - تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فهي ملل متعددة وشرائع مختلفة، قال: وأما ما احتجوا به من قوله -تعالى-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} فوجه الملة فلا حجة فيه لأن الوحدة في اللفظ وفي المعنى الكثرة، لأنه أضافه إلى مفيد الكثرة كقول القائل: أخذ عن علماء الدين علمهم يريد علم كل منهم، قال: واحتجوا بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} إلى آخرها، والجواب أن الخطاب بذلك وقع لكفار قريش وهم أهل وثن، وأما ما أجابوا به عن حديث "لا يتوارث أهل ملتين" بأن المراد ملة الكفر وملة الإِسلام، فالجواب عنه بأنه إذا صح في حديث أسامة فمردود في حديث غيره، واستدل بقوله: "لا يرث الكافر المسلم" على جواز تخصيص عموم الكتاب بالآحاد، لأن قوله -تعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} عام في الأولاد فخص منه الولد الكافر فلا يرث من المسلم بالحديث المذكور، وأجيب بأن المنع حصل بالإِجماع، وخبر الواحد إذا حصل =

قولان للعلماء: أحدهما: لا؛ لعموم الحديث، وبه قال الشافعي وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وغيرهم، بل يكون ماله فيئًا للمسلمين. وثانيهما: يرثه ورثته من المسلمين، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف، لكن قال الثوري وأبو حنيفة: ما كسبه في ردته [فهو للمسلمين فيءٌ] (¬1)، وقال الكوفيون: الجميع لورثته المسلمين، وعن أحمد روايات حكاها ابن هبيرة في كتابه "إجماع الأربعة" عنه. أظهرها: كقول الشافعي ومن وافقه. ثانيها: كالثاني: ثالثها: أن ميراثه يكون لورثته من أهل [ذمته] (¬2) الذين اختارهم إذا لم يكونوا مرتدين، ووقع في كلام القاضي عياض (¬3) في ¬

_ = الإِجماع على وفقه كان التخصيص بالإجماع لا بالخبر فقط، قلت: لكن يحتاج من احتج في الشق الثاني به إلى جواب، وقد قال بعض الحذاق: طريق العام هنا قطعي ودلالته على كل فرد ظنية، وطريق الخاص هنا ظنية ودلالته عليه قطعية فيتعادلان، ثم يترجح الخاص بأن العمل به يستلزم الجمع بين الدليلين المذكورين بخلاف عكسه. اهـ. انظر: مغني المحتاج (3/ 25)، والقوانين الفقهية (394)، وشرح السراجية (225) واللباب (4/ 197)، وكشاف القناع (4/ 528). (¬1) في ن هـ (تقديم وتأخير). (¬2) في ن هـ (دينه). (¬3) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 318).

حكايته عن الشافعي أن ميراث المرتد لجماعة المسلمين، ومراده بالإِرث: الفيء، وسياق كلامه يرشد إليه. السادس: [الحديث] (¬1) دال بإطلاقه على أن اختلاف الدين مانع من الإِرث، وإن كان بالولاء، وعن الإِمام أحمد: أنه لا يمنع به (¬2)، وحكاه إمام الحرمين عن علي، وقال: هو غريب ولا أصل له. قلت: [بل] (¬3) له أصل، وهو حديث جابر - رضي الله عنه -: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم النصراني إلَّا أن يكون عبده أو أمته" (¬4). رواه النسائي وصححه الحاكم، وأعله ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (12/ 53): الجمهور أن الكافر إذا أعتق مسلمًا لا يرثه بالولاء، وعن أحمد رواية أنه يرثه، ونقل مثله عن علي. اهـ. محل المقصود. وقبله بالسياق قال: تكميل: لم يذكر البخاري ميراث النصراني إذا أعتقه المسلم، وقد حكى فيه ابن التين ثمانية أقوال: فقال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي: هو كالمولى المسلم إذا كانت له ورثة، وإلَّا فماله لسيده، وقيل: يرثه الولد خاصة، وقيل: الولد والوالد خاصة، وقيل: هما والإِخوة، وقيل: هم والعصبية، وقيل: ميراثه لذوي رحمه، وقيل: لبيت المال فيئًا، وقيل: يوقف فمن ادعاه من النصارى كان له. اهـ. ملخصًا، وما نقله عن الشافعي لا يعرفه أصحابه. اهـ. انظر: المغني (6/ 348). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) النسائي في الكبرى (4/ 85، 86) رقم (6397) وصححه الحاكم =

ابن حزم (¬1) وابن القطان بما فيه نظر، ومن الغرائب أن القاضي عبد الوهاب المالكي (¬2) نقل عن الشافعي كمقالة أحمد، فقال: لو أعتق المسلم عبدًا كافرًا ومات ورثه عند الشافعي، خلافًا [لمالك] (¬3)، ذكره في كتاب "الإشراف في الخلاف بينه وبين مالك"، لكن رأيت في "الأم" (¬4) للإِمام الشافعي ما نصه: "أنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي حكيم أن عمر بن عبد العزيز أعتق عبدًا له نصرانيًا فتوفي العبد بعدما أعتقه، قال إسماعيل: فأمرني عمر بن عبد العزبز أن آخذ ماله فأجعله في بيت مال المسلمين"، ثم قال الشافعي: وبهذا كله نأخذ. وفي "الإِشراف" لابن المنذر: إذا أعتق المسلم العبد النصراني فالولاء له؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الولاء لمن أعتق" فإن ¬

_ = (4/ 345)، والدارقطني (4/ 74)، والدارمي (3/ 369)، ومسند أبي حنيفة (182)، والكامل لابن عدي (5/ 1736)، والبيهقي (6/ 218). (¬1) المحلى (3/ 369). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (12/ 53): وأعله ابن حزم بتدليس أبي الزبير، وهو مردود، فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابرًا، فلا حجة فيه لكل من المسألتين؛ لأنه ظاهر في الموقوف. اهـ. انظر: مصنف عبد الرزاق (10/ 343). (¬2) الإشراف على نكت مسائل الخلاف (992). القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمَّد البغدادي المالكي ت (422) ترجمته في ترتيب المدارك (7/ 220) شجرة النور الزكية (103). (¬3) في ن هـ (للمالكي). (¬4) الأم (6/ 187)، والسنن الكبرى (10/ 299)، ومعرفة السنن (14/ 416).

مات المعتق النصراني لم يكن للمعتق من ميراثه شيء؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". فإذا أسلم المعتق ثم مات ورثه مولاه المعتق، وهذا قول الشافعي وأهل العراق، ثم روى عن عمر بن عبد العزيز ما أسلفناه عن رواية الشافعي، ثم قال: وبه قال الأوزاعي. وفي "شرح الرافعي" في أوائل باب الولاء مثله، حيث قال: لو أعتق المسلم عبدًا كافرًا، والكافرُ مسلمًا؛ ثبت الولاء وإن لم يتوارثا، كما ثبت علقة النكاح والنسب بين الكافر والمسلم وإن لم يتوارثا، وقال القاضي حسين في الباب المذكور: لو أعتق الكافر عبدًا مسلمًا وله ابن مسلم فمات العبد في حياة معتقه؛ لا يرثه ابن معتقه المسلم، بل يكون لبيت المال. وما ذكره خلاف ما نص عليه إمامنا [فإن] (¬1) ابن المنذر نقل عنه: أنه يرثه أقرب الناس من عصبة مولاه، ويكون وجود سيده كموته، ونقله عن أهل العراق أيضًا: وكان مالك بن أنس يفرِّق بين المسلم يعتق العبد النصراني، وعكسه، فالأول يرثه مولاه دون الثاني. وفي الرافعي في أثناء باب (الولاء): لو أعتق [مسلم] (¬2) عبدًا كافرًا ومات عن ابنين مسلم وكافر، ثم مات العتيق، فميراثه للابن الكافر؛ لأنه الذي يرث المعتق بصفة الكفر. ولو أسلم العتيق ثم مات فميراثه للابن المسلم، ولو أسلم ¬

_ (¬1) في هـ (قال). (¬2) في هـ (المسلم).

الابن الكافر ثم مات العتيق مسلمًا فميراثه بينهما، واستدل أصحابنا على أحمد في تفرقته بين الإرث بالنسب والولاء: بأن الولاء فرع النسب، والكفر مانع من الإِرث [بالنسب] (¬1)، فأولى أن يَمنع في الولاء، وفرقوا بين النكاح والإِرث: بأن التوارث مبني على الموالاة والمناصرة، وهما منتفيان بين المسلم والكافر. وأما النكاح فمن نوع الاستخدام وقضاء الإِرث؛ ولأن الإِرث لو كان ملحقًا بالنكاح لورث الذمي الحربي، كما يجوز أن يتزوج المسلم الحربية، وحيث لم يجز؛ دل على افتراقهما. فرع: مات كافر عن زوجة حامل ووقفنا الميراث للحمل فأسلمت، ثم ولدت، ورثه الولد وإن كان محكومًا بإسلامه؛ لأنه كان محكومًا بكفره يوم الموت، ذكره الرافعي في الكلام على إرث الجنين، ولو قيل: بأنه [لا يرثه] (¬2) لم يبعد؛ لأن العبرة في إرث الحمل بانفصاله حيًّا، وهذا حين انفصاله كان مسلمًا. وفي كتب الحنابلة: أنه إذا مات أحد أبوي الولد الكافرين صار الولد مسلمًا بموته، وقسم له الميراث؛ لأن إسلامه إنما ثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث، فهو سبب لهما، فلم يتقدم [الإِسلام] (¬3): مانع من الميراث على استحقاقه. ¬

_ (¬1) في هـ (بالنسبة). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) زيادة من ن هـ.

فروع: نختم بها الكلام على الحديث: الأول: الأصح عند الشافعي أن الكافر يرث الكافر وإن اختلفت ملتهما، وبه قال أبو حنيفة وداود وآخرون. ونقل مقابله: عن مالك، وأحمد في أصح الروايتين عنه، وأنه لا توارث بين حربي وذمي، ونقل عن علي أيضًا، وحكاه القاضي قولًا قديمًا، والرافعي حكاه وجهًا مخرجًا من تخريج ابن خيران وغيره، وأنه اختيار الأستاذ أبي منصور. ووقع في "تعليق" القاضي حسين و"الإِبانة" نسبة ذلك إلى ابن سريج -وصوابه شريح كما ذكره غيرهما-، وأصل هذا الخلاف: أن الكفر ملل، أو ملة واحدة، وفيه قولان: أصحهما عند الشافعي الثاني، وبه قال عمر بن الخطاب وأبو حنيفة وصاحباه. و [حكى] (¬1) مقابله: عن علي بن أبي طالب ومالك. ونقل ابن اللبان في "فرائضه" عن شريح وابن أبي ليلى والحسن وشريك والحسن بن صالح وإحدى الروايتين عن إبراهيم والثوري أنهم قالوا: الكفر ثلاث ملل: ملة اليهودية، وملة النصرانية، وملة الكفر من المجوسيين والصابئين وغيرهم، لأنهم لا كتاب لهم، فلا يرث ملة من هؤلاء من ملة أخرى، قال ابن اللبان: وعن عطاء والليث ومغيرة والضحاك والزهري وربيعة نحوه، قال: وذهبت طائفة من أهل المدينة والبصرة إلى أن كل ¬

_ (¬1) زيادة من هـ.

فريق من الكفار ملة، ولم يورثوا المجوسي من عبدة الأوثان أيضًا. الفرع الثاني: يهودي ذمي مات عن ابن مسلم وأربعة إخوة: نصراني ومجوسي ويهودي وصابئي؛ المال للإِخوة الأربعة عدنا، وعند معاذ: المال للمسلم، وعند شريح: للأخ اليهودي، وفي "شرح مختصر المزني" للجودي: لو جاز توريث المرتد من مثله، لجاز توريث المعطل من مثله، والوثني من مثله. ونقل الإجماع على أن الموارثة خلاف المناكحة، وأن من لم يورِّث المسلم من الكافر سوَّى بين كل كافر كتابيًا كان أو وثنيًّا، ومن ورث المسلم من الكافر سوَّى بين كل كافر أيضًا، فورَّثهم من كل كافر. الفرع الثالث: لا فرق بين أن يكون الحربيان متفقي الدار أو مختلفيها. وقال أبو حنيفة: إن كان مختلفي الدار: فإن اختلفت الملوك، ورأى بعضهم قتل بعض، كالروم والهند، لم يتوارثا، وإن اختلفت ملتهما. وعبارة الماوردي (¬1): إذا ثبت أن الكفر ملة واحدة فقد اختلف الناس في كيفية توارثهم، ومذهب الشافعي: أن أهل الذمة يتوارثون هم وأهل العهد، بعضهم من بعض [على] (¬2) اختلاف [أديانهم] (¬3)، وأهل الحرب يتوارثون بعضهم من بعض وإن اختلفت ديارهم، ولا ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (10/ 235). (¬2) في ن هـ (وإن). (¬3) في ن هـ (ديارهم).

توارث بينهم وبين أهل الذمة، وأهل الحرب يتوارثون ما لم تختلف بهم الدار، واختلاف دارهم يكون باختلاف ملوكهم، ومعاداة [بعضهم] (¬1) لبعض في الدين، كالترك والروم، فلا يورث بعضهم من بعض. وعبارة الرافعي: اختلف الشافعي وأبو حنيفة في ميراث أهل الحرب بعضهم من بعض، فقال الشافعي: يرث بعضهم بعضًا سواء كانوا من أهل دار واحدة، أو اختلفت دارهما. وقال أبو حنيفة: أهل الحرب إنما يرث بعض من بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة. ووقع في "شرح مسلم" (¬2) للنووي عن الأصحاب ما يخالف ذلك، فإنه قال: قال الشافعي: لا يرث حربي من ذمي، ولا ذمي من حربي، ثم قال: [قال] (¬3) [الأصحاب] (¬4): وكذا لو كان حربيين في بلدين [متجاورين] (¬5) لم يتوارثا، نعم في نسخة حُذِفَ لفظ "حربيين". وقال في كلامه على "التنبيه": قوله: (ولا يرث حربي من ذمي، ولا ذمي من حربي)، كان ينبغي له أن يقول أيضًا: ولا حربي من حربي في دار أخرى وبينهما حرب، فإن أهل الحرب إذا ¬

_ (¬1) في ن هـ (بعض). (¬2) شرح مسلم (11/ 53). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) في شرح مسلم (أصحابنا). (¬5) في شرح مسلم (متحاربين).

كانوا متجاورين لا يرثوا أهل بلد من بلد [آخر] (¬1) يحاربونهم. الفرع الرابع: لا فرق عندنا بين أن يسلم الكافر قبل قسمة ميراث قريبه المسلم، أو يستمر على كفره، خلافًا لأحمد، حيث قال: إن أسلم بعدها أو بعد حرز الوارث الواحد فلا يتغير الحكم، وإن أسلم قبلها ورث في المشهور عنه، وإن أسلم بعد قسمة بعض التركة، ورث مما بقي؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا: "كل قسم في الجاهلية فهو على قسمة الجاهلية، وإن ما أدرك الإِسلام فهو على قَسم الإسلام". رواه أبو داود (¬2)، وفي إسناده محمَّد بن مسلم الطائفي، وقد ضعف، ممن ضعَّفه أحمد، وعلى تقدير صحته تأوّله الخطابي (¬3) على أن أحكام الأموال والأنساب والأنكحة التي ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) أبو داود (2914) في الفرائض، باب: فيمن أسلم على ميراث، وابن ماجه (2485)، والبيهقي (9/ 122) ومسند أبي يعلى (4/ 247)، والتمهيد (2/ 49)، قال ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 254): ورواه أبو يعلى الموصلي، وإسناده جيد. اهـ. وقد جاء للحديث شاهد من رواية ابن عمر عند ابن ماجه (2749). ومرسلًا في الموطأ. انظر: التمهيد (2/ 48)، وأيضًا في سنن سعيد بن منصور، برقم (192، 196). أبا محمَّد بن مسلم، هو الطائفي، قال الحافظ في التهذيب (9/ 445)، صدوق يخطئ. اهـ. (¬3) انظر: معالم السنن (4/ 182). قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه - في تهذيب السنن (4/ 182، 183): وقد دل على هذا قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} فأمرهم بترك ما لم يقبضوا من الربا، ولم يتعرض لما قبضوه، بل أمضاه لهم. وكذلك الأنكحة لم يتعرض فيها لما مضى، ولا لكيفية عقدها، بل أمضاها وأبطل منها ما كان موجب إبطاله قائمًا في الإسلام، كنكاح الأختين والزائدة على الأربع فهو نظير الباقي من الربا. وكذلك الأموال لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا بعد إسلامه عن ماله ووجه أخذه، ولا تعرض لذلك. وكذلك للأسباب الأخرى كما تقدم في المستلحق في بابه. وهذا أصل من أصول الشريعة ينبني عليه أحكام كثيرة. وأما الرجل يسلم على الميراث قبل أن يقسم: فروى عن عمر بن الخطاب وعثمان وعبد الله بن مسعود والحسن بن علي: أنه يرث، وقال به جابر بن زيد والحسن ومكحول وقتادة وحميد وإياس بن معاهلة وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد، في إحدى الروايتين عنه، اختارها أكثر أصحابه، وذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يرث، كما لو أسلم بعد القسمة، وهذا مذهب الثلاثة. وذكر ابن عبد البر في التمهيد: أن عمر قضى: أن من أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله نصيبه، وقضى به عثمان. واحتج لهذا القول الأول بما روى سعيد بن منصور في سننه عن عروة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أسلم على شيء فهو له"، ورواه أيضًا عن ابن أبي مليكة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتجوا أيضًا بحديث أبي داود هذا. واحتجوا بأنه قضاء انتشر في الصحابة من عمر وعثمان، ولم يعلم لهما مخالفًا. وفيه نظر، فإن المشهور عن علي أنه لا يرث.

كانت في الجاهلية ماضية لا يردّ منها شيء في الإسلام، [أما] (¬1) ما حدث في الإِسلام فيستأنف فيه حكم الإِسلام. الفرع الخامس: للفرق المختلفة في الدين الواحد من الكفار، مثل اليعقوبية (¬2). . . . . ¬

_ = واحتجوا أيضًا بأن التركة إنما يتحقق انتقالها إليهم بقسمتها وحوزها، واختصاص كل من الوارثين بنصيبه، وما قبل ذلك فهي بمنزلة ما قبل الموت. والتحقيق: أنها بمنزلة ما قبل الموت من وجه، وبمنزلة ما قبل القسمة من وجه، فإنهم ملكوها بالموت ملكًا قهريًا ونماؤها لهم، وابتدأ حول الزكاة من حين الموت، ولكن هي قبل القسمة كالباقي على ملك الموروث، ولو نمت لضوعف منها وصاياه، وقضيت منها ديونه، فهي في حكم الباقي على ملكه من بعض الوجوه. ولو تجدد للميت صيد بعد موته بأن يقع في شبكة نصبها قبل موته ثبت ملكه عليه. ولو وقع إنسان في بئر حفرها لتعلق ضمانه بتركته بعد موته، فإذا قسمت التركة وتعين حق كل وارث انقطعت علاقة الميت عنها، والله أعلم. اهـ. (¬1) في المعالم (أن). (¬2) ينسبون إلى يعقوب البراذعي، وكان راهبًا في القسطنطينية، ويقولون: إن المسيح هو الله -تعالى- نفسه، وإن الله -تعالى عن عظيم كفرهم- قُتِلَ وَصُلِبَ، وإن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر، والفلك بلا مدبر، ثم قام ورجع كما كان، وأنه -تعالى- هو كان في بطن مريم محمولًا به، ومنهم من قال. ظهر اللاهوت في الناسوت فصار ناسوت المسيح، فظهر الحق لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة، بل هو صار هو هو، وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة =

والنسطورية (¬1) من النصارى، يتوارثون عندنا وعند عامة العلماء, وعن الأوزاعي: لا يتوارثون, لوقوع العداوة بينهم، نقله المعافي الموصلي، وكأنه أخذه من "الإبانة" فإن فيها قريبًا منه. الفرع السادس: إذا ورث الكافر الكافر [فإنه] (¬2) يرثه على حكم الإِسلام، وإذا ترافعوا إلينا لم يحكم بينهم إلَّا به، وحيث لا يكون وارث أو يفضل عن ذوي الفروض ولا عصبة، يكون لبيت المال، كما يفعل في مواريث المسلمين، كذا قرره بعض شيوخنا، قال: وليس عندنا في ذلك خلاف، وإنما في بعض كلام المالكية والحنفية شيء يخالف في ذلك، وقد غلط في ذلك بعض المفتين من الشافعية. الفرع السابع: إذا مات كافر ولا وارث له؛ فماله في أهل ¬

_ = الإِنسان. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 49)، والملل والنحل للشهرستاني (2/ 66)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (132). (¬1) هم أتباع "نسطور الحكيم" الذي ظهر في زمن المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه، فقال: إن الله -تعالى- واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود، العلم، الحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو، واتحدت الكلمة بجسد عيسى - عليه السلام - كإشراق الشمس في كوة، أو على بلور، أو كظهور النقش في الخاتم، كما قالوا: إن مريم لم تلد الإله، وإنما ولدت الإنسان، وإن الله -تعالى- لم يلد الإنسان، وإنما ولد الإِله -تعالى عن كفرهم-، كما يقولون: إن اتحاد الله بعيسى لم يكن باقيًا حال صلبه. انظر: المراجع السابقة. (¬2) في ن هـ (فإنما).

الفيء، وعن النخعي ومالك: أنه لأهل دينه، وعن عمر: أنه كتب أنَّه يعطى للذين يؤدون جزيته. الفرع الثامن: روي عن الإِمام الحارث بن أسد المحاسبي أنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئًا؛ لأن أباه كان يقول بالقدر، وقال: صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (¬1)، وهو يحتاج إلى درهم، ولعله ترك الأخذ تورعًا؛ لأنه في محل الخلاف، إذ في تكفير القدرية خلاف، وفي نفي التوارث بناءً على التكفير أيضًا خلاف، حكاه ابن الصلاح في طبقاته (¬2) عن الأستاذ أبي منصور، أما ابن الصلاح فجزم بأن هذا [منه] (¬3) بناءً على التكفير, ولم يذكر الاحتمال السالف أنه تركه تورعًا. نعم قال ابن خيران من أصحابنا: رأيته متعلقًا بأبيه والناس قد اجتمعوا عليه، يقول: أمي طلقها، فإنك على دين وهي على دين غيره (¬4)، وهذا ظاهر في أنه كان يرى تكفيره. ¬

_ (¬1) أبو داود (2911) الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر؟ والترمذي (2108)، والدارقطني (4/ 75، 76)، وعبد الرزاق (9857، 9863، 9305)، وابن ماجه (2731)، وابن الجارود (967)، وأحمد (2/ 178، 195)، وحسَّن إسناده الألباني في الإرواء (6/ 121). (¬2) طبقات ابن الصلاح (441). (¬3) في ن هـ (مبنى). (¬4) طبقات ابن الصلاح (441)، وتاريخ بغداد (8/ 214).

[الفرع التاسع] (¬1): يتعلق بما سبق، لخَّص الماوردي الكلام في أن المرتد يورث، وقال: فيه ستة مذاهب: الأول: مذهبنا [لا] (¬2) سوى الزنديق وغيره، وبه قال أحمد. ثانيها: وهو مذهب مالك: أنه يكون فيئًا إلَّا الزنديق، فإنه لورثة المسلمين، أو يقصد بردته حرمان ورثته في مرض موته، فيكون ميراثًا لهم. ثالثها: مذهب أبي يوسف ومحمد: أن جميع ماله موروثٌ لورثته المسلمين، سواء ما كسبه في الردة أو قبلها. رابعها: مذهب [أبي] (¬3) حنيفة: أن ما كسبه قبل ردته يكون لورثته المسلمين، وربما قال أصحابه: ينتقل إليهم في آخر جزء من زمان إسلامه قبل الردة، وليس بطريق الميراث، وما كسبه بعد ردته يكون لبيت المال، إلَّا أن يكون المرتد امرأة فيكون جميعه معدومًا. خامسها: مذهب داود: أن ماله لورثته الذين ارتد إليهم، دون ورثته من المسلمين. سادسها: مذهب علقمة وقتادة وابن أبي عروبة: أنه ينتقل إلى أهل الدين الذي ارتدَّ إليه. ¬

_ (¬1) في ن هـ (تذنيب). انظر: المحلى (10/ 402، 408)، والمغني (6/ 294)، والمجموع (14/ 498)، ونيل الأوطار (6/ 82، 83)، وفتح الباري (50112، 52). (¬2) في ن هـ غير موجودة. (¬3) في ن هـ (أبا).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 317/ 3/ 61 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى [عن] (¬1) بيع الولاء وهبته" (¬2). الكلام عليه من وجوه: ومن الغرائب أن الفاكهي أسقطه من شرحه، كذا رأيته محذوفًا منه في نسختين. الأول: الوَلَاءُ: بفتح الواو وبالمد، وأصله من الولي، وهو القرب كما أسلفته في باب الشروط في البيع، وحقيقته: حق ثبت بوصف هو الإِعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه؛ لأن ما ثبت [بوصف] (¬3) يدوم بدوامه، ولا يستحقه إلَّا من قام بذلك ¬

_ (¬1) في ن هـ غير موجود لفظ (عن). (¬2) البخاري أطرافه (2535)، ومسلم (1506)، وأبو داود في الفرائض (2919)، باب: بيع الولاء، والترمذي (1236)، وابن ماجه (2747)، ومالك (2/ 782)، والدارمي (2/ 256)، والنسائي (7/ 72، 306)، والبيهقي (10/ 292)، وسعيد بن منصور (276)، وعبد الرزاق (16138)، وأحمد (2/ 9، 79، 107)، والبغوي (2225، 2226)، وابن أبي شيبة (6/ 121)، وابن الجارود (987). (¬3) في ن هـ (بموصف).

الوصف، وقد شبه [رسول الله] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - الولاء بالنسب في كونه لا يقبل النقل بالبيع والهبة أيضًا، حيث قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب" (¬2)، رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد. فكما أن الأبوة والجدودة لا تنتقل، كذلك الولاء. الثاني: الحديث دال على تحريم بيع الولاء وهبته، وفي معناهما كل تصرف يقبل النقل، فلو خالف لم يصح ولم ينتقل عن مستحقه، وبه قال الجمهور سلفًا وخلفًا، وأجاز بعض السلف نقله، ولعله لم يبلغهم الحديث، أو يريدوا به الجر. وقال بعض الفقهاء: شراء الولاء يمتنع في صحة [المعتق] (¬3) جائزةً بعد موته إذا سلم من الغرر والجهل في الثمن والمثمن وفي حال المرض قولان: أشهرهما عند المالكية المنع، قالوا: وكذا القول في هبته. الثالث: إنما نهى [(¬4)]- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يبيعون ولاء مواليهم فهو مما ورد على سبب، وأنشدوا في ذلك: فباعوه مملوكًا وباعوه معتقًا ... فليس له حتى الممات خلاص ¬

_ (¬1) في ن هـ (ساقطة). (¬2) ابن حبان (4950)، والحاكم (4/ 341)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 292). (¬3) في ن هـ (العتق). (¬4) في ن هـ زيادة (رسول الله).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 318/ 4/ 61 - عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: كان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدى لها لحم فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبرمة على النار، [فدعا بطعام، فأتي بخبزٍ وأدم من أدم البيت، فقال: "ألم أر البرمة على النار] (¬1) فيها لحم؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلك لحم تُصُدق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: "هو عليها صدقة، وهو [منها لنا] (¬2) هدية". وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -[فيها] (¬3): "إنما الولاء لمن أعتق" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في متن العمدة (لنا منها). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) البخاري أطرافه (456)، ومسلم (1075، 1504)، والترمذي (1154)، والنسائي (6/ 162، 163، 165)، والسنن الكبرى له (5640، 5641)، ومالك (2/ 562)، والطيالسي (1417)، وا ليهفي (6/ 161)، والبغوي (1611)، وأحمد (1/ 281، 321)، (2/ 28، 100، 113، 144، 153، 156)، وأبو داود (2235)، وابن ماجه (2074)، والدارمي (2/ 169)، وابن الجارود (361). =

حديث بريرة هذا بمجموع طرقه [قد] (¬1) استنبط الحفاظ منه أحكامًا كثيرة وألفوا فيه غير ما تأليف، كلما نبهنا على ذلك في باب الشروط في البيع، وقد أشرنا هناك إلى مهمات ذلك، ووعدنا بذكر طرق أخر منها إن قدَّر الله الوصول إلى هنا، وقد فعل، ولله الحمد، فنقول: الكلام عليه من وجوه: الأول: قولها: "كان في بريرة ثلاث سنن"، إن قلت فيها أكثر من ذلك كما أسلفته في الباب المشار إليه، فالجواب من أوجه: أحدها: إن هذه الثلاث أظهر ما في حديثها من القضايا والسنن. ثانيها: أنها خصت بالذكر لكونها أصولًا لما عداها مما تضمنه الحديث. ثالثها: أنها أهم والحاجة إليها أمس. رابعها: أن قولها هذا لا يقتضي حصرًا، وإنما معناه أنه سُنَّ وشُرع بسبب قصتها أو عند وقوع قصتها كذا. الثاني: زوج بريرة اسمه: مُغِيث (¬2) -بضم الميم وكسر الغين ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) قد جاء في حديث ولفظه: "يا عباس، ألا تعجب من شدة حب مغيث بريرة، ومن شدة بغض بريرة مغيثًا؟ " الحديث. البخاري أطرافه (5280)، وابن ماجه (2075)، والنسائي (8/ 245، 246)، والبيهقي (7/ 222)، والبغوي (2299)، وأبو داود (2231).

المعجمة ثم مثناة تحت ثم مثلثة-. وقيل: بالعين المهملة المفتوحة بدل المعجمة، ثم ياء مثناة مكسورة ثم باء موحدة [حكاهما] (¬1) العسكري في "كتاب الصحابة" في ترجمته، وقال: هو مولى بني مخزوم. قلت: والمعروف في رواية الثقات أنه كان عبدًا. قال الحفاظ: ورواية من روى أنه كان حرًّا غلظ (¬2) شاذة مردودة لمخالفتها المعروف في رواية الثقات ويزيد الأول قول عائشة في "صحيح مسلم": "وكان عبدًا و [لو] (¬3) كان حرًّا لم يخيرها" (¬4) وهو معظم الروايات عنها، وأجمعوا عليه من طريق ابن ¬

_ (¬1) في ن هـ (حكا). (¬2) انظر: البخاري أطرافه (456)، وأبو داود (2916) في الفرائض، باب: في الولاء، الترمذي (1256) في البيوع، باب: ما جاء في اشتراط الولاء والزجر عن ذلك، والنسائي (5/ 107)، (6/ 163) , (7/ 300)، وأحمد (6/ 186، 189)، والبيهقي (7/ 223)، (10/ 338)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 82). قال الحافظ ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (12/ 40) على قوله: "وقول الأسود منقطع" أي لم يصله بذكر عائشة فيه، وقول ابن عباس أصح لأنه ذكر أنه رآه، وقد صح أنه حضر القصة وشاهدها فيترجح قوله على قول من لم يشهدها فإن الأسود لم يدخل المدينة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الحكم فولد بعد ذلك بدهر طويل. اهـ. محل المقصود. (¬3) زيادة من ن هـ ومسلم. (¬4) صحيح مسلم (1504)، والترمذي (1154)، والنسائي (6/ 163)، وأبو داود (2233).

عباس (¬1)، وكان يحبها ويسألها ويستشفع فلا ترجع. فائدة: هذا اللحم المذكور في الحديث: "كان لحم بقر"، كما جاء في رواية، وفيه رد على من كره ذبح البقر للحاجة إليها في الحرث. وقال القرطبي (¬2): اضطربت ألفاظ الرواة لهذا الحديث. فقال بعضهم: "أهدى لها لحم". وقال بعضهم: "تُصُدِّق عليها بلحم بقر". [وقال بعضهم: قالت عائشة: "تصدق على مولاتي بشاة من الصدقة". وقال بعضهم] (¬3): قالت عائشة: "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة من الصدقة إلى بريرة". قال القرطبي (¬4): وهذان اللفظان أنص ما في الباب, فليعتمد عليها. الثالث: في الحديث دلالة على أن من عتقت تحت عبد يثبت لها الخيار في فسخ النكاح وهو إجماع، واختلفوا: فيما [لو] (¬5) عتقت تحت حر فأثبته لها أبو حنيفة أيضًا، ونفاه مالك والشافعي ¬

_ (¬1) انظر: التعليق رقم (1)، ص 93. (¬2) المفهم (4/ 337). (¬3) في ن هـ ساقطة، ومثبتة في الأصل والمفهم (5/ 2653). (¬4) المفهم (4/ 338). (¬5) في ن هـ (إذا).

والجمهور لانتفاء الضرر [إذن] (¬1)، وقد علمت منشأ الخلاف في ذلك، وهو هل كان زوجها حرًّا أو عبدًا؟ الرابع: فيه أيضًا [دلالة] (¬2) على جواز إعطاء [الصدقات] (¬3) [على موالي قريش، خلافًا لمن منع ذلك] (¬4)، [لأن] (¬5) بريرة مولاة لهم، ولم ينكر - عليه الصلاة والسلام - الصدقة عليها. قال القاضي عياض (¬6): فإن كانت هذه الصدقة تطوعًا فقد يحتج به من يرى صدقة التطوع جائزة لموالي قريش أو جميعهم، وإن كانت واجبة فيحتج به من لا يرى تحريمها على مواليهم، واستثنى غيره بأنه كيف يكون اللحم عن زكاة واجبة. الخامس: فيه أيضًا دلالة على جواز الأكل مما تصدق به على الفقير ومثله ما إذا أهدى إليه، سواء في ذلك أزواجه - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. السادس [: فيه أيضًا دلالة على قبول الغني هدية الفقير بما تصدق به عليه لقبول عائشة لحمها، ولم ينكر عليها. السابع:] (¬7) فيه أيضًا دلالة على الفرق بين الهدية والصدقة في الحكم، وأن من حلف لا يأكل من أحدهما لم يحنث بالآخر، فإن ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ (الصدقة). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في ن هـ (فإن). (¬6) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 167). (¬7) في هـ ساقطة مع تعديل في أرقام الفوائد والأحكام.

الصدقة ما قصد به ثواب الآخرة والهدية ما قُصِدَ به إكرام الموهوب له مع نقله إلى مكانه. الثامن: فيه أيضًا دلالة على من أهدى إلى أهله شيء في غيبته ينبغي إعلامهم به، لإِعلام عائشة بحال اللحم. التاسع: فيه أيضًا دلالة على وجوب نصح أهل الرجل له، وأن يجنبوه ما يكرهه، كما أخبرت عائشة بحال اللحم لعلمها بأنه لا يأكل الصدقة. العاشر: فيه أيضًا دلالة على أن كسب المرأة الحرة لها دون زوجها تتصرف فيه بالهدية وغيرها خلافًا لمن خالف فيه. الحادي عشر: فيه أيضًا دلالة على أنه يجوز لمن أهدى لأهله أو لأحدٍ من إلزامه شيئًا أن يشرك نفسه معهم في الإِخبار عن ذلك لقوله "وهو لنا هدية". (¬1) [الثاني عشر]: فيه أيضًا دلالة على أنه يجوز للمرأة أن تدخل في بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه، وإن كان فيه شغل ملكه إذا لم تظن كراهيته لذلك لإِدخال عائشة لحم بريرة البيت. (¬2) الثالث عشر: فيه أيضًا دلالة على استحباب السؤال عما يستفاد به علم أو آداب أو بيان حكم أو رفع شبهة، وقد يجب ذلك في بعض المحال، كما سأل -عليه الصلاة والسلام- عما في البرمة، ليعلم حاله ويبين حله. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (الحادي). (¬2) في الأصل زيادة (الثاني).

الرابع عشر: فيه أيضًا دلالة على جواز سؤال الرجل عما لم يعهده في بيته، ولا يرد على هذا حديث أم زرع "ولا يسأل عما عهد" أن معناه: لا يسئل عن شيء عهده وفات فلا يسئل أين ذهب؟ وأما هنا وكانت البرمة واللحم فيها موجودين حاضرين، فسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عما رآه ليبين لهم حكمه، لأنه يعلم أنهم لا يتركون إحضاره له شحًّا عليه، بل لتوهم تحريمه عليه فأراد بيان ذلك لهم. وعبارة الشيخ تقي الدين (¬1): في إيراد هذا الوجه فيه دلالة على تبسط الإِنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه لطلبه من أهله مثل ذلك، وفي ذكره نظر، بل الظاهر أنه سؤال عما لم يعهده. الرابع عشر: فيه أيضًا دلالة على أن هدية الأدنى للأعلى لا توجب ثوابًا ولا تقتضيه شرعًا، لأنه لم ينقل أن عائشة أثابت بريرة على اللحم. الخامس عشر: فيه أيضًا دلالة على أن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدي له، ولا يحتاج إلى قبول، وهو الصحيح عندنا؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يسأل عائشة عن قبولها, ولا أنكر قبولها له. السادس عشر: فيه أيضًا دلالة على جواز الصدقة على من يمونه غيره: إما وجوبًا كزوجة ورقيق أو ندبًا كقريب لا تجب نفقته؛ لأن عائشة كانت تمون بريرة، ولم ينكر قبولها الصدقة. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 168).

السابع عشر: فيه أيضًا دلالة على أنه يجوز لمن تصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها بما شاء من الصدقات. الثامن عشر: فيه أيضًا دلالة على جواز أكل اللحم وإن لم يعلم حال من ذبحه إذا لم يظن أنه ممن تحرم ذبيحته، لعدم سؤاله -عليه الصلاة والسلام- عنه. التاسع عشر: فيه أيضًا دلالة على أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إليه بطريق مشروع إذا لم يظن تحريمه، أو تظهر شبهة فيه، لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يسأل عن المتصدق ولا عن حاله، والأيدي ظاهرة في الملك. العشرون: فيه أيضًا دلالة على أنه يستحب للكبير إذا أهدي إليه القليل أن يقبله ولا يستقله لقبول هدية اللحم من بريرة مع علو مقدارهم ونزارة مقدار اللحم. الحادي بعد العشرين: فيه أيضًا دلالة على أن من تصدق عليه بقليل ينبغي أن يقبله ولا يستقله، لتقرير بريرة على قبول اللحم. الثاني بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على حصر الولاء للمعتق. الثالث بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على جواز نكاح العبد الحرة إذا رضيت هي وأولياؤها لتخيير بريرة بعد العتق، وكان زوجها عبدًا على قول الجمهور كما مرّ. الرابع بعد العشرين: عدم اعتبار الكفاءة إذا رضي الولي والزوجة.

الخامس بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على اعتبارها في الأزواج، لأن تخييرها إنما كان لارتفاعها بالحرية عن نقصه بالرق. وإذا اعتبر ذلك دوامًا فابتدء أولى. السادس بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على أن المغرور بحرية الزوج أو الزوجة له الخيار إذا علم بالحال بعد ذلك، لأن خيرت مع العلم، فما بالك مع التغرير؟! السابع بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على تسمية الأحكام سننًا. الثامن بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على أن المرأة إذا فوتت بضعها على زوجها بعد الدخول بفسخ بحرية لم ترجع بمهرها, لأن بريرة فوتت ذلك على زوجها بكتابتها وحريتها واختيارها ولم يقضِ له بالرجوع [عليها] (¬1). ومذهب الشافعي: أنه إن كان الفسخ بعتق بعد الدخول وجب المسمى، وإلَّا فمهر المثل على الأظهر، وإن كان الفسخ قبل الدخول فلا شيء. التاسع بعد العشرين: فيه دلالة أيضًا على أن الشيء المحرم لوصف يزول تحريمه بزوال وصفه. الثلاثون: فيه دلالة أيضًا على جواز الحيل المباحة أو المستحبة بطريقة الشرع، وفيه أيضًا حسن الجواب بالصدق. ¬

_ (¬1) في ن هـ (عليه).

واستعمال الورع الذي لا يؤدي إلى مخالفة الشرع من الزوجة للزوج، ومثله كل متبوع مع تابعه، وأنه إذا رأى العالم أن بتابعه حاجة إلى تعليم علم أو معرفة حكم أن يذكره له مبتدئًا من غير سؤال، واختيار أطيب الإِدام ليتقوى به على طاعة ربه، خلاف ما ذهب إليه بعضهم، وغير ذلك.

باب النكاح

62 - باب النكاح

62 - باب النكاح أصله في كلام العرب الوطء وسُمِّي به العقد لأنه سببه، والأصح أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء. وعكس أبو حنيفة. وقيل: إنه حقيقة بينهما بالاشتراك (¬1)، وذكر المصنف في الباب ثلاثة عشر حديثًا. ¬

_ (¬1) النكاح عند جميع الأئمة الأربعة حقيقة في العقد، مجاز في الوطء لأنه المشهور في القرآن والأخبار، قال الزمخشري: لم يرد في القرآن لفظ النكاح بمعنى الوطء إلَّا قوله -تعالى-: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، لحديث "حتى تذوقي عسيلته"، فالمراد به العقد، والوطء مستفاد من هذا الخبر. أما عند الأصوليين وأهل اللغة فالنكاح: حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فمتى جاء في القرآن أو السنة مجردًا عن القرائن يراد به الوطء، كما قال -تعالى-: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فتحرم مزنية الأب على الابن أي على فروعه، وأما حرمة التي عقد عليها عقدًا صحيحًا على الفروع، فبالإِجماع. ولو قال لزوجته: إن نكحتك فأنت طالق، تعلق الشرط بالوطء، وكذا لو أبانها قبل الوطء ثم تزوجها تطلق بالوطء لا بالعقد. أما نكاح المرأة الأجنبية فيراد به العقد، لأن وطأها لما حرم عليه شرعًا، كانت الحقيقة مهجورة، فتعين المجاز.

الحديث الأول

الحديث الأول 319/ 1/ 62 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث الأول من كتاب الصلاة. قال ابن منده في "مستخرجه": ورواه مع ابن مسعود، عائشة وجابر بن عبد الله، وأنس. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (1905)، ومسلم (1400)، والترمذي (1081)، وأبو داود في النكاح (2046)، باب: التحريض على النكاح، وابن ماجه (1845)، والنسائي (4/ 169، 170)، (6/ 57)، والدارمي (2/ 132)، وأبو يعلى في مسنده (5110، 5192)، ابن الجارود (672) , والبيهقي (4/ 296)، (7/ 77، والحميدي (115)، وابن أبي شيبة (4/ 126، 127)، والبغوي (2236)، وأحمد (1/ 424، 432)، والطيالسي (1/ 303)، وعبد الرزاق (6/ 169).

الثاني: في ألفاظه. الأول: قال أهل اللغة: المعشر: الطائفة الذين يشملهم وصف. فالشباب: معشر، والشيوخ: معشر، والأنبياء: معشر، والنساء: معشر، وكذا ما أشبه ذلك. الثاني: "الشباب" جمع شاب، ويجمع على شبان وشببة. قال الأزهري: ولا يجمع فاعل على فعال غيره. قال "صاحب الجامع": وأصل الشباب الحركة والنشاط، لأن الإِنسان أول عمره أكثر حركة، ونشاطًا منه في آخر عمره، والشباب عند الشافعية من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة، كما نقله النووي في "شرحه لمسلم" (¬1) عنهم. وقال الزمخشري: حده من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين سنة، وقال ابن شاس (¬2) من المالكية: الشبان والأحداث لمن بلغ حتى يكمل أربعين سنة. وحكى القرطبي عن أهل اللغة: أنه يقال له حدث إلى ست عشرة سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين، ثم كهل في ثلاثة وثلاثين. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (10/ 173). (¬2) هو الشيخ الإِمام العلامة جلال الدين أبو محمَّد عبد الله بن نجم بن شاس صاحب كتاب "الجواهر الثمينة في فقه أهل المدينة"، مات غازيًا بثغر دمياط في جمادى الآخرة أو في رجب سنة ست عشرة وستمائة. الذخيرة السنية (56)، والديباج لابن فرحون (1/ 443)، وسير أعلام النبلاء (22/ 98).

وقد أسلفت في الكلام على الحديث الرابع من باب الاستطابة عن أبي جعفر النحوي أسماء الإِنسان من حين يخلق في بطن أمه إلى أن يهرم، فراجعه منه، وخص في الحديث الشباب بذلك لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح بخلاف الشيوخ. والمعنى معتبر إذا وجد في الكهول والشيوخ أيضًا. الثالث: "الباءة" أصلها في اللغة الجماع، وهي مشتقة من المباءة، وهي المنزل، ومنه مباءة الأرض وهو موطنها، ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة فقد بوأها منزلًا، فهو من مجاز الملازمة. وفي "الباءة" (¬1) أربع لغات: أفصحها وأشهرها الباءه بالمد والهاء. وثانيها: بدون مد. وثالثها: بالمد بلا هاء. ورابعها: الباهه بهاءين بلا مد، وفي بعض "شروح التنبيه" أنها بالمد: القدرة على مؤن النكاح. وبالقصر: الوطء والنكاح. واختلف في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: ¬

_ (¬1) انظر: المقصور والممدود للفراء (94)، وتهذيب اللغة (15/ 596) , واللسان مادة (بوه): (17/ 372)، والمقصور والممدود لابن ولاد (17). هكذا: الثانية: الباة، الثالثة: الباء.

أصحهما: أن المراد معناه اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شر منيه، كما يقطعه الوجاء. ووقع الخطاب للشباب لكونهم مظنة الشهوة كما سلف. والثاني: أن المراد بالباءة هنا مؤن النكاح، [و] (¬1) سميت [باسم] (¬2) ما يلازمها، فالتقدير: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج، ومن لم يستطعها فليصم، ليدفع شهوته، والذي حمل القائلين بهذا على هذا أنهم قالوا: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن. وأجاب الأولون: بما قدمناه في القول الأول، وهو أن تقديره: ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤونة وهو محتاج إلى الجماع، فعليه بالصوم (¬3). الرابع: معنى "أغض" أمنع. و"أحصن" مأخوذ من الحصين الذي يمنع به من العدو. و"الوجاء": بكسر الواو وبالمد رض الخصيتين، وقال القاضي (¬4): أصله الغمز، يقال: وجىء في عنق فلان إذا غمز عنقه ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) انظر شرح مسلم (10/ 173). (¬4) انظر: مشارق الأنوار (2/ 279)، وذكره في إكمال إ كمال المعلم (4/ 6، 7).

ودفع، ومنه: وَجأه بالخنجر وشبهه، وجاء ساكن الجيم إذا نخسه به وطعنه، والوجْأ المصدر ساكن الجيم وهو أيضًا اللزق، ومنه الوجيئة: تمر يحل باللبن أو السمن ويرض حتى يلتزق بعضه ببعض، ومنه أخذ الوجاء وهو غمز الأنثيين أو رضهما بحجر أو نحوه. قال أبو عبيد: وقد قال بعض أهل العلم وجأ بفتح الواو ومقصور [من] (¬1) الحفاء، وقال: والأول أجود في المعنى، وقال أبو زيد: لا يقولون وجاء إلَّا فيما لم يبرأ وكان قريب عهده. وفي "صحيح ابن حبان" (¬2) بعد قوله: "فإنه له وجاء، وهو الإِخصاء"، ولا أدري هذه الزيادة ممن. والمراد على الرواية المشهورة: وهي رواية المدّ: أن الصوم يقطع الشهوة وشر المني، كما يفعل الوجاء كما سلف، وهو من مجاز المشابهه. وعلى رواية القصر: يكون شبه الصوم في باب النكاح بالنعت في باب المثنى. الخامس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنه أغض للبصر ¬

_ (¬1) في غريب الحديث (2/ 74) (يريد). (¬2) الإِحسان بتقريب صحيح ابن حبان (4026)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 110): وهي زيادة مدرجة في الخبر لم تقع إلَّا في طريق زيد بن أبي أنيسة هذه، وتفسير الوجاء بالإِخصاء فيه نظر، فإن الوجاء رض الأنثيين والإِخصاء سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. اهـ.

وأحصن للفرج" يحتمل كما قال الشيخ تقي الدين (¬1): أن تكون "أفعل" فيه لغير المبالغة، بل إخبار عن الواقع، ويحتمل أن تكون على بابها، [فإن التقوى بالتزوج سبب لها]، وهو أبلغ من غضه وتحصينه بمجرد الصوم. السادس: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فعليه بالصوم" (¬2) ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 172). وعبارة ما بين القوسين [فإن التقوى سبب لغض البصر]. (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 109، 110): قوله (ومن لم يستطع فعليه بالصوم): وفي رواية مغيرة عن إبراهيم عند الطبراني "ومن لم يقدر على ذلك فعليه بالصوم"، قال المازري: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يغرى بالغائب، وقد جاء شاذًا قول بعضهم: عليه رَجُلًا ليسنى، على جهة الإِغراء، وتعقبه عياض بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة والزجاجي، ولكن فيه غلط عن وجه: أما أولًا: فمن التعبير بقوله لا إغراء بالغائب، والصواب: فيه [لا يجوز] إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونص سيبويه أنه لا يجوز دونه زيدًا، ولا يجوز: عليه زيدًا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب فلا يجوز لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدالة على المراد، وأما ثانيًا فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء وإن كانت صورته، فلم يرد القائل تبليغ الغائب وإنما أراد الإِخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يرد أن يغريه به وإنما مراده دعني وكن كمن شغل عني، وأما ثالثًا فليس في الحديث إغراء الغائب بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولًا بقوله: "من استطاع منكم"، فالهاء في قوله: "فعليه"، ليست لغائب وإنما هي للحاضر المبهم، إذ لا يصح خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله: (كتب =

ليس إغراء الغائب، لأن الهاء في "عليه" لمن خصه من الحاضرين بعدم الاستطاعة، لتعذر خطابه بكاف الخطاب، كما نبَّه عليه القاضي عياض وأوضحه، ورد به على من قال: إن في الحديث دلالة على الإِغراء بالغائب، وأن النحاة منعوه. الوجه الثالث: من الكلام على الحديث في أحكامه. الأول: الأمر بالنكاح لمن استطاع وتاقت نفسه وهو إجماع، لكنه عند الجمهور أمر ندب لا إيجاب فلا يلزم التزوج ولا التسري سواء خاف العنت أم لا؟ وقال داود ومن وافقه من أهل الظاهر: يجب أحدهما على الخائف من العنت مرة واحدة في العمر. وهي رواية عن أحمد، ولم ¬

_ = عليكم القصاص في القتلى، إلى أن قال: فمن عفى له من أخيه شيء)، ومثله لو قلت لاثنين من قام منكما فله درهم، فالهاء للمبهم من المخاطبين لا لغائب. اهـ. ملخصًا، وقد استحسنه القرطبي، وهو حسن بالغ، وقد تفطَّن له الطيبي فقال: قال أبو عبيد: قوله: فعليه بالصوم إغراء غائب، ولا تكاد العرب تغري إلَّا الشاهد، تقول: عليك زيدًا، ولا تقول عليه زيدًا إلَّا في هذا الحديث، قال: وجوابه أنه لما كان الضمير الغائب راجعًا إلى لفظة "من"، وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب" وبيان لقوله: "منكم" جاز قوله: "عليه"، لأنه بمنزلة الخطاب، وقد أجاب بعضهم بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ، كذا قال، والحق مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردًا هنا. اهـ. وانظر: المفهم (5/ 2328)، وشرح الأبي على مسلم (4/ 5).

يحكِ ابن هبيرة عن أحمد [سواها] (¬1)، وهو مذهب مالك أيضًا، كما حكاه [المازري] (¬2) ووجه عندنا ولم يشترط [ذلك] (¬3) بعضهم خوف العنت والواجب عندهم العقد لا الدخول لمجرد الأمر بالتزويج في هذا الحديث وغيره، فإنه ظاهر في الوجوب مع قوله -تعالى-: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬4)، وغير ذلك من الآيات. وقال المازري (¬5): هذه الآية حجة للجمهور لأنه -سبحانه وتعالى- خيره في آخر الآية بين النكاح والتسري، [قال: ولا يجب التسري بالاتفاق، فلو كان النكاح واجبًا لما خيره بينه وبين التسري] (¬6)، لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين [واجب] (¬7) وغيره، لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب، وأن تاركه لا يكون آثمًا، كذا قرره وفيه نظر، لأنهم يقولون بوجوب النكاح أو التسري، فدعواه الاتفاق على عدم وجوب التسري ليس بجيِّد، وقرره صاحب "البيان" وغيره من أصحابنا بوجه آخر، وهو أنه -تعالى- علقه بالاستطاعة، والواجب ليس كذلك، وفيه نظر أيضًا. واستدل بعضهم على عدم الوجوب: بقوله -تعالى- ¬

_ (¬1) في الأصل (سواهما)، وما أثبت من هـ. (¬2) في هـ (الماوردي)، المعلم بفوائد مسلم (2/ 128). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) سورة النساء: آية 3. (¬5) المعلم بفوائد مسلم (2/ 128). (¬6) في هـ ساقطة. (¬7) في هـ (الواجب).

{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} (¬1)، فإنه لا يقال في الواجب أنت غير ملوم إن فعلته. وإيجاب الظاهرية: العقد دون الوطء، لا يحصل معه ما ذكر في الحديث من تحصين الفرج وغض البصر (¬2). وقسم أصحابنا الناس في [النكاح] (¬3) أربعة أقسام: أحدها: تائق إليه وآخذ أهبته فهو مستحب في حقه. ثانيها: عكسه فهو مكروه في حقه. ثالثها: لا يتوق ويجد الأهبة فترك النكاح والتخلي للعبادة أفضل على الأصح، ولا يقال فعله مكروه. وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية والمالكية: النكاح له أفضل. رابعها: عكسه فيكره له ويؤمر بالصوم لتوقانه إليه. وعند المالكية: أن النكاح يختلف باختلاف حال الشخص، فيجب في حق من لا ينكف عن الزنا إلَّا به، ويحرم إذا كان يخل بحق الزوجة في وطء أو إنفاق، ويكره في حق من لا يكون مشتهيًا له، وينقطع بسببه عن فعل الخير. وقيل: يكره إذا كان حاله في العزبة أجمع منه في التزويج، وهو يرجع إلى الأول. ¬

_ (¬1) سورة المعارج: آية 30. (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 128). (¬3) في الأصل (الناس)، وما أثبت من ن هـ.

وأما من لا يشتهيه ولا ينقطع بسببه عن فعل الخير: فقد يختلف فيه، فيقال: بالندب للظواهر الواردة في الترغيب فيه، وقد يكون في حقه مباحًا. قال القاضي: وهو مندوب في [حق] (¬1) كل من يُرجى منه النسل ممن لا يخشى العنت وإن لم يكن له في الوطء شهوة، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإني مكاثر بكم" (¬2)، ولظواهر الحض على النكاح والأمر به، قال: وكذلك في حق من له رغبة في نوع الاستمتاع بالنساء، وإن كان ممنوعًا عن الوطء, لكن النكاح يغض بصره. وأما في حق من لم ينسل ولا أرب له في النساء جملة ولا مذهب له في الاستمتاع بشيء منهن، فهذا الذي يقال في حقه إنه مباح إذا علمت المرأة بحاله، وقد يقال حتى الَآن إنه مندوب لعموم الأوامر بالتزويج، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا رهبانية في الإِسلام" (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) أبو داود في النكاح (2050)، باب: النهى عن تزويج من لم يلد من النساء, والحاكم (2/ 162)، والنسائي (6/ 65، 66)، والبيهقي (7/ 81)، والطبراني في الكبير (20/ 508)، وجاء من رواية عبد الله بن عمرو عند أحمد (2/ 171، 172)، وأن بن مالك عند أحمد (3/ 158، 245) , والبيهقي (7/ 81, 82) , وقال الهيثمي في المجمع (4/ 252, 258): إسناده حسن. (¬3) ضعفه في كشف الخفاء (2/ 528)، وتذكرة الموضوعات لابن القيسراني (989).

وقسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة: وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح إلَّا أنه لا يتعين واجبًا، بل إما هو، وإما التسري، فإن تعذر التسري تعين النكاح حينئذٍ للوجود، لا لأصل الشرعية. قلت: ويجب أيضًا في صورة ثانية على أحد الوجهين، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبًّا، كذا ذكرها ابن الرفعة في "مطلبه" في أثناء باب القسم قبيل الفصل الخامس في المسافرة، ثم قال بعضهم: استثنى حالة خوف العنت إذا لم يقدر على التسري، ولم يذكر زيادة على ذلك. تنبيه: [(¬1)] وقع في كلام النووي في "شرح مسلم" (¬2) عن العلماء كافة عدم وجوب النكاح أو التسري وإن خشي العنت غير الظاهرية ورواية عن أحمد، وقد علمت أنه مذهب مالك أيضًا ووقع في كلام القاضي أنه إن صح ذلك عن الظاهرية فهو غير مخالف للكافة. انتهى، وهو غير جيد فإن الكافة لا يوجبونه كما سلف الحكم. الثاني: الأمر بالصوم للعاجز عن القيام بمأمورات النكاح وإنما أحاله على الصوم لما فيه من كسر الشهوة، فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تقوى بقوتها، وتضعف لضعفها. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (واو). (¬2) شرح مسلم (10/ 173).

الثالث: تنصيصه على الصوم ومخرج للكافور ونحوه فإنه نوع من الخصي في "شرح السنة" (¬1) للبغوي أن هذا الحديث فيه دلالة على أن من لا يجد أهبة النكاح يجوز له المعالجة لقطع الباءة بالأدوية، فإن لم ينقطع شدة توقانه بالصوم لشدة غلمته. وحكاه القاضي (¬2) عن الخطابي (¬3) أيضًا، حيث قال: حكاية عنه فيه دلالة على جواز معاناة قطع الباءة بالأدوية، وينبغي أن يحمل على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)} (¬4). الرابع: يؤخذ منه أن مقصود النكاح الوطء، ووجوب الخيار في العنت، وبه صرح الخطابي (¬5) أيضًا. الخامس: قد يؤخذ منه أيضًا أن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. السادس: يؤخذ منه أيضًا الحث على غض البصر، وقد أمر الله -تعالى- به ورسوله. السابع: يؤخذ منه أيضًا الحث على تحصين الفرج بكل طريق أمر الشرع به. الثامن: يؤخذ منه أيضًا عدم التكليف بغير المستطاع. ¬

_ (¬1) شرح السنة للبغوي (9/ 6). (¬2) ساقه الأبي في شرح مسلم عنه (4/ 7). (¬3) انظر: معالم السنن (3/ 3). (¬4) سورة الانشراح: آية 5. (¬5) انظر: معالم السنن (3/ 3).

التاسع: يؤخذ منه أيضًا مراعاة الشهوات وحظوظ النفوس بحيث لا تقدم على أحكام الشرع، بل دائرة معه. العاشر: يؤخذ منه أيضًا شرعية تعليل الحكم، فإنه -عليه الصلاة والسلام- علل الحكمة في الأمر بالصوم له بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فإنه له وجاء"، أي قاطع لمشقة المكابدة لشهوة النكاح. الحادي عشر: استنبط القرافي من قوله "ومن لم يستطع فعليه بالصوم" أن التشريك في العبادات لا يقدح بخلاف الرياء، فإنه [عليه الصلاة والسلام أمر] (¬1) بالصوم الذي هو طاعة وقربة [يحصل] (¬2) به غض البصر وكف الفرج عن الوقوع في المحرم، وليس ذلك بقادح، وفيما ذكره من كونه تشريكًا نظر. الثاني عشر: يؤخذ من تنصيصه -عليه الصلاة والسلام- تحريم الاستمناء، وهو المشهور. وسئل (¬3) مالك عنه [و] (¬4) عن المرأة تجعل في نفسها تستعف به، فتلا قوله -تعالى- {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)} (¬5) إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)}، حكاه الزناتي عنه في "شرح الرسالة". ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (ليحصل). (¬3) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1310)، وتفسير القرطبي (12/ 105). (¬4) زيادة من هـ. (¬5) سورة المعارج: آية 29.

قال: وسئل الشافعي (¬1) فكرهها من غير تحريم، وما نقله عنه خلاف مشهور مذهبه. قال: وسئل عنها ابن حنبل (¬2) فقال: لا بأس بها. وقال ابن حزم في "مراتب الإِجماع" (¬3): اتفقوا على أن [(¬4)] سحاق المرأة للمرأة حرام. واختلف في الاستمناء أحرام هو أم مكروه أم مباح" (¬5)؟ [والله ¬

_ (¬1) قال الشافعي -رحمنا الله وإياه- في الأم (5/ 101، 102)، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ}، قرأ إلى {الْعَادُونَ (31)}، قال فكان بينًا في ذكر حفظهم لفروجهم إلَّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم تحريم ما سوى الأزواج وما ملكت الأيمان، وبين أن الأزواج وملك اليمين من الآدميات دون البهائم، ثم أكدها فقال عز وجل: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)}، فلا يحل العمل بالذكر إلَّا في الزوجة أو في ملك اليمين ولا يحل الاستمناء، والله أعلم. اهـ. (¬2) انظر: تفسير القرطبي (12/ 105)، والمحرر للمجد ابن تيمية (2/ 154) انظر: تعليق (5)، ص 121 فإنه وجه الرواية عن الإِمام أحمد بجواز الاستمناء -وهو لمن خشي العنت من زنا أو لواط-، والصحيح أن الاستمناء محرم كما في آية المعارج {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، فمن عمل بالذكر في غير هذين الصنفين فإن الله وصفه بأنه عادي. (¬3) مراتب الإِجماع (133). (¬4) في الأصل زيادة (من). (¬5) قال شيخ الإِسلام -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (10/ 573 , 575): "وكذلك من أباح "الاستمناء" عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقد روي عن ابن عباس: أن نكاح الإِماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإِماء أفضل، فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل. لاسيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا, وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد واختاره ابن عقيل في "المفردات"، والمشهور عنه -يعني عن أحمد- أنه محرم إلَّا إذا خشي العنت، والثالث أنه مكروه إلَّا إذا خشي العنت، فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} , ففيه أولى، وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن. فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليف كما قال -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}. و"الاستمناء" لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا، سواء خشي العنت أو لم يخشَ ذلك، وكلام ابن عباس وما روي عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي "العنت" وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك، فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته. وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة؛ بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها، فهذا كله محرم لا يقول به أحمد ولا غيره، وقد أوجب فيه بعضهم الحد!، والصبر عن هذا من (الواجبات) لا من المستحبات. وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها، قال -تعالى-: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} , و"الاستعفاف" هو ترك المنهي عنه، كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر". "فالمستغني" لا يستشرف بقلبه، و"المستعف" هو الذي لا يسأل الناس =

أعلم] (¬1). ¬

_ = بلسانه، و"المتصبر" هو الذي لا يتكلف الصبر، فأخبر أنه من يتصبر يصبره الله، وهكذا كأنه في سياق الصبر على الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلي به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء، قال -تعالى-: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}. انتهى. (¬1) في هـ ساقطة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 320/ 2/ 62 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا كذا؟ لكني أُصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني (¬1). الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه سلف في باب الاستطابة. الأول: هؤلاء النفر (¬2) قيل هم أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن ¬

_ (¬1) البخاري (5063)، ومسلم (1401) في النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد المؤنة، والنسائي (6/ 60)، والبغوي (96)، وأحمد (3/ 241، 259، 285)، والبيهقي (7/ 77)، وعبد الرزاق مرسلًا عن سعيد بن المسيب (6/ 167). (¬2) جاء في مصنف عبد الرزاق (6/ 167) تسمية علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو مرسلًا عن سعيد بن المسيب. تنبيه: جاء في الفتح (9/ 104) ذكر عثمان بن مظعون في مرسل سعيد =

مسعود، وابن عمر، وابن عمرو، وأبو ذر، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، اتفقوا على هذا في بيت عثمان بن مظعون، وقد أسلفنا في الحديث الأول من باب الجمعة أن "النفر" [لغة] (¬1): عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة ولفظ رواية البخاري في صحيحه (¬2) لهذا الحديث عن أنس قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: "أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا"، وقال آخر: "أنا أصوم الدهر ولا أفطر"، وقال آخر: "وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[(¬3)]، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني ¬

_ = عند عبد الرزاق ولم يذكر فيه، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 104): ووقع في "أسباب النزول" للواحدي بغير إسناد -ثم ساق أسماءهم-، ثم قال: فإن كان هذا محفوظًا احتمل أن يكون الرهط الثلاتة هم الذين باشروا السؤال، فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارةً ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبه، ويؤيد أنهم كانوا أكتر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم في صحيحه من طريق سعيد بن هشام أنه قدم المدينة وفيه "فأخبروه أن رهطًا ستة" الحديث. وقال: فيه وفي عَدِّ عبد الله بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب. اهـ. (¬1) ساقطة من هـ. (¬2) انظر: التعليق رقم (1) من هذا الحديث، ص 124. (¬3) في الأصل ون هـ زيادة (إليهم)، وهي غير موجودة في البخاري.

لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، رواه عن سعيد بن أبي مريم، عن محمَّد بن جعفر، عن حميد الطويل، عن أنس. وأما مسلم فأخرجه من طريق آخر إلى أنس رواه عن أبي بكر [بن] (¬1) نافع العبدي، عن بهز، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بلفظ المصنف سواء، وزاد بعد قوله: "قالوا كذا" لفظة "وكذا" فحينئذ لفظ رواية المصنف هو لمسلم خاصة، فتنبه له، ثم رأيت بعد ذلك المصنف نبه على ذلك في "عمدته الكبرى"، فقال بعد أن ساقه: متفق عليه، واللفظ لمسلم، وللبخاري معناه. ثم اعلم: بعد ذلك أنه وقع في بعض نسخ الكتاب قبل قوله "فحمد الله" "فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -" وهي ثابتة في شرح الشيخ تقي الدين (¬2) دون غيره من الشيوخ. قال ابن منده في "مستخرجه": وروى أيضًا قوله: من رغب عن سنتي فليس مني" ابن عمر، وعثمان بن مظعون، وعائشة. الوجه الثاني: معنى قوله -عليه الصلاة السلام-: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" تركها إعراضًا عنها، غير معتقد لها على ما هي عليه، أما من ترك النكاح على الصفة التي يستحب له تركها كما سبق، أو ترك النوم على الفراش لعجزه عنه أو لاشتغاله بعبادة مأذون فيها ونحو ذلك فلا يتناوله هذا الذم، وكان جماعة من السلف ¬

_ (¬1) زيادة من مسلم بشرح الأبي (4/ 7). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 174).

يمسكون عن تأويل هذا وأمثاله، لأنه أبلغ في الردع عن مخالفة السنة. الوجه الثالث في أحكامه: الأول: يستدل به من رجح النكاح على التخلي لنوافل العبادات، فإن هؤلاء القوم قصدوا هذا المقصد فرده -عليه الصلاة والسلام- عليهم، وأكد ذلك بأن خلافه رغبة عن السنة، قال الشيخ تقي الدين (¬1): ويحتمل أن تكون هذه الكراهة للتنطع والغلو في الدين، وقد يختلف ذلك باختلاف المقاصد: فإن من ترك أكل اللحم -مثلًا- يختلف حكمه بالنسبة إلى مقصوده، فإن كان من باب الغلو والتنطع، والدخول في الرهبانية فهو ممنوع، مخالف للشرع، وإن كان لغير ذلك من المقاصد المحمودة كمن تركه تورعًا لقيام شبهة في ذلك الوقت في اللحوم، أو عجزًا أو لمقصود صحيح غير ما تقدم، لم يكن ممنوعًا، وظاهر الحديث ما ذكرناه من تقديم النكاح، كما يقوله أبو حنيفة، ومن وافقه قال: ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح، ومقاديرها مختلفة، وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير، فإذا لم يعلم المكلف حقيقة تلك المصالح، ولم يستحضر أعدادها فالأولى اتباع اللفظ الوارد في الشرع. وقال القاضي عياض: لا حجة في هذا الحديث لمن يوجب النكاح لأنه ذكر معه غيره فرد الكلام إلى النكاح وحده دون قرينة لا يلتفت إليه. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 175).

الثاني: فيه تتبع آثاره - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لما تتبعوا أحواله الجهرية بحثوا عن السرية، ثم ظنوا أنما عزموا عليه من آثاره فرد عليهم أحسن رد، ولم يعين قائل ذلك لحصول المقصود بدونه من غير شناعة عليه، وقد سلف مثل ذلك في حديث بريرة في البيع، وهذه عادته - صلى الله عليه وسلم - في خطبه، وهو من جزيل مكارم أخلاقه. الثالث: فيه أيضًا التوصل إلى العلم من النساء إذا تعذر أخذه من أصل محله. الرابع: فيه أيضًا أنه ينبغي للإِنسان أن يذكر ما عزم عليه من الأعمال الشاقة التي يظن أنها طاعة ليتبين أمرها، ويرجع عنها إلى السنة فيها. الخامس: فيه استحباب الخطبة لأمور المسلمين الحادثة العامة النفع، والثناء على الله فيها، وبيان الأحكام ليتبعوها، وتحذير مخالفيها. السادس: فيه أيضًا أن ملاذ النفس والبدن إذا فعلت لامتثال الشرع فيما امتن به وأباحه تصير طاعات مثابًا عليها، وإذا تركت لغير مقصود شرعي عنادًا تصير كفرًا. السابع: فيه تنبيه على قاعدة أصولية وهي: أن الدوام وعدم الزوال ثابت لله -تعالى-، والتغيير وعدم الديمومة ثابت لما سواه. وشاهد ذلك تنقل المخلوقات من حال إلى حال، فلهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "لكني أصلي وأنام" الحديث. الثامن: استدل به بعض الشراح على قبول خبر الواحد لأنه ما

عدا المتواتر. قال: ولم يثبت في الحديث أن النفر السائلين وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - المسؤولات بلغوا حد التواتر، ثم شرع يتكلم في التواتر واختلاف الناس في حده، وفيه نظر. التاسع: قال الطبري: فيه رد على من منع من استعمال الحلال والمباحات من الأطعمة الطيبة والملابس اللينة وآثر عليها غليظ الطعام وخشن الثياب من الصوف وغيره، وأن صرف فضلها في وجوه البر والقربات، فإن حياطة جسم الإنسان وصيانة صحته بذلك آكد وأولى، واحتج بقوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} (¬1) الآية، وقوله -تعالى-: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬2)، قال القاضي: وهذا الباب مما اختلف فيه السلف كثيرًا، فمنهم من آثر ما قاله الطبري، ومنهم من آثر ما أنكره، واحتج هؤلاء بقوله -تعالى- في ذم أقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬3)، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 32. (¬2) سورة المائدة: آية 87. (¬3) سورة الأحقاف: آية 20. قال الشنقيطي -رحمنا الله وإياه- في أضواء البيان (7/ 393، 395): واعلم أن للعلماء كلامًا كثيرًا في هذه الآية قائلين إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك. وأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك خوفًا منه، أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية، والمفسرون يذكرون هنا آثارًا كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين اللذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم، لأنه -تعالى- ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم. وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق، لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه والله -تعالى- يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية. أما كون الآية في الكفار، فقد صرَّح الله -تعالى- به في قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الآية. والقرآن والسنَّة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملًا صالحًا مطابقًا للشرع، مخلصًا فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق والعافية، ونحو ذلك ولا نصيب له في الآخرة. فمن الآيات الدالة على ذلك قوله -تعالى-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} , وقوله -تعالى-: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}. وقد قيد -تعالى- هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته في قوله -تعالى-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)}. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها" هذا لفظ مسلم في صحيحه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي لفظ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدّخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته". اهـ. فهذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معًا، وبمقتضى ذلك، يتعين تعيينًا لا محيص عنه، أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر، لأنه لا يجزى بحسناته إلَّا في الدنيا خاصة. وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معًا، فلم يذهب طيباته في الدنيا، لأن حسناته مدخرة له في الآخرة مع أن الله -تعالى- يثيبه بها في الدنيا كما قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثوابًا في الدنيا وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة. والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وعلى كل حال فالله -جلَّ وعلا- أباح لعباده على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة، يكون لهم أجر زائد على ذلك، لأن المؤمنين يؤجرون، بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد، كما هو معلوم. =

وقد احتج عمر بن الخطاب بذلك وحجة [الآخر] (¬1) عليهم أن الآية نزلت في الكفار بدليل أول الآية وآخرها والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ بالأمرين وشارك في الوجهين فلبس مرة الصوف والشملة الحسنة، ومرة البرد والرداء الحضرمي، وتارةً أكل القثاء بالرطب وطيب الطعام إذا وجد، ومرة لزم أكل الحواري ومختلف الطعام، كل ذلك ليدل على الرخصة بالجواز مرة، والزهد في الدنيا وملاذها أخرى. وكان يحب الحلوى والعسل ويقول: "حبب إليَّ من دنياكم ثلاث، الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة" (¬2). ¬

_ = والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا، لأنه يجزى في الدنيا فقط كالآيات المذكورة، وحديث أنس المذكور عند مسلم، قد قدمناها موضحة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله -تعالى-: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}، وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه. انظر: (3/ 493) من أضواء البيان. (¬1) لعلها (الآخرين). (¬2) النسائي (7/ 61)، ومسند أحمد (3/ 128، 199 , 285)، والبيهقي في السنن (7/ 87)، والحاكم في المستدرك (2/ 160)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وكذا قال الذهبي، قال المناوي في فيض القدير (3/ 371) نقلًا عن العراقي قوله: إسناده جيد، وعن ابن حجر: إنه حسن. اهـ. أيضًا وهم المناوي والسيوطي في نسبة الحديث إلى مسند الإِمام أحمد وأنه ما أخرجه إلَّا في الزهد والصواب أن الإِمام أحمد أخرجه في المسند. تنبيه: كلمة "ثلاث" غالبًا ما تذكر بعد هذه الجمل وهي غير صحيحة =

تنبيه: قال القرافي: اختلف العلماء في أول الدهر الذي أدركته هل يدخل الورع والزهد في المباحات أم لا؟ فادعى ذلك بعضهم ومنعه بعضهم، وصنف بعضهم على بعض فيه، وممن قال: إنه لا ورع في المباح الأنباري في كتاب "الورع" له، وممن قال: بمقابله بهاء الدين الحميدي (¬1)، وهذا الحديث يشهد للأول. قال القرافي: والجمع بين القولين أن يقال: الاستكثار من المباحات يقع الورع فيه فإنه يجر إلى كثرة الاكتساب والوقوع في المتشابهات. وأما المباح من حيث هو مباح فلا ورع في تركه. ¬

_ = ولم ترد في الحديث لإفسادها المعنى. انظر: فيض القدير (3/ 371) للاطلاع على كلام أهل العلم. (¬1) هو علي بن هبة الله بن سلامة مسند الديار المصرية بهاء الدين أبو الحسن المعروف بابن الجميزي ولد يوم عيد الأضحى سنة تسع، -بتقديم التاء- وخمسين وخمسمائة بمصر. ترجمته في النجوم الزاهرة (7/ 24)، وطبقات الشافعية للأسنوي (133).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 321/ 3/ 62 - عن سعيد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث الثاني من الوصايا. وأما عثمان هذا فهو: ابن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمع بن عمر بن هصيص القرشي الجمحي يكنى أبو السائب، أخو قدامة بن مظعون، أمهما سخيلة بنت العنبس بن أهبان بن حذافة بن جمح، كان عثمان من فضلاء الصحابة وساداتهم وعبادهم ومتهجديهم، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، هاجر هجرتين، وشهد بدرًا، وكان أول رجل مات في المدينة من ¬

_ (¬1) البخاري (5073، 5074)، ومسلم (1402)، وابن ماجه (1848)، والترمذي (1083)، والبغوي (2237)، والنسائي (6/ 58)، والدارمي (2/ 133)، والبيهقي (7/ 79)، وابن الجارود (674)، وأحمد (1/ 175، 176، 183).

المهاجرين بعدما رجع من بدر، [وأول من تبعه إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم زينب] (¬1)، وكان هو وعلي وأبو ذر همّوا أن يختصوا فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ,ونزلت فيهم: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} (¬2) الآية، وكان أحد من ذم الخمر في الجاهلية، توفي سنة اثنتين من الهجرة، وقيل: في الثالثة بعد شهوده بدر، وكان أول من دفن بالبقيع في قول مصعب الزبيري، ولما مات أكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، وقبَّله، وجرت دموعه، وقال: "اذهب أبا السائب فقد خرجت منها (يعني الدنيا) ولم تلتبس منها بشيء". ولما مات قالت له امرأته: هنيئًا لك الجنة، فنظر إليها -عليه الصلاة والسلام- نظرة غضب وقال: "ما يدريك؟! " قالت: يا رسول الله فارسك وصاحبك!! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني رسول الله، وما أدري ما يفعل بي" فأشفق الناس على عثمان، فلما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقي بسلفنا الخير: عثمان بن مظعون". فبكى النساء، فجعل عمر يسكتهن، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مهلًا يا عمر"، ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان ومهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا وهم من المصنف -رحمنا الله وإياه- لأن إبراهيم بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في السنة التاسعة أو العاشرة وزينب توفيت حينما انتهو من غزوة بدر، وذلك لأن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - تخلف عن غزوة بدر لتمريضها تكون زينب توفيت قبله، لأن عثمان شهد بدرًا وتوفى بعدها. (¬2) سورة المائدة: آية 93. (¬3) أحمد في المسند (1/ 238، 335).

الوجه الثاني: ترجم البخاري (¬1) على هذا الحديث باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ثم روى معناه من حديث ابن مسعود (¬2) وأبي هريرة (¬3)، وكذا ترجم عليه الترمذي (¬4) أيضًا باب: ما جاء في النهي عن التبتل [ثم ساق من حديث الحسن بن سمرة، أنه -عليه الصلاة والسلام-: "نهى عن التبتل"] (¬5)، وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (¬6)، ثم قال: هذا حديث حسن غريب، وروي عن عائشة (¬7) مرفوعًا نحوه قال: ويقال: كلا الحديثين صحيح، ثم روى حديث سعد السالف قال: وفي الباب أيضًا عن أنس (¬8) وابن عباس (¬9) قلت: ¬

_ (¬1) الفتح (9/ 117)، (ح 5073، 5074). (¬2) الفتح (9/ 117)، (ح 5075)، ومسلم بشرح الأُبي (4/ 12) في كتاب النكاح أحاديث المتعة. (¬3) الفتح (9/ 117)، (ح 5076). (¬4) سنن الترمذي (3/ 384، 385)، (ح 1082)، وأيضًا عند ابن أبي شيبة (4/ 128)، وابن ماجه (1849)، وأحمد (5/ 17). (¬5) في هـ ساقطة. (¬6) سورة الرعد: آية 38. (¬7) النسائي (6/ 59)، وأحمد (6/ 157، 253). (¬8) أحمد في مسنده (3/ 158، 245)، وسعيد بن منصور (490)، والبيهقي (7/ 81، 82)، ولفظه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا، ويقول: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة". (¬9) أحمد (1/ 312)، وأبو داود (1729) في المناسك، باب: لا صرورة في =

وابن مسعود (¬1) وأبى هريرة (¬2) كما ذكره البخاري. وفي "شرح السنة" (¬3) للبغوي من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله أتأذن لي أن أختصي؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "خصاء أُمتي الصيام والقيام" (¬4). وفي "أحكام" المحب الطبري أن البغوي روى بسنده عن ¬

_ = الإسلام، والبيهقي (5/ 164)، والحاكم (1/ 448)، و (2/ 159)، ومشكل الآثار (2/ 111، 112)، وابن عدي في الكامل (5/ 1682)، وأبو عبيد في غريب الحديث (3/ 67)، والطبراني (11/ 235)، ولفظه: "لا صرورة في الإسلام"، قال الخطابي في معالم السنن (2/ 278)، الصرورة تفسر تفسيرين: أحدهما: أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى، ومنه قول النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متلبدٍ والوجه الآخر: أن الصرورة هو الذي لم يحج، فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج، حتى لا يكون صرورة في الإِسلام. . . . إلخ. (¬1) البخاري (5073). (¬2) البخاري (5074). (¬3) شرح السنة (9/ 6). (¬4) البغوي في شرح السنة (9/ 6)، وأحمد في مسنده (2/ 173)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 256)، وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام. اهـ.

عتبة بن مسعود أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لنا في الاختصاء؟ فقال: "ليس منا من خصى أو اختصى، إن خصاء أمتي الصيام"، وقال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة؟ فقال: "إن سياحة أُمتي الجهاد" فقال: يا رسول الله ائذن لنا في الترهب؟ قال: "إن ترهب أُمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة" ولم أرَ ما عزاه إلى البغوي في "شرح السنة" هنا والذي فيها ما أسلفته أولًا، وإنما استأذنه [في الخصاء] (¬1) لمشقة العزوبة في المغازي، وروي أنه قال: "لا، ولكن عليك بالصيام، فإنه مجفر" (¬2) وروي "مجفرة"، قال البغوي في "شرحه" (¬3): وفي بعض الأحاديث: "صوموا ووفروا أشعاركم فإنها مجفرة" (¬4) يعني: مقطعة للنكاح، ونقص للماء، يقال للبعير إذا أكثر الضراب حتى ينقطع: قد جفر يجفر جُفورًا، فهو جافر. وفي كتاب "الطب" لأبي نعيم من حديث شداد بن عبد الله أن نفرًا من أسلم استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخصاء فقال: "عليكم بالصوم، فإنه محشمة للعروق [ومذهب للأسر] (¬5) ". ¬

_ (¬1) في هـ (أولًا). (¬2) الطبري (9/ 38)، قال في مجمع الزوائد (4/ 256)، وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه ابن معين وغيره وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات وفي المجمع "مخفرة". (¬3) شرح السنة (9/ 4). (¬4) غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 74). (¬5) في الشفاء مختصر الطب (69) (ومذهبة للأشر).

الوجه الثالث: "التبتل": ترك النكاح انقطاعًا [لعبادة] (¬1) الله. وأصل التبتل: القطع، ومنه: قيل لمريم: البتول، ولفاطمة: البتول لانقطاعها عن نساء زمانهما دينًا وفضلًا ورغبةً في الآخرة، ومنه: صدقة بتلة أي منقطعة عن تصرف مالكيها. وقال الطبري (¬2): التبتل ترك لذات الدنيا وشهوتها، والانقطاع إلى الله -تعالى- بالتفرغ لعبادته قال: ومنه قيل لمريم: البتول لانقطاعها إلى الله -تعالى- بالخدمة. وقال القرافي: سميت فاطمة لانقطاعها عن الأزواج إلَّا عن علي [رضي الله عنه] (¬3). وقال الليث: البتول كل امرأة منقطعة عن الرجال، لا شهوة لها فيهم. وقال البغوي في "شرح السنة" (¬4)، المراد به في الحديث الانقطاع عن النساء، ثم يستعمل في الانقطاع إلى الله -تعالى- ومنه: "وتبتل إليه تبتيلًا" (¬5)، أي: انفرد له في الطاعة، أي فالتبتل في الآية غير التبتل في الحديث، فإنه في الآية الانقطاع إلى الله -تعالى-، ورفض الدنيا والتماس ما عنده، ولم يقصد مع ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل ون هـ (إلى عبادة). (¬2) تفسير الطبري (29/ 132). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) شرح السنة للبغوي (9/ 6). (¬5) سورة المزمل: آية 8.

ترك [(¬1)] النكاح ولا أمر به، بل كان موجودًا مع هذا الأمر كله. وأما الذي في الحديث فهو قصد الانقطاع إلى العبادة بالكلية مما هو داخل في باب التنطع والتشديد على النفس والإِجحاف بها والتشبه بالرهبان. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ويؤخذ من هذا منع ما هو في هذا الباب وشبيهه، مما قد فعله جماعة من المتزهدين. الرابع: معنى "رد عليه التبتل" نهاه عنه ليكثر النسل، ويدوم الجهاد، وقد كان خير هذه الأمة أكثرهم نساء (¬3) ومات عن تسع، ومات الصديق عن ثلاث، وعمر عن أربع، وعثمان عن اثنتين وعلي عن عدة ما بين حرائر وسراري، والزبير عن أربع، وكذا عبد الرحمن إلَّا أنه طلق واحدة في مرضه. وعليه كان السلف. والتبتل [من] (¬4) شريعة النصارى كما ذكره البغوي في "شرحه" (¬5)، وهذا الذي عند أصحابنا محمول على من تاقت نفسه إلى النكاح، ووجد أهبته، كما سلف وعلى من أضر به التبتل بالعبادات الكثيرة الشاقة أما الإِعراض عن الشهوات واللذات من غير إضرار بنفسه ولا تفويت حق لزوجة ولا غيرها ففضيلة لا منع فيها، بل مأمور بها. ونقل القاضي ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (في) ولا وجه لها. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 178). (¬3) ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا (5069). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) في هـ (شرح السنة)، وما أثبت من الأصل (9/ 6).

عياض (¬1) عن بعضهم أن التبتل حرام، ثم قال: أي عن النساء، ومن الناس من يكون أصلح لدينه. الخامس: قوله: "ولو أذن له لاختصينا"، أي لو أذن له في الانقطاع عن النساء وغيرهن من ملاذ الدنيا لاختصينا، لدفع شهوة النساء ليمكننا التبتل وهذا محمول على أنهم كانوا يظنون جواز الاختصاء باجتهادهم , ولم يكن ظنهم هذا موافقًا، فإن الاختصاء في الآدمي حرام صغيرًا كان أو كبيرًا، ويحتمل أن المراد [به] (¬2) لامتنعنا عن النكاح، فإنه بمثابة الخصي، وهذا هو الظاهر، فإنه لا يخفى عليهم أنه يقطع النسل. قال البغوي: وكذا يحرم خصاء كل حيوان لا يؤكل، وأما المأكول فيجوز في صغره، ويحرم في كبيره. وقال مالك: يكره في الخيل ولا بأس به في البغال والحمير والفرس إذا أكلت وفي الأنعام لأنه يصلح لحومها، وكذا قال القاضي عبد الوهاب: يكره خصاء الخيل، ويجوز خصاء البهائم سواها, ولم يفصل بين صغير وكبير، قال الفاكهي: والظاهر أن الكراهة هنا للتنزيه لا للتحريم، وكره عمر الخصاء، وقال: فيه تمام الخلق أي في بقائه. السادس: فيه من الأحكام أيضًا عدم الإِقدام على ما تحدثه النفوس من غير سؤال العلماء عنه، وترك التنطع، وتعاطي الأمور الشاقة على النفس، والتسهيل في الأمر، وترك المشقة وعدم المنع ¬

_ (¬1) ذكر في إكمال إكمال المعلم (4/ 9). (¬2) في هـ ساقطة.

من الملاذ خصوصًا إذا قصد بها تذكر نعم الله -تعالى- على عبده، أو تعرف لذة ما وعد [الله] (¬1)، أو تعرف افتقار النفس وحاجتها إلى غيرها، أو امتثال أوامر الشرع وغير ذلك. ¬

_ (¬1) في ن هـ (به).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 322/ 4/ 62 - عن أم حبيبة بنت أبي سفيان أنها قالت: "يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقلت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ذلك لا يحل لي، قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم، قال: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن، قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال له أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيرًا غير أني سُقِيتُ في هذه بعتاقتي ثويبة" (¬1). الحيبة: الحالة بكسر الحاء. ¬

_ (¬1) البخاري (5106)، ومسلم (1449)، والحميدي (307)، وابن ماجه (1939)، والنسائي (6/ 94، 95)، وأبو داود (2056)، وابن الجارود (680)، والبغوي (2282)، والبيهقي (7/ 453)، وأحمد (1/ 291)، (6/ 428)، وعبد الرزاق (7/ 475)، وابن أبي شيبة (3/ 387).

الكلام عليه من وجوه، واعلم قبلها أن قوله: وقال عروة: إلى آخره ليس في مسلم وإنما هو في البخاري، خاصة، وقد نبه على ذلك عبد الحق أيضًا في "جمعه": أحدها: في التعريف براويه، وقد أسلفت في الجنائز أن اسم أم حبيبة رملة على المشهور، وقيل: هند. واسم أبيها: صخر بن حرب بن أمية، وهي إحدى أمهات المؤمنين والسابقين إلى الإسلام، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة فتنصر هناك ومات نصرانيًّا، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي هناك سنة ست، وقيل: سنة سبع، وكانت شقيقة حنظلة بن أبي سفيان الذي قتله عليٌّ - رضي الله عنه - يوم بدر كافرًا وأميمة بنت أبي سفيان، أمهم صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان. رُوي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون [حديثًا] (¬1) اتفقا على حديثين، ولمسلم مثلهما، روى عنها أخواها: معاوية، وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عنبسة بن أبي سفيان، وجماعة كثيرة من التابعين منهم ذكوان السمان وغيره، وذكر ابن سعد أنه لما تنصر زوجها عبيد الله، قالت أم حبيبة. رأيت في النوم كأن آتيًا يقول: يا أم المؤمنين، ففزعت فأولتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني. فتزوجها سنة سبع، ولما قدم بها المدينة كانت بنت بضع وثلاثين سنة. واختلف في الذي زوجها منه - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) زيادة من هـ.

أحدها: عثمان. ثانيها: خالد بن سعيد بن العاصي. ثالثها: النجاشي، ولعل أحدهما [(¬1)] أوجب، والآخر: قبل عنه - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في الصداق الذي أصدقها النجاشي على أقوال: أحدها: أنه كان أربعة آلاف. ثانيها: أربعمائة. ثالثها: مائتان. رابعها: أربعون أوقية، حكاه الصيرفيني. واختلف في موضع العقد على قولين أصحهما: بأرض الحبشة. ثانيهما: بالمدينة بعد رجوعها من الحبشة، ووقع في "صحيح مسلم" (¬2) من حديث النضر بن محمَّد عن عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن، قال: نعم، قال: عندي أحسن نساء العرب وأجملهن أُم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها؟ قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم". وهو حديث مشهور بالإِشكال معروف بالإعضال، ووجه الإِشكال أن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة، وكان الفتح سنة ثمان قطعًا، وكان - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمن طويل، قال خليفة والجمهور: تزوجها سنة ست، ودخل بها سنة سبع. وقيل تزوجها سنة سبع كما قدمناه وقيل: سنة خمس ومن عظم هذا الإِشكال طعن جماعة في هذا الحديث فتوسط القاضي ¬

_ (¬1) في المخطوطتين زيادة (ولا)، ولا معنى لها هنا. (¬2) صحيح مسلم (2501)، والطبراني في المعجم الكبير (23/ 220).

عياض فقال في "إكماله" (¬1) تزويج أبي سفيان لها في مسلم غريب جدًّا وخبرها مع أبي سفيان حين ورد بالمدينة في حال كفره مشهور (¬2)، وأفصح ابن حزم الظاهري فقال: هذا حديث موضوع لا شك في وضعه، قال: والآفة فيه من عكرمة (¬3)، قال: ولا يختلف اثنان من أهل المعرفة بالأخبار في أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتزوج أم حبيبة إلَّا قبل الفتح بدهر، وهي بأرض الحبشة (¬4)، ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (6/ 340، 341). (¬2) في قصة قدومه للمدينة لتمديد الهدنة وتجديدها فقالت له: "إنك مشرك" ومنعته من الجلوس عليه. انظر: طبقات ابن سعد (8/ 99)، وسيأتي بعد هذا. (¬3) في رسالة له "جزء فيه ذكر حديثين: أحدهما: في "صحيح البخاري" وثانيها: في "صحيح مسلم" طبعت في مجلة "عالم الكتب". (¬4) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في جلاء الأفهام (359، 363) وقالت طائفة: يتفق أهل النقل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة - رضي الله عنها - وهي بأرض الحبشة، بل قد ذكر بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بالمدينة بعد قدومها من الحبشة، حكاه أبو محمَّد المنذري، وهذا أضعف الأجوبة؛ لوجوه: أحدها: أن هذا القول لا يعرف به أثر صحيح ولا حسن، ولا حكاه أحد ممن يعتمد على نقله. الثاني: أن قصة أم حبيبة - رضي الله عنها - وهي بأرض الحبشة قد جرت مجرى التواتر، كتزويجه - صلى الله عليه وسلم - خديجة بمكة، وعائشة بمكة، وبنائه بعائشة بالمدينة، وتزويجه حفصة بالمدينة، وصفية عام خيبر، وميمونة في عمرة القضية -[رضي الله عنهن]-، ومثل هذه الوقائع شهرتها عند أهل العلم موجبة لقطعهم بها، فلو جاء سند ظاهر الصحة يخالفها؛ عدوه غلطًا، ولم يلتفتوا إليه، ولا يمكنهم مكابرة نفوسهم في ذلك. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثالث: أنه من المعلوم عند أهل العلم بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله؛ أنه لم يتأخر نكاحه أم حبيبة إلى بعد فتح مكة، ولا يقع ذلك في وهم أحد منهم أصلًا. الرابع: أن أبا سفيان لما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ طوته عنه؛ فقال: - يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: [والله] بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر! وهذا مشهور عند أهل المغازي والسير، وذكره ابن إسحاق وغيره في قصة قدوم أبي سفيان المدينة لتجديد الصلح. الخامس: أن أم حبيبة - رضي الله عنها - كانت من مهاجرات الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، ثم تنصر زوجها، وهلك بأرض الحبشة، ثم قدمت هي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة، وكانت عنده، ولم تكن عند أبيها. وهذا مما لا يشك فيه أحد من أهل النقل، ومن المعلوم أن أباها لم يسلم إلَّا عام الفتح، فكيف يقول: "عندي أجمل العرب أزوجك إياها"؟! وهل كانت عنده بعد هجرتها وإسلامها قط؟! فإن كان قال له هذا القول قبل إسلامه؛ فهو محال! فإنها لم تكن عنده، ولم يكن (له) ولاية عليها أصلًا، وإن كان قاله بعد إسلامه فمحال! -أيضًا-؛ لأن نكاحها لم يتأخر إلى ما بعد الفتح. (فإن قيل): بل يتعين أن يكون نكاحها بعد الفتح؛ لأن الحديث الذي رواه مسلم صحيح، إسناده ثقات حفاظ، وحديث نكاحها وهي بأرض الحبشة من رواية محمَّد بن إسحاق مرسلًا، والناس مختلفون في الاحتجاج بمسانيد ابن إسحاق، فكيف بمراسيله؟! فكيف بها إذا خالفت المسانيد الثابتة؟! وهذه طريقة لبعض المتأخرين في تصحيح حديث ابن عباس هذا، فالجواب من وجوه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أحدها: أن ما ذكره هذا القائل إنما يمكن عند تساوي النقلين؛ فيرجح بما ذكره، وأما مع تحقيق بطلان أحد النقلين وتيقنه؛ فلا يلتفت إليه. فإنه لا يعلم نزاع بين اثنين من أهل العلم بالسير والمغازي وأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نكاح أم حبيبة لم يتأخر إلى [ما] بعد الفتح، ولم يقله أحد منهم قط، ولو قاله قائل؛ لعلموا بطلان قوله، ولم يشكوا فيه. الثاني: أن قوله: "إن مراسيل ابن إسحاق لا تقاوم الصحيح المسند ولا تعارضه"، فجوابه: أنَّ الاعتماد في هذا ليس على رواية ابن إسحاق وحده لا متصلة ولا مرسلة، بل على النقل المتواتر عند أهل المغازي والسير: [أن أم حبيبة - رضي الله عنها - هاجرت مع زوجها، وأنه هلك نصرانيًا بأرض الحبشة، وأن النجاشي زوَّجها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمهرها من عنده، وقصتها في كتب المغازي والسير]، وذكرها أئمة العلم. واحتجوا بها على جواز الوكالة في النكاح. قال الشافعي في رواية الربيع: - "في حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا [أ] نكح الوليان فالأول أحق" قال: "فيه دلالة على أن الوكالة في النكاح جائزة. . . ." مع: "توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها -". وقال الشافعي في كتابه "الكبير" (أيضًا -رواية الربيع-): "ولا يكون الكافر وليًا لمسلمة وإن كانت بنته، قد زوج ابن سعيد بن العاص النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأبو سفيان حي؛ لأنها كانت مسلمة، وابن سعيد مسلم، ولا أعلم مسلمًا أقرب بها منه، ولم يكن لأبي سفيان فيها ولاية؛ لأن الله قطع الولاية بين المسلمين والمشركين، والمواريث والعقل، وغير ذلك". اهـ.

وأبوها أبو سفيان يومئذٍ كافر، قال: ومثل هذا لا يكون خطأ أصلًا، ولا يكون إلَّا قصدًا نعوذ بالله من البلاء. هذا لفظه برمته. وتبعه على ذلك ابن دحية، فقال في كتابه "التنوير في مولد السراج المنير"، هذا حديث موضوع دس في مسلم وركب له إسناد من الموضوعات على الثقات، وكذا ابن الجوزي فقال في "جامع المسانيد" (¬1)، انفرد مسلم إخراج هذا الحديث، وهو وهم من بعض الرواة بلا شك، [وقد اتهموا]، (¬2) بذلك الوهم عكرمة، وقد ضعف أحاديثه يحيى بن سعيد (¬3)، وقال: ليست بصحاح. وكذا أحمد (¬4) حيث قال: هي ضعاف، ولذلك لم يخرج عنه البخاري وإنما أخرج عنه مسلم، لأن يحيى بن معين قال هو ثقة، قال؛ وإنما قلنا هذا وهم لأن الرواة أجمعوا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى النجاشي ليخطب له أم حبيبة، وكانت قد هاجرت إلى الحبشة وذلك في سنة سبع، وتزوجها وبعثت إليه وأسلم أبو سفيان شيبة ثمان وأنكر الأئمة على ابن حزم ما قاله صونًا للصحيح عن ذلك ورميه عكرمة بالوضع من أفراده، وقد أسلفنا احتجاج مسلم به، وقد استشهد به البخاري أيضًا وروى عنه من الأئمة: شعبة وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، وهم الأئمة المقتدى بهم، وقال يحيى بن معين: ثقة كما أسلفناه عنه، ¬

_ (¬1) انظر: العلل المتناهية (717). (¬2) في هـ (اتهم). (¬3) انظر: الكامل لابن عدي (5/ 1911)، وتاريخ بغداد (12/ 260). (¬4) المراجع السابقة.

وفي رواية: ثبت، وفي رواية: صدوق ليس به بأس، وفي رواية: كان أمينًا حافظًا، وقال علي بن المديني: كان عند أصحابنا ثقة ثلاثًا، وقال الدارقطني: هو ثقة، وقال علي بن عاصم: هو مستجاب الدعوة ولا شك في كون الرجوع إلى قول هؤلاء الأئمة الأثبات في تعديله أولى من الرجوع إلى خرقها. قال الحافظ أبو الفضل ابن طاهر المقدسي: هذا كلام رجل مجازف هتك فيه حرمة كتاب مسلم، ونسبه إلى الغفلة عما اطلع هو عليه قال: ثم إن هذا الرجل لم يزل به وثوبه على الأئمة المتقدمين مثل مالك بن أنس، ومن بعده من أئمة الحديث حتى مات مهجورًا من سائر الفرق بعد الموات العظيم والحبس الشديد، وأنكر أيضًا الشيخ تقي الدين بن الصلاح هذا على ابن حزم، وتابع في الشناعة عليه، قال: وهذا القول من جسارته فإنه كان هجومًا على تخطئة الأئمة الكبار، وإطلاق اللسان فيهم، قال: ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث نسب عكرمة بن عمار إلى وضع الحديث، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وغيرهما، وكان مستجاب الدعوة، وكذا قال المنذري: عكرمة وإن تكلم فيه كثير واحد فلم ينسبه أحد فيما علمناه إلى الوضع. قلت: وهذه عادة ابن حزم في عكرمة، قال أيضًا في حقه في باب الغسل من محلاه (¬1) في حديث ذكره عن عائشة: عكرمة هذا ساقط، وقد وجدنا عنه حديثًا موضوعًا في نكاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المحلى (2/ 32).

لأم حبيبة بعد فتح مكة، وما أحسن قول ابن مفوز [الحافظ] (¬1) في جزئه الذي ذكر فيه مواضع من كلامه وأبان فيه عن عواره مثله كالمتطبب بلا طب، المتكلف بلا علم، المتسلط بلا فهم، الهاجم بلا [درية] (¬2) المستحب بلا تجربة، المصنف بغير هداية، المتهور بلا دلالة، ليس له عقل ينظر به في عاقبة ولا دين يفكر من أجله في معاد، فصوابه خطأ، وعلمه جهل، واجتهاده وبال، واهتداؤه ضلال، فكم من نفس قتل، وعضو خبل، فهو ضامن لما جنى، مأخوذ بما أتى، ظلوم على ما يكلف، مذموم كيف تصرف، فهل يستويان مثلًا أو يتقاربان مثلًا. قلت: ولم ينفرد عكرمة بذلك بل توبع عليه فانتفى أن تكون الآفة منه كما ادعاه، قال الطبراني في "معجمه" (¬3): ثنا محمَّد بن محعد الجُذُعي (¬4)، ثنا العباس بن عبد العظيم (¬5)، ثنا النضر بن ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) في ن هـ بالهامش لعله دليل. (¬3) المعجم الكبير (12/ 199، 200). (¬4) هو محمَّد بن محمد بن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله المتوفى سنة (291)، قال الخطيب: كان ثقة. تاريخ بغداد (3/ 206). (¬5) هو العباس بن عبد العظيم بن إسماعيل العنبري، أبو الفضل البصري الحافظ المتوفى سنة (246)، قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة مأمون، وقال سلمة: ثقة. تاريخ البخاري (7/ 6)، والجرح والتعديل (6/ 216).

محمَّد، ثنا عكرمة بن عَمار (¬1)، ثنا أبو زميل (¬2)، حدثني ابن عباس الحديث ثم قال: ثنا علي بن سعيد الرازي (¬3)، ثنا عمرو بن حليف (¬4) بن إسحاق بن مرسال الخثعمي، قال حدثني عمي ¬

_ (¬1) عكرمة بن عمار العجلي، أبو عمار المتوفى سنة (159)، قال أحمد والبخاري: مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، وقال أبو داود: ثقة، في حديثه عن يحيى اضطراب، وقال ابن حجر: صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى اضطراب ولم يكن له كتاب. التاريخ الكبير (7/ 50)، والجرح والتعديل (7/ 10)، وطبقات ابن سعد (5/ 555)، قال في ميزان الاعتدال (3/ 93)، وسير أعلام النبلاء (7/ 137)، وفي صحيح مسلم قد ساق له أصلًا منكرًا عن سماك الحنفي، عن ابن عباس في الثلاثة التي طلبها أبو سفيان. اهـ. (¬2) هو سماك بن الوليد أبو زميل الحنفي اليمامي، قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن سماك أبي زميل الحنفي فقال: توفي، أصله في اليمامة، قال ابن طاهر في الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 203)، روى عنه عكرمة بن عمار أحاديث منها حديث أنكر على مسلم إخراجه في الصحيح وهو قصة أبي سفيان وأن أبا سفيان عقد نكاح أم حبيبة. تهذيب التهذيب (4/ 235)، والتقريب (1/ 332). (¬3) علي بن سعيد الرازي الحافظ المتوفى سنة (299) رحَّال جوَّال، قال ابن يونس: تكلموا فيه وكان من المحدثين الأجلاء، وكان يصحب السلطان ويلي بعض العمالات، وقال سلمة: كان ثقة عالمًا بالحديث، حدثني عنه غير واحد. انظر: تذكرة الحفاظ (750)، ولسان الميزان (4/ 231)، وميزان الاعتدال (3/ 131). (¬4) عمرو بن خليف أبو صالح، قال ابن عدي في الضعفاء: بعد أن ذكر له حديثًا ولعمرو بن خليف غير ما ذكرت موضوعات فكان يتهم بوضعها. =

إسماعيل بن مرسال عن أبي زميل الحنفي، قال: حدثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان، ولا يفاتحونه، فقال: يا رسول الله! ثلاث أعطنيهن. . . ." الحديث، فهذا إسماعيل بن مرسال تابع عكرمة (¬1)، وقد أخرج الدارقطني (¬2) بهذا السند حديث جابر: تكلف لك أخوك، وصنع، ثم تقول: إني صائم. كل وصم يومًا مكانه. ولم يتكلم عليه بشيء، أفاد هذه المتابعة شيخنا الحافظ عبد الكريم الحلبي في كلامه على أحاديث المحلى، لكن عمرو بن حليف مجروح متهم بالوضع، قال ابن عدي: يروي الموضوعات, هو المتهم بوضعها. فهذه المتابعة لا يرويها علي بن حزم. نعم أجاب العلماء عن الإِشكال المذكور بأجوبة: أولها: أن أبا سفيان لما أسلم عام الفتح أراد بهذا القول تجديد النكاح، لأنه إذ ذاك كان مشركًا، فلما أسلم ظن أن النكاح ¬

_ = المجروحين (2/ 80)، وميزان الاعتدال (3/ 258). (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في جلاء الأفهام (367). فهذا إسماعيل بن مرسال قد رواه عن أبي زميل، كما رواه عنه عكرمة بن عمار، فبرىء عكرمة من عهدة التفرد. قيل: هذه المتابعة لا تفيده قوة، فإن هؤلاء مجاهيل لا يعرفون بنقل العلم، ولا هم ممن يحتج بهم، فضلًا عن أن تقدم روايتهم على النقل المستفيض المعلوم عند خاصة أهل العلم وعامتهم، فهذه المتابعة إن لم تزده وهنًا؛ لم تزده قوة، وبالله التوفيق. اهـ. (¬2) سنن الدارقطني (2/ 178).

يتجدد بإسلام الولي، وخفي ذلك عليه، وقد خفي على أمير المؤمنين علي الحكم في المذي مع تقدم صحبته وفقهه وعلمه حتى أرسل وسأل عنه، وخفي على ابن عمر الحكم في طلاق الحائض. ولهذا نظائر لا تخفى على أهل النقل. قاله ابن طاهر وابن الصلاح (¬1) والمنذري. ثانيها: لعله -عليه الصلاة والسلام- أراد بقوله "نعم" إن مقصودك يحصل وإن لم يمكن تحقيقه بعقد، ويوضح هذا أنه ليس في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- جدد العقد، ولا أنه قال لأبي سفيان إنه يحتاج إلى تجديده. قاله النووي (¬2) في شرحه. ثالثها: إنه يحتمل أن تكون مسألته الأولى إياه في تزويج أم حبيبة وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر حين سمع نعي زوج أم حبيبة بأرض الحبشة، والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه. فجمع الراوي بين المسائل الثلاث ذكره البيهقي ثم المنذري (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (16/ 63)، والسيرة لابن كثير (3/ 276، 277). واختاره الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 222). (¬2) شرح مسلم (16/ 63). (¬3) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في جلاء الأفهام (367، 368) عن هذا الجواب ما يأتي. وقالت طائفة: منهم البيهقي والمنذري -رحمهما الله تعالى-: يحتمل أن تكون مسألة أبي سفيان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوجه أم حبيبة وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة، وهو كافر حين سمع نعي زوج أم حبيبة بأرض =

رابعها: ذكره شيخ شيوخنا الحافظ شرف الدين الدمياطي، فقال: القول في كتاب مسلم حديث موضوع فيه نظر وتأويل "أزوجكها" أرضى بزواجك بها. فإنه كان على رغم مني ودون اختياري، وإن كان زواجك صحيحًا، لكن هذا أجمل وأحسن وأكمل لما فيه من تأليف القلوب. قال: أو يقول إن إجابته -عليه الصلاة والسلام- "بنعم" كانت تأنيسًا له، ثم أخبر بصحة العقد بأنه لا يشترط رضاك، ولا ولاية لك عليها لاختلاف دينكما حالة العقد، ¬

_ = الحبشة، والمسألة الثانية والثالثة وقعتا بعد إسلامه، فجمعها الراوي، وهذا أيضًا ضعيف جدًا، فإن أبا سفيان إنما قدم المدينة آمنًا بعد الهجرة في زمن الهدنة قبيل الفتح، وكانت أم حبيبة إذ ذاك من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقدم أبو سفيان قبل ذلك إلَّا مع الأحزاب عام الخندق، ولولا الهدنة والصلح الذي كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقدم المدينة، حتى قدم، وزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة! فهذا غلط ظاهر. وأيضًا؛ فإنه لا يصح أن يكون تزويجه إياها في حال كفره؛ إذ لا ولاية عليها, ولا تأخّر ذلك إلى ما بعد إسلامه، لما تقدم، فعلى التقديرين لا يصح قوله: "أزوجك أم حبيبة". وأيضًا؛ فإن ظاهر الحديث يدل على إن المسائل الثلاث وقعت منه في وقت واحد، وأنه قال: ثلاث أعطنيهن (الحديث)، ومعلوم أن سؤاله تأميره، واتخاذ معاوية كاتبًا إنما يتصور بعد إسلامه، فكيف يقال بل سأل بعض ذلك في حال كفره وبعضه وهو مسلم! وسياق الحديث يرده! ورده أيضًا في "زاد المعاد" ص 1/ 111 قائلًا: والتعسف والتكلف الشديد الذي في هذا الكلام يغني عن رده. اهـ

قال: وهذا مما لا يمكن رفع احتماله (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في جلاء الأفهام (368، 369) في الإجابة عن هذا الوجه. وقالت طائفة: بل يمكن حمل الحديث على محمل صحيح يخرج به عن كونه موضوعًا؛ إذ القول بأن في "صحيح مسلم" حديثًا موضوعًا مما ليس يسهل، قال: ووجهه: أن يكون معنى "أزوجكها": أرضى بزواجك بها، فإنه كان على رغم مني، وبدون اختياري، وإن كان نكاحك صحيحًا، لكن هذا أجمل، وأحسن، وأكمل؛ لما فيه من تأليف القلوب، قال: وتكون إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنعم؛ كانت تأنيسًا له، ثم أخبره بعد بصحة العقد، فإنه لا يشترط رضاك ولا ولاية لك عليها؛ لاختلاف دينكما حالة العقد، قال: وهذا مما لا يمكن دفع احتماله، وهذا لا يقوى أيضًا. ولا يخفى شدّة بُعْد هذا التأويل من اللفظ، وعدم فهمه منه؛ فإن قوله: "عندي أجمل العرب أزوجكها" لا يفهم منه أحد أن زوجتك التي هي في عصمة نكاحك أرضى زواجك بها , ولا يطابق هذا المعنى أن يقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فإنه إنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرًا تكون الإِجابة إليه من جهته - صلى الله عليه وسلم -، فأما رضاه بزواجه بها؛ فأمر قائم بقلبه هو، فكيف يطلبه من النبي - صلى الله عليه وسلم -!! ولو قيل: طلب منه أن يقره على نكاحه إياها، وسمى إقراره نكاحًا؛ لكان مع فساده أقرب إلى اللفظ، وكل هذه تأويلات مستنكرة في غاية المنافرة لِلَّفْظِ، ولمقصود الكلام. اهـ. وقال أيضًا في "زاد المعاد" (1/ 111) في هذا التأويل: "وهذا وأمثاله لو لم يكن قد سُوِّدَتْ به الأوراق، وصنفت فيه الكتب، وحمله الناس؛ لكان الأولى بنا الرّغبة عنه، لضيق الزمان عن كتابته، وسماعه، والاشتغال به؛ فإنه من رُبد الصُّدور لا من زُبدها". اهـ.

خامسها: ذكر البيهقي أن أبا سفيان كان يخرج إلى المدينة، فيحتمل أن يكون جاءها وهو كافرٌ أو بعد إسلامه حين كان -عليه الصلاة والسلام- آلى من نسائه شهرًا واعتزلهن، فتوهم أن ذلك طلاق، كما توهم عمر بن الخطاب. فقال أبو سفيان هذا القول، ووصف ابنته بما وصفها متعرضًا ومتلطفًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بنعم على تقدير إن وقع طلاق ولم يقع شيء من ذلك. قاله شيخنا قطب الدين عبد الكريم الحلبي - رحمه الله (¬1) -. سادسها: أن الحديث على ظاهره، وأنه -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في المرجع السابق. وقالت طائفة: كان أبو سفيان يخرج إلى المدينة كثيرًا، فيحتمل أن يكون جاءها وهو كافر، أو بعد إسلامه حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرًا واعتزلهن، فتوهم أن ذلك الإِيلاء طلاق كما توهمه عمر - رضي الله عنه -، فظن وقوع الفرقة به، فقال هذا القول للنبي - صلى الله عليه وسلم -، متعطفًا له، ومتعرضًا، لعله يراجعها، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنعم، على تقدير: إن امتدَّ الإيلاءُ، أو وقع طلاق، فلم يقع شيء من ذلك. وهذا أيضًا في الضعف من جنس ما قبله، ولا يخفى أن قوله: "عندي أجمل العرب وأحسنهنَّ أزوجك إياها" أنه لا يفهم منه ما ذكر من شأن الإيلاء، ووقع الفرقة به، ولا يصح أن يجاب بنعم، ولا كان أبو سفيان حاضرًا وقت الإيلاء أصلًا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتزل في مَشْرُبَةٍ له، وحلف أن لا يدخل على نسائه شهرًا، وجاء عمر بن الخطاب فاستأذن عليه - صلى الله عليه وسلم - (في الدخول) مرارًا، فأذن له في الثالثة، فقال: "أطلقت نساءك؟ فقال: لا، فقال عمر: الله أكبر"، واشتهر عند الناس أنه لم يطلق نساءه، وأين كان أبو سفيان حينئذٍ. اهـ.

والسلام- تزوجها بمسألة أبيها لما أسلم ويقدم على تزويجها بأرض الحبشة، فإن تزويجها بأرض الحبشة جاء من رواية محمَّد بن إسحاق صاحب "المغازي" مرسلًا والناس مختلفون في الاحتجاج بمسانيده فكيف بمراسيله ومن رواية معلى بن منصور، وقد رمي بالكذب وفي هذا الجواب انظر. كما قال المنذري: فإن تزويجه -عليه الصلاة والسلام- لم يختلف أهل المغازي أنه كان قبل رجوع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، ورجوعهم كان زمن خيبر، وإسلام أبي سفيان كان زمن الفتح بعد نكاحها بسنتين أو ثلاث فكيف يصح أن يكون تزويجها بمسألته. قال المنذري: وقول ابن حزم لم يختلف اثنان من أهل المعرفة بالأخبار في أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتزوج أم حبيبة إلَّا قبل الفتح بدهر، وهي بأرض الحبشة، وهم ظاهر فقد ذكر بعضهم أنه -عليه الصلاة والسلام- تزوج بها بعد قدومها من الحبشة على أن المشهور هو الأول، وكذا نقله القاضي في "إكماله" عن بعضهم، ثم قال: وقال الجمهور: بأرض الحبشة واعترض علماء الحديث المعاصرين على ما نقله شيخنا قطب الدين على هذا الحديث بأمر آخر فقال: قال أبو حاتم: عكرمة هذا صدوق، وربما وهم، وربما دلس. فقال: لعله دلس عن رجل ضعيف. قال: والنضر بن محمَّد وإن كان ثقة من رجال الصحيحين، فقد ذكر ابن حبان أنه ربما انفرد ثم ذكر أن الظاهر أن أبا سفيان أراد أن يزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته الأخرى وهي عزة أخت أم حبيبة وأنه يشهد لهذا حديث أم حبيبة أنها قالت:

يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي سفيان فقال: "أو تحبين ذلك؟! فقالت: نعم، أحب من شركني في خير أختي، وفي بعض طرق مسلم "أختي عزة" وكان أبا سفيان اعتقد حل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأختها أم حبيبة لتساعده على ذلك (¬1). وأجاب شيخنا عن هذا فقال: أما ما ذكر من التدلس فإنه ينتفي بما تقدم من رواية الطبراني من قول عكرمة ثنا أبو زميل فأتى بتصريح التحديث. وأمَّا انفراد النضر مع ثقته فهذا انفراد بجملة الحديث، ولم يأت له مخالف بمنعه ورده، وقد انفرد جماعة دون النضر بأحاديث فلم ترد وقبلت منهم. وقد نقل الخطيب إجماع العلماء على قبول تفرد الثقة بجملة الحديث. وأما ما ذكر: من أن الظاهر قلب اسم "عزة" إلى "أم حبيبة" فهو حسن، لكن الأصل عدمه، فهذا موضع وعر أوضحناه وأزلنا إشكاله، فلا تسأم من طوله، فإنه من المهمات التي يُرحلُ إليها (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر: الفتح (9/ 142، 143)، وسيرة ابن كثير (3/ 276، 277). (¬2) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/ 276، 277). قال ابن القيم وقالت طائفة: ليس الحديث بباطل، وإنما سأل أبو سفيان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوجه ابنته الأخرى عزة أخت أم حبيبة. قالوا: ولا يبعد أن يخفى هذا على أبي سفيان؛ لحداثة عهده بالإِسلام. وقد خفي هذا على ابنته أم حبيبة حتى سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها، فقال: "إنها لا تحل لي"، فأراد أن يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته الأخرى، فاشتبه على الراوي، وذهب وهمه إلى أنها أم حبيبة، وهذه التسمية من غلط بعض الرواة لا من قول أبي سفيان، لكن يرد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم"، وأجابه إلى ما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سأل، فلو كان المسؤول أن يزوجه أختها؛ لقال: إنها لا تحل لي، كما قال ذلك لأم حبيبة، ولولا هذا؛ لكان التأويل في الحديث من أحسن التأويلات. اهـ. إلى أن قال: ورأيت للشيخ محب الدين الطبري كلامًا على هذا الحديث، قال في جملته: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك كلَّه قبل إسلامه بمدة تتقدم على تاريخ النكاح، كالمشترط ذلك في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمت تعطنيهنَّ: أم حبيبة أزوجكها، ومعاوية يسلم فيكون كاتبًا بين يديك، وتؤمِّرني بعد إسلامي فأقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. وهذا باطل أيضًا من وجوه: أحدها: قوله: "كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان، ولا يقاعدونه، فقال: يا نبي الله! ثلاث أعطنيهن" فيا سبحان الله! هذا يكون قد صدر منه، وهو بمكة قبل الهجرة، أو بعد الهجرة وهو مجمع الأحزاب لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , أو وقت قدومه المدينة وأم حبيبة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لا عنده!! فما هذا التكلف البارد!! وكيف يقول وهو كافر: "حتى أقاتل المشركين، كما كنت أقاتل المسلمين"! وكيف ينكر جفوة المسلمين له وهو جاهد في قتالهم، وحربهم، وإطفاء نور الله سبحانه وتعالى! وهذه قصة إسلام أبي سفيان معروفة لا اشتراط فيها, ولا تعرض لشيء من هذا. وبالجملة؛ فهذه الوجوه وأمثالها مما يعلم بطلانها، واستكراهها، وغثاثتها, ولا تفيد الناظر فيها علمًا، بل النظر فيها والتعرض لإِبطالها من منارات العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. فالصواب: أن الحديث غير محفوظ، بل وقع فيه تخليط، والله أعلم. وهي - رضي الله عنها - التي أكرمت فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس عليه =

وفي وفاة أم حبيبة أربعة أقوال: أحدها: سنة أربع وأربعين وادعى أبو عمر الاتفاق عليه، وفي هذه السنة ادعى معاوية زيادًا. ثانيها: قبل معاوية بسنة ومعاوية توفي سنة ستين. ثالثها: سنة اثنتين وأربعين، قاله ابن حبان وغيره. رابعها: سنة ستين في رجب حكاه ابن عساكر قال: وقبرها بدمشق، والصحيح أنه بالمدينة. الوجه الثاني: فيما فيه من المبهمات قولها: "انكح أختي ابنة أبي سفيان" هي عَزَّة بفتح العين وتشديد الزاي، كذا جاءت مسماة في رواية لمسلم، قال القاضي (¬1): ولا نعلم هذه في بنات أبي سفيان إلَّا من هذا الحديث، وقيل: إنها حمنة، وقيل: درة حكاه المنذري (¬2). وقولها: "فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة" هي ¬

_ = أبوها لما قدم المدينة، وقالت: "إنك مشرك"، ومنعته من الجلوس عليه. اهـ. للاطلاع على كلام أهل العلم، فقد قال العلائي في "التنبيهات المجملة على الأحاديث المشكلة ص 67، 68، "فردَّ الحديث بالوهم أولى من تأويله بالمستكره من الوجوه". اهـ. انظر: جامع الأصول (1/ 109). (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 72). (¬2) انظر: اختلاف الروايات في الفتح (9/ 142، 143).

درة بالدال المهملة المضمومة، ووهم من جعلها معجمة مفتوحة وهي درة بنت أبي سلمة بن عبد الأسد القرشية المخزومية ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنت امرأته أم سلمة أم المؤمنين وهي معروفة بالسنن والحديث، وأبوها أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، وذكر بعضهم في كلامه على رجال هذا الكتاب أنها زينب بنت أبي سلمة التي كان اسمها برة فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زينب (¬1) وهو وهم، نعم هي أختها، وقول: عروة (¬2) "أريه بعض أهله"، قال السهيلي (¬3): في غير البخاري أن الذي رآه من أهله هو أخوه العباس، قال: مكثت حولًا بعد أبي لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شر حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة إلَّا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، ويقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين، وكانت ثويبة قد بشرته بمولده، فقالت له: أشعرت أن آمنة ولدت غلامًا لأخيك عبد الله؟ فقال: اذهبي، فأنت حرة، فنفعه ذلك وهو في النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أهون أهل النار عذابًا. قلت: ومذهب المحققين أن الكافر لا يخفف عنه العذاب بسبب حسناته في الدنيا، بل يوسع عليه فيها، في دنياه، وهذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه أيضًا (¬4). ¬

_ (¬1) وقد تقدم تخريج حديث تغييره اسمها. (¬2) هو موصول بالإِسناد المذكور، لكنه مرسل، فإن عروة أرسله، فلم يذكر من حدثه به. انظر: الفتح (9/ 124، 125). (¬3) الروض الأنف (3/ 67). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- (9/ 142)، وفي الحديث دلالة على =

وقوله: "غير أني سقيت في هذه"، أي في النقير التي بين الإِبهام والتي تليها من الأصابع، كذا رواه البيهقي في "دلائله" (¬1)، وقال في آخره: رواه البخاري في الصحيح، وكذا قال البغوي (¬2) في "شرح السنة"، قيل: أراد الوقبة التي بين الإِبهام والسبابة، وكذا ذكره المحب الطبري في "أحكامه"، وقال القرطبي في "مفهمه" (¬3): سُقِي أبو لهب قطعة من ماء في جهنم لإِرضاع ثويبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وذلك أنه جاء في الصحيح أنه رُؤي في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: سقيت في مثل هذه وأشار إلى [ظفر] (¬4) إبهامه. الوجه الثالث فيما وقع فيه من الأسماء: فأما أبو سلمة، فاسمه عبد الله بن عبد الأسد بن هلال ¬

_ = أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وأجيب أولأ: بأن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به وعلى تقدير أن يكون موصولًا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج، وثانيًا: على تقدير القبول فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصًا من ذلك، بدليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفف عه فنقل من الغمرات إلى الضحضاح. اهـ. محل المقصود. (¬1) دلائل النبوة للبيهقي (1/ 148، 149). (¬2) شرح السنة للبغوي (9/ 76). (¬3) المفهم (5/ 2462). (¬4) غير موجودة في المفهم.

المخزومي أحد السابقين، قال ابن إسحاق (¬1): أسلم بعد عشرة أنفس، أمه برة (¬2) بنت عند المطلب وهو ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أيامًا قبل أن تأخذه حليمة السعدية من ابن لها يقال له مسروح، قيل: أرضعته ثلاثة أيام وأرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة هذا. هاجر الهجرتين وشهد بدرًا ثم توفي بعدها قال العسكري في "معرفة الصحابة": مات بالمدينة في السنة الرابعة من الهجرة ومنصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد انتقض به جرح كان أصابه بأحد فمات منه وأغمضه - صلى الله عليه وسلم -. وفي "أنساب القرشيين" (¬3) لابن قدامة أنه جرح يوم أحد جُرحًا اندمل، ثم انتقض، فمات منه لثلاث مضين من جمادى الآخرة سنة ثلاث، وفي "تهذيب" النووي نقلًا عن ابن سعد أنه روى عن عمر بن أبي سلمة قال: جرح يوم أحد فرماه أبو [أسامة] (¬4) الجشمي في عضده بسهم، فمكث شهرًا يداوي جرحه، ثم برأ جرحه، ثم بعثه، فغاب تسعة وعشرين، ثم رجع فدخل المدينة لثلاث خلون من صفر سنة أربع، والجرح منتقض فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع، ووقع في "شرح ابن العطار" أنه جرح يوم بدر بدل أحد وهو غريب. قال ¬

_ (¬1) سيرة ابن إسحاق (156). (¬2) المرجع السابق (158). (¬3) التبيين في أنساب القرشيين لابن قدامة (341). (¬4) في المخطوطتين (أبو سعد)، وما أثبت من الطبقات لابن سعد (3/ 240)، والذي ذكره المصنف هنا مختصرًا من الطبقات.

مصعب: وهو أول من هاجر إلى أرض الحبشة، وفيه نزلت: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه} (¬1)، وفي أخيه الأسود نزلت: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِه}. وأما أم سلمة: فتقدم التعريف بها في باب الجنابة وأن اسمها هند، وقيل: رملة. وأما ثويبه: بثاء مثلثة ثم واو ثم مثناة تحت ثم باء موحدة ثم هاء تصغير ثوبه، وهي المرة الواحدة من ثاب إذا رجع، وثويبه: هذه. مولاة أبي لهب كما سلف، وكان -عليه الصلاة والسلام- يكرمها، وكانت تدخل عليه بعد أن تزوج خديجة ويصلها من المدينة حتى ماتت بعد فتح خيبر، وكانت خديجة تكرمها، قال أبو نعيم: ولا أعلم أحدًا أثبت إسلامها غير ابن منده. وأما عروة: فتقدم التعريف به في باب فسخ الحج إلى العمرة. وأما أبو لهب: فاسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم، أدرك الإِسلام ولم يسلم كُنِّي بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه، ويقال: لهب بفتح الهاء وإسكانها وهما قراءتان في السبعة، واتفقوا على أن "ذات لهب" بالفتح لوفاق الفواصل أنزل الله فيه وفي امرأته سورة تبَّت، وسبب نزولها مشهور في الصحيح (¬2)، مات بعد غزوة بدر بسبعة أيام ميتة شنعة بداء يقال له: العدسة. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: آية 19. (¬2) البخاري (4770).

الواجه الرابع في ضبط ألفاظه ومعانيه: سبب الاستفهام في قوله "أو تحبين ذلك؟! " التعجب من حيث إن العادة قاضية بكراهة النساء لذلك، فلما فهمت عنه ذلك ذكرت السبب وهو قولها: "لست لك بمخلية"، أي لست أخلى بلا ضرة. و"مخلية" بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام، ثم مثناة تحت، ثم هاء، اسم فاعل من أخلى يخلي، أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضرة، يقال: خلوت به إذا انفردت به، وليس هو من قولهم: امرأة مخلية إذا تخلت من الزوج. وقولها: "وأحب من شاركني" هو لفظ البخاري. ولفظ مسلم "شركني" بفتح الشين المعجمة وكسر الراء أي شاركني في صحبتك والانتفاع بك في مصالح الدين والدنيا، وهذا هو المراد بالخير هنا وأي خيرٍ أعظم منه، وإنما عرضت ذلك عليه لاحتمال اعتقادها بخصوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وقد قال به بعض أصحابنا في حقه -عليه الصلاة والسلام- كما سيأتي، ولهذا اعترضت بنكاح درة بنت أبي سلمة، فكأنها تقول كما جاز نكاح درة مع تناول الآية لها فليجز الجمع بين الأختين مع تناول الآية لها للإِجماع في الخصوصية. [أما] (¬1) إذا لم تكن عالمة بمقتضى الآية فلا يلزم من كونه أخبر بتحريم نكاح الأخت على الأخت أن يرد على ذلك تجويز نكاح الربيبة لزومًا ظاهرًا لأنهما إنما يشتركان حينئذٍ في أمرٍ أعم. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة.

أما إذا كانت عالمة بمقتضاها فيكون اشتراكهما في أمرٍ خاص، وهو التحريم العام واعتقاد التحليل الخاص. وقوله: "إن ذلك لا يحل لي" أي على وجه الجمع بينك وبينها. وقولها "فإنا نحدث" هو بضم النون وفتح الحاء والدال على ما لم يسم فاعله. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "بنت أم سلمة؟ " استثبات ونفي إرادة غيرها، قاله النووي في "شرحه لمسلم" (¬1). وقال الشيخ تقي الدين (¬2): يحتمل أيضًا أن يكون لإِظهار جهة الإنكار عليها، أو على من قال ذلك. [و] (¬3) "الربيبة" بنت الزوجة من غيره، والذكر: ربيب مشتق من "الرب" وهو الإِصلاح لأنه يَرُبُّها، ويقوم بأمورها وإصلاح حالها، ومن ظن من الفقهاء أنه مشتق من التربية، فهو غلط، لأن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراك، فإن آخر "رب" باء موحدة وآخر "ربَّى" ياء مثناة تحت (¬4). وعبارة ابن عطية (¬5) سميت: ربيبة لأنه يربيها في حجره، فهي فعيلة بمعنى مفعولة. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (10/ 25). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 185). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) ساقه من إحكام الأحكام (4/ 185). (¬5) المحرر الوجيز (4/ 71).

و"الحجر" بفتح الحاء أفصح من كسرها، وقد أسلفت في باب في المذي وغيره حكاية اللغتين أيضًا، وزدت هنا أن الفتح أفصح، وهو مقدم ثوب الإِنسان وما بين يديه عنه في حال اللبس، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر، قال ابن عطية (¬1): لأن اللابس إنما يحفظ طفلًا أو ما أشبهه بذلك الموضع من الثوب. ومعنى قوله: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي" إلى آخره: أنها حرام عليه بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخ، فلو فقد أحد من السببين حرمت بالآخر. وقوله: "فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن" هذا إشارة إلى أم حبيبة وأختها وبنت أم سلمة، زاد ابن حبان (¬2): "ولا عماتكن ولا خالاتكن ولا أمهاتكن". وأتى بلفظ الجمع وإن كانتا اثنتين ردعًا وزجرًا أن تعود له بمثل ذلك. وقوله: "بشرحيبة"، قد فسرها المصنف بالحالة وأن الحاء مكسورة، وزاد الفاكهي في إيراد عبارة الشيخ أنها مهملة أيضًا، وكذا نقله عنه ابن العطار في شرحه حيث قال: قد ضبطها المصنف بكسر الحاء المهملة وفسرها بالحالة فكأنه قال بشر حال والحيبَة والحَوْبَة: الهم والحزن والحِيبة: الحاجة والمسكنة (¬3). ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز (4/ 71). (¬2) ابن حبان (4110). (¬3) انظر: لسان العرب (3/ 374، 375).

وقال البغوي في "شرح السنة" (¬1)، قوله: "بشرحيبة" بالحاء أي بشر حال، يقال: فلان بشر حيبة أي: بحال سوء، بفتح الباء، قال: والحيبة اسم الهم والحاجة بكسرها، ثم رأيت في "المطالع" لابن قرقول أنه للمستملي والحموي (¬2) "بشرحيبة"، ومعناه سوء الحال قال: ويقال فيه أيضًا الحوبة، قال ولغيرهما "بشرخيبة" (¬3). الوجه الخامس في أحكامه: الأول: تحريم الجمع بين الأختين (¬4)، سواء كانتا في عقد واحد أو عقدين، وهو إجماع، وحكمته أنه يفضي إلى قطع الرحم بينهما، وأما بملك اليمين فهو كذلك عند علماء الأمصار، وعن بعض الناس فيه خلاف، ووقع الاتفاق بعده على خلاف ذلك من أهل السنة، غير أن تحريم الجمع بينهما إنما هو في وطئهما لا في ¬

_ (¬1) شرح السنة (9/ 76، 77). (¬2) انظر: مشارق الأنوار (1/ 219)، وفتح الباري (9/ 145). (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 145): قال ابن الجوزي: هو تصحيف، وقال القرطبي: يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر المهملة وهو المعروف، ونقل عن المشارق (1/ 219)، عن رواية المستملي بالجيم ولا أظنه إلَّا تصحيفًا، وهو تصحيف كما قال. اهـ. أقول: الذي رأيته في المشارق (1/ 219) بخيبة بخاء معجمة مفتوحة وهو تصحيف. اهـ. (¬4) انظر: بدائع الصنائع (2/ 262، 263)، والمهذب (2/ 43)، وكشاف القناع (5/ 80)، والمغني (6/ 574)، ومغني المحتاج (3/ 108)، وبداية المجتهد (2/ 40، 42)، والباب (3/ 6)، والقوانين الفقهية (209).

ملكهما غير [ممتنع] (¬1) اتفاقًا، وإن نقل عن داود أنه خالف فيه. وقيل: إنه رواية عن ابن عباس (¬2)، قال الماوردي (¬3): وربما أضيف إلى عثمان (¬4)، قال أصحابنا: فلو وطئ إحداهما لم يطأ الأخرى حتى تحرم الأولى ببيع أو نكاح أو كتابة أو عتق، لئلا يكون مستبيحًا لفرجيهما معًا لا حيض وإحرام وردة وعدة شبهة، لأنها أسباب عارضة لم تزل الملك ولا الاستحقاق، وفي الرهن وجهان أصحهما عدم الاكتفاء به. وأغرب بعض أصحابنا: فجوَّز للنبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين نكاح الأختين وبين الأم والبنت بناء على أن المخاطب لا يدخل في عموم خطابه (¬5)، وهو منابذ. . . . . . . . . . ¬

_ (¬1) في هـ (البضع). (¬2) عبد الرزاق (12736)، وجاء عنه خلافه (12737) عن عمرو: أن ابن عباس كان يعجب من قول علي في الأختين يُجمع بينهما: حرمتهما آية، وأحلتهما آية أخرى، ويقول: "إلَّا ما ملكت أيمانكم" هي مرسلة. اهـ. (¬3) الحاوي الكبير (11/ 276). (¬4) وجاء عن علي بن أبي طالب: أخرجه الشافعي في الأم (5/ 3)، والبيهقي (7/ 163، 164)، وابن أبي شيبة (3/ 306)، ومالك في الموطأ (2/ 539)، والدارقطني (3/ 281)، وعبد الرزاق (12728، 12730، 12732). (¬5) قال في المحصول (1/ 3/ 199) المسألة الخامسة: كونه مخاطبًا هل يقتضي خروجه عن الخطاب العام؟ أما في الخبر فلا، لقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}؛ لأن اللفظ عام، ولا مانع من الدخول وأما في الأمر الذي جعل جزءًا كقوله تعالى: "من =

[للنص] (¬1). الثاني: تحريم نكاح الربيبة، وهو منصوص عليها في كتاب الله -تعالى- أيضًا، ويحتمل أن تكون أم حبيبة لم يبلغها هذا الحكم فإن لفظ الرسول يشعر بتقدم نزول الآية بقوله: "لو لم تكن ربيبتي في حجري [ما حلت لي"، وقد يحتج بقوله في حجري] (¬2) من يرى اختصاص تحريم الربيبة بكونها في الحجر، وهو داود الظاهري (¬3) قال: فإن لم تكن في حجره فهي حلال له، وجمهور العلماء على التحريم مطلقًا، وحملوا التخصيص على أنه خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، إذن فلا يقصر الحكم عليه كما في قوله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (¬4)، ومعلوم أنه يحرم قتلهم مطلقًا، لكنه قيد بالإِملاق لأنه الغالب، ومثله قوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (¬5) وغير ذلك. قال الشيخ تقي الدين (¬6): وعندي نظر في أن هذا الجواب ¬

_ = دخل داري فأكرمه"، فيشبه أن يكون كونُهُ أمرًا. قرينة مخصصة والله أعلم. اهـ. انظر المنخول (143)، حيث اختار دخول المخاطب في اللفظ العام. (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) انظر: إحكام الأحكام (4/ 185، 186). (¬4) سورة الأنعام: آية 151. (¬5) سورة النور: آية 33. (¬6) إحكام الأحكام (4/ 186).

المذكور في الآية أعني الجواب عن مفهومها أنه خرج مخرج الغالب: هل [يأتي] (¬1) في الحديث أم لا؟ انتهى. والظاهر إتيانه، ولعله - صلى الله عليه وسلم - تبرك بلفظ القرآن كما في غير هذا الموضع. وقال الزمخشري (¬2): فائدة التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن، ولكونهن بصدد احتضانكم وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمهاتهن وتمكن بدخولكم حكم الزواج، وثبتت الخلطة والألفة، وجعل الله بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا أولادهن مجرى أولادكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. قال ابن المنذر: و [قد] (¬3) أجمع كل من ذكرنا وكل من لم نذكره من علماء الأمصار على خلاف قول داود، وقد احتج [بعضهم] (¬4) على عدم اشتراط الحجر بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن" ولم يقل اللاتي في حجري. الثالث: تحريم الرضاع وهو منصوص [عليه] (¬5) في كتاب الله -تعالى- أيضًا. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 186) يرد. انظر: الحاشية. (¬2) الكشاف (1/ 260، 261). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) زيادة من هـ. (¬5) في ن هـ (على).

الرابع: أن لبن الفحل يحرم، وهو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرها (¬1). قال القاضي عياض: ولم يقل أحد إنه لا يحرم إلَّا أهل الظاهر وابن علية. قلت: قد قال به أيضًا ابن عمر وعائشة وغيرهما، كما حكاه المازري (¬2)، وحكاه البغوي في "شرح السنة" (¬3) عن عروة بن الزبير ¬

_ (¬1) انظر: مغني المحتاج (3/ 418)، والمغني (6/ 572)، والقوانين الفقهية (206)، واللباب (3/ 32). (¬2) في هـ (الماوردي) المعلم بفوائد مسلم (2/ 162). (¬3) شرح السنة (9/ 78)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 151): وفي الحديث أن لبن الفحل يحرم فتنتشر الحرمة لمن ارتضع الصغير بلبنه، قلا تحل له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلًا، وفيه خلاف قديم حكي عن ابن عمر وابن الزبير ورافع بن خديج وزينب بنت أم سلمة وغيرهم، ونقله ابن بطال عن عائشة وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار والشعبي وإبراهيم النخعي وأبي قلابة وإياس بن معاوية أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد ومحمد بن منصور وابن المنذر، وعن ابن سيرين: "نبئت أن ناسًا من أهل المدينة اختلفوا فيه"، وعن زينب بنت أبي سلمة أنها سألت والصحابة متوافرون وأمهات المؤمنين فقالوا الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا، وقال به من الفقهاء ربيعة الرأي وإبراهيم بن علية وابن بنت الشافعي وداود وأتباعه، وأغرب عياض ومن تبعه في تخصيصهم ذلك بداود وإبراهيم مع وجود الرواية عمن ذكرنا بذلك، وحجتهم في ذلك قوله -تعالى-: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب، وأجيبوا =

وعبد الله بن الزبير وبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ويروى أيضًا عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار ¬

_ = بأن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولاسيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة, واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب أنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وأيضًا فإن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا فوجب أن يكون الرضاع منهما كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده، وإلى هذا أشار ابن عباس بقوله في هذه المسألة "اللقاح واحد" أخرجه ابن أبي شيبة، وأيضًا فإن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب. وذهب الجمهور من الصحابة والتابعبن وفقهاء الأمصار كالأوزاعي في أهل الشام والثوري وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة وابن جريج في أهل مكة ومالك في أهل المدينة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم إلى أن لبن الفحل يحرم وحجتهم هذا الحديث الصحيح, وألزم الشافعي المالكية في هذه المسألة برد أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة ولو خالف الحديث الصحيح إذا كان من الآحاد ولما رواه عن عبد العزيز بن محمَّد عن ربيعة من أن لبن الفحل لا يحرم، قال عبد العزيز بن محمَّد: وهذا رأي فقهائنا إلَّا الزهري، فقال الشافعي: لا نعلم شيئًا من علم الخاصة أولى بأن يكون عامًا ظاهرًا من هذا، وقد تركوه للخبر الوارد، فليزمهم على هذا إما أن يردوا هذا الخبر وهم لم يردوه، أو يردوا ما خالف الخبر وعلى كل حال هو المطلوب، قال القاضي عند الوهاب: يتصور تجريد لبن الفحل برجل له امرأتان فرضع إحداهما صبيًا والأخرى صبية، فالجمهور قالوا يحرم على الصبي تزوج الصبية، وقال من خالفهم: يجوز. اهـ.

وإبراهيم وسيكون لنا عودة إلى هذا في الرضاع إن شاء الله ذلك وقدره. الخامس: فيه تنبيه على جواز تعليل الحكم بعلتين، فإنه علل تحريمها بأنها ربيبة وابنة أخ، والصحيح عند أهل الأصول جوز ذلك لهذا الحديث وغيره (¬1). السادس: فيه أيضًا أن للزوجة [و] (¬2) غيرها من الألزام الفكر في مصلحة أقاربها ومراجعة ما فكرت فيه للعلماء وعرضه عليهم وتنبيه على المسؤول، والجواب بأنه لا يحل لي أو لك. السابع: في هذه الروايات دلالة على اختلاف أحوال المعذبين في النار من الكفار. خاتمة: ترجم البخاري على هذا الحديث عرض الإِنسان ابنته أو أخته على أهل الخير (¬3)، وترجم عليه أيضًا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (¬4)، وذكره أيضًا في باب ما يحل من ¬

_ (¬1) اختلف أهل الأصول في تعليل الحكم بعلتين على قولين: أحدهما: يجوز تعليل الحكم بعلتين منصوصتين. الثاني: أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين. انظر مباحث هذا: فتاوى ابن تيمية (18/ 273، 274)، (20/ 167)، والمنخول (392)، والمستصفى (2/ 342)، ومسودة آل تيمية (316)، وشفاء العليل (514)، وإحكام الآمدي (3/ 236). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) البخاري (ح 5123)، (9/ 176). (¬4) البخاري (ح 5101)، (9/ 139).

النساء وما يحرم (¬1)، وذكره أيضًا في باب المراضع من المواليات وغيرهن (¬2). ¬

_ (¬1) في هذا الباب لم يذكر الحديث. الفتح (9/ 153). (¬2) البخاري (5372)، (9/ 516)، وذكره في باب {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (ح 5106)، (9/ 158). وأيضًا في باب وأن تجمعوا بين الأختين إلَّا ما قد سلف، (ح 5107)، (9/ 159).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 323/ 5/ 62 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجمع المرأة وعمتها, ولا بين المرأة وخالتها" (¬1). هذا الحديث دليل للعلماء كافةً على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين خالتها، سواء كانت عمة [و] (¬2) خالة حقيقية وهي أخت الأب وأخت الأم، أو مجازية وهي أخت أب الأب أو أب الجد وإن علا أو أخت أم الأم وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت فكله بالإِجماع يحرم الجمع بينهن، وأشار إلى ذلك الشافعي في "الأم" (¬3) أعني إلى الإجماع، حيث قال: لا خلاف فيه. وقالت طائفة من الخوارج والشيعة وعثمان البتي يجوز واحتجوا بقوله -تعالى-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬4)، وهم محجوجون بهذا الخبر وغيره من الأخبار الصحيحة، بل لا يعتد ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (5109)، ومسلم (1408)، والموطأ (2/ 532)، والنسائي (6/ 96، 97)، وسعيد بن منصور (654)، والبغوي (2277)، والبيهقي (7/ 165)، وأحمد (2/ 462)، وأبو داود (2066). (¬2) في هـ (أو). (¬3) الأم (5/ 5). (¬4) سورة النساء: آية 24.

بخلافهم والآية خصت بهذه الأخبار، والصحيح [الذي عليه جمهور] (¬1) الأصوليين جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، لأنه -عليه الصلاة والسلام- يبين للناس ما نزل إليهم من كتاب الله، وادعى بعضهم أن هذه الأخبار متواترة (¬2). تنبيهات: أحدها: ظاهر الحديث يقتضي أنه لا فرق بين نكاحهما معًا أو مرتبًا، وقد جاء في الترمذي وأبي داود ما يصرح بالترتيب فإن فيهما بعد النهي عن الجمع بينهما لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬3)، فإن جمع بينهما بعقد بطل عملًا بمقتضى النهي أو مرتبًا، فالثاني لأن مسمى الجمع حصل به. ثانيهما: العلة في النهي عنه ما يقع بسبب المضارة من التباغض والتنافر فيؤدي ذلك إلى قطيعة الرحم. قال الشيخ تقي الدين (¬4): وقد ورد الإِشعار بهذا التعليل. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) انظر: الحاوي الكبير (11/ 279، 280). (¬3) ولفظه من رواية أبي هريرة: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها, ولا تنكح المرأة على خالتها, ولا الخالة على بنت أختها، ولا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى"، أخرجه الترمذي (1126)، وأبو داود (2065)، والبيهقي (7/ 166)، وعبد الرزاق (10758)، وابن الجارود (685)، وأحمد (2/ 426). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 189).

قلت: بل صح مصرحًا به، روى ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تزوج المرأة على العمة والخالة، وقال: "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن" (¬1). ثالثها: الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين حرام أيضًا عند العلماء كافة، وخالفت الشيعة في ذلك ولا التفات إليهم. رابعها: الجمع بين باقي الأقارب كبنتي العم أو بنتي الخالة أو نحوهما جوزه العلماء كافةً، وشذَّ بعض السلف في ذلك، وكأنه نظر إلى المعنى في المنع من الجمع بين الأختين من إفضائه إلى قطيعة الرحم، ويجوز الجمع بين زوجة الرجل وبنته من غيرها عند الجمهور، ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة، وخالف الحسن وعكرمة وابن أبي ليلى فيه ويرده قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬2). خاتمة: الرواية في قوله: "لا يجمع" برفع العين على الخبر، وهو متضمن النهي أيضًا (¬3). ¬

_ (¬1) ابن حبان (4116)، والطبراني (11/ 11931). وعند الترمذي (1125)، وأبو داود (2067)، وأحمد (1/ 217، 372)، والطبراني (11/ 11805، 11930)، بدون قوله: "إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن". (¬2) سورة النساء: آية 24. (¬3) المفهم (5/ 2351)، والفتح (9/ 161).

الحديث السادس

الحديث السادس 324/ 6/ 62 - عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج" (¬1). الكلام عليه من وجوه: واعلم قبل الخوض فيها أن لفظ البخاري "أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"، كذا ذكره هنا، وترجم عليه الشروط في النكاح (¬2). ولفظ مسلم: "إن أحق الشروط"، وفي رواية: "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج". أحدها: في التعريف براويه وهو أبو حماد على الأشهر ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2721)، ومسلم (1418)، والترمذي (1127)، وأبو داود (2139)، والنسائي (6/ 92، 93)، والدارمي (2/ 143)، وابن ماجه (1954)، والبغوي (2270)، وعبد الرزاق (10613)، وأحمد (4/ 144، 150، 152). (¬2) البخاري (5151)، والفتح (9/ 217).

عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن [رشدان] (¬1) بن قيس بن جهينة الجهني، وجهينة هو ابن زيد بن ليث بن سُود بن أسلم بن الحافي بن قُضاعة روى عنه خلق منهم كثير بن مرة وجبير بن نفير ولي إمرة مصر لمعاوية شيبة أربع وأربعين ثم صرفه بمسلمة بن مخلد وولي غزوة البحر سنة أربع وأربعين، وكان له بدمشق دار مشهورة بناحية باب توما، وله بمصر دار أخرى، وقيل: حضر صفين مع معاوية، رُوِي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة وخمسون حديثًا اتفقا على سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم تسعة، وكان من الرماة، وكان يخضب بالسواد ويقول: نسود أعلاها وتأبى أصولها، وكان عالمًا بكتاب الله تعالى وبالفرائض، فصيحًا شاعرًا مفوّهًا له هجرة وسابقة، وكان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، مات بمصر ودفن بالمقطم سنة ثمان وخمسين، وقبره مشهور هناك، زرته غير مرة (¬2). وقيل: قتل يوم النهروان شهيدًا سنة ثمان وثلاثين وهو غلط. ونقل الكلاباذي عن الهيثم بن عدي، أنه توفي بالشام في آخر خلافة معاوية، وفي كتاب "الزيادات" لعلي بن أبي بكر الهروي، أن قبره بالقرافة، وأن الصحيح أن قبره بالبصرة (¬3). ¬

_ (¬1) في هـ (رشد). (¬2) لعل مقصود المؤلف -رحمه الله- الزيارة المسنونة بدون شد رحل، ويحتمل أنه مر عليه في طريقه فسلم عليه. (¬3) انظر: الإصابة (4/ 250، 251).

الوجه الثاني: هذا الحديث حمله الشافعي وأكثر العلماء على شروط لا تنافي مقتضى النكاح، بل يكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراط العشرة بالمعروف والإِنفاق عليها، وكسوتها وسكناها بالمعروف، وأنه لا [تقصير] (¬1) في شيء من حقها، ويقسم لها كغيرها، و [أنها] (¬2) لا تخرج من بيته إلَّا بإذنه، ولا تنشز عليه، ولا تصوم تطوعًا بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إلَّا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلَّا برضاه، ويجوز ذلك. فإما شرط ينافي مقتضاه كشرط أن لا يقسم [لها] (¬3) ولا يتسرى عليها, ولا ينفق عليها ونحو ذلك، فلا يجب الوفاء به، بل يلغوا الشرط، ويصح النكاح بمهر المثل، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" (¬4) وللشافعي قول: إن النكاح يبطل. ولأصحابه وجه أن الشرط لا يؤثر في النكاح. وقال أبو حنيفة: ولها إن لم يفِ الأكثر في التسمية ومهر المثل. وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا لهذا الحديث، وحملوا "أحق" على الوجوب. والأولون حملوه على ¬

_ (¬1) في هـ (يقصر). (¬2) في هـ (أنه). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) تقدم تخريجه من حديث بريدة في كتاب البيوع وفي كتاب الفرائض.

الأخذ به واستضعف الشيخ تقي الدين (¬1): الأول، فقال: في حمل الحديث على ما هو من مقتضيات العقد ضعيف؛ لأنها أمور لا تؤثر الشروط في إيجابها، فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم بالاشتراط فيها. ومقتضى الحديث: أن لفظة "أحق الشروط" تقتضي أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء، وبعضها أشد اقتضاء له. والشروط التي هي مقتضى العقود مستوية في وجوب الوفاء، ويترجح عليها الشروط المتعلقة بالنكاح من جهة حرمة الأبضاع وتأكيد استحلالها. الوجه الثالث: ترجم المحب الطبري في "أحكامه"، على هذا الحديث: استحباب تقدمة شيء من المهر قبل الدخول (¬2) فقال: وبالعقد يستحل الفرج. وكان الشافعي يقول في القديم: إن لم يسم لها مهرًا كرهت أن يطأها قبل أن يسمه أو يعطيها شيئًا. وقال الثوري قريبًا من هذا، ورخص في ذلك جماعة: [(¬3)] ابن المسيب والنخعي وأحمد وإسحاق. خاتمة: قد عرفت مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في [الشرط في] (¬4) النكاح. وفصَّل أبو عبد الله بن زرقون المالكي الشروط فيه على ثلاثة أَضْرُب: ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 1901). (¬2) قال ابن حجر في الفتح (9/ 219): وفي انتزاعه من هذا الحديث غموض، والله أعلم. اهـ. (¬3) لعله يكون (منهم). (¬4) في هـ (شرط).

الأول: ما يكره ابتداؤه كأن لا يخرجها من بلدها, ولا يتسرى ولا يتزوج عليها بغير يمين (¬1)، فإن النكاح يجوز، ويبطل الشرط عند مالك، ويستحب له الوفاء وألزمه ابن شهاب والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز عملًا بهذا الحديث. الثاني: أن يشرطه باليمين فكرهه مالك وابن القاسم وفسخ به سحنون قبل البناء، وأثبت بعده المسمى [فإن كان تفويضًا لم يفسخ قطعًا، وله أيضًا إجارته ابتداءً. قال عبد الملك: وكذا إذا شرط أنه إن أبق كان أمرها بيدها لزمه، وهذا كله فيما فعله أو تركه بيد الزوج. الثالث: أن يكون الشرط ليس سببه بيد الزوج، ومثله قول السيد لعبده: إن بعتك أو بعتها. أو يكون سببه بيد الزوج ويشترط تصديقها فيه مثل أن يصدقها في الضرر ففيه أربعة أقوال: أحدها: الأصح جائز بلا كراهة. ثانيها: لا يجوز ويفسخ به قبل البناء، ويثبت بعده، وهو قول محمَّد وأحد أقوال سحنون. ثالثها: يكره. رابعها: أنه من قبيل عقود الشروط فإن قلنا بالثالث، فقيل مضى شرط بالعقد قاله مالك، وقيل: يفسخ قبل البناء ويثبت بعده. وقيل: يثبت الشرط وهو قول سحنون. وله أيضًا إبطال الشرط وإن قلنا بالرابع فقيل: يثبت العقد ويبطل الشرط قبل البناء وبعده وهو ¬

_ (¬1) لعل المراد أن يكون الوفاء بالشرط بغير يمين من الزوج.

قول عبد الملك، وعن مالك في مثل هذا أن المشترط يخير قبل البناء وبعده، فإن أسقطه جاز وإلَّا فسخ النكاح، وعنه أيضًا يخير قبل البناء ويسقط الشرط بعده] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، حيث يوافق أول لوحة (117/ أ /أ) أول لوحة ن هـ (121/ هـ/ أ) مبتدئة (وحديث الشغار) ساقطة من الأصل وأول الموجود (وجماعة) بداية لوحة (117/ أ/أ).

[الحديث السابع

(¬1) [الحديث السابع 325/ 7/ 62 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث رواه الشيخان من حديث مالك عن نافع، عن ابن عمر باللفظ المذكور، وفي مسلم أن عبيد الله رواه عن نافع عن ابن عمر بمثله، غير أن في حديثه قلت لنافع: ما الشغار؟ وقال الخطيب في كتابه "المدرج" (¬3): تفسير الشغار ليس من ¬

_ (¬1) من هنا ساقط في الأصل. (¬2) البخاري (5112)، ومسلم (1415)، والترمذي (1124)، والنسائي (6/ 100، 112)، وأبو داود (2074)، والدارمي (2/ 136)، وابن ماجه (1883)، والبيهقي (7/ 199، 200)، ومالك (2/ 535)، وأحمد في المسند (2/ 7، 19، 35 , 62 , 91) , والشافعي في الأم (5/ 76، 174). (¬3) الفصل للوصل المدرج في النقل (1/ 385). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 162، 163): =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قوله (والشغار أن يزوج الرجل ابنته إلخ): قال ابن عبد البر، أي في الاستذكار (24/ 201): ذكر تفسير الشغار جميع رواة مالك عنه. قلت: ولا يرد على إطلاقه أن أبا داود أخرجه عن القعنبي فلم يذكر التفسير, وكذا أخرجه الترمذي من طريق معن بن عيسى لأنهما اختصرا ذلك في تصنيفهما، وإلَّا فقد أخرجه النسائي من طريق معن بالتفسير، وكذا أخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق القعنبي، نعم اختلف الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعي فيما حكاه البيهقي في "المعرفة": لا أدري التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو قول مالك وصل بالمتن المرفوع، وقد بين ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون، ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عند الإسماعيلي والدارقطني في "الموطآت"، وأخرجه الدارقطني أيضًا من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلخ، وهذا دال على أن التفسير من منقول مالك لا من مقوله. ووقع عند المصنف -كما سيأتي في كتاب ترك الحيل- من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع ولفظه "قال عبيد الله بن عمر, قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره" فلعل مالكًا أيضًا نقله عن نافع، وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل حتى يتبين أنه من قول الراوي وهو نافع. قلت: قد تبين ذلك، ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأصل مرفوعًا، فقد ثبت ذلك من غير روايته، فعند مسلم من رواية أبي أسامة وابن نمير عن عبيد الله بن عمر أيضًا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مثله سواء، قال: وزاد ابن نمير: "والشغار أن يقول الرجل للرجل زوجني =

كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو قول مالك، وصل بالمتن المرفوع. وقد بين ذلك القعنبي وغيره، ففصلوا كلامه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكذلك روى عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه -عليه الصلاة والسلام- "نهى عن الشغار"، ثم قال عبيد الله: قلتُ لنافع: ما الشغار؟ فقال: مثل قول مالك. وحكى البيهقي (¬1) عن الشافعي أنه قال: التفسير في خبر ابن عمر لا أدري هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من ابن عمر أو من نافع أو من مالك. وذكر البيهقي (¬2) ما ينفيه عن مالك ويثبته لنافع، وقال الباجي (¬3): الظاهر أنه من جملة الحديث وعليه يُحمل حتى يتبين ¬

_ = ابنتك وأزوجك ابنتي وزوجني أختك وأزوجك أختي"، وهذا يحتمل أن يكون من كلام عبيد الله بن عمر فيرجع إلى نافع، ويحتمل أن يكون تلقاه عن أبي الزناد، ويؤيد الاحتمال الثاني وروده في حديث أنس وجابر وغيرهما أيضًا، فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس مرفوعًا "لا شغار في الإِسلام، والشغار أن يزوج الرجل الرجل أخته بأخته" وروى البيهقي من طريق نافع بن يزيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا "نهى عن الشغار، والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه"، وأخرج أبو الشيخ في كتاب النكاح من حديث أبي ريحانة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر. اهـ. (¬1) الشافعي في الأم (5/ 76)، والبيهقي في السنن (7/ 200)، ومعرفة السنن (10/ 166). (¬2) في المرجع السابق. (¬3) المنتقى للباجي (3/ 310).

أنه من قول الراوي، وقال القرطبي في "مفهمه" (¬1)، جاء تفسير الشغار في حديث ابن عمر من قول نافع، وجاء في حديث أبي هريرة من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي مساقه وظاهره الرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون من تفسير أبي هريرة أو غيره من الرواة أعني في حديث أبي هريرة، وكيف ما كان فهو تفسير صحيح موافق لما حكاه أهل اللسان، فإن كان من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو المقصود، وإن كان من قول صحابي فمقبول، لأنهم أعلم بالمقال واقعد بالحال، وكذا قال الشافعى نقلًا عن الأئمة إن هذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعًا وأن يكون من ابن عمر. الوجه الثاني: الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة (¬2) وجابر بن عبد الله (¬3) أيضًا، وهما من أفراده كما نبه عليه عبد الحق، ورواه الترمذي من حديث عمران بن حصين (¬4) وصححه، ثم قال: وفي الباب عن أنس (¬5)، وأبي ريحانة، ومعاوية (¬6) ووائل بن ¬

_ (¬1) المفهم للقرطبي (5/ 2366). (¬2) صحيح مسلم (1416)، والنسائي (6/ 112)، وأحمد (2/ 286، 439، 496)، وابن أبي شيبة (4/ 380). (¬3) مسلم (1417)، والبيهقي (7/ 200)، وأحمد (3/ 321، 339). (¬4) الترمذي (1123)، والنسائي (6/ 112)، وأحمد (4/ 429، 439، 441، 443)، والطيالسي (838)، وابن أبي شيبة (4/ 380). (¬5) النسائي (6/ 111)، والبيهقي (7/ 200)، وأحمد (3/ 162، 165)، وابن ماجه (1885)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 265)، وقال: رجاله رجال الصحيح. (¬6) أبو داود (2075)، والبيهقي (7/ 200)، وأحمد (4/ 94).

حجر (¬1)، ثم ذكر جابرًا وابن عمر وأبا هريرة، وزاد ابن منده في "مستخرجه" عبد الله بن عمرو (¬2) وعمرو بن عوف. الوجه الثالث: الشغار، -بكسر الشين وبالغين المعجمة- مصدر شاغر، يشاغر، شغارًا، وهو مفاعلة ولا يكون إلَّا بين اثنين غالبًا، واختلف أهل اللغة في أصله على أقوال: أقربها: أنه مأخوذ من شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول قاله ثعلب، وكأن كل واحد منهما يقول لا ترفع رجل ابنتي ما لم أرفع رجل ابنتك، أو لأن المرأة ترفع رجلها عند الجماع. وقال ابن قتيبة: كل واحد منهما يشغر عند الجماع، وأصله للكلب إذا رفع رجله ليبول. وحكى الجاحظ (¬3): أن شغور الكلب علامة بلوغه وأنه يبلغ بعد ستة أشهر من عمره. ثانيها: أنه من شغر البلد عن السلطان إذا خلى، لخلوه عن المهر. ¬

_ (¬1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 269)، وقال: رواه البزار وفيه سعيد بن عبد الجبار بن وائل ضعفه النسائي. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 215، 216)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 269)، رجاله رجال الصحيح خلا محمَّد بن إسحاق وقد صرح بالتحديث. (¬3) هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، أبو عثمان معلم العلم والأدب, له مؤلفات منها: الحيوان، البخلاء، البيان والتبيين.

ثالثها: أنه من البعد ومنه قولهم: بلد شاغر إذا كان بعيدًا من الناصر والسلطان، فكأنه بعد عن طريق الحق، قاله الفراء. وقال أبو زيد: أشغر الأمر به أي اتسع وعظم. وقال غيره: يقال بلدة شاغرة، أي مفتتنة لا تمتنع من الغارة (¬1). الوجه الرابع: كان الشغار من نكاح الجاهلية يقول: شاغرنى وليتي بوليتك أي عاوضني جماعًا بجماع، وصورته: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، ويضع كل واحد منهما صداق الأخرى، فيقول: قبلت. وأجمع العلماء على أنه منهي عنه، لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضي إبطال النكاح أو لا؟ فعند الشافعي نعم، وحكاه الخطابي (¬2) عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد، وذكر أصحاب الشافعي في بطلانه من جهة المعنى شيئين: أحدهما: أن فيه تشريكًا في البضع، لأن كل واحد منهما جعل بضع موليته موردًا للنكاح وصداقًا للأخرى، فأشبه ما لو زَوجَ امرأةٌ من رجلين لا يصح النكاح. والثاني: عن القفال أن سبب الفساد التعليق كأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح ابنتي حتى ينعقد لي نكاح ابنتك. وكان للعرب ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب (7/ 144، 145)، والفائق (1/ 17)، والعين (4/ 358)، وجمهرة اللغة (2/ 344)، والنهاية (2/ 482)، والنظم المستعذب (2/ 138، 139)، والحاوي (11/ 443)، والمعلم (2/ 140). (¬2) معالم السنن (3/ 20)، والاستذكار (16/ 202، 204).

أنفة وحمية جاهلية فلا يرضون بأن يزوجوا حتى يزوجوا، وبنوا على ذلك ما لو لم يجعلا البضع صداقًا بأن قال: زوجني ابنتك على أن [أزوجك ابنتي] (¬1)، وصححوا الصحة لعدم التشريك في البضع، وما لو سميا مالًا مع جعل البضع صداقًا، والأصح البطلان لقيام معنى التشريك. وقال مالك (¬2): يفسخ قبل الدخول وبعده، والفسخ يقتضي صحته، وفي رواية عنه قبله ولا بعده. واختلفت المالكية إذا فسخ هل هو طلاق أو بغيره، والذي رجع إليه ابن القاسم الأول، وعند مالك أنه إذا سمى صداقًا يكون من باب الشغار لا من صريحه. وقال] (¬3) جماعة: يصح بمهر المثل، وهو مذهب أبي حنيفة (¬4)، وحُكِي عن عطاء والزهري والليث، وهو رواية عن أحمد وإسحاق، وبه قال أبو ثور وابن جرير، وحكى [القاضي] (¬5) عن أحمد أنه إذا سمى صداقًا فليس بشغار قال: وهو قول الكوفيين قالوا: ولها ما سمى، وهو قول بعض المالكية أيضًا، وفرقت المالكية أيضًا بين صريح الشغار ووجه الشغار. والثاني: كزوجني ابنتك بمائة على أن أزوجك ابنتي بمائة أو بخمسين. فيفسخ قبل البناء ويثبت بعده ويكون لها مهر المثل إلَّا أن تكون أقل من المسمى فلا ينتقص منه شيء فإن كانت إحداهما بصداق مسمى والأخرى بغير ¬

_ (¬1) في هـ (تزوجني ابنتك)، وهو خطأ. (¬2) الاستذكار (16/ 202). (¬3) نهاية سقط في الأصل. (¬4) الاستذكار (16/ 203). (¬5) زيادة من هـ.

صداق كان حكم المسمى لها حكم وجه الشغار والأخرى لها حكم صريحه. الوجه الخامس: أجمعوا على أن الحكم لا يختص بمن ذكر في الحديث بل غير البنات من الأخوات وبنات الأخ والعمات وبنات الأعمام والإماء كالبنات، وقد ذكر مسلم الأختين في حديث أبي هريرة (¬1). السادس: قوله: "وليس بينهما صداق" فيه إشعار بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذكر ذلك لملازمته لجهة الفساد نبه عليه الشيخ تقي الدين (¬2)، ثم قال: وعلى الجملة ففيه إشعار بأن عدم الصداق له مدخل في النهي. وعدمه مفسد عند مالك. [السابع] (¬3): اقتصر البغوي في "شرح السنة" (¬4) في الحكاية عن مالك على البطلان قال: وشبهه أبو علي بن أبي هريرة برجل زوج ابنته، واستثنى عضوًا من أعضائها, لأن كل واحد زوج وليته، واستثنى بضعها، حيث جعله صداقًا لصاحبتها، ثم حكي عن الشافعي أنه لو سُمَّي لهما أو لأحدهما صداق، فليس بالشغار المنهي عنه، والنكاح ثابت والمهر فاسد، ولكل واحد منهما مهر مثلها، ¬

_ (¬1) مسلم (1416). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 192). (¬3) في هـ (تنبيه). (¬4) (9/ 98، 99).

وهذا وجه عندنا وهو ظاهر نصه في "المختصر" (¬1)، وصحح الرافعى البطلان أيضًا وهو ما قدمناه وهو ما نص عليه في "الأم" (¬2)، واقتصر عليه الترمذي (¬3) في حكايته عنه حيث قال: وقال بعض أهل العلم: نكاح الشغار منسوخ ولا يحل، وإن جعل لهما صداقًا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. ¬

_ (¬1) مختصر المزني (174). (¬2) الأم (5/ 74). (¬3) سنن الترمذي (3/ 423).

[الحديث الثامن]

[الحديث الثامن] (¬1) 326/ 8/ 62 - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: "خيبر" ناحية مشهورة بينها وبين المدينة نحو أربع مراحل، وهي تشتمل على حصون ومزارع ونخل كثير، ويقال لأراضي خيبر: الخيابر. وكانت غزوتها في صفر سنة سبع، لأنه -عليه الصلاة والسلام- قدم من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، ويقال: خرج لهلال ربيع الأول، وفيها عشرة آلاف مقاتل نص عليه ابن دحية في "تنويره"، ونقل ابن الطلاع (¬3) عن ابن هشام أنه قال: إنها كانت في صفر سنة ست. ¬

_ (¬1) في الأصل (الحديث الخامس)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) البخاري (4216)، ومسلم (1407)، والترمذي (1794)، وابن ماجه (1961)، والنسائي (6/ 126)، (7/ 202)، والحميدي (37)، وسعيد بن منصور (848)، والبيهقي (7/ 201)، وأبو يعلى (576). (¬3) أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (72).

[الوجه] (¬1) الثاني: أصل المتعة في اللغة: الانتفاع. والمراد بها هنا تزويج المرأة إلى أجل مسمى بذلك، لانتفاعها بما يعطيها، وانتفاعه بها بقضاء شهوته دون قصد التوالد وسائر أعراض النكاح, ورأيت في "اللطيف" لابن خيران (¬2) من قدماء أصحابنا أن صفة نكاح المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بولي وشهود على صداق معلوم إلى وقت معلوم قال: إذا انقضت المدة فلا سبيل له عليها، وليس هناك طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا لعان ولا ميراث ولا عدة. الثالث: اضطربت الروايات في وقت تحريمها، ففي الصحيحين أنه كان يوم خيبر كما في الكتاب، وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد أنها حُرِّمت عام الفتح (¬3) [و] (¬4) روي في غير الصحيح رواية شاذة أنها حرمت عام تبوك (¬5)، وغلطوا هذه الرواية ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) هو علي بن أحمد بن خيران أبو الحسن، ترجمته في الأسنوي (1/ 470)، وابن قاضي شهبة (1/ 120)، وطبقات ابن الصلاح (599). (¬3) مسلم (1406)، وأبو داود (2072، 2073)،والحميدي (846)، والبيهقي (7/ 207)، وابن الجارود (698)، والدارمي (2/ 140)، وأحمد (2/ 404، 405)، وأبو يعلى (938)، والطبراني في الكبير (6527، 6534)، وابن أبي شيبة (4/ 292)، وعبد الرزاق (14034). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) أخرجه ابن حبان (4149)، قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 154): إسناده حسن. وأخرجه الحازمي في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" (179) ومن رواية جابر، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 170): وأما قصة =

فإن راويها إسحاق بن راشد تفرد بذلك عن الزهري ومالك وغيره, رووه عن الزهري وفيه "يوم خيبر" وهو الصحيح. وروى أبو داود تحريمها من حديث سبرة في "حجة الوداع" (¬1)، [ثم قال: إنه أصح ما روي في ذلك. وقد رُوي عن سبرة أيضًا إباحتها في حجة الوداع] (¬2)، ثم حرمت حينئذٍ إلى [يوم القيامة] (¬3). ¬

_ = تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديمًا، ثم وقع التوديع منهم حينئذٍ والنهي، أو كان النهي وقع قديمًا فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة فلذلك قرن النهي بالغضب، لتقدم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالًا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل، وعكرمة بن عمار وفي كل منهما مقالًا. وأما حديث جابر فلا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. (¬1) أبو داود (2073، 2074) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي (177، 178)، والناسخ والمنسوخ لابن شاهين (347، 348)، وتحريم المتعة لأبي نصر المقدسي (45). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ (مكة). انظر: تعليق (5) ص 196. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 171): وأما حجة الوداع فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجرد إن ثبت الخبر في ذلك، لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم، فلم يكونوا في شدة ولا طول عزوبة، وإلَّا فمخرج حديث سبرة راويه هو من طريق =

ورُوي عن الحسن البصري: أنها ما حلت قط إلَّا في عمرة القضاء (¬1)، ورُوي هذا عن سبرة أيضًا، ولم يذكر مسلم في روايات حديث سبرة تعيين وقت إلَّا في رواية محمَّد بن سعيد الدارمي وإسحاق بن إبراهيم ويحيى بن يحيى فإنه ذكر فيها يوم فتح مكة، [فقالوا:] (¬2) وذكر الرواية بإباحتها يوم حجة الوداع خطأ، لأنه لم يكن يومئذٍ ضرورة ولا عزوبة، بل أكثرهم حجوا بنسائهم، والصحيح أن الذي جرى في تجمعهم في حجة الوداع مجرد النهي، ¬

_ = ابنه الربيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها، والحديث واحد في قصة واحدة، فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح، فتعين المصير إليها، والله أعلم. اهـ. وسيأتي كلام المصنف. (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 169): وأما رواية الحسن وهو البصري فأخرجها عبد الرزاق من طريقه وزاد: "ما كانت قبلها ولا بعدها" وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة. وقال أيضًا (9/ 170): وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مراسيل الحسن ومراسيله ضعيفة، لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة كما في الفتح وأوطاس سواء. اهـ، وقال في تلخيص الحبير (3/ 155)، بعد سياقه لرواية عبد الرزاق، وشاهده ما رواه ابن حبان في صحيحه (4147)، من حديث سبرة بن معبد قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قضينا عمرتنا، قال لنا: استمتعوا من هذه النساء. اهـ. (¬2) في هـ (قالوا).

كما جاء في غير رواية, ويكون ذلك تجديدًا له ليبلغ عنه لكثرة الاجتماع إذن كما قرر غير شيء وبين الحلال والحرام يومئذٍ، [وثبت] (¬1) تحريم النكاح يومئذٍ بقوله: "إلى يوم القيامة". الرابع: كان نكاح المتعة جائزًا في أول الإِسلام من غير شك في ذلك ولا مرية، وقد روى [إباحته] (¬2) إذ ذاك من الصحابة ابن مسعود (¬3) وابن عباس وجابر (¬4) وسلمة بن الأكوع (¬5) وسبرة بن معبد الجهني (¬6) كما أخرج حديثهم في الصحيح، وليس في هذه الأحاديث كلها أنها كانت في الحضر، وإنما كانت في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم وعدم النساء مع أن بلادهم حارة وصبرهم عنهن قليل، وقد ذكر مسلم في حديث ابن عمر أنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليه كالميتة، وعن ابن عباس نحوه. وذكر مسلم من حديث سلمة بن الأكوع (¬7) إباحتها يوم أوطاس، ومن حديث سبرة إباحتها يوم الفتح، وهما واحد (¬8) ثم حرمت يومئذٍ، وقد سلف ¬

_ (¬1) في هـ (وبث). (¬2) في الأصل (أبو حنيفة)، وما أثبت من هـ. (¬3) البخاري (4615)، ومسلم (1404)، ابن أبي شيبة (4/ 292)، والبيهقي (7/ 79، 200). (¬4) سيأتي تخريجه في ص 212، ت (5). (¬5) مصنف عبد الرزاق (14023). (¬6) مسلم (1406). انظر: التعليق رقم (3) ص 196. (¬7) مسلم (1404)، والبيهقي (7/ 204). (¬8) غزوة أوطاس هي غزوة حنين، وحنين وأوطاس موضعان في مكان بين مكة والطائف وتسمى غزوة هوازن، لأنهم الذين أتو لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

تحريمها يوم خيبر، وهو قبل الفتح، وجمع القاضي عياض بين روايات الإِباحة والتحريم فقال: يحمل ما جاء من التحريم يوم خيبر وعمرة القضاء ويوم الفتح ويوم أوطاس أنه جدد النهي عنها في هذه المواطن، لأن حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مطعن فيه، بل هو ثابت من رواية الثقات الأثبات لكن في رواية سفيان بن عيينة النهي عنها وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. وروى الحميدي (¬1) فيما حكاه البيهقي (¬2) عنه أن سفيان ذهب ¬

_ (¬1) الحميدي (37). (¬2) سنن البيهقي (7/ 201، 202). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 168، 169): قوله (زمن خيبر): الظاهر أنه ظرف للأمرين، وحكى البيهقي عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله: "يوم خيبر"، يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة، قال البيهقي: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة، وقد مضى في غزوة خيبر من كتاب المغازي ويأتي في الذبائح من طريق مالك بلفظ: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية"، وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضًا, وسيأتي في ترك الحيل في رواية عبيد الله بن عمر عن الزهري "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر"، وهذا أخرجه مسلم وزاد من طريقه "فقال: مهلًا يا ابن عباس"، ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه "بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية"، وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري مثل رواية مالك، والدارقطني من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثلاثتهم عن الزهري كذلك، وذكر السهيلي أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ: "نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك أو في غير ذلك اليوم". اهـ. وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ "نكاح" كما بينته، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمر وزهير بن حرب جميعًا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وهذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة، لكن قال: "زمن"، بدل "يوم"، قال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير في لفظ الزهري، وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، ثم راجعت "مسند الحميدي" من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السلمي عنه فقال بعد سياق الحديث: "قال ابن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة"، قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس، وقال البيهقي: نبه أن يكون كما قال لصحة الحديث في أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص فيها بعد ذلك ثم نهى عنها، فلا يتم احتجاج علي إلَّا إذا وقع النهي أخيرًا لتقوم به الحجة على ابن عباس، وقال أبو عوانة في صحيحه: سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما =

إلى أن هذا التاريخ يرجع إلى لحوم الحمر الأهلية خاصةً والمعنى: أنه حرم المتعة ولم يتبين متى تحريمها، ثم قال: ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر فيكون يوم خيبر لتحريم لحوم الحمر خاصةً ولم يتبين وقت تحريم المتعة ليجمع بين الروايات قبل، وهذا هو الأشبه أن تحريم المتعة كان بمكة. وأما تحريم لحوم الحمر: فبخيبر بلا شك قال القاضي: وهذا حسن لو ساعده سائر الروايات عن غير سفيان، قال: والأولى ما قلناه إنه كرر التحريم، لكن يبقى بعد هذا ما جاء من ذكر إباحته في عمرة القضاء ويوم [الفتح] (¬1) ويوم أوطاس. فيحتمل أنه -عليه الصلاة والسلام- أباحها لهم للضرورة بعد التحريم، ثم حرمها تحريمًا مؤبدًا، وسقط رواية إباحتها يوم حجة الوداع، لأنها مروية عن سبرة الجهني وإنما روى الثقات الأثبات عنه الإِباحة يوم فتح مكة والذي في حجة الوداع إنما هو التحريم فيؤخذ من حديثه ما اتفق عليه جمهور الرواة ووافقه عليه غيره من الصحابة من النهي عنها يوم ¬

_ = نهى عنها يوم الفتح. اهـ. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليًا لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه، ويؤيد ظاهر حديث علي ما أخرجه أبو عوانة وصححه من طريق سالم بن عبد الله "أنَّ رجلًا سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام، فقال: إن فلانًا يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين". اهـ. (¬1) في هـ (فتح مكة).

الفتح، ويكون تحريمها يوم حجة الوداع تأكيدًا وإشاعة له كما سبق. وأمَّا قول الحسن: "إنها كانت في عمرة القضاء لا قبلها ولا بعدها" فترده الأحاديث الصحيحة في تحريمها يوم خيبر وهي قبل عمرة القضاء وما جاء في إباحتها يوم فتح مكة ويوم أوطاس مع أن الرواية بهذا إنما جاءت عن سبرة وهو راوي الروايات الأخرى، وهي أصح فيترك ما خالف الصحيح، وقد قال بعضهم هذا مما تداوله التحريم والإباحة والنسخ مرتين أي كما في شأن القبلة، فإنها نسخت مرتين، وكذا في تحريم لحوم الحمر الأهلية, قال: هذا القائل ولا أحفظ لذلك رابعًا: واختار النووي (¬1) -رحمه الله- في الجمع وجهًا آخر، فقال: الصواب والمختار أن التحريم والإِباحة كانا مرتين، فكانت حلالًا قبل خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم الفتح، وهو يوم أوطاس لاتصالها، ثم حرمت يومئذٍ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، ولا يجوز أن يقال: الإِباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح، لما اختاره المازري (¬2) والقاضي (¬3) لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإِباحة صريحة في ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 181). (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 131). (¬3) ذكره إكمال إكمال المعلم (4/ 12، 13).

ذلك فلا يجوز إسقاطها ولا مانع يمنع من تكرير الإِباحة (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 169، 171): قال السهيلي: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روى في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال: ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح. اهـ. فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع، وبقي عليه حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل، فأما أن يكون ذهل عنها أو تركها عمدًا لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة. فأما رواية تبوك فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بثنية الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا تمتعوا منهن، فقال: هدم المتعة النكاح والطلاق والميراث"، وأخرجه الحازمي من حديث جابر قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة قد كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له، قال: فغضب وقام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذٍ فسميت ثنية الوداع". وأما رواية الحسن وهو البصري فأخرجها عبد الرزاق من طريقه وزاد: "ما كانت قبلها ولا بعدها"، وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة. وأما غزوة الفتح فثبتت في صحيح مسلم كما قال: وأما أوطاس فثبتت في مسلم أيضًا من حديث سلمة بن الأكوع. وأما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حجة الوداع فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه. وأما قوله لا مخالفة بين أوطاس والفتح ففيه نظر، لأن الفتح كان في رمضان ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكة حتى حرمت، ولفظه "أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفتح، فأذن لنا في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي -فذكر قصة المرأة، إلى أن قال- ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حرمها"، وفي لفظ له: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا بين الركن والباب وهو يقول بمثل حديث ابن نمير وكان تقدم في حديث ابن نمير أنه قال: "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، وفي رواية: "أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها"، وفي رواية له: "أمر أصحابه بالتمتع من النساء -فذكر القصة قال-: فكن معنا ثلاثًا، ثم أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفراقهن"، وفي لفظ: "فقال إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة"، فأما أوطاس فلفظ مسلم: "رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها"، وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما, ولو وقع في سياقه أنهم تمتعوا من النساء في غزوة أوطاس لما حسن هذا الجمع، نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، إذا تقرر ذلك فلا يصح عن الروايات شئ بغير علة إلَّا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدم. وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته، فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة كما في الفتح وأوطاس سواء. وأما قصة تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديمًا ثم وقع التوديع منهن حينذٍ والنهي، أو كان النهي وقع قديمًا فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالًا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال. وأما حديث جابر فلا يصح، فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. وأما حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله - صلى الله عليه وسلم - أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك. فلم يبقَ من المواطن كما قلنا صحيحًا صريحًا سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدم، وزاد ابن القيم في "الهدي" أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي يقع يوم خيبر أو لم يقع هناك نكاح متعة، لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإِسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهن فلا ينهض الاستدلال بما قال، قال الماوردي في "الحاوي": في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان: أحدهما: أن التحريم تكرر ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن علمه لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها. والثاني: أنها أبيحت مرارًا. ولهذا قال في المرة الأخيرة: "إلى يوم القيامة"، إشارةً إلى أن التحريم الماضي كان مؤذنًا بأن الإِباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة أصلًا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويرد الأول التصريح بالإِذن فيها في الموطن المتأخر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر، ثم الفتح. وقال النووي: الصواب أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس، ثم حرمت تحريمًا مؤبدًا، قال: ولا مانع من تكرير الإِباحة، ونقل غيره عن الشافعي أن المتعة نسخت مرتين، وقد تقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود في سبب الإِذن في نكاح المتعة وأنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة فأذن لهم فى الاستمتاع، فلعل النهي كان يتكرر في كل موطن بعد الإِذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن، والله أعلم. والحكمة في جمع على بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس كان يرخص في الأمرين معًا، وسيأتي النقل عنه في الرخصة في الحمر الأهلية في أوائل كتاب الأطعمة، فرد عليه علي في الأمرين معًا وأن ذلك يوم خيبر، فأما أن يكون على ظاهره وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد، وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليًا لقصر مدة الإِذن وهو ثلاثة أيام كما تقدم. والحديث في قصة تبوك على نسخ الجواز في السفر لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر مع أنه كان سفرًا بعيدًا والمشقة فيه شديدة كما صرح به في الحديث في توبة كعب، وكان علة الإِباحة وهي الحاجة الشديدة انتهت من بعد فتح خيبر ومكة بعدها، والله أعلم. والجواب عن قول السهيلي أنه لم يكن في خيبر نساء يستمتع بهن ظاهر مما بينته من الجواب عن قول ابن القيم لم تكن الصحابة يتمتعون باليهوديات، وأيضًا فيقال كما تقدم لم يقع في الحديث التصريح بأنهم استمتعوا في خيبر، وإنما فيه مجرد النهي، فيؤخذ منه أن التمتع من النساء كان حلالًا، وسبب تحليله ما تقدم في حديث ابن مسعود حيث قال: "كنا نغزو وليس لنا شيء -ثم قال-: فرخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب"، فأشار إلى سبب ذلك وهو الحاجة مع قلة الشيء، وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البر بلفظ: "إنما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في =

تتمات تتعلق بنكاح المتعة: قال القاضي عياض (¬1): اتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل لا ميراث فيه، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلَّا الروافض، وكان ابن عباس يقول بإباحتها وروي عنه أنه رجع عنه، وجزم به الترمذي في "جامعه" (¬2) في حكايته عنه، ثم رُوي عنه أنها ¬

_ = المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها"، فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإِباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك لأنها بقرب المدينة، فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة، لكن مقيدًا بثلاثة أيام فقط دفعًا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي من رواية سلمة، وهكذا يجاب عن كل سفرة ثبت فيها النهي بعد الإِذن. وأما حجة الوداع، فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجردًا إن ثبت الخبر في ذلك، لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلَّا فمخرج حديث سبرة راويه هو من طريق ابنه الربيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصة واحدة فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصير إليها، والله أعلم. اهـ. (¬1) ذكره في المرجع السابق. (¬2) سنن الترمذي (1122)، ورُوي هذا عن عائشة، القاسم بن محمَّد وغيرهما. سنن البيهقي (7/ 206)، والاستذكار (16/ 297).

نسخت بقوله -تعالى-: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} (¬1)، وقال: فكل فرج سوى هذين فهو حرام. قال المازري (¬2): وتعلقت طائفة من المبتدعة بالأحاديث الواردة بإباحتها، وقد أسلفنا نسخها [و] (¬3) بقوله -تعالى-: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وفي قراءة ابن مسعود (¬4) "وإلى أجل" قال: وهي شاذة لا يحتج بها قرآنًا ولا خبرًا، ولا يلزم العمل بها. قال القاضي (¬5): وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه، سواء كان قبل الدخول أو بعده إلَّا ما حكي عن زفر (¬6) من قوله "من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه"، وكأنه جعل ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح فإنها تلغى ويفسخ النكاح، قال: ويرده قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن كان عنده شيء منهن فليخل سبيلها" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: آية 6. (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 131)، ساقه بمعناه. (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) وأيضًا قراءة ابن عباس ذكرها ابن شاهين -رحمنا الله وإياه- في الناسخ والمنسوخ (366)، ومصنف عبد الرزاق (7/ 498)، والاستذكار (16/ 295)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 130). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 13). (¬6) انظر: الاستذكار (16/ 301). (¬7) من حديث سبرة بن معبد، أخرجه مسلم (1406)، وابن ماجه (1962)، =

وقال الشيخ تقي الدين (¬1): وما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز فهو خطأ قطعًا، وقال أكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت، وعدّاه مالك بالمعنى إلى توقيت الحل، وإن لم يكن في عقد كما إذا علق طلاق امرأته بوقت لابدَّ من مجيئه وقع عليه الطلاق الآن، وعلله أصحابه بأن ذلك تأقيت للحل، وجعلوه في معنى نكاح المتعة. واختلف أصحاب مالك هل يحد الواطىء في نكاح المتعة، ولكن يعزر ويعاقب (¬2). ومذهب الشافعي: أنه لا يحد لشبهة العقد [و] (¬3) الخلاف فيه ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين (¬4) في أن الإجماع هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعًا عليها، والأصح عند أصحابنا كما ¬

_ = وابن الجارود (699)، والحميدي (847)، والدارمي (2/ 140)، وأحمد (3/ 404، 405)، وعبد الرزاق (14041)، والبيهقي (7/ 203)، والطبراني (6515، 6520). انظر: زيادة في التخريج ص 196، ت (3). (¬1) إحكام الأحكام (4/ 195). (¬2) العبارة هكذا في المفهم (4/ 93)، واختلف أصحابنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد؟ أو يدفع الحدُّ بالشبهة ويلحق الولد على قولين، ولكن يعزَّر ويعاقب. اهـ. محل المقصود منه. (¬3) في شرح مسلم زيادة (شبهة). (¬4) المحصول (4/ 190، 191) , والإِحكام للآمدي (1/ 278)، وتمهيد الأسنوي (139)، والبحر المحيط (4/ 528، 530)، والمستصفى (1/ 205)، والمنتقى للباجي (3/ 336).

نقله عنهم النووي في "شرحه لمسلم" (¬1) أنه لا يرفعه، بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعًا عليها أبدًا، قال: وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني. قلت: وهو مذهب الصيرفي (¬2) أيضًا، واختار ابن الحاجب أنه يرفعه ويحتج به، ونقله في "البرهان" عن معظم الأصوليين. وحكى القرطبي (¬3): خلافًا عن المالكية في لحوق هذا الولد أيضًا. قال القاضي (¬4): وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا ونيته أن لا يمكث معها إلَّا مدة نواها فنكاحه صحيح وحلال وليس نكاح متعة وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور، ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. وشذ الأوزاعي (¬5) فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه. ولو تزوجها على أن لا يأتيها نهارًا أو لا يأتيها ليلًا، فروى محمَّد عن ابن القاسم عن مالك أنه مكروه ولا أحرمه, ¬

_ (¬1) شرح مسلم. (¬2) قال الزركشي في البحر المحيط (4/ 528 , 530)، أنه لم يرَ قول الصيرفي في المنسوب إليه في كتابه، بل الظاهر كلامه يشعر بالوفاق في مسألة عدم استقرار الخلاف. اهـ. (¬3) المفهم (5/ 2338). (¬4) إكمال إكمال المعلم (4/ 114). (¬5) انظر: الاستذكار (16/ 301).

قال ابن القاسم: ويفسخ قبل البناء ويثبت بعده (¬1) [صداق] (¬2) [المثل] (¬3)، وقال ابن الجلاب: يفسخ بعده ويجب فيه المسمى، وبه قال محمَّد [منهم] (¬4). فرع: لو قال نكحتها متعة فوجهان لأصحابنا وجه الصحة أن المصحح وهو لفظ النكاح قد وجد، وقوله: "متعة"، يحتمل أنه يريد به هذه المتعة المعنى اللغوي وهو الاستمتاع الذي هو [قصد] (¬5) العقد فنزل الإطلاق عليه. تنبيه: قول جابر في "صحيح مسلم" (¬6): "استمتعنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر" محمول على أنه لم يبلغه النسخ. وقوله فيه: "حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث" يعني حين بلغه النسخ. [الوجه الرابع] (¬7): من الكلام على الحديث فيه أيضًا تحريم لحم الحمر الأهلية وهو مذهب الشافعي والعلماء كافةً إلَّا طائفة يسيرة ¬

_ (¬1) ذكره الباجي في المنتقى (3/ 335)، وأيضًا ذكره في مبحث نكاح المتعة في التفريع (2/ 49). (¬2) غير موجودة في المرجع السابق زيادة من النسخ. (¬3) زيادة من ن هـ وغير موجودة في المرجع السابق. (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) في الأصل (قضية)، وما أثبت من ن هـ. (¬6) صحيح مسلم (1407)، والناسخ والمنسوخ لابن شاهين (365) ومصنف عبد الرزاق (14021). (¬7) في هـ (الوجه الخامس).

من السلف، فعن ابن عباس وعائشة وبعض السلف: الإباحة والتحريم. وروي عن مالك: الكراهة والتحريم والأظهر أنها مغلظة الكراهة جدًّا، والثاني: أنها محرمة بالسنة، أي بهذا الحديث وغيره. ووقع بين الصحابة اضطراب في علة التحريم، هل حرمت لعينها، أو لأنها لم تخمس، أو لأنها ظهر فكره أن تذهب حمولة الناس، [أو لأنها محرمة بالسنة -أي بهذا الحديث وغيره- أو لإِنها] (¬1) جِوالة بالقرية، أي تأكل الجَلة -بفتح الجيم- فهذا منشأ الخلاف المذكور لأرباب هذه [العلل] (¬2)، مذهب التحريم وما عدا التعليل الأول ذكره البخاري في صحيحه (¬3) في باب غزوة خيبر فذكر عقب حديث ابن أبي أوفى: "لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئًا"، قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس ثم قال: وقال بعضهم: نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة ثم ذكر بعده بأسطر عن ابن عباس مسندًا "لا أدري أنهى عنه من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم" (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ (العلة). (¬3) البخاري فتح (7/ 481، 482). (¬4) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (8/ 655، 656): قوله (ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس): و"أبى" من الإِباء أي امتنع، والبحر صفة لابن عباس قيل له لسعة علمه، وهو من تقديم الصفة على الموصوت بالغة في تعظيم الموصوف كأنه صار علمًا عليه، وإنما ذكر لشهرته بعد ذلك لاحتمال خفائه على بعض الناس، ووقع في رواية ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = جريج: "وأبى ذلك البحر يريد ابن عباس"، وهذا يشعر بأن في رواية ابن عيينة إدراجًا. قوله: (وقرأ قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرمًا) في رواية ابن مردويه وصححه الحاكم من طريق محمَّد بن شريك عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، قال: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا"، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحلَّ حلاله وحرَّم حرامه، فما أحل فيه فهو حلال، وما حرم فيه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه: "قل لا أجد إلى آخرها"، والاستدلال بهذا للحل إنما يتم فيما لم يأتِ فيه نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس، وقد تقدم في المغازي عن ابن عباس أنه توقف في النهي عن الحمر: هل كان لمعنى خاص، أو للتأبيد؟ ففيه عن الشعبي عنه أنه قال: لا أدري أنهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمها البتة يوم خيبر؟ وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال: "إنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر"، وسنده ضعيف، وتقدم في المغازي في حديث ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس"، وقال بعضهم: نهى عنها لأنها كانت تأكل العذرة، قلت: وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو كانت انتهبت حديث أنس المذكور قبل هذا حيث جاء فيه "فإنها رجس"، وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة، قال القرطبي: قوله: "فإنها رجس" ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج. وقال ابن دقيق العيد: الأمر بإكفاء القدر ظاهر أنه سبب تحريم لحم الحمر، وقد وردت علل أخرى إن صح رفع شيء منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة، وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه، وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والإِذن في الخيل مقرونًا، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها. والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدًا فهو مقدم، وأيضًا فنص الآية خبر عن الحكم الموجود عند نزولها، فإنه حينئذٍ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلَّا ما ذكر فيها، وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة، وفيها أيضًا تحريم ما أهل لغير الله به والمنخنقة إلى آخره، وكتحريم السباع والحشرات، قال النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا لهم إلَّا عن ابن عباس، وعند المالكية ثلاث روايات، ثالثها الكراهة، وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود عن غالب بن الحر قال: "أصابتنا سنة، فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلَّا سمان حمر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوالي القرية"، يعني الجلالة، وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها. وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية:" أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية فقال: أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر؟ قال: نعم، قال: فأصب من لحومها"، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: "سألت" فذكر نحوه، ففي السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم. قال الطحاوي: لو تواتر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيًا كالخنزير، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي. قلت: ما ادعاه من الإِجماع مردود، فإن كثيرا من الحيوان الأهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر. اهـ. -ساق ابن حجر -رحمنا الله وإياه- على الحديث فوائد منها-. وفي الحديث أن الذكاة لا تطهر ما لا يحل أكله، وأن كل شيء تنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرة واحدة لإطلاق الأمر بالغسل فإنه يصدق بالامتثال بالمرة، والأصل أن لا زيادة عليها، وأن الأصل في الأشياء الإِباحة لكون الصحابة أقدموا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمروا مع توفر دواعيهم على السؤال عما يشكل، وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع أشاع منعه إما بنفسه كأن يخاطبهم وإما بغيره بأن يأمر مناديًا فينادي لئلا يغتر به من رآه فبظنه جائزًا. اهـ. وقد اختلف في سبب النهي عن الحمر على أربعة أقوال، وهي في الصحيح: أحدها: لأنها كانت جوال القرية، كما في حديث غالب هذا، وهذا قد جاء في بعض طرق حديث عبد الله بن أبي أوفى: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها، فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أكفئوا القدور، ولا تأكلوا من =

وحكى الماوردي (¬1): من أصحابنا وجهين في أنها حرمت بالنص أو باستخباث العرب لها، وأما حديث "أطعم أهلك من سمين حمرك" أخرجه أبو داود (¬2) فاتفق الحفاظ على تضعيفه كما قاله النووي في "شرح (¬3) المهذب"، ثم لو صحَّ يحمل على حال ¬

_ = لحوم الحمر شيئًا"، فقال أناس: إنما نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تخمس، وقال آخرون: نهى عنها البتة. وقال البخاري في بعض طرقه: "نهى عنها البتة، لأنها كانت تأكل العذرة"، فهاتان علتان. العلة الثالثة: حاجتهم إليها، فنهاهم عنها إبقاءً لها، كما فى حديث ابن عمر المتفق عليه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية"، زاد في طريق أخرى "وكان الناس قد احتاجوا إليها". العلة الرابعة: أنه إنما حرمها لأنها رجس في نفسها، وهذه أصح العلل، فإنَّها هي التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظه، كما في الصحيحين عن أنس قال: "لما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر أصبنا حمرًا خارجة من القرية، وطبخناها، فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان"، فهذا نص في سبب التحريم، وما عدا هذه من العلل فإنما هي حدس وظن ممن قاله. اهـ. (¬1) الحاوي الكبير (19/ 167). (¬2) أبو داود (3809)، والعلل للرازي (1491)، والبيهقي (9/ 332)، وابن سعد (6/ 31)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 656): وإسناده ضعيف، والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها. اهـ. وضعفه النووي في شرح مسلم (13/ 92)، والقرطبي في المفهم (5/ 224). (¬3) المجموع شرح المهذب (9/ 6). =

الاضطرار. وتقييد الحديث "بالأهلية" وفي رواية "بالإِنسية" يخرج الوحشية فإنها من الطيبات ولا خلاف في حلها. ¬

_ = وقد ساق ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن: الأحاديث الواردة في تحريم الحمر الأهلية (5/ 317، 324).

الحديث التاسع

الحديث التاسع 327/ 9/ 62 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (¬1). الكلام عليه من وجوه: وهو حديث عظيم أصل من أصول الأحكام: أحدها: المراد [(¬2)] "بالأيم" [هنا] (¬3) الثيب خاصة، فإنها جعلت مقابلة للبكر وجمع الأيم أيامى، وأصله أيائم فنقلت (¬4) ¬

_ (¬1) البخاري (5136)، ومسلم (1419)، والنسائي (6/ 85)، والسنن الكبرى له (3/ 281، 282)، وأبو داود (2092)، والترمذي (1107)، وابن ماجه (1871)، والدارمي (2/ 138)، وعبد الرزاق (6/ 143)، وأحمد (2/ 250، 279، 425، 434)، والبيهقي (7/ 119، 122)، والدارقطني (3/ 238)، وابن الجارود (707)، وسعيد بن منصور (544). (¬2) في الأصل زيادة (بها). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في المصباح المنير (33) زيادة (الميم إلى موضع الهمزة ثم قلبت الهمزة ألفًا وفتحت الميم تخفيفًا).

والأيمة في اللغة: العزوبة ورجل: أيم، وامرأة: أيم، وحكى أبو عبيدة: أيمة، وأيم في الرجال، كالمستعار من النساء فإنه أكثر ما يكون فيهن، و [أمَت] (¬1) المرأة من زوجها تئميم أيّمًا وأيْمَةً وأْيُومًا (¬2)، وقد أمت هي وأمْتُ أنا، وفي الحديث: "كان يتعوذ من الأيمة" -وهي طول العزوبة-، و"العَيْمة" -وهي شدة الشهوة للبن-، و"الغَيْمَة" -وهي شدة العطش (¬3) -، ومن كلامهم "الغزو مأيمة" أي بقتل الرجال فتصير النساء أيامى، وللأيم معانٍ أُخر: منها بتشديد الياء وتخفيفها الحية (¬4). ونقل القاضي عياض (¬5): اتفاق أهل اللغة على أنه يطلق على كل امرأة لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكرًا أو ثيبًا، ونقله عن إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما (¬6). ¬

_ (¬1) في ن هـ (أمة). (¬2) في لسان العرب زيادة (1/ 290) (وإِيمة، وتأيَّمَتْ زمانًا وأْتامَتْ وأْتَيَمْتها). (¬3) الحديث ذكره في النهاية (1/ 86)، وغريب ابن الجوزي (1/ 49)، والغريبين للهروي (1/ 200)، وعمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (34). (¬4) انظر: المراجع السابقة. لسان العرب (1/ 290)، والفائق (1/ 239، 249)، وغريب الخطابي (3/ 47). (¬5) مشارق الأنوار (1/ 55، 56)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 28، 29)، بدون ذكر الاتفاق، وذكره أيضًا ابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 315). (¬6) الاستذكار (16/ 27).

وحكى الماوردي (¬1) قولين لأهل اللغة في الأيم: أحدهما: هذا، وثانيهما: أنه لا يقال أيم إلَّا إذا نكحت ثم حلت بموت أو طلاق بكرًا كانت أو ثيبًا. ثم اختلف الفقهاء في المراد بها هنا على قولين: أحدهما: أنها الثيب، قاله علماء الحجاز والفقهاء [كافة] (¬2) وهو أكثر استعمالها في اللغة أيضًا (¬3). وثانيهما: أنها كل امرأة لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا، قاله الكوفيون وزفر، قالوا: فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها، وعقدها النكاح على نفسها صحيح، وبه قال الشعبي والزهري: قالوا: وليس الولي من أركان صحة النكاح وإنما هو من تمامه. وقال الأوزاعي و [(¬4)] أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يتوقف صحة النكاح على إجازة الولي. الوجه الثاني: أصل الاستئمار طلب الأمر. وأصل الاستئذان طلب الإِذن، فمعنى "حتى تستأمر" يطلب الأمر منها "وحتى تستأذن" يطلب الإِذن منها. ¬

_ (¬1) تفسير الماوردي (4/ 97). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) الاستذكار (16/ 20، 21). (¬4) في هـ زيادة (قال).

وقوله: "وكيف إذنها؟ " راجع إلى البكر، وفيه تعليم كيفية استئذان البكر، وإنما سألوا عن الإِذن دون الأمر لتردد الإِذن بين القول والسكوت بخلاف الأمر، فإنه صريح في القول، وإنما جعل السكوت إذنًا في حقها لأنها قد تستحي أن تفصح به، فتظهر رغبتها في النكاح وأبدى بعض المالكية لاستئذان الأب لابنته البكر فائدة، وهي تطييب قلبها واستعلام حالها فقد تكون موصوفة بما يخفى على الأب مما يمنع النكاح فإذا استأذنها أعلمته. قال القاضي عياض (¬1): وحمل مالك البكر في هذا الحديث على اليتيمة، لأنها التي تستأذن في نفسها، وحمله غيره على ظاهره على الندب في ذات الأب، وعلى الوجوب في اليتيمة. الوجه الثالث: الحديث دال على أن إذن البكر سكوتها، وهو عام بالنسبة إلى لفظ البكر ولفظ النهي في قوله: "لا تنكح" إن حمل على الكراهة دون التحريم كان دليلًا على استحباب الاستئذان، وهو خاص عند الشافعي بالبكر البالغة إذا كان الولي أبًا أو جدًا، فإن كان غيرهما فلابدَّ من إذنها، ويكفي السكوت على الأصح كما سيأتي، ووافقه ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق وغيرهم. وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وغيره من الكوفيين: يجب الاستئذان في كل بكر بالغة وإن حمل على التحريم تعين أحد الأمرين إما أن يكون المراد بها من عدا الصغيرة فعلى هذا لا تخبر البكر البالغ وهو مذهب أبي حنيفة، وحكاه الترمذي في ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 29).

"جامعه" (¬1) عن أكثر أهل العلم وتمسكه بالحديث قوي، كما قاله الشيخ تقي الدين (¬2) لأنه أقرب إلى العموم في لفظ: "البكر"، وربما يزاد على ذلك بأن يقال: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذن للصغيرة، فلا تكون داخلة تحت الإرادة، ويختص الحديث بالبوالغ، فيكون أقرب إلى التأويل، وقد ترجم البخاري (¬3) على هذا الحديث باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلَّا برضاهما. وإما أن يكون المراد اليتيمة، وقد اختلف قول أصحاب الشافعي فيها هل يكتفى فيها بالسكوت أم لا؟ والحديث يقتضي الاكتفاء [منه] (¬4) وهو الأصح، وقد ورد مصرحًا في حديث آخر صحيح "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها"، رواه أبو داود (¬5) [والنسائي] (¬6) من حديث ابن عباس، وقال البيهقي في "خلافياته": رواته ثقات. وفي الترمذي [و] (¬7) قال: [حديث] (¬8) [حسن، من حديث ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3/ 406). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 197). (¬3) الفتح (9/ 191)، (ح 5136). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) أبو داود (2100)، والنسائي (6/ 84، 85)، والدارقطني (3/ 238، 239)، والبيهقي (7/ 118)، وأحمد (1/ 261)، وعبد الرزاق (10299)، وابن حبان (4089)، والاستذكار (16/ 47). (¬6) في هـ ساقطة. (¬7) في هـ ساقطة. (¬8) زيادة من هـ.

أبي هريرة] (¬1): "اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبت، فلا جواز عليها" (¬2)، يعني إذا أدركت فردت، وجعل الشيخ تقي الدين في الشرح (¬3) هذا الخلاف للشافعي نفسه لا لأصحابه، وقال: مال إلى ترجيح [الاكتفاء به] (¬4) من يميل إلى الحديث من أصحابه، وغيرهم من أهل الفقه يرجح الآخر. ونقل ابن عبد البر (¬5) عن مالك: أن سكوت البكر اليتيمة قبل إذنها وتفويضها لا يكون رضى منها بخلاف ما إذا كان تفويضها إلى وليها. وفرق بعض الشافعية بين الأب والجد وغيرهما، فالنفي بالسكوت بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما، والصحيح الذي عليه الجمهور أن السكوت كاف في جميع الأولياء لعموم الحديث. فرع: مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يشترط إعلام البكر بأن ¬

_ (¬1) العبارة في سنن الترمذي (3/ 409)، حديث أبي هريرة حديث حسن. (¬2) أبو داود (2093، 2094)، والترمذي (1109)، والبيهقي (7/ 120، 122)، وأحمد (2/ 259، 475)، وعبد الرزاق (10297)، وابن أبي شيبة (4/ 138). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 198). (¬4) غير موجودة في المرجع السابق. (¬5) الاستذكار (16/ 60).

سكوتها كافٍ، [وشرطه] (¬1) بعض المالكية (¬2)، واتفق أصحاب مالك على استحبابه، وقال ابن شعبان منهم: يقال لها ذلك ثلاث مرات إن رضيت فاصمتي وإن كرهت فانطقي، قال عبد الملك: ويطال المقام عندها لئلا تخجل فيمنعها ذلك من المسارعة إلى الإِنكار، وروى محمَّد عن مالك أن إنكارها بالقول لا بالصمت، وقال ابن الجلاب: إن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على [الكراهة لم] (¬3) تنكح [(¬4)]. وعند الشافعية: يحصل الغرض ضحكت أو بكت إلَّا إذا بكت مع الصياح وضرب الخد فإنه لا يكون رضا. الوجه الرابع: الحديث دال أيضًا على اشتراط استئمار الثيب في نكاحها وهو بالنطق، وعن الحسن (¬5) أن للأب إجبارها وهو شاذ فإن كانت صغيرة لم تزوج عند الشافعية لأن عبارتها ملغاة خلافًا للحنفية. وعند المالكية ثلاثة أقوال في افتقار أبيها إلى إذنها. ثالثها: يفتقر ما لم تبلغ فتسقط، وسواء زالت البكارة بوطىء حلال أو حرام أو شبهة ولا أثر لزوالها بلا وطء لسقطة أو أصبع أو طول ¬

_ (¬1) في هـ (وشرط). (¬2) انظر: المنتقى (3/ 267). (¬3) في المرجع السابق (كراهية النكاح فلا) التفريع (2/ 34). (¬4) في المرجع السابق زيادة (مع ذلك). (¬5) انظر: المحلى (11/ 36 - 42)، والمجموع (16/ 165، 172).

تعنيس -وهو الكبر- على الأصح عندهم وفيه نظر [لأنها لم تمارس الرجال وهي على بكارتها وحيائها وكذا في الوطىء في الدبر] (¬1). الخامس: الحديث دال أيضًا على اشتراط الولي في النكاح وفي المسألة مذاهب: أحدها: يشترط وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وعن مالك أنها إن كانت دنيئة زوجت نفسها وإن كانت شريفة فلابدَّ من الولي. ثانيها: لا، مطلقًا بل لها أن تزوج نفسها بغير إذنه وهو قول أبي حنيفة. ثالثها: يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها ولا يجوز بغير إذنه، قاله أبو ثور. رابعها: أنه يتوقف صحته على إجازته، قاله الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن. خامسها: يشترط في تزويج البكر دون الثيب، احتج الأولون بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬2)، قال الشافعي (¬3): وهي أصرح دليل على اعتباره وإلَّا لما كان لعضله معنى، والحديث ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) سورة البقرة: آية 232. (¬3) انظر: الاستذكار (16/ 39 - 44).

الصحيح المشهور: "لا نكاح إلَّا بولي" (¬1)، حسنه الترمذي وصححه البخاري وابن المديني وهو مقتضٍ لنفي الصحة وبالحديث الآخر الصحيح. "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" ثلاث مرات (¬2)، حسنه الترمذي وصححه ابن حبان (¬3) والحاكم (¬4)، وقال: على شرط الشيخين، وقال ابن معين: إنه أصح ما في الباب. قلت: وهو حديث كثير الفوائد استنبط الشافعي منه خمسة وثلاثين حكمًا ذكرها أصحابنا عنه في تعاليقهم. واحتج داود: بحديث ابن عباس الثابت في "صحيح مسلم" أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها سكوتها" (¬5). ¬

_ (¬1) الترمذي (1101)، والدارمي (2/ 137)، والبيهقي (7/ 107 - 108)، وأبو داود (2085)، وأحمد (4/ 394)، والدارقطني (3/ 218)، والحاكم (2/ 170)، وابن الجارود (702). (¬2) الترمذي (1102)، وأبو داود (2083)، وابن ماجه (1879)، والدارمي (2/ 137)، والبيهقي (7/ 105)، ومعرفة السنن والآثار (10/ 29)، والأم (5/ 13)، وأحمد (6/ 47، 165)، وعبد الرزاق (10472)، وابن أبي شيبة (4/ 128)، والدارقطني (3/ 221، 225). (¬3) ابن حبان (4074). (¬4) الحاكم (2/ 168). (¬5) من رواية ابن عباس، مسلم (1421)، والترمذي (1108)، وأبو داود (2098)، والنسائي (6/ 84)، وابن ماجه (1870)، والدارقطني (3/ 239)، والبيهقي (7/ 118، 122)، وابن الجارود (709)، والبغوي =

وأجاب أصحابنا [عنه] (¬1): بأنها "أحق" أي شريكة في الحق بمعنى أنها لا تجبر وهي أيضًا "أحق" في تعيين الزوج، وناقض أيضًا مذهبه في تفرقته المذكورة فإنه إحداث قول ثالث في مسألة مختلف فيها لم يسبق إليه ومذهبه أنه لا يجوّز إحداث مثل هذا (¬2). ¬

_ = (2254)، والموطأ (2/ 524)، والدارمي (2/ 138)، وسعيد بن منصور (556)، وأحمد (1/ 219، 241، 274، 355). (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 48): قال أبو عمر: (ليس للولي مع البنت أمر واليتيمة تستأمر). خالف داود أصله في هذه المسألة، وقال فيها بالمجمل والمفسر، وهو لا يقول بذلك، فجعل قوله: "لا نكاح إلَّا بولي" مجملًا، وقوله: "الأيّم أحق بنفسها من وليها" مفسرًا، وهما في الظاهر متضادَّان وأصله في الخبرين المتضادين أن يسقطا جميعًا، كأنهما لم يجبا ويرجعا، ويرجع إلى الأصل فيهما، ولو كان الناس عليه، كقوله في استقبال القبلة بالبول والغائط، أسقط فيهما الحدثين، ولم يجعلهما مجملًا مفسرًا، وقال بحديث الإباحة مع ضعفه عنده، لشهادة أصله له، فخالف أصله في هذه المسألة، وخالف أصلًا له آخر. وذلك أنَّه كان يقول: إذا اجتمع في مسألة على قولين، فليس لأحد أن يخترع قولًا ثالثًا، والنَّاس، في هذه المسألة، مع اختلافهم لم يفرقوا بين البكر والثيِّب (من قال أنَّه: لا نكاح للأول، ومن أجاز النكاح بغير ولي كلُّهم لم يفرق بين البكر والثيب) في مذهبه، وجاء داود يقول يفرض بينهما، (بقول) لم يتقدم إليهم. قال أبو عمر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها من وليها"، يحتمل أنه يكون أحق بنفسها ولا حق لغيرها معها، كما زعم داود. اهـ.

واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره فإنها تستقل فيه بلا ولي (¬1)، ¬

_ (¬1) الولي شرط لصحة عقد النكاح عند جمهور العلماء مستدلين بقوله -تعالى-: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}، قال الشافعي: هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلَّا لما كان لعضله معنى، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلَّا بولي"، وهو لنفي الحقيقة الشرعية، إذ لا يصح حمل هذا الحديث على نفي الكمال، لأن كلام الشارع محمول على الحقائق الشرعية أي لا نكاح شرعي أو موجود في الشرع إلَّا بولي. وبحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، باطل، باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"، ولا يفهم من الحديث صحة الزواج بإذن الولي، لأنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له لأن الغالب أن المرأة لا تزوج نفسها بغير إذن وليها. وجاء ما يؤيد ذلك ويؤكده من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها"، فإنه يدل على أن المرأة ليس لها ولاية في الأنكاح لنفسها ولا لغيرها، فلا عبارة لها في النكاح إيجابًا ولا قبولًا، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيرها ولا تزوج غيرها بولاية ولا وكالة, ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة، ويقابل هذا القول رأي أبي حنيفة وأصحابه حيث يقولون: ينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي، بكرًا كانت أم ثيبًا, والولاية مندوبة مستحبة فقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-، أما عند محمَّد بن الحسن فينعقد موقوفًا. انظر: فتح القدير (2/ 391)، وبدائع الصنائع (2/ 237، 247) مستدلين بما يأتي: من القرآن: أن الله -تعالى- أسند النكاح إلى المرأة في ثلاث آيات في القرآن، قال -تعالى-: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، وقال: =

وحمل الأحاديث المذكورة في اشتراط الولي على الصغيرة، وخص عمومها بهذا القياس وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثير من أهل الأصول (¬1). ¬

_ = {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فالخطاب للأزواج لا للأولياء، كما قال الجمهور وآية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، فهذه الآيات صريحة في أن الزواج يصدر عن المرأة. دليلهم من الحديث "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها" وفي رواية: "لا تنكح الأيم -حتى تستأمر- ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت، وهذه الأحاديث صريحة في جعل الحق للمرأة الثيب في زواجها والبكر مثلها. رد عليهم: أن هذا ليس المقصود به ولاية العقد وإنما المقصود به الاختيار فقط، والراجح في هذا هو رأي الجمهور لأن المرأة ليست كاملة الأهلية في تصرفاتها وحفظًا للفروج فلابدَّ من إشراف وليها عليها, ولذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - السلطان ولي للمرأة عند فقد أوليائها. (¬1) مجمل الأقوال في المسألة، قال الرازي في المحصول (1/ 3/ 148) المسألة الثانية: يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنَّة المتواترة بالقياس، وهو: قول الشافعي وأبي حنيفة، ومالك، وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرًا. ومنهم: من منع منه مطلقًا وهو قول الجبائي، وأبي هاشم أولًا. ومنهم: من فصل ثم ذكر فيه وجوهًا أربعة. اهـ. ثم فصل هذه الوجوه بأدلتها مع ذكر الاعتراضات على الأدلة.

واحتج أبو ثور (¬1) بالحديث السالف: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"، ولأن الولي إنما يراد به ليختار كفؤًا ولدفع العار، وذلك يحصل بإذنه. ورد مذهبه: بأن إذن الولي لا يصح إلَّا لمن ينوب عنه، والمرأة لا يصح أن تكون نائبة عنه، لأن الحق عليها كالوكيل لا يجوز أن يبيع من نفسه. ¬

_ (¬1) انظر: المهذب (2/ 35).

الحديث العاشر

الحديث العاشر 328/ 10/ 62 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظيِّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني، فَبَتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير، وإنما معه مثل هُدبة الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عسيلتك"، قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: "يا أبا بكر، ألا تسمع [إلى] (¬1) هذه ما تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) زيادة من إحكام الأحكام ومتن العمدة. (¬2) البخاري (2639)، ومسلم (1433)، والنسائي (6/ 93، 146، 147، 148)، والترمذي (1118)، وأبو داود (2309)، وابن ماجه (1932)، والدارمي (2/ 161، 162)، والبغوي في التفسير (1/ 208)، وفي السنة (2361)، والطيالسي (1437، 1473، 1560)، وأبو يعلى (4423)، والحميدي (226)، والطبري (4890 - 4893)، وابن الجارود (683)، وأحمد (6/ 34، 37، 96، 193، 226، 229)، والبيهقي (7/ 374)، وسعيد بن منصور (2/ 48)، والموطأ (2/ 531).

أحدها: امرأة رفاعة هذه صحابية وتحصل في اسمها خمسة أقوال: أحدها: أميمة بنت الحارث. ثانيها: تميمة -بفتح التاء وضمها- بنت وهب بن عبيد القرظية. ثالثها: سهيمة. رابعها: عائشة. خامسها: نعيمة (¬1) بنت وهب، وقد ذكرتها معزوة إلى قائليها فيما أفردناه في الكلام على رجال هذا الكتاب في الباب السابع منه في المبهمات، قال الحافظ أبو موسى: اختلف في اسمها فقيل: تميمة، وقيل: سهيمة، وقيل: أميمة، والرميصاء، والغميصاء، قال أبو عمر: لا أعلم لها غير قصتها مع رفاعة ولم يذكر الفاكهي في شرحه غير أنها تميمة -بفتح التاء من غير زيادة, فاستفد ما ذكرناه لك. فائدة: لما ذكر الترمذي في "جامعه" هذا الحديث من طريق عائشة قال: وفي الباب عن ابن عمر (¬2) ¬

_ (¬1) ذكر محقق ابن حبان (9/ 430) (ح 4121) هكذا: تحرف في الأصل إلى نعيمة. اهـ. أقول: فإذا كان أحد الأقوال أنها نعيمة فلا يصير تحريفًا. (¬2) النسائي في الكبرى (3/ 353، 354)، والنسائي (6/ 148)، البيهقي (7/ 375)، وأحمد (2/ 25، 62، 85)، وأبو يعلى (4966)، =

وأنس (¬1) وأبي هريرة والرميصاء [أو] (¬2) الغميصاء (¬3) وهو دال على أن الرميصاء والغميصاء غير امرأة رفاعة المذكورة في حديث عائشة خلاف ما أسلفناه عن الحافظ أبي موسى. ثانيها: في الأسماء الواقعة فيه. أما رفاعة: فهو ابن شموال -بفتح الشين وكسرها-، وفي "ثقات ابن حبان" (¬4) سموال، وقيل: ابن رفاعة القرظي الأنصاري من ¬

_ = وابن ماجه (1933)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 343): ورواه الطبراني، وأبو يعلى إلَّا أنه قال: بمثل حديث عائشة، وهو نحو هذا، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. اهـ. وفيه خلاف ذكره البخاري في تاريخه (4/ 13)، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 428)، والبيهقي (7/ 375) في أحد رواته. (¬1) البيهقي (7/ 375)، ومسند البزار (1505)، وأحمد (3/ 284)، وأبو يعلى (4199)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 343)، وقال: رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى إلَّا أنه قال: فمات عنها قبل أن يدخل بها، والطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، خلا محمَّد بن دينار الطاحي وقد وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وفيه كلام لا يضر. اهـ. (¬2) في المخطوطتين (واو)، وما أثبت من الترمذي. (¬3) من رواية عبد الله بن عباس عند النسائي (6/ 148)، والنسائي في الكبرى (3/ 354)، وسعيد بن منصور (2/ 47)، وفيه بدل الرميصاء، الرميضاء. وجاء عند أبي يعلى (12/ 85)، من رواية عبيد الله والفضل بن عباس، وأحمد (1/ 214)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 343)، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. اهـ. (¬4) (3/ 125).

بني قريظة، وهو خال صفية بنت حيي، روى عنه قال: نزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} الآية فيّ، وفي عشرة من أصحابي. و"القرظي" -بضم القاف وفتح الراء ثم ظاء معجمة ثم ياء النسب- نسبةً إلى قريظة، وهو اسم رجل نزل أولاده حصنًا بقرب المدينة فنسب إليهم، و"قريظة" و"النضر" أخوان من أولاد هارون - عليه السلام -. وأما عبد الرحمن بن الزبير: فهو صحابي وأبوه الزبير -بفتح الزاي وكسر الباء- بلا خلاف قتله الزبير بن العوام يوم بني قريظة كافرًا [ووالد الزبير] (¬1) باطا بلا مد ولا همز، و [(¬2)] يقال: باطيا (¬3)، حكاه صاحب "المطالع"، ولعبد الرحمن ولد يقال له الزبير أيضًا بضم الزاء عند البخاري وغيره وبعضهم فتحه (¬4)، وزعم ابن منده وأبو نعيم في كتابيهما "معرفة الصحابة" (¬5) أن الذي تزوج امرأة ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في هـ زيادة (لا). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 56)، ومشارق الأنوار (1/ 315). (¬4) قال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 221)، والاستذكار (16/ 154)، والزّبير بن عبد الرحمن بن الزَّبير، بفتح الزاي فيهما جميعًا، إلى أن قال: "وروي عن أبي بكير أن الأول مضموم وروى عنه الفتح فيهما كسائر الرواة عن مالك في ذلك، وهو الصحيح، فيهما جميعًا بفتح الزاي، وهم زبيريون بالفتح، في بني قريظة معروفون". اهـ. انظر: مشارق الأنوار (1/ 315)، والإكمال لابن ماكولا (4/ 166)، والمشتبه للذهبي (333)، ومشتبه النسبة (63)، وتهذيب التهذيب (3/ 316). (¬5) انظر: مشارق الأنوار (1/ 315).

رفاعة إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك الأوس بن الخزرج والذي ذكره أبو عمر والمحققون ما أسلفناه من أنه عبد الرحمن بن الزبير بن باطا. قال النووي (¬1): وهو الصواب. وأما خالد بن سعيد بن العاص: فهو أبو سعيد خالد بن سعيد بن العاص بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي، أمه أم خالد بنت حيان بن عبد ياليل من خزاعة أسلم قديمًا لرؤيا رآها، قيل: إنه أسلم قبل الصديق حكاه "ابن حبان" (¬2) وهو من مهاجري الحبشة قدم في السفينة من الحبشة عام خيبر وترجمته مبسوطة في الكتاب السالف الذكر الذي أشرنا إلى إفراده بالأسماء الواقعة في هذا الكتاب، قتل بمرج الصفر، وقيل: بأجنادين، قال ابن زبر (¬3): استشهد بها هو وأخواه أبان وعمرو سنة ثلاث عشرة، قال ابن حبان: واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني زبيد وهو أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم. الوجه الثالث: في ألفاظه: الأول: معنى "بَتَّ طلاقي"، أي طلقني ثلاثًا، وعلى هذا اقتصر النووي في "شرح مسلم" (¬4)، وقال الشيخ تقي الدين (¬5): ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 2). (¬2) الثقات لابن حبان (3/ 103). (¬3) تاريخ مولد العلماء ووفياتهم (1/ 94، 95). (¬4) شرح مسلم (11/ 2). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 200، 201).

تطليقه إياها بالبتات من حيث اللفظ، يحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث، ويحتمل أن يكون بإيقاع آخر طلقة، ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تُحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء، وليس في اللفظ عموم , ولا إشعار بأحد هذه المعاني، وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد، ومن احتج على شيء من هذه الاحتمالات بالحديث فلم يصب لأنه إنما دل على مطلق البت، والدال على المطلق لا يدل على أحد قيديه بعينه. قلت: قد جاء في رواية لمسلم: "أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات" فيترجح الاحتمال الثاني، وفي الموطأ: "إنه طلقها ثلاثًا"، وهو يؤيد الاحتمال الأول، وأدخل [هذا الحديث] (¬1) في باب من أجاز طلاق الثلاث (¬2)، وادعى القرطبي في "مفهمه" (¬3) أن ظاهر قولها "بتَّ طلاقي" قال لها: أنت طالق البتة، وأن فيه حجة لمالك على أن البتة محمولة على الثلاث: في المدخول بها, وليس بجيِّد منه. الثاني: "الهُدبة" -بضم الهاء وإسكان الدال-، قال الجوهري في "صحاحه": وضم الدال لغة وهو طرفه الذي ينسج وجاء في رواية لمسلم: "لما قالت ذلك أخذت بهدبة من جلبابها"، شبهوها بهدبة العين وهو شعر جفنها، فيحتمل أن يكون شبهته لصغره أو لاسترخائه، وعدم انتشاره، وهو الظاهر، وبه جزم ابن ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) البخاري (ح 5260). (¬3) المفهم (5/ 2421).

الجوزي في "غريبه" (¬1)، لأنه يبعد أن يبلغ من الصغر إلى حد لا تغيب منه الحشفة أو مقدارها الذي يحصل به التعليل، وفي رواية للبخاري (¬2): "وكانت معه مثل هُدْبَة الثوب فلم يصل منه إلى شيء يريده"، وفيه: "ولم تكن معه إلَّا مثل الهدبة، فلم يقربني إلَّا هنة واحدة، ولم يصل مني إلى شيء" (¬3). وفي رواية له في كتاب اللباس في باب الثياب الخضر (¬4)، "فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إليه من ذنب إلَّا أن ما معه ليس بأغنى غني من هذه -وأخذت هُدْبة من ثوبها- ¬

_ (¬1) غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 492). (¬2) البخاري الفتح (9/ 371)، (ح 5265)، وكلمة هنة بفتح الهاء وتخفيف النون، وحكى الهروي تشديدها وقد أنكره الأزهري قبله، وقال الخليل: هي كلمة يكنى بها عن الشيء يستحيا من ذكره باسمه. (¬3) قال ابن التين: معناه لم يطأني إلَّا مرة واحدة، يقال: هنَّ امرأته إذا غشيها، ونقل الكرماني أنه في أكثر النسخ بموحدة ثقيلة أي مرة. اهـ من الفتح. وذكره في مشارق الأنوار (2/ 264) إن الذي رواه بالموحدة هو ابن السكن قال: وعند الكافة بالنون ومعناها: هبة: الوقعة يقال: احذر هبة السيف أي وقعته، فهو من هذا، وقيل: هو كناية عن الجماع من هباب الجمل أو التيس إذا اهتاج للجماع، وهما بمعنى متقارب وهب التيس يهب هبيبًا إذا صاح عند الضراب، قال ابن عبد الحكم: مرة. اهـ. وقال في موضع آخر (2/ 271) على رواية من رواه بالنون أي مرة واحدة يقال: ذهبت فهنت كناية من هن. اهـ. (¬4) الفتح (10/ 281)، (ح 5825).

فقال: كَذَبَتْ يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز، تريد رفاعة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: فإن كان ذلك لم تحلين له أو لم تصلحين له حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، قال: فأبصر معه ابنين فقال: أبنوك هؤلاء؟ قال: نعم، قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب". الثالث: تبسمه -عليه الصلاة والسلام- تعجب من جهرها وتصريحها بأمر تستحي النساء من ذكره عادةً أو لرغبتها في زوجها الأول وكراهة الثاني. ومعنى قوله: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة" لأنه إن كان الأمر كما ذكرت من الكناية المذكورة فلا ترجعي إلى رفاعة حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- فهم عنها إرادة فراقه والرجوع إلى رفاعة. و"العسيلة": -بضم العين وفتح السين- تصغير عسلة، وهو كناية عن الجماع تشبيه لذته بلذة العسل وحلاوته، وقال الماوردي (¬1): اختلف في العسيلة فذهب أبو عبيد القاسم بن سلَّام إلى أنها لذة الجماع، أي لأن العرب يسمون كل شيء يستحلونه عَسَلًا. وذهب آخرون: إلى أنها الإِنزال. وذهب الشافعي وأكثر الفقهاء: إلى أنها الجماع، لأن اللذة ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (13/ 213).

زيادة [و] (¬1) الإِنزال [غاية] (¬2)، وقد روى عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة مرفوعًا أن "العسيلة (¬3) هي الجماع". فإن قلت: لم أنثه فقال عُسيلة؟ قلت: عنه أربعة أجوبة (¬4): أحدها: أن العسل يذكر ويؤنث فمن أنثه، قال: في تصغيره عسيلة. ثانيها: أنثه على معنى النطفة وهو ضعيف، لأن الإِنزال لا يشترط. ثالثها: على نية اللذة. رابعها: أنه أراد قطعة من العسل. واستعمال لفظ العسيلة في كل ذلك مجاز: إما [من] (¬5) اللذة كما سلف، وإما من مظنتها وهو الإِيلاج على مذهب جمهور الفقهاء الذين يكتفون بتغييب الحشفة، قال بعضهم: وفي تصغير العسيلة دلالة على أن الوطأة الواحدة كافية في إباحتها لمطلقها. ¬

_ (¬1) زيادة من الحاوي. (¬2) زيادة من الحاوي. (¬3) أحمد (6/ 62)، وأبو يعلى (4813، 4881)، والدارقطني (3/ 252)، وذكره في مجمع الزوائد (4/ 343)، وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى وفيه أبو عبد الملك المكي ولم أعرفه بغير هذا الحديث، وبقية رجاله رجال الصحيح. (¬4) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 58). (¬5) في هـ (في).

[خامسها] (¬1): معنى "ترفع" تجهر برفع صوتها. وفي غير "صحيح مسلم" " [تهجر] (¬2) " من الهجر وهو الفحش من القول. الوجه الرابع في أحكامه: الأول: تحريم المبتوتة بالطلاق الثلاث على مطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، وهو صريح القرآن أيضًا. الثاني: أن المراد بنكاح الثاني عقده ووطئه، وهو قول جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وانفرد سعيد بن المسيب فلم يشترط الوطء واكتفى بالعقد، لقوله -تعالى-: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3)، والنكاح: حقيقة في العقد على الصحيح. وأجاب الجمهور: بأن هذا الحديث مخصص لعموم الآية ومبين للمراد بهذا, ولعل سعيد لم يبلغه الحديث، ولم يقل أحد من العلماء بقوله إلَّا طائفة من الخوارج، كذا قال، وعزا بعضهم إلى "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب؛ أن سعيد بن جبير وطائفة من السلف قالوا به أيضًا. واتفق العلماء: على أن تغييب الحشفة في قبلها كافٍ في ذلك من غير إنزال المني. وشذ الحسن البصري: فشرط الإِنزال، وجعله حقيقة العسيلة. وأجاب الجمهور: بأن إدخال الحشفة يحصل اللذة ¬

_ (¬1) في هـ (رابعها). (¬2) في الأصل (تجهر)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) سورة البقرة: آية 230.

والعسيلة (¬1). الثالث: اشتراط الانتشار في التحليل من حيث إنه يرجع حمل قولها: "إنما معه مثل هدبة الثوب" على الاسترخاء وعدم الانتشار ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 156، 157): ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء. وعلى هذا جماعة العلماء، إلَّا سعيد بن المسيب، فإنه قال: جائز أن ترجع إلى الأول إذا طلقها الثاني، وإن لم يمسها، وأظنُّه لم يبلغه حديث العسيلة، وأخذ بظاهر القرآن: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، فإن طلقها -أعني الثاني- فلا جناح عليهما أن يتراجعا، وقد طلقها. وليس في القرآن ذكر مسيس في هذا الموضع، وغابت عنه السنة في ذلك، ولذلك لم يعرج على قوله أحد من العلماء بعده. وانفرد أيضًا الحسن البصري، فقال: لا تحل لأول حتى يطأها الثاني وطأ فيه إنزال، وقال: معنى العسيلة "الإِنزال". وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: التقاء الختانين يحللها لزوجها. قال أبو عمر: ما يوجب الحد، ويفسد الصوم، والحج، يحل المطلقة، ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق. وعلى هذا مذهب مالك, والشافعي، وأبي حنيفة، وجمهور الفقهاء. وقال مالك، وابن القاسم: لا يحل المطلقة إلَّا الوطء المباح، فإن وقع الوطء في صوم، أو اعتكاف، أو حج، أو حيض، أو نفاس لم يحل المطلقة، ولا يحل الذمية عندهم وطء زوج ذمي لمسلم، ولا وطء من لم يكن بالغًا. وقال أبو حنيفة، والشافعي وأصحابهما، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن حيّ: يحلها التقاء الختانين، ووطء كل زوج بعد وطئه وطأ، وإن لم يحتلم إذا كان مراهقًا. اهـ.

لاستبعاد أن يكون الصغر قد بلغ إلى حد لا تغيب فيه الحشفة أو مقدارها الذي يحصل به التحليل، كما أسلفته. والمشهور عند الشافعية: أنه إذا لم يكن انتشار أصلًا لتعنن أو شلل أو غيرهما لا يحصل التعليل خلافًا للجويني والغزالي فإنهما قالا بحصوله لحصول صورة الوطء وأحكامه. والأصح عندهم أيضًا: أنه لابدَّ من صحة النكاح وفي كونه ممن يمكن جماعه لا طفلًا (¬1) لا يتأتى منه ولا يخفى أنه لابدَّ من حلها, للأول من انقضاء عدتها من الثاني وأنه لا يحل للثاني نكاحها حتى تنقضي عدتها من الأول وكان ابن المنذر (¬2) يقول: في الحديث دلالة على أن الزوج الثاني لو واقعها وهي نائمة، أو مغمى عليها لا تحس باللذة أنها لا تحل للأول، لأن الذواق أن تحس بها، كذا نقله البغوي عنه في "شرح السنة" (¬3)، ثم قال: وعامة أهل العلم على أنها (¬4) تحل، وقال القرطبي في "مفهمه" (¬5): إنه حجة لأحد القولين ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (16/ 157، 158). وليس وطء الطفل عند الجمع بشيء، قال الشافعي: إذا أصابها بنكاح صحيح، وغيب الحشفة في فرجها، فقد ذاق العسيلة، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه، قال: والصبي الذي يطأ مثله، والمراهق، والمجنون، والخصي الذي قد بقي معه ما يغيبه في الفرج يحلون المطلقة لزوجها. اهـ. (¬2) انظر: معالم السنن (3/ 205). (¬3) ساقه من المعالم بمعناه (9/ 234). (¬4) في الأصل زيادة (لا)، وما أثبت من شرح السنة ون هـ. (¬5) المفهم (5/ 2423).

عندهم في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل، وعند ابن القاسم إن وطئ المجنون يحلها، [وخالفه أشهب وعندهما وعند ابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ إن وطئها حائضًا لا يحلها] (¬1)، وخالف ابن الماجشون وعند المالكية خلاف فيما إذا وطئها بعد أن رأت القصة البيضاء ولم تغتسل، وكذا فيما إذا وطئها وهي صائمة. ومحل الخوض في ذلك كتب الفروع فإنه أليق به (¬2). الرابع: استنبط القاضي عياض (¬3) من شكواها وأن الذي معه كالهدبة على التطليق لعدم الجماع، وانه من حقوق الزوجة قال: وهو قول كافة العلماء بعد ضرب الأجل سنة للاختبار إذا رجىء زوال ما به. أما المجبوب والخصي فإنه يطلق عليه ولا يؤجل. وقال بعض السلف: يؤجل عشرة أشهر. وخالف داود: الكافة، ورأى أنه لا يطلق بالعنَّة، ولم يقل به أحد من السلف إلَّا ابن عُليَّة والحكم والإِجماع يرد قولهم. وحجتهم: ظاهر الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يطلق عليه ولم يؤجله، وليس لهما فيه حجة، بل عليهما لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة"، فإن دليل شكواها يوجب الفراق، ولأنه قد ناكرها، وفي الموطأ (¬4) "أنه ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 58، 59). (¬3) انظر: المرجع السابق (4/ 57). (¬4) الموطأ (ح 1078)، بلفظ: "فلم يستطع أن يمسها، ففارقها".

طلقها"، وذلك إخبار عن مآل الحال بعد هذا المجلس. الخامس: استنبط ابن عبد البر (¬1) من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أتُريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ " أن إرادة المرأة الرجوع إلى [الأول] (¬2) لا يضر وذلك لأن الطلاق ليس بيدها، وقصد المطلق أحرى أن لا يراعى. وأما نية المحلل فقال داود: لا أبعد أن يكون مأجورًا عليه إذا لم يُشترط عليه، لأنه قصد إرفاق أخيه وإدخال السرور عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد أنه مأجور، وقاله سالم والقاسم إذا لم يعلم الزوجان. قال ابن عبد البر (¬3): لا معنى لعلمهما فلم يبقَ إلَّا إرادة الناكح، فإن كان ذلك بالشرط دخل تحت اللعنة في الأحاديث الواردة فيه، وكان حكمه حكم نكاح المتعة، كما قال الشافعي: وفسد نكاحه وإن كان بالنية فقولان (¬4) عنده: القديم كذلك، كما هو مذهب مالك والجديد الصحة، وهو قول داود عن ابن أبي ليلى إبطال الشرط وصحة العقد. وقال أبو حنيفة: هو جائز، وله أن يقيم عليه، قال مرة: ولا يحلها له، وقال مرة: يحلها. ¬

_ (¬1) الاستذكار (16/ 155). (¬2) في الاستذكار: زوجها. (¬3) في المرجع السابق (16/ 160، 162). (¬4) أي للشافعي.

وقال زفر: إذا شرط عليه تحليلها فالنكاح جائز، والشرط باطل. وقال أبو يوسف: يفسد بالشرط، ولها مهر المثل (¬1). السادس: يؤخذ من [هذا] (¬2) الحديث أن مثل هذا الواقع من هذه الصحابية [إذا صدر] (¬3) من مدعيته لا ينكر عليها ولا يوبخ بسببه، فإنه في معرض المطالبة بالحقوق، ويدل على ذلك أيضًا عدم إنكار الصديق وإن كان خالد قد حركه للإِنكار، وحضه عليه. ويؤخذ منه إظهار ما في النفس ليعرف حكمه. والتبسم أيضًا تعجبا، والأدب عند العلماء والحكام بعدم رفع الصوت بين أيديهم، وعند سؤالهم خصوصًا من النساء فإن رفع صوتهن أقبح من رفع صوت الرجال. ¬

_ (¬1) انظر هذا المبحث في الاستذكار (16/ 158، 163). (¬2) زيادة من هـ. (¬3) زيادة من ن هـ.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 329/ 11/ 62 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "من السنة، إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، [و] (¬1) قسم. وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا، ثم قسم" (¬2). قال أبو قلابة: "ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -". الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا اللفظ هو للبخاري، وترجم عليه. "باب: تزوج الثيب على البكر (¬3). ثم ساقه من حديث أيوب وخالد عن أبي قلابة عن أنس قال: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم. وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا إلى آخرها، كما ذكره المصنف، ثم قال: وقال: عبد الرزاق أخبرنا ¬

_ (¬1) في متن عمدة الأحكام (ثم). (¬2) البخاري (5213)، ومسلم (1461)، وابن ماجه (1916)، والترمذي (1139)، وأبو داود (2124)، والبيهقي (7/ 301، 302)، والدارمي (2/ 144)، والدارقطي (3/ 283)، وعبد الرزاق (10642، 10643). (¬3) البخاري الفتح (9/ 314)، (ح 5214).

سفيان عن أيوب وخالد [قال خالد] (¬1): ولو شئت [لقلت:] (¬2) رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وترجم عليه قبل ذلك العدل بين النساء (¬3)، وأخرجه فيه من حديث خالد عن أبي قلابة عن أنس، ولو شئت أن أقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قال "السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا". وأما مسلم: فرواه من حديث خالد عن أبي قلابة، عن أنس قال: إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا. وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا، قال خالد: -يعني الحذاء-، ولو قلت: إنه رفعه لصدقتُ، ولكنه قال: السنة كذلك. ثم رواه من حديث أيوب وخالد عن أبي قلابة، عن أنس قال: "من السنة أن يقيم عند البكر سبعًا، قال خالد: ولو شئت قلت: رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. [ورواه أبو] (¬4) حاتم بن حبان في "صحيحه" مرفوعًا مجزومًا به من حديث سفيان، حدثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبع للبكر، وثلاث للثيب". ثم روى بإسناده عن ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري. (¬2) زيادة من البخاري. (¬3) لم يسق هذا الحديث في هذه الترجمة, ولم يذكره أيضًا، بل اقتصر على الآية والحديث ساقه في الترجمة التي بعده، باب: إذا تزوج البكر على الثيب. الفتح (9/ 313). (¬4) في الأصل (ورواية أبي)، وما أثبت من هـ، تقريب الإِحسان (10/ 8) زيادة (قال).

سفيان أيضًا، قال: حفظناه من حميد، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله رواهما جميعًا عن شيخه ابن خزيمة، عن عبد الجبار، عن سفيان وقال الترمذي في "جامعه" (¬1): [و] (¬2) رفعه محمَّد بن إسحاق عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس (¬3). [ولم يرفعه بعضهم. ورواه الدارقطني مرفوعًا من حديث محمَّد بن إسحاق عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس] (¬4) سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: للبكر سبعة أيام، وللثيب ثلاث، ثم يعود إلى نسائه. قال ابن عبد البر في "استذكاره" (¬5) ولم يرفع حديث خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس في هذا غير أبي عاصم فيما زعموا وأخطأَ فيه. انتهى. وقد أسلفنا رفعه من غير حديث خالد. الوجه الثاني: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة. وأما أبو قلابة: فسلف في باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: إذا قال الصحابي: "من السنة كذا". كان كالمرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الأصح عند الأصوليين والفقهاء والمحدثين، لأن الظاهر أنه ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يحتمل أن ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3/ 436). (¬2) في هـ ساقطة، وفي السنن (وقد). (¬3) ما بعد هذا غير موجود في السنن. (¬4) زيادة من هـ. (¬5) الاستذكار (16/ 140). انظر: فتح الباري (9/ 314، 315).

ذلك بناءً على اجتهاد رآه ولكن الأظهر خلافه ويؤيده الرواية السالفة التي أسلفنا فيها الجزم برفعها. وأما قول أبي قلابة: "ولو شئت لقلت إن أنسًا رفعه"، معناه أن هذه اللفظة وهي قوله: "من السنة"، كذا صريحة في رفعه، فلو شئت أن أقوله بناءً على الرواية بالمعنى لقلته، ولو قلته كنت صادقًا، كذا قرره النووي [رحمه الله] (¬1) في "شرح مسلم" (¬2)، وقد قاله في الرواية التي أسلفناها، وقد أسلفنا مثل قول أبي [قلابة خالد الحذاء] (¬3)، وأسلفنا من رواية البخاري من رواية أبي قلابة عن أنس، ولو شئت أن أقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولكن قال السنة فذكره، وفي الترمذي من حديث أبي قلابة عن أنس قال: لو شئت أن أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولكنه قال: "السنة"، فذكره. وقال الشيخ تقي الدين (¬4): قول أبي قلابة يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ظن [رفعه] (¬5) من أنس لفظًا فتحرز [عنه] (¬6) تورعًا. والثاني: أن يكون رأى أن قول أنس "من السنة" في حكم المرفوع، فلو شاء لعبر عنه بأنه مرفوع، على حسب اعتقاده؛ أنه في ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) شرح مسلم (11/ 46). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) إحكام الأحكام (4/ 203). (¬5) في المرجع السابق: (ذلك مرفوعًا لفظًا). (¬6) في المرجع السابق (عن ذلك).

حكم المرفوع، قال والأول أقرب، لأن قوله: "من السنة" يقتضي أن يكون مرفوعًا بطريق اجتهادي محتمل، وقوله: "إنه رفعه" نص في رفعه، وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نص غير محتمل. قلت: قوله: "من السنة" نص في رفعه أيضًا بمنزلة قوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأصح كما سلف فتعادلا إذًا. فائدة: المرفوع في الاصطلاح هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لا يقع مطلقه على غيره متصلًا كان أو منقطعًا أو مرسلًا. وقال الخطيب: هو ما أخبر به الصحابي عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قوله فخصه بالصحابة فيخرج مرسل التابعي. فائدة ثانية: السُّنَّة: أصلها في اللغة الطريقة، ومنه سنن الطريق الذي يمشي فيه غير أنها في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته -عليه الصلاة والسلام- في الشريعة. وهي في الاصطلاح: ما حمد فاعله ولم يذم تاركه. ويسمى مندوبًا ونافلةً ويخرج ذلك. الوجه الرابع: الحديث يقتضي أن هذا الحق في البكر والثيب إنما هو إذا كانا متجددتين على نكاح امرأة قبلها، ولا يقتضي أنه ثابت لكل متجددة وإن لم يكن قبلها غيرها، وقد استمر عمل الناس على هذا وإن لم يكن قبلها امرأة في النكاح، والحديث لا يقتضيه. وقد اختلف العلماء في هذا الحق للجديدة هل هو للزوج أو للمرأة أو لهما؟

فذهب الشافعي والجمهور: إلى أنه حق للمرأة على زوجها لإِيناسها [وإزالة] (¬1) [الحشمة] (¬2) عنها لتجددها. وقال بعض المالكية: هو حق للزوج على جميع نسائه. وقال ابن عبد البر (¬3): جمهور العلماء على أنه حق لها بسبب الزفاف، سواء كانت عنده زوجة أم لا لعموم الحديث السالف عن رواية مسلم ["إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا"] (¬4) ولم يخص من له زوجة. وحكى ابن القصار من المالكية: أنه حق لهما جميعًا (¬5). وقالت طائفة: الحديث إنما هو فيمن له زوجة أو زوجات غير هذه، لأن من لا زوجة له هو مقيم عندها كل دهره، مؤنس لها، يتمتع بها، مستمتعة به بلا قاطع بخلاف من له زوجات، فإن جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيسًا لها متصلًا لتستقر عشرتها وتذهب حشمتها منه ووحشتها، ويقضي كل واحد منهما لذته من صاحبه، ولا ينقطع بالدوران على غيرها. وقد يفهم ذلك من قوله: "ثم قسم" إذ القسمة لا تكون في زوجة واحدة، وجزم به من أصحابنا البغوي في "فتاويه" فقال: هذا الحق إنما يثبت للجديدة إذا كان في نكاحه أخرى، فإن ¬

_ (¬1) في هـ (وزوال). (¬2) لعله (الوحشة). (¬3) التمهيد (17/ 243، 244)، والاستذكار (16/ 137، 142). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) المنتقى (3/ 294).

لم يكن أو كانت ولا يبيت عندها لم يثبت للجديدة حق الزفاف، كما لا يلزمه أن يبيت عند زوجته أو زوجاته ابتداءً قال النووي في "شرح مسلم" (¬1) والمختار الأقوى الأول، لعموم الحديث. قلت: وبه قال من المالكية (¬2) ابن عبد الحكم فيما رواه أبو الفرج عنه، وقال ابن حبيب: بالثاني. ثم اختلف العلماء في هذا المقام عند البكر والثيب إذا كان له زوجة أخرى هل [هو] (¬3) واجب أو مستحب؟ فمذهب الشافعي وأصحابه وموافقيهم أنه واجب، وهي رواية ابن القاسم (¬4) عن مالك. وروى عنه ابن عبد الحكم: أنه على الاستحباب، وهو قول الشافعي أيضًا (¬5). تتمات: الأولى: نقل الخطابي (¬6) عن أصحاب الرأي أن البكر والثيب في القسم سواء، وهو قول الحكم وحماد، وعن الأوزاعي إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا وإذا عكس أقام يومين. وحكاه ¬

_ (¬1) شرح مسلم (10/ 44). (¬2) المنتقى (3/ 294). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) انظر: الاستذكار (16/ 138). (¬5) المرجع السابق. (¬6) معالم السنن (3/ 57).

الترمذي (¬1) عن بعض أهل العلم، وهما مصادمان للأحاديث "الصحيحة" وأما حديث عائشة رفعته: "للبكر إذا نكحها وله نساء ثلاث ليال، وللثيب ليلتان"، فضعيف رواه الدارقطني (¬2)، وفي سنده أم سليم ومحمد بن ضمرة، وهما مجهولان، كما قال ابن القطان والواقدي، وحالته معلومة، وإنما خصت البكر بالزيادة لأن حياءها أكثر. الثانية: تجب الموالاة في الثلاث، وفي السبع حتى لو فرقها لا يحسب على الأصح، لأن الحشمة لا تزول [به] (¬3). الثالثة: إذا وفَّى الثلاث أو السبع لم يقض للباقيات، نعم، يستحب تخيير الثيب عن ثلاث بلا قضاء وسبع بقضاء فإن اختارت السبع فأجابها قضى السبع للباقيات، وإن أقام بغير اختيارها لم يقض إلَّا الأربع الزائدة على الأصح، هذا مذهب الشافعي وموافقيه، ومِمَّن قال به مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن جرير والجمهور. وقال أبو حنيفة والحكم وحماد: يجب قضاء الجميع في الثيب والبكر، واستدل بالظواهر الواردة بالعدل بين الزوجات. وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة فيه وهي مخصصة للظواهر العامة. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3/ 437). (¬2) سنن الدارقطني (3/ 284)، وضعفه ابن حجر في الفتح (9/ 315). (¬3) في هـ ساقطة.

ونقل أبو عمر (¬1) عن مالك وأصحابه أنهم لا يقولون بتخيير الثيب وتركوا حديث أم سلمة بحديث أنس. الرابعة: الحرة والأمة في ذلك سواء على الأصح عندنا، وبه صرح ابن القصار من المالكية (¬2)، لأن المراد زوال الوحشة. والأمة كالحرة فيه. وقيل: هي على النصف من الحرة، ويكمل المنكسر. وقيل: لا. الخامسة: إذا قلنا: إن الحق السالف للزوجة فهل يقضي به أم لا؟ فيه خلاف عند المالكية، قال محمد بن عبد الحكم: نعم، وقال محمَّد عن أصبغ لا كالمتعة (¬3). السادسة: قال الشافعي في "المختصر" (¬4): لا أُحب أي لمن زفت له امرأة أن لا يتخلف عن صلاة ولا شهود جنازة ولا برٍّ كان يفعله ولا إجابة دعوة. ونصَّ على نحوه في "الأم" (¬5)، قال الرافعي: هذا في النهار. أما الليل فقد قال الأصحاب: لا يخرج لأن هذه مندوبات والمقام عندها واجب وقالوا في دوام القسم ينبغي أن يسوي بينهن في الخروج إلى الجماعات وأعمال البر وأن يخرج في ¬

_ (¬1) الاستذكار (16/ 139)، والتمهيد (17/ 234، 244). (¬2) المنتقى (3/ 292). (¬3) انظر: المنتقى (3/ 394). (¬4) مختصر المزني (185). (¬5) الأم (5/ 110 - 192).

ليلة الجميع أو لا يخرج أصلًا، فلو خرج في ليلة بعضهن فقط فحرام. قال الماوردي (¬1): وإذا كانت عادته التطوع في هذه الأيام بالصوم فالأولى به الفطر؛ لأنها أيام بعال، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في أيام التشريق، وقال ابن القاسم عن مالك: لا يتخلف عن الجماعة والجمعة. قال سحنون (¬2): قال بعض الناس: لا يخرج وذلك لها بالسنة. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): أفرط بعض الفقهاء من المالكية فجعل مقامه عندها عذرًا في إسقاط الجمعة إذا جاءت في أثناء المدة [وهو] (¬4) ساقط، منافٍ للقواعد، فإن مثل هذا من الآداب [و] (¬5) السنن لا يترك له الواجب، ولما شعر بهذا بعض المتأخرين، وأنه لا يصلح أن يكون عذرًا توهم أن قائله يرى [أن] (¬6) الجمعة فرض كفاية، وهو فاسد جدًّا، لأن قول هذا القائل متردد، محتمل أن يكون جعله عذرًا [أو] (¬7) أخطأ في ذلك، وتخطئته في هذا أولى من تخطئته فيما دلت عليه النصوص وعمل الأمة من وجوب الجمعة على الأعيان. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (12/ 231). (¬2) أشار إليه في المنتقي عنه (3/ 295). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 204، 205)، وانظر: المنتقى (3/ 295). (¬4) في المرجع السابق (وهذا). (¬5) في المرجع السابق (أو). (¬6) زيادة من المرجع السابق. (¬7) في المرجع السابق (واو).

قلت: هذه المقالة التي ضعفها الشيخ هي قياس من يقول [بوجوب] (¬1) المقام معها، ويقوى بأنه حق آدمي وهو أضيق والجمعة لها بدل، ويجعل هذا من الأعذار المسقطة، [السابعة] (¬2): قال ابن المواز من المالكية (¬3): ويبدأ بعد فراغ هذه المدة بأيهما أحب، وأحب أن يبدأ بالقديمة. خاتمة: في الحديث أحكام: منها العدل بين الزوجات، ومنها أن حق الزفاف بالإِقامة عند المزفوفة ثابت، وأنها تقدم به على غيرها. ومنها التفرقة بين البكر والثيب فيه. ¬

_ (¬1) في الأصل (يوجب)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في الأصل (أما السادسة)، وما أثبت من هـ. (¬3) ذكره عنه في المنتقى (3/ 295).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 330/ 12/ 62 - عن ابن عباس-[رضي الله عنهما] (¬1) - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن [أحدهم] (¬2) إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهمَّ جَنِّبنا الشيطان، وجَنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنا، فإنه إن يُقدر بينهما وَلَدٌ في ذلك: لم يضره الشيطان أبدًا" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث رواه البخاري هنا بلفظ: "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (أحدكم)، وفي هامش الأصل: كذا وجد في شرح ف ك، وفي شرح ع (أحدكم)، أقول: والمراد (ف ك): الفاكهي، و (ع): ابن دقيق العيد. (¬3) البخاري أطرافه (141)، ومسلم (1434)، ومالك في الموطأ (2/ 419)، والترمذي (1193)، وابن ماجه (1916)، وأبو داود (2124)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (266)، والدارقطني (3/ 283)، وابن الجارود (724)، والبيهقي (7/ 301، 302)، والبغوي في شرح السنة (9/ 154)، وعبد الرزاق (6/ 235)، وابن أبي شيبة (3/ 378)، والدارمي (2/ 144).

وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد؛ لم يضره شيطان أبدًا" (¬1). ورواه في باب صفة إبليس (¬2) وجنوده من كتاب بدء الخلق: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزق ولدًا لم يضره الشيطان". ثم رواه بعد بورقة بلفظ: "لو أن أحدكم قال إذا أتى أهله قال: اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني، فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان ولم يسلط عليه" (¬3). [ورواه في الطهارة في باب التسمية (¬4) على كل حال، وعند الوقاع. بلفظ: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: [بسم الله] (¬5) اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره] (¬6) (¬7). ورواه مسلم هنا بلفظ المصنف سواء إلَّا أنه قال: "أحدكم" بدل "أحدهم"، وترجم عليه الترمذي في "جامعه" (¬8) ما يقول إذا ¬

_ (¬1) الفتح (9/ 228)، ح (5165)، كتاب النكاح. (¬2) الفتح (6/ 334)، ح (3271). (¬3) ح (3283). (¬4) الفتح (1/ 242)، ح (141). (¬5) زيادة من البخاري. (¬6) زيادة من ن هـ. (¬7) وبوَّب عليه أيضًا في كتاب الدعوات، باب: ما يقول إذا أتى أهله، ح (6388). وفي كتاب التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى، والاستعاذة بها، ح (7396). (¬8) سنن الترمذي (3/ 392).

دخل على أهله. الوجه الثاني: قال القاضي (¬1): لم يحمل أحد الحديث في نفي ضرره على العموم في نفي جميعه من الوسوسة والإِغواء، بل قيل إن المراد لم يصرعه، وقيل: لم يطعن فيه عند ولادته بخلاف غيره. انتهى. ويبعد هذا التأويل لفظة "أبدًا". وقال القرطبي (¬2): قصره على الصرع وحده ليس بشيء، لأنه تحكم بغير دليل مع صلاحية اللفظ له ولغيره. وأما القول الثاني ففاسد بدليل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته إلَّا ابن مريم. فإنه جاء [يريد] (¬3) أن يطعن فطعن في الحجاب" (¬4). هذا يدل على أن الناجي من هذا الطعن إنما هو عيسى وحده، وذلك لخصوص دعوة أم مريم حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} (¬5)، ثم إن طعنه ليس بضرر، ألا ترى أنه قد طعن كثيرًا من الأولياء والأنبياء ولم يضرهم ذلك، ومقصود هذا الحديث، والله أعلم أن الولد الذي يقال له ذلك يحفظ من إضلال الشيطان وإغوائه، ولا يكون للشيطان عليه سلطان، ¬

_ (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 59)، والمفهم (5/ 2426). (¬2) في المفهم (5/ 2426). (¬3) زيادة من المفهم. (¬4) لفظ الحديث في رواية أبي هريرة في تفسير الطبري (6/ 342): "كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلَّا عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب". (¬5) سورة آل عمران: آية 36.

لأنه يكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله -تعالى-: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬1)، وذلك ببركة نية الأبوين الصالحين وبركة اسم الله -تعالى- والتعوذ والالتجاء إليه. وكأن هذا [اشرب] (¬2) من قول أم مريم: "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". ولا يفهم من هذا نفي وسوسته، وتشيعثه، وصرعه، فقد يكون كل ذلك، ويحفظ الله -تعالى- الولد من ضرره في قلبه ودينه وعاقبة أمره. وقال الشيخ تقي الدين (¬3): [نفي الضرر] (¬4) يحتمل أن يؤخذ عامًّا يدخل تحته الضرر الديني. ويحتمل أن يؤخذ خاصًّا، بالنسبة إلى الضرر البدني، بمعنى أن الشيطان لا يتخبطه، ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه. وهذا أقرب، وإن كان التخصيص على خلاف الأصل. لأن إذا حملناه على العموم اقتضى ذلك أن يكون الولد معصوصًا عن المعاصي كلها، وقد لا يتفق ذلك، أو يعز وجوده، ولابدَّ من وقوع ما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم -. أما إذا حملناه على أمر الضرر في العقل أو البدن فلا يمتنع ذلك، ولا يدل دليل على وجود [خلافه] (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الحجر: آية 42. (¬2) في المفهم (شوب). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 205، 206). (¬4) غير موجودة في المرجع السابق. (¬5) في ن هـ (خلافهم)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.

الوجه الثالث: في أحكامه. الأول: استحباب التسمية والدعاء المذكور في ابتداء الجماع وإليه الإشارة لقوله: "إذا أراد أن يأتى أهله"، واستحب الغزالي في "الإِحياء" (¬1) أن يقول قبل هذا الدعاء باسم الله، ويقرأ قل هو الله أحد، ويكبِّر، ويهلِّل، ويقول: باسم الله العلي العظيم، اللهم اجعلها ذرية طيبة، إن كنت قدرت ولدًا يخرج من صلبي، وإذا قربت الإِنزال فقل في نفسك ولا تحرك به شفتيك: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا. . . .} الآية. الثاني: الاعتصام بذكر الله -تعالى- ودعائه من الشيطان. الثالث: الحث على المحافظة على تسميته [ودعائه] (¬2) في كل حال لم ينه الشرع عنه حتى في حال ملاذ الإنسان. وفيه أيضًا إشارة إلى ملازمة الشيطان لابن آدم من حين خروجه من ظهر أبيه إلى رحم أمه إلى حين موته، أعاذنا الله منه. فروع متعلقة بالجماع لا بأس أن نعرفها: لا يكره الجماع مستقبل القبلة ولا مستدبرها لا في البنيان ولا في الصحراء، قاله النووي في "الروضة من زوائده" (¬3). وقال الغزالي في ¬

_ (¬1) نزهة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (6/ 173، 174) أقول: ويغنى عن هذا الحديث الصحيح إلَّا إذا كان هذا من قبيل التعبد وليس اعتقاده بسنة فلا بأس. وإنما يأتي به دعاء مطلقًا. (¬2) في هـ (الدعاء). (¬3) روضة الطالبين (1/ 65).

"الإِحياء" (¬1): لا يستقبل القبلة إكرامًا لها, وليتغطيا بثوب، قال: وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة، وأن يزيد وينقص بحسب حاجتها في التحصين فإن تحصينها واجب، وإن لم تثبت المطالبة بالوطء، قال: ويكره الجماع في الليلة الأولى من الشهر والأخيرة منه وليلة نصفه، يقال: إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي (¬2). ويقال: إنه يجامع قال: وإذا قضى وطره فليمهل عليها حتى تقضي وطرها. ¬

_ (¬1) نزهة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (6/ 173، 174). (¬2) هذا لم يرد فيه حديث وإنما ورد حديث لا أصل له في الجماع في ليلة النصف من الشهر من رواية علي بن أبي طالب، ذكره أبو نعيم في كتاب الطب.

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 331/ 13/ 62 - عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت (¬1). ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحمو" أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم ونحوه. الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ترجم عليه البخاري: الدخول على المغيبة، والترمذي: أيضًا كراهة الدخول أيضًا على المغيبات، ثم قال: وفي الباب عن عمر (¬2). . . . . . . . . ¬

_ (¬1) البخاري (5232)، ومسلم (2172)، والترمذي (1171)، والدارمي (2/ 278)، والبيهقي (7/ 90)، والبغوي (2252)، وأحمد (4/ 149، 153)، والنسائي في الكبرى (5/ 386)، والطبراني (17/ 762 إلى 765)، وابن أبي شيبة (3/ 460)، البغوي في شرح السنة (9/ 26). (¬2) حديث عمر وفيه: "ولا يخلون أحدكم بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما"، أخرجه أحمد (1/ 18، 26)، والحميدي (32)، الطيالسي (7)، =

وجابر (¬1) وعمرو بن العاص (¬2). الثاني: في التعريف براويه والأسماء الواقعة فيه. أما راويه فقد سلف التعريف به في الحديث السادس من هذا الباب. وأما أبو الطاهر: فاسمه أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح الأموي مولاهم البصري. روى عن ابن عيينة والشافعي وخلق وعنه [م د س ق] (¬3)، وجماعة وثقه النسائي. وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن يونس: كان فقيهًا من ¬

_ = والترمذي (2165) , والحاكم (1/ 114، 115)، والنسائي في الكبرى (5/ 387)، وأبو يعلى (143). (¬1) حديث جابر ولفظه: "ألا لا يبيتن رجل عند امرأة في بيت، إلَّا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم"، أخرجه مسلم (2171)، والنسائي في الكبرى (5/ 386)، والبيهقي (7/ 98)، وأبو يعلى (1848). (¬2) حديث عمرو بن العاص، ولفظه فيه: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلَّا ومعه رجل" أخرجه مسلم (2173)، والنسائي (5/ 386)، والبيهقي (7/ 90)، وأحمد (2/ 171، 186، 213). وأيضًا جاء من رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - ولفظه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يخطب: لا تسافرن امرأة إلَّا بذي محرم، ولا يخلون رجل بامرأة إلَّا بذي محرم" البخاري (1862)، والحميدي (468)، الطيالسي (2732)، وأبو يعلى (2516)، والنسائي (5/ 386). (¬3) رمز م: مسلم، د: أبو داود، س: النسائي، ق: ابن ماجه: انظر: تهذيب التهذيب (1/ 64)، "س" لم تتضح في الأصل وإنما صورة كتابتها في هكذا (بين)، وما أثبت من ن هـ وتهذيب التهذيب.

الصالحين الأثبات توفي في ذي القعدة سنة خمسين ومائتين عن ثمانين سنة، حكاه ابن طاهر، وصلَّى عليه بكار بن قتيبة القاضي. وأما ابن وهب: فاسمه عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي الفهري مولاهم المصري أبو محمَّد أحد الأئمة الأعلام، ولد سنة خمس وعشرين ومائة وطلب العلم وله سبع عشرة سنة، وجمع بين الفقه والحديث والعبادة، وصنف موطأ. روى عنه شيخه الليث وجماعة، قال بعضهم: عن نحو من أربعمائة رجل، وكان ثقة [حجة] (¬1) حافظًا مجتهدًا، لا يقلد أحدًا [إذا تعبد وتزهد] (¬2) وحدث بمائة ألف حديث، وعرض عليه [القضاء] (¬3) فحبس نفسه ولزم بيته، وكان قسم دهره أثلاثًا: ثلثًا في الرباط، وثلثًا يعلِّم الناس، وثلثًا في الحج، قيل: حجَّ ستّا وثلاثين حجة، وكان مالك يكتب إليه: أبي عبد الله مفتي مصر، ولم يفعل هذا مع غيره، ويقال أيضًا: إنه كتب له كتابًا وعنونه بالفقيه، ولم يكتب بذلك لغيره، وهو في طبقة مالك في الفقه، مات بمصر سنة سبع وتسعين ومائة. وأما الليث: فهو ابن سعد بن عبد الرحمن الفهمي مولاهم الأصبهاني الأصل الإِمام الحافظ شيخ الديار المصرية وعالمها ومفتيها ورئيسها، روى عن عطاء بن أبي رباح وخلق، وعنه أمم لا يحصون منهم عبد الله بن صالح كاتبه ولد بقلقشنده قرية على ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) هذه العبارة ليست متسقة بما قبلها. (¬3) زيادة من هـ.

فراسخ من مصر سنة ثلاث أو أربع وتسعين، وحج سنة ثلاث عشرة ومائة، وكان كبير الديار المصرية وعالمها الأصيل حتى إن نائب مصر وقاضيها من تحت أوامره وإذا رابه من أحد منهم أمر كاتب فيه الخليفة [فيعزله] (¬1)، وطلب منه المنصور أن يعمل نيابة الملك فامتنع، وكان يُعد من الأبدال، وكان الشافعي يتأسف على فراقه، وكان يقول: هو أفقه من مالك إلَّا أن أصحابه لم يقوموا به. وفي لفظ: إلَّا أنه ضيعه أصحابه، وقال أيضًا: كان أتبع للأثر من مالك، وقال يحيى بن بكير: كان أفقه من مالك إلَّا أن الحظوة كانت لمالك. قال محمَّد بن رُمْح: كان دخله في السنة ثمانين ألف دينار فما أوجب الله عليه زكاة قط. انتهى. وبعث إلى مالك بألف دينار وأهدى إلى مالك مرة أحمال عصفر، وكان يصله في سنة بمائة دينار، وأعطى ابن لهيعة لما احترق منزله ألف دينار، ووصل منصور الواعظ بألف دينار وجاءته امرأة بسكرجة تطلب عسلًا فأعطاها ظرف عسل، ومناقبه عديدة وهو إمام حجة كتب التصانيف، مات سنة خمس وسبعين ومائة نصف شعبان، وقيل غير ذلك عن إحدى وثمانين سنة. فائدة: في الرواة الليث بن سعد أربعة: أحدهم: هذا. والثاني: مصري أيضًا حدَّث عن عبد الرزاق الإِدريسي. ¬

_ (¬1) في هـ (فيصرفه).

والثالث: روى عن ابن وهب. والرابع: ثقيفي حدَّث عن بكر بن سهل. الوجه الثالث: فيما فيه من المبهم وهو هذا الرجل من الأنصار ولم أره مسمى بعد البحث عنه. الوجه الرابع: معنى: "إياكم والدخول على النساء" باعدوا واتقوا الدخول [عليهن] (¬1) وهو [من] (¬2) باب إياك والأسد! وإياك والشر! أي اتق ذلك واحذره. والمنصوبان مفعولان بفعلين مقدرين يدل عليهما المعنى. و"الحمو" فسَّره الليث بن سعد، ولمَّا كان الحمو يستعمل عند الناس في أبي الزوج وهو محرم من المرأة ولا يمتنع دخوله عليها، فسره الليث بما يزيل هذا الإِشكال، وحمله على من ليس بمحرم، فإنه لا يجوز له الخلوة بالمرأة. واتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة: كأبيه وعمه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم. والأَخْتَان: أقارب زوجة الرجل. والأصهار: يقع على النوعين. قال القرطبي (¬3): وقد جاء الحمو في هذا الحديث مهموزًا، ¬

_ (¬1) في ن هـ (عليهم). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) المفهم (5/ 501).

والهمز أحد لغاته، ويقال فيه: هو بواو مضمومة كدلو، وحما مقصور كعصا، والأشهر فيه أنه من الأسماء الستة المعتلة المضافة التي تعرب في حال إضافتها إلى غير ياء المتكلم بالواو رفعًا، وبالألف نصبًا، وبالياء خفضًا، فتقول: جاءني حموك، ورأيت حماك، ومررت بحميك، وحماة المرأة أم زوجها [لغة في] (¬1) غير هذه. وقوله: "الحمو الموت" فيه قولان: أحدهما: أن المعنى فليمت ولا يفعلن ذلك، قاله أبو عبيد. والثاني: أن لقاء هذا مثل الموت، قاله ابن الأعرابي، حكاها ابن الجوزي في "غريبه" (¬2)، ثم قال والمراد بالحديث النهي عن الخلوة ولو بالحمو. وقال النووي في "شرح مسلم" (¬3) معناه أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه، والفتنة أكبر لتمكنه من الوصول بالمرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي. قال: والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه. فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته يجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت، وإنما المراد الأخ [وابن الأخ والعم] (¬4) وابن العم ونحوهم ممن ليس بمحرم، وعادة الناس المساهلة فيه، ويخلو بامرأة أخيه، فهذا هو الموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي لما ذكرناه، فهذا ¬

_ (¬1) في الأصل (بالغة فيها). (¬2) غريب الحديث لابن الجوزي (1/ 245). (¬3) شرح مسلم (14/ 154). (¬4) زيادة من هـ ومن شرح مسلم.

صواب معنى الحديث. وأما ما ذكره [المازري و] (¬1) حكاه أن المراد بالحمو أبو الزوج. وقال: إذا نهى عن أبي الزوج وهو محرم فكيف بالغريب فهو كلام فاسد مردود، ولا يجوز حمل الحديث عليه، وكذا ما نقله القاضي (¬2) عن أبي عبيد أن معنى "الحمو الموت" فليمت ولا يفعل [ذلك] (¬3) هو كلام فاسد، والصواب [ما سلف] (¬4)، ثم نقل عن ابن الأعرابي: أنها كلمة تقولها العرب كما تقول: الأسد الموت أي -لقاؤه مثل الموت-. قال القاضي (¬5): معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت، فورد الكلام مورد التغليظ، ونقل المحب في "أحكامه" عن ابن الأثير (¬6) أنه قال: إنما كان [خلوة الحم] (¬7) أشد من خلوة غيره، [من البعداء] (¬8)، لأنه ربما حسن لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج، من التماس ما ¬

_ (¬1) في المخطوطتين (البخاري أو)، وهو خطأ وما أثبت من شرح مسلم. (¬2) إكمال إكمال المعلم (5/ 440). (¬3) زيادة من غريب الحديث، لأبي عبيد (3/ 353). (¬4) زيادة من ن هـ، والمراد به هنا النووي فإنه نقله منه. انظر: شرح مسلم (14/ 154). وانظر: ابن حجر في فتح الباري (9/ 331، 332). (¬5) إكمال إكمال المعلم (5/ 440). (¬6) في جامع الأصول (6/ 657)، ولله دره حيث إنه لما لم يطلع عليه لم يعزه إلى ابن الأثير مباشرة، وإنما نسبه إلى من دكره عنه. فهذا غاية في الأمانة ودقة في البحث فجزاه الله خيرًا. (¬7) في المخطوطتين (خلو لحم)، وما أثبت من جامع الأصول. (¬8) زيادة من جامع الأصول.

ليس في وسعه، أو سوء عشرة أو غير ذلك [فلهذا قال: هو الموت] (¬1)، ولأن الزوج [قد] (¬2) لا يؤثر أن يطلع [الحم] (¬3) على باطن حاله. ثم قال: -أعني المحب- ويحتمل أن الكراهة إنما كانت لمكان إدلاله على الزوج، فربما تبسط في بيته بما يكره من أخذه ما لا يسهل عليه أخذه ونحو ذلك مما يعز عليه، ولا ينبغي أن يحمل على أمر مكروه، فإن الأجنبي أقرب إلى ذلك منه. وقال البغوي في "شرح السنة" (¬4) معناه: احذروا الحمو كما تحذروا الموت، وقال الشيخ تقي الدين القشيري (¬5): إن تأويله بحسب اختلاف الحمو، فإن حُمل على محرم المرأة، -كأبي زوجها- فيحتمل أن يكون المعنى أنه لابدَّ من إباحة دخوله، كما أنه لابدَّ من الموت، وإن حُمل على من ليس بمحرم فيحتمل أن يكون هذا الكلام خرج مخرج التغليظ والدعاء، لأنه فهم من قائله طلب الترخيص بدخول هؤلاء الذين ليسوا بمحارم. فغلَّظ عليه لأجل هذا القصد المذموم، بأن جعل دخول الموت عوضًا [من] (¬6) دخوله، زجرًا عن هذا الترخيص، على سبيل التفاؤل، أو الدعاء، كأنه يقال: من قصد ذلك فليكن الموت في دخوله عوضًا ¬

_ (¬1) زيادة من جامع الأصول. (¬2) زيادة من جامع الأصول. (¬3) في المخطوطتين (الحمو)، وما أثبت من جامع الأصول. (¬4) شرح السنة (9/ 27). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 207، 208). (¬6) في هـ (عن).

[من] (¬1) دخول الحمو الذي قَصَد دخوله، قال: ويجوز أن يكون شبهه بالموت، باعتبار كراهته لدخوله، وشبه ذلك بكراهة دخول الموت. الوجه الخامس: الحديث دال على تحريم الخلوة بالأجانب وقوله: "وإياكم والدخول على النساء" مخصوص بغير المحارم، وعام بالنسبة إلى غيرهن، ولابدَّ من اعتبار أمر آخر، وهو أن يكون الدخول مقتضيًا للخلوة، أما إذا لم تقتضيه فلا يمتنع (¬2)، كالدخول للتعليم ونحوه (¬3) وعموم النساء يدخل تحته الشابة والعجوز، وذكر البيهقي (¬4) عن ابن عباس أنه -تعالى- استثنى [من ذلك وال] (¬5) قواعد [من النساء] (¬6) [اللاتي لا يرجون نكاحًا] (¬7) أن يضعن ثيابهن الجلباب، و"أن يستعففن" بلبس جلابيبهن "خير لهنّ"، وذهب أنس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أم أيمن وبعده انطلق إليها الصديق (¬8)، ولعل من هذا دخول سفيان على رابعة - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) في هـ (عن). (¬2) إلى هنا ساقه من إحكام الأحكام (4/ 207). (¬3) أقول: لا يجوز الخلوة بالمرأة مطلقًا لا للتعليم ولا غيره، وهذا باب يجب إغلاقه. (¬4) السنن الكبرى (7/ 93)، وسياقه هنا بتصرف. (¬5) زيادة من السنن. (¬6) في هـ ساقطة. (¬7) زيادة من سياق الآية. (¬8) مسلم (2453، 2454)، وابن ماجه (1635)، والبيهقي (7/ 93).

وفي معنى الخلوة بالنساء الخلوة بالأمرد الحسن الذي يفتتن به, بل الخلوة به أشد. الوجه السادس: يؤخذ من الحديث السؤال عما يلزم أن يكون داخلًا في العموم فإن قوله: "إياكم والدخول على النساء" يعم الحمو وغيره، فسأل عنه. ويؤخذ منه أيضًا الجواب بأمر يلزم فيه التغليظ في النهي والتحذير من ارتكابه.

63 - باب الصداق

63 - باب الصداق هو -بفتح الصاد وكسرها- وأصله من الصدق لإِشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة، ويقال: صدق -بفتح الصاد وضم الدال، وبضم الصاد وإسكان الدال، وبفتحها وبضمها، وبالفتح وسكون الدال-، فهذه سبع لغات، وله ثمانية أسماء مجموعة في بيت: صداق ومهر نحلة وفريضة ... حباء وأجر ثم عقر علائق وزاد بعضهم: النكاح مستدلًا بقوله -تعالى-: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} (¬1)، والطول مستدلًا بقوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} (¬2)، والنفقة والرصاص وهو اسم للمال الواجب للمرأة على الرجل بالنكاح [و] (¬3) بالوطء، وذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: ¬

_ (¬1) سورة النور: آية 33. (¬2) سورة النساء: آية 25. (¬3) في هـ ساقطة.

الحديث الأول

الحديث الأول 322/ 1/ 63 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة، ونبهنا عليه لطول العهد. وصفية: تقدمت في باب الاعتكاف. الأول: اختلف أصحابنا في معنى هذا الحديث على أربعة أوجه: أحدها: أنه أعتقها بشرط أن ينكحها فلزمها الوفاء بخلاف غيره، وهذا يقتضي إنشاء عقد بعد ذلك. ¬

_ (¬1) البخاري (4200)، ومسلم (1365)، والثاني (6/ 114، 115)، والدارمي (2/ 154)، وابن الجارود (721)، وابن ماجه (1957)، والدارقطني (3/ 286)، والبغوي (2273، 2274)، وأحمد (3/ 181، 239، 242، 280، 291)، وأبو يعلى (3351)، والطيالسي (1991)، وأبو داود (2054)، والبيهقي (7/ 28)، وعبد الرزاق (13107)، والمعجم الصغير (386).

ثانيها: أنه جعل نفس العتق صداقًا، وجاز له ذلك بخلاف غيره، وهذا ما أورده الماوردي (¬1). ثالثها: أنه أعتقها بلا عوض، وتزوجها بلا مهر، لا في الحال ولا في المآل. وهذا أقرب إلى الحديث، قال النووي في "الروضة" (¬2): وهذا أصحها وسبقه إلى ذلك ابن الصلاح، فقال في "مشكله" إنه أصح وأقرب إلى الحديث، وحكى عن أبي إسحاق وقطع به البيهقي (¬3) فقال: أعتقها مطلقًا، قال ابن الصلاح: فيكون معنى قوله: "وجعل عتقها صداقها" أنه لم يجعل لها شيئًا غير العتق، فحل محل الصداق، وإن لم يكن صداقًا، وهو من قبيل قولهم: الجوع زاد من لا زاد له. رابعها: أنه أعتقها على شرط أن يتزوجها, فوجب له عليها قيمتها فتزوجها به، وهي مجهولة، وليس لغيره أن يتزوج بصداق مجهول. حكاه الغزالي في "وسيطه" نعم لنا وجه في صحة إصداق قيمة الأمة المعتقة المجهولة إذا أعتقها عليه بالنسبة إلينا، وهو يرد على قول الغزالي في "وسيطه" فيه خاصة بالاتفاق إلَّا أن يكون القائل بالصحة في حق غيره غير القائل بالصحة هنا. وقال أبو محمَّد بن حزم (¬4): ما وقع في الحديث سنة جائزة ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (11/ 42). (¬2) الروضة (7/ 10، 11)، وشرح مسلم (10/ 221). (¬3) سنن البيهقي (7/ 128). (¬4) المحلى (9/ 501، 507).

صحيحة لكل من أراد أن يفعل مثل ذلك إلى يوم القيامة، وكذا قال الترمذي (¬1): فإنه لما أخرج الحديث السالف قال: حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم، قال: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها، حتى يجعل لها مهرًا سوى العتق. قال: والقول الأول أصح. وترجم البخاري (¬2) على الحديث، باب: من جعل عتق الأمة صداقًا، وقال أبو حاتم بن حبان من أصحابنا في صحيحه (¬3). النوع السادس: فعل فعله -عليه الصلاة والسلام- لم تقم ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3/ 414)، تعقب ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 129)، الترمذي قائلًا: ومن المستغربات -ثم ساق كلامه هنا إلى أن قال- وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي، والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأول، ولاسيما نص الشافعي على أن من أعتق أمته على أن يتزوجها فقبلت عتقت ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها, لأنه لم يرض بعتقها مجانًا فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهر يتففان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها له قيمتها، فإن اتحدا تقاصا، وممن قال بقول أحمد من الشافعية ابن حبان -وسيأتي كلامه- صرَّح بذلك في صحيحه. اهـ، محل المقصود. (¬2) البخاري الفتح (9/ 128)، (ح 5086). (¬3) صحيح ابن حبان -تقريب الإِحسان- برقم (4063، 4091)، ورمز له هكذا [5/ 6]، وهذا يعني أنه من القسم الخامس النوع السادس.

الدلالة على أنه خص باستعماله دون أمته مباح لهم استعمال ذلك الفعل لعدم وجود تخصيصه فيه، ثم ساق الحديث المذكور، وجمهور العلماء على أنه إذا أعتق أمته على أن يتزوج بها يكون عتقها صداقها, لا يلزمها أن تتزوج به، ولا يصح هذا الشرط، وممن قاله مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر. قال الشافعي: فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها أن تتزوج به، بل له عليها قيمتها, لأنه لم يرض بعتقها مجانًا، وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة، فإن رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى، وعليها له قيمتها، وإن تزوجها على قيمتها، فإن كانت معلومة له أو لها صح الصداق ولا يبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق، وإن كانت مجهولة فوجهان لأصحابنا: أحدهما: يصح الصداق كما لو كانت معلومة، لأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف وأصحهما، وبه قال الجمهور، منهم: أنه لا يصح الصداق، بل يصح النكاح ويجب لها مهر المثل، وما حكاه الترمذي فيما سلف عن أحمد وإسحاق، قاله سعيد بن المسيب أيضًا والحسن والنخعي [والزهري] (¬1) والثوري والأوزاعي وأبو يوسف وظاهر الحديث معهم، لكن الجمهور يؤولونه كما سلف: إن عتقها قام مقام الصداق وإنه سماه باسمه. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة.

قال الشيخ تقي الدين القشيري (¬1): والظاهر مع أحمد ومن وافقه إلَّا أن القياس مع الآخرين، فيتردد الحال من ظن نشأ من قياس، وظن نشأ من ظاهر الحديث، مع احتمال الواقعة الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل إلَّا أنه يُتأنس في ذلك بكثرة خصائص الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- في النكاح لاسيما هذه الخصوصية لقوله -تعالى-: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً. . . .} (¬2) الآية. تنبيه: في البخاري (¬3) في باب اتخاذ السراري، ومن أعتق جارية ثم تزوجها من حديث أبي موسى أنه -عليه الصلاة والسلام-: "أعتقها ثم أصدقها"، وذلك يدل على تجديد العقد بصداق غير العتق. وقال البيهقي (¬4): روي من حديث ضعيف أنه أمهرها ثم ذكره، وفي رواية من حديث ابن عمر أن جويرية وقع لها مثل ذلك، لكن أعلها ابن حزم (¬5) بيعقوب بن حميد بن كاسب وهو مختلف فيه ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 210). (¬2) سورة الأحزاب: آية 50. (¬3) البخاري الفتح (9/ 126)، (ح 5083). (¬4) سنن البيهقي (7/ 128، 129)، قال ابن حجر في الفتح (9/ 129) -بعد أن ذكر الحديث-: وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: "أعتقني النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل عتقي صداقي". اهـ محل المقصود. (¬5) المحلى (9/ 504).

لا كما جزم بضعفه. تنبيه [آخر] (¬1): جعل القاضي عياض قوله: "وجعل عتقها صداقها" من قول أنس لم يسنده. قال: ولعله تأويل منه إذا لم يسم لها صداقًا، وبما قاله نظر لا يخفى، فإنه أخبر بما حضره وعلمه وأي إسناد أكثر من هذا (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) قال القرطبي -رحمنا الله وإياه- في المفهم (2398): اعتذر أصحابنا عن قول أنس بشتى أوجه: أحدها: إن قوله، موقوف عليه، والحجة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 129): ناسبًا عن بعض العلماء بأنه قول أنس، قاله ظنًا من قبل نفسه ولم يرفعه، وربما تأيد ذلك عندهم بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة -وفيه: "وأمهرها رزينة"، سبق تخريجه في -ما قبل السابق-، إلى قوله: "وجعل عتقي صداقي", وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال: ذلك بناء على ما ظنه. وثانيها: أن ظاهر قوله: أعتقها وتزوجها أنه كان قد أعتقها ثم تزوجها، وهذا على ما قدمناه في قوله -تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} , وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا. وثالثها: أن قوله: "أصدقها نفسها"، يحتمل أن يكون أن لم يرَ صداقًا، وسُئل عنه قال ذلك. ويعني به: أنه لم يصدقها شيئًا، ويكون هذا من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم -. ورابعها: إنه لو سلم كونه مرفوعًا نصًّا فحينئذٍ يكون من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في باب النكاح، وقد ظهرت له فيه خصائص كثيرة، والله أعلم. اهـ.

الثالث: قد يؤخذ من الحديث استحباب عتق الأمة وتزوجها، وقد صح التصريح به والحث عليه من حديث آخر في الصحيح من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يعتق جاريته ثم يتزوجها له أجران (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (97)، ومسلم في كتاب النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (154)، والترمذي (2384)، وأحمد (4/ 415).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 333/ 2/ 63 - عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلًا، فقال رجل: يا رسول الله، زوَّجنيها وإن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها؟ فقال: ما عندي إلَّا إزاري [هذا] (¬1)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئًا، فقال: ما أجد، قال: التمس ولو خاتمًا من حديد، فالتمس، فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [هل معك شيءٌ من القرآن؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلَّى الله] (¬2) عليه وسلَّم: زوَّجتكها بما معك من القرآن (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من إحكام الأحكام. (¬3) البخاري (2310)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والبغوي في شرح السنة (9/ 117)، وابن ماجه (1889)، والبيهقي (7/ 57، 85، 144)، وأحمد (5/ 330، 336)، والحميدي (2/ 414)، والنسائي (6/ 113)، والدارمي (2/ 142)، ومالك في الموطأ (2/ 562)، والطحاوي في معاني الآثار (3/ 16)، وابن أبي شيبة (4/ 187).

الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع من صحيحه (¬1) منها: تزويج المعسر بلفظ: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، قال: فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر [فيها] (¬2) وصَوَّبه، ثم طأطأ [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقضِ فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، الحديث بمعنى رواية المصنف وفيه فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موليًا فأمر به فَدُعِيَ، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا -عددها- فقال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن". باب: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح (¬4) مختصرًا، وفيه: "أمكناكها بما معك من القرآن"، وذكره في باب التزويج على القرآن وبغير صداق (¬5) فذكره مختصرًا "إنها وهبت نفسها" لرسول الله ثلاث مرات تعيد القول عليه، وتقول , "إنها وهبت نفسها لك، فرَ فيها رأيك"، وفيه: فقال: اذهب فقد أنكحتها بما معك من القرآن"، وذكره مختصرًا في فضائل القرآن في باب: خيركم من تعلم القرآن ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (9/ 131)، (ح 5087). (¬2) زيادة من البخاري. (¬3) زيادة من البخاري. (¬4) البخاري الفتح (9/ 174)، (ح 5121). (¬5) البخاري الفتح (9/ 205)، (ح 5149).

وعلمه (¬1) بلفظ: "إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: ما لي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها، فقال: اعطها ثوبًا، قال: لا أجد، قال: [أعطها] (¬2) ولو خاتم من حديد، فاعتل له، فقال: ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا، قال: فقد زوجتكها بما معك من القرآن"، وذكره أيضًا في باب إذا كان الولي هو الخاطب (¬3)، مختصرًا. وفي باب السلطان وليٌّ (¬4) مختصرًا أيضًا، وفي باب إذا قال: الخاطب [للولي] (¬5) زوجني فلانة، فقال: زوجتك بكذا وكذا، جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت (¬6) مختصرًا أيضًا. وذكره مسلم كما ساقه البخاري أولًا، وفي رواية له: "انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن"، ولم يذكر هذه البخاري، ومقصودي بإيرادي الحديث من الصحيحين أن سياق المصنف له ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (9/ 74)، (ح 5029). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري الفتح (9/ 188)، (ح 5132). (¬4) البخاري الفتح (9/ 190)، (ح 5135). (¬5) زيادة من البخاري. (¬6) البخاري الفتح (9/ 191)، (ح 5141). ومما فات المؤلف -رحمنا الله وإياه- من المواضع التي بوب عليها البخاري في هذا الحديث: 1 - في كتاب الوكالة باب: وكالة المرأة الإِمام، ح (2310). 2 - في كتاب فضائل القرآن باب: القراءة عن ظهر قلب، ح (5030). 3 - في كتاب النكاح باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج ح (5126). 4 - وفي باب: المهر بالعروض وخاتم من حديد، ح (5150).

باللفظ المذكور لم أجدها فيهما ولا في أحدهما. الوجه الثاني: في التعريف براويه، وقد سلف واضحًا في أول باب الجمعة. الوجه الثالث: في بيان المبهم الواقع فيه: أما الواهبة نفسها: فاختلف في اسمها على أربعة أقوال: أحدها: خولة بنت حكيم بن أمية، ويشهد له ما في الصحيحين عن عائشة كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن" (¬1) الحديث. ثانيها: أم شريك وهو الأشهر وقول الأكثرين كما حكاه النووي عنهم ويشهد له رواية النسائي (¬2) عن أم شريك: "أنها كانت ممن وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم. وقيل بنت دودان: ابن عوف، وقيل: عزيلة (¬3). ثالثها: ميمونة بنت الحارث، قاله ابن عباس (¬4). رابعها: زينب بنت خزيمة الأنصارية قاله الشعبي، حكاهما الماوردي (¬5)، وحكى الذي قبله [ابن] (¬6) ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (4788). (¬2) النسائي في الكبرى (5/ 294). (¬3) انظر: الإِصابة (8/ 248، 149). (¬4) قال ابن كثير في التفسير (3/ 521) بعد سياقه: فيه انقطاع وهو مرسل. اهـ. (¬5) الحاوي الكبير (11/ 40). (¬6) زيادة من ن هـ.

بشكوال (¬1) عن إسماعيل القاضي. وأما الرجل الذي سأل تزويجها، فلم أره بعد البحث عنه. ¬

_ (¬1) غوامض الأسماء المبهمة (668، 669). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (8/ 525): قوله (وهبن أنفسهن): هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة، ويأتي في النكاح حديث سهل بن سعد "أن امرأة قالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني وهبت نفسي لك" الحديث، وفيه قصة الرجل الذي طلبها قال: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، ومن حديث أنس "أنَّ امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: إن لي ابنة -فذكرت من جمالها- فآثرتك بها، فقال: قد قبلتها، فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تصاع قط، فقال: لا حاجة لي في ابنتك"، وأخرجه أحمد أيضًا، وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -هي خولة بنت حكيم، وسيأتي الكلام عليه في كتاب النكاح، فإن البخاري أشار إليه معلقًا، ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبي عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح، وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له. ومنهن زينب بنت خزيمة. جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح. ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي ميمونة بت الحارث، وهذا منقطع، وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف. ويعارضه حديث سماك عن عكرمة، عن ابن عباس: "لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها". أخرجه الطبري وإسناده حسن، والمراد أنه لم يدخل بواحدة من وهبت نفسها له وإن كان مباحًا له لأنه راجع إلى إرادته. اهـ، محل المقصود.

وأما القرآن الذي كان يحفظ: ففي سنن أبي داود (¬1) من حديث أبي هريرة أنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها، قال: "فقم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك"، وفي إسنادها عسل بن سفيان، ضعفه يحيى وأبو حاتم وليَّنه أحمد، فقال: ليس هو عندي قوي الحديث (¬2). الوجه الرابع: في ألفاظه: معنى "وهبت نفسي لك"، أي أمر نفسي أو شأن نفسي. و"طويلًا" يجوز أن يكون نعت لمصدر محذوف أي قيامًا طويلًا، كما ورد ذلك في رواية وأن يكون نعت لظرف محذوف أي قامت زمنًا طويلًا، وإنما سأل الرجل تزويجها لما علم من زهده -عليه الصلاة والسلام- فيها بقرينة الحال. و"إزارك" بضم الراء مرفوع على الابتداء والجملة الشرطية بعده خبره، والمفعول الثاني لأعطى محذوف التقدير أعطيتها إياه، والإزار: يذكر ويؤنث ما يشد على الوسط. والخاتم: بكسر التاء وفتحها وخيتام وخاتام وختام وختم ست لغات، والجمع خواتيم، ومحمد خاتم النبيين، بالفتح كالطابع لهم، وبالكسر أي أنه آخرهم، وقد قُرِىءَ بهما، قوله -تعالى-، و "خاتم النبيين". ¬

_ (¬1) سنن أبى داود (2112)، قال المنذري في إسناده: عسل بن سفيان، وهو ضعيف. اهـ. (¬2) انظر: تهذيب الكمال (20/ 52، 55).

وقوله: "ولو خاتمًا من حديد"، أي: لو كان الملتمس خاتمًا من حديد. ويروى بالرفع على تقدير: ولو حضر خاتم من حديد، و "لو" هنا للتقليل، قال القاضي عياض: وهو على المبالغة لا التحديد، قال: وقيل: لعله إنما طلب منه ما يقدمه لا أن يكون جميع مهره خاتم حديد، قال: وهذا يضعف استحباب مالك تقديم ربع دينار (¬1) لا أقل. و"الباء" في قوله: "بما معك"، قيل: إنها الباء المقتضية للمقابلة في العقود كزوجتك بكذا، وبعت كذا بكذا. وقيل: إنها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن، إما بأن يخلي النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة، وإما بأن يخلي عن ذكره فقط، ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق، وجزم المازري (¬2) بالأول فقال: إنها "باء" التعويض، قال: ولم يرد أنه ملكه إياها بحفظه القرآن إكرامًا للقرآن، لأنها تصير بمعنى الموهوبة، وذلك خاص به -عليه الصلاة والسلام-. وقال القاضي (¬3): الأظهر أنه جعل صداقها أن يعلمها بما معه من القرآن أو مقدار منه بدليل رواية مسلم "فعلمها من القرآن". الوجه الخامس: اختلفت الروايات في لفظه "زوجتكها" فالذي ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (16/ 70 - 85). (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 148). (¬3) إكمال إكمال المعلم (4/ 43).

رواه الأكثرون منهم البخاري ومسلم "زوجتكها" وعليها اقتصر المصنف. قال القاضي عياض: قال الدارقطني: وهو الصواب [وهو] (¬1) أكثر وأحفظ، ورويت في "صحيح مسلم": "مُلِّكتها" -بضم الميم وكسر اللام المشددة- على ما لم يسم فاعله، وكذا هي في معظم النسخ منه، ونقلها القاضي عن رواية الأكثرين لمسلم، قال: وفي بعض النسخ: "ملكتكها" بكافين، وكذا رويت في البخاري. قال: وقال الدارقطني: رواية من روى "ملكتها" وهم، وجمع النووي (¬2) -رحمه الله- بين الروايتين، فقال: يحتمل صحة اللفظين، ويكون جرى لفظ التزويج أولًا "فملكها"، ثم قال له: اذهب فقد "ملكتكها" بالتزويج السابق، ونقل الشيخ تقي الدين: هذا عن بعض المتأخرين -وعنى به النووي- ثم قال: [و] (¬3) هذا أولًا بعيد، فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختُلف فيها، وأنها التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، واختلاف [موضع] (¬4) كل واحد من اللفظين، وهو بعيدٌ جدًّا، وأيضًا: فإن لخصمه أن يعكس الأمر، ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك، وقوله: "زوجتكها" إخبار عما مضي بمعناه، فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (4/ 42) ورواتها. (¬2) شرح مسلم (10/ 214)، إكمال إكمال المعلم (4/ 42). (¬3) زيادة من هـ. (¬4) زيادة من ن هـ.

وأيضًا فإن رواية من روى ["مُلَّكتها"] (¬1) التي [لم] (¬2) يتعرض لتأويلها يبعد فيها ما قال، إلَّا على سبيل الإِخبار عن الماضي بمعناه، ولخصمه أن يعكسه، وإنما الصواب في [مثل] (¬3) هذا أن ينظر إلى الترجيح [بأحد وجوهه] (¬4). ثم نقل كلام الدارقطني السالف فإن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها، والظاهر القوي أن الواقع منها أحد الألفاظ، لا كلّها. قلت: وسلك طريق الترجيح من المتأخرين ابن الجوزي أيضًا فقال: في "تحقيقه" (¬5)، هذا الحديث رواه مالك والثوري وابن عيينة وحماد بن زيد وزايدة ووهيب والدراوردي وفضيل بن سليمان فكلهم قال: "زوجتكها"، ورواه أبو غسان فقال: "أنكحناكها"، وروى ثلاثة أنفس "ملكتكها" معمر، وكان كثير الغلط، وعبد العزيز بن أبي حازم، ويعقوب الإِسكندراني وليسا بحافظين، والأخذ برواية الحفاظ الفقهاء مع كثرتهم أولى. قلت: وقد أسلفنا رواية رابعة "مُلَّكتها". وخامسة "أمكناكها". الوجه السادس: في أحكامه وفوائده. ¬

_ (¬1) في هـ (ملكتكها)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬2) زيادة من إحكام الأحكام. (¬3) زيادة من إحكام الأحكام. (¬4) غير موجودة في إحكام الأحكام. (¬5) التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 272). وانظر: فتح الباري (9/ 214، 215).

الأولى: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح الذي يرجى بركته وحصول السعادة بزواجه وصحبته. الثانية: جواز هبة المرأة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونكاحها له كما في الآية الكريمة في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} (¬1) الآية. فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق، لا في الحال ولا في المآل -أعني لا بالدخول ولا بالوفاة- ولا بغيرهما، وهذا هو موضع الخصوصية له - صلى الله عليه وسلم - من الآية والحديث، بخلاف غيره فإنه لابدَّ من المهر في نكاحه إما مسمى وإما مهر المثل، ولما علم الرجل الخصوصية قال: "زوجنيها"، ولم يقل: هبنيها. الثالثة: استدل به بعض الشافعية على أنه ينعقد نكاحه -عليه الصلاة والسلام- بلفظ الهبة من جهة والأرجح عند الشيخ أبي حامد، وهو الأصح في أصل "الروضة" (¬2) للنووي منعه، ولابدَّ من لفظ الإِنكاح أو التزويج كغيره - صلى الله عليه وسلم - وإنما يكتفى بلفظ الهبة من الراغبة فقط، وتحمل الآية والحديث إذن على أن المراد بالهبة من جهته أنه لا مهر لأجل العقد يلفظ وما ذكرته من أن غيره لا ينعقد نكاحه إلَّا بأحد هذين اللفظين، هو قول الشافعي والثوري وأبو ثور وكثير من أصحاب مالك وغيرهم ومالك في إحدى الروايتين عنه. وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد، وعن مالك في الرواية الأخرى عنه أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 50. (¬2) روضة الطالبين (7/ 9).

والبيع إذا قصد به النكاح، سواء ذكر الصداق أم لا, ولا يصح بلفظ الرهن والإجارة والوصية ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ الإِحلال والإِباحة حكاه القاضي عياض (¬1). وقال البغوي في "شرح السنة" (¬2) لا حجة في الحديث لمن أجازه بلفظ التمليك لأن العقد كان واحدًا فلم يكن إلَّا بلفظ واحد، واختلفت الرواية فيه، والظاهر أنه كان بلفظ التزويج على وفاق قول الخاطب زوجنيها، إذ هو الغالب في أمر العقود أنه قل ما يختلف فيه لفظ المتعاقدين ومن نقل غير لفظ التزويج لم يقصد مراعاة اللفظ الذي انعقد به العقد، وإنما قصده الخبر عن جريان العقد على تعليم القرآن بدليل أن بعضهم روى بلفظ الإِمكان، واتفقوا على أن العقد بهذا اللفظ لا يجوز، قلت: وقد سلف البحث في هذا المقام في الوجه الخامس واضحًا، وبيان الترجيح فيه، ورجح بعضهم رواية "زوجتكها" بأنها موافقة لقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح "بما استحللتم من فروجهن بكلمة الله"، والوارد في القرآن التزويج والإِنكاح دون التمليك. الرابع: وفيه جواز طلب الصداق في النكاح، وتسميته فيه وتعجيله، قال أصحابنا: يستحب فيه وإن كان المسمى لا يلزم كما إذا زوج السيد عبده من أمته, وسواء قلنا: إنه يجب ويسقط أو لا يجب أصلًا، كما هو الصحيح إظهارًا لشعار النكاح، ليتميز به عن السفاح. ¬

_ (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 42). (¬2) شرح السنة (9/ 53).

الخامسة: استحباب أن لا يخلى العقد من ذكر الصداق، لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة، فإنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب لها نصف المسمى، فلو لم يكن تسمية لم يجب صداق، فلو عقد من غير ذكر صداق صح عند الشافعي لقوله -تعالى-: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1)، فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر، ثم يجب لها المهر، وهل يجب بالعقد أو بالدخول؟ فيه خلاف مشهور وهما قولان للشافعي: أصحهما بالدخول لظاهر الآية (¬2). السادسة: إرشاد كبير القوم رعيته إلى المصالح والرفق بهم والبدأة بأمر أنفسهم، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إزارك هذا إن أعطيتها جلست ولا إزارَ لك"، قال سهل الراوي: ولم يكن له رداء. السابعة: جواز النكاح المرأة من غير أن تُسأل هل هي في عدة أم لا حملًا على ظاهر الحال، قال الخطابي (¬3): وعادة الحكام يبحثون عن ذلك احتياطًا، قال الشافعي: لا يزوج القاضي من جاءته بطلب الزواج حتى يشهد عدلان أنه ليس لها ولي حاضر، وليست في زوجية ولا غيره، فمن أصحابه من قال: هذا شرط واجب، والأصح عندهم أنه استحباب واحتياط وليس بشرط. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 236. (¬2) انظر: شرح مسلم (10/ 213). (¬3) معالم السنن (3/ 50).

الثامنة: جواز الصداق قل أو كثر مما يتمول إذا تراضيا به الزوجان، وكان ممن يجوز تصرفهما، فإن خاتم الحديد في نهاية من القلة، وهذا مذهب الشافعي وجماهير السلف والخلف منهم: ربيعة وأبو الزناد وابن أبي ذئب ويحيى بن سعيد والليث والنووي والأوزاعي ومسلم بن خالد الزنجي وابن أبي ليلى وداود وفقهاء أهل الحديث وابن وهب من أصحاب مالك، وهو مذهب العلماء كافة من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم. قالوا: يجوز ما تراضى به الزوجان من قليل وكثير: كالسوط والنعل وخاتم الحديد ونحوه، وقال مالك: أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمتها كنصاب السرقة (¬1). وقال القاضي عياض (¬2): وهذا من أفراده. وقال أبو عمر (¬3): لا أعلم أحدًا قال ذلك بالمدينة قبله. وقال أبو حنيفة وأصحابه (¬4): أقله عشرة دراهم. وقال ابن شبرمة (¬5): أقله خمسة دراهم اعتبارًا بنصاب السرقة عندهما. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (16/ 74، 75)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 41)، ومسلم (10/ 213). (¬2) إكمال إكمال المعلم (4/ 41)، ومسلم (10/ 213). (¬3) الاستذكار (16/ 72). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق.

وكره النخعي (¬1): أن يتروج بأقل من أربعين درهمًا، وقال ¬

_ (¬1) المرجع السابق. وحجة أصحاب هذه الأقوال: بأن البضع عضو مستباح ببدل من المال، فلابد أن يكون مقدرًا قياسًا على قطع اليد. واحتجوا أيضًا بأن الله -عز وجل- لمَّا شرط عدم الطول في نكاح الإماء، وأباحه لمن لم يجد طولًا دل على أن الطول لا يجده كل الناس، ولو كان الفلس، والدانق، والقبضة من الشعير، ونحو ذلك طولًا لما عدمه أحد. ومعلوم أن الطول في معنى هذه الآية: المال، ولا يقع اسم المال على أقل من ثلاثة دراهم، فوجب أن يمنع من استباحة الفروج باليسير الذي لا يكون طولًا. قال أبو عمر: هذا كله ليس بشيءٍ، لأنهم لا يفرقون في مبلغ أقل الصداق بين صداق الحرة والأمة، والله أعلم. وإنما شرط الطول في نكاح الحرائر دون الإِماء، وهم لا يجيزون نكاح الأمة بأقل من ربع دينار كما لا يجيزون نكاح الحرة بأقل من ربع دينار. وأما القياس على قطع اليد، فقد عارضهم مخالفوهم بقياس مثله. وأما حجة الكوفيين بحديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صداق بأقل من عشرة دراهم" فلا معنى لها، لأنه حديث لا يثبته أحد من أهل العلم بالحديث. وما رووه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: لا صداق أقل من عشرة دراهم، فإنما يرويه جابر الجعفي عن الشعبي، عن علي، وهو منقطع عندهم ضعيف. اهـ. وقال في الاستذكار (16/ 72، 73، 77): قوله - صلى الله عليه وسلم -: التمس ولو خاتمًا من حديد"، يدل على أن لا تحديد في مبلغ الصداق. وقد أجمعوا أن لا حد، ولا توقيت في أكثره، فكذلك لا حد في أقله، ولا توقيت. انظر أيضًا: التمهيد (2/ 187، 188)، (21/ 115 ,116)، =

مرة: عشرة. وكان ابن حبيب يستحب أن يكون خمسين حكاه أبو عمر، وهذا الحديث الصحيح الصريح حجة على هذه المذاهب. التاسعة: جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف في الإِجازة والمنع حكاه القاضي، والأصح عند الشافعية أنه لا يكره، والحديث في النهي عنه ضعيف، ومنهم من كرهه لكون الحديد من لباس أهل النار، وكان القائل بهذا يجوِّز اتخاذه ويكره لبسه (¬1). ¬

_ = والمنتقى للباجي (3/ 279). (¬1) اختلف العلماء في جواز لبس خاتم الحديد على قولين: القول الأول: الكراهة، مستدلين بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى على بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه، فألقاه، واتخذ خاتمًا من حديد، فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار. فألقاه فاتخذ خاتمًا من ورق، فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أحمد (2/ 163، 179)، قال أحمد شاكر في المسند (10/ 25، 158)، (11/ 166) إسناده صحيح. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 151)، وقال: رواه أحمد والطبراني، ثم قال: وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات. الأدب المفرد (1021)، وشرح معاني الآثار (4/ 261)، قال أحمد شاكر في المسند (1/ 213): إسناده ضعيف لانقطاعه، وجاء من رواية عمر عند أحمد (1/ 21): وفي هذا الحديث إبهام اسم الرجل الذي أنكر عليه، وتوضحه الروايات السابقة عن عبد الله بن عمرو أنه هو المنكر عليه، وبحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى على رجل خاتمًا من حديد، فقال له: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار، ثم جاء وعليه خاتم من شبه، فقال: "ما لي أجد منك ريح الأصنام"، فقال: يا رسول الله، من أي شيء أتخذه؟ قال: "من ورق، ولا تتمه مثقالًا" أخرجه الترمذي =

العاشرة: جواز [كون] (¬1) تعليم القرآن صداقًا، ويلزم منه جواز الاستئجار لتعليمه، وبجوازه قال الشافعي (¬2) وعطاء والحسن بن صالح ومالك وإسحاق وغيرهم. وبمنعه قال الزهري وأبو حنيفة وجماعة (¬3)، وهذا الحديث مع ¬

_ = (1785)، والنسائي (8/ 172)، وأبو داود (4223). (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) الأم (5/ 59). (¬3) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 81، 83): وفي هذا الحديث -أيضًا- دليل على أن تعليم القرآن جائز أن يكون مهرًا؛ لأنه قال للرجل: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، فلما لم يقدر عليه، قال له: "هل معك من القرآن شيء؟ "، فذكر له سورًا، فقال: "قد زوجتكها على ما معك من القرآن". وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء. فقال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما: لا يكون تعليم القرآن مهرًا. وهو قول الليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي. وحجة من ذهب هذا المذهب أن الفروج لا تستباح إلَّا بالأموال، لذكر الله -تعالى- الطول في النكاح. والطَّول: المال، والقرآن ليس بمال، لأن التعليم يختلف، ولا يكاد يُضبط، فأشبه الشيء المجهول. قالوا: ومعنى قوله ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد أنكحتك على ما معك من القرآن إنما هو على جهة التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنه مهر، وإنما زوجه إياها لكونه من أهل القرآن كما روي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه؛ لأنه أسلم، فتزوجها. وقد ذكرنا الخبر بذلك في التمهيد. =

حديث الرقية (¬1) الذي في الصحيح، والحديث الآخر الصحيح "إن ¬

_ = وكان المهر مسكوتًا عنه في الحديثين معًا؛ لأنه معهود معلوم أنه لابدَّ منه. وقال الشافعي وأصحابه: جائز أن يكون نعيم القرآن أو سورة منه مهرًا. وقال إسحاق: هو نكاح جائز. وكان أحمد يكرهه. وقال الشافعي: فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجر التعليم. هذه رواية المزني عنه. وروى عنه الربيع في الموطأ أنه إن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف مهر مثلها؛ لأن تعليم النصف لا يوقف على حد. ومن الحجة للشافعي، ومن قال بقوله أنا تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا. قالوا: ولا معنى لما اعترضوا عليه من دفع ظاهر الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد زوجتكها بما معك من القرآن"؛ لأن ظاهر الحديث، وسياقه يبطل تأويله؛ لأنه التمس فيه الصداق بالإزار، وخاتم الحديد، ثم تعليم القرآن، ولا فائدة لذكر القرآن في الصداق، غير ذلك. وقد أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن علي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمَّد بن عمر بن لبابة، قال: أخبرنى مالك بن علي القرشي عن يحيى بن يحيى بن مضر حدثه عن مالك بن أنس في الذي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينكح بما معه من القرآن أن ذلك في أجرته على تعليمها ما معه من القرآن. وقال ابن القاسم عن مالك لا خير في هذا النكاح، ويفسخ قل الدخول، ويكون لها بعد الدخول مهر المثل. اهـ. انظر: التمهيد (21/ 117، 119). (¬1) من رواية أبي سعيد الخدري أن النبى - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية، فنزلوا بحي، =

أحق ما أخدتم عليه أجرًا كتاب الله" (¬1)، يقوي الأول. وقال القاضي عياض (¬2): إن منع الاسئتجار لتعليمه من أفراد أبي حنيفة. فرع: يقدر التعليم بمدة كشهر ونحوه على الأصح، وتتعين السور والآيات، فإن أحل بأحدهما لم يصح على الأصح لتفاوتهما في سهولة الحفظ وصعوبته، وظاهر رواية أبي داود التي أسلفناها في الوجه الثالث يخالفه ولا يشترط تعيين القراءة كقراءة أبي عمرو أو نافع على الأصح إذ الأمر فيها قريب، ولو عين قراءة تعينت فإن [أقرأه] (¬3) غيرها فهل يستحق أجرة المثل أم لا يستحق؟ وفيه وجهان، حكاهما الشافعي في كتاب الصداق. الحادية عشرة: فيه جواز كون الصداق منفعة [حر] (¬4) وخالف ¬

_ = وفيه: "ومن أين علمتم أنها رقية من أخذ برقية باطل، فقد أخذتم برقية حق، اضربوا لي معكم بسهم". أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (2201)، وأبو داود (3418، 3900)، والنسائي في اليوم والليلة (1027، 1028، 1029 , 1030)، والترمذي (2063)، وأحمد (3/ 2، 10، 44)، وابن ماجه (2156). (¬1) البخاري (5737)، والبغوي (2187)، والبيهقي (6/ 124)، والبغوي (2187). (¬2) ذكره في شرح مسلم (10/ 214)، وإكمال إكمال المعلم (6/ 16)، والاستذكار (16/ 87). (¬3) في هـ (قرأه). (¬4) في هـ بياض بمقدار كلمة. =

أصحاب الرأي فيه، قال القاضي: وبجواز كون المنافع صداقًا على الإِطلاق، قال الشافعي: وإسحاق والحسن بن حي. وبكراهته، قال أحمد. وعن مالك وأصحابه: قولان الجواز ابتداءً ومطلقًا، والفسخ ما لم يدخل. الثانية عشرة: صحة النكاح بالإِيجاب والاستحباب، وقد ترجم ¬

_ = قال ابن عبد البر في الاستذكار (16/ 84): وقال ابن القاسم عن مالك: لا خير في هذا النكاح، ويُفسخ قبل الدخول، ويكون لها بعد الدخول صداق المثل. قال ابن القاسم: وكذلك من تزوج بقصاص وجب له عليها. وقال سحنون: النكاح جائز، دخل، أو لم يدخل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف فيمن تزوج على خدمة سنة إن كان عبدًا، فلها خدمته سنة، وإن كان حرًا، فلها مهر مثلها. وقال محمَّد: لها قيمة خدمته إن كان حرًا. وقال الأوزاعي: إن تزوجها على أن يحج بها، ثم طلقها قبل الدخول بها، فهو ضامن لنصف حجها من الحملان والكسوة. وقال الشافعي والحسن بن حي: النكاح جائز على الخدمة إذا كان وقتًا معلومًا. قال الشافعي: وكذلك كل عمل مسمى معلوم، مثل أن يعلمها قرآنًا، أو يعلم لها عبدًا عملًا. وقال ابن حبيب في الذي يتزوج المرأة على أن يؤاجرها نفسه سنة أن ذلك جائز، ولا يدخل بها حتى يقدم من الأجرة شيئًا يكون قدر ربع دينار. اهـ.

البخاري (¬1) عليه في بعض تراجمه بذلك كما سلف. الثالثة عشرة: استنبط بعضهم من قوله: "فقامت طويلًا", أنه يستحب لمن طلبت منه حاجة لا يمكن قضاؤها أن يسكت سكوتًا يفهم منه السائل ذلك ولا يخجله بالمنع (¬2). قلت: لكن يخدش هذا رواية البخاري (¬3) السالفة، "فقال: ما لي في النساء من حاجة". قال بعض الشراح: ويستنبط منه أيضًا حسن أدبها إذ لم تلح عليه. قلت: رواية البخاري (¬4) السالفة تخدش هذا أنها أعادت عليه ذلك ثلاثًا (¬5). ¬

_ (¬1) في الفتح (9/ 198)، باب: إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة، فقال: قد زوجتك بكذا وكذا، جاز النكاح وإن لم يقل للزوج أرضيت أو قبلت. (¬2) ذكره النووي في شرح مسلم (10/ 212). (¬3) حديث (5141)، والفتح (9/ 198). (¬4) حديث (5149)، والفتح (9/ 205). (¬5) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 206): قوله (فلم يجبها شيئًا): وفي رواية معمر والثوري وزائدة: "فصمت"، وفي رواية يعقوب وابن أبي حازم وهشام بن سعد: "فنظر إليها فصعد النظر إليها وصوبه"، وهو بتشديد العين من صعد والواو من صوب، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، والتشديد إما للمبالغة في التأمل وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في "المفهم"، قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارًا. ووقع في رواية فضيل بن سليمان: "فخفض فيها البصر ورفعه"، وهما بالتشديد أيضًا، ووقع في رواية الكشميهني من هذا الوجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = "النظر" بدل البصر، وقال في هذه الرواية: "ثم طأطأ رأسه"، وهو بمعنى قوله: "فصمت"، وقال في رواية فضيل بن سليمان: "فلم يردها"، وقد قدمت ضبط هذه اللفظة في "باب إذا كان الولي هو الخاطب". قوله (ثم قامت فقالت): وقع هذا في رواية المستملي والكشميهني وسياق لفظها كالأول، وعندهما أيضًا: "ثم قامت الثالثة"، وسياقها كذلك، وفي رواية معمر والثوري معًا عند الطبراني: "فصمت، ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة مليًا تعرض نفسها عليه وهو صامت"، وفي رواية مالك: "فقامت طويلًا" ومثله للثوري عنه وهو نعت مصدر محذوف، أي قيامًا طويلًا، أو لظرف محذوف أي زمانًا طويلًا، وفي رواية مبشر: "فقامت حتى رثينا لها من طول القيام"، زاد في رواية يعقوب وابن أبي حازم: "فلما رأت المرأة أنه لم يقضِ فيها شيئًا جلست"، ووقع في رواية حماد بن زيد أنها: "وهبت نفسها لله ولرسوله فقال: ما لي في النساء حاجة"، ويجمع بينها وبين ما تقدم أنه قال ذلك في آخر الحال، فكأنه صمت أولًا لتفهم أنه لم يردها، فلما أعادت الطلب أفصح لها بالواقع. ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي: "جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرضت نفسها عليه، فقال لها اجلسي، فجلست ساعة ثم قامت، فقال: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك"، فيؤخذ منه وفور أدب المرأة مع شدة رغبتها لأنها لم تبالغ في الإلحاح في الطلب، وفهمت من السكوت عدم الرغبة، لكنها لما لم تيأس من الرد جلست تنتظر الفرج، وسكوته - صلى الله عليه وسلم - إما حياء من مواجهتها بالرد وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء جدًا كما تقدم في صفته أنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإما انتظارًا للوحي، وإما تفكرًا في جواب يناسب المقام. اهـ.

الرابعة عشرة: فيه جواز تزويج المعسر، وقد أسلفنا أن البخاري (¬1) ترجم عليه بذلك، وهو مقتضى قول الله -تعالى- أيضًا: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2). الخامسة عشرة: استدل به بعضهم على أن الهبة لا تدخل في ملك الموهوب إلَّا بالقبول فإنها وهبت نفسها ولم تصر زوجة بذلك. السادسة عشرة: قال القاضي عياض (¬3): وفي قول الرجل: زوجنيها دلالة على جواز الخطبة على الخطبة إذا لم يتراكنا لما رأى من زهده -عليه الصلاة والسلام- فيها، قال الباجي (¬4): فيه جواز ذلك باستئذانه لأنه حقه ثم ضعف القاضي (¬5) وجه الاستدلال بذلك، لأنه لم يكن هناك خطبة إلَّا من المرأة، والرجل لم يخطبها قبله أحد، وهو كما قال. السابعة عشر: قال: وفي قوله "ما عندي إلَّا إزاري"، وقوله: "إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك"، دلالة على أن إصداق المال يخرجه من يد مالكه، وأن من أصدق جارية حرمت عليه وأن البيعات لا تصح إلَّا بصحة تسلمها أو إمكان ذلك، ومتى لم يكن ذلك لم ينعقد فيه بيع ولا به، سواء امتنع ذلك حسًّا كالطير في الهواء أو شرعًا كالمرهون، ومثل هذا الذي لو زال إزاره انكشف. ¬

_ (¬1) الفتح (9/ 131)، (ح 5087). (¬2) سورة النور: آية 32. (¬3) إكمال إكمال المعلم (4/ 40). (¬4) المنتقى للباجي (3/ 276). (¬5) أي القاضي عياض.

الثامنة عشرة: قال: قيل فيه دليل أيضًا على أنه سكوت من عقد عليه عقد في جماعة يلزمه إذا لم يمنعه من الإنكار خوف أو حياء أو آفة سمع أو فهم. التاسعة عشرة: قال: واستدل على أن الإمام أولى بنكاح المرأة إذا ولته أمرها من الولي ولا حجة فيه لأنه -عليه الصلاة والسلام- في هذا بخلاف غيره، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولأنه ليس في الحديث بيان أن لها وليًّا. العشرون: فيه إشارة إلى الحض على تعليم القرآن وعظيم شأن حامله، ذكره البخاري (¬1) في باب: خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه، من أبواب فضائل القرآن كما سلفت. تنبيهات: أحدها: نقل أبو عمر (¬2): الإجماع على أنه لا يجوز لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطأ فرجًا وهب له دون [الرقبة] (¬3) وأنه لا يجوز [له] (¬4) وطء في نكاح بغير صداق مسمى [نقدًا، أو دينًا] (¬5) وأن المفوض إليه لا يدخل حتى يُسَمِّي [فإن دخل قبل التسمية لزم مهر المثل] (¬6)، ¬

_ (¬1) الفتح (9/ 74)، (ح 5029). (¬2) الاستذكار (16/ 67). (¬3) في المرجع السابق: رقبته. (¬4) زيادة من المرجع السابق. (¬5) تقديم وتأخير في المرجع السابق. (¬6) العبارة في المرجع السابق: صداقًا، فإن وقع الدخول في ذلك، لزم فيه صداق المثل.

والقياس (¬1) أن كل ما يجوز بيعه ومعاوضته يجوز هبته إلَّا أن الله -تعالى- خصَّ النساء بالمهور المعلومات ثمنًا لأبضاعهن، بقوله -تعالى-: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬2). وقال القاضي (¬3): اختلف قول مالك في الواهبة نفسها باسم ¬

_ (¬1) الاستذكار (16/ 65، 66). (¬2) سورة النساء: آية 4. (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 40)، والمنتقى للباجي (3/ 275)، وذكر ذلك عن ابن حبيب. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 67، 69): واختلفوا في عقد النكاح بلفظ الهبة، مثل أن يقول الرجل: قد وهبت لك ابنتي، أو وليتي، وسمّى صداقًا، أو لم يسم، وهو يريد بذلك النكاح: فقال الشافعي: لا يحل الصداق بهبته بلفظ الهبة، ولا ينعقد النكاح حتى يقول: قد أنكحتك، أو زوجتك. وهو قول سعيد بن المسيب، وربيعة، قالا: لا يجوز النكاح بلفظ الهبة. وهو قول المغيرة، وابن دينار، وابن أبي سلمة. وبه قال أبو ثور وداود وغيرهم. واختلف في ذلك أصحاب مالك، واختلفت الرواية عنه في ذلك على قولين: أحدهما: أن النكاح ينعقد بلفظ الهبة إذا أرادرا النكاح، وفرضوا الصداق. والثاني: كقول الشافعي، وربيعة. وقال ابن القاسم عن مالك: لا تحل الهبة لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح، وإنما وهبها له ليحضنها، أو ليكفلها، فلا أرى بذلك بأسًا. =

النكاح بغير صداق، هل يفسخ قبل الدخول أم لا؟ ولا يختلف أنه يفسخ قبله على المعروف دون الشاذ، وأنه كنكاح التفويض. وقال ابن حبيب: إن عني بالهبة غير النكاح ولم يعن به هبة الصداق فيفسخ قبل الدخول وثبت بعده بمهر المثل وإن أراد نكاحها بغير ¬

_ = قال ابن القاسم: وإن وهب ابنته، وهو يريد إنكاحها، فلا أحفظه عن مالك، وهو عندي جائز كالبيع. وقال مالك: من قال: أهب لك هذه السلعة على أن تعطيني كذا وكذا، فهو بيع. وإلى هذا ذهب أكثر المتأخرين من المالكيين البغداديين، قالوا: إذا قال الرجل: قد وهبت لك ابنتي على دينار جاز، وكان نكاحًا صحيحًا وكان قياسًا على البيع. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي: يعقد النكاح بلفظ الهبة إذا شهد عليه، ولها المهر المسمَّى إن كان سمَّى، وإن لم يسم لها مهر مثلها. ومما احتج به أيضًا أصحاب أبي حنيفة في هذا أن الطلاق يقع بالتصريح، وبالكناية قالوا: فكذلك النكاح. قالوا: والذي خُصَّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعري البضع من العوض، لا النكاح بلفظ الهبة. قال أبو عمر: لما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ النكاح، وجب ألا ينعقد النكاح بلفظ الهبة، وبالله التوفيق. ومن جهة النظر النكاح مفتقر إلى التصريح ليقع الإشهاد عليه، وهو ضد الطلاق، فكيف يقاس عليه. وقد أجمعوا أنه لا ينعقد نكاح بقوله: قد أحللت، وقد أبحت لك، فكذلك لفظ الهبة. اهـ.

صداق لم يجز فإن أصدقها ربع دينار فأكثر لزم. قال القاضي (¬1): ووهمه بعض شيوخنا لأن الواهبة نفسها بغير معنى النكاح سفاح يثبت فيه الحد وإنما الخلاف فيما أريد به النكاح. ثانيها: كره مالك تأجيل الصداق، فإن وقع جاز، وظاهر قوله في الحديث "التمس" عدم كونه دينًا، وجوّزه أصحابنا وعند المالكية خلاف منتشر في قدر الأجل، فقيل: إلى العشر، وقيل: أكثر، وقال سحنون: من الناس من كره قرب أجله كما كره بعده (¬2). ثالثها: قال ابن الطلاع (¬3) في "أحكامه": هذا الحديث منسوخ عند ابن حبيب، وقال غيره: هو من خواص النبي - صلى الله عليه وسلم -, ولم يأخذ به أحد من أصحابه ولا التابعين ولا الفقهاء غير الشافعي. قلت: هذا قاله الطحاوي والأبهري والليث ومكحول -أعني ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 40). (¬2) انظر المرجع السابق. (¬3) أي أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (87). قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 48، 49): وادعى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ بقوله: "لا نكاح إلَّا بولي"، ولا يصح ذلك، فإن الموهوبة كانت تحل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جعلت أمرها إليه، فزوجها بالولاية. وأما دعوى الخصوص في الحديث، فإنها من وجه دون وجه، فالمخصوص به - صلى الله عليه وسلم -: هو نكاحه بالهبة لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.

الخصوصية به -قال الأبهري: وهو خاص بذلك الرجل أيضًا. وقال الطحاوي: لما كانت الموهوبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - جائزة له في النكاح جاز له أن يهبها أيضًا في النكاح ويصحح ذلك أنه ملكها له ولم يشاورها، قال القاضي عياض (¬1): وهذا يحتاج إلى دليل، وتكون الباء على هذا بمعنى اللام، أي لما حفظت من القرآن وصرت لها كفوًا في الدين. وقد يكون مع هذا التقدير أيضًا: أنه يريد أن ينكحها إياه لما معه من القرآن إذا رضيته لها ويبقى ذكر المهر مسكوتًا عنه إما لأنه أصدق عنه كما كفر عن الواطىء في رمضان وودي المقتول بخيبر أو أنكحه تفويضًا والصداق في الذمة. وأشار الداودي (¬2): إلى أنه أنكحها بلا مشورتها ,لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ونقل المنذري (¬3) عن بعضهم نسخ هذا الحديث أيضًا، وقوله: "لا نكاح إلَّا بولي" وهو من الغرائب. رابعها: لم يذكر في الحديث معرفة الزوج لحفظ المرأة وسرعة قبولها لما تتعلمه. قال المازري (¬4): ويحمل ذلك على أن أفهام [النساء] متقاربة ومَبْلَغُهَا معروف أو في حكم المعروف. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 43). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 43). (¬3) سبق وأن أشرت إلى ذلك نقلًا عن ابن القيم. (¬4) في الأصل ون هـ (الناس)، وما أثبت من المعلم (2/ 149)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 44).

قلت: لكن ظاهر مذهبهم أنه لابدَّ من اختبار حفظ المتعلم. وقال إمام الحرمين من الشافعية: أَوَدُّ لو اشترط ومذهبهم خلافه. قال الغزالي: ولا يشترط رؤية المتعلم أيضًا.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 334/ 3/ 63 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبد الرحمن بن عوف، وعليه ردع زعفران، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مهيم؟ فقال: يا رسول الله تزوجت امرأةً، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: فبارك الله لك، أو لم ولو بشاةٍ" (¬1). " [الردع] (¬2) " (¬3)، براء ودال وعين مهملات [أثر الزعفران] (¬4). الكلام عليه من وجوه: الأول: "مهيم": تفسيره ما أمرك. ¬

_ (¬1) البخاري (2049)، ومسلم (1427)، والترمذي (1094، 1933)، وأبو داود (2109)، وابن ماجه (1907)، والبغوي (2308، 2309، 2310)، والبيهقي (7/ 236)، والنسائي (16/ 119، 120، 137)، وابن الجارود (726)، وأحمد (3/ 190، 204، 205، 274، 277، 278)، والحميدي (1218)، والطيالسي (1978)، والموطأ (2/ 545). (¬2) في إحكام الأحكام: (ردع). (¬3) في ن هـ وإحكام الأحكام زيادة (الزعفران). (¬4) زيادة من هـ.

والنواة: خمسة دراهم. الثاني: في التعريف براويه، وقد أسلفنا في الباب أنه سبق التعريف به في باب الاستطابة. وعبد الرحمن بن عوف فيه ترجمته مبسوطة فيما أفردنا في الكلام على رجال الكتاب وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الذين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وكان إسلامه قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، وذكر ابن أبي خيثمة من حديث ابن أبي أوفى أنه -عليه الصلاة والسلام- آخى بينه وبين عثمان، وهذا الإخاء كان بمكة، والأول كان بالمدينة، وكان تاجرًا، وكان له ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، وكان يدخر من ذلك قوت أهله منه , وكان يدعو وهو يطوف بالبيت: اللهم [قني شح نفسي] (¬1)، وروي عنه أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا. ولما حضرته الوفاة بكى بكاءً شديدًا فسُئِل عن بكائه؟ فقال: مات مصعب بن عمير على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان خيرًا مني ولم يكن له ما يكفن فيه، وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرًا مني ولم يجد له كفنًا وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا، وأخشى أن أحبس عن أصحابي بكثرة مالي. مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثلاثين، وقد جاوز السبعين. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل، والزيادة من ن هـ.

الثالث: هذه المرأة التي تزوجها عبد الرحمن، قال أبو عمر (¬1): هي بنت أنيس بن رافع من الأوس، وولدت له القاسم وأبا عثمان، قيل: اسمه عبد الله، كما قيل في اسم ولده: أبي سلمة، يقال لأحدهما عبد الله الأكبر، وللآخر عبد الله الأصغر، وسبقه إليه الزبير فقال: إنها ابنة أنيس [بن أنس] (¬2) بن رافع بن امرئ القيس. الوجه الرابع: في ألفاظه: الأول: "الردع" (¬3) قد ضبطه المصنف براء ودال وعين مهملات وفسره بالأثر، وهذه اللفظة أعني الردع لم أرها في الصحيحين وإنما رواه البخاري في أول البيوع (¬4) بلفظ: "وعليه وضر صفرة"، وكذا رواه في باب كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه (¬5)، وذكر في أولهما أنه -عليه الصلاة والسلام- آخى بينه وبين سعد بن الربيع، ورواه في النكاح (¬6) في باب الصفرة للمتزوج، وفي باب كيف يدعا (¬7) له بلفظ: "أثر صفرة"، وكذا رواه مسلم، قال النووي ¬

_ (¬1) الاستذكار (16/ 340). (¬2) في ن هـ ساقطة. في الفتح (9/ 234) (بنت أبي الحيسر أنس بن رافع)، هكذا نقلًا عن الزبير. (¬3) انظر: فتح الباري (9/ 333). (¬4) البخاري في كتاب البيوع، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، (ح 2049). (¬5) الفتح (7/ 270)، (ح 3937). (¬6) الفتح (9/ 221)، برقم (5153). (¬7) الفتح (9/ 221)، برقم (5155).

في "شرح مسلم" (¬1): "أثر صفرة"، وفي [رواية في] (¬2) غير كتاب مسلم: "رأى عليه صفرة"، وفي رواية: "ردع من زعفران"، قال: والردع أثر الطيب. قلت: وكذا الوضر، أيضًا، قال ابن الجوزي في "غريبه" (¬3): ويكون الوضر من الصفرة والحمرة والطيب. الثاني: "مهيم" بفتح أوله وإسكان ثانيه وفتح ثالثه، وقد فسرها المصنف بقوله: ما أمرك؟ وهي كلمة يمانية (¬4). ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 216). (¬2) هذه الإِضافة من شرح مسلم. (¬3) غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 472). (¬4) المجموع المغيث (3/ 246)، وغريب ابن الجوزي (2/ 279). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 234): "فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: مهيم"؟ ومعناه ما شأنك أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة، وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى أخبر، ووقع في رواية للطبراني في الأوسط "فقال له مهيم؟ وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء"، ووقع في رواية ابن السكن "مهين" بنون آخره بدل الميم، والأول هو المعروف، ووقع في رواية حماد بن زيد عن ثابت عند المصنف، وكذا في رواية عبد العزيز بن صهيب عند أبي عوانة: "قال ما هذا"، وقال في جوابه: "تزوجت امرأة من الأنصار"، وللطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة بسند فيه ضعف "إن عبد الرحمن بن عوف أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خضب بالصفرة فقال: ما هذا الخضاب؟ أعرست؟ قال: نعم. اهـ.

قال بعضهم: ويشبه أن تكون مركبة واستبعد بأنه لا يكاد يوجد اسم مركب على أربعة أحرف. وقال إمام الحرمين: إنها كلمة تستعمل في التهاني، رآها البصريون من الأصول: كصه، ومه. وقال الكوفيون: معناه ما هذه؟ فإنه يستعمل في السؤال. الثالث: قوله: "وزن نواة" فيه قولان: أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو مرجوح، ولا يتحرر الوزن فيه لاختلاف نوى التمر في المقدار. والثاني: أنه عبارة عن مقدار معلوم عندهم، وهو وزن خمسة دراهم، وبه جزم المصنف كما سلف عنه، ثم في المعنى وجهان: أحدهما: أن يكون المصْدَق ذهبًا وزنه خمسة دراهم. والثاني: أن يكون المصدق دراهم وزن نواة من ذهب، وعلى الأول يتعلق قوله: "من ذهب"، بلفظ: "وزن"، وعلى الثاني يتعلق "بنواة"، ذكره كله الشيخ تقي الدين (¬1)، وقال ابن الجوزي في "غريبه" (¬2) في المراد بالنواة هنا قولان: ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 221). (¬2) غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 442). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 234، 235): قوله (كم أصدقتها): كذا في رواية حماد بن سلمة ومعمر عن ثابت، وفي رواية الطبراني: "على كم"، وفي رواية الثوري وزهير: "ما سقت إليها"، وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه، وفي رواية مالك: "كم سقت إليها". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قوله (وزن نواة): بنصب النون على تقدير فعل أي أصدقتها، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ أي الذي أصدقتها هو. قوله (من ذهب): كذا وقع الجزم به في رواية ابن عيينة والثوري، وكذا في رواية حماد بن سلمة عن ثابت وحميد، وفي رواية زهير وابن علية: "نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب"، وكذا في رواية عبد الرحمن نفسه بالشك، وفي رواية شعبة عن عبد العزيز بن صهيب: "على وزن نواة"، وعن قتادة: "على وزن نواة من ذهب"، ومثل الأخير في رواية حماد بن زيد عن ثابت، وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة، ولمسلم من رواية شعبة عن أبي حمزة عن أنس: "على وزن نواة. قال: فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب"، ورجح الداودي رواية من قال: "على نواة من ذهب، واستنكر رواية من روى: "وزن نواة"، واستنكاره هو المنكر، لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ، قال عياض: لا وهم في الرواية لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره أو كان للنواة قدر معلوم صلح أن يقال في كل ذلك وزن نواة، واختلف في المراد بقوله: "نواة"، فقيل: المراد واحدة نوى التمر كما يوزن بنوى الخروب وأن القيمة عنها يومئذٍ كانت خمسة دراهم، وقيل: كان قدرها يومئذٍ ربع دينار، ورد بأن نوى التمر يختلف في الوزن فكيف يجعل معيارًا لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عما قيمته خمسة دراهم من الورق، وجزم به الخطابي واختاره الأزهري، ونقله عياض عن أكثر العلماء، ويؤيده أن في رواية للبيهقي من طريق سعيد بن بشر عن قتادة "وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم"، وقيل: وزنها من الذهب خمسة دراهم، حكاه ابن قتيبة وجزم به ابن فارس، وجعله البيضاوي الظاهر، واستبعد لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل ونصفًا. ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند =

أحدهما: إنها وزن خمسة دراهم. والثاني: أن قيمتها خمسة دراهم، وعزاهما إلى ابن قتيبة وأن الأزهري (¬1) اختار الثاني. وقال الخطابي (¬2): النواة اسم لمقدار معروف فسروها بخمسة دراهم من ذهب، ونقله القاضي عياض (¬3) عن تفسير أكثر العلماء، وكذا قال صاحب الاستذكار (¬4) أن أكثر أهل العلم يقولون: وزنها خمسة دراهم، ويؤيده أن في بعض طرق الحديث وزن نواة من ذهب قومت خمسة دراهم، [رواها] (¬5) البيهقي (¬6) وليس في سندها غير ¬

_ = البيهقي: "قومت ثلاثة دراهم وثلثًا"، وإسناده ضعيف، ولكن جزم به أحمد، وقيل: ثلاثة ونصف، وقيل: ثلاثة وربع، وعن بعض المالكية النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيد هذا ما وقع عبد الطبراني في الأوسط في آخر حديث، قال أنس: جاء وزنها ربع دينار، وقد قال الشافعي: النواة ربع النش، والنش نصف أوقية، والأوقية أربعون درهمًا فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية، وبه جزم أبو عوانة وآخرون. (¬1) تهذيب اللغة (11/ 282)، وغريب الحديث لأبي عبيد (2/ 189)، وغريب الحديث للحربي (2/ 879). (¬2) معالم السنن (3/ 47). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 45). (¬4) الاستذكار (16/ 340، 341). (¬5) في هـ (ووهاها) وهو تصحيف. (¬6) معرفة السنن والآثار (10/ 211، 212)، والسنن الكبرى (7/ 237).

سعيد بن بشير صاحب قتادة وهو صدوق، وثقه شعبة وغيره، وقال البخاري: يتكلمون في حفظه، وأما ابن حبان فقال: إنه فاحش الخطأ وفيها قول آخر: إنها ثلاثة دراهم وثلث. قاله الإِمام أحمد: ويؤيده رواية البيهقي (¬1) عن حجاج، عن قتادة، عن أنس قال: قومت -يعني النواة- ثلاثة دراهم وثلث (¬2)، وحجاج هو ابن أرطأة: ضعيف (¬3)، وقتادة مدلس وقد عنعن لا جرم، قال ابن عبد البر (¬4): هذا حديث لا تقوم به الحجة لضعف إسناده، وفيها أقوال أخر: أنها ثلاثة دراهم وربع، وقيل: ونصف، وقيل: ثلاثة، وقيل: خمسة ونصف. وقال بعض المالكية: إنها ربع دينار عند أهل المدينة، وظاهر كلام أبي عبيد، كما نقله عنه القاضي (¬5) ثم النووي (¬6)، بل هو نص كلامه أنه دفع خمسة دراهم، قال: ولم يكن [هناك] (¬7) ذهب إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة، كما تسمى الأربعون أوقية. وضعف البغوي في "شرح السنة" (¬8) قول من قال: إن النواة من الذهب قيمتها ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (7/ 237). (¬2) وقيل: وربع كما ذكره في الاستذكار (16/ 341). (¬3) وضعفه ابن حجر في الفتح (9/ 334، 335) وقال: ولكن جزم به أحمد. (¬4) التمهيد (2/ 186). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 45). (¬6) شرح مسلم (9/ 216). (¬7) في هـ ساقطة. (¬8) شرح مسلم (9/ 134).

خمسة دراهم، فقال: إنه ليس بصحيح لكن الرواية التي أسلفناها من عند البيهقي تشهد له، [قال] (¬1) البغوي: [فقال الشافعي] (¬2): إنها ربع النش، والنش نصف الأوقية، قال: وهو كما قال: فهو اسم معروف لمقدار معلوم، فهي كالأوقية: اسمٌ لأربعين [درهمًا] (¬3) والنش لعشرين درهمًا. الرابع: "الوليمة" مشتقة من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان، قاله الأزهري (¬4) وغيره. قال ابن الأعرابي: أصلها تمام الشيء واجتماعه والفعل منها أو لم وهي الطعام المتخذ للعرس وهو من المطلوب شرعًا ومن فوائده مع مكارم الأخلاق اشتهار النكاح به، وسنذكر آخر الكلام على الحديث أنواع الضيافات إن شاء الله. الخامس: قوله: "ولو بشاة" الواو للتعليل وليست "لو" الذي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره، وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التمني. [السادس: معنى قوله "أولِم": اصنع الوليمة. والبركة: زيادة الخير] (¬5). ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ (قال الشافعي). (¬3) زيادة من شرح السنة. (¬4) الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي (209). (¬5) في هـ ساقطة.

الوجه [السابع] (¬1): في فوائده وأحكامه: الأولى: أنه يستحب للإمام والفاضل تفقد أصحابه والسؤال عما يختلف من أحوالهم، وليس ذلك من كثرة السؤال المنهي عنه (¬2). الثانية: اختلف العلماء في عدم إنكاره -عليه الصلاة والسلام-[التزعفر] (¬3) على عبد الرحمن بن عوف على أقوال: أصحها: وهو ما اختاره القاضي (¬4) والمحققون أنه تعلق به من طيب العروس ولم يقصده ولا تعمد التزعفر [فقد] (¬5) ثبت في الصحيح النهي عن [التزعفر] (¬6) للرجال، وكذا نهى الرجال عن الخلوق (¬7)، لأنه شعار النساء، ¬

_ (¬1) في هـ (الرابع). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 44) عن القاضي عياض. (¬3) في هـ (المزعفر). (¬4) إكمال إكمال المعلم (4/ 44). (¬5) في هـ (وقد). (¬6) في هـ (المزعفر). من رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن التزعفر". البخاري (5846)، مسلم (2101)، وأبو داود (4179)، والنسائي (8/ 189)، والترمذي (2815)، وأحمد (3/ 101)، والطيالسي (2063)، والبيهقي (5/ 36)، والبغوي (3160). قال الترمذي: "معنى كراهية التزعفر للرجل أن يتطيب به". اهـ. (¬7) من حديث يعلي بن مرة - رضي الله عنه -، مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا متخلق بالزعفران، فقال لي: يا يعلى! ألك امرأة؟ قلت: لا، قال: اذهب فاغسله". أخرجه أبو داود (4178)، وأحمد (4/ 403). =

وقد نهوا عن التشبه [بهن] (¬1). وثانيها: أنه يرخص فيه للرجل العروس وقد جاء ذلك في أثر، ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه. ثالثها: أنه لعله كان يسيرًا فلم ينكر، ويؤيده تفسيره بالأثر. رابعها: كان في أول الإِسلام من تزوج لبس ثوبًا مصبوغًا علامة لسروره وزواجه، قال القاضي (¬2): وهذا غير معروف على أن ¬

_ = ومن رواية عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ بخلوق، ولا الجنب". أخرجه أبو داود (4176)، وأحمد (4/ 320). (¬1) في الأصل (بهم)، وهـ ساقطة, وما أثبت من المحقق. من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المذكرات من النساء، والمخنثين من الرجال". أخرجه البخاري (5885)، وأبو داود (4097، 4930)، والترمذي (2784، 2785)، وابن ماجه (1904)، وأحمد (1/ 225، 227، 237، 254، 330، 365)، والدرامي (2/ 278)، والبيهقي (8/ 224). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 236) بعد سياقه الأثر عن أبي عبيد: قال: وقيل: كان في أول الإسلام من تزوج لبس ثوبًا مصبوغًا علامة لزواجه ليعان على وليمة عرسه، قال: وهذا غير معروف، قلت: وفي استفهام النبي - صلى الله عليه وسلم - له عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه عند أبي عوانة من طريق شعبة عن حميد بلفظ: "فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى علي بشاشة العرس فقال: "أتزوجت؟ قلت: تزوجت امرأة من الأنصار"، فقد يتمسك بهذا السياق للمدعي، ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له: "مهيم أو ما هذا" فهو المعتمد، وبشاشة العرس أثره وحسنه أو فرحه وسروره. اهـ.

بعضهم جعله أولى ما قيل في هذا. خامسها (¬1): أنه يحتمل أنه كان في ثيابه دون بدنه ومذهب مالك وأصحابه جواز لبس الثياب المزعفرة، وحكاه مالك عن علماء المدينة (¬2)، وهو مذهب ابن عمر (¬3) وغيره. وقال الشافعي وأبو حنيفة (¬4): لا يجوز ذلك للرجل لا في الثوب ولا في اللحية، وحكى ابن شعبان المالكي (¬5) عن أصحابهم كراهته في اللحية (¬6)، قال الباجي (¬7): وروى الداروردي أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلىء ثيابه منها، [وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 45)، وشرح مسلم (9/ 216). (¬2) انظر: الاستذكار (16/ 342). (¬3) المرجع السابق من رواية عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران، فقيل له في ذلك، فقال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ به، ورأيته أحب الطيب إليه". أخرجه البخاري (5851)، ومسلم (1187)، وأبو داود (4064)، والنسائى (5085). (¬4) مستدلين بحديث أنس نهى عن التزعفر، سبق تخريجه. (¬5) هو أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة العماري، له مؤلفات كثيرة، "الزاهي" في الفقه المالكي، و"أحكام القرآن" و "مناقب القرآن" و"مناقب مالك"، مات في جمادى الأولى سنة خمسٍ وخمسين وثلائمائة، ترجمته في "ترتيب المدارك" (3/ 293، 294)، والديباج المذهب (2/ 194، 195). (¬6) ذكره في الاستذكار (16/ 343)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 45). (¬7) المنتقى للباجي (3/ 347).

منها] (¬1)، وأنه كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى العمامة. قال الباجي: وهذا في الزعفران وأما بغيره مما ليس بطيب ولا ينتقض على الجسد كالصفرة [وغيره] (¬2) فلا خلاف في جوازه. قال أبو عمر (¬3): ووجه كراهة الزعفران نهيه -عليه الصلاة والسلام- عنه وأمره يعلي بن مرة بغسله (¬4)، وقوله: "لا تقرب الملائكة جنازة كافر ولا جنبًا ولا متضمخًا بخلوق" (¬5)، قال القرطبي (¬6): ويحتمل أن عبد الرحمن قصد استعماله لاحتياجه إلى التطيب لأجل العرس واستباح القليل منه، لأجل عدم غيره كما قال -عليه الصلاة والسلام- في يوم الجمعة: "ويمس من الطيب ما قدر عليه"، وفي لفظ: "ولو من طيب المرأة" (¬7). الثالث: فيه استحباب تسمية الصداق إما قبل العقد أو في نفسه فإنه -عليه الصلاة والسلام- سأله عما أصدقها بما دون (هل؟). الرابع: فيه ما كانت الصحابة عليه من عدم التغالي في صدقات النساء مع أن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة وأغنيائهم وعمل بالسنة في قلة المهر، ولهذا قال -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ (وغيرها). (¬3) الاستذكار (16/ 343)، والتمهيد (2/ 182). (¬4) سبق تخريجه ت (7)، ص 319. (¬5) سبق تخريجه ت (7)، ص 319، 320. (¬6) المفهم (5/ 2391، 2392). (¬7) مسلم (846)، وأبو داود (344).

والسلام-: "خير النكاح أيسره" (¬1)، فلو وقعت المغالاة فلا كراهة خلافًا للغزالي في (الإِحياء). وقال القرطبي (¬2): يكره لما فيه من السرف والمباهاة. الخامس: استحباب الدعاء للمتزوج بقوله: "بارك الله لك" (¬3) ¬

_ (¬1) من رواية عقبة بن عامر عند أبي داود (2117)، رالبهقي (7/ 232)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (2/ 181، 182). (¬2) المفهم (5/ 2392). (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 221، 222): على قول البخاري -رحمه الله-: باب: كيف يدعى للمتزوج ذكر فيه قصة تزويج عبد الرحمن بن عوف مختصرة من طريق ثابت عن أنس وفيه: "قال بارك الله لك"، قال ابن بطال: إنما أراد بهذا الباب، والله أعلم رد قول العامة عند العروس بالرفاء والبنين. فكأنه أشار إلى تضعيفه , ونحو ذلك كحديث معاذ بن جبل أنه شهد أملاك رجل من الأنصار فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنكح الأنصاري وقال: "على الألفة والخير والبركة والطير الميمون والسعة في الرزق"، الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" بسند ضعيف، وأخرجه في "الأوسط" بسند أضعف منه، وأخرجه أبو عمرو البرقاني في كتاب معاشرة الأهلين من حديث وأنس، وزاد فيه: "والرفاء والبنين"، وفي سنده أبان العبدي وهو ضعيف، وأقوى من ذلك ما أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفأ إنسانًا قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير"، وقوله: "رفأ" بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز معناه دعا له في موضع قولهم بالرفاء والبنين، وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية، فورد النهي عنها كما روى بقي بن مخلد من طريق غالب عن الحسن، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رجل من بني تميم قال: "كنا نقول في الجاهلية بالرفاء والبنين"، فلما جاء الإِسلام علمنا نبينا قال: "قولوا بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم"، وأخرج النسائي والطبراني من طريق أخرى عن الحسن، عن عقيل بن أبي طالب أنه "قدم البصرة فتزوج امرأة فقالوا له: بالرفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا، وقولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بارك لهم وبارك عليهم"، ورجاله ثقات إلَّا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال. ودلَّ حديث أبي هريرة على أن اللفظ كان مشهورًا عندهم غالبًا حتى سمّي كل دعاء للمتزوج ترفئة، واختلف في علة النهي عن ذلك فقيل: لأنه لا حمد فيه ولا ثناء ولا ذكر لله، وقيل: لما فيه من الإشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذكر، وأما الرفاء فمعناه الالتئام من رفأت الثوب ورفوته رفوًا ورفاءً وهو دعاء للمتزوج بالالتئام والائتلاف فلا كراهة فيه، وقال ابن المنير: الذي يظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - كره اللفظ لما فيه من موافقة الجاهلية لأنهم كانوا يقولونه تفاؤلًا لا دعاءً، فيظهر أنه لو قيل للمتزوج بصورة الدعاء لم يكره كأن يقول: اللهم ألِّف بينهما وارزقهما بنين صالحين مثلًا، أو ألف الله بينكما ورزقكما ولدًا ذكرًا ونحو ذلك. وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عمر بن قيس الماضي قال: "شهدت شريحًا وأتاه رجل من أهل الشام فقال: إني تزوجت امرأة، فقال بالرفاء والبنين" الحديث، وأخرجه عبد الرزاق من طريق عدي بن أرطأة قال: "حدثت شريحًا أني تزوجت امرأة فقال: بالرفاء والبنين"، فهو محمول على أن شريحًا لم يبلغه النهي عن ذلك، ودلَّ صنيع المؤلف على أن الدعاء للمتزوج بالبركة هو المشروع، ولاشك أنها لفظة جامعة يدخل فيها كل مقصود من ولد وغيره، ويؤيد ذلك ما تقدم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له تزوجت بكرًا أو ثيبًا: "قال له: بارك الله لك"، والأحاديث في ذلك معروفة.

أو نحوه ويكره أن يقال له: بالرفاء والبنين. السادس: مشروعية الوليمة للعرس. واختلف العلماء، هل الأمر بها للوجوب أو الندب. والأصح عند الشافعية: الثاني، وحملوا الأمر عليه، وهو قول مالك وغيره. وأوجبها: داود، وغيره. واختلف في وقت فعلها عند المالكية: قال القاضي (¬1): والأصح عند مالك وغيره استحبابها بعد الدخول. وعند جماعة منهم: عند العقد. وعن ابن حبيب: عنده، وعند الدخول، قال: واستحبها بعض شيوخنا قبل البناء فيكون الدخول بها. ولم أرَ عند الشافعية نقلًا عن ذلك، نعم البيهقي ترجم في "سننه" (¬2)، باب: وقت الوليمة، وذكر فيه بإسناده إلى أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة فأرسلني فدعوت رجالًا إلى الطعام" (¬3)، ولم يذكر فيه غيره وظاهره أنها بعد الدخول، لأن البناء عبارة عن الدخول، وذكر الوليمة بعده بفاء التعقيب، لقوله "فأرسلني". ¬

_ (¬1) ذكره في شرح مسلم (9/ 217)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 46). (¬2) السنن الكبرى (7/ 260)، ومعرفة السنن (10/ 251). (¬3) الحديث أصله في البخاري (5170)، والترمذي (3219).

السابع: أنه يستحب للموسر أن لا يولم بأقل من شاة، ونقل القاضي عياض (¬1): الإِجماع على أنه لا حد لقدرها المجزى، بل بأي شيء أولم من الطعام حصلت الوليمة، وقد أولم على صفية بسويق وتمر (¬2)، وعلى زينب بخبز ولحم (¬3)، وهذا كله جائز تحصل الوليمة به، لكن يستحب أن يكون على قدر حال الزوج. فرع: اختلف السلف في تكرارها أكثر من يومين: فكرهه طائفة ولم تكرهه أخرى واستحب أصحاب مالك أن يكون أسبوعًا للموسر. قال بعضهم: وذلك إذا دعا في كل حال من لم يدع قبله، ولم يكرر عليهم وكرهوا فيها المباهاة والسمعة (¬4) وأولم ابن سيرين ثمانية أيام (¬5). ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 46). (¬2) البخاري (5169)، ومسلم: النووي، باب: فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (9/ 218). (¬3) البخاري (5168)، ومسلم (1428)، والنسائي (6/ 79)، وأبو داود (3743)، وابن ماجه (1908)، وأحمد (3/ 195). (¬4) إكمال إكمال المعلم (4/ 46). (¬5) السنن الكبرى (7/ 261)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 242, 243): قوله (ومن أولم سبعة أيام ونحوه): يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: "لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام، فلما كان يوم الأنصار دعا أبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهما فكان أبي صائمًا فلما طعموا دعا أبي وأثنى". وأخرجه البيهقي من وجه آخر أتم سياقًا منه، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر إلى حفصة، وقال فيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثمانية أيام، وإليه أشار المصنف بقوله: "ونحوه"، لأن القصة واحدة وهذا وإن لم يذكره المصنف لكنه جنح إلى ترجيحه لإطلاق الأمر بإجابة الدعوة بغير تقييد كما سيظهر من كلامه الذي سأذكره، وقد نبَّه على ذلك ابن المنير. قوله (ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا ولا يومين): أي لم يجعل للوليمة وقتًا معينًا يختص به الإيجاب أو الاستحباب وأخذ ذلك من الإطلاق، وقد أفصح بمراده في تاريخه فإنه أورد في ترجمة زهير بن عثمان الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الله بن عثمان الثقفي عن رجل من ثقيف كان يثني عليه إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه، يقوله قتادة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة"، قال البخاري: لا يصح إسناده ولا يصح له صحبة يعني لزهير، قال: وقال ابن عمر وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليجب"، ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها وهذا أصح، قال: وقال ابن سيرين عن أبيه: "إنه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام فدعا في ذلك أبي بن كعب فأجابه". اهـ. وقد خالف يونس بن عبيد قتادة في إسناده فرواه عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا أو معضلًا لم يذكر عبد الله بن عثمان ولا زهيرًا أخرجه النسائي ورجحه على الموصول، وأشار أبو حاتم إلى ترجيحه، ثم أخرج النسائي عقبه حديث أنس: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام على صفية ثلاثة أيام حتى أعرس بها"، فأشار إلى تضعيفه أو إلى تخصيصه، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو يعلى بسند حسن عن أنس قال: "تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية وجعل عتقها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام" الحديث. وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد، منها عن أبي هريرة مثله أخرجه ابن ماجه وفيه عبد الملك بن حسين وهو ضعيف جدًا، وله طريق أخرى عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبي هريرة أشرت إليها في "باب الوليمة حق"، وعن أنس مثله أخرجه ابن عدي والبيهقي وفيه بكر بن خنيس وهو ضعيف، وله طريق أخرى ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عن حديث رواه مروان بن معاوية عن عوف، عن الحسن، عن أنس نحوه، فقال: إنما هو عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، وعن ابن مسعود أخرجه الترمذي بلفظ: "طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمّع سمع الله به"، وقال: لا نعرفه إلَّا من حديث زياد بن عبد الله البكائي وهو كثير الغرائب والمناكير. قلت: وشيخه فيه عطاء بن السائب وسماع زياد منه بعد اختلاطه فهذه علته. وعن ابن عباس رفعه: "طعام في العرس يوم سنة، وطعام يومين فضل، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة". أخرجه الطبراني بسند ضعيف، وهذه الأحاديث وإن كان كل منها لا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلًا، وقد وقع في رواية أبي داود والدارمي في آخر حديث زهير بن عثمان: "قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم وأجاب، ودعي ثاني يوم فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجب وقال: أهل رياء وسمعة. فكأنه بلغه الحديث فعمل بظاهره أن ثبت ذلك عنه، وقد عمل به الشافعية والحنابلة، قال النووي إذا أولم ثلاثًا فالإِجابة في اليوم الثالث مكروهة، وفي الثاني لا تجب قطعًا ولا يكون استحبابها فيه كاستحبابها في اليوم الأول، وقد حكى صاحب "التعجيز" في وجوبها في اليوم الثاني وجهين، وقال في شرحه: أصحهما الوجوب، وبه قطع الجرجاني لوصفه بأنه معروف أو سنة، واعتبر الحنابلة الوجوب في اليوم الأول، وأما الثاني فقالوا سنة تمسكًا بظاهر لفظ حديث ابن مسعود وفيه بحث، وأما الكراهة في اليوم الثالث فأطلقه بعضهم لظاهر الخبر، وقال العمراني: إنما تكره إذا كان المدعو في الثالث هو المدعو في الأول، =

تنبيه: ترجم المحب الطبري في "إحكامه"، الوليمة على الأخوة، ثم روى عن أنس قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولم ولو بشاة"، ثم قال: رواه البخاري، قال: وسياق لفظ الحديث يدل على الترجمة، قال: وإضمار ما تقدم في أمثاله محتمل وتكون الوليمة للعرس المضمر لا للإِخاء. قلت: بل رواية البخاري مصرحة بذلك فإن فيها ذكر الزواج بعد الإخاء وأنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "بارك الله لك أولم ولو بشاة" (¬1). فائدة: الضيافات زائدة على العشرة، الوليمة للعرس، والخُرُس -بضم الخاء المعجمة وبالسين المهملة، ويقال بالصاد ¬

_ = وكذا صوره الروياني واستبعده بعض المتأخرين وليس ببعيد لأن إطلاق كونه رياء وسمعة يشعر بأن ذلك صنع للمباهاة وإذا كثر الناس فدعا في كل يوم فرقة لم يكن في ذلك مباهاة غالبًا، وإلى ما جنح إليه البخاري ذهب المالكية، قال عياض: استحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعًا، قال: وقال بعضهم محله إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله، ولم يكرر عليهم، وهذا شبيه بما تقدم عن الروياني، إذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة كان الرابع وما بعده كذلك فيمكن حمل ما وقع من السلف من الزيادة على اليومين عند الأمن من ذلك وإنما أطلق ذلك على الثالث لكونه الغالب والله أعلم. اهـ. (¬1) ذكره في فتح الباري (9/ 237).

للولادة-، وقال العراقي (¬1) شارح [المهذب] (¬2): يقال له الخرسة، وقال صاحب المستعذب (¬3): والخُرْسة ما تطعمه النفساء، قال في الفائق (¬4): كأنه سمى خُرْسًا، لأنها تصنع عند وضعها وانقطاع صرختها، وفي أمثالهم: تَخَرَّس لا مُخَرِّسَةَ لَكِ، أي اصنعي لكِ، فإنه لا صانع لَكِ، ويقال: التمر خُرْسَةُ "مريم" -عليها السلام-، لقوله -تعالي-: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} (¬5). والإِعذار: -بكسر الهمزة اسم عين مهملة ثم ذال معجمة- للختان، ويقال: العَزبرَةُ أيضًا (¬6). والوكيرة: للبناء. والنقيعة: لقدوم المسافر مأخوذة من النقع وهو الغبار، ثم قيل إن المسافر يصنعه كما نقله الأزهري (¬7) عن الفراء. ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن منصور بن المسلم، ولد بمصر سنة عشرة وخمسمائة، شرح المهذب في نحو خمسة عشر جزءًا متوسطة، توفي في جمادى الأولى سنة ست وتسعين وخمسمائة عن خمس وثمانين سنة، ترجمته طبقات ابن قاضي شهبة (2/ 23)، ومرآة الجنان (3/ 484)، وحسن المحاضرة (1/ 229). (¬2) في ن هـ (الرسالة). (¬3) المستعذب (2/ 148، 149). (¬4) الفائق (1/ 366). (¬5) سورة مريم: آية 25. (¬6) في هـ حاشية، جمع الشاعر بعضها فقال كل الطعام يشتهي ربيعه. الخرس والإِعذار والنقيعة. (¬7) الزاهر (209).

وقيل: يصنعه غير له، وقال أبو زيد (¬1): النقيعة: طعام الأملاك، وقال ابن العربي في "شرح الترمذي"، التحفة: طعام القادم. والعقيقة: يوم سابع الولادة. والوضيمة: -بفتح الواو وكسر [الضاد] (¬2) المعجمة- الطعام عند المصيبة، نقله الجوهري (¬3) عن الفراء. والمأدبة" -بضم الدال وفتحها- الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب، كذا قاله القاضي والرافعي، وقال الأزهري (¬4): كل طعام يصنع لدعوة فهو مأدبة، ولعل مراد الأولين أنه لا اسم غير المأدبة. الحذاق -بحاء مهملة مكسورة ثم ذال معجمة ثم ألف ثم قاف-: طعام حذق الصبي، ذكره صاحب "الشامل" من أصحابنا، قال ابن الرفعة في "مطلبه": وأشار به والله أعلم إلى الطعام المتخذ عند ختم الصبي. قلت: وروي عن الإِمام أحمد أن بعض أولاده حَذق أي حفظ جملة من القرآن والعلم فقسم على الصبيان الجوز. ¬

_ (¬1) الذي في الزاهر (209)، والمستعذب (2/ 149)، عن أبي زيد: النقيعة: طعام الإملاك، والإملاك: التزويج، وفي حديث تزويج خديجة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو خديجة وقد ذبحوا بقرة عند ذلك: ما هذه النقيعة؟ (¬2) في الأصل (الدال)، وما أثبت من هـ. (¬3) تهذيب اللغة (12/ 93). (¬4) الزاهر (209).

والشُنْدَخيُّ -بضم الشين المعجمة ثم نون ساكنة ثم دال معجمة مهملة مفتوحة ومضمومة ثم خاء معجمة -بعدها ياء- كذا قيده ابن الرفعة في "كفايته" و"مطلبه": طعام الأملاك، مشتق من قولهم: فرس شُنْدَخ، وهو الذي يتقدم الخيل سمي بذلك، لأنه يتقدم العرس ويقال: لهذا الطعام ملاك وإملاك، قال ابن داود: من أصحابنا وسمي باسم وقته. وزاد صاحب "الرونق" العتيرة، قال: وهي ذبيحة تذبحها العرب أول يوم من رجب، و"النقرى"، قال: وهي التي تخص قوم دون قوم، والجفلى قال: وهي التي يعم بدعوته سائر الناس (¬1). خاتمة: قال البيهقي (¬2): قال الشافعي: لم أعلمه أمر بذلك قال: أظنه قال: أحدًا غيره يعني غير عبد الرحمن بن عوف قال: ولا أعلم أنه -عليه الصلاة والسلام- ترك الوليمة على عرس ولم أعلمه أولم على غيره. تنبيه: أنكر القاضي عياض (¬3) على من احتج بتفسير النواة بثلاثة دراهم وربع على أنه أقلّ المهر لأنه قال: من ذهب وذلك يزيد على دينارين، بل هو حجة على من يقول إنه لا يكون أقل من عشرة دراهم. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 241، 242). (¬2) معرفة السنن والآثار (10/ 250). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم عنه (4/ 45).

كتاب الطلاق

64 - باب الطلاق

64 - باب الطلاق هو في اللغة: حل القيد والإِطلاق، ومنه ناقة طالق. وفي الشرع: اسم لحل عقد النكاح فقط. "وطلقت": بفتح اللام أصح من ضمها، قاله "صاحب المطالع" "وطلقت": بضم الطاء وكسر اللام مخففة من الولادة طلقا و"طالقة" لغة في طالق. وذكر المصنف في الباب حديث ابن عمر، وحديث فاطمة بنت قيس. الحديث الأول 335/ 1/ 64 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ "أنه طلق امرأته وهي حائض؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتغيَّظ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ثم قال: "ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر. فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة، كما أمر الله عز وجل".

وفي لفظ: "حتى تحيض حيضةً مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها [بها] (¬1) ". [وفي لفظ: "فيها"] (¬2)، وفي لفظ: "فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة ووالده سلف في أول الكتاب. الثاني: هذه المرأة المطلقة اسمها آمنة بنت غفار، قاله "ابن باطيش" (¬4). الثالث: في أحكامه: الأول: تحريم الطلاق في الحيض، وهو إجماع الأمة إذا طلقها بغير رضاها. ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة: ومن هـ فيه، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري (4908)، ومسلم (1471)، والترمذي (1175، 1176)، وأبو داود (2179، 2180، 2184)، وابن ماجه (2019، 2222)، وابن الجارود (733، 735، 736)، والبيهقي (7/ 324، 325، 414)، والطيالسي (68/ 1853، 1942)، والدارقطني (4/ 6، 8، 9، 11)، والطحاوي (3/ 53)، والدارمي (2/ 160)، وعبد الرزاق (10953، 10954)، والنسائي (6/ 138، 141، 142، 213)، والبغوي (2351)، وأحمد (2/ 6، 26، 43، 51، 58، 61، 64، 79، 81، 102 , 124 , 130). (¬4) المغني في الإِنباء عن غريب المهذب والأسماء (2/ 537).

واختلف في علته، فقيل: لتطويل العدة، فإن بقية الحيض لا تحسب من العدة، وفي ذلك إضرار بها، وفي الحديث دلالة عليه إذ قال عليه الصلاة والسلام: "فتلك العدة، كما أمر الله عز وجل". وقيل: العلة وجود الحيض فقط وصورته، وينبني عليها طلاق الحامل إذا طلقها في الحيض، وقلنا: "إنها تحيض، فمن علل بالأول لم يحرم، وهو الأصح عند الشافعية، وبه قال أكثر العلماء، كما حكاه عنهم ابن المنذر، منهم: مالك وأحمد، لأن انقضاءها هنا بوضع الحمل على كل حال، ومن علل بالثاني حرّمه، وهو الظاهر من إطلاق الحديث من حيث إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالمراجعة من غير استفصال ولا سؤال عن حال المرأة في الحمل والحبال. وترك الاستفصال في مثل هذا تنزل منزلة العموم في المقال عند جمع من أرباب الأصول، إلَّا أنه قد يضعف هاهنا هذا المأخذ، والاحتمال أن يكون ترك الاستفصال لندرة الحيض في الحمل، وينبني عليهما أيضًا إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض. فإن عللنا بالتطويل فلا يحرم هنا لرضاها به. فإن عللنا بالثاني حرُم وهو الأصح عند الشافعية أيضًا. والعمل بظاهر الحديث في ذلك أولى. وقد يقال في هذا ما قيل في [الأول] (¬1) من ترك الاستفصال. وقد يجاب عنه فيهما: بأنه مبني على الأصل، فإن الأصل عدم سؤال الطلاق وعدم الحمل. وبنى على ذلك الفاكهي من المالكية أيضًا غير الممسوسة. وعند الشافعية: أنه لا بدعة في طلاقها ولا ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة.

سنة، وهو ما حكاه غيره من المالكية إذا لم تكن حائضًا. ونقل اتفاقهم عليه. ونقل خلافًا فيما إذا كانت حائضًا وأن المشهور كذلك أيضًا. وأن أشهب كرهه، وضعّف قوله. وعن مالك: في طلاق [الحاكم] (¬1) على المولى روايتان. وعند الشافعية: أنه ليس بحرام وفيه بحث للرافعي، لأنه أحوجها بالإِيذاء إلى الطلب، وهو غير ملجأ إلى الطلاق لتمكنه من الفيئة. [الحكم] (¬2) الثاني: أنه إذا طلق فيه وقع، وحسب من طلاقها مع الإثم. وشذ بعض أهل الظاهر وابن علية ومن لا يعتد به من الخوارج والروافض فيه، لأنه غير مأذون له فيه، فأشبه طلاق الأجنبية، وذلك باطل للأمر بمراجعتها, لأنه لو لم يقع لم تكن رجعة، لا يقال: إن الرجعة هنا الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول من غير احتساب طلقة، لأن الحقيقة الشرعية مقدمة عليها. وأن ابن عمر قد صرح بأنها حسبت من طلاقها كما سلف، وراجعها كما أمر الشارع، وكأنهم تمسكوا برواية أبي الزبير عن ابن عمر: "فردها عليَّ، ولم يرها شيئًا" (¬3) ولكن قال ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) زيادة من هـ. (¬3) أخرج هذه الرواية أحمد (2/ 80 - 81)، والشافعي (2/ 33)، ومسلم (1471) (14)، وأبو داود (2185)، والطحاوي (3/ 51)، وابن الجارود (733)، والبيهقي (7/ 327)، والنسائي (6/ 139) من طرق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزَّة يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع ذلك: كيف ترى في رجل طلق =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = امرأته حائضًا؟ قال: طلق عبدُ الله امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فردَّها عليّ ولم يرها شيئًا، وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك" قال ابن عمر: وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُلُ عدتهن. قال ابن جريج: سمعت مجاهدًا يقرؤها كذلك. وقوله: (في قُبُلِ عدتهن) هي قراءة شاذة لا يثبت بها قرآن بالاتفاق، لكن لصحة إسنادها يحتج بها، وتكون مفسرة لمعنى القراءة المتواترة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، قال الحافظ في "الفتح" (9/ 266 - 267) بعد أن صحح إسناد هذا الحديث: قال أبو داود: روى هذا الحديث -عن ابن عمر- جماعة وأحاديثهم كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال ابن عبد البر (التمهيد 15/ 65، 66): قوله: "ولم يرها شيئًا" منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي والله أعلم: ولم يرها شيئًا مستقيمًا، لكونها لم تقع على السنَّة. اهـ. وقال الخطابي في معالم السنن (3/ 95): قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئًا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئًا جائزًا في السنَّة، ماضيًا في الاختيار، وإن كان لازمًا له مع الكراهة. اهـ. ونقل البيهقي في "المعرفة" (11/ 27، 28) بتصرف عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: "نافع أثبت من الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يأخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعًا غيره من أهل الثبت، قال: وبسط الشافعي القول في ذلك، وحمل قوله "ولم يرها شيئًا", على أنه لم يعد شيئًا صوابًا خطأ، بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة،

أبو داود (¬1): الأحاديث كلها بخلاف حديث أبي الزبير. وقال أهل الحديث: لم يرو لأبي الزبير أنكر من هذا. الثالث: الأمر بمراجعتها: وهل هو على وجه الندب أو الوجوب؟ قولان للعلماء: وبالندب: قال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وفقهاء المحدثين وآخرون (¬2). وبالوجوب: قال مالك وأصحابه. ويجبر الزوج عليها. قال إمام الحرمين من الشافعية: والمراجعة وإن كانت مستحبة فلا نقول: تركها مكروه. وما ذكره لا يخلو عن نظر؛ فإن الشارع قد أمر بها، وفيها دفع الإِيذاء. ثم ما ذكره الإِمام من عدم الكراهة يخالف ما أشعر به كلامه في موضع آخر من أن المكروه ترك ما ورد فيه أثر يخصه. فرع: اختلف المالكية فيما إذا لم يراجعها حتى جاء الطهر الذي أبيح له الطلاق فيه: هل يجبر على الرجعة، لأنه حق واجب فلا يزول بزوال وقته أ [م] (¬3)، لأنه قادر على الطلاق في الحال، فلا معنى للارتجاع [. .] (¬4) قال ابن عبد البر (¬5): ودم النفاس كالحيض. ¬

_ = ولو كان طلقها طاهرًا لم يؤمر بذلك، فهو كما يقال للرجل، إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا، أي: لم يصنع شيئًا صوابًا. اهـ. (¬1) سنن أبي داود (2/ 637)، معالم السنن (3/ 97). (¬2) انظر: الاستذكار (18/ 22، 23). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) في هـ زيادة (واو). (¬5) المرجع السابق.

وقال داود (¬1): يجبر في الحيض دون النفاس. كذا نقله عن داود، ونقل الباجي (¬2) عن داود: أنه يقع في الحيض، وقد أسلفنا نقله عن بعض أهل الظاهر أيضًا. الرابع. أن الطلاق [في] (¬3) غير زمن الحيض لا إثم فيه، وكذلك في الطهر الذي لم يجامعها فيه؛ بخلاف الطهر الذي جامعها [فيه،] (¬4) نعم يكره أن تطلق من غير سبب لحديث ابن عمر أيضًا في أبي داود وابن ماجه (¬5): "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فيكون ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المنتقي للباجي (4/ 98). (¬3) في هـ (من). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) أبو داود (2091)، وابن ماجه (2018)، والبيهقي (7/ 322)، قال المنذري في مختصر السنن (3/ 92)، أخرجه ابن ماجه والمشهور فيه المرسل وهو غريب. وقال البيهقي وفي رواية ابن أبي شيبة يعني محمَّد بن عثمان عن عبد الله بن عمر موصولًا، ولا أراه يحفظه قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 91). وقد روى الدارقطني من حديث معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" وفيه حميد بن مالك، وهو ضعيف، وفي مسند البزار من حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تطلق النساء إلَّا من ريبة، إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات". اهـ. قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (3/ 92): ومعنى الكراهة فيه منصرف إلى السبب الجالب الطلاق، وهو سوء العشرة، وقلة الموافقة لا إلى نفس الطلاق، ففد أباح الله الطلاق، وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه طلق بعض نسائه ثم راجعها"، وكانت لابن عمر امرأة =

حديثه هذا لبيان كراهة التنزيه. وحديثه في الصحيح لبيان عدم التحريم. واعلم أن الطلاق: قد يكون مكروهًا كما قد عرفته آنفًا، وقد يكون محرمًا كما سلف. وحاصل صور الحرام ثلاث: أن يطلقها في الحيض بلا سبب منها، أو في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل، أو أن يكون عنده زوجات فقسم لهن، وطلق واحدة منهن قبل أن يوفيها حقها. وقد يكون واجبًا، كما في طلاق الحكم والمولى. وقد يكون مندوبًا، كما إذا كانت غير عفيفة، أو يخافا أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله، ونحو ذلك. ولا يكون مباحًا مستوى الطرفين، ولا بدعة عند الشافعي في جميع الطلقات الثلاث، وبه قال أبو ثور وأحمد. وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة والليث: هو بدعة. قال أبو حنيفة: ويجعل في الحامل بين الطلقتين شهرًا، وبه قال أبو يوسف. وقال مالك وزفر ومحمد بن الحسن: لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تضع. ¬

_ = يحبها، وكان عمر - رضي الله عنه - يكره صحبته إياها، فشكاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا به وقال: "يا عبد الله طلق امرأتك، فطلقها" وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله. اهـ.

الخامس: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ولا وليها ولا تجديد عقد. وهذا الوجه استنبطه الخطابي (¬1)، ونقله القاضي عنه. ثم قال: وليس بينًا، ولم يظهر لي وجه توقفه فيه. السادس: أن الأقراء في العدة هي الأطهار وإليه الإشارة بقوله: "فتلك العدة، كما أمر الله" أي كما أذن فلا يتعدى، ولا يتجاوز، ولا يصح عود الضمير في "فتلك" إلى الحيض لأن الطلاق في الحيض غير مأمور به، بل محرم، وقد أجمع الفقهاء والأصوليون واللغويون على أن القرء في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر. ثم اختلفوا في الأقراء المذكورة في آية الطلاق، وفيما تنقضي به العدة، فقال مالك والشافعي وآخرون: هي الأطهار (¬2). وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وآخرون: هي الحيض. وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود، وبه قال الثوري وزفر وإسحاق وآخرون من السلف، وهو أصح الروايتين عن أحمد. قالوا: لأن من قال بالأطهار يجعلها قرءين وبعض الثالث. وظاهر القرآن أنها ثلاثة. والقائل بالحيض شرط ثلاث حيضات كوامل، فيكون أقرب إلى موافقة القرآن. ولهذا الاعتراض مال ابن شهاب الزهري إلى أن الأقراء هي الأطهار. قال: ولكن لا تنقضي العدة إلَّا بثلاثة كاملة، وهو مذهب ¬

_ (¬1) معالم السنن (3/ 93). (¬2) انظر: الاستذكار (18/ 32).

تفرد به القائلون بالأطهار اتفقوا على انقضائها بقرءين وبعض الثالث. وأجابوا عن الاعتراض: بأن الشهر وبعض الثالث يطلق عليه اسم الجمع. قال تعالى: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1)، ومعلوم أنها شهران وبعض الثالث، وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} (¬2)، [المراد في يوم وبعض] (¬3) الثاني. واختلف القائلون بالأطهار متى تنقضي عدتها؟. فالأظهر عند الشافعية أنه بمجرد رؤية الدم بعد الطهر الثالث. وفي قول لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة. والخلاف المذكور ثابت عند المالكية أيضًا. واختلف القائلون بالحيض أيضًا فقال أبو حنيفة وأصحابه حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة (¬4). وقال عمرو وعلي وابن مسعود والثوري وزفر وإسحاق وأبو عبيد: حتى تغتسل من الثالثة. وقال الأوزاعي وآخرون: ينقضي بنفس انقطاع الدم. وعن إسحاق رواية أنه إذا انقطع الدم انقطعت الرجعة، ولكن لا تحل للأزواج حتى تغتسل احتياطًا وخروجًا من الخلاف (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 197. (¬2) سورة البقرة: آية 203. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) الاستذكار (18/ 35). (¬5) الاستذكار (18/ 34، 36).

السابع: الأمر بإمساك المرأة المراجعة حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها. واختلف في السر في أمره بالرجعة، ثم تأخير الطلاق إلى طهر بعد طهر يلي هذا الحيض على أوجه: أحدها: لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فوجب أن يمسكها زمنًا كان يحل له فيه طلاقها، وإنما أمسكها لتظهر فائدة الرجعة، وهذا جواب أصحابنا، وهو الأصح. أعني أنه لا يستحب الطلاق في الطهر الثاني لتلك الحيضة، لأن الصيغة "حتى" للغاية. ثم اختلفوا: هل يندب الوطء في الطهر الأول؟ على وجهين: أحدهما: نعم ليظهر مقصود الرجعة. وأصحها: لا، اكتفاء بإمكان الاستمتاع. ثانيها: أنه عقوبة له, وتوبة من معصيته، واستدراك جنايته. قال المازري (¬1): وهذا معترض لأن ابن عمر لم يعلم الحكم وإنما يغلظ على المعتمد ونوقش فيه، فإنه عليه الصلاة والسلام تغيظ فيه كما في الحديث ولم يعذره. إما لأن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى، فكانت الحال تقتضي التثبت، أو مشاورته عليه الصلاة والسلام في ذلك واستفتائه. ثالثها: أن الطهر الأول مع الذي يليه، وهو الذي طلق فيه: كقرء واحد، فلو طلقها في أول طهر لكان كمن طلق في الحيض. ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 184).

رابعها: أنه نهى عن طلاقها في الطهر ليطول مقامه معها، فلعله يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقه، وادعى القرطبي (¬1) أن هذا أشبهها وأحسنها. فرع: يكره له عند المالكية أن يطلقها ثلاث طلقات، فيفرقه في ثلاثة أطهار، وأجاز ذلك أبو حنيفة في أحد قوليه. وقاله ابن مسعود وبه قال أشهب مرة، وأجاز أيضًا رجعتها، ثم طلاقها، ثم رجعتها، ثم طلاقها، فتتم الثلاث. الثامن: أن الأمر المطلق على شرط يعدم عند عدمه فإن عليه الصلاة والسلام أذن في الطلاق قبل مسيسها، أي وطئها، وقيده به، وفي ذلك دلالة على امتناعه في الطهر الذي مسَّها فيه لأنه شرط في الأذن عدم المسيس بها. وقد أسلفنا أن الطلاق في طهر مسها فيه حرام، ومذهب مالك: أنه مكروه. وأنصف الفاكهي فقال: الأظهر عندي أنه حرام. ونقل الفاكهي عن بعضهم أنه لا يعتد بهذا الطهر، ويستأنف ثلاثة أطهار، وهو شاذ، وإنما كان الطلاق في الطهر الذي طلقها فيه بدعيًّا حرامًا لخوف الندم، فإن المسيس سبب الحمل، وذلك سبب الندامة على الطلاق بخلاف ما إذا تبين الحمل وطلقها بعد ذلك، فإن يكون من أمره على بصيرة فلا ندم فلا يحرم. التاسع: مراجعة الشارع في الأمور المهمة، وتغيظه عند وقوع حادث، ومراعاة كتاب الله تعالى، وامتثال ما أمر به رسوله، وغير ذلك من الفوائد، وذكر عمر طلاق ابنه، قال الشيخ تقي ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2526).

الدين (¬1): لعله يعرِّفه الحكم، قال: وتغيظه عليه الصلاة والسلام إما لكونه فعل ما يقتضي المنع ظاهرًا من غير تثبت أو لتركه المشاورة له عليه الصلاة والسلام في فعله ذلك إذا عزم عليه. قال (¬2): ويتعلق بالحديث مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: أي في الصحيح لعمر: "مُره فليراجعها" فأمره بأمره، وعلى كل حال فلا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر: هل هي أوامر كصيغة الأمر بالأمر، بمعنى أنهما: هل يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أم لا؟ خاتمة: الصحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه - طلَّق واحدة، ووهم من روى ثلاثًا، كما بيَّنه مسلم عن ابن سيرين. فرع: الطلاق في النفاس كالطلاق في الحيض. تنبيه: قال أبو عمر (¬3): روى جماعة: "فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلَّق بعد، وإن شاء أمسك"، ولم يقولوا: "ثم تحيض ثم تطهر"، فأخذ بها أبو حنيفة والمزني وأكثر العراقيين، وزاد بعض الرواة: "ثم إن شاء طلَّقها طاهرًا قبل أن يمس، أو حاملًا". وأخذ برواية: "ثم تحيض ثم تطهر" فقهاء الحجاز منهم مالك والشافعي. قال: قال وروى قاسم بن أصبغ؛ أنه عليه الصلاة ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 223). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 228). (¬3) الاستذكار (18/ 10).

والسلام "أمره أن يراجعها فإذا طهرت مسّها، ثم إذا طهرت أُخرى فإن شاء طلَّق، وإن شاء أمسك". وهذه الرواية تؤيد الوجه السالف القائل باستحباب الوطء في الطهر الأول، لكنها معلولة، كما بيَّن ذلك عبد الحق.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 336/ 2/ 64 - عن فاطمة بنت قيس "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب". وفي رواية: طلقها ثلاثًا، فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: "ليس لكِ عليه نفقة"، وفي لفظ: "ولا سكنى" فأمرها أن تعتد في بيت أُم شريك، ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني". قالت: فلمَّا حللت ذكرت ذلك له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك، لا مال له .. انكحي أسامة بن زيد، فكرهته. ثم قال "انكحي أسامة بن زيد"، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت به (¬1). ¬

_ (¬1) مسلم (1480)، وأبو داود (2284، 2285، 2286، 2287، 2289)، والنسائي (6/ 75 ,76)، والبيهقي (7/ 135، 177، 178، 181، 432، 471)، والبغوي (2385)، وابن الجارود (760)، ومالك =

الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث بهذه السياقه من أفراد مسلم، والبخاري ذكر منه قصة انتقالها فقط (¬1). وفي رواية له (¬2) عن عائشة: "ما لفاطمة ألا تتقي الله؟ " يعني في قولها: "لا سكنى لها ولا نفقة" وفي رواية عنها (¬3): "إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم -". الثاني: في التعريف براويه وبالأسماء الواقعة فيه. أما راويه: ففاطمة بنت قيس هي أخت الضحاك بن قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشية الفهرية، وكانت أكبر من أخيها الضحاك بعشر سنين، قدمت عليه الكوفة، وكان أميرًا. لها صحبة ورواية، وكانت من المهاجرات الأُول، وذات عقل وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل ¬

_ = (2/ 580)، والأم (5/ 109)، والمسند (2/ 18، 19، 54)، (6/ 412). (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 478): أخرج مسلم قصتها من طرق متعددة عنها، ولم أرها في البخاري، وإنما ترجم لها كما ترى، وأورد أشياء من قصتها بطريق الإشارة إليها، ووهم صاحب "العمدة" فأورد حديثها بطوله في المتفق عليه. اهـ. محل المقصود. (¬2) البخاري الفتح (9/ 477) ح (5323، 5324). (¬3) البخاري الفتح (9/ 477) ح (5324، 5326).

عمر بن الخطاب، وخطبوا خطبتهم المأثورة، قال الزبير: وكانت امرأة نجودًا، أي نبيلة. رُوي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة وثلاثون حديثًا اتفقا على حديث في مسند عائشة، ولمسلم ثلاثة روى عنها عروة والقاسم وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن (¬1) عبد الله ابن عتبة والشعبي، وكل هؤلاء فقهاء. وأما زوجها أبو عمرو بن حفص: فهو ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي ابن عم خالد بن الوليد وقيل: إنه أبو حفص ابن عمر، وقيل: إنه (¬2) أبو حفص ابن المغيرة. قال النووي في "مختصر المبهمات" (¬3) وهو ما رواه مسلم في معظم الروايات. وقال في "شرحه لمسلم" (¬4) الجمهور على الأول، وكذا قال الشيخ تقي الدين (¬5): إن من قاله أكثر. وفي اسمه أقوال: أحدها: عبد الحميد: وصححه القاضي عياض، ونقله النووي (¬6) في "شرحه" عن الأكثرين. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة يسار. (¬2) زيادة من هـ. (¬3) من ضمن كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (582). (¬4) العبارة هكذا في شرح مسلم (10/ 94) أن أبا عمرو بن حفص طلقها. هكذا قاله الجمهور أنه أبو عمرو بن حفص. (¬5) إحكام الأحكام (4/ 238). (¬6) شرح مسلم (10/ 80، 89).

ثانيها: أحمد، قاله النسائي (¬1)، ولا يعرف في الصحابة من اسمه أحمد غيره على هذا القول. ثالثها: أن اسمه كنيته، وذكره البخاري (¬2) ممن لا يعرف اسمه. أمه: درة بنت خزاعي الثقفية. وكان قد طلق امرأته فاطمة هذه وهو غائب بالشام (¬3)، فأرسل إليها وكيله، وفي "الصحابة" للعسكري و "التهذيب" أنه طلَّقها باليمن (¬4). نعم أسلم وخرج مع علي إلى اليمن فمات هناك. وحديثه في النسائي يدل على أنه بقي إلى أيام عمر، وأنه قال لعمر لما نزع خالد بن الوليد، واعتذر يوم الجابية بأنه أمره بحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا اليسار وذا الشرف، وأثبت أبا عبيدة: والله لقد نزعت عاملًا استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[. .] (¬5) وأغمدت سيفًا سلّه، ووضعت لواء نصبه، ولقد قطعت الرحم وحسدت [ابن] (¬6) العم. فقال عمر: أما إنك قريب القرابة، حديث السن، تغضب لابن عمك. تنبيه: وقع في "مبهمات" (¬7) الخطيب حافظ المشرق حكاية ¬

_ (¬1) سنن النسائي (6/ 51). (¬2) تاريخ البخاري الكبير (8/ 55). (¬3) انظر: موطأ مالك (3/ 580). (¬4) انظر: مسلم النووي (10/ 99). (¬5) في الأصل زيادة يعني. (¬6) زيادة من ن هـ، والتاريخ الكبير للبخاري (8/ 55). (¬7) الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (395).

قول إن الذي طلق فاطمة هذه عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وقدمه على غيره، فقال: قيل: اسمه عياش بن أبي ربيعة. وقيل: أبو حفص بن المغيرة، وفي بعض طرقه عمرو بن حفص، وتابعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في "تلقيحه" (¬1) وهو عجيب منهما، فإن هذا وكيل زوجها, لا زوجها , لا جرم ضعفه النووي في "اختصاره للمبهمات" (¬2)، فقال: هذا الذي قاله الخطيب فاحش، فإن عياش بن أبي ربيعة ليس زوجها قطعًا، إنما هو رسول زوجها، أرسله إليها يخبرها بالطلاق، ويعطيها نفقة من شعير، هكذا جاء مصرحًا به في "صحيح مسلم". وأما زوجها فقد أسلفنا ما فيه. وأما أم شريك: فهي قرشية عامرية وقيل: أنصارية. وقد ذكره مسلم في آخر "صحيحه" (¬3) في حديث الجساسة. وفي اسمها ثلاثة أقوال: أسلفناها في الحديث الثاني من باب الصداق. وقيل: إنها الواهبة نفسها. وقيل غيرها، وذكرها بعضهم في أزواجه، ولا يصح. ومن عدها منهم قال: كان ذلك بمكة. روى لها الشيخان حديثًا واحدًا، ومسلم آخر. وأما ابن أم مكتوم: فسلف التعريف به في باب الأذان. وأما معاوية: فسلف في باب الذكر عقب الصلاة نبذة من حاله، وغلط من قال: إن معاوية هذا آخر فرواية المصنف مصرحة ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم الأثر (240). (¬2) ضمن كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (582). (¬3) صحيح مسلم (2942).

بأنه ابن أبي سفيان، قال: النووي في "تهذيبه" (¬1): هذه القولة غلط صريحة لا شك فيها. وأما أسامة: فسلف في باب دخول مكة. وأما أبو الجهم: فهو صاحب الإِنبجانية المذكورة في باب الذكر عقب الصلاة، وهو غير أبي الجهيم المصغر المذكور في باب المرور، قال القاضي عياض (¬2): وغلط يحيى بن يحيى أحد رواة الموطأ فنسبه فقال: أبو جهم بن هشام، ولم ينسبه في الرواية غيره، وهو غلط ولا يعرف في الصحابة أحد يقال له: أبو جهم بن هشام. قال: ولم يوافق يحيى على ذلك من رواة الموطأ ولا غيرهم، وكذا قال ابن الطلاع (¬3) أيضًا إنه غلط، وأنه ليس في جميع الصحابة أحد يقال له أبو جهم بن هشام، وإنما هو أبو جهم بن صخر بن عدي قرشي، ويقال: أبو جهم بن حذيفة. قلت: [ورواه] (¬4) عبد بن حميد في "مسنده" (¬5) مصرحًا بالأول، وهذا لفظه: "فخطبها معاوية وأبو جهم بن [صخر] " (¬6)، ووقع في بعض روايات مسلم مصغرًا، والمشهور إنه مكبر، وهو المعروف في باقي الروايات وفي كتب الأسماء وغيرها. ¬

_ (¬1) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 104). (¬2) إكمال إكمال المعلم (4/ 124، 125)، وشرح مسلم (10/ 97). (¬3) أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (83). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) المنتخب للحافظ عبد بن حميد (3/ 268، 269). (¬6) في المرجع السابق: خير، وهو تصحيف.

الوجه الثالث: في تبيين المبهم الواقع فيه وهو الوكيل، وقد أسلفنا أنه عياش بن أبي ربيعة المخزومي، واسم أبي ربيعة عمرو. الوجه الرابع: في تبيين ألفاظه ومعانيه: فقولها: "طلقها"، هو الصحيح الذي رواه الحفاظ، واتفق على روايته الثقات على اختلاف ألفاظهم: "أنه طلقها ثلاثًا" أو "البتة" أو "آخر ثلاث طلقات"، وجاء في آخر "صحيح مسلم" في حديث الجساسة ما يوهم أنه مات عنها، فإنه روى بإسناده عن فاطمة بنت قيس، فقالت: نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذٍ، فأُصيب في الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تأيمت خطبني"، الحديث. قال العلماء: ليست هذه الرواية على ظاهرها، بل هي وهم أو مؤولة على أن معناها أصيب بجراحة أو في ماله أو نحو ذلك، لا أنه مات في الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل إنما تأيمت بطلاقه البائن، كما ذكره مسلم هنا وهناك، وكذا ذكره المصنفون في جميع كتبهم. وقد اختلفوا في وقت وفاة زوجها. فقيل: مع على عقب طلاقها باليمن، حكاه ابن عبد البر، وقيل: بل عاش إلى خلافة عمر، حكاه البخاري في "تاريخه" (¬1). وقولها: "طلقها البتة"، وفي لفظ: "ثلاثًا"، فيه رواية ثالثة: "أنه طلَّقها آخر ثلاث تطليقات"، ورابعة: "أنه طلَّقها طلقة كانت ¬

_ (¬1) التاريخ الكبير (8/ 54).

بقيت من طلاقها". وخامسة: "أنه طلقها"، ولم يذكر عددًا ولا غيره، والكل في "صحيح مسلم". والجمع بينهما: أنه كان طلقها قبل هذا طلقتين، ثم طلقها هذه المرة الطلقة الثالثة. فمن روى أنه طلقها مطلقًا، أو واحدة، أو "آخر ثلاث تطليقات"، فهو ظاهر ومن روى "البتة" فمراده طلقها طلاقًا صارت مبتوتة بالثلاث، أو عبر بها عن الثلاث على من يجعل لفظ "البتة" للثلاث، ومن روى "ثلاثًا" أراد تمام الثلاث. وقولها: "وهو غائب"، قد أسلفنا الخلاف في موضع طلاقها. و "وكيله" منصوب على المفعول، ويجوز رفعه، وجزم بهذا النووي في شرحه (¬1) فقال: الوكيل مرفوع وهو المرسل، وقال الشيخ تقي الدين (¬2): يحتمل النصب، ويكون الوكيل هو المرسل، ويحتمل الرفع، ويكون الوكيل هو المرسل. قال: وقد عينه بعضهم للرواية, ولعله عني فيه النووي حيث جزم به في شرحه، والضمير في وكيله يعود على أبي عمرو بن حفص. واعلم أنه جاء في "صحيح مسلم" وكيله كما ذكره المصنف، وجاء في رواية له: أنهما الحارث بن هشام وعباس بن أبي ربيعة بنفقة. فقال القرطبي (¬3) قوله: "وكيله" فإن صوابه أن يقول: وكيليه عملًا بالرواية الأخرى وفيما ذكره نظر. ومعنى "سخطته" كرهته ولم ترضَ به. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (10/ 96). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 238). (¬3) المفهم (5/ 2569).

وقوله: "واللهِ ما لكِ علينا من شيء" إنما قال لقيامه مقام موكله في ذلك، وكأنه أيضًا مدعى عليه. قال القرطبي: وكأن إرساله بهذا الشعير كان منه متعة، فحسبته هي نفقة واجبة عليه، فلذلك سخطته، ورأت أنها تستحق عليه أكثر من ذلك وأطيب، فأجيبت إذ ذاك بالحكم، فلم تقبل ذلك حتى أخبرها الشارع به. وقوله: "تلك [امرأة] (¬1) يغشاها أصحابي" معناه أنهم كانوا يزورون أم شريك، ويكثرون التردد إليها لصلاحها فرأى عليه السلام أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجًا من حيث إنه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها ونظرها إليهم، وانكشاف شيء منها، وفي التحفظ في هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة فأمرها بالاعتداد في بيت ابن أم مكتوم لأنه لا يبصرها ولا يتردد إلى [بيته] (¬2) من يتردد إلى بيت أم شريك، ولا يلزم من إذنه -عليه الصلاة والسلام- بالاعتداد [في بيته] (¬3) الإِذن لها في النظر إليه، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيره إليها، وهي مأمورة بغض بصرها، فيمكنها التحرز عن النظر بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك. وفي هذا بحث سيأتي. ومعنى "آذنيني" أعلميني، وهو بهمزة ممدودة. والعاتق: ما بين العنق والمنكب. وفي معنى لا يضع عصاه عن عاتقه: تأويلات. ¬

_ (¬1) في الأصل: (المرأة)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في المخطوط بيتها وهي خطأ وما أثبت من المحقق. (¬3) زيادة من هـ.

أظهرها: أنه كثير الضرب للنساء، كما جاء مصرحًا به في رواية لمسلم "إنه ضرَّاب للنساء". ثانيها: أنه كثير الأسفار، وقد جاء في غير مسلم ما يدل له، حكاه القرطبي (¬1). ثالثها: أنه كناية عن كثرة الجماع، حكاه صاحب "البيان" والرافعي، والمنذري، واستبعد لأنه -عليه الصلاة والسلام- يبعد منه الاطلاع على هذه الحالة من غيره، ثم يبعد ذكره من خلفه وإذنه، ثم إن المرأة لا ترغب عن الخاطب بذلك لا جرم، لما حكاه صاحب "البيان" قال: إنه غلط، لأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه أراد هذا، ثم قال: [. .] (¬2) قال الصيمري: لو قيل: إنه أراد بقوله هذا كثرة الجماع، أي أنه كثير التزويج لكان أشبه. رابعها: أنه شديد على أهله، خشن الجانب في معاشرتهن، مستقص عليهن في باب المغيرة، قاله الأزهري في "زاهره" (¬3) ثم حكى القول الثاني والأول، وقال أبو عبيد (¬4): في قوله -عليه الصلاة والسلام- "أنفق على أهلك [من طولك] (¬5)، ولا ترفع عصاك [عنهم] (¬6) لم يرد العصا التي يضرب بها ولا أمر أحدًا بذلك، وإنما ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2574). (¬2) في هـ زيادة (واو). (¬3) الزاهر (202). (¬4) غريب الحديث (1/ 334). (¬5) زيادة من الزاهر. (¬6) في الزاهر: (عن أهلك).

أراد منعها من الفساد [. .] (¬1) يقال: للرجل إذا كان رفيقًا حسن السياسة (¬2) [لين] (¬3) العصا. وقوله: "وأما معاوية فصعلوك" بضم الصاد أي فقير يعجز عن القيام بحقوق الزوجية. وفي رواية لمسلم "إنه ترب لا مال له" والترب: بفتح التاء وكسر الراء الفقير، وأكده بأنه لا مال له، لأن الفقير قد يطلق على من له شيء يسير لا يقع موقعًا من كفايته ثم صار بعد معاوية إلى ما صار، فسبحان من بيده الغنى والفقر. [. .] (¬4) قولها: "واغتبطت"، هو بفتح التاء والياء من غير بناء للمفعول، ووقع في بعض روايات مسلم زيادة "به" ولم يقع في أكثرها. والغبطة: تمني مثل حال المغبوط من غير إرادة زوالها عنه، وليس هو بحسد، تقول غبطته [بما نال أغبطه بكسر الباء غبطًا وغبطة فاغتبط هو. ومعنى] (¬5) "اغتبطت به" أنها لما امتثلت أمر الشارع في نكاح أسامة حصل لها الغبطة وقرت عينها. وأما إشارته -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة: واو. (¬2) في المرجع السابق زيادة: لِمَا وَلَيَ -إنه. (¬3) في المرجع السابق: (للين). (¬4) في هـ زيادة (واو). (¬5) في هـ ساقطة.

والسلام- بنكاح أُسامة فلما علمه من دينه وفضله وحسن سيره، فنصحها، فكرهته، لكونه مولى، وكونه أسود جدًّا. فكرر عليها الحث على زواجه لما علم من مصلحتها في ذلك، فكان كذلك و [لهذا] (¬1) لما قالت بيدها هكذا: أسامة، أسامة، فقال لها -عليه الصلاة السلام-: طاعة الله، وطاعة رسوله خير لك" رواه مسلم. وقال القاضي حسين إنما كرهته لمعنيين: أحدهما: أن أسامة ليس بكفء لها، لأنها [قرشية، وهو من الموالي. ويرشد إلى هذا الرواية التي] (¬2) أسلفناها أيضًا. [وثانيهما] (¬3): أنها طمعت في أن يتزوج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأنه قال لها من قبل ما قال: قبل انقضاء العدة. [الوجه] (¬4) الخامس: في فوائده: الأولى: جواز إيقاع الطلاق الثلاث دفعة لعدم إنكاره -عليه الصلاة والسلام- في رواية "طلقها ثلاثًا"، وفيه احتمال من كونه أنه أوقع عليها طلقة تتم بها الثلاث، كما تقدم في تلك الرواية. الثانية: أنه لا نفقة للمطلقة البائن غير الحامل ولا سكنى، وفيه ثلاثة مذاهب: ¬

_ (¬1) في الأصل: (ولها)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ ثانيها. (¬4) زيادة من هـ.

أحدها: هذا وبه قال ابن عباس وأحمد عملًا بهذا الحديث، وهو قول الأكثرين في السكنى، كما حكاه البغوي في "شرح السنة" (¬1) وفي النفقة كما حكاه عنهم الشيخ تقي الدين (¬2). ثانيها: يجبان، [وبه قال عمر بن الخطاب وأبو حنيفة (¬3). ثالثها: تجب السكنى دون النفقة] (¬4)، وبه قال مالك والشافعي وآخرون، لقوله تعالي: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬5). والجواب عن حديث فاطمة [هذا] (¬6): أن أكثر الرواة لم يذكروا فيه "ولا سكنى"، على أنها مرسلة على ما قاله ¬

_ (¬1) شرح السنة للبغوي (9/ 293). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 238)، والاستذكار (18/ 69)، مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة: "ليس لكِ عليه نفقة". (¬3) انظر: الاستذكار (18/ 70)، وحجتهم في ذلك أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود قالا في المطلقة ثلاثًا: لها السكنى والنفقة ما كانت في العدة. وأيضًا قال عمر: المطلقة ثلاثًا لها السكنى والنفقة ما دامت في العدة. ومن حديث فاطمة، قالت: طلقني زوجي ثلاثًا، فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - , فسألته فقال: "لا نفقة لكِ، ولا سكنى" قال: فذكرت ذلك لإِبراهيم، فقال: قال عمر بن الخطاب: لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة"، وقول عمر أيضًا أنه كان يقول: لا يجوز في دين المسلمين قول امرأة، وكان يجعل للمطلقة ثلاثًا: السكنى، والنفقة. (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) سورة الطلاق: آية 6. (¬6) في هـ ساقطة.

[أبو] (¬1) مسعود (¬2)، [فإنها] (¬3) من رواية أبي حازم عن أبي سلمة، ومن رواية الشعبي عن فاطمة، وهي التي أنكرها عليها الأسود، ذكره القرطبي (¬4) في "شرحه". وأجاب القاضي (¬5): بأنه خبر واحد [فقد] (¬6) لا يخص به العموم قال: هو والقرطبي: ويجوز أن يكون قد [استمر] (¬7) [العمل] (¬8) بالسكنى على مقتضى العموم، فلا يقبل حينئذٍ خبر الواحد على نسخه اتفاقًا. وأما سقوط النفقة فأخذوه من مفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} (¬9) فإنه يفهم عدمها عند عدمه، وقد تورعوا في تناول آية السكنى للبائن، قال الخطيب في "المدرج" (¬10) وأدرج مجالد وحده في هذا الحديث "إنما السكنى والنفقة لمن تملك الرجعة". ويحتاج من قال: بالسكنى إلى الاعتذار عن حديث فاطمة هذا، ¬

_ (¬1) في ن هـ: (ابن). (¬2) كتاب أبي مسعود الدمشقي. (¬3) في الأصل (فأنى) وما أثبت من هـ. (¬4) المفهم (5/ 2575). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 128). (¬6) في هـ فقال. (¬7) في إكمال إكمال المعلم: (استقر). وما أثبت من الأصل ون هـ والمفهم. (¬8) زيادة من هـ وإكمال إكمال المعلم والمفهم. (¬9) سورة الطلاق: آية 6. (¬10) الفصل للوصل المدرج في النقل (929) رقم (108).

فمنهم من اعتذر بما رواه الشافعي (¬1) بسنده عن سعيد بن المسيب وغيره: "أنها كانت امرأة لسنة، واستطالت على أحمائها، فأمرها بالانفصال"، وذكر بعض المفسرين أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} (¬2): أنها نزلت فيها، لأنه كان فيها بذاذة لسان وأذى للأحماء. ومنهم من قال: لأنها خافت في ذلك المنزل، ويؤيده ما رواه مسلم من قولها "أخاف أن يقتحم عليَّ"، قال البيهقي (¬3): وقد تكون العلة لكلاهما. واستبعد القرطبي (¬4) الأول، فإن هذه الصفة لا تليق بمن اختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبه ابن حبه، [وتواردت رغبات الصحابة عليها حين انقضت عدتها] (¬5)، قال: ولم يثبت بذلك نقل [بمسند صحيح] (5)، وقال الشيخ تقي الدين (¬6): سياق الحديث على خلاف هذين [التأويلين] (¬7) فإنه يقتضي أن السبب اختلافها مع الوكيل بسبب سخطها الشعير، وأنه ذكر أنه لا نفقة لها. فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجابها بما أجاب فالتعليل هو الاختلاف في النفقة لا ما ذكر، فإن قام دليل أقوى من هذا الظاهر عمل به. ¬

_ (¬1) الأم (5/ 236)، والاستذكار (18/ 73) , ومعرفة السنن (11/ 211)، والسنن الكبرى (7/ 433). (¬2) سورة الطلاق: آية 1. (¬3) السنن الكبرى (7/ 234)، ومعرفة السنن (11/ 212). (¬4) المفهم (4/ 269). (¬5) ما بين القوسين غير موجود في المفهم. (¬6) إحكام الأحكام (4/ 240). (¬7) في المرجع السابق: التأويلات.

وأما عمر - رضي الله عنه - فقال: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة جهلت أو نسيت" (¬1). قال العلماء: الذي هو في كتاب ربنا: إنما هو إثبات السكنى. قال الدارقطني (¬2): [وقوله] (¬3): وسنة نبينا. زيادة غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات. واحترزنا بالحايل: عن الحامل فإن النفقة تجب لها، وكذا السكنى، وبالبائن: عن الرجعية، فإنهما يجبان لها بالإِجماع، وبالمطلقة المتوفى عنها، فإنه لا نفقة لها بالإِجماع، والأصح عند الشافعية: وجوب السكنى لها، وقال مالك: لا سكنى لها إلَّا أن تكون قيمة الدار ومنفعتها ملكًا للميت، وقال أبو حنيفة: لا سكنى لها مطلقًا. روي أيضًا عن مالك، حكاها القرطبي (¬4) ووصفها بالشذوذ. فلو كانت حاملًا فالمشهور عند الشافعية، أنه لا نفقة لها، وقيل: يجب وهو غلط. الثالثة: وقوع الطلاق في غيبة المرأة، وهو إجماع. الرابعة: جواز الوكالة في أداء الحقوق، وهو إجماع أيضًا. الخامسة: جواز زيارة الرجال المرأة الصالحة إذا لم تؤد إلى فتنتهم وفتنتها, ولا يحصل به خلوة محرمة، ومن ذلك أيضًا الحديث الصحيح (¬5) في المرأة التي كانت تصنع لهم أصول السلق والشعير، ¬

_ (¬1) مسلم، ومصنف عبد الرزاق (7/ 42)، والسنن الكبرى (7/ 431). (¬2) سنن الدارقطني (4/ 26، 27). (¬3) في هـ فقوله. (¬4) المفهم (5/ 2571). (¬5) البخاري -أطرافه (938).

فتقدمه للصحابة عند انصرافهم عن صلاة الجمعة، فيأكلونه عند زيارتهم لها. السادسة: تحريم نظر المرأة الأجنبية إلى الرجل الأجنبي وتحريم نظره إليها، وقد احتج بحديث فاطمة هذا على جواز نظرها إلى الأجنبي بخلاف نظرها إليه، قال النووي في "شرح مسلم" (¬1): وهذا قول ضعيف، والذي عليه جمهور العلماء وأكثر [أصحابنا] (¬2) أنه يحرم [عليها أيضًا النظر إليه كعكسه] (¬3) لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ} (¬4) ولأن الفتنة مشتركة، قال: ويدل عليه من السنة الحديث الحسن في سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة، أنها كانت هي وميمونة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل ابن أم مكتوم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "احتجبا منه" فقلنا: إنه أعمى لا يبصرنا! فقال -عليه الصلاة والسلام-: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ " (¬5)؟ ¬

_ (¬1) (10/ 96). (¬2) في شرح مسلم: الصحابة. (¬3) العبارة في المرجع السابق: على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها. (¬4) سورة النور: الآيتان 30، 31. (¬5) الترمذي (2778)، وأبو داود (4112)، وأحمد (6/ 296)، والنسائي (5/ 393)، والبيهقي (7/ 91)، والآداب للبيهقي (886). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (1/ 550): هو حديث مختلف في صحته، وقال في موضع آخر منه: هو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري، عن نبهان مولى أم سلمة عنها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ =وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة فادحة. اهـ، محل المقصود. قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (18/ 80، 82): ففي هذا الحديث نهيه عن نظرهما إلى ابن أم مكتوم، وفي حديث فاطمة إباحة نظرها إليه. ويشهد لحديث نبهان هذا ظاهر قول الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، كما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]. ويشهد لذلك من طريق المغيرة أن نظرها إليه كنظره إليها. و [قد] قال بعض الأعراب: لأن ينظر إلى وليتي عشرة رجال خير من أن تنظر هي إلى رجل واحد. ومن قال بحديث فاطمة احتج بصحة إسناده، وأنه لا مطعن [لأحد من أهل] العلم بالحديث فيه، وقال: إن نبهان -مولى أم سلمة- ليس ممن يحتج بحديثه، وزعم أنه لم يرو إلَّا حديثين منكرين. أحدهما: هذا. والآخر: عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي به كتابه، احتجبت منه سيدته. ومن صحح حديث نبهان، قال: إنه معروف، وقد روى عنه ابن شهاب، ولم يأت بمنكر. وزعم أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجاب [لسن] كسائر النساء. قال الله -عز وجل-: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ. . . .} الآية [الأحز اب: 32]. وقال: إن نساء النبي -عليه السلام- لا يكلمن إلَّا من وراء حجاب متجالات كن، أو غير متجالات. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال: الستر والحجاب عليهن أشد منه على غيرهن؛ لظاهر القرآن وحديث نبهان عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. وقال ابن قدامة -رحمنا الله وإياه- في المغني (6/ 563، 564): فصل: وأما نظر المرأة إلى الرجل، ففيه روايتان: أحدهما: لها النظر إلى ما ليس بعورة، والأخرى: لا يجوز لها النظر من الرجل إلَّا إلى مثل ما ينظر إليه منها، اختاره أبو بكر، وهذا أحد قولي الشافعي لما روى الزهري عن نبهان، عن أم سلمة، وذكر الحديث، ثم قال: رواه أبو داود وغيره، ولأن الله تعالى أمر النساء بغض أبصارهن كما أمر الرجال به، ولأن النساء أحد نوعي الآدميين، فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسًا على الرجال. . . . ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس: "اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك فلا يراك" متفق عليه، وقالت عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد" متفق عليه، ويوم فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من خطبة العيد "مضى إلى النساء، فذكرهن ومعه بلال, فأمرهن بالصدقة" ولأنهن لو منعن النظر، لوجب على الرجال الحجاب، كما وجب على النساء، لئلا ينظرن إليهم، فأما حديث نبهان، فقال أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين، يعني هذا الحديث، وحديث "إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه" وكأنه أشار إلى ضعف حديثه إذ لم يرو إلَّا هذين الحديثين المخالفين للأصول، قال ابن عبد البر: نبهان مجهول لا يعرف إلَّا برواية الزهري عنه هذا الحديث، وحديث فاطمة صحيح فالحجة به لازمة، ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -كذلك قال أحمد وأبو داود. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: كان حديث نبهان لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وحديث فاطمة لسائر الناس؟ قال: نعم، وإن قدر التعارض، فتقديم الأحاديث الصحيحة أولى من الأخذ بحديث مفرد في إسناده مقال. اهـ.

قال الترمذي: حديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة. وأما حديث فاطمة هذا مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيره إليها كما سلف، واعترض الشيخ تقي الدين فقال: اختار بعض المتأخرين -وعنى به النووي- تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي، واستدل بالآية السالفة وفيه نظر، لأن لفظة "من" فيها للتبعيض ولا خلاف أنها إذا خافت الفتنة حرم عليها النظر. [فإن] (¬1) هذه حالة يجب فيها الغض. [فيمكن حمل الآية عليها فلا تدل الآية حينئذٍ على وجوب الغض مطلقًا] (¬2)، أو في غير هذه الحالة، وهذا [و] (¬3) إن لم يكن ظاهر اللفظ فهو محتمل له احتمالًا جيدًا، يتوقف معه الاستدلال على محل الخلاف، ثم قال: وقال هذا المتأخر. وأما حديث فاطمة: فذكر ما أسلفناه، ثم قال: وهذا الذي قاله إعراض عن التعليل [بعماه] (¬4) وكان يقوى لو تجرد الأمر بالاعتداد عنده عن التعليل بعماه، وما ذكره من المشقة موجود في نظرها إليه، مع مخالطتها له في البيت، ويمكن أن يقال: [إنه] (¬5) إنما علل ¬

_ (¬1) في الأصل (فإذًا) وما أثبت من هـ. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في إحكام الأحكام ساقطة. (¬4) في إحكام الأحكام: بعمى ابن أم مكتوم. (¬5) غير موجود في إحكام الأحكام.

بالعمى [كونها] (¬1) تضع ثيابها من غير رؤيته لها، فحينئذٍ يخرج التعليل عن الحكم باعتدادها عنده. وأجاب القاضي (¬2)، والقرطبي (¬3): عن حديث أم سلمة السالف بوجهين: أحدهما: أنه لا يصح عند أهل النقل، لأن نبهان مولاها ممن لا يحتج بحديثه. وذكره ابن عبد البر (¬4) أيضًا [. .] (¬5) قال: ومن قال بحديث فاطمة احتج بصحته، وأنه لا مطعن لأحد فيه، وأن نبهان ليس ممن يحتج بحديثه، وزعم أنه لم يرو إلَّا حديثين منكرين: هذا والآخر في أداء المكاتب (¬6). وقال البيهقي في "سننه" (¬7) في أبواب المكاتب: صاحبا الصحيح لم يخرجاه عنه، وكأنه لم تثبت عدالته عندهما، [و] (¬8) لم يخرج من الجهالة برواية عدل عنه. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام: (لكونها). (¬2) إكمال إكمال المعلم (4/ 124). (¬3) المفهم (5// 2573). (¬4) الاستذكار (18/ 81). (¬5) في هـ زيادة (وهو). (¬6) ولفظه: إذا كان عند مكاتب إحداكن ما يقضي عنه، فاحتجبي" أخرجه الحميدي (289)، وأبو داود (3928)، والترمذي (1261)، والشافعي (2/ 44، 45)، وعبد الرزاق (15729)، وأحمد (6/ 289، 308، 311)، وابن ماجه (2520)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في المستدرك (2/ 219)، والبيهقي (10/ 327). (¬7) الكبرى (10/ 327). (¬8) في هـ (أو).

قلت: [قد] (¬1) روى عنه الزهري، ومحمد بن عبد الرحمن مولى [آل طلحة] (¬2)، وذكره ابن حبان في "ثقاته" (¬3). الجواب الثاني: إن ذلك من باب التغليظ على أزواجه لحرمتهن، كما غلظ عليهن أمر الحجاب، وإلى هذا أشار أبو داود (¬4) ¬

_ (¬1) في الأصل: (عن)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في الأصل (آل فاطمة) وفي هـ (أبي طلحة) وما أثبت من تهذيب الكمال (29/ 312). (¬3) الثقات لابن حبان (5/ 486). (¬4) ذكر هذا أبو داود عقب الحديث، (4/ 362) ح (4112) وذكره ابن عبد البر في الاستذكار (8/ 81). وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في "التمهيد" (19/ 156) موضحًا الفرق بين أم شريك وفاطمة: وأما قوله يغشاها أصحابي، فمعلوم أنها عورة كما أن فاطمة عورة إلَّا أنه علم أن أم شريك من الستر والاحتجاب بحال ليست بها فاطمة؛ ولعل فاطمة من شأنها أن تقعد فضلًا لا تحترز كاحتراز أم شريك، ولا يجوز أن تكون أم شريك -وإن كانت من القواعد أن تكون فضلًا ويجوز أن تكون فاطمة شابة ليست من القواعد، وتكون أم شريك من القواعد، فليس عليها جناح- ما لم تتبرز بزينة، فهذا كله فرق بين حال أم شريك وفاطمة -وإن كانتا جميعًا امرأتين العورة منهما واحدة، ولاختلاف الحالتين أمرت فاطمة بأن تصير إلى ابن أم مكتوم الأعمى- حيث لا يراها هو ولا غيره في بيته ذلك. وأما وجه قوله لزوجته ميمونة وأم سلمة إذ جاء ابن أم مكتوم: احتجبا منه، فقالتا: أليس بأعمى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفعمياوان أنتما؟ فإن الحجاب على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كالحجاب على غيرهن؛ لما فيه من =

وغيره من [الأئمة] (¬1). [السابعة] (¬2): جواز التعريض بخطبة البائن، وهو الأظهر عند الشافعية، واستبعد القاضي (¬3) استنباط هذا الحديث إذ ليس في قوله "آذنيني" أو "لا تسبقيني بنفسك" على الرواية الأخرى التي في مسلم: غير أمرها بالتربص، ولم يسم لها زوجًا، قال: وإنما يكون التعريض من الزوج أو ممن يتوسط له بعد تعيينه ومعرفته. وأما في مجهول فلا يصح فيه التعريض، إذ لا يصح مواعدته، قال: لكن في الحديث ما يدل على منع التعريض والمواعدة في العدة، إذ لم يذكر لها -عليه الصلاة والسلام- مراده ولا واعدها عليه ولا خطبها لأسامة. هذا آخر كلامه، وفيه نظر، إذ لا يلزم من الترك المنع مع أن القرآن مصرح بجواز التعريض. ¬

_ = الجلالة، ولموضعهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدليل قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. . . .} الآية، وقد يجوز للرجل أن ينظر لأهله من الحجاب بما أداه إليه اجتهاده حتى يمنع منهن المرأة فضلًا عن الأعمى. وأما الفرق بين ميمونة وأم سلمة وبين عائشة -إذ أباح لها النظر إلى الحبشة، فإن عائشة كانت ذلك الوقت -والله أعلم- غير بالغة، لأنه نكحها صبية بنت ست سنين أو سبع، وبنى بها بنت تسع، ويجوز أن يكون قبل ضرب الحجاب مع ما في النظر إلى السودان مما تقتحمه العيون، وليس الصبايا كالنساء في معرفة ما هنالك من أمر الرجال. اهـ. (¬1) في الأصل: (الآية)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في الأصل: (السابقة) , وما أثبت من ن هـ. (¬3) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 125).

الثامنة: مساكنة من ليس بمحرم، وفي "صحيح مسلم" هنا، وفي حديث الجساسة آخر الكتاب، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لها: "انتقلي إلى ابن عمك ابن أم مكتوم، وهو رجل من بني فهر قريش، وهو من البطن الذي هي منه"، هكذا هو في كل نسخة. فاعترض القاضي (¬1) [بأن] (¬2) المعروف أنه ليس [ابن] (¬3) عمها, ولا من البطن الذي هي منه، بل هي من [بني] (¬4) محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤي. وأجاب النووي (¬5) فقال: الصواب أن ما جاءت به الرواية صحيح، والمراد بالبطن هنا القبيلة لا البطن الذي هو أخص منها، والمراد أنه ابن عمها مجازًا, لكنه من قبيلتها، فإنهما يجتمعان في فهر. [التاسعة: جواز خروج المعتدة من بيت زوجها للحاجة، ولا يجوز لغيرها. ومن الحاجة خروجها للاستفتاء] (¬6). [العاشرة] (¬7): جواز الخطبة على الخطبة من لم يجب ولم يرد، أو لا تعلم إجابته ولا رده، أو من أخرت الإِجابة حتى شاور، ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 128)، وشرح مسلم (10/ 103). (¬2) في هـ بأنه. (¬3) في هـ بابن. (¬4) زيادة من هـ إكمال إكمال المعلم. (¬5) شرح مسلم (10/ 103). (¬6) في هـ ساقطة. (¬7) في هـ التاسعة مع إسقاط كلمة العاشرة.

لأنه -عليه الصلاة والسلام- ذكر لها أسامة قبل إجابتها لهما, ولم ينكر أيضًا وقوع خطبتهما، فإذن لا تضادّ بين هذا الحديث وحديث النهي عن الخطبة على الخطبة، لأن حديث النهي محمول على ما إذا صرح للخاطب الأول بالإِجابة. وأيضًا فحديث فاطمة محمول على رعاية المصلحة وأنها لا تحرم عند المصلحة، ويكون -عليه الصلاة والسلام- قد علم بخطبتها ومصلحتها في خلافهما. الحادي عشرة: جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة، ولا يكون من الغيبة المحرمة، وهو أحد المواضع الستة التي يباح الغيبة فيها، لأجل المصلحة (¬1). الثاني عشرة: جواز استعمال المجاز للمبالغة، وجواز إطلاق هذه العبارة، فإن أبا جهم لابد أن يضع عصاه حالة نومه أو أكله، وكذلك معاوية لابد أن يكون له ثوب يلبسه مثلًا، لكن اعتبر حال ¬

_ (¬1) قال النووي رحمنا الله وإياه في كتاب الأذكار (292) إعلم أن الغيبة وإن كانت محرمة فإنها تباح في أحوال للمصلحة، والمجوِّز لها غرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلَّا بها وهو أحد ستة أسباب -نذكرها باختصار-: الأول: التظلم، الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، الثالث: "الاستفتاء". الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين، ومنها الاستشارة -كما في هنا- إلخ. الخامس: ومنها أن يكون مجاهر بفسقه أو بدعته. السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب: كالأعمش، والأعرج إلخ, ثم شرع يبين مأخذ هذه الأوجه من الأحاديث.

الغلبة وهجر النادر اليسير. والمجاز في أبي جهم أظهر منه في معاوية، لأن لنا أن نقول إن لفظة المال انتقلت في العرف عن موضوعها الأصلي إلى ما له قدر من المملوكات، ذلك مجاز شائع ينزل منزلة النقل، فلا يتناول الشيء اليسير جدًّا بخلاف ما قيل في أبي جهم، نبّه عليه الشيخ تقي الدين (¬1). الثالثة عشرة: أن النادر ملحق بالغالب. الرابعة عشرة: تزويج القرشية بغير قرشي. الخامسة عشرة: قد يستدل به على أنه إذا لم يكن للمرأة ولي خاص وزوّجها السلطان بغير كفؤ أنه يصح، وهو ما صححه الغزالي وإمامه إمام الحرمين، لأن الظاهر أن فاطمة هذه لم يكن لها ولي خاص -أعني مستحقًا للولاية- لأن أخاها الضحاك إنما كان صغيرًا أو لم يسلم، وهي قرشية، وهو كلبي غير قرشي، وقد زوّجها -عليه الصلاة والسلام-، إلَّا أن يدعى أن هذا من خصائص أسامة، خصه الشارع به، وقد يستدل به لمذهب مالك أن الكفاءة في الدين لا النسب. السادسة عشرة: نصيحة الكبار أتباعهم، وتكريرها عليهم، وإرشادهم إلى مصلحتهم، ورجوع الأتباع إلى قولهم، وتركهم حظوظهم، وأن عاقبة ذلك محمودة، وشاهد ذلك نصًّا قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬2)، وقوله: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 243). (¬2) سورة البقرة: آية 216.

شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} (¬1). السابعة عشرة: جواز سماع كلام الأجنبية في الاستفتاء ونحوه. الثامنة عشرة: الحرص على مصاحبة أهل [العرض] (¬2) وإن دنت أنسابهم. التاسعة عشرة: قال القاضي (¬3): فيه مراعاة المال في النكاح، لاسيما في حق الأزواج، إذ به تقوم حقوق المرأة. العشرون: قال: فيه أيضًا حجة لإخراج كل مؤذ لجيرانه عنهم من منزله، لإِخراج فاطمة هذه من حقها في السكنى، وقد قال مالك وأصحابه في مثله إن المنزل يباع عليه أو يكرى. الحادية والعشرون: استنبط البغوي في "شرح السنة" (¬4) منه أيضًا من قوله "وأما معاوية فصعلوك لا مال له" إن الرجل إذا لم يجد نفقة أهله وطلبت فراقه، فرق بينهما. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 19. (¬2) لعلها: الفضل. (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 125). (¬4) شرح السنّة (9/ 300).

65 - باب العدة

65 - باب العدة هي اسم لمدة معدودة تتربص فيها المرأة لتعرف براءة رحمها، وذلك يحصل بالولادة أو الأقراء أو الأشهر، وذكر المصنف في آخر الباب الإِحداد لتعلقه بها، وذكر فيه أربعة أحاديث: الحديث الأول 337/ 1/ 65 - عن سبيعة الأسلمية: "أنها كانت تحت سعد ابن خولة -وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرًا- فتوفي في حجة الوداع، وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح، والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال ليس ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري (5319)، ومسلم (1484)، وابن ماجه (2028)، وأبو داود (2306)، ومالك (2/ 33)، وأحمد (6/ 432)، والبغوي (2388)، =

قال ابن شهاب: ولا أرى بأسًا أن تتزوج حين وضعت, وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر (¬1). الكلام عليه من وجوه: وهو بهذه السياقة لمسلم، وزاد بعد "توفي" لفظة "عنها"، وقبل [لفظة] (¬2) "والله" لفظة "إنك". وفي بعض طرق البخاري (¬3) "إنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة" ولم يذكر قول ابن شهاب السالف، وفي رواية له (¬4) "فمكثت قريبًا من عشر ليال، ثم جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال انكحي". الأول: في التعريف براويه: هي سُبيعة -بضم السين المهملة ثم باء موحدة مفتوحة، ثم ياء مثناة تحت ساكنة، ثم عين مهملة، ثم هاء- بنت الحارث الأسلمية، لها صحبة ورواية، روت اثنا عشر حديثًا روى عنها زفر بن أوس بن الحدثان وجماعة قال أبو عمر: روى عنها فقهاء أهل المدينة وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها ¬

_ = والنسائي (6/ 194، 195، 196)، والبيهقي (7/ 428)، وعبد الرزاق (1172)، والطبراني (24/ 745، 750). (¬1) مسلم (56/ 1484). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري (4909)، والفتح (8/ 653). (¬4) البخاري (5318)، والفتح (9/ 469). قال الزركشي في تصحيح العمدة: حديث سبيعة ذكره عبد الحق في أحكامه من جهة مسلم، وأنكره عليه ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام، وقال: لم يروه مسلم، وليس كما قال ابن القطان.

هذا، وروى عنها ابن عمر حديث: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه لا يموت بها أحد إلَّا كنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة" (¬1). قال: وزعم العقيلي أن التي روى عنها ابن عمر غير الأولى، ولا يصح ذلك عندي (¬2). [فائدة: سبيعة -تصغير سبعة- وهي اللبوة أي أنثى الأسد. قاله الجوهري] (¬3). [الوجه] (¬4) الثاني: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه: أما سعد بن خولة: فقد سلف واضحًا في باب الوصية. وقوله: "وهو في بني عامر بن لؤي"، كذا هو في النسخ "في بني عامر" وهو صحيح ومعناه نسبته فيهم أي هو منهم. ¬

_ (¬1) الطبراني في المعجم الكبير (24/ 294)، وأخبار أصفهان (2/ 103)، وذكره في مجمع الزوائد (3/ 306)، وقال: رجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن عكرمة، وقد ذكره ابن أبي حاتم، ورفعه عنه جماعة، ولم يتكلم فيه أحد بسوء، وذكره ابن حجر في ترجمتها في الإِصابة (10/ 103)، وتهذيب التهذيب (12/ 424)، وأسد الغابة (5/ 472). (¬2) ساق ذلك ابن حجر في ترجمتها في الإِصابة والتهذيب، ولم يتعقبه بشيء وذكر في الإصابة (10/ 104) سبيعة الأسلمية وقال: سبيعة الأسلمية: التي روى عنها ابن عمر ذكرها العقيلي وقال: هي غير بنت الحارث زوج سعد بن خولة. ورده ابن عبد البر فقال: لا يصح ذلك عندي. انظر الاستيعاب (4/ 1859). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) زيادة من ن هـ.

وأما أبو السنابل (¬1): فهو -بفتح السين- جمع سنبلة ابن ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (4729): قوله (فخطبها أبو السنابل) بمهملة ونون ثم موحدة جمع سنبلة، اختلف في اسمه فقيل عمرو، قاله ابن البرقي عن ابن هشام عمن يثق به عن الزهري، وقيل عامر روى عن ابن إسحاق، وقيل حبَّة بموحدة بعد المهملة، وقيل بنون وقيل لبيد ربه، وقيل أصرم, وقيل عبد الله، ووقع في بعض الشروح وقيل بغيض. قلت: وهو غلط والسبب فيه أن بعض الأئمة سئل عن اسمه فقال: بغيض يسأل عن بغيض، فظن الشارح أنه اسمه، وليس كذلك لأن في بقية الخبر اسمه لبيد ربه، وجزم العسكري بأن اسمه كنيته، وبعكك بموحدة ثم مهملة ثم كافين بوزن جعفر بن الحارث بن عميلة بن السباق بن عبد الدار، وكذا نسبه ابن إسحاق, وقيل هو ابن بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق نقل ذلك عن ابن الكلبي ابن عبد البر قال: وكان من المؤلفة وسكن الكوفة، وكان شاعرًا، ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: لا يعلم أن أبا السنابل عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال، لكن جزم ابن سعد أنه بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - زمنًا، وقال ابن منده في "الصحابة" عداده في أهل الكوفة، وكذا قال أبو نعيم أنه سكن الكوفة، وفيه نظر لأن خليفة قال: أقام بمكة حتى مات، وتبعه ابن عبد البر، ويؤيده كونه عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قول ابن البرقي: أن أبا السنابل تزوج سبيعة بعد ذلك وأولدها سنابل بن أبي السنابل، ومقتضى ذلك أن يكون أبو السنابل عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه وقع في رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة أنها تزوجت الشاب، وكذا في رواية داود بن أبي عاصم أنها تزوجت فتى من قومها، وتقدم أن قصتها كانت بعد حجة الوداع فيحتاج -إن كان الشاب دخل عليها ثم طلقها- إلى زمان عدة منه ثم إلى زمان الحمل حتى تضع وتلد سنابل حتى صار أبوه يكنى به أبا السنابل، وقد أفاد محمَّد بن وضاح فيما حكاه ابن بشكوال =

بعكك -بفتح الكاف- مصروف بن الحارث القرشي العبدري من مسلمة الفتح، في اسمه تسعة أقوال: أحدها: عمرو. ثانيها: لبيد ربه. ثالثها: حبَّة -بالباء-. رابعها: حنة -بالنون-. خامسها: بعكك. سادسها: عامر. سابعها: أصرم. ثامنها: أن اسمه كنية. تاسعها: بغيض، سكن الكوفة، وهو شاعر إسلامي. قال البخاري (¬1): لا أعرفه أنه عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن سعد: بقي بعده زمنًا. قال: وأمه عمرة بنت أوس ابن أبي عمرو، من بني عذرة. وقال خليفة: أقام بمكة حتى مات. قال ابن إسحاق وهو من المؤلفة قلوبهم. قلت: وله ولد اسمه سنابل قال ابن دريد في ¬

_ = وغيره عنه أن اسم الشاب -الذي خطب سبيعة هو أبو السنابل، فآثرته على أبي السنابل- أبو البشر بن الحارث، وضبطه بكسر الموحدة وسكون المعجمة، وقد أخرج الترمذي والنسائي قصة سبيعة من رواية الأسود عند أبي السنابل بسند على شرط الشيخين إلى الأسود وهو من كبار التابعين من أصحاب ابن مسعود ولم يوصف بالتدليس فالحديث صحيح على شرط مسلم، لكن البخاري على قاعدته في اشتراط ثبوت اللقاء ولو مرة فلهذا قال ما نقله الترمذي. وزاد أبو نصر بن ماكولا: "حية". وقال البخاري اسمه: "عبيد". وقيل: عُبَيدُ رَبِّهِ. (¬1) ذكره عنه الترمذي في السنن (3/ 489).

"الاشتقاق" (¬1) وله أخ يكنى أبا سنبلة. فائدة: في قريش آخر يسمى أبا السنابل وهو [ابن] (¬2) عبد الله بن عامر بن كريز كانت تحته خديجة بنت علي بن أبي طالب، وربما أشكل بهذا. قال البرقي: ولد مسلمًا أمه أم البنين. وأما ابن شهاب: فهو منسوب إلى جد جده، وهو أبو بكر محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله [. .] (¬3) بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب القرشي الزهري المدني ثم الشامي الإِمام، اعلم الحفاظ، أخذ عن الفقهاء السبعة في جمع كثير من التابعين، وسمع أنسًا وسهل بن سعد وأبا الطفيل وغيرهم من الصحابة [قال ابن طاهر يقال إنه رأى عشرة من الصحابة] (¬4). قال أبو داود: حديثه ألفان ومائتان، النصف منها مسند، ومن حفظ الزهري أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة. وقال: ما استودعت قلبي علمًا فنسيته. قال مالك: بقي ابن شهاب وما له في الدنيا نظير. وقال غيره: كانت الدراهم والدنانير عنده بمنزلة البعر، وكان يخضب بالحناء والكتم، أدى هشام عنه سبعة آلاف دينار دينًا، وكان يؤدب ولده، ويجالسه، [ووفد] (¬5) على عبد الملك أيضًا فأعجبه ووصله وقضى دينه، أملى على بعض ولد هشام بن عبد الملك أربعمائة حديث ثم خرج فأملاها ¬

_ (¬1) ص (159). (¬2) هذه غير موجودة في أسد الغابة (5/ 31). (¬3) في هـ زيادة (بن شهاب بن عبد الله). (¬4) زيادة من هـ. (¬5) في هـ وقدم.

على أصحاب الحديث، ثم إن هشامًا قال له بعد شهر أو نحوه: ضاع الكتاب فأملاها وقوبل بالأول فما غادر حرفًا. قال عراك بن مالك: أعلمهم جميعًا يعني ابن المسيب وعروة وعبيد الله بن عبد الله وأعلمهم جميعًا عندي محمَّد بن شهاب، لأنه جمع علمهم إلى علمه مات سنة أربع وعشرين ومائة، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل: سنة ثلاث في ناحية الشام، وقد جاوز السبعين، وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق بضيعة يقال لها "شغب بدا" بفتح السين وسكون العين المعجمتين وبباء موحدة ثم دال مهملة قيل: إنها ضيعته. الوجه الثالث: لم يذكر المصنف مدة وضع الحمل بعد وفاة زوجها. وقد أسلفناها أيضًا "فمكثت قريبًا من عشر ليال، ثم جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: انكحي". وفي رواية لأحمد من حديث ابن مسعود "أنها وضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة. وفي رواية [له] (¬1) من حديث بن الأسود عن أبي السنابل "بثلاث وعشرين ليلة". وفي رواية للنسائي "قريبًا من عشرين ليلة". وفي رواية له: "لأدنى من أربعة أشهر وفي رواية للنسائي والترمذي "بثلاث وعشرين يومًا أو خمسة وعشرين". وفي الطبراني "فمكثت بعده شهرين ثم وضعت" وفي رواية له "ثمان أو سبع" وفي رواية له "ببضع وعشرين ليلة". الوجه الرابع: كان الخاطب لها كهلًا هو أبو السنابل وشابًا ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة.

وهو أبو اليسر قاله ابن العطار في "شرحه" (¬1). الوجه الخامس: في ألفاظه. معنى "لم تنشب" لم تمكث. ومعنى "تعلت من نفاسه": طهرت منه، وحكى الأصبهاني فيه لغة أخرى: تعالت [قال القرطبي (¬2): ويحتمل أن يكون المراد "تعلت" هنا: الاستقلال من أوجاعها] (¬3). [وخطبة أبي السنابل لها ثابتة في "صحيح البخاري" من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن ولفظه وكان أبو السنابل فيمن خطبها وفي "مسند أحمد" (¬4) من حديث ابن مسعود "أنها لما أخبرته بقول أبي السنابل، قال -عليه الصلاة والسلام- "كذب أبو السنابل إذا أتاك أحد ترضيه فأنبئني [به] (¬5) أو قال: فأنبئني، فأخبرها أن عدتها قد انقضت"] (¬6). ومعنى "تجملت": أي تزينت. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك ابن حجر -رحمه الله- في الإصابة (10/ 103) بدون تسمية الكهل والشاب. وذكره في ترجمة أبي اليسر، الإِصابة (9/ 19)، وفي ترجمة أبي السنابل الإصابة (9/ 91)، ابن بشكوال غوامض الأسماء المبهمة (1/ 168). (¬2) المفهم (4/ 282). (¬3) هذه العبارة في الأصل بعد كلمة ابن العطار في شرحه. (¬4) مسند أحمد (1/ 447)، قال في مجمع الزوائد (5/ 2، 3) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬5) زيادة من المسند. (¬6) ما بين القوسين في الأصل بعد قوله (وحكى الأصبهاني فيه لغة أخرى تعالت) وما أثبت يوافق هـ.

ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام- في رواية أحمد "كذب" أي أخطأ وقيل: سماه كاذبًا، لأنه كان عالمًا ثم أفتى بخلافه، حكاه ابن داود من أصحابنا، وفيه بعدٌ، فإنه حلف بالله على ما أفتاها به وقيل: إنما قال لها أبو السنابل ما قال لتتربص حتى يأتي أولياؤها إذ كانوا غيبًا فيتزوجها هو إذ كان له فيها غرض، وكان رجلًا كبيرًا، فمالت إلى نكاح غيره كما جاء في حديث مالك، حكاه القاضي (¬1) قال: ويحتمل أنه حمل الآية على العموم، كما حملها غيره. وقول ابن شهاب: "غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر"، معناها أن زواجها بعد الوضع صحيح، وأن وطئها حال النفاس حرام كغيرها، وهو مجمع عليه. الوجه السادس: في فوائده: الأولى: إن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضعه ولو كان بلحظة قبل غسله، وبه قال الأئمة الأربعة والعلماء كافة إلَّا رواية عن علي وابن عباس وسحنون المالكي، أن عدتها بأقصى الأجلين، فإن تقدم وضع الحمل على تمام أربعة أشهر وعشرًا انتظرت تمامها، وإن تقدمت الأربعة أشهر والعشر على وضع الحمل انتظرت وضع الحمل، وروي عن ابن عباس الرجوع عنه، ويصحح ذلك أن أكابر أصحابه كعطاء وعكرمة وجابر بن زيد يقولون بما أسلفناه عن العلماء. ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 129).

وسبب هذا الخلاف: تعارض عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ. . . .} (¬1) الآية، مع قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2)، فإن كل واحد من الاثنين عام من وجه خاص من وجه، فعموم الأولى [و] (¬3) هي المتوفى عنها، سواء كانت حاملًا أم لا؟ والثانية وهي وأولات الأحمال، سواء كانت المرأة متوفى عنها زوجها أم لا؟ فلعل هذا التعارض هو السبب لاختيار من اختار أقصى الأجلين لعدم ترجيح أحدهما على الآخر عنده، وذلك يوجب [أن] (¬4) لا يرفع تحريم العدة السابقة إلَّا بيقين الحل, وذلك بأقصى الأجلين لكن فقهاء الأمصار اعتمدوا على هذا الحديث فإنه يخصص عموم آية الوفاة، وهو أيضًا آخر الأمر فإنه بعد حجة الوداع مع ظهور المعنى في حصول البراءة بوضع الحمل. وكان علي - رضي الله عنه - يرى أن آية البقرة آخر الآيتين نزولًا، وخالفه ابن مسعود وقال: من شاء لاعنته أن آية الطلاق نزلت بعدها، فهي مخصصة بعمومها، أو ناسخة له على من يرى أن التخصيص نسخٌ. الثانية: أن المعتدة تنقضي عدتها بوضع الحمل وإن لم تطهر من النفاس، كما صرح به الزهري، وهو مقتضى قولها "فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي"، وقال الشعبي والحسن وحماد والنخعي فيما روي عنهم: لا يصح زواجها حتى تطهر من نفاسها ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 240. (¬2) سورة الطلاق: آية 4. (¬3) في هـ (وهو). (¬4) زيادة من هـ.

متعلقين بقوله: "فلما تعلت من نفاسها"، أي طهرت , قال لها: "قد حللت فانكحي من شئت" رتب الحل على التعلي، فيكون علة له، وهو ضعيف لتصريح الرواية بأنه أفتاها بالحل بوضع الحمل، وهو أصرح من ذلك الترتيب المذكور نبه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬1) ولم أرَ من خرَّج هذه الرواية بهذا اللفظ، والذي ذكره النووي في "شرحه لمسلم" (¬2) إنهم احتجوا بقوله: "فلما تعلت من نفاسها". ثم أجاب بأن هذا إخبار عن وقت سؤالها ولا حجة فيه، وإنما الحجة في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنها حلت حين وضعت"، ولم يعلل بالطهر من النفاس. الثالثة: انقضاؤها بوضعه على أي وجه كان من مضغة أو علقة أو استبان فيه الخلق أم لا؟ فإنه -عليه الصلاة والسلام- رتب الحل على وضعه من غير استفصال، وهو دال على العموم، وضعفه الشيخ تقي الدين (¬3) بأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع المضغة والعلقة نادر، وحمل الجواب على الغالب ظاهر، وإنما تقوي تلك القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض ويختلف الحكم باختلافها. هذا كلامه، وقد يترجح هنا الأول بالمعنى وهو أن وضع العلقة والمضغة دالة على براءة الرحم، وهو الأحوط هنا وللشافعي قول مخرج أن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم، ليس فيها صورة بينة ولا خفية، وقالت القوابل: هي أصل آدمي، ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 247). (¬2) شرح مسلم (9/ 109). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 247).

والصحيح الانقضاء بها. الرابعة: جواز تجمل المرأة للخطاب بشرط أن لا يكون فيه زور في ملبس أو خلق من وصل شعر أو تحمير وجه أو كثرة مال وغير ذلك مما يرغب في نكاحها عادة، فإنه كذب وغش. الخامسة: أن النكاح لا يجب على المرأة لأمره -عليه الصلاة والسلام- لها به "إن بدا لها"، فلو كان مُحتَّمًا من جهة الشرع لم يقيده باختيارها. السادسة: التوقف عن الأمر حتى يراجع الشرع. السابعة: الفتيا في العلم وخروج المرأة لها ليلًا.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 338/ 2/ 65 - عن زينب بنت أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: توفي حميمٌ لأم حبيبة فدعت بصفرةٍ فمسحته بذراعيها، وقالت: إنما أصنع هذا لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلَّا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" (¬1). الحميم: القرابة. الكلام عليه من وجوه: وننبه قبلها أن السياق المذكور لمسلم. الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في كتاب النكاح. وأما زينب فهي بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية ربيبة ¬

_ (¬1) البخاري (1281)، ومسلم (1486، 1487)، وأبو داود (2299)، والنسائي (6/ 201)، والترمذي (1195، 1196)، والبغوي (2389)، والموطأ (2/ 596، 598)، وعبد الرزاق (1230)، وأحمد (6/ 324، 325)، والحميدي (306)، والدارمي (2/ 87)، والبيهقي (7/ 437، 439)، وابن الجارود (765).

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابنة أخيه من الرضاعة، لأن أباها رضع معه من ثويبة كما سلف، وهي أخت عمر بن أبي سلمة أيضًا، أمهما أم سلمة أم المؤمنين، وُلِدَت بأرض الحبشة، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب، روى لها البخاري حديثًا، ومسلم آخر، وروى عنها الشعبي وغيره. وقال العجلي إنها مدنية تابعية ثقة. وقال ابن القطان: هي معدودة من [التابعيات] (¬1) ماتت في ولاية طارق (¬2) على المدينة سنة ثلاث وسبعين، وحضر ابن عمر جنازتها، وقيل: قبل السبعين قاله البخاري. قال ابن سعد: تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب فولدت له أولادًا، وقد كانت أسماء بنت أبي بكر أرضعتها فهي أخت أولادها من الرضاعة. قال أبو عمر: ويروي أنها دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل فنضح في وجهها. قالوا فلم يزل الشباب في وجهها حتى كبرت وعجزت، وكانت من أفقه نساء زمانها. الوجه الثاني: بيان المبهم الواقع فيه، وهو "حميم أم حبيبة"، وقد قال ابن العطار: في "شرحه" لا أعرفه مسمى في المبهم ولا غيره. قلت: في الصحيحين (¬3) عن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت بطيب فيه صفرة، ثم ذكرت الحديث فاستفده. ¬

_ (¬1) في المخطوط المبايعات، وما اثبت من المحقق عفى الله عنه. (¬2) طارق بن عمرو مولى عثمان بن عفان. انظر: تاريخ خليفة بن خياط (268). (¬3) انظر: ت (1) ص 388.

الثالث: في ألفاظه ومعانيه. الحميم: في الأصل الماء الحار. ويقال: لخاصة الإِنسان، ومن يقرب منه حميم أيضًا، وكأنه لما كان القرب من الخمس حاملًا على حرارة الحمية والشفقة عليه سُمِّي حميمًا لمشابهة الماء الحار في المعنى، ووقع في رواية العدوي لمسلم "حميمة" بدل "حميم"، ووقع في نسخة ابن الحذاء "لأم سلمة" بدل "أم حبيبة". والصواب: "حميم" و"أم حبيبة". و"الصُّفرة" بضم الصاد خلوق بفتح الحاء: طيب مخلوط، وإنما دعت به لتدفع صورة الإِحداد ومسحها به بذراعيها، وفي الصحيحين "بعارضيها" ولعلها مسحتها. لكون ذلك أظهر ما في بدن الإِنسان، ليكون أبلغ في ظهور العمل بالشرع في ترك الإِحداد على الميت غير الزوج. "والذراعان" عظما المرفقين إلى الرسغ من اليدين. "والعارضان" جانبا الوجه فوق الذقن إلى ما وراء الأذن. وقوله: "تحد" هو بالحاء المهملة مضمومة مكسورة. قال الخطابي (¬1) في كتابه "تصاحيف الرواة": يروى "تحد" بالجيم والحاء وهو أجود، وبمعنى لا يختلف. وقال غيره: رواية الجيم ليست بشيء، لأن الوجد لا يكون إلى اختيار الآدمي. وقال الترمذي في "شرح الفصيح" (¬2): روايته بالحاء ¬

_ (¬1) إصلاح غلط المحدثين (65)، وهي مُضافة في الهامش. (¬2) لأبي العبّاس الترمذي، واسمه: "غريب الفصيح" يوجد مخطوط بالنور عثمانية. =

أشهر، ورواية الجيم مأخوذة من جذذت الشيء إذا قطعته، فكأنها أيضًا قد انقطعت عن الزينة، وما كانت عليه قبل ذلك. قال أهل اللغة: والحداد والإِحداد: مشتق من الحد، وهو المنع، لأنها تمنع من الزينة والطيب، يقال: أحدت المرأة تحد إحدادًا رباعيًّا، وحدّت تَحُدُّ بضم الحاء وكسرها حِدًّا بكسرها، كذا قاله الجمهور أنه يقال: أحدت وحدت رباعيًا وثلاثيًا (¬1). وقال الأصمعي: لا يقال إلَّا رباعيًّا، ويقال: امرأة حادًّا ولا يقال: حادة (¬2)، وكل ما يصاغ من (ح، د) كيف ما تصرف فهو راجع إلى معنى المنع. ومنه: الحداد للبواب. والإِحداد في الشرع: ترك الطيب والزينة، ومحل الخوض في تفصيله كتب الفروع. وفاعل "لا يحل" المصدر الذي (¬3) يمكن صياغته من يحد مع أَنْ. فكأنه قال: الإِحداد. "وأربعة" منصوب على الظرف. والعامل فيه يحد. "وعشرًا" معطوف، وأنثها لأنه أراد به مدة العشر، قاله المبرد، وقيل: لأنه أراد به الأيام بلياليها، وإليه ذهب العلماء كافة، كما سيأتي. ¬

_ (¬1) انظر: غريب الحديث (2/ 38) لأبي عبيد. (¬2) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في الحاشية (4/ 248): قد وقع في البخاري: "الكحل للحادة"، قال ابن حجر: إنه جائز وليس بخطأ. قال: ويقال: أحدت رباعي. وقال الفراء: الثلاثي أكثر في كلامهم. (¬3) في هـ زيادة (لا).

الوجه الثالث في فوائده: الأولى: وجوب الإِحداد على المعتدة من وفاة زوجها, ولا خلاف فيه في الجملة، وإن اختلفوا في التفصيل. الثانية: وجوبه على كل زوج، سواء كان عند الدخول أو قبله لإِطلاق قوله: "إلَّا [على] (¬1) زوج". الثالثة: وجوبه على كل امرأة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو كافرة، لعموم قوله: "لامرأة" (¬2) وهذا مذهب ¬

_ (¬1) في الأصل: (في) وما أثبت من ن هـ. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (18/ 219، 221): واختلف الفقهاء فيمن يلزمها الإِحداد من النساء على أزواجهن. فقال مالك: الإِحداد على المسلمة والكافرة والصغيرة والكبيرة. وهو قول أصحابه، إلَّا ابن نافع، وأشهب فإنهما قالا: لا إحداد على الكتابية. [وقال] الحسن بن حي، والليث، وأبو ثور، كقول مالك: الإِحداد على الصغيرة والكافرة كهو على المسلمة الكبيرة جعلوه من حق الزوج وحفظ النسب كالعدة، وقالوا: تدخل الصغيرة، والكافرة [في الإِحداد]، فالمعنى كما دخلت المسلمة الكبيرة بالنص، وكما دخل الكافر في أنه لا يجوز أن يُسام على سومه، وإنما في الحديث: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه"، و"لا يسم على سوم أخيه". وكما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد سلكه غيرهم. وقال أبو حنيفة: ليس على الصغيرة، ولا على الكافرة، ولا على الأمة المسلمة الإِحداد، كهو على الحرة بالعدة. وقال الثوري: الأمَةُ عليها ما على الحرة من ترك الزينة، وغيرها إلَّا =

الشافعي والجمهور، ولكن في دخول الصغيرة تحت لفظ المرأة نظر، فإن وجب من غير دخوله تحته فبدليل آخر. وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين وأبو ثور وبعض المالكية: لا يجب على الزوجة الكتابية لوصفها بالحديث في الإِيمان. وأجاب الأولون: بأن هذا ليس لتقييد الحكم به، بل لتأكيده مثل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} وتقول العرب: أطعني إن كنت ابني. وأجاب النووي في "شرحه" (¬1) أن ¬

_ = الخروج. وقال أحمد بن حنبل: الحرة والأمة في الخروج وغيره سواء عليهما الإِحداد، وكذلك الصغيرة. وهو قول أبي ثور، وأبي عبيد أيضًا في الصغيرة. قال أبو عمر: حجة من قال [لا إحداد إلَّا] على مسلمة مطلقة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر"، فعُلم أنها عبادة. فهو للحرة والأمَة دون الكافرة والصغيرة. والحجة عليه ما وصفنا مما ندعو به من الحديث أن الخطاب فيه توجه إلى المؤمنات، ودخلت الذمية في ذلك بحق الزوجية، لأنها في النففة [والسكنى]، والعدة كالمسلمة، وكذلك تكون في الإِحداد. وقال أشهب: لا إحداد على الكتابية، ورواه عن مالك، وخالفه الأكثر من أصحاب مالك في ذلك. وقال مالك وأصحابه: الإِحداد على كل زوجة متوفى عنها: حرة أو مملوكة، مسلمة أو ذمية، صغيرة أو كبيرة، والمكاتَبة، والمدبَّرة إلَّا ما ذكرنا عن ابن نافع، وأشهب). اهـ. (¬1) شرح مسلم (10/ 112).

[المؤمن هو الذي ينقاد لأحكام الشرع فلذلك] (¬1) قيَّد به، ونقل الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬2) هذا عن بعض المتأخرين، وعنى به النووي، ثم قال: وغير هذا أقوى منه، وهو أن يكون ذكر [هذا الوصف] (¬3) لتأكيد [التحريم] (¬4). وخالف أبو حنيفة في الصغيرة والزوجة الأمة [فقال] (¬5): لا إحداد عليهما وقام الإِجماع على أنه لا إحداد على أم الولد ولا على الأمة إذا توفي عنهما سيدهما، وقد يؤخذ ذلك من الحديث من حيث إنهما ليستا بزوجتين، والحكم متعلق بالزوجية، وقام أيضًا على أنه لا إحداد على الرجعية لبقاء أحكام النكاح فيها. واختلفوا في المطلقة ثلاثًا على قولين (¬6): ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 250). (¬3) زيادة من المرجع السابق. (¬4) زيادة من المرجع السابق. (¬5) في هـ (وقال). (¬6) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (18/ 221، 222): وأجمع مالك وأصحابه ألا إحداد على المطلقة. وهو قول ربيعة، وعطاء. والحجة لهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت إلا على زوج". فأخبر أن الإِحداد هو على المتوفى، والمطلق حي، فلا إحداد على امرأته. وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والحسن بن حي: الإِحداد على =

أحدهما: لا إحداد عليها لظاهر الحديث, فإن قوله "إلَّا على زوج" إيجاب بعد نفي فيقتضي حصر الإِحداد على المتوفى عنها زوجها، فلا تدخل المطلقة فيه من جهة لفظه بوجه. وبه قال عطاء وربيعة ومالك والليث وابن المنذر، وهو أصح قولي الشافعي. وثانيهما: نعم وبه قال الحكم وأبو حنيفة والكوفيون وأبو ثور وأبو عبيدة قياسًا على المتوفى عنها. وحكى القاضي عياض (¬1) قولًا شاذًا غريبًا عن الحسن البصري (¬2) أنه لا يجب الإِحداد على المطلقة، ولا على المتوفى ¬

_ = المطلقة واجب، وهي والمتوفى عنها في ذلك سواء، لأنهما جميعًا في عدة يحفظ بها النسب. وهو قول سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وابن سيرين. والحكم بن عيينة أوكد وأشد على المتوفى عنها زوجها. وبه قال أبو ثور وأبو عبيد. وقال الشافعي: أُحبُّ للمطلقة المبتوتة: الإِحداد، وأن لا يتبين لي أن أوجبه عليها. قال أبو عمر: ليس في الحديث إلَّا قوله: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت"، وليس فيه: لا يحل لها أن تحد على حيّ. (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 131). (¬2) دليل الحسن البصري كما ذكره ابن العربي في الجامع لأحكام القرآن (3/ 181) عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسلبي -أي البسي السواد- ثلاثًا ثم اصنعي ما شئتِ". خرجه أحمد (6/ 438)، ولهذا كان يقول: "المطلقة ثلاثًا =

عنها. قال القاضي واستفيد وجوب الإِحداد على المتوفى عنها من اتفاق العلماء على حمل هذا الحديث على ذلك، مع أنه ليس في لفظه ما يدل على الوجوب أي فإن قوله: "على زوج" مستثنى من قوله: "لا يحل" وظاهره لا يقتضي إلَّا الجواز، ولكن اتفقوا على حمله على الوجوب عليه قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث أم عطية (¬1) وأم سلمة (¬2) في الكحل والطيب واللباس، ومنعها منه أي وأنه استثنى الواجب من الحرام. فرع: امرأة المفقود تحد عند مالك خلافًا لابن الماجشون، حكاه ابن عبد البر. ولا إحداد على من تبين بعد الموت فساد نكاحها، كما قاله ¬

_ = أو المتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان، وتتطيبان، وتختضبان وتصنعان ما شاءتا". (¬1) ولفظه قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث إلَّا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، لا تكتحل، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلَّا ثوب عصب ولا تمس طيبًا إلا عند أدنى طهرها إذا اغتسلت من محيضها، نُبذة قسطٍ وأظفار". أخرجه البخاري (313)، ومسلم (1128)، وابن ماجه (2087)، وأبو داود (2302، 2303)، والنسائي (6/ 202، 203)، والبيهقي (7/ 439)، والدارمي (2/ 167، 168)، وأحمد (5/ 85) (6/ 408). (¬2) ولفظه عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل". أخرجه أبو داود (2304)، والنسائي (6/ 203، 204)، والبيهقي (7/ 440)، وأحمد (6/ 302).

ابن القاسم في "المدونة". تنبيه: ادعى الشافعى رحمه الله أن عموم "لا يحل لامرأة" دال على تحريم الإِحداد على الأمة والموطوءة بشبهة، وفيه نظر بالنسبة إلى الموطوءة بشبهة، فإن الموت لا يؤثر في [عدتها] (¬1). وقد يجاب: بأن [ترضى] (¬2) [المسلمة] (¬3) في عدتها عن مستفرشها بشبهة إذا مات (¬4). فائدة: الحكمة في شرعية الإِحداد في عدة الوفاة دون الطلاق: أن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان فيه، فنهيت عنه، ليكون الامتناع من ذلك زاجرًا عن النكاح، لكون الزوج ميتًا لا يمنع معتدته عن النكاح، ولا يراعيه ناكحها، ولا يخاف منه بخلاف المطلق الحي، فإنه يستغنى بوجوده، عن زاجر آخر، ولهذه العلة وجبت العدة على كل متوفى عنها، وإن لم يكن مدخولًا بها بخلاف الطلاق فاستظهر للميت بوجوب العدة، وجعلت أربعة أشهر وعشرًا، لأن الأربعة أشهر فيها تنفخ الروح في الولد إن كان والعشر احتياط، وفي هذه المدة يتحرك الولد في البطن ولم يوكل ذلك إلى أمانة النساء، ويجعل بالأقراء كالطلاق كما ذكرناه من الاحتياط للميت، وهذا سر لطيف ولما كانت الصغيرة من الزوجات نادرة ألحقت ¬

_ (¬1) في الأصل عدمها وما أثبت من هـ. (¬2) في هـ[فرض]. (¬3) في هـ المسئلة. (¬4) الكلام كأنه لم يتم.

بالغالب في حكم وجوب العدة والإِحداد حسمًا [للباب] (¬1). الرابعة: أن مدة عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، وبهذا قال العلماء كافة، وحُكي عن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي أنها أربعة أشهر وعشرة ليال، وأنها تحل في اليوم العاشر. وعند الجمهور حتى تدخل ليلة الحادي عشر. ثم التقييد بالمدة المذكورة خرج على غالب المعتدات أنهن يعتددن بالأشهر. أما الحامل: فعدتها بالحمل، ويلزمها الإِحداد في جميع العدة حتى تضع، قصرت المدة أو طالت. وعن بعضهم: أنه لا إحداد عليها بعد أربعة أشهر وعشرة، وإن لم تضع الحمل. الخامسة: جواز الإحداد على غير الزوج ثلاثة فما دونها، ومنعه فيما زاد، وادعى ابن العطار أن التقييد بما فوق الثلاث ليس فيه الإِذن في الثلاث وما دونها، وإنما هو تقييد خرج مخرج العادة للنفوس، وعليه طبعها كما جعل في الهجرة بين المسلمين (¬2) فوق ثلاث، لكن مفهومه الإِباحة في الثلاث، لأجل حظ النفس ومراعاتها , ولهذا دعت أم حبيبة بالخلوق، وتمسحت به، لعلمها بأن ¬

_ (¬1) في الأصل: "للبواب"، وما أثبت من ن هـ. (¬2) إشارة إلى الحديث الصحيح لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. الحديث.

الشارع لم يأذن في الإِحداد على غير الزوج مطلقًا، من غير أن تفعل ذلك بعد الثلاث، حيث علمت أن التقييد بالثلاث. إنما هو مراعاة للعادة في حظ [النفس] (¬1) لا لأجل الأذن في الثلاث وفيما ذكره نظر لا يخفى، وادعى أيضًا القرطبي في "شرحه" (¬2) أنه يستفاد من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فوق ثلاث" أن المرأة إذا مات حميمها، فلها أن تمتنع من الزينة ثلاث ليال متتابعة، تبدأ بالعدد من الليلة التي تستقبلها إلى آخر ثالثها فإن مات حميمها في بقية يوم أو ليلة ألغتها، وحسبت من الليلة المستأنفة. قال: فإنه -عليه الصلاة والسلام- عني بقوله: "فوق ثلاث" الليالي، ولذلك أنَّث العدد. ¬

_ (¬1) في هـ (النفوس). (¬2) المفهم (5/ 2589).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 339/ 3/ 65 - عن أم عطية رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، إلَّا على زوج أربعة أشهرٍ وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلَّا ثوب عصب ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا، إلاًّ إذا طهرت نُبْذةٌ من قسط أو أظفار" (¬1). "العصب": ثياب من اليمن فيها بياض وسواد. الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب صلاة العيدين. الثاني: في ألفاظه ومعانيه: تقدم الكلام في الحديث الذي قبله على الإِحداد، وحكمه، وحكمته، والمراد بالمصبوغ ما صبغ للزينة. والعَصْب: بفتح العين وسكون الصاد المهملتين، وقد فسره المصنف (¬2)، وهو كما قال: فإنه نوع من برود اليمن يعصب غزلها: ثم يصبغ معصوبًا، ثم ينسج فيأتي موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ, ووقع في "روض الأنف" للسهيلي: أنه نبت، فإنه قال: ¬

_ (¬1) (396). (¬2) انظر: المجموع المغيث (458).

العصب لا ينبت إلَّا باليمن ثم عزاه إلى أبي حنيفة. يعني الدينوري ولم يوجد ذلك في "كتابه"، وذكر أبو المعالي (¬1) في "المنتهى": أن عصب اليمن هو المفتول من برودها، قال: والعصب الخيار: قال أبو موسى المديني (¬2): ذكر بعض أهل اليمن: أنه من دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز وغيره، ويكون أبيض. قال صاحب "المستعذب في ألفاظ المهذب" (¬3) [وأن العصب] (¬4) للسدي دون اللحمة. وإنما رخص فيه لأنه أكثر لباسهم، قاله السهروردي (¬5) في "شرح ألفاظ المصابيح" (¬6) وأغرب الداودي، فقال: ثوب [عصب] (¬7) يعني الخضرة، وهي الحبرة، وليس قوله "الخضرة" بصواب. ¬

_ (¬1) هو أبو المعالي محمَّد بن تميم البرمكي من أهل القرن الرابع الهجري. انظر: التعريف بكتاب الصحاح ومداري المعجمات العربية (112) لأحمد عبد الغفور عطار. والمعجم العربي "نشأته وتطوره" (2/ 511) حسين نصار. (¬2) المجموع المغيث (2/ 458). (¬3) النظم المستعذب (2/ 217)، والعبارة فيه هكذا: "يصنع ذلك بالغزل الذي يُسدي به، دون اللحمة. (¬4) في الأصل وإذا تعصب وما أثبت من هـ. (¬5) هو عبد القاهر بن عبد الله بن محمَّد البكري الصديقي أبو النجيب السهروردي، فقيه شافعي، وُلد سنة (490)، وتوفي سنة (563)، له مؤلفات، منها: "آداب المريدين"، و"شرح الأسماء الحسنى". ترجمته في الوفيات (1/ 299)، وطبقات الشافعية (4/ 256). (¬6) انظر: الأعلام للزركلي (4/ 174). (¬7) في هـ ساقط.

والنبذة بضم النون: القطعة والشيء اليسير فعله من نبذ أي طرح ورمى [وأدخل فيه الهاء لأرادة القطعة] (¬1). والقُسط: بضم القاف ويقال: بالكاف كما ورد في بعض روايات البخاري، وبتاء بدل من الطاء، فهذه ثلاث لغات (¬2)، وقد صرح بهذا هكذا المفضل بن سلمة في "كتاب الطيب" قال: وهو من طيب الأعراب. والأظفار: نوع أيضًا من البخور وليس هو، والقسط من مقصود الطيب، ورخص فيهما لقطع الرائحة الكريهة. قال القاضي (¬3) والقرطبي (¬4): وأكثر ما [يستعملان] (¬5) مع غيرهما فيما يتبخر به لا بمجردهما قالا، ووقع في كتاب البخاري "قسط [الأظفاري] (¬6) " وهو خطأ إذ لا يضاف أحدهما للآخر، لأنه لا نسبة بينهما، وعند بعضهم، "قسط ظفار" وهذا له وجه، فإن "ظفار": مدينة باليمن نسب إليها القسط، وعلى هذا فينبغي أن لا يصرف للتعريف والتأنيث، ويكون كحزام وقطام، أو يكون مبنيًّا على الكسرة في أحد القولين فيها. ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) يقال: كسط -بالكاف-. ويقال: كست -بالتاء-. انظر: لسان العرب (7/ 279)، وعند ابن الجوزي في غريبه مثله وزيادة: كسط. (¬3) إكمال المعلم (5/ 74). (¬4) المفهم (5/ 2598). (¬5) في هـ يستعمل. (¬6) في الأصل أظفار وما أثبت من هـ.

وفي قوله: "أو أظفار" محتملة للشك وللتخيير. وفي رواية للبخاري غير متصلة "قسط وأظفار". الوجه [الثالث] (¬1): في أحكامه. الأول: نهي المحادة عن المصبوغ للزينة، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحادة لبس الثياب المعصفرة [والمصبغة] (¬2) إلَّا ما صبغ بسواد فرخص فيه أعني في المصبوغ بالسواد عروة بن الزبير ومالك والشافعي وكرهه الزهري أي لكونه مصبوغًا ومن أجازه أجاب بأنه غير مراد للزينة. الثاني: استثناء [ثوب] (¬3) العصب منها، وهو مذهب الزهري، وكرهه عروة والشافعي، وأجاز مالك غليظه، وكأنه حمل الحديث على ذلك لما كان المراد تجنب الزينة. والأصح عند أصحابنا تحريمه مطلقًا، والحديث حجة عليهم. وأجاب أصحابنا: بحعله على ما يجوز لبسه من المصبوغ، فإن في حديث أم سلمة في "سنن أبي داود" و"النسائي" بإسناد حسن أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة" أي المصبوغة بالمشق (¬4).وهو المغرة، فأطلق من غير تفصيل. ¬

_ (¬1) في الأصل الثاني وما أثبت يوافق هـ. (¬2) في هـ المصبغ. (¬3) زيادة من هـ. (¬4) الممشق: هو المصبوغ بالمشق، وهو المغرة، وهو الطين الأحمر. انظر: النظم المستعذب (2/ 216)، والحديث سبق تخريجه.

وأجيب أيضًا: بأنه قد جاء في رواية "ولا ثوبًا مصبوغًا ولا ثوب عصب" فتعارضا وسقطت الدلالة، وهو جواب غير مرضي، فإنها زيادة غير محفوظة، ولا تعارض الزيادة الثانية، الصحيحة، والحق أحق بالاتباع مع قاعدة الشافعي في العمل بالحديث الصحيح. قال ابن المنذر: ورخص جميع العلماء في الثياب البيض. وقد يؤخذ من مفهوم الحديث. ومنع بعض متأخري المالكية: جيد النبيض والسواد الذي يتزين به. قال أصحابنا: ويجوز لها لبس ما صبغ ولا يقصد منه الزينة، وكذا الأمر يسم في الأصح واختار الغزالي وجماعة التحريم فيه، لأنه إنما حل لها للزينة، فالتحقت في حال الإِحداد بالرجال، وفي حلى الذهب والفضة تفصيل وفي الآلىء [خلاف ذكرته في كتب الفقه] (¬1). الثالث: تحريم الاكتحال عليها، وفي حديث أم سلمة في "الموطأ" (¬2) الإِذن فيه ليلًا ومسحه نهارًا، وحمله العلماء على أنها كانت محتاجة إليه، فأذن لها فيه ليلًا، ومنعه نهارًا، بيانًا لجوازه عند الحاجة ليلًا مع أن الأولى تركه. فإن فعلته مسحته نهارًا [لحديث] (¬3) الإِذن فيه لبيان أنه غير حرام ليلًا للحاجة، وحديث النهي محمول على عدمها. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) الموطأ (2/ 598)، والنسائي (6/ 204)، وأبو داود (2305). (¬3) في هـ فحديث.

وأما حديث: التي اشتكت [عينها] (¬1) فنهاها عنه، وسيأتي على الأثر فحمل على أنه نهي تنزيه أو أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتحقق الخوف على عينها أو أنه يحصل لها البرء بدونه كالتضميد بالصبر وغيره لكن في رواية لقاسم بن أصبغ من حديث زينب بنت أبي سلمة "أفأكحلها؟ قال: لا، قالت: إني أخشى أن تنفقىء عينها. قال: لا. وإن انفقأت" (¬2). وقد اختلف العلماء في اكتحال المحدة فقال سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار ومالك في رواية عنه يجوز إذا خافت على عينها تكتحل بكحل لا طيب فيه. وجوّزه بعضهم عند الحاجة وإن كان فيه طيب (¬3) ومذهبنا جوازه ليلًا عند الحاجة بماء لا طيب فيه، فإن دعت ضرورة إلى الاستعمال نهارًا أيضًا جاز، والكحل الأصفر عندنا كالإِثمد وأما الأبيض كالتوتياء (¬4) ونحوه فلا يحرم إذ لا زينة فيه. وقيل: يحرم على البيضاء حيث تتزين به. الرابع: جواز تطييب محل الحيض لها عند انقطاع الدم بما ذكر لإِزالة الرائحة الكريهة، لا لقصد التطيب، وهو من باب الرخص. قال القاضي عياض (¬5): وظاهر الحديث أنها [تتبخر] (¬6) بذلك، وقال ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) ذكره في الاستذكار (18/ 232). (¬3) الاستذكار (18/ 230، 232، 233). (¬4) دواء معروف يُجعل في العين. (¬5) إكمال إكمال المعلم (4/ 134). (¬6) في الأصل: (الخامس)، وما أثبت من ن هـ، والمرجع السابق.

الداودي (¬1): تسحق القسط وتلقيه في الماء آخر غسلها، لتذهب رائحة الحيض، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث الحيض "خذي فرصة من مسك" (¬2) الحديث والأول أظهر، لأن القسط والأظفار لا يحصل منهما شيء إلَّا من بخورهما. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 134). (¬2) البخاري (314)، ومسلم (332)، وأبو داود (314)، وابن ماجه (642)، والدارمي (1/ 197)، والنسائي (1/ 135)، والبيهقي (1/ 180، 183)، وأحمد (6/ 122، 147، 188).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 340/ 4/ 65 - عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لا" -مرتين، أو ثلاثًا-[كل ذلك يقول: لا] (¬1)، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر. وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على الحول. فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا، ولبست شرَّ ثيابها ,ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر [عليها] (¬2) سنة، ثم تؤتى بدابة -حمار [أو شاة أو طير] (¬3) - فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات. ثم تخرج فتعطى بعره، فترمي بها. ثم تُراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره" (¬4). ¬

_ (¬1) غير مرجودة في متن العمدة وإحكام الأحكام، ومثبتة في الموطأ. (¬2) في ن هـ وفي العمدة وإحكام الأحكام (بها)، وهذا يوافق الموطأ. (¬3) في إحكام الأحكام تقديم وتأخير. (¬4) البخاري (1280)، ومسلم (1488، 1489)، والترمذي (1197)، وأبو داود (2299)، والنسائي (6/ 188، 202، 205، 206)، والبغوي (389)، والموطأ (2/ 596، 597)، وابن ماجه (2084)، والحميدي =

"الحفش": البيت الصغير (¬1). و"تفتض": تدلك به جسدها (¬2). ¬

_ = (304)، وابن الجارود (768)، وعبد الرزاق (12130)، والشافعي في مسنده (2/ 412)، غوامض الأسماء المبهمة (1/ 353). (¬1) وجاء أيضًا في تفسيره في الموطأ عن مالك: البيت الرديء. وقال ابن وهب كما في الاستذكار (18/ 223): البيت الصغير. وكذلك عن الخليل. وعن أبي عبيد في الغريب (3/ 196) الحفش: الدرج، وجمعه أحفاش، شبه به البيت الصغير. (¬2) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (18/ 223): تفتض: تمسح به كالنشرة عن مالك، وقال غيره: تمسح بيديها عليه أو على ظهره. وقاله ابن وهب. وقال غيره: [الافتضاض]: الاغتسال بالماء العذب، لأن الماء العذب أشد في الإِنقاء من غيره، بدليل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو كان بباب أحدكم نهر غمر عذب يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، ما ترون ذلك، يبقي من درنه -أي من وسخه؟ -". وقال الخليل: الفضض ماء عذب، تقول: افتضضت به إذا اغتسلت به، فالمعنى أن المرأة تتمسح بشيء كالنُشرة، ثم تغتسل بعد فتستسقي وتستنظف بالماء العذب حتى تصير كالفضة، ثم تؤتى ببعرة من بعر الغنم، فترمي بها من وراء ظهرها, ويكون ذلك إحلالًا لها بعد السَّنة. وقال أبو عبيد في هذا الحديث: من رواية شعبة , عن حميد بن نافع، وفيه: قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها في بيتها إلى الحول، فإذا كان الحول، ومر كلب رمته ببعرة، ثم خرجت، فلأربعة أشهر وعشر. قال: والأحلاس: جمع حلس، فهو كالمسح [من الشعر] مما يلي ظهر =

الكلام عليه من وجوه: ولم يقل البخاري فيه "ولا شيئًا" إنما هو لمسلم، وقال: "أو طائر" بدل "أو طير"، وقال: سُئل مالك: ما تفتض؟ قال: تمسح به جلدها. الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الجنابة. وزينب: هي بنتها روت الحديث عن أمها، وقد سلف التعريف بها في الباب. الثاني: هذه السائلة عاتكة بنت نعيم أخت عبد الله بن نعيم العدوي (¬1). وزوجها هو المغيرة المخزومي، كذا رأيته في "موطأ عبد الله بن وهب". رواه عن ابن لهيعة عن محمَّد بن عبد الرحمن أنه ¬

_ = البعير، فكانت ترمي الكلب بالبعرة [بعد اعتدادها على زوجها عامًا كاملًا]. (¬1) انظر: غوامض الأسماء المبهمة (1/ 353)، الاستيعاب (4/ 1880) وتلخيص الحبير (3/ 239) وذكرها في نيل الأوطار (6/ 329)، وقد وهم ابن عبد البر وقال: إنها أنصارية. وردّ ذلك ابن الأثير في أُسد الغابة (5/ 501): إنها أنصارية. ليس بشيء إنما هي عدوية عدي قريش، وهو الصواب. . . . إلخ. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في هدي الساري (325) بعد سياقه لما ذكر ثم قال: وروى الإِسماعيلي في سند يحيى بن سعيد الأنصاري تأليفه من طريق يحيى المذكور عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: جاءت امرأة من قريش. قال يحيى: لا أدري ابنة النحام أو أمها بنت سعد، ورواه الإِسماعيلي من طرق كثيرة فيها التصريح بأن البنت هي عاتكة، فعلى هذا فأمها لم تسم. اهـ.

سمع القاسم بن محمَّد يخبر عن زينب بنت أبي سلمة، أن أمها أم سلمة: أخبرتها أن ابنة نعيم بنت عبد الله العدوي أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وكانت تحت المغيرة المخزومي. ثم ساقت الحديث. وأما البنت: فلم أقف إلى الآن على اسمها. وقوله: "فقالت: زينب" قائل ذلك هو حميد بن نافع الراوي عن زينب. الثالث: في بيان ألفاظه ومعانيه. قولها: "اشتكت عينها" يجوز رفعها على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية، وهو ما اقتصر عليه النووي في "شرحه لمسلم" (¬1) ونصبه على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل، وهي ابنة المرأة حكاه الشيخ تقي الدين (¬2)، وقال: قد رُجح. ونقل غيره عن الحافظ المنذري (¬3) أنه رجحه، لكن يرجح الأول رواية مسلم "عيناها". وقوله: "أفنكحلها" هو بضم الحاء وهو مما جاء مضمومًا وإن كان عينه حرف حلق. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا" فيه تأويلان أسلفتهما في الحديث قبله، مع بيان اختلاف العلماء في المسألة. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (10/ 113). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 254). (¬3) مختصر سنن أبي داود (3/ 198) حيث ضبطت "عينها" بالنصب.

وقوله: "إنما هي أربعة أشهر وعشر" هو تقليل للمدة وتهوين للصبر عما منعت منه، وهو الاكتحال في العدة بعد أن كانت المدة سنة. وقوله: "وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة" قد فسرته زينب. [و] (¬1) اختلف العلماء في الإِشارة به إلى ماذا على قولين: أحدهما: بأنه إشارة إلى العدة فإنها رمته بها بعد انقضائها: [كرميها] (¬2) بالبعرة المذكورة وانفصالها منها. وثانيهما: أنه إشارة إلى أن الذي فعلته من دخولها الحفش ولبسها شرّ ثيابها وصبرها على ذلك وترك الطيب هين بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة، كما يهون الرمي بالبعرة. وهل كانت ترميها أمامها أو خلفها؟ روايتان حكاهما الباجي (¬3). وفي رواية لمسلم: "فإذا مر كلب رمت ببعرة". قال القاضي: يريد -والله أعلم- إذا مر فافتضت به. والحِفْش: بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء والشين المعجمة: وهو البيت الصغير الحقير القريب السمك. وجمعه أحفاش، والتحفش: الانضمام والانجماع. ¬

_ (¬1) في هـ (فا). (¬2) في هـ (فرميها). (¬3) المنتقى للباجي (4/ 146).

وعبارة الإِمام الشافعي: فيه أنه البيت الذليل (¬1) الشعث (¬2) البناء القريب السمك. وعبارة الإِمام مالك (¬3): أنه الصغير الخرب، وقيل: إنه شبه القفة يصنع من خوص تجمع فيه المرأة غزلها وسقطها: كالدرج، فشبه به البيت الصغير. وقيل: هو الخوص، قال بعضهم: والتفسير الأول أليق بمعنى الحديث، ويليه من فسره بالحصى ومن قال: إنه مثل القفة من الخوص، تجمع فيه المرأة غزلها وأشيائها، فهي بعيدة عن معنى الحديث جدًا. قلت: في هذا الإبعاد نظر، فإن هذا أصله ثم استعير للبيت الصغير. وقولها: "ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير" [هو] (¬4) بدل من دابة، وسميت كل هذه دواب، لأنها تدب، أي تمشي، وهذه تسمية لغوية. وقولها: "فتفتض به" فيه روايتان. ¬

_ (¬1) وما بعده في معرفة السنن والآثار (11/ 221) من الشعر والبناء وغيره. وما ذكره غير موجود فيه. (¬2) في الزاهر (225) من الشعر والبناء وغيره. (¬3) انظر: الاستذكار (18/ 222، 223)، المنتقى للباجي (4/ 146). (¬4) في الأصل ون هـ (واو)، وما أثبت من إحكام الأحكام.

الأولى: بالفاء والضاد المعجمة. قال القرطبي (¬1): وهي الصحيحة. [قال القتبي] (¬2): [سألت] (¬3) الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا: أن المعتدة كانت لا تغتسل، ولا تمس ماء، ولا تقلم ظفرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض، أي تكسر ما هي من العدة بطائر، تمسح به قبلها وتنبذه، فلا يكاد يعيش. وقال غيره: فتموت لقبح ريحها وقذارتها. وقال مالك (¬4): تمسح به جلدها كالنشرة. وهذا أسلفناه عنه، وقال ابن وهب (¬5): نمسح بيدها عليه أو على ظهره. وقيل: معناه تمسح به ثم تفتض -أي تغتسل- بالماء حتى تصير كالفضَّة. والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب للإِنقاء. وقيل: تفتض تفارق ما كانت عليه، والفض: التفرق، ومنه: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬6) ,و {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (¬7). ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 2593). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ قالت. (¬4) الاستذكار (18/ 223). (¬5) انظر: المراجع السابق. (¬6) سورة آل عمران: آية 159. (¬7) سورة الجمعة: آية 11. وانظر: الاستذكار (18/ 223)، ومعرفة السنن والآثار (11/ 221).

وقيل: معناه تعدو مسرعة نحو منزل أبويها لأنها كالمستحية من قبح منظرها. الرواية الثانية: بالقاف، ثم باء موحدة، ثم صاد مهملة. قال الأزهري (¬1): رواه الشافعي كذلك مأخوذ من القبص، وهو الأخذ بأطراف الأصابع. قال: وقرأ الحسن (¬2): {فَقَبَصت قَبْصَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (¬3). قال الشيخ تقي الدين (¬4): والمعروف الرواية الأولى. الوجه الرابع: في فوائده (¬5). الأولى: نسخ الاعتداد بسنة إلى أربعة أشهر وعشر، وهو إجماع، فقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} (¬6)،نسخه قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬7)، وكان في أول الإِسلام تجلس ¬

_ (¬1) الزاهر (225)، ومعرفة السنن والآثار (11/ 221) أيضًا قد وهم محققه فذكر القبص بالضاد مثل القبض وهو بالصاد، فليصحح. وذكر معنى القبض: الأخذ بالكف كلها. انظر تفسير الشوكاني (3/ 383)، وغريب الحديث لأبي عبيد (1/ 136) (4/ 468)، وفي تفسيره (3/ 383). (¬2) ذكرها الشوكاني. (¬3) سورة طه: آية 96، كتب في إكمال المعلم (4/ 134) الآية بالمعجمة وهو خطأ لأن المراد إثبات قراءة الحسن -رحمه الله-. (¬4) إحكام الأحكام (4/ 256). (¬5) في الأصل زيادة: (إلا). (¬6) سورة البقرة: آية 240. (¬7) سورة البقرة: آية 234.

المتوفى عنها زوجها [في بيته] (¬1) حولًا، ولا يخرجها الوارث منه وينفق عليها من ماله ما لم تخرج عن المنزل، فإن خرجت منه لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها. ثم نسخ الحول بأربعة أشهر وعشر [أو الأرث] (¬2) بالربع أو الثمن (¬3). [الثانية] (¬4): هذا الموضع مما تأخر فيه المنسوخ في التلاوة، وتقدم الناسخ في سورة واحدة. قال القاضي (¬5): ولم يقع في القرآن إلَّا في هذه القصة وحدها. قال: وأما تقديم ذلك وتأخيره من سورتين فموجود. الثالثة: المنع من الاكتحال للحادة مطلقًا، وقد سلف ما فيه في الحديث قبله. الرابعة: جواز استفتاء المرأة وسماع المفتي كلامها، وتكرار الجواب في الفتوى ثلاثًا، تأكيدًا للمنع. وتخفيف العمل على السائل والمسؤول له بذكر ما كُلف في الجاهلية من المشقة، [و] (¬6) يتمسك بقوله: "إنما هي أربعة أشهر [وعشرًا] (¬7) للدلالة على الحصر من يرى ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) في هـ (أو النفقة). (¬3) انظر: الاستذكار (18/ 224، 229). (¬4) في ن هـ (فائدة)، وتكون الثالثة في ن هـ الثانية إلخ. (¬5) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 132). (¬6) في الأصل ثم وما أثبت من هـ. (¬7) زيادة من ن هـ.

أن الإِحداد لا يزيد فيه على المدة المذكورة. وقد تقدم، وفيه أيضًا حصر عدة الوفاة في أربعة أشهر وعشرًا لغير الحامل، فإن الحمل لم يذكر في السؤال، وأطلق الجواب بالحصر بإنما، فلو كانت حاملًا قيَّدها [بالوضع] (¬1) كما في حديث سبيعة السالف. ¬

_ (¬1) في هـ (بوضعه).

كتاب اللعان

66 - باب اللعان

66 - باب اللعان (¬1) وهو الملاعنة والتلاعن: ملاعنة الرجل امرأته. يقال: تلاعنا، [و] (¬2) التعنا, ولاعن القاضي بينهما. وسمى لعانًا لقول الزوج: و [علىَّ] (¬3) لعنة الله إن كنت من الكاذبين. وإنما اختير لفظ اللعن علي الغضب، وإن كانا موجودين في الآية الكريمة، وفي صورة اللعان لتقدمه في الآية عليه، ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها, ولا ينعكس. وخصت بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه لما فيه من تلويث الفراش والتعرض لإِلحاق من ليس من الزوج به، وذلك أمر عظيم، يترتب عليه مفاسد كثيرة: كانتشار المحرمية، وثبوت الولاية على الإِناث، واستحقاق الأموال بالتوارث. فاختصت به لأنه أشد من اللعنة. ¬

_ (¬1) هو شهادات، مؤكدات بأيمان، من الجانبين مقرونة بلعن أو غضب. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ ساقطة.

وقيل: سُمِّي لعانًا من اللعن، وهو الطرد والإِبعاد، ولأن كلًّا منهما يبعد عن صاحبه، ويحرم النكاح بينهما على التأبيد، بخلاف المطلق وغيره. واللعان: عند جمهور أصحابنا يمين. وقيل: شهادة. وقيل: يمين [فيها] (¬1) ثبوت شهادة. وقيل: عكسه (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه، باب: إحلاف الملاعن. وساق فيه حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: "أن رجلًا من الأنصار قذف امرأته فأحلفهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثم فرّق بينهما". قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 444): قوله: (باب إحلاف الملاعن): ذكر فيه حديث ابن عمر من رواية جويرية بن أسماء عن نافع مختصرًا بلفظ: "فأحلفهما" وكذا سيأتي بعد ستة أبواب من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وتقدم في تفسير النور من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ: "لاعن بين رجل وامرأة"، والمراد بالإحلاف هنا النطق بكلمات اللعان، وقد تمسك به من قال أن اللعان يمين، وهو قول مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: اللعان شهادة وهو وجه للشافعية، وقيل: شهادة فيها شائبة اليمين، وقيل بالعكس، ومن ثم قال بعض العلماء: ليس بيمين ولا شهادة، وانبنى على الخلاف أن اللعان يشرع بين كل زوجين مسلمين أو كافرين حرين أو عبدين عدلين أو فاسقين بناء على أنه يمين، فمن صح يمينه صح لعانه، وقيل: لا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين، لأن اللعان شهادة ولا يصح من محدود في قذف. وهذا الحديث حجة للأولين =

قال العلماء: وليس من الأيمان شيء متعدد إلا اللعان والقسامة، ولا يمين في جانب المدعي إلَّا فيهما. والحكمة في مشروعيته: حفظ الأنساب، ودفع المعرفة عن الأزواج. وأجمع العلماء على صحته في الجملة. وذكر المصنف في الباب ثمانية أحاديث، وذكر في آخره اللحوق بالنسب، والإِلحاق به، والقيافة، وحكم العزل لتعلقه به. ¬

_ = لتسوية الراوي بين لاعن وحلف، ويؤيده أن اليمين ما دل على حث أو منع أو تحقيق خبر وهو هنا كذلك، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق حديث ابن عباس: "فقال له: احلف بالله الذي لا إله إلَّا هو أني لصادق، يقول ذلك أربع مرات". أخرجه الحاكم والبيهقي من رواية جرير بن حازم عن أيوب، عن عكرمة، عنه، وسيأتي قريبًا: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، واعتل بعض الحنفية بأنها لو كانت يمينًا لما تكررت, وأجيب بأنها خرجت عن القياس تغليظًا لحرمة الفروج كما خرجت القسامة لحرمة الأنفس، وبأنها لو كانت شهادة لم تكرر أيضًا. والذي تحرر لي أنها من حيث الجزم بنفي الكذب وإثبات الصدق يمين، لكن أطلق عليها شهادة لاشتراط أن لا يكتفى في ذلك بالظن بل لابد من وجود علم كل منهما بالأمرين علمًا يصح معه أن يشهد به، ويؤيد كونها يمينًا أن الشخص لو قال أشهد بالله لقد كان كذا لعد حالفًا. وقد قال القفال في "محاسن الشريعة": كررت أيمان اللعان لأنها أقيمت مقام أربع شهود في غيره ليقام عليها الحد، ومن ثم سميت شهادات؟

الحديث الأول

الحديث الأول 341/ 1/ 66 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن فلان ابن فلان قال: يا رسول الله أرأيت [أن] (¬1) لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يجبه. فلما كان ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به. فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور (6 - 9): {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فتلاهن عليه، ووعظه، وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. فقال: لا والذي بعثك بالحق، ما كذبت عليها. ثم دعاها، فوعظها، وأخبرها: أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهاداتٍ بالله: إنه لمن الصادقين، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنّى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين، والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرق بيهما. ثم قال: [إن] (¬2) الله يعلم أن ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) زيادة من إحكام الأحكام.

أحد [كما] (¬1) كاذب، فهل منكما تائب؟ ثلاثًا. وفي لفظ: "لا سبيل لك عليها. قال: يا رسول الله، مالي؟ قال: لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث بهذه السياقة [لمسلم] (¬3)، وللبخاري فيه اللفظ الأخير، وكذا لمسلم أيضًا، وللبخاري: قوله: "ثلاثًا"، وله في رواية أخرى مرتين. الثاني: قال الخطيب في "مبهماته" (¬4) الملاعن لهذه المرأة هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلى شهد بدرًا. والرجل الذي رميت به: شريك بن السحماء. والسحماء (¬5): ¬

_ (¬1) في الأصل: "هما"، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) البخاري (5311)، ومسلم (1493)، والحميدي (671)، وابن الجارود (753)، وأبو داود (2257)، النسائي (6/ 177)، وأحمد (2/ 11)، والبغوي (2369)، والبيهقي (7/ 401، 404، 409). (¬3) زيادة من هـ. (¬4) كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (477). (¬5) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 446): ووقع في رواية مسلم من حديث أنس: "أن شريك بن سحماء كان أخا البراء بن مالك لأمه"، وهو مشكل، فإن أم البراء هي أم أنس بن مالك، وهي أم سليم ولم تكن سحماء ولا تسمى سحماء، فلعل شريكًا كان أخاه من الرضاعة، وقد وقع عند البيهقي في الخلافيات من مرسل محمَّد بن =

أمه، وهي أيضًا أم البراء بن مالك. وأما هو: فشريك بن عبدة بن مُغَيِّثِ (¬1) بن الجد بن عجلان شهد أبوه عبدة بدرًا. [قال] (¬2) وقد روينا لعويمر العجلاني قريبًا من هذه القصة في اللعان، وإسناد كل واحدة من القصتين صحيح، فلعلهما اتفقا معًا في وقت واحد أو متقاربين. ونزلت آية اللعان في تلك الحال، لاسيما وفي حديث عويمر كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل، وهو يدل على أنه كان [قد] (¬3) ¬

_ = سيرين: "أن شريكًا كان يأوي إلى منزل هلال"، وفي تفسير مقاتل: أن والدة شريك التي يقال لها سحماء كانت حبشية وقيل: كانت يمانية، وعند الحاكم من مرسل ابن سيرين: "كانت أمة سوداء"، واسم والد شريك عبدة بن مغيث بن الجد بن العجلان، وحكى عبد الغني بن سعيد وأبو نعيم في الصحابة أن لفظ شريك صفة لا اسم، وأنه كان شريكًا لرجل يهودي يقال له ابن سحماء، وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي أن شريك بن سحماء كان يهوديًا، وأشار عياض إلى بطلان هذا القول وجزم بذلك النووي تبعًا له وقال: كان صحابيًا، وكذا عده جمع في الصحابة فيجوز أن يكون أسلم بعد ذلك. ويعكر على هذا قول ابن الكلبي: أنه شهد أُحُدًا؛ وكذا قول غيره أن أباه شهد بدرًا وأُحُدًا؛ فالله أعلم. اهـ. (¬1) في المفهم (5/ 2613): "مغيث"، وهو غلط، فليصحح. (¬2) في المبهمات زيادة: "قد". (¬3) زيادة من هـ، قال ابن حجر في الفتح (9/ 448) -رحمنا الله وإياه- بعد كلام سبق: وقد ذكر ابن الكلبي أن امرأة عويمر هي بنت عاصم المذكور، وأن اسمها خولة. وقال ابن منده في "كتاب الصحابة": خولة بنت عاصم التي قذفها زوجها فلاعن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، لها ذكر ولا تعرف لها رواية -أيضًا ذكر هذا في الإِصابة (8/ 71) - وتبعه أبو نعيم، ولم يذكرا سلفهما في ذلك، وكأنه ابن الكلبي، وذكر مقاتل بن سليمان فيما حكاه القرطبي أنها =

سبق بالمسألة، وأنه -عليه الصلاة والسلام- سُئل عن ذلك غير مرة، وهذا يصحح القصتين معًا مع ما روينا عن جابر، قال: ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال. قلت: واسم المرأة خولة بنت قيس (¬1). الثالث: كانت قصة اللعان في شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك إلى المدينة حكاه القاضي (¬2) عن ابن ¬

_ = خولة بنت قيس، وذكر ابن مردويه أنها بنت أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أن عاصم بن عدي لما نزلت والذين يرمون المحصنات" قال: يا رسول الله أين لأحدنا أربعة شهداء؟ فابتلي به في بنت أخيه"، وفي سنده مع إرساله ضعف. وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير عن مقاتل بن حيان قال: "لما سأل عاصم عن ذلك ابتلي به في أهل بيته، فأتاه ابن عمه تحته ابنة عمه، رماها بابن عمته، المرأة والزوج والحليل ثلاثتهم بنو عم عاصم. اهـ. (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 139). (¬2) الثقات لابن حبان (2/ 104). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- (9/ 449): الثاني -أي من التنبيهان- وقع في السيرة لابن حبان في حوادث سنة تسع: "ثم لاعن بين عويمر بن الحارث العجلاني وهو الذي يقال له عاصم، وبين امرأته بعد العصر في المسجد، وقد أنكر بعض شيوخنا -أقول: هو ابن الملقن كما هو هنا- قوله: وهو الذي يقال له عاصم، والذي يظهر لي أنه تحريف. اهـ. وقال أيضًا في الفتح (9/ 447، 448). "قال سهل بن سعد شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة" ووقع في نسخة أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري، عن سهل بن سعد قال: =

جرير الطبري، وذكره أبو حاتم ابن حبان (¬1) أيضًا حيث قال: سنة ¬

_ = "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة" فهذا يدل على أن قصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن جزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدارقطني أن قصة اللعان كانت بمنصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك، وهو قريب من قول الطبري ومن وافقه، لكن في إسناده الواقدي فلابد من تأويل أحد القولين، فإن أمكن وإلَّا فطريق شعيب أصح. ومما يوهن رواية الواقدي ما اتفق عليه أهل السير أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في الصحيحين أن هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصته أن امرأته استأذنت له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تخدمه فأذن لها بشرط أن لا يقربها فقالت: إنه لا حراك به وفيه أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا، فكيف تقع قصة اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشغل بنفسه وهجران الناس له وغير ذلك، وقد ثبت في حديث ابن عباس أن آية اللعان نزلت في حقه، وكذا عند مسلم من حديث أنس أنه أول من لاعن في الإِسلام، ووقع في رواية عباد بن منصور في حديث ابن عباس عند أبي داود وأحمد حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فوجد عند أهله رجلًا الحديث، فهذا يدل على أن قصة اللعان تأخرت عن قصة تبوك والذي يظهر أن القصة كانت متأخرة، ولعلها كانت في شعبان سنة عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذٍ مع حديث سهل بن سعد. ووقع عند مسلم من حديث ابن مسعود "كنا ليلة جمعة في المسجد إذ جاء رجل من الأنصار فذكر القصة في اللعان باختصار، فعين اليوم لكن لم يعيّن الشهر ولا السنة. (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 449): الأول -أي من =

تسع. ثم قال: ثم لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عويمر بن الحارث بن عجلان -وهو الذي يقال له عاصم- وبين امرأته بعد العصر في مسجده في شعبان. قال: وذلك أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! لو أن أحدنا. . . . وساق الحديث بكماله. وقوله: "وهو الذي يقال له: عاصم" رد عليه وإنما هو ابن عمه، وهو عاصم بن عدي وشريك وخولة وعويمر، كلهم ابن [عم] (¬1) عاصم. الرابع: اختلف العلماء في نزول آية اللعان (¬2): ¬

_ = التنبيهان، وقد تقدم التنبيه الثاني-: تقدم في تفسير سورة النور (8/ 449) أن النووي -أي في مبهماته- نقل عن الواحدي أن عاصمًا أحدُ من لاعن، وتقدم إنكار ذلك، ثم وقفت على مستنده وهو مذكور في "معاني القرآن للفراء" (2/ 246). اهـ. وسيأتي في آخر التعليق الآتي بسط أكثر من هذا. (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (8/ 449, 451): قوله: (فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} كذا في هذه الرواية أن آيات اللعان نزلت في قصة هلال بن أمية، وفي حديث سعد الماضي أنها نزلت في عويمر، ولفظه: "فجاء عويمر، فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فأمرهما بالملاعنة"، وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع: فمنهم من رجح أنها =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضًا، فنزلت في شأنهما معًا في وقت واحد. وقد جنح النووي إلى هذا، وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق كونهما جاءا في وقت واحد، ويؤيد التعدد أن القائل في قصة هلال سعد بن عبادة كما أخرجه أبو داود والطبري من طريق عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل رواية هشام بن حسان بزيادة في أوله: "لما نزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ. . . .} الآية، قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاعًا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته، قال: فما لبثوا إلَّا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية" الحديث. وعند الطبري من طريق أيوب عن عكرمة مرسلًا فيه نحوه، وزاد: "فلم يلبثوا أن جاء ابن عم له فرمى امرأته" الحديث. والقائل في قصة عويمر عاصم بن عدي كما في حديث سهل بن سعد في الباب الذي قبله، وأخرج الطبري من طريق الشعبي مرسلًا، قال: "لما نزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ. . . .} الآية، قال عاصم بن عدي: إن أنا رأيت فتكلمت جُلدت، وإن سكت سكت على غيظ" الحديث، ولا مانع أن تتعدد القصص ويتَّحد النزول. وروى البزار من طريق زيد بن تبيع عن حذيفة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلًا ما كنت فاعلًا به؟ قال: كنت فاعلًا به شرًّا. قال: فأنت يا عمر؟ قال: كنت أقول لعن الله الأبعد، قال: فنزلت". ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال: "فنزل جبريل"، وفي قصة عويمر: "قد أنزل الله فيك، فيؤوَّل قوله: قد أنزل الله فيك، أي: وفيمن كان مثلك"، وبهذا أجاب ابن الصباغ في الشامل قال: نزلت الآية في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد نزل فيك وفي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = صاحبتك"، فمعناه ما نزل في قمة هلال، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى قال: "أول لعان كان في الإِسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته" الحديث، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين، قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليط الرواة الحفاظ. وقد أنكر جماعة ذكر هلال فيمن لاعن، قال القرطبي: أنكره أبو عبد الله بن أبي صفرة أخو المهلب، وقال: هو خطأ، والصحيح أنه عويمر. وسبقه إلى نحو ذلك الطبري. وقال ابن العربي: قال الناس: هو وهم من هشام بن حسان، وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك. وقال عياض في "المشارق": كذا جاء من رواية هشام بن حسان، ولم يقله غيره، وإنما القصة لعويمر العجلاني، قال: ولكن وقع في "المدونة" في حديث العجلاني ذكر شريك. وقال النووي في مبهماته: اختلفوا في الملاعن علي ثلاثة أقوال: عويمر العجلاني، وهلال بن أمية، وعاصم بن عدي. ثم نقل الواحدي أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر. وكلام الجميع متعقب. أما قول ابن أبي صفرة فدعوة مجردة، وكيف يجزم بخطأ حديث ثابت في الصحيحين مع إمكان الجمع؟ وما نسبه إلى الطبري لم أره في كلامه: وأما قول ابن العربي: إن ذكر هلال دار على هشام بن حسان، وكذا جزم عاض بأنه لم يقله غيره، فمردود، لأن هشام بن حسان لم ينفرد به، فقد وافقه عباد بن منصور كما قدمته، وكذا جرير بن حازم عن أيوب أخرجه الطبري وابن مردويه موصولًا قال: "لما قذف هلال بن أمية امرأته". وأما قول النووي تبعًا للواحدي وجنوحه إلى الترجيع فمرجوح، لأن الجمع مع إمكانه أولى من الترجيح. ثم قوله: "وقيل عاصم بن عدي" فيه نظر، لأنه ليس لعاصم فيه قصة أنه الذي لاعن امرأته، وإنما الذي وقع من عاصم نظير الذي وقع من سعد بن عبادة. ولما روى ابن عبد البر في "التمهيد" طريق جرير بن حازم تعقبه بأن قال: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قد رواه القاسم بن محمَّد عن ابن عباس كما رواه الناس. وهو يوهم أن القاسم سمى الملاعن عويمرًا، والذي في الصحيح: "فأتاه رجل من قومه" أي من قوم عاصم، والنسائي من هذا الوجه: "لاعن بين العجلاني وامرأته"، والعجلاني هو عويمر. اهـ. قال أيضًا في (9/ 450): قوله: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك)، ظاهر هذا السياق أنه كان تقدم منه إشارة إلى خصوص ما وقع له مع امرأته، فيترجح أحد الاحتمالات التي أشار إليها ابن العربي، لكن ظهر لي من بقية الطرق أن في السياق اختصارًا، ويوضح ذلك ما وقع في حديث ابن عمر في قصة العجلاني بعد قوله: "إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتُليت به، فدل على أنه يذكر امرأته إلَّا بعد أن انصرف ثم عاد. ووقع في حديث ابن مسعود: "إن الرجل لما قال: وإن سكت لمكت على غيظ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان" وهذا ظاهره أن الآية نزلت عقب السؤال، لكن يحتمل أن يتخلل بين الدعاء والنزول زمن بحيث يذهب عاصم ويعود عويمر، وهذا كله ظاهر جدًا في أن القصة نزلت بسبب عويمر، ويعارضه ما تقدم في تفسير النور من حديث ابن عباس: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: البينة أو حدّ في ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إنني لصادق، ولينزلن فيّ ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل فأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الحديث. وفي رواية عباد بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس في هذا الحديث عند أبي داود: "فقال هلال: وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجًا. قال: فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك إذ نزل عليه الوحي". وفي حديث أنس عند مسلم: =

هل هو بسب عويمر العجلاني أم بسبب هلال بن أمية؟ على قولين، وكل منهما ثابت في الصحيح، كما أوضحته في "تخريجي لأحاديث وسيط الغزالي". لكن الجمهور على الثاني، وقد ثبت في صحيح مسلم بأنه أول من لاعن في الإِسلام، وأوّل ابن الصباغ من أصحابنا قوله -عليه الصلاة والسلام- لعويمر: "إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك" بأن معناه: ما نزل في قصة هلال، لأن ذلك حكم لجميع الناس، وخالف أبو عبد الله أخو المهلب ابن أبي صفرة، فقال: الصحيح أن القاذف لزوجته هو عويمر. وهلال بن أمية خطأ، ونحوًا منه قال: الطبري، وقال: إنما. . . . هو عويمر. وجمع النووي (¬1) بين القولين فقال: يحتمل أنها نزلت فيهما ¬

_ = "إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإِسلام"، فهذا يدل على أن الآية نزلت بسبب هلال، وقد قدمت اختلاف أهل العلم في الراجح من ذلك، وبينت كيفية الجمع بينهما في تفسير سورة النور بأن يكون هلال سأل أولًا ثم سأل عويمر فنزلت في شأنهما معًا، وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول ثم جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها: "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك، لأن ذلك لا يختص بهلال. وكذا يجاب على سياق حديث ابن مسعود يحتمل أنه لما شرع يدعو بعد توجه العجلاني جاء هلال فذكر قصته فنزلت، فجاء عويمر فقال: قد نزل فيك وفي صاحبتك. اهـ. (¬1) شرح مسلم (10/ 120).

جميعًا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين، فنزلت الآية فيهما، وسبق هلال باللعان، فيصدق أنها نزلت في ذا وفي ذاك، وأن هلالًا أول من لاعن، وسبقه إلى ذلك الخطيب، كما سلف، والقاضي فقال: قيل لهما قصتان. قال: ويحتمل أنهما متقاربتان فنزل القرآن. والسهيلي أيضًا، فقال في "التعريف والإِعلام" (¬1) الحديث في كل واحد منها صحيح، فيحتمل أن تكونا قصتين، نزل القرآن في إحداهما، وحكم في الأخرى بما حكم في الأولى. ثم ذكر مقالة أخي ابن أبي صفرة السالفة، ويحتمل كما قال القرطبي (¬2): إن الآية تكرر نزولها، كما قيل في الفاتحة، وهذان الاحتمالان وإن بَعُدا فهما أولى من أن يتطرق الوهم للرواة الأئمة الحفاظ. الخامس: في ألفاظه ومعانيه: فـ "فلان": كناية عن الأعلام، كما سلف في الحديث الأول من باب التيمم، وقد أسلفنا لك تسميته. و"الفاحشة": هنا الزنا. قال القرطبي: كل فحشاء في القرآن زنا، إلا قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} (¬3)، فالمراد به البخل ومنع الزكاة. ¬

_ (¬1) التعريف والإِعلام (120). (¬2) المفهم (5/ 2612). (¬3) سورة البقرة: آية 268.

وأما سؤاله فيحتمل أن يكون عن أمرٍ لم يقع، ويحتمل أنه وقع، لكن أراد إبهامه استحياء من إظهاره، فعلى الأول: قوله: "إن الذي سألتك عنه قد ابتُليت به" ظاهر لإِخفائه (¬1). وعلى الثاني: يحتمل أن الحكم المسؤول عنه إنما تأخر جوابه -عليه الصلاة والسلام- عنه لتبين ضرورة السائل إلى معرفة الحكم عند ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 455): قوله: (فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي) تقدم بيان المراد من ذلك، لأن عويمر بن عمرو كانت تحته بنت عاصم، أو بنت أخيه، فلذلك أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: "ما ابتليت"، وقوله: "إلَّا بقولي"، أي بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال: فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي، وزعم الداودي أن معناه أنه قال مثلًا: لو وجدت أحدًا يفعل ذلك لقتلته، أو عير أحدًا بذلك فابتلي به، وكلامه أيضًا بمعزل عن الواقع، فقد وقع في مرسل مقاتل بن حيان عند ابن أبي حاتم، "فقال عاصم: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا والله بسؤالي عن هذا الأمر بين الناس فابتليت به"، والذي قال: "لو رأيته لضربته بالسيف"، هو سعد بن عبادة كما تقدم في "باب الغيرة"، وقد أورد الطبري من طريق أيوب عن عكرمة مرسلًا، ووصله ابن مردويه بذكر ابن عباس قال: "لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قال سعد بن عبادة: إن أنا رأيت لكاع يفجر بها رجل"، فذكر القصة. وفيه: "فوالله ما لبثوا إلَّا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية فذكر قصة، وهو عند أبي داود في رواية عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، فوضح أن قول عاصم كان في قصة عويمر وقول سعد بن عبادة كان في قصة هلال، فالكلامان مختلفان، وهو مما يؤيد تعدد القصة، ويؤيد التعدد أيضًا أنه وقع في آخر حديث ابن عباس عند الحاكم: "قال ابن عباس: فما كان بالمدينة أكثر غاشية منه".

وقوعه، فإن البيان إنما يجب عند الحاجة. ويحتمل أنه تأخر لأنه لم يكن عنده علم منه، فلما نزل القرآن به تلاه عليه وعرفه الحكم والعمل بمقتضاه، ويكون قوله: "قد ابتُليت به" إخبارًا عما كان وقع وقت سؤاله أولًا. ويحتمل أنه كان قد رفع له أمارات، فسأل عن حكمه، ثم تحققه بعد وعلمه. وقوله: "فأنزل الله تعالى هذه الآيات" مقتضاه أن سؤاله سبب نزولها، وقد أسلفنا من نزلت فيه (¬1). والوعظ: هو النصح والتذكير بالعواقب، كما قاله الجوهري (¬2) [فقوله] (¬3) "وذكره" هو [ذكر] (¬4) لبعض أفرادها ويسن للقاضي وعظها، ويبالغ عند الخامسة. وقال الشيخ تقي الدين (¬5): ذكر الفقهاء استحبابها عندما تريد ¬

_ (¬1) انظر: الوجه الرابع. (¬2) انظر: مختار الصحاح (303). (¬3) في ن هـ (وقوله). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) إحكام الأحكام (4/ 260). أقول: قد جاء في حديث ابن عباس من طريق عاصم بن كليب عن أبيه، عنه، عند أبي داود والنسائي وابن أبي حاتم: "فدعا الرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فأمر به فأمسك على فيه، فوعظه فقال: كل شيء أهون عليك من لعنة الله، ثم أرسله فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وقال في المرأة نحو ذلك".

المرأة أن تتلفّظ بالغضب. قال: [وظاهر] (¬1) هذه الرواية أنه لا يختص بالمرأة، فإنه ذكره فيها وفي الرجل، قال: فلعل هذه الموعظة عامة. قلت: قد صرح أصحابنا بأنه يسن وعظهما، وأنه يبالغ عند الخامسة، كما قدمته. و"بدأ" مهموز، لأنه بمعنى شرع، بخلاف ما إذا كان بمعنى ظهر، فإنه لا يهمز. وبدأ به -عليه الصلاة والسلام- للتأسِّي بالقرآن، قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} (¬2)، والدرء يقتضي [وجود] (¬3) سبب العذاب عليها، وذلك بلعان الزوج. وقوله: "إن أحدكما كاذب" هو مما غلب فيه المذكر على المؤنث. قال القاضي (¬4): وفيه رد على من قال من النحاة إلى أن أحدًا لا تستعمل إلا في النفي، وعلى من قال: منهم لا تستعمل إلا في الوصف, وأنها لا توضع موضع واجب، ولا توقع موقع واحد، وأجاز هذا المبرد، وقد جاء في هذا الحديث في غير وصف ولا نفي، وبمعنى واحد، وقد قال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} (¬5)، وأقرّه النووي (¬6) على ذلك، ورده الفاكهي، وقال: إنه من أغرب ¬

_ (¬1) في هـ فظاهر. (¬2) سورة النور: آية 8. (¬3) في هـ وجوب. (¬4) إكمال المعلم (5/ 86). (¬5) سورة النور: آية 6. (¬6) شرح مسلم (10/ 126).

وأعجب ما يسمع من القاضي مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة في "أحد" التي للعموم، نحو: ما في الدار من أحد. وما جاءني من أحدٍ، ونحوهما. أما "أحد" بمعنى "واحد"، فلا خلاف في استعمالها في الإِيجاب، نحو قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (¬1)، و {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} (¬2)، وهذا الحديث. وقد جمع الشاعر بين "أحد" التي للعموم والأخرى فقال: لقد ظهرت فلا تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمر فاستعمل الأولى لعمومها في النفي، والثانية: التي هي بمعنى "واحد" في الإِيجاب. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فهل منكما تائب؟ "، يحتمل أنه إرشاد إلى التوبة بينهما وبين الله تعالى، فإنه لم يحصل اعتراف منهما أو من أحدهما. ويحتمل أنه إرشاد للزوج، فإنه لو راجع وأكذب نفسه كان توبة. قال القاضي (¬3): وظاهر الحديث أنه قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان. والمراد بيان أنه يلزم الكاذب التوبة. [قال] (¬4): وقال الداودي: أنه قال قبل اللعان تحذيرًا لهما منه. قال: والأول أظهر وأولى [بسياق] (¬5) الكلام. ¬

_ (¬1) سورة الصمد: آية 1. (¬2) سورة النور: آية 6. (¬3) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 145)، وفتح الباري (9/ 458). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) في هـ لسياق.

وقوله: "لا سبيل لك عليها" يحتمل [رجوعه] (¬1) إلى [التفريق] (¬2) بعد اللعان، لعموم دخوله في عدم السبيل، ويحتمل رجوعه إلى المال. الوجه السادس: في فوائده: الأولى (¬3): الاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل وقوعها إذا قلنا إن سؤاله عن أمر لم يقع، وعليه استمر عمل الفقهاء فيما فرّعوه وقرّروه من النوازل قبل وقوعها، وقد كان في السلف من يكره الحديث في الشيء قبل أن يقع، ويراه من باب التكلف. وفي الصحيح (¬4) من حديث سهل بن سعد أنه -عليه الصلاة والسلام-: "كره المسائل وعابها"، والمراد المسائل التي لا تحتاج إليها, لاسيما ما كان فيه هتك ستر مسلم أو مسلمة أو إشاعة فاحشة أو شناعة. قال العلماء: إذا كانت المسألة مما يحتاج إليها في أمور الدين، وقد وقعت فلا كراهة فيها , وليس هو المراد في هذا الحديث. وقد كان المسلمون يسألون رسول الله عن الأحكام الواقعة فيجيبهم، ولا يكرهها، وإنما كره المسائل هنا وعابها لأنها لم تقع بعد، ولم يحتج إليها، وفيها شناعة على المسلمين والمسلمات وتسليط اليهود والمنافقين ونحوهم على الكلام في أعراض المسلمين وفي الإِسلام، ولأن من المسائل ما يقتضي جوابه تضييقًا. وفي الحديث الآخر: ¬

_ (¬1) في الأصل (وقوعه)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في هـ التفرق. (¬3) انظر: الفتح (9/ 449، 450 - 462). (¬4) البخاري (5308)، ومسلم (1492).

"أعظم الناس جرمًا من سأل عما لم يحرم فحُرِّمَ من أجل مسألته" (¬1). الثانية: الرجوع إلى الله ورسوله فيما نزل بالشخص والتثبت في أحكام الشرع. الثالثة: وعظ المستفتي والمدعي، وذكر الدليل له، وتذكيره بالله تعالى وبالآخرة وعذابها، وتفخيم أمر الآخرة، وكذلك المستفتى عليه والمدعى عليه. الرابعة: أجراء الأحكام على الظاهر، والله يتولى السرائر. الخامسة: عرض التوبة على المذنبين. السادسة: أن الزوج إذا أكذب نفسه كانت توبة. السابعة: البداءة في الزوج في اللعان. ونقل القاضي (¬2) عياض وغيره فيه الإِجماع، فلو لاعنت قبله لم يصح لعانها، وصححه أبو حنيفة وطائفة، ونقله الفاكهي عن مشهور مذهبهم. الثامنة: أن ألفاظ اللعان هي التي ذكرها الله ورسوله وهو إجماع. واختلف أصحابنا فيما إذا أبدل لفظ الشهادة بالحلف (¬3) ونحوه ¬

_ (¬1) البخاري (7289)، ومسلم (2358)، وأبو داود (4610)، والحميدي (67)، وأحمد (1/ 176، 179)، والبغوي (144)؛ ولفظه في مسلم: " [إن] أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء [أمرٍ] لم يحرم على المسلمين، فحُرِّم عليهم [على الناس] من أجل مسألته". (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 144). (¬3) انظر: إحكام الأحكام (4/ 261).

أو الغضب باللعن وعكسه، والأصح عدم الصحة فيه. وفي "شرح الشيخ تقي الدين" (¬1) أن محل الخلاف في إبدال الغضب باللعنة في جانب الرجل. أما جانبها فلا يكتفى به، وهذه طريقة "صاحب التنبيه"، والأصح جريان الخلاف في جانبها أيضًا كما أطلقت أولًا. التاسعة: أن الخصمين المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما حدًّا ولا تعزيرًا وإن علمنا كذب أحدهما على الإِبهام. العاشرة: أن اللعان يكون بحضرة الإِمام أو القاضي، وأنه يلاعن بينهما. الحادية عشرة: وقوع الفرقة بينهما بعد لعانهما. الثانية عشرة (¬2): أن التفريق بينهما لا يقع بنفس التلاعن، بل ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 263). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 458) على قول البخاري: "باب التفربق بين المتلاعنين". قوله بأن: التفريق بين المتلاعنين. ثبتت هذه الترجمة للمستملى وذكرها للإسماعيلي، وتليت عند النسفي "باب" بلا ترجمة، وسقط ذلك للباقين، والأول أنسب وفيه حديث ابن عمر من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع من وجهين، ولفظ الأول "فرق بين رجل وامرأة قذفها فأحلفهما" ولفظ الثاني "لاعن بين رجل وامرأة فأحلفهما" ويؤخذ منه أن إطلاق يحيى بن معين وغيره تخطئة الرواية بلفظ "فرق بين المتلاعنين" إنما المراد به في حديث سهل بن سعد بخصوصه، فقد أخرجه أبو داود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه بهذا اللفظ وقال بعده "لم يتابع ابن عيينة على ذلك أحد" ثم أخرج من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير، عن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن عمر "فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوى بني العجلان" قال ابن عبد البر: لعل ابن عيينة دخل عليه حديث في حديث. وذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن الحديث فقال: إنه غلط. قال ابن عبد البر: إن أراد من حديث سهل فسهل، وإلَّا فهو مردود. قلت: تقدم أيضًا في حديث سهل من طريق ابن جريج "فكانت سنة في المتلاعنين لا يجتمعان أبدًا" ولكن ظاهر سياقه أنه من كلام الزهري فيكون مرسلًا، وقد بينت من وصله وأرسله في "باب اللعان ومن طلق"، وعلى تقدير ذلك فقد ثبت هذا اللفظ من هذا الوجه فتمسك به من قال إن الفرقة بين المتلاعنين لا تقع بنفس اللعان حتى يوقعها الحاكم، ورواية ابن جريج المذكورة تؤيدان الفرفة تقع بنفس اللعان، وعلى تقدير إرسالها فقد جاء عن ابن عمر بلفظه عند الدارقطني، ويتأيد بذلك قول من حل التفريق في حديث الباب على أنه بيان حكم لا إيقاع فرقة، واحتجوا أيضًا بقوله في الرواية الأخرى "لا سبيل لك عليها" وتعقب بأن ذلك وقع جوابًا لسؤال الرجل عن ماله الذي أخذته منه، وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ وهو نكرة في سياق النفي فيشمل المال والبدن، ويقتضي نفي تسليطه عليها بوجه من الوجوه. ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود "وقضى أن ليس عليه نفقة ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها" وهو ظاهر في الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان، ويستفاد منه أن قوله في حديث سهل "فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفراقها" أن الرجل إنما طلقها قبل أن يعلم أن الفرقة تقع بنفس اللعان فبادر إلى تطليقها لشدة نفرته منها، واستدل بقوله: "لا يجتمعان أبدًا" على أن فرفة اللعان على التأبيد "وأن الملاعن لو أكذب نفسه لم يحل له أن يتزوجها بعد، وقال بعضهم: يجوز له أن يتزوجها، وإنما يقع باللعان طلقة واحدة بائنة، هذا قول حماد وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وصح عن سعيد بن المسيب، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قالوا: ويكون الملاعن إذا أكذب نفسه خاطبًا من الخطاب، وعن الشعبي والضحاك: إذا أكذب نفسه ردت إليه امرأته. قال ابن عبد البر: هذا عندي قول ثابث، قلت: ويحتمل أن يكون معى قوله "ردت إليه" أي بعد العقد الجديد فيوافق الذي قبله، قال ابن السمعاني: لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتبع في ذلك النص، وقال ابن عبد البر أبدى بعض أصحابنا له فائدة وهو أن لا يجتمع ملعون مع غير ملعون، لأن أحدهما ملعون في الجملة بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غير الملاعن فإنه لا يتحقق. ونعقب بأنه لو كان كذلك لامتنع عليهما معًا التزويج لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة. قال السمعاني: وقد أورد بعض الحنفية أن قوله: "المتلاعنان" يقتضي أن فرفة التأبيد يشترط لها أن يقع التلاعن من الزوجين، والشافعية يكتفون في التأبيد بلعان الزوج فقط كما تقدم، وأجاب بأنه لما كان لعانه بسب لعانها وصريح لفظ اللعن يوجد في جانبه دونها سمى الموجود منه ملاعنة، ولأن لعانه سبب في إثبات الزنا عليها فيستلزم انتفاء نسب الولدية فينتفي الفراش فإذا انتفى الفراش انقطع النكاح، فإن قيل إذا كذب الملاعن نفسه يلزم ارتفاع الملاعنة حكمًا وإذا ارتفعت صارت المرأة محل استمتاع، قلنا: اللعان عندكم شهادة، والشاهد إذا رجع بعد الحكم، وأما عندنا فهو يمين واليمين إذا صارت حجة وتعلق بها الحكم لا ترتفع، فإذا أكذب نفسه فقد زعم أنه لم يوجد منه ما يسقط الحد عنه فيجب عليه الحد ولا يرتفع موجب اللعان. اهـ. وفي كتاب الفقه الإِسلامي تفصيل لهذا المبحث (7/ 580، 582) للإِطلاع. وقال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 390، 394): فصل: الحكم الثاني: أن فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاق، وإلى هذا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ذهب الشافعيُّ وأحمد، ومن قال بقولهما، واحتجوا بأنها فرقة توجب تحريمًا مؤبّدًا، فكانت فسخًا كفُرقة الرضاع، واحتجوا بأن اللعان ليس صريحًا في الطلاق، ولا نوى الزوج به الطلاق، فلا يقع الطلاق, قالوا: ولو كان اللعان صريحًا في الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوفف على لعان المرأة، قالوا: ولأنه لو كان طلاقًا، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكان يكون رجعيًا. قالوا: ولأن الطلاق بيد الزوج، إن شاء طلق، وإن شاء أمسك، وهذا الفسخ حاصل بالشرع وبغير اختياره، قالوا: وإذا ثبت بالسنة وأقوال الصحابة، ودلالة القرآن، أن فرقة الخُلع ليس بطلاق، بل هي فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكون فرقة اللعان طلاقًا؟ فصل: الحكم الثالث: أن هذه الفرقة توجب تحريمًا مؤبدًا لا يجتمعان بعدها أبدًا. قال الأوزاعي: حدثنا الزبيدي، حدثنا من الزهري، عن سهل بن سعد، فذكر قصة المتلاعنين، وقال: ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال: لا يجتمعان أبدًا. وذكر البيهقي من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا. قال: وروينا عن علي، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، قالا: مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدًا. قال: وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، وإلى هذا ذهب أحمد، والشافعي، ومالك، والثوري، وأبو عبيد، وأبو يوسف. وعن أحمد رواية أخرى: أنه إن أكذب نفسه، حلَّت له، وعاد فراشه بحاله، وهي رواية شاذة شذَّ بها حنبل عنه. قال أبو بكر: لا نعلم أحدًا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رواها غيره، وقال صاحب "المغني": وينبغي أن تُحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما. فأما مع تفريق الحاكم بينهما، فلا وجه لبقاء النكاح بحاله. قلت: الرواية مطلقة، ولا أثر لتفريق الحاكم في دوام التحريم، فإن الفُرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفرقة الحاصلة بتفريق الحاكم، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثرًا في تلك الفرقة القوية، رافعًا للتحريم الناشىء منها، فلأن يؤثر في الفرقة التي هي دونها، ويرفع تحريمها أولى. وإنما قلنا: إن الفرقة بنفس اللعان أقوى من الفرقة بتفريق الحاكم، لأن فرقة اللعان تستند إلى حكم الله ورسوله، سواء رضي الحاكم والمتلاعنان التفريق أو أَبَوه، فهي فرقة من الشارع بغير رضي أحد منهم ولا اختياره، بخلاف ما إذا فرقة الحاكم، فإنه إنما يفرق باختياره. وأيضًا فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق لقوته وسلطانه عليه، بخلاف ما إذا توقف على تفريق الحاكم، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة، ولا كان له سلطان عليها، وهذه الرواية هي مذهبُ سعيد بن المسيب، قال: فإن أكذب نفسَه، فهو خاطب من الخطَّاب، ومذهب أبي حنيفة ومحمد، وهذا على أصله أطرد، لأن فرقة اللعان عنده طلاق. وقال سعيد بن جبير: إن أكذب نفسه، رُدَّت إليه ما دامت في العدة. والصحيح: القول الأول الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة، وأقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، وهو الذي تقتضيه حكمة اللعان، ولا تقتضي سواه، فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حلَّ بأحدهما لا محالة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الخامسة: "إنها الموجبة"، أي الموجبة لهذا الوعيد، ونحن لا نعلم عين من حلَّت به يقينًا، ففرق بينهما خشية أن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله وباء بها، فيعلو امرأة غير ملعونة، وحكمة الشرع تأبى هذا، كما أبت أن يعلو الكافر مسلمة والزاني عفيفة. فإن قيل: فهذا فواجب ألا يتزوج غيرها لما ذكرتم بعينه؟ قيل: لا يوجب ذلك، لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك، وشككنا في عينه، فإذا اجتمعا، لزمه أحد الأمرين ولابد، إما هذا وإما إمساكه ملعونة مغضوبًا عليها قد وجب عليها غضبُ الله، وباءت به، فأما إذا تزوجت بغيره، أو تزوج بغيرها، لم تتحقق هذه المفسدة فيهما. وأيضًا فإن النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإن الرجل إن كان صادقًا عليها، فقد أشاع فاحشتها، وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي، وحقق عليها الخزي والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبًا، فقد أضاف إلى ذلك بهتَها بهذه الفرية العظيمة، وإحراق قلبها بها، والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها, وألزمته العار والفضيحة، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النُّفرة والوحشة، وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملهما أبدًا، فاقتضت حكمة من شرعه كله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة تحتم الفرقة بينهما، وقطع الصحبة المتمحضة مفسدة. وأيضًا فإنه إذا كان كاذبًا عليها، فلا ينبغي أن يسلَّط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها، وإن كان صادقًا، فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها، ويرضى لنفسه أن يكون زوج بغي. فإن قيل: فما تقولون: لو كانت أمة ثم اشتراها، هل يحل له وطؤها =

لابد من تفريق الحاكم بينهما، لقوله: "ثم فرّق بينهما"، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي والجمهور: تقع الفرقة بينهما بنفس اللعان، وتحرم على التأبيد، لكن قال الشافعي وبعض المالكية: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، ولا يتوقف على لعانها. وقال بعض المالكية: [لا تحصل الفرقة بلعان الزوج، وهذا لا] (¬1) يتوقف على لعانها، قالوا: ولا يفتقر إلى قضاء القاضي، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا سبيل لك عليها"، وفي رواية لمسلم من حديث سهل بن سعد: "ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ذلكم التفريق بين كل متلاعنين". وقال عثمان: لا أثر للعان في الفرقة، ولا يقع به فراق أصلًا. وحكاه الطبري عن جابر بن زيد، وهو مردود بالنصوص، ومثل هذا في الشذوذ من ادعى أنه ثلاث. ثم اختلف القائلون بتأبيد التحريم فيما إذا كذب نفسه بعد ذلك. ¬

_ = بملك اليمين؟ قلنا: لا تحل له لأنه تحريم مؤبَّد، فحرمت على مشتريها كالرضاع، ولأن المطلَّق ثلاثًا إذا اشترى مطلقته لم تحل له قبل زوج وإصابة، فهاهنا أولى، لأن هذا التحريم مؤبد، وتحريم الطلاق غير مؤبَّد. اهـ. وسيأتي الكلام على الحكم الرابع من إحكام اللعان التي ذكرها ابن القيم في ص 120 ت (2) وهو عدم سقوط الصداق. . . . إلخ. (¬1) في هـ ساقطة.

فقال أبو حنيفة: يحل له لزوال المعنى المحرم. وقال مالك والشافعي: لا تحل له أبدًا، لعموم قوله: "لا سبيل لك عليها". الثالثة عشرة: أن الفرقة لا تقع بلعانهما إلَّا بالإِتيان بجميع ألفاظه المذكورة في الحديث، فلو أتى ببعضها لا يتعلق به حكم اللعان، وهو مذهب العلماء كافة، واعتبر أبو حنيفة الأكثر. الرابعة عشرة (¬1): أن اللعان لا يجوز إلا بين [حرين ¬

_ (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 358، 360): فصل: واستُفيد من هذا الحكم النبوي عدة أحكام: الحكم الأول: أن اللعان يصح من كل زوجين سواء كانا مسلمين أو كافرين، عدلين أو فاسقين محدودين في قذف، أو غير محدودين، أو أحدهما كذلك. قال الإِمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور: جميع الأزواج يلتعنون، الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والمسلم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول مالك وإسحاق وقول سعيد بن المسيب، والحسن، وربيعة، وسليمان بن يسار. وذهب أهل الرأي، والأوزاعي، والثوري، وجماعة إلى أن اللِّعان لا يكون إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف، وهو رواية عن أحمد. ومأخذ القولين، أن اللعان يجمع وصفين: اليمين والشهادة، وقد سماه الله سبحانه شهادة، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينًا حيث يقول: "لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن"، فمن غلَّب عليه حكم الأيمان قال: يصحُّ من كل من يصح يمينه. قالوا: ولعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أَزْوَاجَهُمْ}، قالوا: وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينًا. قالوا: ولأنه مفتقِر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه. قالوا: ولأنه يستوي فيه الذكر والأنثى، بخلاف الشهادة. قالوا: ولو كان شهادة، لما تكرَّر لفظه، بخلاف اليمين، فإنه قد يشرع فيها التكرار، كأيمان القسامة. قالوا: ولأن حاجة الزوج التي لا تصح منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد، كحاجة من تصح شهادته سواء، والأمر الذي ينزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذي ينزل بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضرر أحد النوعين، وتجعل له فرجًا ومخرجًا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال، لا فرج له مما نزل به، ولا مخرج، بل يستغيث فلا يُغاث، ويستجير فلا يُجار، إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمة التي وسعت من تصح شهادته، وهذا تأباه الشريعة الواسعة الحنيفية السمحة. قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}، وفي الآية دليل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه سبحانه استثنى أنفسهم من الشهداء، وهذا استثناء متصل قطعًا، ولهذا جاء مرفوعًا. والثاني: أنه صرح بأن التعانهم شهادة، ثم زاد سبحانه هذا بيانًا، فقال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}. والثالث: أنه جعله بدلًا من الشهود، وقائمًا مقامهم عند عدمهم. قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا لعان بين مملوكين ولا كافرين" ذكره أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد". وذكر الدارقطني من حديثه أيضًا، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين الحرة والعبد لعان، =

مسلمين] (¬1) غير محدودين، فإن الواقعة كانت كذلك، فلو كان الزوجان أو أحدهما رقيقًا أو ذميًّا أو محدودًا في قذف فلا لعان بينهما. وبه قال الزهري والأوزاعي، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. نعم ظاهر القرآن حجة للجمهور، منهم: سعيد بن المسيب، وسلمان بن يسار، والحسن [و] ربيعة (¬2)، ومالك، والشافعي في صحة اللعان بين الأحرار والعبيد والمسلمين وأهل الذمة وجريانه بينهم، فإنه تعالى أطلق الأزواج ولم يفصل. الخامسة عشرة (¬3): ثبوت مهر الملاعنة المدخول بها، ¬

_ = وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان". وذكر عبد الرزاق في "مصنفه"، عن ابن شهاب، قال: من وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعتاب بن أسيد: أن لا لعان بين أربع، فذكر معناه. (¬1) تقديم وتأخير في هـ. (¬2) في الأصل (بن) وما أثبت من ن هـ. (¬3) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 394، 395): فصل: الحكم الرابع: أنها لا يسقط صداقها بعد الدخول، فلا يرجع به عليها، فإنه إن كان صادقًا، ففد استحلَّ من فرجها عوض الصداق، وإن كان كاذبًا فأولى وأحرى. فإن قيل: فما تقولون: لو وقع اللعان قبل الدخول، هل تحكمون عليه بنصف المهر، أو تقولون: يسقط جملة؟ قيل: في ذلك قولان للعلماء، وهما روايتان عن أحمد مأخذهما: أن الفرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما أو منهما ومن أجنبي، كشرائها لزوجها قبل الدخول، فهل يسقط الصداقُ تغليبًا لجانبها كما لو =

واستقرار جميعه لها، وهو إجماع، واختلف في غيرها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها نصفه كغيرها، قاله فقهاء الأمصار. ثانيها: لا شيء لها أصلًا، لأنه فسخ، قاله الزهري وحُكي عن مالك. ثالثها: لها جميعه إذ ليس بطلاق، قاله الحكم وحماد وأبو الزناد، وهو بعيدٌ جدًا. السادسة عشرة: أن الملاعنة لو أكذبت نفسها لم يسقط شيء من مهرها لوجود العلة، وهي أنه مقابل لما استحل من فرجها. ¬

_ = كانت مستقلة بسبب الفُرقة، أو نصفه تغليبًا لجانبه، وأنه هو المشارك في سبب الإِسقاط، والسيد الذي باعه متسبب في إسقاطه ببيعه إياها؟ فهذا الأصل فيه قولان. وكل فرقة جاءت من قبل الزوج نصَّفت الصداق كطلاقه، وإلا فسخه لعيبها، أو فوات شرط شرطه، فإنه يسقط كله، وإن كان هو الذي فسخ، لأن سبب الفسخ منها وهي الحاملة له عليه. ولو كانت الفرفة بإسلامه، فهل يسقط عنه، أو تُنصفه؟ على روايتين. فوجه إسقاطه، أنه فعل الواجب عليه، وهي الممتنعة من فعل ما يجب عليها، فهي المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإِسلام، ووجه التنصيف أن سبب الفسخ من جهته. اهـ محل المقصود منه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 342/ 2/ 66 - عن ابن عمر أيضًا أن رجلًا رمى امرأته، وانتفى من ولدها في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فأمرهما] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) فتلاعنا، كما قال [الله عز وجل] (¬3) ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين (¬4). هذا الحديث أخرجه الشيخان بمعناه، ولم أره هنا بلفظه، وفيه زيادة أحكام على الذي قبله. منها: نفي الولد، وأنه يلحق بالمرأة ويرثها بإرث البنوة منها، وتثبت أحكام البنوة بالنسبة إليها. واختلفوا فيما لو كانت بنتًا هل يحل الملاعن نكاحها؟ والأصح: عند أصحابنا تحريمه. ومنها: انقطاع النسب عن الأب مطلقًا لمفهوم إلحاقه بالمرأة اللهم إلَّا أن يكذب نفسه. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام ومتن العمدة: فأمرها. (¬2) ساقطة من ن هـ. (¬3) في إحكام الأحكام تعالى. (¬4) البخاري (4748)، ومسلم (1494)، والموطأ (567) , والمسند (2/ 7، 38، 64، 71)، والدارمي (2/ 151)، وأبو داود (2259)، والنسائي (6/ 178)، والترمذي (1203)، وابن ماجه (2069)، والبيهقي (7/ 402، 409).

ومنها: أنه إذا لاعن ونفى عنه نسب الولد انتفى عنه، ووجه أخذ ذلك أنه قال فتلاعنا، كما قال تعالى، وكتاب الله تعالى يقتضي أن يشهد أنه لمن الصادقين، وذلك راجع إلى ما ادعاه، ودعواه قد اشتملت على نفي الولد. ومنها: أن اللعان موجب للفُرقة ظاهرًا وقد سلف ما فيه في الحديث قبله. فائدة: ما أسلفته من جريان التوارث بينه وبين أمه، هو إجماع الأمة، وكذا بينه وبين أصحاب الفروض من جهة أمه، وهو إخوته وإخوانه من أمه وجداته من أمه ثم إذا دفع إلى أمه فرضها وهو الثلث في حالة والسدس في أخرى على ما تقرر في علم الفرائض أو إلى أصحاب الفروض، وبقي شيء فهو لموالي أمه إن كان عليها ولاء، ولم يكن هو عليه ولاء بمباشرة إعتاقه. فإن لم يكن لها موالٍ فهو لبيت المال هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الزهري ومالك وأبو ثور، وقال الحكم وحماد: يرثه ورثة أمه. وقال آخرون عصبته عصبة أمه، روي هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد بن حنبل. وقال أحمد: إن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة. وقال أبو حنيفة: إن انفردت أخذت الجميع لكن الثلث بالفرض والباقي بالرد على قاعدة مذهبه في إثبات الرد.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 343/ 3 / 66 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل من بني فِزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقًا. قال: فأنَّى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: اسم هذا الرجل ضمضم بن قتادة، ذكره عبد الغني في "غوامضه" (¬2) وقال: فيه ولد مولود أسود من امرأة من بني عجل، وفيه أيضًا: فقدم عجائز بني عجل فأخبرن أنه كان للمرأة جدة سوداء. قلت: وأما اسم المرأة وابنها فلم أره بعد البحث عنه. ¬

_ (¬1) البخاري (5305)، ومسلم (1500)، وأبو داود (2260، 2261)، والترمذي (2128)، وابن ماجه (2002)، والنسائي (6/ 178)، والأم (5/ 132)، ومعرفة السنن والآثار (11/ 169)، وأحمد برقم (7189، 7190، 7263). (¬2) انظر غوامض الأسماء المبهمة (1/ 282)، وإيضاح الإِشكال (107).

الثاني: "الأورق" هو الذي فيه سواد وليس بصافٍ، قاله النووي في "شرحه" (¬1). وعبارة المازري (¬2): هو الأسمر. وزاد القرطبي (¬3): الذي يميل إلى الغبرة. وقال الأصمعي (¬4): هو من الإِبل الذي في لونه بياض إلى سواد، وهو أطيب الإِبل لحمًا وليس بمحمود عند العرب في عمله وسيره. ومنه قيل للرماد أورق وللحمامة ورقاء وجمعه ورق بضم الواو وإسكان الراء كأحمر وحمر. وقال أبو زيد: هو الذي يضرب لونه إلى خضرة. وقال ابن الأعرابي: وغيره هو لون بين السواد والغبرة رمادي، وهو ما قاله النووي أولًا. والمراد بالعرق هنا: الأصل من النسب تشبيهًا بعرق الثمرة، ومنه: فلان معرق في الحسب والنسب واللؤم والكرم. ومعنى: "نزعه عرق" أشبهه، واجتذبه إليه، وأظهر لونه عليه، وأصل النزع الجذب، فكأنه جذبه بشبهه له. يقال: منه نزع الولد لأبيه وإلى أبيه، ونزعه أبوه ونزعه إليه. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (10/ 133). (¬2) المعلم (2/ 217). (¬3) المفهم (5/ 2621). (¬4) الإِبل للأصمعي (127، 150)، والمنتخب (350)؛ وانظر: كنز الحفاظ (430 , 431)، وغريب الحديث (9812) (4/ 81)، ولسان العرب (15/ 282).

الثالث: في فوائده: الأولى: حُسن [تأنى] (¬1) المستفتي وتثبته وعدم تصريحه، فإنه عرض بنفي الولد، وفي الصحيح: "هو حينئذ يعرض بأن ينفيه"، وفيه: "أن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته"، ومعناها استغربت أنه مني لا أنه نفاه عن نفسه. الثانية: أن التعريض بنفيه في محل الاستفتاء والضرورة لا يوجب حدًّا ولا تعزيرًا (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ (تثبت). (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 443): ويؤخذ منه أن التعريض بالقذف ليس قذفًا وبه قال الجمهور، واستدل الشافعي بهذا الحديث لذلك، وعن المالكية يجب به الحد إذا كان مفهومًا. وأجابوا: عن الحديث -بما سيأتي في آخر شرحه- وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال نظر، لأن المستفتي لا يجب عليه حد ولا تعزير. قلت: وفي هذا الإطلاق نظر، لأنه قد يستفتي بلفظ لا يقتضي القذف وبلفظ يقتضيه، فمن الأول أن يقول مثلًا إذا كان زوج المرأة أبيض فأتت بولد أسود فما الحكم؟ ومن الثاني: أن يقول مثلًا: إن امرأتي أتت بولد أسود وأنا أبيض فيكون تعريضًا، أو يزيد فيه مثلًا زنت فيكون تصريحًا، والذي ورد في حديث الباب هو الثاني فيتم الاستدلال، وقد نبه الخطابي على عكس هذا فقال: لا يلزم الزوج إذا صرح بأن الولد الذي وضعته امرأته ليس فيه حد قذف لجواز أن يريد أنها وطئت بشبهة أو وضعته من الزوج الذي قبله إذا كان ممكنًا. اهـ. إلى أن قال: ص 444. وفيه أن التعريض بالقذف لا يثبت حكم القذف حتى يقع التصريح خلافًا للمالكية، وأجاب بعض المالكية أن التعريض الذي يجب به القذف =

[الثالثة] (¬1): أن الولد ملحق بأبيه وإن خالف لونُه لونَه، سواء كانت المخالفة من سواد إلى بياض أو عكسه في الزوجين أو أحدهما، لعموم احتمال أنه نزعه عرق من أسلافه، وخالف في ذلك بعض أصحابنا عند وجود الريبة وهو غلط، وفي الصحيح: "فلم يرخص له في الانتفاء منه". الرابعة: الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الإِمكان والاحتمال. الخامسة: إثبات القياس والاعتبار بالأشباه، وضرب الأمثال تقريبًا للأفهام، وعرض الغامض المشكل على الظاهر البين، فيرجع الخصم إليه، فإنه -عليه الصلاة والسلام- شبّه ولد هذا المخالف للونه بولد الإِبل المخالفة لألوانها، والعلة الجامعة هي نزع العرق، إلَّا أنه تشبيهه في أمر وجودي، والذي حصلت المنازعة فيه هو التشبيه في الأحكام الشرعية، لكن الحجة في كونه -عليه الصلاة والسلام- أقر العمل به في الشرعيات، ومن تراجم البخاري (¬2) على هذا الحديث ¬

_ = عندهم هو ما يفهم منه القذف كما يفهم من التصريح، وهذا الحديث لا حجة فيه لدفع ذلك، فإن الرجل لم يرد قذفًا، بل جاء سائلًا مستفتيًا عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل أذعن، وقال المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حدَّ فيه، وإنما يجب الحد في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير: الفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض أن الأجنبي يقصد الأذية المحضة، والزوج قد يعذر لصيانة النسبة. والله أعلم. اهـ. (¬1) في الأصل (الرابعة) وما أثبت من ن هـ إلى آخر المسائل. (¬2) الفتح (13/ 296).

باب: من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين, قد بين [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) حكمهما ليفهم السائل. وذكر معه حديث: "أرأيت لو كان على أمك دين" (¬2). السادسة: أن التعريض بنفي الولد ليس نفيًا، وأن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وهو مذهب الشافعي وموافقيه (¬3). قاله النووي في "شرحه" (¬4). واعترض الشيخ تقي الدين (¬5) [فقال] (¬6): [كما] (¬7) قيل وأشار به إليه، وفيه نظر؛ لأنه جاء على سبيل الاستفتاء، والضرورة داعية إلى ذكره وإلى عدم ترتيب الحد أو التعزير على المستفتين. وسبقه إلى ذلك القرطبي، فقال في "مفهمه" (¬8) في الحديث أن التعريض اللطيف إذا لم يقصد به العيب، وكان على جهة الشكوى أو الاستفتاء لم يكن فيه حد، قال: وقد استدل به من لا يرى الحد في التعريض، وهو الشافعي، ولا حجة فيه، لما ذكرنا. وقال الخطابي (¬9): فيه دلالة على نفي الحد على من قال: هذا الولد ليس مني. ¬

_ (¬1) في المخطوط (الله) وما أثبت من البخاري. (¬2) البخاري (7315). (¬3) الأم (5/ 132)، ومعرفة السنن والآثار (11/ 171). (¬4) شرح مسلم (10/ 134). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 265). (¬6) في الأصل مكررة. (¬7) في الأصل ون هـ (كذا)، وما أثبت من إحكام الأحكام. (¬8) المفهم (5/ 2622). (¬9) انظر: سنن أبي داود (2260).

قال القاضي (¬1) ولا حجة فيه له إذ ليس فيه إلَّا إنكاره لون ولده لا إنكار الولد. ونفيه. قلت: هو يرجع إليه. السادسة: فيه كما قال القرطبي (¬2): تنبيه على استحالة التسلسل العقلي، وأن الحوادث لابد أن تستند إلى أول ليس بحادث كما يعرف في الأصول الكلامية. ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (4/ 152). (¬2) المفهم (5/ 2622).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 344/ 4/ 66 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام. فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلى أنه ابنه، انظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، وُلِدَ على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه، فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر. واحتجبي منه يا سودة. فلم ير سودة قط" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه. أما سعد بن أبي وقاص: فسلف في الحديث الثاني من الوصايا. ¬

_ (¬1) البخاري (2052)، ومسلم (1457)، والنسائي (6/ 180)، وأبو داود (2273)، وابن ماجه (2004)، والدارمي (2/ 152)، والطيالسي (1444)، والحميدي (238)، وأحمد (6/ 37، 129، 237)، والدارقطني (4/ 241)، والبيهقي (9/ 86) (7/ 412) (10/ 150، 266)، والبغوي (2378)، ومالك (739).

وأما عبد بن زمعة فهو قرشي عامري. وزمعة -بفتح الميم وإسكانها- وهو الأكثر. واسم أم عبد: عاتكة بنت الأخيف بن علقمة، وكان عَبْدُ شريفًا سيدًا من سادات الصحابة، وهو أخو سودة أم المؤمنين لأبيها وأخوه لأبيه عبد الرحمن بن زمعة المبهم في هذا الحديث، وأخوه لأمه قرظة بن عمر بن نوفل بن عبد مناف، وقال ابن حبان: من زعم أنها أخت عبد الله بن زمعة فقد وهم. وأما عتبة بن أبي وقاص: فذكره العسكري في الصحابة، [و] (¬1) قال: كان أصاب دمًا في قريش فانتقل إلى المدينة قبل الهجرة ومات في الإسلام. وكذا قاله أبو عمر: قال النووي: لم يذكره الجمهور في الصحابة. وذكره ابن منده فيهم، واحتج بوصيته إلى أخيه سعد بابن وليدة زمعة، وأنكر أبو نُعيم على ابن منده ذكره في الصحابة. قال أبو نعيم: وعتبة هو الذي شج وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسر رباعيته يوم أُحُد. قال: وما علمت [له] (¬2) إسلامًا، ولم يذكره أحد من المتقدمين في الصحابة. قيل: إنه مات كافرًا. وعتبة هذا أخو سعد لأبيه، وكذلك خالدة أخت سعد لأبيه وإخوته لأبيه وأمه عمر وعامر أمهم حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه: بنت وهب بن الحارث بن زهرة وابناه: هشام ونافع رويا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ ساقطة.

وأما سودة: فهي أم المؤمنين، وهي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حسد بن عامر بن لؤي بن غالب القرشية العامرية. يقال: كنيتها أم الأسود. وأمها: الشموس بنت قيس بن [زيد بن عمرو] (¬1) بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موت خديجة وقبل [العقد] (¬2) على عائشة. وقيل: بعد عائشة. وكانت قبله عبد ابن عمها السكران بن عمرو، أخي سهيل بن عمرو. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث. قال النووي في "تهذيبه" (¬3): روى لها (خ) حديثين. وقال ابن الجوزي: أخرج لها في الصحيح حديث واحد. قال الحميدي: وهو البخاري وحده. قال: وذكرها ابن أبي الفوارس فيمن اتفق عليهن. قلت: لها في (خ، س) حديث الدباغ، وفي (د) حديث الأساري. وروى عنها ابن عباس وغيره، وكانت امرأة ثقيلة ثبطة وأسنّت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم بطلاقها فوهبت نوبتها لعائشة فأمسكها، وفيها نزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} (¬4) الآية. ¬

_ (¬1) في الطبقات الكبرى (8/ 52)، وجمهرة أنساب العرب (168)، والذي في أنساب الأشراف (1/ 407)، وأسد الغابة (7/ 157) زيد بن عمرو. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 348). (¬4) في هـ ساقطة.

وقيل: طلقها ثم راجعها. أسلمت قديمًا وبايعت وأسلم زوجها السكران أيضًا، وخرجا مهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان سنة عشر من النبوة، وظل بها بمكة وهاجر بها إلى المدينة. ماتت في سنة خمس وخمسين، قاله ابن حبان. وفي كتاب ابن عمر عن أحمد بن وهب: أنها ماتت في آخر زمن عمر بن الخطاب، ولم يحك غيره، وجزم به الكلاباذي أيضًا. فقال: ماتت في آخر خلافة عمر بن الخطاب، وكان آخر خلافته منصرم سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. قلت: وفيه نظر فلعله في آخر خلافة معاوية، فإن ابن سعد روى عن الواقدي عن محمَّد بن عبد الله بن مسلم [عن أبيه] (¬1)، قال: توفيت سودة بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان. قال الواقدي: وهذا أثبت عندنا. الوجه الثاني: في بيان المبهم فيه، وهو الغلام المتنازع فيه، واسمه عبد الرحمن -كما سلف-. قال عبد الحق في "أحكامه": وأمه امرأة يمانيه، وله عقب بالمدينة. وهذه المخاصمة كانت عام الفتح كما أخرجه البخاري في الفرائض. الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه: "الوليدة" الجارية، وجمعها: ولائد. قال ابن داود من أصحابنا: وهو اسم لغير أم الولد. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 128.

وقال الجوهري (¬1): الوليدة: الصبية والأَمة، والجمع: الولائد. وقوله: "هو لك يا عبد بنَ زمعة"، يجوز في "ابن" رفعه على النعت ونصبه على الموضع [لأن الصفة إذا كانت لاسم علم منادى جاز فيها ذلك] (¬2)، ويجوز في "عبد" ضم داله على الأصل وفتحها اتباعًا لنون "ابن"، و"زمْعة" بإسكان الميم على الأكثر كما مضى. واختُلف في معنى قوله: "هو لك يا عبد" على قولين: أحدهما: معناه هو أخوك قضى فيه -عليه الصلاة والسلام- بعلمه لا باستلحاق عبد له، لأن زمعة كان صهره، [وسودة ابنته كانت زوجًا له -عليه الصلاة والسلام- فيمكن أن يكون] (¬3) -عليه الصلاة والسلام- علم أن زمعة كان يمسها. والثاني معناه: لك يا عبد ملكًا، لأنه ابن وليدة أبيك، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد [، ولم يقر زمعة] (¬4) ولا شهد (¬5) عليه (¬6). والأصول تدفع قول ابنه (¬7) [فلم يبق إلا أنه عبد تبعًا ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح (305). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) العبارة هكذا في الاستذكار (22/ 171) يريد أنه لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها. (¬5) في المرجع السابق زيادة: (بذلك). (¬6) في المرجع السابق زيادة: (وكانت). (¬7) في المرجع السابق زيادة: (عليه).

لأمه] (¬1). قاله ابن جرير. وقال الطحاوي (¬2): معنى "هو لك": أي هو بيدك لا ملك لك، لكنك تمنع منه غيرك، كما قال [في اللقطة للملتقط] (¬3) "هي لك"، أي بيدك تدفع عنها غيرك حتى يأتي صاحبها, لا أنها ملك لك قال: ولا يجوز أن يضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله ابنًا لزمعة، ويأمر أخته (¬4) أن تحتجب منه، لكن لما كان لعبد شريك فيما ادعاه، وهو سودة، ولم يعلم منها تصديقه ألزم -عليه الصلاة والسلام- عبدًا بما أقر به، ولم يجعله حجة على سودة، ولم يجعله أخاها، وأمرها أن تحتجب (¬5) ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة: (لم يبق إلا القضاء بأنه عبدٌ تبعٌ لأمه، وأمر سودة بالاحتجاب منه، لأنها لم تملك إلَّا شقصًا). قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- متعقبًا هذا: وهذا أيضًا من الطبري خلاف ظاهر الحديث، لأن فيه أخي وابن وليدة أبي، وُلِدَ على فراشه، فلم ينكر رسول لله - صلى الله عليه وسلم - ذلك من قوله ولكنه قول خارج محتمل على الأصول. اهـ. (¬2) انظر: المعتصر من المختصر (2/ 44)، والاستذكار (22/ 172)، وقد ساقه كاملًا. (¬3) تقديم وتأخير في هـ. (¬4) قوله ها: (أخته) بالنسبة إلى عبد، أما بالنسبة إلى زمعة فهي ابنته. (¬5) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح بعد سياق (12/ 36): وكلامه كله متعقب بالرواية الثانية المصرح فيها بقوله: "هو أخوك" -عند البخاري في المغازي (4303) -؛ ومن رواية أبي داود -فإنها رفعت الإِشكال، وكأنه لم يقف عليها ولا على حديث ابن الزبير- أقول ذكره في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (2/ 45)، فهذا يفيد وقوفه =

[منه] (¬1). قلت: في هذا نظر لا يخفى وسيأتي الجواب على احتجابها منه ولا يجوز أن يجعله -عليه الصلاة والسلام- ابنًا لزمعة [ثم يأمر ¬

_ = عليه-، وسودة الدال على أن سودة وافقت أخاها عبدًا في الدعوى بذلك. اهـ. وقال في موضع آخر (8/ 24): في قوله "هو أخوك يا عبد بن زمعة" رد لمن زعم أن قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" أن اللام فيه للملك فقال: أي هو عبد لك. اهـ. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 414): أما قولكم إنه لم يلحقه به أخًا، وإنما جعله عبدًا، يرده ما رواه محمَّد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه" في هذا الحديث: "هو لك، هو أخوك يا عبد بن زمعة وليس اللام للتمليك، وإنما هي للاختصاص، كقوله: "الولد للفراش"، فأما لفظة: "هو لك عبد" فرواية باطلة لا تصح أصلًا. اهـ. وقال المازري -رحمنا الله وإياه- في المعلم (2/ 172): ولما ضاقت عليهم الحيل في هذا الحديث لما قررناه، قال بعضهم: فإن الرواية في الحديث: "هو لك عبد" وأسقط حرف النداء الذي هو "يا" قالوا: وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن الولد لا يلحق بزمعة وأنه ابن أمته، وعبد هو وارثه فيرث هذا الولد وأمه، وهذه الرواية التي ذكروها غير صحيحة، ولو صحَّت لرددناها إلى الرواية المشهورة وقلنا: ليس الأمر كما فهما، وإنما يكون المراد: "يا عبد" فحذف حرف النداء كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}، فحذف حرف النداء ولأجل الاشتراك وقع عليهم الغلط: هل المراد "عبد" بمعنى قنّ أو المراد "عبد" اسم لهذا الرجل منادى بحذف حرف النداء؟ اهـ. (¬1) زيادة من هـ.

أخته أن تحتجب منه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬1). قلت: ليس بمحال، بل له وجه ستعلمه. ويزيد الأول رواية البخاري في المغازي: "هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة"، لكن في "مسند أحمد" و"سنن النسائي" (¬2): "ليس لك بأخ"، واختُلف في تَصْحِيْحِهَا فأعلها البيهقي (¬3). وقال ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) مسند أحمد (4/ 5) (6/ 427)، والنسائي (6/ 180)، وأبو يعلى (6812)، وعبد الرزاق (7/ 443)، والمستدرك (4/ 97)، وقال: صحيح الإِسناد. ووافقه الذهبي، والبيهقي (6/ 87). (¬3) وقال ابن التركماني متعقبًا البيهقي: فإسناد هذا الحديث لا يقاوم إسناد الحديث الأول، لأن الحديث الأول رواته مشهورون بالحفظ والفقه والأمانة، وعائشة -رضي الله عنها- تخبر عن تلك القصة كأنها شهدتها، والحديث الآخر في رواته من نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ وهو جرير بن عبد الحميد، وفيهم من لا يعرف بسبب يثبت به حديثه وهو يوسف بن الزبير (وقد قيل) في غير هذا الحديث عن مجاهد عن يوسف بن الزبير والزبير بن يوسف مولى لآل الزبير، وعبد الله بن الزبير كأنه لم يشهد القصة لصغره فرواية من شهدها وجميع من في إسناد حديثها حفاظ ثقات مشهورون بالفقه والعدالة أولى بالأخذ بها والله أعلم، (ويحتمل) أن يكونه المراد بقوله إن كان قاله فإنه ليس لك بأخ شبهًا، وإن كان لك بحكم الفراش أخًا فلا يكون لقوله: "هو أخوك يا عبد" مخالفًا فقد ألحقه بالفراش حتى حكم له بالميراث، وبالله التوفيق. قال البيهقي في السنن (6/ 87): "فإنه ليس لك بأخ"، ثم قال: "عائشة تخبر عن القصة كأنها شهدتها، والحديث الآخر في رواته من لا يعرف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بسبب يثبت به حديثه وهو يوسف بن الزبير وابن الزبير كأنه لم يشهد القصة لصغره، فرواية من شهدها والإِسناد جميع من فيه مشهورون بالعدالة أولى". قلت: أخرج النسائي هذا الحديث عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير. وهذا سند صحيح، وذكره صاحب الميزان من طريق أبي يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا جرير ثم قال: صحيح الإِسناد، وكذا قال الحاكم في المستدرك ويوسف معروف العدالة روى عنه مجاهد وبكر بن عبد الله المزني، وأخرج له الحاكم، وذكره ابن حبان في الثقات، وفي الكاشف للذهبي، هو ثقة، ولعل يوسف هذا اشتبه على البيهقي بآخر يقال له يوسف بن الزبير يروي عن أبيه عن مسروق، هو وأبوه مجهولان، وفي شهود عائشة للقصة نظر؛ ولهذا قال البيهقي: "كأنها شهدتها"، وإن خالف ذلك بقوله: "فرواية من شهدها"، وكان سن ابن الزبير في ذلك الوقت نحوًا من ثمان سنين ومثله يعقل ويميز، فحمل أخباره على شهوده للقصة أولى، ثم إنه باعتراف أحد الوارثين لا يثبت النسب في حق الميت بالاتفاق ولم تقربه سودة، بل علق الحكم لإقرار عبد، فعلم أنه -عليه السلام- أثبت النسب في حقه بإقراره لا في حق أبيه، ولو ثبت النسب في حق أبيه كان أمرها بالاحتجاب قطعًا للرحم ويؤيده قوله في هذه الرواية، فإنه ليس لك بأخ. وضعف الخطابي زيادة "فإنه ليس لك بأخ"، والنووي في شرح مسلم (10/ 39) قائلًا: بل هي زيادة باطلة مردودة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 37) -بعد أن ساق كلام النووي-: "وتعقب بأنها وقعت في حديث عبد الله بن الزبير عند النسائي بسند حسن". اهـ. ورواه عبد الرزاق (7/ 443) من طريق الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن الزبير؛ وليس فيه: "يوسف مولى آل الزبير".

المنذري (¬1): إنها زيادة غير ثابتة. وقال المازري (¬2): لا تعرف في هذا الحديث، وهي باطلة مردودة. ورواها الحاكم في "مستدركه"، وصحح إسنادها وقال بعضهم: الرواية فيه: "هو لك عبد" بإسقاط حرف النداء الذي هو ياء، أي هو وارثه فيرث هذا الولد وأمه. قال المازري والمنذري: وهذه الرواية غير صحيحة. قال: ولو صحت جَمَعَ بينها وبين الرواية المشهورة، بأن يكون المراد: يا عبد. فحذف حرف النداء، كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (¬3). واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يقتنون الولائد، ويضربون عليهن الضرائب، فيكتسبن بالفجور، وكان من سيرتهم إلحاق النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كما في النكاح، فكانت لزمعة أَمَةٌ، وكان يُلَمُّ بها، وكان له عليها ضريبة فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص، فهلك عتبة كافرًا لم يسلم، فعهد إلى سعد أخيه أن يستلحق الحمل الذي بأمة زمعة، وكان لزمعة ابن يقال له: عبد، فخاصم سعد عبد بن زمعة في الغلام الذي ولدته الأَمة، فقال سعد: هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. فقال عبد بن زمعة: بل هو أخي وُلِدَ على فراش أبي على ما استقر عليه ¬

_ (¬1) مختصر السنن (3/ 182)، ولفظ فيه: "هذه الرواية غير صحيحة". اهـ. ووافقه ابن القيم في تهذيب السنن. (¬2) المعلم بفوائد مسلم (2/ 173) ولفظه فيه: رواية لا تصح، وزيادة لا تثبت. اهـ. (¬3) سورة يوسف: آية 29.

الحكم في الإِسلام، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - به لعبد بن زمعة، وأبطل دعواه في الجاهلية. نبه على ذلك الخطابي (¬1). وكذا قال القاضي (¬2) عياض أيضًا: إنه كان من عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنا، وكانوا يستأجرون الإِماء له، فمتى اعترفت الأمة أنه له ألحقوه به، فجاء الإِسلام بإبطال ذلك، وإلحاق الولد بالفراش الشرعي. فلما تخاصم عبد وسعد، وقام سعد بما عهد إليه أخوه عتبة من سيرة الجاهلية إذ مات مشركًا ولم يعلم سعد بطلان ذلك في الإسلام، ولم يكن حصل إلحاقه في الجاهلية: إما لعدم الدعوى، وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة. واحتج ابن زمعة بأنه ولد على فراش أبيه، فحكم له به النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر (¬3): وفي الحديث إشكال: فإن الأمة مجتمعة على أن أحدًا لا يدعي عن أحد دعوى إلا بتوكيل (¬4)، ولم يذكر في هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعى به عنه، ومن ذلك ادعا عبد بن زمعة عن أبيه ولد بقوله: "أخي وابن وليدة أبي، وُلِدَ على فراشه" ولم يثبت إقرار أبيه بذلك، ولا تقبل دعوى أحد عن غيره. قال تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (¬5)، ثم ذكر أبو عمر بعد ذلك أن عتبة انتقل إلى المدينة قبل الهجرة، واتخذ بها ¬

_ (¬1) انظر: معالم السنن "سنن أبي داود" (2/ 704). (¬2) إكمال إكمال المعلم (4/ 78). (¬3) الاستذكار (22/ 167)، والتمهيد (8/ 184، 185). (¬4) في الاستذكار زيادة من المدعي. (¬5) سورة الأنعام: آية 6.

منزلًا ومالًا، وتُوفي في الإِسلام، وأوصى إلى أخيه سعد. وفي "الموطأ": "عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك". وكذا في البخاري في المغازي: "أنه عهد إليه أن يقبض ابن وليدة زمعة". وفي هذا ما يزيل الإِشكال المذكور، فإنه إذا كان وصَّى لأخيه، فهو أحق بكفالة ابن أخيه وحفظ نسبه، وتصح دعواه بذلك، والحالة هذه، وكذا تصح دعوى عبد بن زمعة المخاصمة في أخيه، بأنه كافله وعاصبه إن كان حرًّا ومالكه إن كان عبدًا. ووقع في كلام الباجي (¬1) التوقف في ادعاء عتبة هذا الولد، حيث قال: فإن ثبت أن عتبة ادعى هذا الولد وإلا لم تصح دعوى سعد فيه، [لأن] (¬2) استلحاق العم لا يصح وهو عجيب، فالحديث مصرح باعتراف عتبة به، ودعواه وعهده إلى أخيه [سعد] (¬3) بقبضه كما سلف. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الولد للفراش" أي لصاحب الفراش، أي تابع له أو محكوم به له، كما قال تعالى: {وَسئَلِ الَقَريَةَ}، أي أهلها. وكذا أخرجه البخاري في كتاب الفرائض (¬4) من صحيحه من ¬

_ (¬1) المنتقى (6/ 6). (¬2) في هـ (لا). (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) البخاري (6750)، ومسلم (1458)، والترمذي (1157)، وأحمد (2/ 239، 280، 386)، والنسائي (6/ 180)، وابن ماجه (2006).

حديث أبي هريرة: "الولد لصاحب الفراش"، وترجم عليه (¬1) وعلى حديث عائشة: "الولد للفراش حرة كانت أو أمة". قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالفراش. وقال القاضي (¬2): أصحاب أبي حنيفة حملوه على صاحب الفراش، ولذلك لم يشترطوا إمكان الوطء في الحرة، والأظهر أن المراد به هنا حالة الافتراش، فيفهم منه إمكان الوطء، قال: ووطء زمعة وليدته وافتراشها كان معلومًا. وقد قيل: لا تعلم في اللغة إيقاع الفراش على الزوج. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "وللعاهر الحجر" قال العلماء: العاهر: الزاني، وعهر: زنى، وعهرت: زنت. ومعنى "له الحجر" أي له الخيبة، ولا حقّ له في الولد (¬3). وعادة العرب أن تقول: له الحجر، وبفيه الأَثْلَبُ وهو التراب، ويريدون: ليس له إلَّا الخيبة، ومنه الحديث: "وإذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا" (¬4) تعبيرًا بذلك عن خيبته وعدم استحقاقه لثمن الكلب، وفي "الكنى" للحاكم أبي أحمد من حديث زيد بن أرقم، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "الولد للفراش وفي فم العاهر ¬

_ (¬1) الفتح (12/ 31). (¬2) إكمال إكمال المعلم (4/ 79). (¬3) انظر معالم السنن (3/ 131). (¬4) أبو داود (3482)، والطيالسي (1/ 263)، والنسائي (7/ 309)، والطحاوي في معاني الآثار (4/ 52)، وأحمد (1/ 278، 289، 235، 350)، والبيهقي (6/ 6).

الحجر" (¬1)، وفي "صحيح ابن حبان" (¬2) من حديث ابن عمر رفعه: "الولد للفراش وبفي العاهر الأثلب"، فقال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الأثلب؟ قال: "الحجر". ورواه الإِمام أحمد (¬3) كذلك، لكن من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا ابن الجوزي في "جامع المسانيد" وأبعد بعضهم فقال: معناه للزاني الرجم بالحجر (¬4)، ووجه بعده أن هذا في حق بعض الزناة، وهو المحصن، فلا يجري لفظ العاهر على عمومه بخلاف ما إذا حملناه على الخيبة، فإنه حينئذ على عمومه في حق كل زان، والأصل العمل بالعموم فيما تقتضيه صيغته، كيف والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه لا في رجمه. الوجه الرابع في فوائده: الأولى: إلحاق الولد بالفراش، سواء أكان بطريق الزوجية أو الملكية بشرط إمكان كونه منه، ومدة الإِمكان ستة أشهر من حين ¬

_ (¬1) ذكره في فتح الباري (12/ 37). (¬2) ابن حبان (5996). (¬3) مسند الإِمام أحمد (2/ 179، 207). (¬4) قال النووي -رحمنا الله وإياه- في شرح مسلم (10/ 37): وقيل: المراد أنه يرجم بالحجارة وهذا ضعيف، لأنه ليس كل زانٍ يرجم، وإنما يرجم المحصن خاصة، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد عنه، والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه. اهـ. وقد ساق ابن حجر في الفتح (12/ 36) وقال: ويؤيد -أي حرمانه من الولد الذي يدعيه- حديث زيد بن أرقم. وقد ساقه المصنف هنا، وحديث عبد الله بن عمرو، ولفظه: "الولد للفراش ونفى للعاهر الأثلبُ. . . ." الحديث.

إمكان الاجتماع. والإِجماع قائم على مصير [الزوجة] (¬1) فراشًا بالعقد، واختلفوا في اشتراط الإِمكان فيها. والجمهور على اشتراطه حتى لو نكح مغربي مشرقية ولم يفارق [واحد] (¬2) منهما وطنه. ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يلحقه، لعدم إمكان كونه منه. وخالف أبو حنيفة فاكتفى بمجرد العقد، قال: حتى لو طلق عقبه من غير إمكان وطء، فولدت لستة أشهر من العقد لَحِقَهُ، واستضعف ذلك، ونسب [إلى] (¬3) الفساد. والحديث خرج على الغالب وهو حصول الإِمكان عند العقد. هذا حكم الزوجة (¬4). ¬

_ (¬1) في هـ الزوجية. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) قال النووي -رحمنا الله وإياه- في شرح مسلم (10/ 38) بعد سياقه لهذا الكلام: وهذا ضعيف ظاهر الفساد، ولا حجة له في إطلاق الحديث، لأنه خرج على الغالب، وهو حصول الإِمكان عند العقد، وهذا حكم الزوجة. اهـ. وقال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في زاد المعاد (5/ 415): واختلف الفقهاء فيما تصير به الزوجة فراشًا، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلقها عقيبه في المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة. والثاني: أنه العقد مع إمكان الوطء، وهذا مذهب الشافعي وأحمد. والثالث: أنه العقد مع الدخول المحقق لا إمكانه المشكوك فيه، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وقال: إن أحمد أشار إليه في رواية حرب، فإنه نص في روايته فيمن طلق قبل البناء، وأتت امرأته بولد، فأنكره أنه ينتفي عنه بغير لعان، وهذا هو الصحيح المجزوم به، وإلا =

وأما الأَمة (¬1): فلا تصير فراشًا إلا بالوطء، وأما الملك فلا أثر له حتى لو بقيت في ملكه سنين، وأتت بأولاد ولم يطأها, ولم يقر بوطئها لا يلحقه أحد منهم. فإذا وطئها صارت فراشًا، فإذا أتت بعد الوطء بولد أو أولاد لمدة الإِمكان لحقوه، وبهذا قال مالك والشافعي، وخالف أبو حنيفة، فقال: لا تصير فراشًا إلا إذا ولدت ولدًا واستلحقه فما تأتي بعد ذلك يلحقه إلا أن ينفيه، قال: لأنها لو صارت فراشًا بالوطء لصارت بعقد الملك كالزوجة. قال أصحاب الشافعي: والفرق بين الزوجة والأَمة: أن الزوجة تراد للوطء خاصة، فجعل الشرع العقد عليها كالوطء لما كان هو المقصود بخلاف الأَمة، فإنها تراد لملك الرقبة وأنواع المنافع غير الوطء، ولهذا يجوز أن يملك أختين وأمًّا وبنتها، ولا يجوز جمعهما ¬

_ = فكيف تصير المرأة فراشًا ولم يدخل بها الزوج، ولم يبنِ بها لمجرد إمكان بعيد؟ وهل يَعُدُّ أهل العرف واللغة المرأة فراشًا قبل البناء بها، وكيف تأتي الشريعة بإلحاق نسب بمن لم يبنِ بامرأته، ولا دخلَ بها, ولا اجتمع بها بمجرد إمكان ذلك؟ وهذا الإِمكان قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فراشًا إلابدخول محقق، وبالله التوفيق. وهذا الذي نص عليه في رواية حرب، وهو الذي تقتضيه قواعده وأصول مذهبه، والله أعلم. (¬1) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في المرجع السابق: واختلفوا أيضًا فيما تصير له الأمة فراشًا، فالجمهور على أنها لا تصير فراشًا إلا بالوطء، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أن الأمة التي تشترى للوطء دون الخدمة، كالمرتفعة التي يُفهم من قرائن الأحوال أنها إنما تُراد للتسري، فتصير فراشًا بنفس الشراء، والصحيح أن الأمة والحرة لا تصيران فراشًا إلا بالدخول. اهـ.

بعقد النكاح فلم تَصِرِ الأَمة بنفس عقد الملك فراشًا. فإذا حصل الوطء صارت كالحرة، فصارت فراشًا. واعلم أن حديث عبد بن زمعة هنا محمول على ثبوت مصير أمة أبيه فراشًا لزمعة. فلهذا ألحق - صلى الله عليه وسلم - به الولد. وثبوت فراشه: إما ببينة على إقراره بذلك في حياته، وإما بعلمه -عليه الصلاة والسلام- بذلك. وقد أسلفنا من كلام القاضي أن افتراشها له كان معلومًا (¬1). وفي هذا دلالة للشافعي ومالك على أبي حنيفة [فإن] (¬2) لم يكن لزمعة ولد من هذه الأمة قبل هذا [فدل] (¬3) على (¬4) أنه ليس بشرط خلاف ما قال أبو حنيفة. الثانية: فيه أيضًا دلالة للشافعي وموافقيه على مالك وموافقيه. في استلحاق النسب، لأن الشافعي يقول: يجوز أن يستلحق الوارث نسبًا لمورثه بشرط أن يكون حائزًا للإِرث, أو يستلحقه كل الورثة، [ويشترط] (¬5) أن يمكن كون المستلحق ولدًا للميت، وبشرط أن لا يكون معروف السبب من غيره, وبشرط أن يصدقه المستلحق إن كان بالغًا عاقلًا. وهذه الشروط كلها موجودة في هذا الولد الذي ألحقه -عليه الصلاة والسلام- بزمعة حين استلحقه عبد بن زمعة، ويتأول أصحابنا هذا تأويلين: ¬

_ (¬1) ساقه من شرح مسلم (10/ 38). (¬2) في الأصل (فإنه)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) في الأصل (قول)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) في الأصل زيادة (على)، وما أثبت من هـ. (¬5) في هـ بشرط.

أحدهما: أن سودة بنت زمعة أخت عبد استلحقته معه ووافقته في ذلك حتى يكون كل الورثة مستلحقين. وثانيهما: أن زمعة مات كافرًا فلم ترث سودة لكونها مسلمة وورثه عبد بن زمعة. وقال البويطي: لا يجوز إقرار الأخ بأخيه عندي. قال: وإنما ألحق -عليه الصلاة والسلام- ابن زمعة [به] (¬1) لمعرفته بفراشه. وادعى أبو عمر أن هذا مشهور مذهب الشافعي حيث قال: اختلف قول الشافعي في أن الأخ هل يستلحق؟ فرُوِيَ عنه المنع، كقول مالك، وهو قول الكوفيون وجمهور الفقهاء، وإليه ذهب المزني والبويطي، وروي عنه أنه يقبل إذا كان جائزًا؛ وهو قول النخعي، والأول [هو] (¬2) مشهور مذهبه. وقد قال في غير موضع في كتبه. لو قُبل استلحاق غيرِ الأب كان فيه إثبات حقوق [على] (¬3) الأب بغير بينة تشهد عليه ولا إقراره، هذا كلامه. والذي نعرفه من مذهبنا قبوله إذا كان جائزًا بالشروط السالفة (¬4). فرع: لا يصح استلحاق الجد (¬5) عند مالك خلافًا لأشهب. الثالثة: فيه أيضًا استعمال الورع في الأمر الثابت في ظاهر الشرع والأمر للاحتياط، فإنه -عليه الصلاة والسلام- أمرها بالاحتجاب ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) في هـ ساقطة. (¬4) انظر: الاستذكار (22/ 170، 171). (¬5) انظر: المنتقى (6/ 9).

من ولد أبيها الذي حكم بإلحاقه به لما رأى الشبه البين بعتبة، وخشي أن يكون من مائه ويكون أجنبيًّا منها باطنًا، فحكم بظاهر الشرع في إلحاق النسب وبالورع في الاحتجاب ومن تراجم البخاري (¬1) عليه باب: تفسير المشبهات. قال الخطابي (¬2): وقد كان [جائزًا] (¬3) أن لا يراها لو كان أخًا [لها] (¬4) ثابت السبب، [ولأمهات المؤمنين] (¬5) في هذا الباب ما ليس لغيرهن [من النساء] (¬6)، قال تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (¬7) الآية. وزعم بعض الحنفية أنه إنما أمرها بالاحتجاب منه، لأنه جاء في رواية: "واحتجبي، فإنه ليس لكِ بأخ"، وقد أسلفنا من ضعفها، وأنه جاء في "صحيح البخاري" في المغازي: "هو أخوك يا عبد"، وقال الطبري: إنما أمرها بذلك، لأنها لا تملك منه إلا شقصاء. قلت: قد أسلفنا أن سودة لم ترث زمعة لكونه مات كافرًا. وقيل: إنما أمرها به لأنه يجوز أن يمنع الزوج زوجته من رؤية أخيها. ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 291) (ح2053). (¬2) في المخطوطتين (يجوز). (¬3) زيادة من معالم السنن. (¬4) في المعالم (ولأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬5) زيادة من المعالم. (¬6) معالم السنن (3/ 182). (¬7) سورة الأحزاب: آية 32.

وقيل: لأنه غير أخيها في الباطن، لأنه من الزنا، حكاهما أبو عمر (¬1)، وعزى الأول إلى أصحاب الشافعي، والثاني إلى الكوفيين. وقال في الثاني: إنه قول فاسد لا يعقل، ورجح قول المزني، وهو أنه يحتمل أن يكون -عليه الصلاة والسلام- أجابهم عن المسألة وأعلمهم أن حكمها كذلك يكون إذا تداعى الولد صاحب الفراش وصاحب الزنا لا على أنه يلزم عتبة دعوى أخيه سعد، ويلزم زمعة دعوى ابنه عبد، ويبين ذلك قوله لسودة: "واحتجبي منه" وإلى هذا ذهب الباجي (¬2)، وقال: إنه أصح الأقوال، وقال: إن قوله: "هو لك يا عبد"، أي ملكًا إذ لم يثبت إعتراف زمعة به. قال: ولو استلحقه بزمعة لم ينه عنه سودة، ولم يأمرها بقطع رحمه، وقد حض أزواجه على مداخلة الأخ والعم من الرضاعة. قلت: قد أسلفنا أن استفراشه لها كان معلومًا ونهيه لسودة سلف تأويله. الرابعة: فيه أيضًا أن الشبه وحكم القافة إنما يعتمد إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش كما لم يحكم بالشبه في قصة المتلاعنين مع أنه جاء على الشبه المكروه. الخامسة: فيه أيضًا أن حكم الحاكم بالظاهر لا يحل الأمر بالباطن عما هو عليه، فإذا حكم بشهادة شاهدين زور أو نحو ذلك لم يجل المحكوم به للمحكوم له، وموضع الدلالة أنه -عليه الصلاة ¬

_ (¬1) الاستذكار (22/ 175). (¬2) المنتقى (6/ 9).

والسلام- حكم به لعبد بن زمعة وأنه أخ [له ولسودة] (¬1)، واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة. فلو كان الحكم يحل الباطن لما أمرها بالاحتجاب. السادسة: احتج [به] (¬2) بعض الحنفية ومن وافقهم على أن الوطء بالزنا له حكم الوطء بالنكاح في حرمة المصاهرة، وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم: لا أثر لوطء الزنا، بل للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها، بل زاد الشافعي فجوّز نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا. قال: ووجه الاحتجاج أن سودة أمرت بالاحتجاب، وهذا احتجاج عجيب، كما نبّه عليه النووي (¬3)، فإنه على تقدير كونه من الزنا يكون أجنبيًّا من سودة لا يحل الظهور له، سواء ألحق بالزاني أم لا، فلا تعلق له بالمسألة المذكورة. ¬

_ (¬1) في هـ (سودة). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) شرح مسلم (10/ 40). قال ابن حجر في الفتح (12/ 38) -بعد سياقه كلام النووي هنا-: وهو رد للفرع برد الأصل وإلا فالبناء الذي بنوه صحيح، وقد أجاب الشافعية عنه بما تقدم أن الأمر بالاحتجاب للاحتياط، ويحمل الأمر في ذلك إما على الندب وإما على تخصيص أمهات المؤمنين بذلك، فعلى تقدير الندب فالشافعي قائل به في المخلوقة من ماء الزنا، وعلى التخصيص فلا إشكال، والله أعلم. اهـ. انظر: التمهيد (8/ 191، 192).

السابعة: استدل به بعض المالكية على قاعدة من قواعدهم، وأصل من أصول مذهبهم، وهو الحكم بين حكمين، وذلك أن يكون فرع قد أخذ مشابهة من أصول متعدِّدة، فيُعطَى أحكامًا مختلفة، ولا يُمحَّض لأحد الأصول. وبيانه من الحديث أن الفراش مقتضٍ لإِلحاق الولد بزمعة والشبه البين مقتضٍ لإِلحاقه بعتبة، فأعطى النسب بمقتضى الفراش، وألحق بزمعة. ورُوعي أمر الشبه أمر سودة بالاحتجاب منه، فأعطى الفرع حكمًا بين حكمين، ولم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة، ولم يراع أمر الشبه مطلقًا فيلحق بعتبة، قالوا: وهذا أولى التقديرات، فإن الفرع إذا دار بين أصلين، فألحق [بأحدهما] (¬1) مطلقًا، فقد أبطل شبهه بالثاني من كل وجه. وكذلك إذا فعل بالثاني، ومُحض إلحاقه به كان إبطالًا لحكم شبهه بالأول، فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ويعترض على هذا بأن صورة النزاع ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين، يقتضي الشرع إلحاقه بكل واحد منهما من حيث النظر إليه. وهاهنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش. والشبه هاهنا غير مقتضٍ للإِلحاق شرعًا، فيحمل قوله: "احتجبي منه يا سودة" على سبيل الاحتياط. والإِرشاد لمصلحة وجودية، لا على سبيل بيان وجوب حكم شرعي. ويؤكده ¬

_ (¬1) في هـ بين أحدهما. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 269).

أنا لو وجدنا شبهًا في ولد لغير صاحب الفراش لم يثبت لذلك حكمًا. وليس في الاحتجاب هنا إلا ترك أمر مباح على تقدير ثبوت المحرمية وهو قريب. الثامن: احتج الشعبي ومن قال: بقوله بعموم قوله: "الولد للفراش"، أن الولد لا ينتفي باللعان ولا غيره، وهو شذوذ، كما قال القاضي. وقد حكي عن بعض المدنيين، ولا حجة فيه، لأنه -عليه الصلاة والسلام- إنما قال: هذا في ولد الأمة المدعي فيه غير سيدها، وقد حكم -عليه الصلاة والسلام- في ولد الزوجات بخلاف ذلك ولاعن وألحق الولد بأمه دون الزوج كما سلف.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 345/ 5/ 66 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليّ مسرورًا، تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا [المدلجي] (¬1) نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض" (¬2). وفي لفظ: "كما مجززًا قائفًا". الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وبالأسماء الواقعة فيه. أما مجززًا: فبميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم زاي مكسورة مشددة، وحُكي فتحها، ثم زاي أخرى. وقيل إنه بالحاء [والراء] (¬3) المهملة ثم زاي -وهو مجزز بن ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) البخاري أطرافه (3555)، ومسلم (1459)، والترمذي (2129)، وأبو داود (2268)، والنسائي (6/ 184)، أحمد (6/ 82، 226)، وعبد الرزاق (13833، 13836)، وابن ماجه (2349). (¬3) زيادة من هـ.

الأعور بن جعدة بن معاذ بن عيوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي القائف. وسُمي مجززًا: لأنه يجز نواصي أسارى الحرب. وقيل. لأنه كان إذا أخذ أسيرًا جز لحيته. وقيل: ناصيته وكان من بني مدلج كما سلف، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد تعترف لهم العرب بذلك، وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض، كما قاله أحمد بن صالح فيما نقله أبو داود عنه، ونقل عبد الحق عن أبي داود، أن زيدًا كان شديد البياض، وكذا قال البندنيجي في "الذخيرة" والقاضي حسين من أصحابنا، ونقل المازري (¬1) والبغوي (¬2) عنه أنه كان أبيض من القطن، وقال إبراهيم بن سعد: كان أسامة أسود مثل الليل، وزيد أبيض [أصفر] (¬3). وقال الماوردي: إن زيدًا كان أخضر اللون. وقال غيره: أزهر اللون، حكاه القاضي عياض. وقال الرافعى: كان أسامة طويلًا أقنى الأنف أسود، وكان زيد قصيرًا أخنس الأنف بين السواد والبياض. فاتفق أنهما ناما في المسجد، كما قاله أبو عمر وغطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فمر عليهما مجزز فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض". فسر بذلك - صلى الله عليه وسلم - وأعجبه. وكانت العرب تصغي إلى قول القافة، وكان يقال من علوم العرب ثلاثة: ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 176). (¬2) البغوي في شرح السنة (9/ 285). (¬3) في هـ (أشقر) ولعلها أقرب.

السياقة (¬1): وهي شم تراب الأرض فيعلم بها الاستقامة على الطريق أو الخروج منها. والعيافة (¬2): وهي زجر الطير والتفاؤل بها، وما قارب ذلك. وأما السانح والبارح: ففي الوحش، وكانوا يتطيَّرون بالبارح، ويتفاءلون بالسانح أن يرمونه. يقال: برح الطير بفتح الراء بروحًا إذا ولاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك ويتفاءلون بالسانح. قال الجوهري (¬3): لأنه لا يمكنك أن ترمه حتى تنحرف. ¬

_ (¬1) انظر المصباح المنير (296). (¬2) العيافة: هي زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهي من عادة العرب كثيرًا، وهو كثير في أشعارهم، يقال: عاف يعيف عيفًا إذا زجر، وحدس، وظن. قال: وبنو أسد يُذكرون بالعيافة، ويُوصفون بها، قيل عنهم: إن قومًا من الجن تذاكروا عيافتهم فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف، فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا، فلقيتهم عُقاب، كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: ما لك؟! فقال: كسرت جناحًا، ورفعت جناحًا، وحلفت بالله صراحًا، ما أنت بإنس ولا تبغي لقاحًا. اهـ من النهاية (3/ 330). وقال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في مفتاح دار السعادة (2/ 229، 230): ومن اشتهر بإحسان الزجر عندهم ووجوهه حتى قصده الناس بالسؤال عن حوادثهم وما أملوه عن أعمالهم: سموه عائفًا وعرّافًا". (¬3) النهاية (1/ 114) قال: السانح ضد المبارح، فالسانح ما مر من الطير والوحش بين يديك من جهة يسارك، إلى يمينك، والعرب تتيمن لأنه =

وفي الحديث: "العيافة والطرق من الجبت" (¬1)، والطرق (¬2): هو الرمي بالحصى. أما القيافة: فهي ما نحن فيه، وهي اعتبار الأشباه لإِلحاق الأنساب. وأما أسامة: فسلف التعريف به في باب دخول مكة. وأمه أم أيمن واسمها بركة، وكانت حبشية سوداء، وهي بركة بنت محصن بن ثعلبة بن [عمرو] (¬3) بن حضين بن مالك بن سلمة بن ¬

_ = أمكن للرمي والصيد، والبارح ما مر من يمينك إلى يسارك، والعرب تتطير به لأنه لا بمكنك أن ترميه حتى تنحرف". اهـ. انظر: تهذيب اللغة (4/ 321)، والعمدة في الشعر ونقده لابن رشيق. (¬1) لفظ: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" من حديث قطن بن قبيصة عن أبيه، أخرجه أحمد (3/ 77؟) (5/ 60)، والبغوي في شرح السنة (12/ 177)، وفي التفسير (1/ 545)، والبيهقي (8/ 139)، وأبو داود (3907)، وعبد الرزاق (10/ 403)، وابن حبان (6131). (¬2) قال ابن حبان -رحمنا الله وإياه-: الطرق: التنجيم، والطرق: اللعب بالحجارة للأصنام. وفي تيسير العزيز الحميد (348) بعد أن عرف العيافة -وقد سبق التعريف بها-: الطرق: الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف، وهو تفسير صحيح. وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. والجبت: أعمال السحر. قال القاضي: والجبت في الأصل الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر. اهـ. (¬3) في هـ عمر.

عمرو بن النعمان، قال القاضي (¬1): ولم أر لأحد أنها سوداء إلا أحمد بن سعيد الصيرفي ذكر في "تاريخه" من رواية عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها كانت سوداء، فإن كان هذا، فلهذا خرج أسامة أسود، لكن لو صح هذا لم ينكر لون أسامة إذ لا ينكر أن يلد الأبيض أسود من سوداء. وأما والده زيد بن حارثة: فهو مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فوهبته للنبي - صلى الله عليه وسلَّم - فتبنّاه، وكان يدعى زيد بن محمَّد حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬2)، فقيل: زيد بن حارثة، وهو أول من أسلم من الموالي، وشهد بدرًا والمشاهد، وكان من الأمراء الشهداء ومن الرماة المذكورين، له حديثان ومناقبه جمّة منها: إن الله ذكره في القرآن. استشهد يوم مؤتة سنة ثمان من الهجرة عن نيف وخمسين سنة. وترجمته مبسوطة فيها أفردناه في الكلام على رجال هذا الكتاب فسارع إليه. الوجه الثاني في ألفاظه ومعانيه. السرور: خلاف الحزن، وسبب سروره -عليه الصلاة والسلام- ما تقدم من طعنهم في نسب أسامة، وقصد بعض المنافقين بالطعن مغايظة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهما كانا حبيبيه. فلما قال المدلجي ذلك: وهو لا يرى إلا أقدامهما سره ذلك. وقد ترك المصنف من الحديث: "تغطية رؤوسهما وبدو ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 83). (¬2) سورة الأحزاب: آية 5.

أقدامهما"، وهي زيادة مفيدة لما فيها من الدلالة على صدق القيافة. وتبرق -بفتح أوله وضم ثالثه-: أي يضيء ويستنير من السرور والفرح، فإن المسرور ينطلق وجهه ويجري ماء البشر بخلاف المقطب، أي المجمع والحزين، فإن الحزن والغضب جمعه وقبضه. والأسارير: هي الخطوط التي في الجبهة [و] (¬1) الوجه مثل التكسير. ويقال فيها أيضًا: [الأسر] (¬2)، وهي جمع قلة. والغضون واحدها سَرَر (¬3) وسُرُر، وجمعه: أسْرَار، وجمع الجمع أسارير. وقال الأصمعي: الخطوط التي تكون في الكف مثلها السَرَر بفتح السين والراء، والسِّر بكسر السين وعبارة الصحاح (¬4): السِّرَرُ واحد أسْرارِ الكف والجبهة، وهي خطوطها. ومعنى آنفًا: قريبًا. وقال القاضي (¬5): معناه قبل، وقيل: أول وقت نحن فيه قريب، وهو بمد الهمزة على المشهور، ويجوز قصرهما وقرىء بهما في السبع. والقائف: متبع الآثار والأشباه، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في هـ الأسره. (¬3) في المعلم (2/ 178) زيادة: سُرٌّ. (¬4) انظر: مختار الصحاح (128). (¬5) مشارق الأنوار (1/ 44).

لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1)، أي لا تتبع، والجمع: قافة كبائع وباعة. الوجه الثالث في أحكامه: فيه العمل بالقيافة بقول القائف بالشبه في إلحاق الولد بأحد الرجلين، ولا يكون ذلك إلا فيما أشكل من وطئين محترمين: كالمشتري والبائع يطأآن الجارية المبيعة في طهر قبل الاستبراء من الأول، فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدًا من وطء [الثاني] (¬2)، ولدون أربع سنين من وطء الأول. وأثبت العمل بها الشافعي وفقهاء الحجاز وجماهير العلماء، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإسحاق. وفي المسألة قول ثالث: وهو إثباته في حق الإِماء دون الحرائر، وهو مشهور مذهب مالك، وعنه رواية كالأول. وجه الدلالة للأول: أنه -عليه الصلاة والسلام- سرّ بذلك، ويكون في أمته من يميز الأنساب عند الاشتباه ولا يسر بباطل. واعتذر الباقون عنه: بأنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه ولا هو [وارد] (¬3) في محل النزاع، فان أسامة كان لاحقًا بفراش زيد من غير منازع له فيه، وإنما كان الكفار يطعنون في نسبه للتباين السالف بين لونيهما، فلما ألحقه مجزز به كان فيه إبطالًا لطعن الكفار بسب اعترافهم بحكم القيافة وإبطال طعنهم حق، فلم يسر إلَّا لحق. والأول: يجيبون بأنه وإن كان ذلك واردًا في صورة خاطئة إلا ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: آية 36. (¬2) في ن هـ الأول. (¬3) في هـ (والد) وهو خطأ.

أن له جهة عامة، وهي دلالة الأشباه على الأنساب فيأخذ هذه الجهة من الحديث ويعمل بها. واحتج من فرق بين الحرة والأمة: بأن الحرة لها فراش ثابت يرجع إليه، فلم يلتفت إلى تطلب معنى آخر سواه أخفض منه رتبة، والأمة: لا فراش لها، فافتقر فيها إلى مراعاة الشبه. واتفق القائلون بالعمل بالقائف على اشتراط عدالته، والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط فيه العدد بل يكفي الواحد بناء على أنه حكم لا شهادة، وبه قال ابن القاسم من المالكية، وقال مالك: لابد من اثنين وهو أحد الوجهين عند الشافعية، وحكاه القاضي عياض قولًا عن الشافعي (¬1)، وحكى الباجي (¬2) عن مالك أنه يجزئ الواحد إن لم يوجد غيره قال: وعليه جماعة أصحابنا إلا ما روى أشهب عن مالك أنه لا يجزئ إلا اثنان، وبه قال عيسى بن دينار وقال أبو عمر المشهور عن مالك وعليه أكثر أصحابه قبول الواحد، والاثنان أحوط عندي. والأصح عند الشافعية أيضًا أن القيافة لا تختص ببني مدلج، لأن المعتبر في ذلك الأشباه، وهو غير خاص بهم، ووجه مقابله أن لبني مدلج في ذلك قوة ليست لغيرهم، ومحل النص إذا اختص بوصف يمكن اعتباره لم يمكن إلغاؤه لاحتمال أن يكون مقصودًا للشارع. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (22/ 186). (¬2) المرجع السابق المنتقى (6/ 14).

واتفق القائلون بها على أنه يشترط أن يكون خبيرًا بها مجربًا، ثم إذا رجع إليه فإن ألحقه بأحدهما لحق به، وإن أشكل عليه أو نفاه عنهما ترك الولد حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل إليه منهما، وهو مذهب عمر بن الخطاب (¬1). وفي المسألة قول ثان: [إنه] (¬2) يكون ابنًا لهما، قاله أبو ثور وسحنون. وقول ثالث: أنه يلحق بأكثرهما [له] (¬3) شبهًا، [قاله عبد الملك بن الماجشون] (¬4) ومحمد بن مسلمة المالكيان. قال ابن مسلمة: إلا أن يعلم الأول فيلحق به. واختلف النافون في الولد المتنازَع فيه على أقوال: أحدها: أنه يلحق بهما رجلين كانا أو امرأتين، قاله أبو حنيفة. وثانيهما: يلحق بالرجلين ولا يلحق بامرأتين، قاله أبو يوسف، وقال محمَّد بن الحسن نحوه يلحق بالآباء وإن كثروا، ولا يلحق إلا بامرأة واحدة. ثالثها: إنه يقرع بينهما، قاله إسحاق والشافعي في القديم على ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (22/ 181)، وله قول آخر: إنه يكون ابنهما (22/ 187). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) زيادة من هـ. (¬4) في هـ تقديم وتأخير.

ما حكاه القاضي عياض (¬1)، ثم القرطبي (¬2)، والبغوي في "شرح السنّة" (¬3) [وحكم علي - رضي الله عنه - باليمن بالإقراع في جماعة وقعوا على أمة في طهر في اليمن] (¬4)، وأخذ به جماعة من أهل الحديث. تنبيهان: الأول: لا حجة لمن نفى القافة في قصة اللعان السالفة في كونه -عليه الصلاة والسلام- لاعن عليه ولم يؤخره حتى تضع ويرى الشبه فيه لأنه عارض الشبه هنا الفراش وهو أقوى، كما أسلفناه في الحديث قبله أيضًا. الثاني: قال ابن حزم في "كتاب الاستقصاء فيما خالف فيه ¬

_ (¬1) انظر: إكمال إكمال المعلم (4/ 84) أخذًا من حديث زيد بن أرقم المخرج في سنن أبي داود (2269، 2271)، وابن ماجه (2348)، والبيهقي (10/ 267)، ولفظه: أتى علي بن أبي طالب باليمن في ثلاثة نفر، وقعوا على جارية في طهر واحد، فجاءت بولد، فجاءوا يختصمون في ولدها، فقال علىّ لأحدهم: تطيب نفسًا، وتدعه لهذين؟ فقال: لا. وقال للآخر مثل ذلك. فقال: لا، وقال للآخر مثل ذلك، فقال: لا. فقال: أنتم شركاء متشاكسون، وإني أقرع بينكم، فأيكم أصابته القرعة ألزمته الولد، وغرمته ثلثي القيمة، أو قال ثلثي قيمة الجارية، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه، وقال: "ما أعلم فيها غير ما قال علي". (¬2) المفهم (5/ 2488). (¬3) شرح السنّة (9/ 286). (¬4) زيادة من هـ، والمراد بقوله في السنن أي سنن أبو داود وابن ماجه وغيرهم كما هو مخرج في ت (1) هنا.

مالك الموطأ" (¬1). ومما احتجوا بالحديث في مكان لم يرد فيه وتركوه حيث ورد حديث مجزز، فإنه إنما ورد في حديث ابن حرة لأن أم أيمن أعتقها -عليه الصلاة والسلام- وزوجها زيدًا، فولدت له أسامة وهم إنما يقضون بالقافة في ابن الأمة وقالوا: الفراش في الحرة وإنما تكون الأمة فراشًا إذا أقرَّ السيد بالوطء ولم يدعى استبراء فإن ادعاه فليست فراشًا، وحديث "الولد للفراش"، إنما جاء في ابن أمة زمعة، فوضعوا كلًا من الحديثين في غير موضعه، وكذا تعجب القرطبي من ذلك، فقال في "مفهمه" (¬2): العجب إن هذا الحديث الذي هو أصل الباب إنما وقع في الحرائر، فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا ما لا يجوز عند الأصوليين، قال: والأولى رواية ابن وهب عن مالك أن لا يقصر ذلك على ولد الأمة لأن تفرقته بينهما بأن الواطىء في الاستبراء يستند [وطؤه] (¬3) لعقد صحيح، فله شبهة الملك، فيصح إلحاق الولد به، إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من وطئه؛ بخلاف الوطء في العدة إذ لا عقد (¬4) يصح، [وعلى هذا فـ] (¬5) يلزم منها أن من نكح في العدة أن يُحد، ولا يلحق به الولد، إذ لا شبهة له وليس مشهور مذهبه. ¬

_ (¬1) انظر: ابن حزم الأندلسي لسعيد الأفغاني (51). (¬2) المفهم (5/ 2487). (¬3) زيادة من المرجع السابق. (¬4) في هـ (إذ لا). (¬5) زيادة من المرجع السابق.

الحديث السادس

الحديث السادس 346/ 6/ 66 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "ذكر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ولم يفعل ذلك أحدكم؟ ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، فإنه ليست نفس مخلوقة إلَّا الله خالقها" (¬1). الكلام عليه من وجوه: واعرف قبلها أن البخاري لم يصل سنده به كما نبه عليه عبد الحق في "جمعه". الأول: "العزل" هو أن يجامع فإذا قارب الإِنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وتتأذى المرأة فيه، وهو طريق إلى قطع النسل، وسماه الشارع "الوأد الخفي" في الصحيح (¬2) لأنه قطع طريق الولادة كما يقتل المولود بالوأد. ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (2229)، ومسلم (1438)، وأبو داود (2172)، والترمذي (1138)، والدارمي (2/ 148)، وأحمد (3/ 11، 23، 53، 68، 78)، الطيالسي (2177)، ابن أبي شيبة (4/ 222)، وأبو يعلى (1050، 1253، 1254، 1230، 1306)، والنسائي (6/ 107)، والبيهقي (7/ 230)، ومالك (2/ 94). (¬2) مسلم (1442).

ومعنى قوله: "فإنه ليست نفس منفوسة إلَّا الله خالقها" أن ترك العزل ليس فيه ضرر عليهم، فإن الله [تعالى] (¬1) قدر خلقه سواء عزلتم أو لا، فلا فائدة في عزلكم فإنه إن كان الله قدر خلقها سبقكم الماء فلا ينفعكم حرصكم في منع الخلق وقد أتت القدرة بخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وبخلق حواء منه وبخلق عيسى بن مريم من غير ذكر. وفي "مسند أحمد" و "صحيح ابن حبان" من حديث رجل جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن العزل فقال: "لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها أو يخرج الله منها ولدًا، وليخلقن الله نفسًا هو خالقها" (¬2). الثاني: "العزل" مكروه عندنا أو خلاف الأولى في كل حال وكل امرأة وإن رضيت لما أسلفناه. وأما التحريم فقال أصحابنا لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة، سواء رضيت أم لا، لأن عليه ضررًا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولدها رقيقًا تبعًا لأمه. وأما زوجته الحرة: فإن أذنت فيه لم يحرم، لأنه إذا ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) عند أحمد من رواية أنس بن مالك (3/ 140)، وذكره في كشف الأستار (3/ 29)، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 299). ومن رواية جابر بن عبد الله عن رجل من الأنصار عند ابن حبان (4194)، وقد ذكر الهيثمي أحاديث في مجمعه عن عدد من الصحابة في باب ما جاء في العزل (4/ 49).

[جاز] (¬1) ترك أصل وطئها بغير رضاها فلأن يجوز العزل برضاها أولى وإلَّا فوجهان: أصحهما لا يحرم أيضًا لهذا لحديث، قال أصحابنا: ولأن حقها في الوطء لا في الإِنزال بدليل انقطاع طلبها في الإِيلاء والعنة بتغييب الحشفة. قالوا: فعلى هذا هل يكره؟ فيه وجهان [و] (¬2) في "مسند أحمد" (¬3) و"سنن ابن ماجه" (¬4) من حديث عمر أنه -عليه الصلاة والسلام- "نهى عن الحرة إلَّا بإذنها" وفي سنده ابن لهيعة، وقد سئل عنه الدارقطني فاعله، ولهم وجه آخر، أنه لا يجوز وإن رضيت، لأنه "الوأد الخفي" كما سلف. ونقل ابن عبد البر (¬5): الرخصة في العزل عن جماعة من الصحابة، وقال: إنه قول جمهور الفقهاء، وعن جمع منهم الكراهة وكان ابن عمر يضرب بعض ولده إذا فعل. واختلف فيه بحضرة عمر. وقال علي: إنها لا تكون موؤدة حتى تمر عليها التارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12). . . .} الآية، [فقال] (¬6) عمر: صدقت، وأطال الله بقاءك ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) أحمد (1/ 31)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وضعفه صاحب الزوائد بابن لهيعة وابن لهيعة عندنا ثقة. اهـ. (¬4) ابن ماجه (1928). (¬5) الاستذكار (18/ 205، 206). (¬6) في هـ[فقد] وهو تصحيف.

قيل: أول من قال هذه اللفظة في الإِسلام عمر لعلي. وروى ابن المسيب عن عمر، وعثمان الكراهة. قال: ولا خلاف أن الحرة لا يعزل عنها زوجها إلَّا بإذنها. قلت: قد أسلفنا الخلاف فيه عندنا ثم نقل عن أبي حنيفة ومالك إلحاق الزوجة الأمة بالحرة، وعن الشافعي أنه يعزل عنها دون إذن مولاها وإذنها قال: وقيل لا يعزل عنها إلَّا بإذنها. قال الباجي (¬1): وعندي أن هذا صحيح، لأن لها بالعقد حقًّا في الوطء، فلا يجوز أن يعزل عنها إلَّا بإذنها وإذن مولاها لحقه في طلب الولد. ونقل الشيخ تقي الدين (¬2): عن المالكية أن مذهبهم الكراهة في الحرة إلَّا بإذنها، وفي الزوجة الأمة إلَّا بإذن السيد لحقهما في الولد دون السراري. وأغرب ابن هبيرة فنقل الإِجماع على جواز العزل عن الأمة، وعلى أنه ليس له العزل عن الحرة إلَّا بإذنها. [وقال] (¬3) القاضي عياض في الأخير: إنه قول أصحاب الشافعي ومالك وتبعه الفاكهي، وهو وجه مرجوح عندنا، كما علمته. وحاصل الخلاف عندنا في الحرة والأمة أربعة أوجه. أصحها: الجواز المطلق. ¬

_ (¬1) المنتقى (4/ 143). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 278). (¬3) في هـ (ونقل).

ثانيها: المنع المطلق وصححه القاضي حسين. ثالثها: الجواز في الأمة. رابعها: تخصيصه في الحرة بالرضى، وادعى المتولي أنه المذهب، ولا خلاف على المشهور في جوازه في الأمة، كما جزمت به أولًا، والأولى تركه. وأما المستولدة: ففيها خلاف مرتب على المنكوحة وأولى بالجواز، لأنها غير راسخة في الفراش، ولهذا لا يقسم لها. قال إمام الحرمين: وحيث حرمنا فذلك إذا نزع بقصد أن يقع الإِنزال خارجًا تحرزًا عن الولد، فأما إذا عنَّ له أن ينزع لا على هذا القصد فيجب القطع بأنه لا يحرم. ووقع في "شرح ابن العطار" أن التحريم لم يقل به أحد إلَّا في صورة على وجه لبعض أصحاب الشافعي، وهو العزل عن الحرة بغير إذنها، وقد علمت أنه قيل به في الأمة والمستولدة. الثالث: فيه إشارة إلى إلحاق الولد، وإن وقع العزل، وهو قول أكثر الفقهاء. الرابع: فيه إرشاد إلى الإِيمان بالقدر وسكون النفس إليه. خاتمة: في الصحيحين من حديث أبي سعيد أيضًا من أن السائل عن العزل [هو] (¬1) وغيره، وأن السؤال وقع في غزوة بني المصطلق لا في غزوة أوطاس، كما ادعاه موسى بن عقبة لما سبوا كرائم العرب، وطالت عليهم العزوبة، ورغبوا في الفداء فتنبه لذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من هـ.

الحديث السابع

الحديث السابع 347/ 7/ 66 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري (5207)، ومسلم (1440)، وأبو داود (2173)، والترمذي (1137)، والحميدي (1257)، وأحمد (3/ 309، 377، 380)، والبيهقي (7/ 228)، عبد الرزاق (12566)، وأبو يعلى (2193، 2255)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في فتح الباري (9/ 305، 306). قوله: (كنا نعزل والقرآن ينزل، وعن عمرو عن عطاء، عن جابر كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ينزل) وقع في رواية الكشميهني "كان يعزل" بضم أوله وفتح الزاي على البناء للمجهول، وكأن ابن عيينة حدث به مرتين: فمرة ذكر فيها الأخبار والسماع، فلم يقل فيها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومرة ذكره بالعنعنة فذكرها. وقد أخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان صرح فيها بالتحديث قال: "حدثنا عمرو بن دينار"، وزاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان: "على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وزاد إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنه قال حين روى هذا الحديث: "أي لو كان حرامًا لنزل فيه"، وقد أخرج مسلم هذه الزيادة عن إسحاق بن راهويه عن سفيان فساقه بلفظ: "كنا نعزل والقرآن ينزل"، قال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سفيان: لو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن، فهذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطًا، وأوهم كلام صاحب "العمدة" ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث فأدرجها, وليس الأمر كذلك فإني تتبعته من المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة، وشرحه ابن دقيق العيد على ما وقع في "العمدة" فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول لكنه مشروط بعلمه بذلك انتهى. ويكفي في علمه به قول الصحابي إنه فعله في عهده، والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث وهي أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حكم الرفع عند الأكثر، لأن الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند صوم، وهذا من الأول فإن جابرًا صرح بوقوعه في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك، والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابرًا أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ، أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع ولو كان حرامًا لم نقر عليه، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر: "كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمنا وانبسطنا" أخرجه البخاري. وقد أخرجه مسلم أيضًا من طريق أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا"، ومن وجه آخر عن أبي الزبير عن جابر: "أن رجلًا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها. فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، قال: قد أخبرتك"، ووقعت هذه القصة عنده من طريق سفيان بن عيينة بإسناد له آخر إلى جابر. وفي آخر:

الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث رواه مسلم بلفظين. أحدهما: من حديث عطاء عن جابر: "كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا". الثاني: عن أبي الزبير عن جابر "كنا نعزل والقرآن ينزل". زاد إسحاق ابن إبراهيم أحد رواته، قال سفيان: فلو كان شيئًا يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن". ورواه البخاري من حديث عطاء عن جابر بلفظ: "كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -", وفي لفظ: "والقرآن ينزل" وفي لفظ: "كنا نعزل والقرآن ينزل". الثاني: قد أسلفنا الكلام على حكم العزل في الحديث قبله، والخلاف فيه عندنا وعند السلف، وهذا الحديث دال على جوازه مطلقًا، وما عارضه محمول على كراهة التنزيه والأحاديث الواردة بالإِذن دالة على عدم التحريم لا على نفي الكراهة. واستدل جابر - رضي الله عنه - بالتقرير من الله تعالى على الجواز. قال الشيخ تقي الدين: وهو استدلال غريب (¬1)، وكان يحتمل ¬

_ = "فقال أنا عبد الله ورسوله"، وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة بسند آخر على شرط الشيخين بمعناه، ففي هذه الطرق ما أغنى عن الاستنباط، فإن في إحداها التصريح باطلاعه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الأخرى أذنه في ذلك وإن كان السياق يشعر بأنه خلاف الأولى كما سأذكر البحث فيه. (¬1) قال في الصنعاني في حاشية إحكام الأحكام (4/ 279) على قوله "وهو =

أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنه مشروط بعلمه بذلك، ولفظ الحديث لا يقتضي إلَّا الاستدلال بتقرير الله تعالى. قلت: الرواية الأولى التي نقلناها عن مسلم دالة على أنه -عليه الصلاة والسلام-[. .] (¬1) اطلع عليه وقرره ولعله خص القرآن بالذكر في الرواية الأخرى لشرفه. الثالث: في الحديث أيضًا دلالة لما كانت الصحابة -رضوان الله عليهم- من التمسك بالكتاب في كل شيء حتى في العزل عن النساء. ¬

_ = استدلال غريب". كأن غرابته من حيث إنه لا يستدل بتقريراته تعالى أفعال عباده في هذه الدار، لأنه لم يجعلها دارًا للجزاء بل دار تخلية، وإلَّا لزم أن يقال: الله تعالى قد أقر العصاة بعدم معاجلتهم بالعقوبة، هذا أقرب ما تعلل به الغرابة، وأما قول القائل، لو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن يريد أن زمان النبوة لا يقر الله المؤمنين على منهى عنه فإنه تعالى نبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما صلى وفي نعله قذر وهذا بالأولى، إلَّا أنه قد يقال إن ذلك خاص به - صلى الله عليه وسلم - على أنك قد عرفت مما سقناه أنه ليس من قول جابر. اهـ. (¬1) في هـ زيادة (بريد).

الحديث الثامن

الحديث الثامن 348/ 8/ 66 - عن أبي ذر - رضي الله عنه -، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه -وهو يعلمه- إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له: فليس منا وليتبوأ مقعده من النار. ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه (¬1). كذا عند مسلم، وللبخاري نحوه. الكلام عليه من وجوه: الأول: قوله: وللبخاري نحوه: هو كما قال، فإنه أخرجه في أواخر بدء الخلق (¬2) بلفظ: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قومًا ليس فيهم، فليتبوأ مقعده من النار"، وأخرجه في "الأدب" (¬3) بلفظ آخر: وهو لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك". ¬

_ (¬1) البخاري (6045) مسلم (111)، أحمد (5/ 166). (¬2) (3508). (¬3) البخاري (6045).

الثاني: في التعريف براويه هو أبو ذر جندب بن جنادة على أصح الأقوال الكثيرة فيه الغفاري أحد النجباء والخدام والأرداف، ويقال فيه أيضًا: أبو الذر روى عنه ابن عباس وغيره. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتا حديث وثمانون حديثًا، اتفقا على اثني عشر، انفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر. قال -عليه الصلاة والسلام- في حقه: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر"، وقال أيضًا: "أمرت بحب أربعة من أصحابي وأخبرني الله أنه يحبهم علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد". وقال "أبو ذر في أمتي علي زهد عيسى بن مريم" وهو أول من حيا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحية الإِسلام ولا عقب له وكان قوّالًا بالحق وكان يتأله في الجاهلية ويقول: لا إله إلا الله ولا يعبد الأصنام وهو رابع أربعة أو خامس خمسة في الإِسلام، مات بالربذة سنة اثنين وثلاثين، وأبعد من قال سنة أربع وعشرين، وصلى عليه ابن مسعود، وقيل: جرير، ومناقبه جمّة، وقد بسطت ترجمته فيما أفردناه في الكلام على رجال هذا الكتاب، فليراجع منه. الثالث: في ألفاظه ومعانيه. "من" في قوله: "ليس من رجل" زائدة في المعنى. "والدعاء" الانتساب. والتقييد بالرجل خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأة كذلك. و"الكفر" هنا متروك الظاهر عند الجمهور، لأن أهل السنة لا تكفر بالمعاصي وفي تأويله أوجه:

أحدها: كفر الإِحسان والنعمة وحق الله تعالى وحق أبيه. ثانيها: أنه قارب الكفر لعظم الذنب فيه بتسميته للشيء باسم ما قاربه. وقد جاء: "المعاصي بريد الكفر"، ونحو هذا أنه يشبه فعله فعلهم. ثالثها: محله على فاعل ذلك مستحلًا له. وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية. ومعنى قوله: "فليس منا": أي [ليس] (¬1) مثلنا أو ليس مهتديًا بهدينا ولا متبعًا لسنتنا. ومن العلماء من قال إبهام معناه أولى من تأويله، لأنه أبلغ من الزجر والوعيد هنا أخف من الوعيد إلى الادعاء إلى غير أبيه، لأنه أخف في المفسدة منه إذا كانت الدعوى بالمال مثلًا وليس في اللفظ ما يقتضي الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلًا. وقوله: "فليتبوأ مقعده من النار"، أي ينزل منزلة منها، أو فليتَّخذ منزلًا بها. قال الخطابي (¬2): وأصله من [مباءة] (¬3) الإِبل، وهي أعطانها. ثم قيل: إنه دعاء بلفظ الأمر أي بوّأه الله ذلك. وقيل: هو خبر وهو أبلغ في الزجر، والمعنى هذا جزاؤه، فقد يجازى، وقد يعفى عنه، وقد يوفق للتوبة ويسقط عنه ذلك. ¬

_ (¬1) في هـ ساقط. (¬2) أعلام الحديث، شرح البخاري (1/ 212). (¬3) في المخطوطتين (باه) وما أثبت من المرجع السابق.

وقوله: "أو قال: عدو الله"، أي أو قال: يا عدو الله، فهو منصوب على النداء، ويجوز رفعه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي قال له: أنت عدو الله [ونحو ذلك] (¬1). وقول: "إلا حار عليه" في "إلا" وجهان: أحدهما: أنها واقعة على المعنى أي ما يدعوه أحد إلا حار عليه. والثاني: [على اللفظ في قوله: "ليس من رجل"] (¬2). وحار -بالحاء المهملة-: أي رجع عليه الكفر. قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} (¬3)، أي يرجع حيًا، وفي تأويله أوجه (¬4): أحدها: حمله على المستحل لذلك. وثانيها: حمله على الخوارج المكفرين للمؤمنين. قاله مالك ابن أنس، ولعله مبني على القول بتكفيرهم، وهو خلاف ما عليه الأكثر. وثالثها: أن المعنى رجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره إياه. رابعها: أنه يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي "بريد ¬

_ (¬1) في هـ ونحوه. (¬2) في شرح صحيح مسلم (1/ 151) معطوفًا على الأول وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من رجل". (¬3) سورة الانشقاق: آية 14. (¬4) انظر المرجع السابق (1/ 50).

الكفر" -كما سبق-، ويخاف على المكثر منها أن تكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيد هذا رواية أبي عوانة في مستخرجه (¬1) على "صحيح مسلم": "والإباء بالكفر"، وفي رواية: "إذا قال لأخيه: يا كافر، وجب الكفر على أحدهما". خامسها: المعنى فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع عليه حقيقة الكفر، بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كفر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفر إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإِسلام. الرابع: في فوائده: الأولى: تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والاعتزاء إلى نسب غيره، ولا شك أن ذلك كبيرة لما يتعلق به من المفاسد العظيمة. وقد سلف بعضها في أول اللعان، والتبني كان في أول الإِسلام ثم نسخ. وشرط -عليه الصلاة والسلام- العلم لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدَد الآباء والأجداد، ويتعذر العلم بحقيقتها، وقد يقع اختلال في النسب في الباطن من جهة النساء فلا يشعر به (¬2). فشرط العلم بذلك من حيث إن الإِثم إنما يكون في حق العالم بالشيء. الثانية: أنه لا يأثم بالانتساب المذكور إلا إذا كان عالمًا بخلاف ما ادّعاه دون الجاهل كما قررناه وعليه التعلق. الثالثة: جواز إطلاق الكفر على أصحاب المعاصي والبدع ¬

_ (¬1) مسند أبي عوانة (1/ 22، 23). (¬2) ساقه من إحكام الأحكام (4/ 280).

لقصد الزجر، لا لأنه كفر حقيقي، إلا أن يعلم اعتقاد تحليل المحرم أو عكسه فيكون حقيقيًّا. الرابعة: تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء، سواء تعلق به حق لغيره أم لا، ويدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها مالًا وعلمًا وتعلمًا ونسبًا وحالًا وصلاحًا ونعمة وولاء .. ويخرج ذلك من الأوصاف خصوصًا إذا ترتب عليها مفاسد وإليه تفسير الحديث الآخر في الصحيح: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (¬1)، وقد جعل الوعيد هنا بالنار، وهو مقتض لدخولها, لأن التمييز في الأوصاف فقط يشعر بثبوت الأصل. قال الشيخ تقي الدين (¬2): وأقول إنه يدخل فيه أيضًا ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى، من نصب مسخَّر يدعى في بعض الصور، حفظًا لرسم الدعوى والجواب، وهذا المسخر يَدَّعي ما يعلم أنه ليس له، والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضًا، وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع، حتى يختص بها هذا العموم، والمقصود الأكبر في القضاء إيصال الحق إلى مستحقه. فانخرام هذه [المراسيم] (¬3) الحكمية -مع تحصيل مقصود القضاء، وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها- أولى من مخالفة هذا الحديث، والدخول تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه. وهذه طريقة ¬

_ (¬1) البخاري (5219)، ومسلم (2130)، وأبو داود (4997)، والحميدي (319)، وأحمد (6/ 345، 346، 353)، والبغوي (2331). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 283). (¬3) في هـ المسائل.

أصحاب مالك، أعني عدم التشديد في هذه المراسيم. الخامسة: أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه. السادسة: الوعيد العظيم على من كفَّر أحدًا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد، فغلطوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية، وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك، وقد اختلف الناس في التكفير وسببه، حتى أفرد بالتصنيف. قال الشيخ تقي الدين: والذي يرجع إليه النظر في هذا أن مآل المذاهب: هل هو مذهب أم لا؟ أي والأكثرون على الأول، فمن أكثر المبتدعة قال: إن مآل المذهب مذهب. فنقول: المجسمة كفار، لأنهم عبدوا جسمًا، وهو غير الله تعالى، فهم عابدون لغير الله، فمتى عبد غير الله كفر. وتقول: المعتزلة كفار، لأنهم وإن اعترفوا بأحكام الصفات فقد أنكروا الصفات. ويلزم من إنكارها إنكار أحكامها، ومن أنكر أحكامها فهو كافر. وكذلك المعتزلة تنسب الكفر إلى غيرها بطريق المآل. قال الشيخ تقي الدين (¬1): والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه يكون حينئذ ¬

_ (¬1) انظر له ولما قبله: إحكام الأحكام (4/ 284، 286).

مكذبًا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذًا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقًا ودلالة، وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه: أن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الإِجماع، ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقه كفر، لأنه مكذب له. وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، وربما خفي سبب هذا اللفظ على بعض الناس، وحمله على غير محمل الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتصي أن من دعا رجلًا بالكفر -وليس كذلك- رجع عليه الكفر، وكذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" وكأن هذا المتكلم يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين: إما المكفِّر، وإما المكفَّر. فإذا كفّرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر، فالكفر راجع إليه. هذا آخر كلام الشيخ، وهو من النفائس. السابع: تحريم دعاء المسلم بالكفر وظاهر الحديث يقتضي أنه لا يكفر إلا بشرط أن لا يكون الكفر كما دعاه به، فيرجع ما دعاه به إليه، وبه صرح المتولي من الشافعية فقال: لو قال مسلم لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر، لأنه سمى الإِسلام كفرًا. قلت: وفي صحيح ابن حبان (¬1) من حديث أبي سعيد أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما أكفر رجل رجلًا قط إلا باء أحدهما بها إن ¬

_ (¬1) ابن حبان (248).

كان كافرًا وإلا كفر بتكفيره"، وهو مؤيد للوجه الآخر أنه يكفر بالدعاء بالكفر (¬1). ¬

_ (¬1) آخر الجزء الثالث، يتلوه في الجزء الرابع كتاب الرضاع، على يد فقير رحمة ربه المقر بذنبه محيد بن سليمان بن عوض بن سليمان البكري، عفا الله عنه وعن والديه وعن مؤلفه وعن جميع المسلمين في أربع عشر شهر جمادى الآخر خمس وسبعمائة، أحسن الله تقضيها وما بعدها في جدة عالية.

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عُمر بن عَليٍّ بن أحمد الأنصاري الشَّافعيِّ المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء حقّقه وضبط نصه وعزا آياته وخرّج أحاديثه ووثق نقوله وعلّق عليه عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء التاسع كتاب الرضاع - كتاب الأيمان والنذور (349 - 386) حديث دارُ العاصمة لِلنَشر والتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع

67 - كتاب الرضاع

بسم الله الرحمن الرحيم اللهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلِّم 67 - كتاب الرضاع هو بفتح الراء، وكسرها قليل، وكذا الرضاعة. وقرأ أبو حيوة وغيره بالكسر، وقد رضِع الصبي أمه -بكسر الضاد- يرضَع -بفتحها- رضاعًا. وأهل نجد يعكسون ويجعلون المصدر رضعًا. وأرضعته أمه (¬1) , وامرأةٌ رضع، أي لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاعه، قلت: مرضعة. وذكر المصنف -[رحمه الله]- (¬2) في الباب ستة أحاديث، والسادس في الحضانة. ¬

_ (¬1) انظر: تهذيب اللغة (1/ 473)، وإصلاح المنطق (105، 213)، والمخصص (1/ 125)، ومعاني القرآن للفراء (1/ 149). (¬2) في ن هـ ساقطة.

الحديث الأول

الحديث الأول 349/ 1/ 67 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة: "لا تحل لي؛ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في اسم ابنة حمزة هذه، قال ابن العطار في "شرحه": لا يحضرني اسمها ولا رأيته في أسماء المبهمات. قلت: تحصَّل لي في اسمها ستة أقوال فاستفدها: أحدها: أمامة. ثانيها: أمة الله. ثالثها: سلمى. رابعها: أم الفضل، وفي هذا تجوز كنية لا اسمًا. حكاهن ¬

_ (¬1) البخاري (2645)، ومسلم (1447)، والنسائي (6/ 100)، وفي الكبرى له (5447)، وابن ماجه (1938)، وأبو داود (2055)، وأحمد (1/ 275، 290، 329)، والمنتقى (264)، والبيهقي (7/ 452)، وعبد الرزاق (7/ 476)، والطبراني (12/ 181).

الحافظ جمال الدين المزي في "أطرافه". خامسها: عمارة، قاله ابن بشكوال (¬1) وصرَّح بأن أم الفضل كنية لها. سادسها: فاطمة، قاله أبو نعيم (¬2) وابن طاهر (¬3). قال المحب الطبري في أثناء النكاح: الظاهر أن فاطمة درجت صغيرة، وأن هذه أمامة. الثاني: هذا الحديث مما ورد على سبب، فإنه -عليه الصلاة والسلام- أريد على ابنة حمزة -كما ثبت في الصحيحين في هذا الحديث- فأجاب بأنها لا تحل له, لأن أباها حمزة -وإن كان عمه من النسب- فقد ارتضع معه من ثويبة -كما سلف في النكاح-، فصار أخاه من الرضاعة أيضًا. وسيأتي في الحديث السادس أن عليًّا - رضي الله عنه - هو الذي سأل ذلك عقب الفراغ من عمرة القضاء. الثالث: الحديث دال على حرمة بنت الأخ من الرضاعة، وأن ما حَرُم بالنسب حرم بالرضاع، ونص القرآن دال على حرمة سبع ¬

_ (¬1) كتاب غوامض الأسماء المبهمة (709)، وذكر أن اسمها "أمامه" وذكرها بكنية أم الفضل. (¬2) معرفة الصحابة (3409). (¬3) إيضاح الإِشكال خبر رقم (201).

بالنسب؛ قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (¬1). وهذه السنّة الصريحة دالة على تحريمهن بالرضاع. وقد استثنى جماعة صورًا من هذا العموم يحرمن في النسب ولا يحرمن في الرضاعة (¬2). والمحققون على عدم استثنائها, لأنها ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 23. (¬2) هذه الصور هي: 1 - أم الأخ أو الأخت من الرضاع: فإنه يجوز الزواج بها, ولا يجوز الزواج بأم الأخ أو الأخت من النسب لأبيه، كأن ترضع امرأة طفلًا، وكان لها ابن من النسب، فيجوز لهذا الابن أن يتزوج بأم هذا الطفل، وهي أم أخيه من الرضاع. وذلك لأن أم الأخ أو الأخت من النسب إما أن تكون أمه إن كانا شقيقين أو أخوين لأم، أو زرجة أبيه إن كانا أخوين، وهذا لم يوجد في الرضاع. 2 - أخت الابن أو البنت من الرضاع: فإنه يحل للأب أن يتزوج بها، ولا يحل له أن يتزوج بأخت ابنه أو بنته من النسب، كأن ترضع امرأة طفلًا، فلزوج هذه المرأة أن يتزوج بأخت هذا الطفل، ولأبي هذا الطفل أن يتزوج بنت هذه المرضعة. وحرمة أخت الابن أو البنت من النسب؛ لأنها إما أن تكون بنته أو بنت زوجته المدخول بها، وكلتاهما يحرم الزواج بها، وهذا لم يوجد في الرضاع. أخت الأخ وأم الرضيع والمرضعة: ذكر الحنفية أيضًا أنه يجوز للرجل الزواج بأخت الأخ من الرضاع، وأخت الأخ من النسب، وأم الرضيع من النسب، وبالمرضعة. أما أخت الأخ من الرضاع فكأن يرضع طفل من امرأة، فيجوز لأخي هذا الطفل الذي لم =

ليست داخلة فيه، وقد أوضحت ذلك كله في كتب الفروع فإنه أمس به؛ وكذا شروط الحرمة (¬1)، فراجعه منها. ¬

_ = يرضع أن يتزوج بنت هذه المرأة، وهي أخت أخيه من الرضاع، وهذا معنى قول العوام: افلت رضيعًا وخذ أخاه. ومثلها أخت أخته من الرضاع. وأما صورة أخت أخيه من النسب: فكأن يوجد أخوان لأب، ولأحدهما أخت من أمه، فيحل لأخيه الآخر أن يتزوج بها، وهي أخت أخيه من النسب، إذ لا صلة بين هذه الأخت وبين الرجل، لا بنسب ولا رضاع، وإنما هي بنت زوجة أبيه. وكذلك لو كان هناك أخوان لأم، ولأحدهما أخت نسبية من الأب فإنها تحل لأخيه من الأم. اهـ من الفقه الإِسلامي (7/ 139). (¬1) شروط الرضاع المحرم هي ما يأتي: الشرط الأول: أن يقع الرضاع في السنتين الأوليين من عمر الرضيع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رضاع إلَّا ما كان في الحولين"، وزاد مالك شهران وعند أبي حنيفة ستة أشهر زيادة على الحولين. الشرط الثاني: أن يرضع الطفل خمس رضعات متفرقات يمص الثدي ثم يتركه خمس مرات.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 350/ 2/ 67 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة" (¬1). هذا الحديث في معنى الحديث الذي قبله، وهما دالّان أيضًا على أن لبن الفحل يحرم بالنسبة إليه أيضًا، وهو قول أكثر [أهل] (¬2) العلم. وشذ أهل الظاهر، وابن علية، وابن بنت الشافعي، فقالوا: لا تثبت الحرمة بين الرجل والرضيع. ونقله المازري (¬3) عن ابن عمر وعائشة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬4)؛ ولم يذكر البنت والعمة كما ذكرهما في النسب. ¬

_ (¬1) البخاري (2646)، ومسلم (1444)، ومالك (2/ 601، 607)، وأبو داود (2055)، والترمذي (1147)، والنسائي (6/ 98، 99)، والدارمي (2/ 155، 156)، والبيهقي (7/ 451) (7/ 158)، وأحمد (6/ 44، 51، 178)، وعبد الرزاق (3952). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) المعلم (2/ 162). (¬4) سورة النساء: آية 23.

واحتج الجمهور: بالأحاديث الصحيحة في ذلك؛ منها حديث عائشة الآتي في عمها، وفي الصحيحين مثله في عم حفصة أيضًا (¬1)، وقوله -عليه الصلاة والسلام- مع إذنه فيه إنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. وأما الآية فالجواب عنها: أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه لو لم [يعارضه] (¬2) دليل آخر، كيف وقد جاءت هذه الأحاديث الصحيحة وما سلف عن عائشة بعيد، فإنها راوية التحريم فكيف تخالفه؟! لا جرم أن بعضهم قال لم يصح ذلك عنها. نعم قال الشافعي (¬3): [و] (¬4) نشر الحرمة إلى الفحل خارج عن القياس، فإن اللبن ليس ينفصل منه وإنما ينفصل منها. ثم اعلم أن الأمة مجمعة على أنه لا يترتب على الرضاع أحكام الأمومة من كل وجه؛ فلا توارث، ولا نفقة، ولا عتق بالملك، ولا عقل، ولا ترد شهادته له، ولا يسقط عنها القصاص بقتله، وإنما تترتب عليه الحرمة والمحرميَّة فقط. ¬

_ (¬1) البخاري (2646، 5099)، ومسلم (1444)، والترمذي (1147)، وأبو داود (2055)، وابن ماجه (1937)، والنسائي (6/ 99). (¬2) في هـ (يعاره). (¬3) أشار إلى ذلك في معرفة السنن والآثار (11/ 153). (¬4) زيادة من هـ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 351/ 3/ 67 - وعنها: أن أفلح -أخا أبي القعيس- استأذن عليَّ، بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له، حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله وإن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فقال: "ائذني له، فإنه عمك تربت يمينك" (¬1). قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب. وفي لفظ: استأذن عليَّ أفلح فلم آذن له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدق أفلح، ائذني له ¬

_ (¬1) البخاري (5239)، ومسلم (1445)، والترمذي (1148)، وأبو داود (2057)، وابن ماجه (1948، 1949)، ومالك (2/ 601، 602)، والنسائي (6/ 103)، وفي الكبرى له (3/ 302، 303)، والدارقطني (4/ 177، 178)، وأبو يعلى (4501)، والبيهقي (7/ 452)، والحميدي (229)، والدارمي (2/ 156)، وعبد الرزاق (13938، 13940، 13941)، وأحمد (6/ 33، 36، 37، 38، 177، 271، 20)، والبغوي (9/ 73).

تربت يمينك"، أي افتقرت والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به. الكلام عليه من وجوه: ولم يتكلم عليه الشيخ تقي الدين في شرحه وإنما أورده فقط، وهذا اللفظ الأخير خرَّجه البخاري في باب الشهادة على الأنساب والرضاع. الأول: أفلح: بالفاء وكنيته أبو الجعد الأشعري، واسمه وائل بن أفلح كما قاله الدارقطني وأبو عمر. وقال صاحب "التنقيب" على "المهذب": اسمه وائل بن حجر، كذا رأيته فيه، وهو أخو أبي القعيس بقاف مضمومة ثم عين مهملة مفتوحة ثم مثناة تحت ثم سين مهملة [وقيل اسمه الجعد] (¬1) أيضًا حكاه أبو عمر قال: وأفلح بن أبي القعيس، ويقال أخو أبي القعيس لا أعلم له خبرًا ولا ذكرًا إلا في حديث عائشة في الرضاع، وقد اختلف فيه فقيل: أبو القعيس، وقيل: أخو أبي القعيس. قلت: وفي رواية لمسلم أفلح بن قعيس قال: وأصحها ثانيها، ونص في "استيعابه" على أنهما من الصحابة أعني: أفلح، وأخا أبي القعيس. الثاني (¬2): قولها: "استأذن عليّ بعدما أنزل الحجاب" إلى آخره، نص في أن سؤالها كان وهو حي، ووقع في الصحيحين (¬3) ¬

_ (¬1) ن هـ ساقطة. (¬2) ن هـ ساقطة. (¬3) انظر تخريج الحديث.

عنها: "أنه لو كان فلان حيًّا لعمها من الرضاعة دخل عليّ"، فقيل: إنهما عمّان، أحدهما: أخو أبيها أبي بكر، من الرضاع، أرضعتهم امرأة واحدة؛ والثاني: أخو أبيها أبي القعيس من الرضاعة. وقيل: هما واحد، و [غلطه] (¬1) النووي (¬2) لما أسلفناه من كون عمها حيًّا في الأولى، وأنه استأذن عليها؛ وميتًا في الثانية، قاله تبعًا للقاضي عياض، والأشبه الأول، أي فكان سؤالها مرتين في وقتين، إما لأنها نسيت القصة الأولى [فاستجدت] (¬3) سؤالًا آخر، وإما لأنها جوَّزت تبدل الحكم فسألت مرة أخرى أو لأنه يحتمل أن أحدهما كان عمًا من أحد الأبوين والآخر منهما أو عمًا أدنى، ونحو ذلك من الاختلاف، فخافت أن تكون الإِباحة مختصة بصاحب الوصف المسؤول عنه أولًا. الثالث: [وقع] (¬4) في رواية الباجي (¬5) أن أبا القعيس أخو عائشة، وهو وهم، والصواب ما سلف من كونه أبًا لها [وقال ابن الأثير في "معرفة الصحابة" (¬6) هو عمها. وقيل: أبوها. ثم ذكر سنده عنها قالت: جاءني أبو القعيس، فلم أذن له، قال ليدخل عليك، الحديث. وفي آخره وكان أبو القعيس أخا ظئر عائشة] (¬7). وادعى ¬

_ (¬1) في هـ (وغلطهما). (¬2) شرح مسلم (10/ 20). (¬3) في الأصل (فاتخذت) وما أثبت من هـ. (¬4) هـ ساقطة. (¬5) المنتقى (4/ 149). (¬6) أُسد الغابة (5/ 277). (¬7) زيادة من ن هـ.

بعض الشرّاح أن ظاهر أول الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة أن أفلح وأبا القعيس عمَّين لعائشة، وظاهر آخره يخالفه من أن أفلح عمها بخلاف أبي القعيس، فإنه أبوها، وما ذكره في الأول ليس كما قال بل هو موافق للآخر فتأمَّله. الرابع: نزل الحجاب آخر سنة خمس من الهجرة. الخامس: قد فسر المصنف معنى: "تربت يمينك"، وحكى ابن العربي في "الأحوذي" أقوالًا في معناها: أحدها: استغنت وهو ضعيف، لأن المعروف ترب إذا افتقر، وأترب إذا استغنى. وذكر بعضهم وجهًا، وهو أن الغنى تراب، لأنه وجميع الدنيا إلى التراب. ثانيها: ضعف عقلك، أي لقولك هذا للدعاء عليها. ثالثها: تربت من العلم. رابعها: تربت يمينك إن لم تفعلي قال: وهذا أصحها. خامسها: أنه حث على العلم كقولهم إلخ ثكلتك أمك، ولا يريد أن يثكل. سادسها: أصابها التراب. سابعها: خابت. ثامنها: ثربت بمثلثة في أوله، وهو تصحيف. تاسعها: أنه دعاء خفيف. ثم إن دعاءه - صلى الله عليه وسلم - مغاير لدعائنا فإنه قد سأل الله تعالى أن يجعل كل من دعا عليه بشيء وليس أهلًا أن

يكون له زكاة ورحمة، كما صح في الحديث (¬1). السادس في أحكامه: الأول: ثبوت حرمة الرضاع بين الرضيع وبين الرجل المنسوب إليه اللبن، وقد سلف ما فيه في الحديث قبله. الثاني: أن من ادعى رضاعًا وصدقه الرضيع ثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى إقامة بيّنة، فإن أفلح ادعاه وصدقته عائشة واذن له الشارع بمجرد ذلك. الثالث: قال القاضي: قيل فيه دلالة على أن قليل الرضاع يحرم إذ لم يقع سؤال عن عدد بل اكتفى بأنه عم من الرضاعة. قلت: لعله -عليه الصلاة والسلام- لم يستفصلها لأنها راوية لحديث: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن، بخمس معلومات" (¬2) الحديث في "صحيح مسلم"، وهذا ¬

_ (¬1) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وفيه: "يا أم سليم أما تعلمين شرطي على ربي؟ إني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها يوم القيامة"، وكان - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا. أخرجه مسلم (2603). وجاء من حديث أبي هريرة عند البخاري (6361)، ومسلم (2601)، وأحمد في المسند (2/ 449، 488، 493، 496)، وأيضًا من حديثه عند أحمد (2/ 316)، والبغوي (1239). (¬2) مسلم (1452)، والنسائي (6/ 100)، وأبو داود (2062)، والترمذي (3/ 456)، ومالك (2/ 608)، والدارمي (2/ 157)، والبيهقي (7/ 454) ,والبغوي في شرح السنّة (9/ 81).

مذهبها، وإن كان جمهور العلماء على أن التحريم يثبت برضعة واحدة. الرابع: [أن] (¬1) من شك في حكم من أحكام الشرع توقف عن العمل به حتى يراجع العلماء فيه. الخامس: أن العالم إذا سئل عن مسئلة قال فيها بعض أصحابه ما هو الصواب أن يصدقه ويقر قوله. السادس: جواز قول: تربت يمينك لا بقصد الدعاء. السابع: وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب [وأنه] (¬2) كان مباحًا أول الإِسلام. الثامن: استئذان الرجال المحارم على محارمهم وأن المرأة لا تأذن لأحد في الدخول عليها إلا بإذن الزوج، أو بأن يكون محرمًا لها. التاسع: أن من اشتبه عليه شيء ينبغي أن يطالب خصمه ببيانه والدليل عليه ليظهر له وينظر فيه. العاشر: جواز التسمية بأفلح، والنهي الثابت (¬3) ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) في هـ (وإن). (¬3) قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في "التحفة" (116، 118) في بيان الأسماء المكروهة: (وفي سنن أبي داود من حديث جابر بن عبد الله قال: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى أن يسمى بـ: يعلى، وبركة، وأفلح، ويسار، ونافع، وبنحو ذلك، ثم رأيته سكت بعد عنها فلم يقل شيئًا، ثم قبض ولم ينه عن ذلك، ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك ثم تركه. وقال أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا محمَّد بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عشت إن شاء الله =

فيه للكراهة لا للتحريم. الحادي عشر: ابتدار المستفتي المفتي بالتعليل قبل سماع الفتوى. وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "تربت" تنبيه لها على ذلك، فإن من حقها أن تسأل عن الحكم [فقط] (¬1). ¬

_ = أنهى أمتي أن يسموا نافعًا، وأفلح، وبركة"، قال الأعمش: "لا أدري أذكر نافعًا أم لا". وفي سنن ابن ماجه , من حديث أبي الزبير، عن جابر, عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عشت إن شاء الله لأنهين أمتي أن يسموا: رباحًا، ونجيحًا، وأفلح، ويسارًا". قلت: وفي معنى هذا: مبارك، ومفلح، وخير، وسرور، ونعمة، وما أشبه ذلك فإن المعنى الذي كره له النبي التسمية بتلك الأربع موجود فيها، فإنه يقال: أعندك خير؟ أعندك سرور؟ أعندك نعمة؟ فيقول: لا، فتشمئز القلوب من ذلك، وتتطير به، وتدخل في باب المنطق المكروه. وفي الحديث: أنه كره أن يقال: خرج من عند برة، مع أن فيه معنى آخر يقتضي النهي، وهو تزكية النفس بأنه مبارك، ومفلح، وقد لا يكون كذلك، كما روى أبو داود في سننه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسمى برة. وقال: "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم". وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن زينب كان اسمها: برة فقيل: تزكي نفسها. فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم -: زينب). اهـ. انظر أيضًا تهذيب السنن (7/ 256)، ومعالم السنن للخطابي (4/ 128). (¬1) في هـ ساقطة.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 352/ 4/ 67 - وعنها [قالت] (¬1): دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل، فقال: يا عائشة، من هذا؟ [قلت: أخي] (¬2) من الرضاعة. فقال: يا عائشة. انظرن من إخوانكن؟ فإنما الرضاعة من المجاعة (¬3). الكلام عليه من وجوه، والغريب أن الصعبي حذفه من "شرحه" ولم يذكره. الأول: هذا الحديث بهذه السياقة للبخاري في كتاب الشهادات، لكنه قال: "فإنما" بدل "إنما"، ورواه في باب ما يحرم من نكاح قليل الرضاع (¬4) وكثيره بلفظ: أنه -عليه الصلاة والسلام- ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) زيادة من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬3) البخاري (2647)، ومسلم (1455)، والنسائي (6/ 101، 102) له في الكبرى (3/ 300) , وابن ماجه (1945)، وأبو داود (2058)، والدارمي (2/ 158)، والبغوي (9/ 83)، والبيهقي (7/ 456)، وأحمد (6/ 94، 174، 214). (¬4) لفظ الترجمة، باب: من قال: "لا رضاع بعد الحولين لقوله تعالى: =

دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال: "انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة". ورواه مسلم بزيادة بعد قولها: "وعندي رجل قاعد فاشتد عليه ذلك، ورأيت الغضب في وجهه. قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال: "انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة عن المجاعة"، وفي لفظ: "من المجاعة". الوجه الثاني: هذا المبهم، وهو أخو عائشة من الرضاعة، لا يحضرني اسمه بعد البحث عنه في كتب المبهمات فليتتبع. الثالث: معنى هذا الحديث أن الرضاعة التي تقع بها الحرمة هي ما كان في زمن الصغر والرضيع طفل يقويه اللبن ويشد جوعه. أما ما كان منه بعد ذلك في الحال التي لا يحصل له فيها ذلك ولا يشبعه إلا الخبز واللحم وما في معناهما فلا حرمة له. ولهذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم" (¬1). رواه أبو داود، ثم رواه مرفوعًا بمعناه، وقال: "أنشز العظم". وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "انظرن من إخوانكن"، تنبيه على الزمن الذي يثبت للمرضع فيه حكم الرضاع وتترتب أحكامه عليه خشية أن تكون رضاعة ذلك الشخص وقعت في حالة الكبر ولا يترتب عليه أحكامه. ¬

_ = {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، وما يحرم من قليل الرضاعة وكثيره". الفتح (9/ 146) ح (5102). (¬1) أبو داود (2059، 2060).

الوجه الرابع في فوائده: الأولى: جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاع معه عليها، وأنه يصير أخًا لها. الثانية: أن الزوج يسأل زوجته عن موجب الخلوة مع الرجل. الثالثة: الأمر بالاحتياط في ذلك والنظر فيه، وفيما يبيح عدم الاحتجاب. الرابعة: قبول قول المرأة فيمن اعترفت برضاعه مجردًا والإِرشاد إلى الاحتياط لذلك. الخامسة: أن الرضاع المحرم هو ما كان بلبن المرأة في زمن يستقل الرضيع به دون غيره من الأغذية، وهو حولان فما دونها عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: هو حولان ونصف. وقال زفر: ثلاثة أحوال. وعن مالك: رواية زيادة أيام بعد حولين. ورواية شهر وشهرين وهي ما في "المدونة". ورواية ثلاثة أشهر حكاها ابن شاس. وقالت عائشة وداود: تثبت الحرة برضاع البالغ كالطفل. وحجة الجمهور قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 233.

وهذا الحديث وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة، وروى الدارقطني من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" (¬1)؛ ثم قال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وخالف ابن القطان، فأعله بالراوي عن الهيثم، وهو [أبو الوليد بن برد] (¬2) الأنطاكي، وقال: لا يعرف، وهو غريب منه؛ فقد روى عن جماعة، وعنه جماعة. وقال النسائي في "كناه": صالح. وفي "جامع الترمذي": من حديث فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" (¬3). ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وعزاه ابن حزم (¬4) إلى النسائي أيضًا، ثم قال: خبر منقطع، وفاطمة هذه لم تسمع من أم سلمة. قلت: إدراكها ممكن لا جرم، خرَّجه ابن حبان في صحيحه (¬5) إلى قوله: الأمعاء، ومن شرطه الاتصال. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 173)، وقواه في التعليق المغني وسكت عنه الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف. انظر: تلخيص الحبير (4/ 4). والحديث أخرجه ابن عدي في ترجمة الهيثم بن جميل (7/ 2562). (¬2) في بيان الوهم والإِيهام (3/ 238) أبو الوليد يزيد الأنطاكي، وذكر في الهامش عن الكامل (الوليد بن برد الأنطاكي). اهـ. (¬3) الترمذي (1152). (¬4) المحلى (10/ 20). (¬5) ابن حبان (4224).

وأما قصة سهلة بنت سهيل في "صحيح مسلم" (¬1) في رضاعها سالمًا، وهو رجل، وقوله -عليه الصلاة والسلام- لها: "أرضعيه تحرمي عليه"، فهي محمولة إلى أنها مختصة بها وبسالم. وقد روى مسلم في صحيحه (¬2) عن أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهن خالفن عائشة [رضي الله عنها] (¬3) في هذا. قال القاضي عياض: ولعل سهلة حلبت لبنها من غير أن يمص ثديها, ولا التقت بشرتاهما. قال النووي (¬4): وهو حسن، ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما رخص بالرضاعة مع الكبر. السادس: أن كلمة "إنما" للحصر، لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة لا مجرد إثبات الرضاعة في زمن المجاعة. السابع: استعمال لفظة إخوان في غير الأصدقاء، وهو أكثر ما يستعمل فيهم عند أهل اللغة والإِخوة في الولادة، فكأنه حمل على الأصدقاء. الثامن: فيه رد على قولة داود: إنه لا يحرم الرضاع حتى يلتقم ¬

_ (¬1) مسلم (1453)، وابن ماجه (1943)، والنسائي (6/ 104، 105)، وأحمد (6/ 38، 201، 356). (¬2) البخاري (4000)، والنسائي (6/ 63، 64)، وأبو داود (2061)، ومالك (2/ 605)، والدارمي (1/ 158)، والبيهقي (7/ 459)، وأحمد (6/ 255، 269، 270)، وعبد الرزاق (3886)، والطبراني في الكبير (6377). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) شرح مسلم (10/ 31).

الثدي كما حكاه المازري، ورأى أن قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، إنما يطلق على ملتقم الثدي، وقد نبَّه -عليه الصلاة والسلام- على ما فتق الأمعاء، وهذا يوجد في اللبن الواصل إلى الجوف صبًا في الحلق [أو] (¬1) التقامًا للثدي. ¬

_ (¬1) الأصل (أم) وما أثبت يوافق المعلم (2/ 167).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 353/ 5/ 67 - عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - (¬1) [قال: تزوجت] (¬2) أم يحيى بنت أبي أهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرتُ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عني (¬3)، فتنحَّيت، فذكرت ذلك له، [قال] (¬4) [وكيف] (¬5) وقد زعمت أن قد أرضعتكما" (¬6). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث لم يخرجه مسلم (¬7) في صحيحه، بل لم ¬

_ (¬1) ن هـ ساقطة. (¬2) في إحكام الأحكام: أنه تزوج. (¬3) في المرجع السابق زيادة: قال. (¬4) في المرجع السابق: فقال. (¬5) في المرجع السابق: كيف. (¬6) البخاري (88)، والنسائي (6/ 109)، وأبو داود (3603، 3604)، والترمذي (1151)، وعبد الرزاق (13968، 15435)، الدارقطني (4/ 175، 176)، والبيهقي (7/ 463)، والحميدي (579)، وأحمد (4/ 7، 384). (¬7) انظر: مجلة الجامعة الإِسلامية، العددان (75، 76، ص 112).

يخرج في صحيحه عن عقبة بن الحارث شيئًا، وإنما هو من أفراد البخاري (¬1)، خرَّجه في باب شهادة المرضعة من كتاب النكاح بلفظ: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت لي: إني قد أرضعتكما، وهي كاذبة. فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه. قلت: إنها كاذبة. قال: كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك، وأشار إسماعيل [بن إبراهيم أحد رواته] (¬2) بأصبعيه السبابة والوسطى يحكي أيوب أحد رواته، وخرَّجه من باب تفسير المشتبهات، من كتاب البيوع (¬3)، بلفظ عن عقبة بن الحارث، أن امرأة سوداء جاءت فزعمت أنها أرضعتهما، فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعرض عنه وتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كيف وقد قيل؟ وقد كانت تحته ابنة أبي أهاب التميمي. وخرَّجه أيضًا (¬4) في باب ما إذا شهد شاهدٌ أو شهود بشيء، وقال آخرون: ما علمنا بذلك يحكم بقول من شهده بلفظه: عن عقبة بن الحارث أنه تزوج بنتًا لأبي أهاب بن عزيز، فأتته امرأةٌ فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة: ما أعلم، أنك أرضعتيني، ولا أخبرتني. فأرسل إلى آل أبي أهاب يسألهم، فقالوا: ما علمناه أرضعت صاحبتنا، فركب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ¬

_ (¬1) ح (5104). (¬2) غير موجودة في الفتح. (¬3) ح (2052). (¬4) ح (2640).

فسأله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف وقد قيل؟ ففارقها ونكحت زوجًا غيره، هذا ما حضرنا من المواضع التي خرج البخاري هذا الحديث في صحيحه وفي سياقه المصنف له زيادة عليه، ولم ينبه على ذلك أحد من الشراح وهو مما يتعين معرفته على طالب الكتاب (¬1). ثانيها في التعريف براويه: وهو عقبة بن الحارث بن عامر بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، أبو سِروعة، بكسر السين المهملة، النوفلي المكي من مسلمة الفتح , وكان أبوه أحد المطعمين يوم بدر مع المشركين، وهو قاتل خبيب بن عدي، وأمه خزاعية (¬2). [قال ابن حبان: واسمها درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب] (¬3) قال الزبير بن بكار: وأهل النسب يقولون: عقب هذا [هو] (¬4) وأبو سروعة أسلما معًا يوم الفتح، والأصح أنه أبو سروعة، وهو قول أهل الحديث. ¬

_ (¬1) انظر أطرافه في: (88) الفتح. وقد ترجم عليه البخاري -رحمه الله- في الأبواب الآتية: 1 - باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، ح (88) من كتاب العلم. 2 - باب شهادة الإِماء والعبيد، ح (2659) من كتاب الشهادات. 3 - باب شهادة المرضعة ح (2660)، من كتاب الشهادات. (¬2) بنت عياض بن رافع كما في أُسد الغابة (3/ 415)، والثقات (3/ 279). (¬3) هكذا في المخطوط ولعله خطأ كما نقلناه من حاشية الثقات. قال في حاشية الثقات (3/ 279): ووقع في الأصلين درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، خطأ؛ لأنها أم الوليد بن الحارث وأبي مسلم بن الحارث، وهما أخوان. (¬4) في هـ ساقطة.

وقال ابن الأثير: الأول أصح. روى له البخاري ثلاثة أحاديث كما عدها الحميدي في "جمعه"، وتبعه عبد الغني، وذكره بقي بن مخلد فيمن روى سبعة أحاديث. وقال أبو عمر: له حديث واحد ما حفظ له غيره في شهادة امرأة على الرضاع، روى عنه عبيد بن أبي مريم، وابن أبي مليكة. وقيل: ابن أبي مليكة لم يسمع منه وأن بينهما عبيد بن أبي مريم. الثالث: أم يحيى بنت أبي أهاب اسمها غَنِيَّةُ، بفتح الغين المعجمة، ثم نون، ثم مثناة تحت، ثم هاء بنت أبي أهاب بن عُزَيْز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم. قاله الزبير بن بكار فيما حكاه عنه ابن بشكوال (¬1) الحافظ. وهي امرأة جبير بن مطعم، وأم ولده نافع ومحمد. الرابع: هذه المرأة السوداء لا أعلم اسمها بعد البحث عنه، فليتبع. الخامس في فوائده: الأولى: ذكر السبب المفضي لرفع النكاح والتنبيه عليه. الثانية: تكرار السؤال على من سكت وأعرض عن الجواب أول مرة إذا رجا جوابه ثانيًا، وإعراضه -عليه الصلاة والسلام- عن الجواب أولًا يجوز أن يكون لإِنكار ما وقع، فلما ألحَّ عليه أجابه بالورع والاحتياط. ¬

_ (¬1) غوامض الأسماء المبهمة (453، 454)، وجاء أن اسمها زينب. ذكره العراقي في المستفاد من مبهمات المتن والإِسناد (71).

الثالثة: أن للمفتي الإِعراض عن المستفتي أول وهلة لعله يكف عما سأل. [الرابعة] (¬1): اختلف العلماء في شهادة المرضعة وحدها بالرضاع، فقبلها ابن عباس، والحسن وإسحاق وأحمد وتحلف مع ذلك. ولم يقبلها الشافعي وحدها، بل مع ثلاث نسوة أخر، وقبلها مالك مع أخرى، ولم يقبل أبو حنيفة فيه شهادة النساء المتمحضات من غير ذكر. وقال الإِصطخري من الشافعية: إنما يثبت بالنساء المتمحضات، فمن قبلها وحدها أخذ بظاهر الحديث. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ولابد فيه -مع ذلك أيضًا، إذا أجريناه على ظاهره- من قبول شهادة الأمة. قلت: هذا على رواية المصنف، وقد سقناه عن البخاري من وجهين بلفظ: "امرأة" (¬3)؛ ومن وجه ثالث، فجاءتنا [امرأة] (¬4) سوداء ولا يلزم من ذلك أن تكون أمة (¬5)، ومن لم يقبلها وحدها حمل الحديث على ورع دون التحريم، ويشعر به قوله -عليه الصلاة والسلام-: "كيف وقد قيل؟ " والورع في هذا متأكد. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وفي الأصل (واو). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 295). (¬3) كما في حديث (88، 264، 2660). (¬4) كما في حديث (2052، 5104). (¬5) ورد بلفظ (أمة سوداء) ح (2659).

أما حديث ابن عمر أنه -عليه الصلاة والسلام-: "سُئل ما الذي يجوز من الشهود في الرضاع؟ فقال: رجل أو امرأة"، فرواه أحمد (¬1) في مسنده بإسناد فيه جهالة وضعف. [الرابعة] (¬2): فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها. وقال أصحابنا: إنها لا تقبل. وكذا إن ذكرت أجرة على الأصح للتهمة. وقيل: يقبل في ثبوت المحرمية دون الأجرة، فإن لم تذكر أجرة، فالأصح قبول شهادتها، فإنها لم تجر لنفسها نفعًا ولم تدفع ضررًا. وقيل: لا تقبل أيضًا كما لو قالت: أشهد أني قد ولدته. ¬

_ (¬1) أحمد في مسنده (2/ 35، 109)، وضعف إسناده أحمد شاكر في (7/ 58، 59) (8/ 139)، وقد ورد بلفظ أيضًا (رجل وامرأة). (¬2) في ن هـ (الخامسة).

الحديث السادس

الحديث السادس 354/ 6/ 67 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يعني من مكة-، فتبعتهم ابنة حمزة، تنادي: يا عم [يا عم] (¬1)، فتناولها علي، فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونكِ ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي [وزيد وجعفر] (¬2). فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم. وقال لعلي: أنت مني، وأنا منك. وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخُلقي. وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا (¬4). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث بهذه السياقة للبخاري فقط، وكذا عزاه ¬

_ (¬1) زيادة من حاشية إحكام الأحكام. (¬2) في حاشية إحكام الأحكام وجعفر وزيد وما أثبت يوافق لفظ الصحيح. (¬3) في الحاشية (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). (¬4) البخاري (2699)، والترمذي (1904)، والنسائي في الكبرى (8578)، والبغوي في شرح السنة (3937)، والبيهقي في السنن (8/ 5).

إليه غير واحد. ومنهم البيهقي (¬1) الحافظ، ومن المتأخرين عبد الحق في "جمعه". والمزي في "أطرافه" (¬2)، ووقع لصاحب "المنتقى" (¬3) , ولابن الأثير في "جامعه" (¬4)، أنه من المتفق عليه، ومرادهما قصة صلح الحديبية منه، والمصنف اختصره، والبخاري ذكره في موضعين (¬5) من صحيحه مطولًا (¬6). ومن روايته فيهما: "يا عم، يا عم" مرَّتين، وقال: "احمليها" بدل "فاحتملتها"، وزاد في آخره في باب عمرة القضاء من المغازي، بعد قوله: "ومولانا. قال على: ألا تتزوج ابنة حمزة؟! قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة". الثاني: في التعريف براويه وبالأسماء الواقعة فيه، أما راويه فسلف في الصلاة، وابنة حمزة تقدَّم في الباب الاختلاف في اسمها. وعليّ: تقدمت ترجمته في باب المذي وغيره. وفاطمة: هي بنت سيد البشر، وقد أوضحت ترجمتها فيما أفردته من الكلام على رجال هذا الحديث يتعين عليك مراجعته منه. وكذا ترجمة جعفر بن أبي طالب موضحة فيه أيضًا. ¬

_ (¬1) البيهقي في السنن الكبرى عن علي بغير هذا اللفظ (7/ 452). (¬2) تحفة الأشراف (2/ 53). (¬3) (2/ 663). (¬4) ذكره من رواية مسلم من حديث علي، وأيضًا من حديث ابن عباس من رواية البخاري ومسلم، جامع الأصول (12/ 147، 148). (¬5) الفتح (5/ 303، 304) (7/ 449). (¬6) ذكر هذا الزركشي في كتابه تصحيح العمدة. انظر: مجلة الجامعة الإِسلامية (75، 76).

وأما زيد. فسلف التعريف به في الباب قبله (¬1). الثالث: اسم هذه الخالة أسماء بنت عميس أخت سلمى بنت عميس، ثم تزوجها بعد جعفر، الصديق، ثم عليّ [رضي الله عنه] (¬2)، ولها تسع أخوات. وقيل: عشر لأم، منهن ميمونة إحدى أمهات المؤمنين، وست لأب ولأم. قاله أبو عمر، قال: وأختها سلمى كانت تحت حمزة بن عبد المطلب قال: وقد قيل إن التي كانت تحت حمزة أسماء، ثم خلف بعد عليها شداد، ثم بعده جعفر؛ والأصح عندي أن أسماء كانت تحت جعفر، وسلمى أختها تحت حمزة. الرابع: قوله: "يعني من مكة" قد علمت أنه كان بعد عمرة القضاء ولم يظفر بعض الشراح بهذا، بل قال: يحتمل أن ابنة حمزة هذه عرضت عليه، وقال: إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ولهذا نادته "بيا: عَم"، وخروجه من مكة بعد موت أبيها واستشهاده في غزوة أُحد، إما في عام الحديبية وإما في عمرة القضاء، وقد علمت ما أوردته لك أنه كان بعد عمرة القضاء. وقول زيد: "هي ابنة أخي" سببه أنه -عليه الصلاة والسلام- ¬

_ (¬1) ن هـ زيادة: جعفر هذا كان شبيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم جماعة جمعهم بعض شيوخنا في بيتين فقال: بخمسة أشبهوا المختار من مضر ... يا حسن ما خولوا من شبهه الحسن بجعفر وابن عم المصطفى قثم ... وسائب وأبي سفيان والحسن وقد كان يشبه به أيضًا عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن خبيب بن عبد شمس. (¬2) ن هـ ساقطة.

آخى بينه وبين أبيها حمزة. ومعنى: "أنت مني وأنا منك"، أي لما بيننا من القرابة والصهارة والصحبة والمحبة. وقوله: "ومولانا" قد أسلفنا في الباب قبله أنه أعتقه، فهو مولاه حقيقة، وقد صح أن "مولى القوم منهم". الخامس: هذا الحديث أصل في باب الحضانة، وهي القيام بحفظ من لا يستقل وتربيته بما يصلحه، وهي نوع ولاية وسلطنة، لكنها بالإِناث أليق لأنهن أشفق وأهدى إلى التربية وأصبر على القيام بها وأشد ملازمة وتربيتهم مقرر في كتب الفروع ليس هذا موضعه. ومعنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الخالة بمنزلة الأم"، أي في الحضانة، لأن سياق الحديث دالٌّ عليه. وفي رواية لأحمد (¬1) وأبي داود (¬2) والبيهقي (¬3) من حديث علي -رضي الله عنه-، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أما الجارية فأقضي بها لجعفر، فإن خالتها عنده، وإنما الخالة أم"؛ لكن قال البيهقي: الحديث الأول أصح من هذا. وقال الحافظ أبو بكر البزار (¬4): لا يُروى عن علي إلا من الطريق المذكورة. وأما أبو محمَّد بن حزم (¬5) الظاهري، ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1/ 98، 115، 230). (¬2) سنن أبي داود (2278). (¬3) البيهقي (8/ 6). (¬4) البحر الزخار (3/ 106). (¬5) المحلى (10/ 326).

فوهاه (¬1) في إسناده. وقال: إسرائيل ضعيف، وهانىء وهبيرة مجهولان، ووهم في ذلك؛ فإسرائيل احتج به الشيخان ووثق. وهانىء قال النسائي: ليس به بأس. وهبيرة: هو ابن مريم، روى عن جماعة، وعنه اثنان. وقال أحمد: لا بأس به. السادس: في فوائده: الأولى: صلة الأرحام وإكرامها. الثانية: الاختصام في طلب صلتها والقيام بها إلى الحكام وأهل الفتوى. الثالثة: القضاء بالحق وتبيين الحكم للخصوم، لأنه أبعد عن الشحناء بينهم، ودوام العداوة ولا التفات إلى من منع ذلك، وقال: ينبغي الجزم بالحكم من غير تعليل لئلا يؤدي ذلك إلى استبدال الحكم والطمع فيه، فإن ترك ذلك يؤدي إلى ما ذكرنا. الرابعة: إدلاء كل واحد من المستفتين والخصوم للمفتي والحاكم بحجته لينظر في الصواب منها. الخامسة: أن للخالة حقًا في الحضانة، وأنها مقدمة على بنت العم. السادسة: أنها إذا كانت متزوجة من له حق في الحضانة لا تسقط حضانتها لبنت العم عند عصبتها، فإن لهم حقًا في الحضانة إذا لم يكن محظور شرعي من خلوة ونحوها تسقطها. وكذا حكم كل مستحقة للحضانة إذا نكحت من له حق في الحضانة، أو كانت في نكاح مثله. ¬

_ (¬1) ن هـ (رجال في إسناده، وقال).

السابعة: قد يستدل بإطلاقه من يرى توريث الخالة عند عدم الوارثين، وأنها بمنزلة الأم في الإِرث، وهم أصحاب التنزيل، إلا أن السياق يقتضي أنها بمنزلتها في الحضانة، وهو طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل للكلام على المقصود منه، وفهم ذلك، أعني قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه تعرض لها بعض المتأخرين وقررها. قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شغب على المناظر. الثامنة: استعمال مكارم الأخلاق للحاكم والمفتي ونحوهما وتطييب قلب المستفتين والمتحاكمين، فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال لكل واحد من عليّ وزيد وجعفر ما تطيب قلبه من الكلام، فإنه جبر عليًا وزيدًا وطيب قلوبهما مما قاله لهما حيث حُرما مرادهما. وأما جعفر، فجبره بما قال له، لأنه جعل الحضانة لخالتها دونهما, ولأنه لو جبرهما بذلك دونه لحصل عنده ألم لا يفي بكون الصبية عند خالتها وهي عنده. التاسعة: يؤخذ منه إثبات التسوية بين الخصوم في الحكم والإِقبال على كل منهم بمثل ما يقبل على الآخر. ¬

_ (¬1) انظر إحكام الأحكام (4/ 298).

كتاب القصاص

كتاب القصاص

68 - كتاب القصاص

68 - كتاب القصاص هو بكسر القاف المماثلة مأخوذ من القص، وهو القطع كما قاله الأزهري (¬1). ومن اقتصاص الأثر وهو تتبعه كما قاله الواحدي وغيره من المحققين، لأن المقتص يتبع جناية الجاني فيأخذ مثلها. يقال: اقتص من غريمه، واقتص السلطان فلانًا من فلان أي أخذ له قصاصه. ويقال: اقتص فلانٌ فلانًا، طلب منه قصاصه. وذكر المصنف في الباب تسعة أحاديث: والثالث منهن في القسامة، والسادس فيه الدية أيضًا. والسادسُ والسابع فيه الغرة، والثامن فيه الصائل، والتاسع من قتل نفسه. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح مادة (ق ص ص).

الحديث الأول

الحديث الأول 355/ 1/ 68 - عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أولها: هذا الحديث رواه مسلم أيضًا من رواية عائشة (¬2)، لكنه من أفراده. وفي رواية له من حديث ابن مسعود: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله إلَّا ثلاثة نفر: التارك للإسلام. . . ." وذكر الحديث. وفي رواية للبخاري: "والمارق من ¬

_ (¬1) البخاري (6878)، ومسلم (1676)، والترمذي (1402)، وابن ماجه (2534)، وأبو داود (4352)، والدارمي (2/ 218)، والبيهقي (8/ 19، 194، 202، 213، 283)، والطيالسي (289)، والبغوي (2517)، وأحمد (1/ 382، 428، 444). (¬2) مسلم (1676)، والنسائي (7/ 90)، البيهقي (8/ 194)، والدارقطني (3/ 82)، وأحمد (6/ 181).

الدين التارك للجماعة". وفي رواية للنسائي: "وإن محصن"، وفيه: "لا يحل قتل مسلم إلا من إحدى ثلاث خصال: رجل يقتل مسلمًا متعمّدًا، ورجل يخرج من الإِسلام فيحارب الله ورسوله فيُقتل، أو يُصلب، أو يُنفى من الأرض". ثانيها: في التعريف براويه وقد سلف في باب المواقيت. ثالثها: في ألفاظه ومعانيه. قوله: "لا يحل دم امرئ مسلم" هو كناية عن قتله، أي لا يحل إلا بإحدى هذه الأمور. وقوله: "دم امرئ" فيه حذف مضاف، أي أجزاء دمه. والدم مخفف الميم على المشهور، وأصله دمى كيد ولامهما محذوفة حتى من التثنية، وجرى الدميان شاذ، وكذا يديان بيضاوان عندهم محكم لا يقاس عليه. وامرىءٍ: يُقال فيه مر كما سلف في حديث: "إنما الأعمال بالنيات". وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يشهد أن لا إله إلَّا الله وأني رسول الله" هو كالتفسير لقوله: " [مسلم] (¬1) "، وكذا: "المفارق للجماعة"، كالتفسير لقوله: "التارك لدينه". والجماعة جماعة المسلمين، وفراقهم بالردة إما بالتكفير بكلمة الكفر أو بالاعتقاد أو بالفعل، ومن خرج عنهم ببدعة أو بغى وكان الخوارج تقاتل حتى يرجع إليهم، وليس بكافر. ¬

_ (¬1) في ن هـ (امرىءٍ)، وما أُثبت يوافق إحكام الأحكام مع الحاشية.

و"الثيب" المراد به المحصن، كما في رواية النسائي السالفة. وهو من وطئ في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل. و"الإِحصان": أصله المنع، وله معانٍ. هذا، وهو الموجب رجم الزاني ولا ذكر له في القرآن إلا في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (¬1)، أي محصنين بالنكاح لا بالزنا وبمعنى: العفة، والحرية، والتزوج، والإِسلام، وكلها مذكورة في القرآن. والجامع لأنواع الإِحصان المنع، فكل واحد ممن ذكرنا يمنع ما ينافيه، وقد أوضحت ذلك في كتابي المسمَّى بـ: "الإِشارات إلى ما وقع في المنهاج من الأسماء والمعاني واللغات". و"الثيب": اسم جنس يدخل فيه الذكر والأنثى. قاله أهل اللغة. قال ابن السكيت: وذلك إذا كانت المرأة قد دخل بها، أو كان الرجل قد دخل بامرأته. وقوله: "الزاني" قال النووي في "شرح مسلم" (¬2): هو في نسخ "صحيح مسلم" بغير ياء، وهي لغة صحيحة قُرىء بها في السبع من قوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} (¬3). قال: والأشهر في اللغة إثبات الياء. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 24. (¬2) شرح مسلم (11/ 164). (¬3) سورة الرعد: آية 9.

و"النفس": تُذكَّر وتؤنَّث. قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا} (¬1)، وقال: "بلى قد جاءتك آياتي، [فإن كان مجردًا من الألف واللام فالأكثر الحذف لا] (¬2). رابعها: في فوائده: الأولى: أن المسلم لا يصير مسلمًا إلَّا بالتلفظ بالشهادتين، فإنه -عليه الصلاة والسلام- جعلهما كالتفسير والوصف للمسلم، وذلك لا يُعرف إلا بالتلفظ والاتصاف. ومن الشافعية من قال: إن كان ينكر إحداهما وأقر بها حكم بإسلامه وألزم الإِقرار بالأخرى، فإن أبى، فمرتدّ. وكذا لو أقر بما ينكره مما هو خاص بشريعتنا، والأصح عند جمهورهم أنه لابد منها، اللهم إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه كمعالجة المنية أو لغير ذلك. وهل يحتاج معها إلى الإقرار بعموم الرسالة أو البراءة من كل دين يخالف الإِسلام؟ فيه أوجه: أصحّها: إن كان ينكر عمومها ويخصها بالعرب، فلابد من الإقرار أو التبرئة، وإلا فلا, ولو كان كفره بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين ويرجع عما اعتقده. الثانية: عصمة دم المسلم إلا فيما ذكر النووي (¬3)، وهذا الحديث عام، خصَّ منه الصائل ونحوه، فإنه يُباح قتله في الدفع. ¬

_ (¬1) سورة الزمر: آية 56. (¬2) زيادة في الأصل ولا مناسبة لها. (¬3) شرح مسلم (11/ 165).

وقد يُجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، ويكون المراد لا يحل تعمُّد قتله قصدًا إلا في هؤلاء الثلاث. الثالثة: إباحة دم الزاني المحصن بصفته المعروفة في الأحاديث الصحيحة, وهو الرجم بالحجارة. الرابعة: وجوب القصاص في النفس بشرطه. الخامسة: أن المسلم يقتل بالذمي والحربي والعبد، لعموم قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1)؛ وكما في الآية أيضًا قاله أصحاب أبي حنيفة والجمهور على خلافه، ومنهم باقي الأربعة والليث وأنه عموم أريد به الخصوص في المتماثلين، وقد وافقوا على تخصيص هذا العموم في صور: منها: ما إذا قتل السيد عبده عمدًا. ومنها: ما إذا قتل الأب ابنه، ولا حجة لهم في حديث: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" (¬2) [حيث قالوا: التقدير بالمال ولا ذو عهد في عهده] (¬3) بكافر حربي، فالذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه لأوجه. إحداها: [لا نسلم] (¬4) أن الواو هنا عاطفة، بل استثنائية، فلا يلزم الاشتراك. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 45. (¬2) ابن حبان (5996). (¬3) ن هـ ساقطة. (¬4) زيادة من ن هـ.

ثانيها: سلَّمنا لكن العطف يقتضي الاشتراك في الأصل دون توابعه كما في قولك: مررت بزيد قائم وعمرو. فإنه لا يلزم منه المرور بعمرو قائمًا أيضًا، بل الاشتراك في أصل المرور لا غير، فيقتضي العطف هنا أنه لا يقتل به المسلم. أما تعيين من يقتل به الآخر، فلا؛ لأن الذي يقتل به بعض توابع الحكم. ثالثها: لا نسلم أن معناه بحربي، بل معناه التنبيه على التشبيه، فإن "في" تكون للتشبيه، فيصير معنى الكلام: ولا يقتل ذو عهد بسبب المعاهدة فيفيدنا ذلك أن المعاهدة سبب يوجب العصمة، وليس المراد به أنه يقتص منه ولا غير ذلك. رابعها: أن معناه نفي الوهم عمن يعتقد أن عقد المعاهدين كعقد الذمة يدوم، فنبه -عليه الصلاة والسلام- على أن أمر ذلك العهد إنما هو في ذلك الزمن خاصة لا يتعدّاه، وتكون "في" على هذا للظرفية. [خامسها] (¬1): إباحة دم المرتد بشرطه وهو إجماع في الرجل والجمهور على إلحاق المرأة به. وقال أبو حنيفة (¬2): لا تقتل. وقد أوضح البيهقي المسألة في "خلافياته" (¬3)، وضعف حديث ابن عباس بأنها لا تقتل (¬4). ¬

_ (¬1) ن هـ ساقطة سادسها. . . . إلخ الفوائد. (¬2) تحفة الفقهاء (3/ 530). (¬3) مختصر الخلافيات (4/ 406). (¬4) حديث ابن عباس (4361)، والنسائي (7/ 107).

[سادسها] (¬1): إن مخالف الإِجماع يكفر فيقتل، وقد نسب ذلك إلى بعض الناس [. . .] (¬2)، وقد قدمنا الطريق في التكفير، فالمسائل الإِجماعية تارة يصحبها [التواتر] (¬3) بالنقل عن صاحب الشرع، كوجوب الصلاة مثلًا. وقد لا يصحبها، [فـ] (¬4) الأول يكفَّر جاحده، لمخالفته [التواتر] (¬5)، لا لمخالفته الإِجماع. [و] (¬6) الثاني: لا يكفَّر به. قال الشيخ تقي الدين: وقد وقع في هذا المكان من يدعي الحِذْق في المعقولات، ويميل إلى الفلسفة، فظن أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإِجماع، وأخذ من قول من قال: "إنه لا يكفر مخالف الإجماع، أن لا يكفَّر هذا المخالف في هذه المسألة. وهذا كلام ساقط بالمرة، إما عن عمى في البصيرة، أو [عن] (¬7) تعامٍ؛ [لأن] (¬8) حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإِجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة، فيكفَّر المخالف بسبب مخالفته النقل المتواتر، لا بسبب مخالفة الإِجماع. ¬

_ (¬1) ن هـ (السابعة). (¬2) في إحكام الأحكام (4/ 300) زيادة (وليس ذلك بالهين). (¬3) زيادة من إحكام الأحكام. (¬4) في المرجع السابق (فالقسم). (¬5) في إحكام الأحكام (المتواتر). (¬6) في المرجع السابق (القسم). (¬7) غير موجودة في المرجع السابق. (¬8) في هـ (لا عن).

[سابعها] (¬1): أن تارك الصلاة كسلًا لا يقتل, لأنه -عليه الصلاة والسلام- حصر دم المرء المسلم في هذه الثلاثة بلفظ النفي العام، والاستثناء منه لهذه الثلاثة، وهو قول المزني من أصحاب الشافعي قال: يُضرب ويُحبس حتى يصلي، وهو مشهور مذهب أبي حنيفة، واختاره الحافظ أبو الحسن علي بن المفضّل المقدسي المالكي في قصيدة له مشهورة، أنبأنا بها غير واحد عن شيخ الإِسلام تقي الدين القشيري، عن الفقيه المفتي أبي موسى هارون بن عبد الله المهراني، عنه. خسر الذي ترك الصلاة وخابا ... وأبى معاذًا صالحًا ومآبا إن كان يجحدها، فحسبك أنه ... أمسى بربك كافرًا مرتابا أو كان يتركها لنوع تكاسل ... [غطى] (¬2) على وجه الصواب حجابا فالشافعي ومالك رأيا له ... إن لم يتب: حَدَّ الحسام عقابا وأبو حنيفة قال يترك مرة ... هَمَلًا، ويحبس مرة إيجابا والظاهر المشهور من أقواله ... تعزيره زجرًا له وعقابا [. . .] (¬3). والرأي عندي: أن يؤدبه الإِمام ... بكل تأديب يراه صوابا ¬

_ (¬1) ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل ون هـ (غشى)، وما أُثبت من إحكام الأحكام. (¬3) في المرجع السابق (إلى أن قال).

ويكف عنه القتل طول حياته ... حتى يلاقي في المآب حسابا فالأصل عصمته إلى أن يمتطي ... إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا الكفر أو قتل المكافي عامدًا ... أو محصن طلب الزنا فأصابا واستشكل إمام الحرمين قتله وقوى بعض المتأخرين إزالة الإِشكال في عدم قتله بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة". فوقف العصمة على مجموع ما ذكر والمرتب على أشياء لا تحصل بحصول مجموعها، وينتفي بانتفاء بعضها. قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهذا إن قصد به الاستدلال بالمنطوق (¬2) وهو الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد [ذهل] (¬3) وسهى؛ لأنه فرَّق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه، فإن "المقاتلة" مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين. ولا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة إباحة القتل عليها (¬4) من الممتنع من فعلها إذا لم يقاتل، ولا إشكال بأن قومًا لو تركوا الصلاة [وقاتلوا عليها قوتِلوا] (¬5)، [أي بدليل مناظرة عمر الصديق في ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 304). (¬2) في إحكام الأحكام زيادة (وهو قوله -عليه السلام-: أمرت أن أقاتل الناس حتى. . . . إلخ"، فإنه يقتضي بمنطوقه الأمر بالقتال. . . . إلخ". (¬3) في المرجع السابق (وهل). (¬4) في ن هـ كلمة غير واضحة. (¬5) في المرجع السابق (ونصبوا القتال عليها أنهم يقاتلون).

قتال مانعي زكاة المال] (¬1) النظر والخلاف فيما إذا تركها إنسان من غير نَصب قتال: [هل يقال يقُتل أم لا؟] (¬2) فتأمَّل الفرق بين المقاتلة على الصلاة [والقتل] (¬3) عليها وأنه لا يلزم من إباحة المقاتلة عليها [إباحة القتل عليها] (¬4) وإن كان أخذ هذا من لفظ آخر الحديث، وهو ترتب العصمة على فعل ذلك، فإنه يدل بمفهومه على أنها لا تترتب على فعل بعضها، [دون المجموع] (¬5) هان الخطب لأنها دلالة مفهوم، والخلاف فيها معروف مشهور، وبعض من ينازعه في هذه المسألة لا يقول بدلالة المفهوم، ولو قال بها فقد يرجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث. واعلم أن قتل تارك الصلاة كسلًا وعدمه مبني على تكفيره وقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه يكفر بذلك، وهو المشهور عن أحمد، وقول المحدثين وبعض المالكية، وحكاه العبدري (¬6) عن منصور الفقيه من ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (إنما). (¬2) في المرجع السابق (هل يقتل عليها أم لا؟). (¬3) زيادة من إحكام الأحكام. (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) في المرجع السابق غير موجودة. (¬6) هو علي بن سعيد بن عبد الرحمن بن محرز بن أبي عثمان المعروف بأبي الحسن الجدري له مؤلفات منها مختصر الكفاية كان ظاهري المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي توفي ببغداد يوم السبت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي (5/ 257).

أصحابنا، والشيح أبي إسحاق في "خلافياته" عن أبي الطيب بن سلمة (¬1)، ونسبه القاضي حسين في باب قتل المرتد إلى أبي جعفر الترمذي (¬2)، وابن خربويه (¬3)، ووجهه قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (¬4)، رواه مسلم من حديث جابر. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (¬5). رواه الترمذي من حديث بريدة، وصحَّحه؛ وكذا ابن حبان. وقال ¬

_ (¬1) هو العلامة أبو الطيب محمَّد بن المفضل بن سلمة بن عاصم الضبي صنف الكتب وله وجوه في مذهب الشافعي منها أنه كفر تارك الصلاة توفي شابًا في المحرم سنة ثمان وثلاثمائة. ترجمته في سير أعلام النبلاء (14/ 361)، ووفيات الأعيان (4/ 205). (¬2) هو محمَّد بن أحمد بن نصير، أبو جعفر الترمذي. مولده في ذي الحجة سنة مائتين. وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين. له مؤلف: "اختلاف أهل الصلاة" في الأصول. ترجمة طبقات ابن شهبة (1/ 82)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (10)، وطبقات الشافعية للسبكي (1/ 288). (¬3) هو علي بن الحسين بن حرب بن عيسى أبو عبيد بن حربويه، ولي قضاء واسط ثم مصر، توفي في صفر سنة تسع عشرة وثلاثمائة ترجمته في طبقات ابن شهبة (1/ 96)، وقد جاء اسمه مصحفًا في شذرات الذهب (2/ 281) (أبو عبيد بن جويرية)، وطبقات ابن هداية (15) (جوبويه). (¬4) مسلم (134). (¬5) الترمذي (2621)، وابن حبان (1454)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (1/ 6، 7)، والنسائي (1/ 231)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (5/ 346، 355)، والبيهقي (3/ 366)، والدارقطني (2/ 52).

الحاكم: صحيح الإِسناد ولا نعرف له علة. قال: وله شاهد على شرطهما، فذكره عن شقيق، عن أبي هريرة قال: "كان أصحاب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لا يرون من الأعمال شيئًا تركه كفرًا غير الصلاة" (¬1). وروى هذا الترمذي عن شقيق بإسناد صحيح. وفي صحيح ابن حبان (¬2) من حديث ابن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر الصلاة يومًا، فقال: "من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها, لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وهامان، وفرعون". وأصح الوجهين عندهم أنه لا يكفر بذلك، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن فلم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهدًا أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" (¬3)، رواه مالك في الموطأ وأبو داود واللفظ له، والنسائي وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبان وابن السكن وابن عبد البر. وجه الدلالة: أنه لو كفر لم يدخل تحت المشيئة، وللأحاديث الصحيحة الثابتة بحديث: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلَّا الله دخل ¬

_ (¬1) الترمذي (2622)، والحاكم (1/ 6، 7). (¬2) أحمد (2/ 169)، والدارمي (2/ 301). (¬3) مالك (1/ 123)، وأبو داود (1420)، والنسائي (1/ 230)، وابن ماجه (1401)، وابن حبان (1731)، وأحمد (5/ 315)، والدارمي (1/ 370).

الجنة" (¬1) وشبهه، ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويرثون عنه، ولو كان كافرًا لم يغفر له ولم يورث ولم يرث. نعم يقتل حدًّا وحديث جابر السالف، وكذا حديث بريدة أيضًا يحملان على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه، وهو وجوب القتل، كحديث: "قتال المسلم كفر"، أو على جاحد الوجوب، أو على كفر النعمة، ولأنه عموم دخله التخصيص بحديث عبادة السالف. وإذا قلنا يُقتل، فمتى يُقتل؟ اختلف أصحابنا فيه على أوجه محل الخوض فيها كتب الفروع [وقد أوضحناها فيه، ولله الحمد] (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم (26)، وأحمد (1/ 65)، وابن منده (32)، وأبو عوانة (1/ 7). (¬2) ن هـ ساقطة.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 356/ 2/ 68 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يُقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: فيه تعظيم أمر الدماء، فإن البداءة إنما تكون بالأهم فالأهم، وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب تعظم بحسب المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها. [وهدم] (¬2) البنية الإِنسانية من أعظم المفاسد، فإن الله خلقها في أحسن تقويم، وسخر لها ما في السموات وما في الأرض، بل هو أكبر الكبائر بعد الشرك كما نص عليه الشافعي [-رضي الله عنه-] (¬3)، وهذا إذا ¬

_ (¬1) البخاري (6533)، ومسلم (1678)، والترمذي (1396، 1397)، والنسائي (7/ 83)، وابن ماجه (2615، 2617)، وأحمد (1/ 440، 441، 442)، والبغوي (2520)، وأبو يعلى (5215)، والطيالسي (269)، والبيهقي (8/ 21). (¬2) في المخطوطتين (وعدم). (¬3) زيادة من ن هـ.

تجرَّد عن اعتقاد حله في غير محله. الثاني: في سنن أبي داود (¬1) والنسائي وجامع الترمذي، وقال: حسن من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن أول ما يحاسب به يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئًا، قال الرب عزَّ وجلّ: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم تكون سائر أعماله على هذا". ويجمع بين هذا وبين حديث ابن مسعود السالف بأنه فيما بين العبد وبين ربه تعالى، وحديث ابن مسعود فيما بينه وبين العباد. الثالث: فيه القضاء بين: الناس يوم القيامة، وعلمه -عليه الصلاة والسلام- بأحكام الآخرة واطِّلاعه عليه كما هو عالم بأحكام الدنيا. ¬

_ (¬1) أبو داود (864)، النسائي (1/ 232)، الترمذي (413)، أحمد (2/ 290).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 357/ 3/ 68 - عن سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل -وهو يتشحط في دمه قتيلًا- فدفنه، ثم [أتى] (¬1) المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلي الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال (¬2) كبر، كبر -وهو أحدث القوم- فسكت. فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا [فقالوا] (¬3): كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي - صلي الله عليه وسلم - من عنده" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ وإحكام الأحكام (قدم). (¬2) في المرجع السابق زيادة (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬3) في المرجع السابق (قالوا). (¬4) البخاري (2702)، ومسلم (1669)، والنسائي (8/ 8، 12)، وأبو داود (4520، 4521، 4523)، والحميدي (403)، وابن الجارود (798، 800)، والبغوي (2545، 2546)، والبيهقي (8/ 118، 119)، والترمذي (1422)، والدارقطني (3/ 110) والموطأ (2/ 877، 878).

وفي حديث حمّاد بن زيد: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برُمَّته، قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟ قالوا: يا رسول الله، قومٌ كفار. وفي حديث سعيد بن عبيد: "فكره رسول الله أن يبطل دمه, فوداه بمائة من إبل الصدقة". الكلام عليه من وجوه: وهو قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام، وأصل في القسامة وأحكامها، وهي بفتح القاف وتخفيف السين مشتقة من القسم أو الإِقسام، وهي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث. قاله أصحابنا وابن فارس (¬1) والجوهري (¬2). وقال الأزهري (¬3): هي اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول. نقل الرافعي عن (¬4) الأئمة أن القسامة في اللغة: اسم للأولياء، وفي لسان الفقهاء: اسم للأيمان. وهذا النقل عن أهل اللغة ليس قولهم كلهم بل بعضهم كما ذكرنا. والصحيح أنها اسم للأيمان. ثم موضع جريان القسامة أن يوجد قتيل لا يوجد قاتله، ولا ¬

_ (¬1) مجمل اللغة (752) باب القاف والسين وما يثلثهما. (¬2) مختار الصحاح (ق س م). (¬3) تهذيب اللغة (8/ 423) مادة (ق، س، م). (¬4) في الأصل زيادة (القسامة)، وما أثبت من ن هـ.

تقوم عليه بينة، ويدعي أهل القتيل قتله على واحد أو جماعة، مع قرينة تشعر بصدق الولي، ويقال له اللوث، فيحلف على ما يدعيه كما سيأتي. الوجه الأول: في التعريف براويه وبالأسماء الواقعة فيه. أما سهل: فسلف التعريف به في باب صلاة الخوف واضحًا. وأما عبد الله بن سهل: فهو أنصاري حارثي، كنيته أبو ليلى، وهو أخو عبد الرحمن -الآتي- قتيل اليهود بخيبر، خرج إليها يمتار تمرًا بعد العصر، فوُجد مقتولًا قبل الليل. قيل: إنه وُجد في عين قد كسرت عنقه مطروحًا فيها. وفي الصحيح: "أنه طرح في فقير أو عين". والفقير: البئر القريبة القعر، الواسعة الفم. وقيل: الحفيرة: التي تكون حول النخل. وأما محيصة: فهو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الياء المثناة تحت مشددة على المشهور، ويجوز إسكانها في لغة. وظاهر كلام الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬1) أنها راجحة. وقال النووي في "شرحه" (¬2): اللغتان مشهورتان، وأشهرهما التشديد، وخالف القرطبي فقال في "مفهمه" (¬3) المشهور التخفيف، وهو ابن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن كعب بن مجدعة بن ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 306). (¬2) شرح مسلم (11/ 143). (¬3) المفهم (5/ 8).

حارثة بن الحارث بن الخزرج، أنصاري، حارثي، يُعدّ من أهل المدينة، وكنيته أبو سعيد. له صحبة وغزوات وأحاديث، أسلم قبل الهجرة قبل أخيه حويصة، وكان حويصة أسنّ منه، وكان محيصة أنجب وأفضل. وأسلم حويصة على يد أخيه محيصة، وبعث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - محيصة إلى فدك يدعوهم إلى الإِسلام. وأما حويصة: فهو بضم الحاء المهملة وفتح الواو وفي الياء التشديد والتخفيف -كما سلف بما فيه-، وكنيته أبو سعيد أيضًا, وهو شقيق محيصة، وكان سبب إسلامه ما ذكره ابن إسحاق في "مغازيه" عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعره ويتبعه ويحرِّض عليه العرب، وهو رجل من بني نَبْهَان من طيء، فلما قتل كعب قال -عليه الصلاة والسلام-: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"، فوثب مُحَيْصَة بن مسعود على ابن سُيَيْنَة -رجل من تجّار يهود كان يُلابسهم ويبايعهم- فقتله، وكان حُوَيِّصةُ أخوه إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من مُحَيّصَة، فلما قتله جعل حُوَيِّصةُ يضربه، ويقول: أيْ عدُوَّ الله، أقتلته؟ أما واللهِ لَرُبَّ شحمٍ في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت له: أما والله لقد أمرني بقتله مَنْ لو أمرني بقتلك لضربْتُ عنقك، قال: واللَّهِ لو أمرك بقتلي لقتلتني، قال: نعم، والله لو أمرني بقتلك لقتلتك، قال: والله إن دينًا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة -وكان ذلك أوَّل إسلامه-، فقال محيصة:

يلوم ابْنُ أُمِّي لو أُمرتُ بقتله ... لَطَبَّقتُ ذِفَرَاهُ بأَبْيَضَ قَاضِبِ حُسامٍ كَلَوْنِ الملح [أُخْلِصَ] (¬1) صقلُهُ ... متى ما أُصوبه فليس بكاذب وما سرني أني قتلْتُكَ طائعًا ... وأنَّ لنا ما بين بُصرى ومأْرب شهد أُحدًا والخندق وسائر المشاهد مع النبي - صلي الله عليه وسلم -. وأما عبد الرحمن بن سهل: فهو عبد الرحمن بن عمرو بن سهل الأنصاري، ثم الخطمي المدني؛ وهو من بني حارثة. شهد أُحدًا وما بعدها. روى عن عثمان وغيره، وعنه ابنه عمرو وغيره. له حديثان. قال أبو عمر: يقال إنه شهد بدرًا، وكان له فهم وعلم، وهو القائل لأبي بكر لما أعطى الجدة أم الأم دون أم الأب: يا خليفة رسول الله أعطيت الذي لو ماتت لم يرثها وتركت الذي لو ماتت ورثها، فجعله أبو بكر بينهما. قلت: واستعمله عمر على البصرة حين مات عتبة بن غزوان. وأما حمّاد بن زيد فهو عالم أهل البصرة في زمنه أبو إسماعيل حمّاد بن زيد بن درهم الأزدي، البصري، الأزرق، الضرير، الحمصي، مولى جرير بن حازم. سمع خلقًا من التابعين وغيرهم، ¬

_ (¬1) في الأصل ون هـ (أبيض)، وما أثبت من المغازي وسيرة ابن هشام (2/ 441).

وعنه خلائق من الأئمة والعلماء. قال ابن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: الثوري، ومالك، والأوزاعي، وحماد بن زيد. وقال أحمد: هو أحب إليَّ من حمّاد بن سلمة. وقال أبو زرعة: هو أثبت منه بكثير وأصح حديثًا وأتقن. وُلد سنة ثمان وتسعين، ومات سنة تسع وسبعين ومائة، بعد موت مالك بأشهر، وهو ابن إحدى وثمانين سنة، وصلَّى عليه والي البصرة إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي. وأما سعيد بن عبيد: فهو الطائي الكوفي أبو الهذيل. روى عن بشير بن يسار وسعيد بن جبير وجماعة، وعنه وكيع وجماعة. وثقه أحمد وابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. واعلم أنه وقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬1): سعد بن عبيد، بدل: سعيد، وهو من النساخ، وصوابه سعيد -كما ذكرت-. ووقع في "شرح الفاكهي" على الخطأ أيضًا. ولما رأى بعض الشراح ذلك ترجمه سعيد بن عبيد الزهري -السالف- في باب أفضل الصيام وغيره، فاجتنبه. ووقع في بعض نسخ الكتاب: سعيد بن عبيد، بدل: سعيد بن زيد. فعقد له بعض من تكلم على رجاله ترجمة، وهذا وهم آخر فاحذره، ووهم الصعبي شارح هذا الكتاب وهمًا آخر، فكتب فيما شاهدته من خطه: سعد بن عبيد، ثم ضرب على عبيد وكتب: ابن زيد، فاجتنب ذلك [كله] (¬2). ¬

_ (¬1) في النسخة التي بين يدي (سعيد). (¬2) في هـ ساقطة.

الوجه الثاني: في بيان ما فيه من الأمكنة والألفاظ: أما خيبر: فتقدم ذكرها في الحديث الخامس من باب الرهن وغيره. وقوله: "فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كبر, كبر" كذا في الصحيح. وفيه أيضًا: "فذهب محيصة ليتكلم فقال: كبر، كبر" يريد السن، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة. ومعنى "كبر كبر" ليتكلم الأكبر، وأكَّده بالتكرير تنبيهًا على شرف السن. وقد روعي في الإِمامة وولاية النكاح ندبًا أيضًا، والمراد بكبر السن: القِدم في الإِسلام والسبق إليه والعلم به وممارسة أعماله وأحواله والفقه فيه. ولو كان الشيخ عريًا عن ذلك واتصف الشاب به قدم عليه. وقد قدم وفد على عمر بن عبد العزيز، فتقدَّم شاب للكلام، فقال له عمر: كبر، كبر؛ فقال: يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان هنا من هو أولى بالخلافة منك. فقال: تكلم، فتكلم، فأبلغ وأوجز. وكلام عبد الرحمن على رواية الكتاب لم يكن حقيقة دعوى يترتب عليها الحكم، إذ لو كان دعوى لما قدم حويصة ومحيصة عليه لأنه أخوه، وهما ابنا عمه لا حق لهما في المطالبة به مع وجوده، وإنما هو بيان وشرح للواقعة والأكبر أفقه وأعلم بذلك خصوصًا في مخاطبة الكفار (¬1)، فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها. قاله النووي في "شرحه" (¬2) قال: ويحتمل أن عبد الرحمن وكلهما في الدعوى ¬

_ (¬1) ليس هذا محله لأنهما خاطبا النبي - صلي الله عليه وسلم -. (¬2) شرح مسلم (11/ 146).

ومساعدته أو أمر بتوكيله حيث أمر بالتفويض في المطالبة إلى الأكبر، واستبعد غيره ممن أدركناه هذا الاحتمال، وقال: لو كان ثم توكيل لنقل، والأحسن أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يعلم أن عبد الرحمن أخص منهما بالكلام، وأن أخاه هو المقتول، وأنهم أتوا بسبب ذلك، وإنما لما جاؤوه مجتمعين فهم من حالهم أنهم أتوه في أمر يشملهم ولم يعلم السبب الذي جاء بهم. فلما رأى أصغر الأخوين بدأ بالكلام نبه على أن الأكبر أولى بذلك. وقول النووي (¬1): إنه لم يكن المراد بالكلام حقيقة الدعوى. قد يرده قوله -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك بنحو صفحة أن فيه جواز الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم (¬2). إلا أن يقال أن الظاهر وقوع دعوى بعد هذا، فلا يرد ذلك عليه. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم" إن قلت: كيف عرضت اليمين على الثلاثة, وإنما اليمين للوارث خاصة وهو عبد الرحمن دونهما؟ فالجواب كما قاله النووي في "شرحه" (¬3) أنه كان معلومًا عندهم أن اليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهم؛ والمراد من يختص به اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلومًا عند المخاطبين؛ كما سمع كلام الجميع في قتله وكيفية ما جرى له، وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارث. ¬

_ (¬1) (11/ 146). (¬2) أي كلام النووي (11/ 148). (¬3) شرح مسلم (11/ 146).

قلت: [و] (¬1) هو جواب حسن، لكن ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" يخدشه، نعم هو مؤول كما سيأتي، [ولم] (¬2) تأوله المالكية، بل قالوا به، وأنه إذا كان ولي الدم وأحد يستعين بعصبته في الأيمان فيحلفون معه وإن لم يكن لهم ولاية. ومعنى "تستحقون قاتلكم، أو صاحبكم": يثبت حقكم على من حلفتم عليه، وهل ذلك الحق قصاص أو دية فيه خلاف بين العلماء -كما سيأتي-. وقوله: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" لابد من تأويله, لأن اليمين إنما تجب على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة وتأويله عند أصحابنا أن معناه يؤخذ منكم خمسين يمينًا، والحالف لها هو الوارث. وقوله: "فتبرئكم يهود" هو مرفوع لا يصرف، لأنه اسم للقبيلة والطائفة، ففيه التأنيث والعلمية. ومعنى "تبرئكم يهود بخمسين يمينًا": أي تبرأ إليكم من دعواكم بذلك. وقيل: معناه يخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا، فإذا حلفوا انتهت الخصومة ولم يثبت عليهم شيء وخلصتم أنتم من اليمين. "الرُّمّة" بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة، أصلها: الحبل الذي يكون في عنق البعير أو الأسير ليسلم به من يقوده به، شُبِّه به ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) في الأصل (وبه) وما أثبت من هـ.

القاتل لتسليمه إلى ولي المقتول للقتل، والجمع: رمم ورمام. وأما الرِّمة بالكسر: فالعظم البالي. يقال: رمم العظم وأرم: إذا بلي. والرميم: الشيء التالف المتفتِّت كالورق المهشَّم؛ ومنه قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} (¬1). وقولهم: "كيف نأخذ بأيمان قوم كفار" هو استبعاد لصدقهم وتقريب لإِقدامهم على الكذب وجرأتهم على الأيمان الفاجرة. ومعنى "عقله": [أعطى] (¬2) عقله، أي ديته: وسُمِّيت الدية عقلًا لأن الإِبل كانت تعقل بفناء المستحقين. "ووداه" بتخفيف الدال: أي دفع ديّته. ومعنى "كره أن يبطل دمه"، أي يجعله هدرًا. الوجه الثاني: في أحكامه: الأول: إثبات القسامة، وهو كما قال القاضي عياض: أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. وروي عن جماعة إبطال القسامة، وأنه لا حكم لها ولا عمل بها، منهم: سالم بن عبد الله، والحكم بن عتبة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وابن علية، والبخاري. . . . وغيرهم. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات: آية 42. (¬2) في الأصل أي وما أثبت من هـ.

وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين، وكذا عن سلمان بن يسار، والصحيح عنه العمل به كما قال القرطبي (¬1). واختلف قول مالك في جواز القسامة في القتل خطأ، كذا حكاه القاضي عياض، ونوقش في ذلك، وأنه إنما اختلف في قوله في قتل الخطأ مع قول الميت: فلان قتلني، لا فيما إذا كان اللوث غير ذلك. واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدًا هل يجب القصاص بها؟ فقال معظم الحجازيين: يجب، وهو قول الزهري، وربيعة، وأبي الزناد، ومالك وأصحابه، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود. وهو قول الشافعي في القديم. وروي عن ابن الزُّبير وعمر بن عبد العزيز. قال أبو الزناد: قتلنا بها وأصحاب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان. والذي قال بهذا جعل له شرطين: أحدهما: ما يقتضي القصاص في الدعوى. والثاني: المكافأة في القتل، وشبهوا القتل بها باليمين المراودة في استحقاق ما ادعى به. وقال الكوفيون والشافعي في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب الدية. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 18).

وروي عن الصديق، والفاروق، وابن عباس، ومعاوية، والحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، وإسحاق؛ واستدل لذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيح: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب" فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود، ولأنه لم يتعرض للقصاص؛ لكن الاستدلال بقوله -عليه الصلاة والسلام- فيما مضى فيدفع "برمته" أقوى من الاستدلال بقوله: "وتستحقون دم صاحبكم", لأن قولنا "يدفع برمته" [مستعمل] (¬1) في دفع القاتل للأولياء للقتل، و [لو] (¬2) أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ [فيها] (¬3)، وهو [في] (¬4) استعماله في تسليم القاتل أظهر، والاستدلال بقوله: "دم صاحبكم" كما ثبت في الصحيح من رواية الكتاب: "تستحقون قاتلكم، أو صاحبكم" لأن هذا اللفظ الأخير لابد فيه من إضمار، فيحتمل أن يضمر: "دية صاحبكم". [إضمارًا] (¬5) ظاهرًا، وإنما بعد التصريح بالدم، فيحتاج إلى تأويل اللفظ، بإضمار بدل "دم صاحبكم"، والإِضمار على خلاف الأصل، ولو احتيج إلى الإِضمار لكان حمله على ما يقتضي إراقة الدم أقرب، والمسألة مستشنعة عند المخالفين لهذا المذهب، ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (يستعمل). (¬2) زيادة من هـ وإحكام الأحكام. (¬3) في هـ (فيه). (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) في إحكام الأحكام (احتمالًا).

أو بعضهم، فربما أشار بعضهم إلى احتمال أن يكون المراد بقوله: "دم صاحبكم" هو القتيل لا القاتل، ويرده قوله: "دم صاحبكم أو قاتلكم". ثم اختلفوا فيمن يحلف في القسامة، فقال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة ويجب الحق بحلفهم خمسين يمينًا، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بالمدعى وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا يندفع، وقال مالك: الذي أجمعت عليه الأمة قديمًا وحديثًا أن المدَّعين يبدؤون في القسامة، ولأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث. قال القاضي (¬1): وضعف هؤلاء رواية من روى الابتداء بيمين المدعى عليهم. قال أهل الحديث: هذه الرواية وهم من الراوي، لأنه أسقط الابتداء بيمين المدعى عليهم، ولم يذكر رد اليمين، ولأن من روى الابتداء بالمدعين معه زيادة علم ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة توجب العمل بها ولا يعارضها رواية من نسي. قال: وكل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية بدأ بيمين المدعى عليهم إلا الشافعي وأحمد، فقالا بقول الجمهور، وأنه يبدأ بيمين المدعي، فإن نكل ردت على المدعى عليه. وأجمع العلماء: على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى حتى يقترن بها شبهة يغلب الظن بالحكم بها. واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة؛ لها سبع صور: ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 395).

الأولى: أن يقول المقتول في حياته دمي عند فلان. وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثرًا وفعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني، ويذكر العمد، فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث، وادعى مالك: أنه مما أجمع عليه الأئمة [حديثًا وقديمًا] (¬1). قال القاضي (¬2): ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما ولا روي عن غيرهما، وخالفا في ذلك العلماء كافة، فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة، واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة. واحتج مالك في ذلك بقصة بني إسرائيل، وقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} (¬3)، قالوا: فحي الرجل وأخبر بقاتله. واحتج أصحابه: بأن تلك حالة تطلب فيها غفلة الناس، فلو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا. قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزوَّد البر والتقوى، فوجب قبول قوله. وقال الباجي (¬4): إن قيل ذلك -أعني ما سلف من قصة بني إسرائيل- أنه قيل: إنما الآية في إحيائه، وإذا صار حيًا لم يكن كلامه آية؛ وهذا مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه. ¬

_ (¬1) ن هـ (تقديم وتأخير). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 397). (¬3) سورة البقرة: آية 73. (¬4) المنتقى (7/ 56).

قال أبو عمر (¬1): هذه غفلة شديدة, لأن هذه الآية لا تصح إلا لنبي، أو بحضرة نبي، وقتيل بني إسرائيل لم يقسم عليه أحد بيمين واحدة ولا خمسين، وقد أجمعوا أن شرعة المسلمين وسنتهم في الدماء والأموال لا يقضى فيها بالدعاوى المجردة، وأن المقتول لو قال عند موته: دمي عند فلان، ولي على فلان درهم فما فوقه لم يقبل قوله في الدرهم. واختلفت المالكية: في أنه هل يكتفى في الشهادة على قوله بشاهد أم لابد من اثنين؟ حكاه القاضي عنهم، ونقل غيره أن المشهور الثاني. واختلفوا أيضًا إذا لم يقم على الضرب أو الجرح إلا شاهد واحد. فقال ابن القاسم: يقسم معه. وقال غيره: لا يقسم حتى يثبت أصل الجرح أو الضرب. الثانية: اللوث من غير بيِّنة على معاينة القتل، وبهذا قال مالك والليث والشافعي: ومن اللوث شهادة العدل وحده. وكذا قال جماعة ليسوا عدولًا، وفي الواحد غير العدل خلاف عن مالك، وجعل الليث وربيعة ويحيى بن سعيد شهادة العبيد والصبيان والذميين لوثًا. وقال بعض المالكية: شهادة الصبيان والنساء لوث وأباه أكثرهم. ¬

_ (¬1) الاستذكار (25/ 326).

الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أيامًا ثم مات قبل أن يفيق منه، قال مالك والليث: هو لوث، أي إذا لم ينفذ مقاتله عند مالك. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا، بل يجب القصاص بشهادة [العدلين] (¬1). [الرابعة] (¬2): يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آت من جهته ومعه آلة القتل، وعليه أثر من لطخ دم وغيره، وليس هناك سبع ولا غيره. مما يمكن إحالة القتل عليه أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي. [الخامسة] (¬3): أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك والشافعي. وعن مالك رواية: أنه لا قسامة، بل فيه دية على الطائفة الأخرى إن كان من الطائفتين، وإن كان من غيرهما فعلى الطائفتين ديته. وقال أحمد وإسحاق: ديته على الفئة المنازعة، فإن عينوا رجلًا ففيه القسامة. [السادسة] (¬4): أن يوجد الميت في زحمة الناس. قال الشافعي: تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية. ¬

_ (¬1) في هـ (عدلين). (¬2) في الأصل (العاشرة) وما أثبت من هـ. (¬3) في ن هـ (الخامسة). (¬4) ن هـ (سادسة).

وقال مالك: هو هدر. وقال الثوري وإسحاق: تجب ديته في بيت المال. وروى مثله عن عمر وعلي. [السابعة] (¬1): أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم. فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا تثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتيل هدر، لأنه [لا] (¬2) يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة ليست لهم ليلطخهم به. قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أو قرية صغيرة. [لا عداية] (¬3) لا يساكنهم غيرهم فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم -عليه الصلاة والسلام- بالقسامة لورثة القتيل لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم. وعن أحمد نحو قول الشافعي، وتأوله بعضهم على مذهب مالك. وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبعة إلا بهذا، لأنها عندهم في الصورة التي حكم بها النبي - صلي الله عليه وسلم - فيها بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر. ¬

_ (¬1) ن هـ (سابعة). (¬2) زيادة من هـ وفي المفهم (قد). (¬3) هكذا في المخطوط والمراد به (العداوة) كما في المفهم (5/ 6) وسياق الكلام بعده.

قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد حلف أهل المحلة ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة، وإن لم يكن عليه أثر، ونحوه عن داود، وقال: لا أقضي بالقسامة في شيء إلا في الدعوى في العمد دون الخطأ على أهل القرية الكبيرة أو المدينة وهم أعداء المقتول. الثاني: من أحكام الحديث اشتراط وجود الدم في إيجاب القسامة صريحًا، والجراحة ظاهرًا لوجود عبد الله بن سهل يتخبَّط في دمه قتيلًا، وحكمه -عليه الصلاة والسلام- بالقسامة بسببه وقد قدمنا في الصورة الأولى عن بعض المالكية اشتراط الأثر والجرح. وقال أصحابنا: لا يشترط وجود دم ولا جراحة، فإن القتل قد يحصل بالخنق، وعصر الخصية، والقبض على مجرى النفس؛ فيقوم أثرهما مقام الجراحة. وقال أبو حنيفة: إن لم تكن جراحة ولا دم فلا قسامة، وإن وجدت الجراحة ثبتت القسامة، وإن وجد الدم دونها؛ فإن خرج من أنفه فلا قسامة، وإن خرج من أذنه أو فمه ثبتت. قال الرافعي: وهو وإن شرط الجراحة أو الدم في القسامة فلا يجعل الخلو عنها مبطلًا للوث، واللوث غير معتبر عنده، وليست القسامة عنده كهي عندنا. الثالث: فضيلة السنن عند التساوي في الفضائل، وقد سلف واضحًا.

الرابع: البداءة في القسامة بيمين المدعي، وهو مذهب أهل الحجاز، ونقل عن أبي حنيفة خلافه. وهو مخالف لما اقتضاه الحديث، وقدم المدعي هاهنا باليمين على -خلاف قياس الخصومات- بما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث، مع عظم قدر الدماء، ولينبّه على أنه ليس كل واحد من هذين المعنيين بعلة مستقلة، بل كل واحد جزء علة. الخامس: تعدد الأيمان في القسامة، وأنها خمسون، والحكمة في تعددها أن تصديق المدعي على خلاف الظاهر، فأكد بالعدد لتعظيم شأن الدم، فلو كانت الدعوى في غير محل اللوث وتوجهت اليمين على المدعى عليه، ففي تعددها خمسين، قولان للشافعي أظهرها نعم لتعظيم شأن الدم. ونقل مقابله عن أبي حنيفة لأنها يمين في جانب المدعى عليه لقطع الخصومة، فلا تغلظ بالعدد كسائر الدعاوى. السادس: أن المدعي في محل القسامة إذا نكل غلظت اليمين، فالتعداد على المدعى عليه. وهو أصح الطريقين عند الشافعية، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا" جعل أيمان المدعى عليهم بعد أيمان المدعين. والطريق الثاني: طرد القولين المذكورين في المسألة قبلها لأن نكوله يبطل اللوث، فكأنه لا لوث. السابع: صحة يمين الكافر، والفاسق أولى بالصحة منه. ومشهور مذهب مالك أن الكافر إنما يحلف بالله الذي لا إله إلَّا هو سواء كان يهوديًا، أو نصرانيًا، أو غيرهما من الأديان كما يحلف

المسلم، وعنه أن اليهودي يحلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإِنجيل على عيسى، ويحلف في المواضع التي يعتقد [تحريمها] (¬1) الناس أن القسامة يجب بها القصاص، وقد سلف ما فيه. التاسع: أن القسامة إنما تكون على واحد، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم". وبه قال مالك وأحمد, لأنه لو قتل أكثرُ من واحد، لم يتعين أن يقسم على واحد منهم، وخالف فيه المغيرة بن عبد الرحمن من أصحاب مالك. وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على ما شاؤوا, ولا يقتلون إلَّا واحدًا. وقال الشافعي: إن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم [وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي، وعلى قول يجب القصاص عليهم] (¬2)، وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده. العاشر: أنه لو تعدد المدَّعون في محل القسامة، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم"، ومعناه: يقسم كل واحد من الخمسين القَسم المشروع في ذلك، وهو خمسون يمينًا، وهو أحد قولي الشافعي، ¬

_ (¬1) في هـ والمفهم (5/ 15) (تعظيمها). (¬2) في ن هـ ساقطة.

وأصحَّهما: أنها توزع عليهم بحسب الإِرث، ويوزع الكسر، فلو كان الوارث ثلاثة مثلًا حلف كل واحد سبعة عشر، ثم الحالفون هم ورثة الدم، فلا يحلف غيرهم من الأقارب، وسواء كان الوارث ذكرًا أم أنثى، وسواء كان القتل عمدًا أم خطأ؛ وهذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر، ووافق مالك فيما إذا كان القتل خطأ، أما إذا كان عمدًا فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا ولا يحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر، واحتج الشافعي بقوله: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم"، فجعل الحالف هو المستحق للدية أو القصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية. الحادي عشر: قد يؤخذ من قوله: "يقسم خمسون منكم" ما إذا كانوا أكثر من خمسين أنه لا يحلف منهم إلا القدر المذكور. وقد اختلف عن مالك في ذلك هل يحلف كلهم يمينًا [. . .] (¬1) أو يقتصر منهم على خمسين. قال القرطبي (¬2): هذا هو الأولى، لأن "من" للتبعيض والخطاب لجميع الأولياء، فأفاد ذلك أنه إذا حلف منهم خمسون أجزأ. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (يمينًا). (¬2) المفهم (5/ 11) وفي المطبوع للتبيين وأشار في الحاشية (أنها للتبعيض).

الثاني عشر: جريان القسامة في قتل الحر، فإن الحديث ورد به، وفي إلحاق العبد به قولان للشافعي مأخذهما شرف الحرية أو الدماء، والأصح نعم، ونقل عن أبي حنيفة أيضًا. الثالث عشر: جريانها في النفس الكاملة، وهل يجري فيما دون النفس من الأطراف والجراحات؟ مذهب مالك: لا. وفي مذهب الشافعي قولان كما حكاه الشيخ تقي الدين (¬1)، والذي نعرفه من مذهبه الجزم في الطرف والجراحات كمذهب مالك. وحكى الروياني وجهًا في الأطراف، وغلط قائله ومنشأ الخلاف أن وصف كونها نفسًا له أثرٌ أم لا، وكون هذا الحكم على خلاف القياس يقوي الاقتصار على مورده. الرابع عشر: جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم، وقد سلف ما فيه. الخامس عشر: جواز اليمين بالظن الراجح وإن لم يوجد القطع، وإنما عرض -عليه الصلاة والسلام- اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط؛ ولهذا قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟. السادس عشر: إن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإِسلام في الاحتساب بيمينه، والاكتفاء بها، وأن يمين المشرك مسموعة على المسلمين، كيمين المسلم عليه. قال الشيخ تقي الدين (¬2): ومن نقل من الناس عن مالك أن أيمانهم لا تسمع على ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 314). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 317).

المسلمين كشهادتهم، فقد أخطأ قطعًا في هذا الإطلاق، بل هو خلاف الإِجماع الذي لا يعرف غيره؛ لأنه في الخصومات إذا اقتضت توجيه اليمين على المدعى عليه حلف، وإن كان كافرًا. السابع عشر: نظر الإِمام في المصالح العامة والاهتمام بإصلاح ذات البين. الثامن عشر: جواز دفع الدية إلى أولياء المقتول من بيت المال، ويجعل قول الراوي: "فوداه من عنده"، أي من بيت المال المعدّ للمصالح مع احتمال أنها من خالص ماله -عليه الصلاة والسلام-. واستدل به الإِمام أبو إسحاق المروزي -من أصحابنا- على جواز صرفها من إبل الزكاة، أي ويجوز صرفها في مثل هذا لأنه من المصالح العامة، وجعل بعضهم ذكر إبل الصدقة غلطًا من الرواة لأنها مستحقة لأصناف الزكاة. وحمله الجمهور من أصحابنا وغيرهم على أنه اشتراها من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ثم دفعها إلى أهل القتيل تبرعًا وهو المختار، وقريب منه أنه تسلفها من مال الصدقة ليؤدِّيها من مال الفيء. وحكى القاضي: عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول هذا الحديث وتأوله بعضهم على أن أولياء المقتول كانوا محتاجين ممن تباح لهم الزكاة، وأبطلها النووي في "شرحه لمسلم" (¬1) بأن قال: هذا قدر كبير لا يدفع ¬

_ (¬1) (11/ 148).

إلى الواحد الخامل من الزكاة بخلاف أشراف القبائل، ولأنه سماه دية. وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة من الزكاة ائتلافًا لليهود، ولعلهم يسلمون، وضعفه النووي أيضًا بأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر، ويحتمل أن يكون أولياء القتيل مستحقين للصدقات، فأعطاها إياهم في صورة الدية تسكينًا لنفرتهم وجبرًا لهم مع أنهم يستحقون لها. ذكره القرطبي (¬1). ورأيت من يجيب بجوابين آخرين، أحدهما: لعله أراد بالصدقة الفيء لأنه مرصد للمصالح. ثانيها: لعل ذلك كان قبل نزول بيان مصارف الصدقة في سورة براءة، لأنها من آخر ما نزل من القرآن. التاسع عشر: أن الدية من الإِبل. العشرون: أن من وجبت عليه يمين في دعوى فنكل أن المدعي لا يستحق شيئًا حتى يرد عليه؛ وهو قول مالك والشافعي. ويُروى عن عمر وعثمان وجماعة من السلف، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا". وقال الكوفيون وأحمد: ويقضى بالنكول دون رد اليمين. وقال ابن أبي ليلى: يؤخذ باليمين. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 16).

خاتمة: أول من قضى بالقسامة -على ما حكاه ابن قتيبة في "معارفه"- الوليد بن المغيرة في الجاهلية، فأقرها -عليه الصلاة والسلام- في الإِسلام. وفي "مصنف عبد الرزاق" (¬1) أن أول من كانت فيه القسامة في الإِسلام عبد الله بن سهل، وذكر ابن زبالة أنه -عليه الصلاة والسلام- قضى بذلك في مسجد بني حارثة من الأوس. ¬

_ (¬1) (10/ 30، 31).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 358/ 4/ 68 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن جارية وجد رأسها مرضوضًا بين حجرين، فقيل: من فعل هذا بكِ؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكر يهودي، فأومأت برأسها، فأُخذ اليهودي فاعترف، فأمر النبي - صلي الله عليه وسلم - أن يُرضّ رأسه بين حجرين". ولمسلم والنسائي عن أنس: "أن يهوديًا قتل جارية على أوضاحٍ، فأقاده رسول الله - صلي الله عليه وسلم -" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذه الرواية التي عزاها لمسلم ليست فيه بهذا اللفظ، وإنما لفظه: "فقتله رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بين حجرين"، وهي بهذا اللفظ في البخاري أيضًا. وترجم على الحديث: "إذا قتل بحجر أو ¬

_ (¬1) البخاري في أطرافه (2413)، ومسلم (1672)، والترمذي (1394)، وأبو داود (4527، 4528، 4535)، والنسائي (8/ 22)، وابن ماجه (2665)، والدارقطني (3/ 168، 169)، وأحمد (3/ 163)، وابن الجارود (838)، والطيالسي (1986)، والبغوي (2528)، والبيهقي (8/ 42)، وأبو يعلى (2866، 3149).

بعصى (¬1). ومن أقاد بالحجر (¬2). وقتل الرجل بالمرأة (¬3). وإذا أقر بالقتل مرة قتل به (¬4). والإِشارة في الطلاق والأمور" (¬5). رواه فيه معلقًا، وفيه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لها: "من قتلك؟ فلان؟ -لغير الذي قتلها- فأشارت برأسها أن لا. قال: فقال لرجل آخر -غير الذي قتلها- فأشارت أن لا. فقال: ففلان؟ -لقاتلها- فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فرُضخ رأسه بين حجرين". نعم هو في النسائي باللفظ الذي عزاه إليه. الثاني: هذه الجارية وقاتلها لا أعرف اسمها بعد الفحص عنه، وفي الصحيح أن الجارية من الأنصار، والظاهر من قتلها كان غيلة، لأنه أخذ حليها. الثالث: الأوضاح بالضاد المعجمة: حلي من فضة يُتحلَّى به. وقد ذكر في الصحيح أيضًا: مكانها "الحلي" سُميت بذلك لبياضها. واحدها: وضح. وقيل: إنه حلي من حجارة. حكاه القاضي. و"الرض": الكسر غير المبان، ¬

_ (¬1) حديث (6877). (¬2) حديث (6879). (¬3) حديث (6885). (¬4) حديث (6884). (¬5) حديث (5295)، لم يذكر المؤلف بعض التراجم التي عقد البخاري على هذا الحديث أبواب، منها: باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت، حديث (2746)، وأيضًا باب سؤال القاتل حتى يقر، والإِقرار في الحدود (6876).

ومعنى "بين حجرين": أنه وضع رأسها على حجر ورمى بآخر، وفعل به مثل ذلك. وفي الصحيح: "أنه رضخ رأسه بين حجرين"، وفيه: "أنه رجمه بالحجارة"، والمعنى واحد لأنه إذا وضع رأسه على حجر ورضّ بآخر فقد رجم، ورض، ورضخ، وقد يكون رجمه نوعًا مما فعل بها؛ فإن في الصحيح: "أنه ألقاها في القليب"، وهي البير غير المطوية "ورضخ رأسها بالحجارة". وهذا رجم لا شك فيه، وهذا أولى من ادعاء تعدد الواقعة. الرابع في أحكامه: الأولى: قتل الرجل بالمرأة، وهو إجماع من يعتد به. وعن عليّ أنه إذا قتل بها أخذ نصف الدية إن شاءوا وإلا أخذوا الدية. قال ابن عبد البر (¬1): ولا يصح، وروي ذلك عن الحسن، واختُلف فيه عن عطاء، وبه قال البتي. الثاني: قتل الذمي والمعاهد والمستأمن بالمسلم. الثالث: جواز سؤال الجريح من جرحك؟ لفائدة تعرف الجارح من بين المتهمين ليطالب، فإن أقرّ ثبت عليه القتل كما جرى لليهودي من أخذه واعترافه، فلو أنكر فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه بمجرد قول المجروح شيء، وهو قول جمهور العلماء. وقال مالك: يثبت القتل بمجرد قول المجروح على المتهم تعلقًا بهذا الحديث وهو غريب، فإن اليهودي لم يقتل إلا باعترافه لا بمجرد قول المجروح. لا جرم قال النووي (¬2): إنه تعلُّق باطل. ¬

_ (¬1) الاستذكار (25/ 254). (¬2) شرح مسلم (11/ 159).

ورأيت من المالكية من يشنع هذا على النووي ويقول: ليس هذا مذهب مالك وإنما مذهبه أنه لوث وغفل هذا المعترض المتحايل عن مذهبه أن اللوث موجب القصاص. وذكر القاضي (¬1) أبو عبد الله بن المرابط أنه كان في أول الإسلام قبول [قول] (¬2) القتيل، وأن هذا معنى الحديث؛ وأن ما جاء من اعترافه إنما جاء من رواية قتادة ولم يقلده غيره، وهذا مما عُدَّ عليه، وفيما ذكره نظر لا يخفى. الرابع: التوصل إلى معرفة القاتل بتعديد الأشخاص عليه لقصد معرفة الحق ودفع الريبة فيه. الخامس: أن الإشارة بالرأس ونحوه في ذلك قائمة مقام النطق [فإنها نزلت منزلة دعواها. قال القرطبي (¬3): ومن قال من الرواة: إنها قالت: نعم، فإنما عبر عما فُهم عنها من الإِشارة بالقول] (¬4). السادس: وجوب القصاص بالمثقل عمدًا وهو ظاهر من الحديث وقوي في المعنى أيضًا، فإن صيانة الدماء من الإِهدار مطلوب، والقتل بالمثقل كالمحدد في إزهاق الأرواح؛ فلو لم يجب القصاص بالقتل بالمثقل لأدى ذلك إلى أن يتخذ ذريعة إلى إهدار القصاص، وهو خلاف المقصود من حفظ الدماء. وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 414). (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) المفهم (5/ 24). (¬4) زيادة من ن هـ.

وقال أبو حنيفة: لا قصاص إلا في القتل المحدد من حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفًا بقتل الناس كالمنجنيق والإِلقاء في النار. واختلف عنه في مثقل الحديد كالدبوس، واعتذر الحنفيون عن الحديد بأعذار ضعيفة: منها: أن قتل اليهودي إنما كان سياسة لا قصاصًا. قالوا: فإنه كان ساعيًا في الأرض بالفساد، وكان من عادته قتل الصغار بذلك الطريق، وهذا كله مردود برواية النسائي التي فيها لفظ الإِقادة، فإنه لا يقال في القتل سياسة. فإن كانت الجناية شبه عمد فإن قتل بما لا يقصد به القتل غالبًا فتعمد القتل به، كالعصا والسوط واللطمة والقضيب والبندقة .. ونحو ذلك، فقال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فعن بعدهم من أئمة المذاهب وغيرهم، كالشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور: لا قصاص فيه. وقال مالك والليث: يجب فيه القود. السابع: اعتبار المماثلة في استيفاء القصاص بالقتل بالمثقل، فيُقتل على الصفة التي قَتل، فإن قَتل بالسيف قُتل به، وإن قَتل بخشب أو حجر أو نحوهما قُتل بمثله؛ لأن اليهودي رضخها فرضخ هو. وهذا مذهب الشافعي ومالك؛ فإن اختار الولي العدول إلى السيف، فله ذلك. وقال أبو حنيفة: لا قود إلا بالسيف.

[قال ابن رشد في "مقدماته" في القسامة: يُقتل بالسيف، وإن كان بالإِقرار أو بالبينة، ففيه خلاف] (¬1) وهو قول مخرج عندنا والحديث حجة عليه، وحديث: "لا قود إلا بالسيف"، و"لا قود إلا بحديدة" (¬2) قد بيَّن البيهقي في "خلافياته" (¬3) ضعفهما. والنهي عن المثلة: محمول على من وجب عليه القتل لا على طريق المكافأة. نعم يُستثنى من هذا ما إذا كان الطريق الذي حصل به القتل محرمًا كالسحر، فإنه لا يقتل به. واختلف أصحابنا فيما لو قتل باللواط [أو] (¬4) بإيجار الخمر، فالأصح أن المماثلة تسقط، فإنها محرمة كالسحر، ومنهم من قال: يدس فيه خشبة مثل الذكر، ويوجر مائعًا، ومحل القول في ذلك وأمثاله كتب الفروع. وقد أوضحناها فيها ولله الحمد. وعندنا أن إذا حرقه بالنار يحرق بها، وخالف ابن الماجشون بحديث: "لا يعذب بالنار إلا ربها" (¬5). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقط. (¬2) البيهقي (8/ 62) عبد الرزاق (17179). (¬3) مختصر الخلافيات (4/ 341). (¬4) في ن هـ (و). (¬5) البخاري (3016)، وأبو داود (2674)، والترمذي (1571)، وأحمد (2/ 307).

وقد يجاب بأن المراد: لا يعذب أدبًا وتعزيرًا؛ وقد قال تعالي: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} (¬1) الآية. وأما قولنا: إن للولي أن يعدل إلى السيف إذا اختار، فقد استثنى بعضهم منه ما إذا قتله بالخنق. قال: لا يعدل إلى السيف وادعى أنه عدول إلى الأشد، فإن الخنق يغيب العقل فيكون أسهل، وأشار إمام الحرمين من أصحابنا إلى حكايته وجهًا. الثامن: هذه الجارية المذكورة يحتمل أن تكون أمة، وأن تكون حرة؛ إلا أن الجارية لا تطلق على الحرة حقيقة إلا قبل البلوغ، فقد يؤخذ منه على هذا التقدير جواز القسامة مع قول الصبي الذي لم يبلغ وإن كانت لم تقع؛ كما رواه مطرف عن مالك أن الصبي إذا راهق وعرف أقسم على قوله. وقاله ابن الماجشون خلافًا لابن القاسم، وعلى التقدير الأول: يكون في العبد القسامة؛ وهو قول أبي حنيفة خلافًا لمالك (¬2). وقال أبو يوسف: مرة هو هدر لا قسامة فيه ولا قيمة، ومرة تعقله العاقلة بالقسامة. وقال الشافعي: لسيد العبد القسامة فيه. وقال القرطبي (¬3): فيه دلالة على قتل الكبير بالصغير, لأن الجارية اسم لمن لم يبلغ من النساء كالغلام في الرجال، وهذا لا يُختلف فيه. ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 126. (¬2) انظر: الاستذكار (25/ 339، 340). (¬3) المفهم (5/ 25).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 359/ 5/ 68 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما فتح الله [تعالى] (¬1) على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة، قتلت هذيل رجلًا من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله [تعالى] (¬2) قد حبس عن مكة الفيل، وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد [كان] (¬3) قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة [من] (¬4) نهار وإنها ساعتي هذه [حرام] (¬5) لا يعضد شجرها, ولا يختلى خلاها, ولا يعضد شوكها , ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد. ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن [يفدي] (¬6)، فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاهٍ فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: اكتبوا لأبي شاهٍ. ثم قام العباس فقال: يا رسول الله، إلَّا الإِذخر، فإنا نجعله في بيوتنا ¬

_ (¬1) زيادة من متن حاشية إحكام الأحكام. (¬2) في المرجع السابق (عز وجل) وما أُثبت زيادة من ن هـ. (¬3) ساقطة من المرجع السابق. (¬4) زيادة من ن هـ ومن متن حاشية إحكام الأحكام. (¬5) زيادة من المرجع السابق. (¬6) في المرجع السابق (يدي).

وقبورنا, فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: إلا الإِذخر" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه، وقد سلف التعريف بأبي هريرة في أوائل الكتاب وبالعباس في الزكاة. وأبو شاه لا يُعرف اسمه، وإنما هو معروف بكنيته، وهو بالهاء درجًا ووقفًا، ولا يُعرف اسمه. وعن ابن دحية أنه بالياء منصوبة. وقال النووي (¬2): هو بهاء في آخره تكون هاء في الدرج كما تكون في الوقف. قال: وهذا لا خلاف فيه ولا يغتر بكثرة من يصحفه ممن لا يأخذ العلم على وجهه، ومن مظانه. ومثله شاه الكرماني الصوفي الزاهد: هو بالهاء وقفًا ودرجًا. [فائدة: روى ابن إسحاق (¬3) أن خراش بن أمية من خزاعة قتل ابن الأدلع الهذلي وهو مشرك بقتيل قُتل في الجاهلية يُقال له أحمر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل" (¬4) ¬

_ (¬1) البخاري (2434)، ومسلم (1355)، وأحمد (2/ 238)، والترمذي (1405)، وأبو داود (2017)، والنسائي في الكبرى (5855)، والدارقطني (3/ 96، 97)، والدارمي (2/ 265)، والبيهقي في السنن (5/ 177، 178)، (8/ 52، 53)، وابن أبي شيبة (8/ 434 - 537). (¬2) شرح مسلم (9/ 129). (¬3) المغازي للواقدي (843، 844) وفي البداية والفتح (الأثوغ). (¬4) المغازي للواقدي (843)، معاني الآثار (3/ 327) البداية والنهاية (4/ 305) وذكره في الفتح الباري (12/ 206).

وذكر الحديث، ففي هذا بيان المبهم الواقع في الحديث فاستفده] (¬1). الثاني: هذيل بفتح الذال المعجمة: قبيلة كبيرة، والنسب إليها هذلي بضم الهاء وفتح الذال، وهي هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأكثر أهل وادي نخلة بقرب مكة على ستة فراسخ من هذيل. وبنو ليث: هم بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة. الثالث: في ألفاظه ومعانيه، فقوله: "حبس عن مكة الفيل" هو بالفاء ثم مثناة تحت، وشذَّ بعض الرواة فقال: "الفيل أو القتل" بالقاف ثم مثناة فوق. وجزم القرطبي في "شرحه" (¬2) بالأول. و"حبسه": حبس أهله الذي جاؤوا للقتال في الحرم، وذلك أن أبرهة الأشرم الحبشي قصد خراب الكعبة، فلما وصل إلى ذي المجاز -سوق العرب قريب من مكة- عيا فيله، وجهزه إلى مكة، فلما استقبل الفيل مكة رزم، أبي: أقام وثبت، فاحتالوا عليه بكل حيلة فلم يقدروا عليه، فاستقبلوا به جهة مكة فامتنع فلم يزالوا به هكذا حتى رماهم الله بالحجارة التي أرسل الطير بها على ما هو مذكور في السير والتفاسير. و"عام الفيل": هو عام وُلد نبينا -عليه الصلاة والسلام-، وقال مقاتل: كان قبل مولده بأربعين سنة. وقال الكلبي بثلاث وعشرين، والأكثرون على الأول. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) المفهم (3/ 475).

وقوله: "ولا يعضد شجرها"، أي لا يقطع بالمعضد، وقد سلف ذلك في باب حرمة مكة، وكذا سلف فيه الكلام على "لا يختلا خلاها"، وعلى: "لا يعضد شوكها"، وعلى: "إلا لمنشد"، و"الإِذخر"، فراجعه منه. وكذا سلف هناك تاريخ فتح مكة أيضًا. [ومعنى] (¬1) [يدي] (¬2): تؤخذ ديته. وقوله: "اكتبوا لي" أراه خطبة النبي - صلي الله عليه وسلم - يوم الفتح بمكة. قاله الأوزاعي: كما حكاه عنه الوليد بن مسلم في الصحيح. الرابع: في أحكامه سوى ما سلف في باب محرمات الإِحرام، فإنه تقدم هناك معظم ما يتعلق بالحديث من الألفاظ والمعاني والأحكام: الأول: تذكير الناس في المجامع والفتوح بما من الله تعالى به، وفي "صحيح مسلم" أنه خطب به على راحلته. الثاني: أن مكة فُتحت عنوة، فإن التسليط الذي وقع لرسول الله والمؤمنين مقابل بالحبس الذي وقع للفيل، وهو الحبس عن القتال، وقد سلف هناك ما فيه. الثالث: حرمة مكة زادها الله شرفًا، وقد سلف هناك الخلاف في القتال فيها. الرابع: أن ولي القتيل بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل، وأن ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقط. (¬2) انظر ت 6 ص 89.

له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء، وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال مالك: ليس له إلا القتل أو العفو وليس له الدية إلا برضا الجاني، وهو خلاف نص الحديث. الخامس: أن القاتل عمدًا يجب عليه أحد الأمرين من القصاص أو الدية، وهو أحد قولي الشافعي وأصحَّهما عنده: أنَّ الواجب القصاص أو الدية بدل عند سقوطه، وهو مشهور مذهب مالك أيضًا، وعلى القولين [للولي] (¬1) العفو على الدية ولا يحتاج إلى رضا الجاني، ولو مات أو سقط الطرف المستحق وجبت الدية، وبه قال أحمد. وعن أبي حنيفة ومالك: أنه لا يعدل إلى المال إلَّا برضا الجاني، وأنه لو مات الجاني سقطت الدية، وهو قول قديم للشافعي. ووقع في شرح الشيخ تقي الدين (¬2) ترجيح هذا القول، فإنه لما حكى القولين المذكورين أولًا وعزاهما إلى الشافعي قال: ومن فوائد هذا الخلاف أن من قال: الواجب القصاص قال: ليس للولي حق أخذ الدية بغير رضي القاتل، [قال: وقيل على هذا للولي حق إسقاط القصاص، وأخذ الدية بغير رضا القاتل] (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 323). (¬3) في ن هـ ساقطة. ومثبتة في المرجع السابق.

قال: وثمرة هذا القول على هذا تظهر في عفو الولي، وموت القاتل، فعلى قول التخيير يأخذ المال في الموت لا في العفو، وعلى قول التعيين يأخذ المال بالعفو عن الدية لا في الموت. وهذا الحديث ظاهر الدلالة لمن قال: الواجب أحد الأمرين، وللقائل الآخر، أوله بأنه المراد إن شاء أخذ الدية برضى الجاني، إلا أنه لم يذكر الرضى لثبوته عادة، وقيل: إنه كقوله -عليه الصلاة والسلام- فيما ذكر: "خذ سلمك أو رأس مالك" يعني: رأس مالك برضا المسلم إليه لثبوته عادة, لأن السلم بيع بأبخس الأثمان، فالظاهر أنه يرضى بأخذ رأس المال. قال: وهذا الحديث المستشهد به يحتاج إلى إثباته. وتبعه في ذلك ابن العطار، وزاد فجزم به، ثم قال: وأنه إذا عفى عن القصاص وقلنا على التخيير يسقط القصاص وتثبت الدية، وإن قلنا على قول التعيين لم يجب قصاص ولا دية، وتبع فيه النووي، فإنه ذكره كذلك في "شرحه لمسلم" (¬1) وليُتأمَّل مع ما ذكره الشيخ تقي الدين. سادسها: الإِذن في كتابة العلم غير القرآن، وقد ثبت في الصحيح حديث علي - رضي الله عنه -: "ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة" (¬2)، وحديث أبي هريرة: "كان عبد الله بن عمرو يكتب ¬

_ (¬1) شرح مسلم (9/ 129) مع بعض التصرف. (¬2) مسلم (1978)، والنسائي (7/ 232)، والبغوي (2788)، والبخاري في الأدب المفرد (17)، وأحمد (1/ 118، 152)، عبد الله في زوائد المسند (1/ 108)، والبيهقي (6/ 99).

ولا أكتب (¬1) " (¬2)، وجاءت أحاديث في النهي عن كتابة غير القرآن عمل بها بعض السلف، منها حديث: "لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، ومن كتب عليَّ شيئًا غير القرآن فليمحه" (¬3). رواه مسلم وأكثرهم على جوازها. ثم وقع بعد ذلك إجماع الأمة على استحبابها، وأجابوا عن النهى بجوابين: أحدهما: أنها منسوخة لأن النهي كان خوفًا من اختلاط غير القرآن به، فلما اشتهر وأمنت مفسدة الاختلاط وقع الإِذن فيها. ثانيهما: أنه نهي تنزيه لمن يثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة، فأما من [لم] (¬4) يثق بحفظه، فإنها مستحبة في حقه، والإِذن محمول عليه، وقد عد تدوين العلم وكتابته من البدع الواجبة، وادعى القرافي الإِجماع عليه وعلله بأن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعًا ولا يتوصل إليه إلا بالكتب لسوء الحفظ وقلة الضبط، وما لا يتوصل إلى الواجب الآن فهو واجب (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري (113). (¬2) في ن هـ زيادة: (وحديث يا رسول الله أَكتب عنك ما تقول في الرضا والغضب، فقال: أُكتب فإني لا أقول إلَّا حقًا). (¬3) أحمد (3/ 12)، ومسلم (3004)، والنسائي في الكبرى (8008). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) انظر: الفتح (1/ 208).

الحديث السادس

الحديث السادس 360/ 6/ 68 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة [بن شعبة] (¬1): شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرةٍ -عبدٍ، أو أمة-، فقال (¬2): لتأتين بمن يشهد معك، فشهد [معه] (¬3) [محمد] (¬4) بن مسلمة". ["إملاص المرأة": أن تلقى جنينها ميتًا] (¬5). الكلام عليه من وجوه: وهو أصل في إثبات الغرَّة: أحدها: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه. أما عمر بن الخطاب: فسلف أول الكتاب. ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة على حاشية إحكام الأحكام. (¬2) البخاري (6905)، ومسلم (1683)، وأحمد (253)،والنسائي (8/ 47)، وأبو داود (4570، 4571)، وابن ماجه (2640)، والدارمي (2/ 296)، والبيهقي في السنن (8/ 198، 199)، والبغوي (10/ 207)، وابن أبي شيبة (6/ 238). (¬3) في ن هـ (له). وتوافق صحيح مسلم. (¬4) زيادة من ن هـ والمرجع السابق. (¬5) زيادة من متن حاشية إحكام الأحكام.

وأما المغيرة: فسلف في باب مسح الخف. وأما محمَّد بن مسلمة: فهو حارثي أنصاري أوسي، كنيته أبو عبد الله، ويقال أبو عبد الرحمن: ويقال أبو سعيد، وهو حليف بني عبد الأشهل، واسم جده سلمة بن مالك بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو، وهو النبيت بن خالد بن الأوس، شهد محمَّد بدرًا والمشاهد كلها, وله أحاديث، روى عنه ابنه محمود وجابر وجماعة. وكان على مقدمة عمر في مسيره إلى الجابية، وكان شديد السمرة طويلًا أصلع ذا جثة، وكان من فضلاء الصحابة، وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة مرة، وقد اعتزل الفتنة واتخذ سيفًا من خشب وأقام بالربذة, وكان له من الولد عشر ذكور وست بنات. وأمه: اسمها جليلة. مات سنة ثلاث وأربعين، وقيل: سبع، وقيل: ست من صفر عن سبع وسبعين سنة، وصلَّى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ أمير بالمدينة. الثاني: وقع في "المستصفى" للغزالي أن حمل بن النابغة شهد عند عمر بذلك ولم يذكر محمَّد بن مسلمة، وهو غريب. تنبيه: هذا الحديث رواه مسلم من رواية وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه، عن المسور بن مخرمة قال: "استشار عمر الناس" فذكره بلفظ المصنف؛ إلا أنه قال: "ائتني" بدل: "لتأتيني". ورواه البخاري من حديث هشام عن أبيه، عن المغيرة، عن عمر نحوه؛ ومن حديث هشام عن أبيه: "أن عمر نشد الناس" فذكره

بنحوه، وفي بعض طرقه: "أن عمر قال للمغيرة: لا تبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت، فشهد معه محمَّد بن مسلمة". واعترض الدارقطني (¬1) على رواية مسلم، فقال: وهم وكيع في هذا الحديث، وخالفه أصحاب هشام، فلم يذكروا فيه المسور، وهو الصواب، ولم يذكر مسلم غير حديث وكيع، وذكره البخاري حديث من خالفه، وهو الصواب، واعترض النووي في "شرح مسلم" (¬2)، فقال: إنما رواه البخاري عن هشام، عن أبيه، عن المغيرة: "أن عمر سأل عن إملاص المرأة"، ولابد من ذكر المسور أو عروة، وهو ابن المغيرة ليتصل الحديث، فإن عروة لم يدرك عمر. الثالث: "الإِملاص" بكسر الهمزة: وهو جنين المرأة. يُقال: أملصت به، وأزلقت به. وأسهلت به وحطات به بمعنى كما نص عليه أهل اللغة، وهو إذا وضعته قبل أوانه، وكل ما زلق من اليد فقد ملص بفتح الميم وكسر اللام ملصًا بفتحهما، وأملص أيضًا لغتان، وأملصته أنا. ورواية مسلم. "ملاص المرأة" بحذف الألف وهو صحيح على لغة مَلِص مثل لزم لزامًا. يقال: مَلِص الشيء إذا قلت، لكن المعروف في اللغة: إملاص بالهمز، وهو ما ذكره الحميدي في "جمعه"، وفي بعض نسخ هذا الكتاب تفسير الإِملاص من كلام المصنف (¬3). قال: "إملاص المرأة" [مصدر أملصت]، وهو أن تلقي جنينها ميتًا، وإنما سمي بذلك لأنها تزلقه. ¬

_ (¬1) الإلزامات والتتبع (317). (¬2) شرح مسلم (11/ 180). (¬3) كما في تعليق (5) ص 96 وما بين القوسين غير موجود في أحكام الإحكام.

رابعها: أصل الغرة في الوجه. ولهذا قال أبو عمرو (¬1). المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة ولا يجزي الأسود. قال: ولولا أنه -عليه الصلاة والسلام- أراد بالغرة معنى زائدًا على [محض] (¬2) العبد والأمة لما ذكرها ولاقتصر على قوله: "عبد أو أمة". قال النووي (¬3): هذا قول [أبي] (¬4) عمرو، وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه يجزي فيها البيضاء والسوداء، ولا تتعين البيضاء. قال أهل اللغة: الغرة عند العرب أنفس الشيء، وأطلقت هنا على الإِنسان لأن الله خلقه في أحسن تقويم، فهو من أنفس المخلوقات. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الآية. قال الجوهري (¬5): وكأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا: أعتق رقبة. واعلم أن الفاكهي نقل مقالة أبي عمرو هذا عن ابن عبد البر، والظاهر عندي وهمه في ذلك وسببه أن القاضي ثم النووي (¬6) حكياه عن ابن عمرو بالواو، وهو ابن العلا فظنه [أبا عمر] (¬7) بن عبد البر فصرح به نسبة له. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 430) وصحفه (أبو عمر). (¬2) في ن هـ (شخص). (¬3) شرح مسلم (11/ 176). (¬4) في الأصل (ابن) وما أثبت من ن هـ وشرح مسلم. (¬5) مختار الصحاح (غ ر ر). (¬6) شرح مسلم (11/ 175). (¬7) في ن هـ (أبا عمرو).

خامسها: قوله "بغرة" هو منون و"عبدٍ أو أمة" بدل منه هكذا الرواية كما قاله القاضي وغيره، ويؤيده رواية البخاري: "قضى بالغرة عبد أو أمة" ورواه بعضهم؛ بالإضافة، والأول أوجه وأقيس وأصوب، لأن الإِضافة تكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه، وهي قليلة. و"أو" في قوله: "أو أمة" للتقسيم لا للشك، وجاء في بعض الروايات زيادة: "أو فرس أو بغل" (¬1)، وهي زيادة غير محفوظة، وإن أخذ بها بعض السلف. قاله البيهقي. وقال ابن القطان (¬2): بل زيادة صحيحة، لضعف الاعتلال. قلت: وأوردها ابن حبان في صحيحه (¬3) من حديث محمَّد بن عمرو، عن ابن سلمة، عن أبي هريرة. وأما النووي: فقال [في "شرح] (¬4) مسلم" إنها زيادة باطلة، وكأنه فهم ذلك من قوله البيهقي السالفة. سادسها: في أحكامه: الأول: استشارة الإِمام في الأحكام إذا لم يعلمها. الثاني: أن العلم الخاص قد يخفى عن الأكابر، فيتعلَّمونه ممن دونهم "فالحكمة ضالة المؤمن، حيث وجدها [التقطها] (¬5) ". ¬

_ (¬1) أبو داود (4579)، والبيهقي (8/ 115). (¬2) بيان الوهم والإِيهام في كتاب الإِحكام (5/ 459). (¬3) ابن حبان (6022). (¬4) زيادة من ن هـ. شرح مسلم (11/ 176). (¬5) أخرجه الترمذي (2677) سوى ما بين القوسين وبدله (فهو أحق بها) القضاعي في مسنده الشهاب (146).

الثالث: الرد على من يغلو من المقلدين في أنه إذا استدل عليه بحديث، فيقال: لو كان صحيحًا لعلمه فلان مثلًا. فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة، وجاز عليهم فهو على غيرهم أجوز. الرابع: أن دية الجنين غرة عبد أو أمة، وهو إذا ألقته ميتًا بسبب الجناية -وهو إجماع-.واعتبر الفقهاء أن يكون قيمتها عشر دية الأم أو نصف عشر دية الأب. وقيل: لا يشترط ذلك لإِطلاق الخبر، ولا يشترط فيها أن تكون بيضاء -كما سلف- بل تجزي السوداء أيضًا. قال مالك: والحمر أحب إليَّ من السود، فإن غلب ممن أوسط السودان. وقال الفاسي: فإن قلت الحمر بذلك البلد أخذ من السود ولا يجزي غير العبد والأمة من الحيوانات. وشذَّ طاووس وعطاء ومجاهد: فقالوا لإجزاء الفرس، وشذ داود فقال بإجزاء كل ما وقع عليه اسم الغرة، وصريح الحديث يردهما وزيادة "أو فرس أو بغل" قد أسلفنا الكلام على حالها. وقال ابن سيرين: يجزئ مائة شاة. حكاه القرطبي (¬1) قال: وفي بعض طرق أبي داود: "خمس مائة شاة"، وهو وهم، وصوابه: "مائة شاة". وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة" (¬2) من حديث حمل بن ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 61). (¬2) في مسند الحارث بن أبي أسامة "في الجنين غرة عبد، أو أمة، أو عشر من الإِبل، أو مئة شاة". أخرجه الطبراني (4/ 9)، وذكره في المطالب العالية برقم (1902).

مالك: "أو عشر من الإِبل" قال: وشذت شرذمة، فقالوا: لا شيء في الجنين، وهي محجوجة بهذه النصوص وبإجماع الصحابة. تنبيهات: أحدها: شرط الغرة التمييز, لأن من لا يميِّز لا استقلال له، والسلامة من عيب المبيع، لأن المعيب ليس من الخيار اللهم إلا أن يرضى به ويقبل كبير لم يعجز بهرم في الأصح, لأنه إذا لم ينته إلى الهرم هو من الخيار. وقيل: لا يقبل بعد عشرين سنة. وقيل: هذا في الجارية، أما الغلام، فلا يقبل بعد خمس عشرة لأنه لا يدخل على النساء بعد ذلك، وهذا كله من تصرف الفقهاء. الثاني: اتفقوا على أن دية الجنين ما ذُكر، سواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وإنما كان كذلك لأنه قد يخفى فيكثر فيه النزاع، فضبطه الشارع بضابط يقطعه، وسواء كان كامل الأعضاء أم ناقصها، أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإِجماع. الثالث: الغرة تكون لورثة الجنين على مواريثهم الشرعية، وهذا شخص يورث ولا يرث. قال النووي في "شرح مسلم" (¬1): ولا يعرف له نظير إلا من بعضه حر وبعضه رقيق، فإنه لا يرث عندنا وهل يورث فيه قولان: أصحَّهما يورث. قلت: ولا يخفى أن المعتق يورث ولا يرث، وشذَّ فقال: إن الجنين كعضو من أعضاء الأم، فتكون ديته لها خاصة. حكاه القاضي ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 176).

عياض (¬1)، وقيل: يشاركها فيها الأب. وعن مالك أنها للأبوين أثلاثًا، فإن انفرد أحدهما فله وما أسلفناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور. رابعها: هذا كله إذا انفصل الجنين ميتًا كما أسلفته، فإن انفصل حيًا ثم مات وجب فيه كمال الدية، فإن كان ذكرًا وجب فيه مائة بعير، وإن كان أنثى فخمسون. وهذا مجمع عليه وسواء في هذا الخطأ والعمد. وعند المالكية خلاف في إثبات القسامة فيه. وقال أشهب: إن مات حين استهل فلا قسامة فيه، وإن خرج حيًا ثم مات ففيه القسامة. حكاه الباجي (¬2) عنه [ومشهور مذهب] (¬3) مالك أنه لا قود فيه وإن كان عمدًا. [خامسها] (¬4): تُعرف حياته بالحركة والعطاس والرضاع وغير ذلك مما يستيقن به حياته عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري وأكثر الفقهاء كما حكاه عنهم ابن عبد البر (¬5) قال: ومذهب مالك أن الاستهلال الصياح والبكاء دون الحركة والعطاس. وقال قتادة: لو مكثت الروح فيه ثلاثًا ما ورثته. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 432). (¬2) المنتقى (7/ 81). (¬3) في ن هـ (والمشهور من قول). (¬4) في ن هـ (تنبيه). (¬5) الاستذكار (25/ 82).

وحكى الباجي (¬1) خلافًا في العطاس والحدث, لأن الحدث من استرخاء [المواسك] (¬2). [سادسها] (¬3): متى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين. وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني، وهو قول قديم للشافعي. وقال بعض المالكية: إن تعمد فعلى الجاني وإلا فعلى العاقلة. سابعها: يلزم الجاني الكفارة أيضًا عند الشافعي وآخرين خلافًا لمالك وأبي حنيفة. ثامنها: يُشترط انفصال الجنين ميتًا في حياتها أو موتها، وكذا إن ظهر بلا انفصال في الأصح عندنا. ويتفرع: على الوجهين صور محل الخوض فيهما كتب الفروع، ولو ماتت الأم ثم خرج الجنين ميتًا فعندنا يجب فيه الغرة. وقال مالك وجمهور أصحابه: لا شيء فيه. ولو ماتت الأم ولم ينفصل الولد ولم يظهر فلا غرة، لأنا لا نتيقن وجود الجنين، فلا يوجب شيئًا بالشك. تاسعها: لو فقدت الغرة فخمسة أبعرة، وقيل: القيمة. ¬

_ (¬1) المنتقى (7/ 82). (¬2) في المرجع السابق (المرسل). (¬3) في ن هـ (خامسها) إلى آخر المسائل.

قال القاضي: ومقتضى مذهب مالك أنه يتخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم. عاشرها: هذا كله في جنين الحرة، وأما الرقيقة ففي جنينها عشر قيمة أمه يوم الجناية. وقيل: يوم الإِجهاض وتكون الغرة لسيدها ومحل الخوض في ذلك كتب الفروع، فإنه أليق به. الوجه الخامس: من أحكام الحديث تمسك بقول عمر - رضي الله عنه -: "لتأتين بمن يشهد معك" بعض من اعتبر العدد في الرواية. وهو مذهب غير صحيح، فإنه قد ثبت قبول خبر الواحد، العدل وهو قاطع بعدم اعتبار العدد فيها. وقد قبل عمر خبر الضحاك وغيره من غير استظهار (¬1). وأما طلب العدد في حديث جزئي فلا يدل على اعتباره كليًا، لجواز أن يحال ذلك على مانع خاص بتلك الصورة، أو قيام سبب يقتضي التثبت، وزيادة الاستظهار؛ لاسيما إذا قامت قرينة، مثل عدم علم عمر بهذا الحكم، وكذلك حديثه مع أبي موسى في الاستئذان (¬2). ¬

_ (¬1) قال: قال عمر - رضي الله عنه -: الدية على العاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا. فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كتب إليه: أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (2110). (¬2) الموطأ (964)، وأبو داود (5184)، وأحمد (3/ 439)، ومصنف ابن أبي شيبة (8/ 493).

قال الشيخ تقي الدين: ولعل الذي أوجب ذلك استبعاده عدم العلم به، وهو في باب إلاستئذان أقوى. وقد صرَّح عمر بأنه أراد أن يستثبت. وأجيب أيضًا بجواب آخر، وهو أن عمر - رضي الله عنه - كان يفعل هذا أول الأمر احتياطًا، وقد يُجاب بثالث بأنها شهادة على حكم الحاكم، فلهذا طلب العدد، لكنه بعيد.

الحديث السابع

الحديث السابع 361/ 7/ 68 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إنما هو من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: الضاربة من المرأتين؛ يقال أنها أم عفيف (¬2) بنت ¬

_ (¬1) البخاري (5758)، ومسلم (1681)، وأحمد (2/ 236)، ومالك (2/ 651)، وأبو داود (4576، 4577، 4579)، والنسائي (8/ 47، 48)، وفي الكبرى له (702، 7023)، والترمذي (1410)، وابن ماجه (2639)، والدارمي (2/ 197)، وابن الجارود (1/ 294)، والبيهقي في السنن (8/ 195، 197)، وعبد الرزاق (10/ 56). (¬2) في سنن أبي داود عن ابن عباس (أم غطيف).

مسروح، والمضروبة مليكة بنت [عويم] (¬1)، ذكره ابن بشكوال عن عبد الغني، وفي حديثه: فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله، [لا يغرم من لا شرب ولا أكل] (¬2). . . . الحديث. قال: وقيل: إن المتكلم بذلك حمل بن مالك بن النابغة وأنه كان له امرأتان: مليكة وأم عفيف. قلت: وهو الصحيح، أعني أن المتكلم بذلك حمل بن مالك بن النابغة لثبوته كذلك في الصحيح. وقال الخطيب (¬3): إحداهما مليكة والأخرى غطيفة. ويقال: أم غطيف. قال: وروي أن إحداهما أم عطيف والأخرى أم مكلف. قال: وذكر أن الضاربة هي أم عفيف بنت مسروح، والمضروبة مليكة بنت ساعدة الهذلي. وقال ابن أبي شيبة (¬4): مليكة ابنة عويمر من بني لحيان. وكذا قال أبو عمر (¬5). وقال الحافظ أبو موسى: عويم بلا راء كما سلف عن ابن بشكوال، ورأيت بخط الصعبي في كلامه على رجال هذا الكتاب -بنت عون بنون بدل الميم- وما أبعد أن يكون تصحيفًا. ¬

_ (¬1) ذكر ابن بشكوال (عويمر) (220). (¬2) في المرجع السابق (أنغرم من لا أكل ولا شرب). وهو في معجم الطبراني (17/ 141) والخطيب في المبهمات. (¬3) المبهمات ص 514. (¬4) مصنف ابن أبي شيبة (10/ 55). (¬5) الاستيعاب (4/ 1914).

ثانيها: "حمل" بفتح الحاء المهملة والميم: هو ابن مالك بن النابغة، وفي رواية المصنف نسبته إلى جده، والنابغة من نبغ إذا علا وارتفع، وهو هذلي من هذيل بن مدركة بن الياس، وكنيته أبو فضلة. له صحبة، نزل البصرة وله بها دار، وذكره مسلم فيمن روى من أهل المدينة، روى عنه ابن عباس. قال ابن السكن: يقال أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه. قال: وليس يروى عنه غير هذا الحديث والروايات عنه حجازية، ويقال في اسمه. حمله بزيادة هاء. ذكره ابن عبد البر في "استيعابه", وهو غريب. ثالثها: قوله: "اقتتلت امرأتان من هذيل" وجاء في الصحيح أيضًا أن المضروبة من بني لحيان، ولا تنافي بينهما، فإن لحيان بكسر اللام، وقيل: بفتحها، بطن من هذيل، وفي الصحيح أن إحداهما كانت ضرة الأخرى. رابعها: "العاقلة": جمع عاقل، وجمع الجمع عواقل، والمعاقل: الديات، والعقل: الدية، سُمِّيت بذلك لأن مؤديها يعقلها بفناء أولياء المقتول. يُقال: عقلت فلانًا إذا أعطيت ديته، وعقلت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته، ويقال لدافع الدية: عاقل، لعقله الإِبل بالعقل، وهي الحبال التي تثنى بها أيدي الإبل إلى ركبها فتشد بها، وعقلت البعير أعقِله بكسر القاف عقلًا، والعاقلة عند الفقهاء العصبات ما عدا الآباء والأبناء. خامسها: "فرمت إحداهما الأخرى بحجر [فقتلتها] (¬1) وما في ¬

_ (¬1) ساقطة من ن هـ.

بطنها"، أي رمتها بحجر صغير لا يحصل به القتل غالبًا، فيكون شبه عمد، فيه الدية على العاقلة ولا يجب فيه القصاص ولا دية على الجاني. وكذا تحمل رواية الصحيح أيضًا أنها ضربتها بعمود فسطاط على ذلك. وبهذا قال الشافعي (¬1) والجمهور، لكن في رواية للبيهقي (¬2): "فقضى في الجنين بغرة وقضى أن تُقتل المرأة بالمرأة" ثم قال: إسناد صحيح، إلا أن هذه الزيادة الأخيرة لم أجدها في شيء من طرق الحديث، وإنما فيها أنه قضى بديتها على العاقلة. قلت: وأخرج ابن حبان في صحيحه (¬3) هذه الرواية أيضًا، ورواية الصحيحين مقدمة عليها، ويحتمل في الجمع بينهما بأنه قضى أولًا بقتلها، ثم عفو إلى الدية، فقضى بها على عاقلتها. سادسها: قوله: "فقتلتها وما في بطنها" ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين، ولا يفهم منه بخلاف حديث عمر الذي قبله؛ فإنه صرَّح في الانفصال وهو مشروط عند الشافعية في وجوب الغرة كما أسلفناه، ثم قال الشيخ تقي الدين (¬4): فيحتاج إلى تأويل هذه الرواية، وحملها على أنه انفصل، وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. قلت: في "صحيح مسلم" في هذا الحديث ما يدل عليه، فإن فيه: "أنه -عليه الصلاة والسلام- قضى في جنين المرأة من بني ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (8/ 113). (¬2) السنن الكبرى (8/ 113). (¬3) صحيح ابن حبان (6018). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 329).

لحيان سقط ميتًا بغرة عبدٍ أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها -أي لها بالغرة- توفيت" الحديث، وطرق الحديث يفسِّر بعضها بعضًا. وقوله: "فقتلتها" ظاهر العطف بالفاء وقع عقب الضرب، وليس كذلك بدليل الرواية التي أوردناها آنفًا. سابعها: الحكم في الحديث معلق بلفظ الجنين، والشافعية فسَّروه بما ظهر فيه صورة آدمي من يد أو إصبع أو غيرهما, ولو لم يظهر شيء من ذلك، وشهدت القوابل بأن الصورة خفية لا يعرفها إلا أهل الخبرة، وجبت أيضًا، ولو قالوا ليس ثم صورة، ولكن لو بقي لتصور، فوجهان، أصحّهما: لا غرة وإن شكت في كونه أصل آدمي لم تجب قطعًا، وحَظُّ الحديث أن الحكم مرتب على اسم "الجنين"، فما تخلق فهو داخل فيه. وما كان دون ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي، فإن الجنين مأخوذ من الاجتنان -وهو الاختفاء-، فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه، وإلا اعتبر الوضع. ثامنها: "قضى" معناها حكم وألزم. "وغرة عبد أو وليدة" بالتنوين و"عبدٌ" بالرفع على البدل، وروى بغير تنوين وخفض "عبد" بالإِضافة، وقد سلف ذلك. وقوله: "أو وليدة" معطوف على عبد، ففيه الوجهان. و"الوليدة": الأمة، كما جاء في الرواية الأخرى. ومعنى "استهل": رفع الصوت بالصياح ونحوه.

ومعنى "يطل": أي يهدر، أي يلغى. قال أهل اللغة: يقال طل دمه، بضم الطاء، وأطِل: أي أهدر، وأطله الحاكم وطله: (¬1) أهدره. وجوَّز بعضهم طل دمه بفتح الطاء واللام، وأباها الأكثرون. واختلف في ضبط الياء من يطل على وجهين: أحدهما: بضم الياء المثناة تحت وفتح الطاء وتشديد اللام، أي يهدر ويلغى ولا يضمن. ثانيهما: بفتح الباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان، وهو بمعنى الأول، وأكثر صحيح مسلم على الأول. ونقل القاضي (¬2) أن جمهور الرواة فيه على الثاني. وقال الخطابي (¬3): أنه قول عامة المحدثين، واقتصر الشيخ تقي الدين (¬4) في شرحه على الأول، فقال: طلَّ دمه إذا أهدر ولم يؤخذ فيه شيء. تاسعها: "الكهان": جمع كاهن، وهو تخييل كالسحر [وكلاهما من الجبت. قال القاضي (¬5): الكهانة في العرب] (¬6) على أربعة أضرب: ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة واو. (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 433)، ومشارق الأنوار (1/ 88). (¬3) إصلاح غلط المحدثين (57). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 322). (¬5) ذكره في إكمال إكمال المعلم. (¬6) زيادة من ن هـ.

أحدها: أن يكون للإنسان من يخبره من الجن فيسترق من السماء، وهذا قد بطل بالبعثة. ثانيها: أن يخبره الجن بما يطرأ في بعض الأقطار البعيدة مما خفي على من قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده. ونفت هذا كله المعتزلة وبعض المتكلِّمين. ثالثها: الحزر والتخمين والأغلب فيها الكذب. رابعها: العرافة، وهو الذي يستدل على الأمور المقدمات بأسباب معتادة، وهذا الفن من العيافة، وكلها يُطلق عليها كهانة. عاشرها: السجع في الكلام الذي يأتي في أواخره نسق واحد، وأصله القصد المستوي على نسق واحد في كل شيء. قال الجوهري (¬1): السجع: الكلام المقفى، والجمع: أسجاع، وأساجيع، وقد سجع الرجل سجعًا وسجع تسجيعًا، وكلام مسجع. وإنما ذم سجعه لما فيه من التكلف لإِبطال حق أو تحقيق [باطل] (¬2)، أو لمجرد التكليف، ولا شك في ذم ذلك. وأما مطلق السجع الذي ليس كذلك، فليس بمذموم بل ممدوح؛ خصوصًا إذا كان أدعى إلى قبول الحق أو فهمه أو حفظ لفظه لوروده في حديث النبي - صلي الله عليه وسلم - وكلام السلف. ولهذا شبَّه -عليه الصلاة والسلام- سجعه بسجع الكهان من [حيث] (¬3) أنهم كانوا يروجون أقاويلهم ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (س. ج. ع). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ.

الباطلة بأسجاع تروق للسامعين، فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع. فأما إذا كان في مواضعه من الكلام، فلا ذم فيه. تنبيه: قوله: "من أجل سجعه الذي سجع" يحتمل أن يكون مدرجًا وأن يكون من نفس الحديث. وجزم القرطبي (¬1) في "مفهمه" بأنه من تفسير الراوي. الحادي عشر: في أحكامه: الأول: رفع الجنايات والخصام فيها إلى الحكام لغرض الفصل. الثاني: وجوب الغرة بالجناية على الجنين وانفصاله ميتًا. الثالث: أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، ويخير مستحقها على قبولها من أي نوع كان بالشرط الذي أسلفناه في الكلام على الحديث قبله. الرابع: أنه لا يتقدر للغرة قيمة لإِطلاق الخبر وهو وجه سلف مع بيان الأصح فيه. الخامس: أن الغرة إذا وجدت بصفاتها المعتبرة لا يلزم المستحق قبول غيرها لتعيينها في الحديث، وأما إذا عدمت فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد أسلفت حكمه في الكلام على الحديث قبله. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 64).

السادس: أنه لا يقتضي تخصيص سن دون سن للغرة، وقد أسلفت ما فيه هناك أيضًا، وأن الأصح قبول كبير لم يعجز بهرم، ووجهه أن من أتى بما دل الحديث عليه وسماه، فقد أتى بما وجب، فلزم قبوله، إلا أن يدل دليل على خلافه، كيف والحديث [بالإِطلاق] (¬1) ليس فيه تقييد لمعين ولا يقتضيه لفظه. السابع: هذا الحديث ورد في جنين حرة من غير لفظ عام، والحديث السالف ليس فيه تقييد، فإن المرأة تطلق عليها؛ وإن كان في لفظ الراوي ما يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة في جنين حرة، فعلى هذا يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر، وقد أسلفت فيما مضى أن فيه عشر قيمة أمه، والجنين اليهودي والنصراني قيل كمسلم، وقيل: هدر، والأصح: أن الواجب فيه غرة كثلث غرة مسلم. الثامن: أن دية المرأة الميتة من ضرب شبه عمد على عاقلتها إجراءً لحكمها مجرى القتل العمد. التاسع: ذم الكهان وسجعهم والتشبه بهم. العاشر: بيان الأحكام في المنطق وغيره من الأعمال. الحادي عشر: أن العقل لا مدخل له في الأحكام الشرعية، وأنه لا حكم إلا للشرع. الثاني عشر: قال القاضي: وفي قول "حمل كيف أغرم" إلى آخره: حجة لليث وربيعة على أن الغرة للأم خاصة؛ إذ لو كانت على ¬

_ (¬1) في هـ (بإطلاقه).

الفرائض على مشهور قول مالك وأصحابه وأصحاب أبي حنيفة والشافعي لكان للأب فيها أكثرُ نصيب أو للأم والأب على مذهب ابن هرمز، [فلا يقرب للغرة] (¬1) , لأنه يغرم أكثرُ مما يعطي. الثالث عشر: قد يحتج بقوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" من لا يرى القصاص في القتل بغير المحدد ويجعله شبه العمد، ويعارض ذلك رواية من روى القتل -كما أسلفته- (¬2). ¬

_ (¬1) لعل معناه: (فلا يرث من الغرة). كما في إكمال المعلم (5/ 493) قال: (فلما كان غارمًا محضًا دل أنه لم يكن له في ذلك حق). وساقها المصنف بتصرف. (¬2) كما في الوجه الخامس ص 109، 110.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 362/ 8/ 68 - عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما-: "أن رجلًا عض يد رجل، فنزع يده من [فمه] (¬1) فوقعت ثنيتاه، [فاختصموا] (¬2) إلى [رسول الله] (¬3) - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية لك" (¬4). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في باب التيمم. الأول: المعضوض هو أجير يعلى، وقيل: يعلى نفسه ابن أمية، ويقال: ابن منية يُنسب تارة إلى أبيه وتارة إلى أمه، وقيل إنها جدته، والرواية الأولى هي الصحيحة المعروفة عند الحفاظ. وقال صاحب "المفهم" (¬5): إنها الأولى والأليق من رواية مسلم: "أن يعلى ¬

_ (¬1) في متن حاشية إحكام الإِحكام (فيه). (¬2) في المرجع السابق (فاختصما). (¬3) في المرجع السابق (إلى النبي). (¬4) البخاري (2265)، ومسلم (1674)، وأحمد (4/ 222)، وأبو داود (4584)، والنسائي (8/ 30)، وابن ماجه (2656)، والنسائي في الكبرى (6962، 6963، 6964)، والدارمي (2/ 195)، وعبد الرزاق (9/ 355)، والطبراني في الكبير (18/ 187). (¬5) المفهم (5/ 32).

قاتل رجلًا فعضَّ أحدهما صاحبه" الحديث، إذ لا يليق هذا الفعل بيعلى مع جلالته وفضله. وقال النووي (¬1) يحتمل أنهم قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقتين مختلفين. تنبيه: والد يعلى هو أمية -كما أسلفناه- ابن أبي عبيد بن همام بن الحارث الحنظلي التميمي، كنيته أبو خالد، وقيل: أبو صفوان أسلم يوم الفتح وشهد حنينًا والطائف، وكان معروفًا بالسخاء. قُتل سنة ثمان وثلاثين مع علي بصفين بعد أن شهد الجمل مع عائشة. وأمه مُنية بضم الميم وإسكان النون وفتح المثناة تحت، ثم هاء بنت جابر عمة عتبة بن غزوان. ويقال: أخته. وقال الدارقطني: منية بنت الحارث جدته أم أبيه، وبها يُعرف. قاله الزُّبير بن بكار، وأهل الحديث يقولون إنها أمه. قال القاضي (¬2): وصحفه بعضهم فقال: منبة بضم الميم ثم نون مفتوحة ثم باء موحدة، وكان ابن وضاح يقول: أمه منية وأبوه منية، ووهم في اسم الأب، وإنما هو أمية. قال أبو عمر: ولم يصب الزُّبير في دعواه أنها جدته. الثاني: كانت هذه القصة في غزوة تبوك، أعني قصة أجير يعلى. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 160). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 414).

الثالث: "الفحل" بالحاء المهملة أي: الفحل من الإِبل وغيرها من الدواب. وقوله: "فمه" كذا هو بإثبات الميم، وفي بعض نسخ الصحيحين بالياء المثناة تحت بدلها، وهو الأكثر في اللغة, وإن كانت الأولى فأشبه كثيرة. وقوله: "فوقعت [ثنيتاه] (¬1) " كذا هو بالتثنية، وفي بعض الروايات في الصحيح بالتوحيد. الرابع: في أحكامه: [أحدها] (¬2): تحريم العض. [وأنه ليس من شيم بني آدم] (¬3). ثانيها: الحديث قال لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وكثيرين أو الأكثرين على أنه لا ضمان فيما إذا عض إنسان يد آخر فانتزعها فسقطت سنه بشرط أن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه أو فك لحييه ليرسلها، فلو أمكن تخليصها بأيسر ما يقدر عليه فانتقل إلى الأثقل. فعليه الضمان. وأجاز المارودي (¬4) من الشافعية له أن ينزع يده من فيه بجبذها ولو سقطت أسنانه، ابتداءً من غير عجز عن نزعها بفك لحييه ¬

_ (¬1) في الأصل (ثنيته). (¬2) في الأصل الخامس وما أُثبت من ن هـ إلى آخر المسائل. (¬3) زيادة من هـ. (¬4) الحاوي الكبير (17/ 370، 371).

ونحوه، ولو لم يمكنه التخليص إلا بعضو آخر بأن يبعج بطنه أو يفقأ عينه أو يعصر خصييه، فله ذلك على الصحيح. وقيل: ليس له قصد عضو آخر. وخالف مالك في ذلك فقال في المشهور عنه. يجب الضمان في السن مطلقًا، والحديث صريح لمذهب الأكثرين. ونقل المازري (¬1) مثل مقالة مالك عن الشافعي، وهي غريبة لا نعرفها في مذهبه. وتبعه القرطبي (¬2)، ثم شرع يخرج قولًا للشافعي من مسألة الصائل: إنه لا ضمان وهو عجيب. ونقل المازري عن بعض محققي شيوخهم أن من ضمنه علله بأنه يمكنه النزع برفق حتى لا تتقلع أسنانه، فإذا زاد على ذلك صار متعدِّيًا بالزيادة، فضمن، وحملوا الحديث على من لا يمكنه النزع إلا بما أدى إلى سقوط الأسنان. وقال بعضهم: لعل أسنانه كانت متحركة فسقطت عقب النزع، وهو بعيد من ظاهر الحديث، فلا تشتغل به والتقييد بعدم الإِمكان -كما أسلفته- ليس في الحديث، ولكن يؤخذ من القواعد الكلية، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم وإن كان النص ورد في صورة مخصوصة. ثالثها: رفع الجنايات إلى الحكام لأجل الفصل. ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 379). (¬2) المفهم (5/ 33).

رابعها: تشبيه فعل الآدمي بفعل الحيوان الذي لا يعقل للتنفير عن مثل فعله. خامسها: أن المتعدي بالجناية إذا ترتبت عليه جناية بسبب جنايته يوجب ضمانًا بمجردها أنه لا يجب له ضمان تلك الجناية بدية ولا قيمة.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 363/ 9/ 68 - عن الحسن بن أبي الحسن البصري [رحمه الله تعالى] (¬1) قال: حدثنا جندب في هذا المسجد، وما نسينا منه حديثًا، ما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات. قال الله -عزَّ وجل-: عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاري بهذه السياقة في باب ما ذكر عن بني إسرائيل (¬3)، من كتاب بدء الخلق، من صحيحه. وقال فيه: "بادرني عبدي" بتقديم "بادرني" على لفظ "عبدي"، وفيه: "وما نسينا منه حديثًا" بدل "منه حديثًا"، كذا رأيته في نسخة معتمدة منه، ورأيت في "الجمع بين الصحيحين للحميدي" كما في الكتاب. ¬

_ (¬1) زيادة من حاشية إحكام الأحكام. (¬2) البخاري (1364)، ومسلم (113)، وأحمد (4/ 312)، والطبراني في الكبير (2/ 161). (¬3) الفتح (6/ 572) ح (3463).

ورواه مسلم في كتاب الإِيمان، بلفظين: أحدهما: عن الحسن قال: إن رجلًا ممن كان خرجت به قرحة فلما آذته انتزع [سهمًا من] (¬1) كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات. قال ربكم: "حرمت عليه الجنة". ثم مدَّ الحسن يده إلى المسجد فقال: إني والله لقد حدثني هذا جندب عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -. ثانيهما: عنه حدثنا جندب بن عبد الله البجلي في هذا المسجد فما نسينا وما نخشى أن يكون كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: خرج برجل فيمن كان قبلكم خراج. . . . فذكر نحوه. ثانيها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب العيدين. والحسن هذا أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، بفتح الباء وكسرها، نسبة إلى البصرة، البلدة المعروفة، مثلثة الباء، الأنصاري مولاهم، مولى زيد بن ثابت. وقيل: جابر بن عبد الله. وقيل: مولى أبي اليسر، ويقال: إنه من سبي ميسان وقع إلى المدينة فاشترته الرُّبيع بنت النضر عمة أنس بن مالك، فأعتقته. وهو من أكابر التابعين وسادات المسلمين، ومن مشاهير العلماء والزهاد المذكورين، ومن الفصحاء المبرزين وأحد الشجعان الموصوفين. وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب، أمه خيرة مولاة أم سلمة، ربما غابت فترضعه أم سلمة أم المؤمنين، فيرون أن تلك ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

الحكمة والفصاحة كانت من بركتها، وأخوه عمار من البكائين، وله أخ ثالث اسمه سعيد [أدرك ثلاثين ومائة] (¬1) [من الصحابة وأكثر، وكان مع جلالته يكثر من الإرسال. قال هشام بن حسان: أدرك ثلاثين ومائة من الصحابة] (¬2)، ولم يصح له سماع من بعضهم إلا القليل، بل روايته ومرسلاته صحيحة. قال أبو زرعة: كل شيء. قال الحسن: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: وجدت له أصلًا ثابتًا ما خلا أربعة أحاديث. وقال ابن أبي حاتم: لا يصح له سماع من جندب، وحديثه هذا صريح في سماعه منه، وفضائله كثيرة أفردت بالتأليف. قال أيوب -يعني السختياني-: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث سنين فلا يسأله عن شيء هيبة له. وقال أبو قتادة العدوي: ما رأيت رجلًا أشبه رأيًا بعمر بن الخطاب منه. مات سنة عشر ومائة بعد ابن سيرين بمائة يوم عن تسع وثمانين سنة. ثالثها: في ألفاظه ومعانيه: "الجرح [. . .] (¬3). الظاهر أنه هنا بالضم، وهو اسم للمكان المجروح. ورواية مسلم به "قرحة": هي حبات تخرج في بدن الإِنسان، والرواية الأخرى: "خراج" بضم الخاء وتخفيف الراء القرحة أيضًا، ويبعد أن يكون بالفتح لأنه مصدر خرج. و"جزع" بكسر الزاي: أي لم يصبر. ¬

_ (¬1) في الأصل (رأى الحسن عشرين من مائة) وما أُثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في الأصل زيادة (هي حبات تخرج في بدن الإِنسان).

و"السكين" تذكر وتؤنث، وتقال بالهاء أيضًا وهي المدية، أيضًا بتثليث الميم. و"حز" بالحاء المهملة أي: قطع يده أو بعضها. قاله الشيخ تقي الدين (¬1). وقال ابن الجوزي في "كشف مشكل الصحيحين" (¬2): الحز: قطع بعض العضو دون إبانته. ورأيت من علق على هذا الكتاب ضبطه بخطه بالجيم. و"رقأ" بفتح الراء والقاف والهمز: ارتفع وانقطع. يقال: رقأ الدم والدمع يرقأ رقوًا مثل ركع يركع ركوعًا: إذا انقطع. رابعها: في الحديث إشكالان أصوليان نبه عليهما الشيخ تقي الدين، أحدهما: قوله تعالى: "بادرني بنفسه"، وهي مسألة تتعلق بالآجال، ولا شك أن أجل كل شيء حينه ووقته. يقال: تم أجله، أبي: تم أمده، وجاء حينه، وليس كل وقت أجلًا، ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله، وقد علم الله أنه يموت بالسبب المذكور. وما علمه فلا يتغير، فعلى هذا يبقى قوله: "بادرني بنفسه محتاجًا إلى التأويل، فإنه قد يوهم أن الأجل كان متأخرًا عن ذلك الوقت، فقدم عليه ولم يذكر الشيخ تأويله. وقال [الفاكهي و] (¬3) غيره: يحتمل أن تكون المبادرة من حيث السبب في ذلك، والقصد له لا أنه كان أجله متأخرًا لو لم يفعل لكن لما كان على صورة المستعجل لأجله بتسببه في ذلك صح إطلاق ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 335). (¬2) (2/ 46) أقول: أثبته المحقق بالجيم. فليصحح. (¬3) في هـ ساقطة.

اسم المبادرة عليه صورة، ويحتمل أيضًا أن تكون المبادرة من حيث أنه لم يطلب منه ذلك مع أن علمه تعالى سابق بوقوع ذلك منه وهو راجع إليه أيضًا. وعبارة القاضي أبي بكر في الجواب: إن قدر الله في خلقه مطلق ومقيد بصفة، فالمطلق يمضي على الوجه المراد بلا صارت، والمقيد بصفة له وجهان: فوجود الصفة يقتضي أحدهما وعدمه يقتضي الآخر. مثاله عمر دائرٌ بين عشرين سنة إن قتل نفسه وبين ثلاثين إن لم يقتلها، والله تعالى عالم بما يؤول إليه الأمر ولا يقع إلا ما علمه، والتردُّد إنما هو في حق العبد. والأجلان كالواجب المخير الواقع منه معلوم عند الله، والعبد مخيَّر في أي الخصال يكفر بها، فالذي يكفر به معلوم عند الله قبل التكفير مبهم عند العبد، وكذلك الأجلان، فالعبد يختار أحدهما وما يختاره معلوم عند الله، ولا يقع غيره. ويؤيد ذلك قوله: "بادرني بنفسه"، أي اختار الأجل المقيد، ولم يقل: "بادرته بنفسه". والإِشكال الثاني: قوله: "فحرمت عليه الجنة" قد يتعلق به من يرى وعيد الأبد وأهل السنّة يجيبون عنه بأوجه: أحدها: أنه يحتمل أن يكون مشركًا قد ضم إلى تركه هذا الفعل. ثانيها: لعله فعله مستحلًا له، فتحريم الجنة عليه بسبب كفره لا بقتله نفسه. ثالثها: أن المراد بالجنة المرتفعة القدر من بين الجنان. رابعها: أن لا يدخلها أول الداخلين ويطال احتباسه أو يحبس في الأعراف.

وقال النووي: ويحتمل أن شرع أهل ذلك العصر تكفير أصحاب الكبائر، وأنه نكأها استعجالًا للموت أو لغير مصلحة، فإنه لو كان على طريق المداواة التي يغلب على الظن نفعها لم يكن حرامًا. خامسها: في أحكامه: أحدها: تحريم قتل النفس سواء كانت نفس الإِنسان أو غيره، فإن نفس الإِنسان ليست ملكه، يتصرَّف فيها على حسب ما يراه، بل على حسب الأمر والنهي الشرعيَّين حتى لو أراد قطع أنملة من أنامله فما دونها -لا لمعنى شرعي- كان عاصيًا فلا ملك على الحقيقة إلا لله رب العالمين. وأما قوله تعالى -حكايةً عن موسى-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} (¬1)، ففيها حذف تقديره إلا أمر نفس أو إلا طاعة نفسي وأخي؛ وذلك أنهم لما قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} غضب -عليه الصلاة والسلام-، وقال ذلك كأنه يقول لم يطعني منهم إلا نفسي وأخي. ثانيها: بيان صفة التحديث بصيغته ومكانه وحال المحدث في ضبطه وعدم نسيانه والمحدث عنه، فإن الحسن البصري ذكر الرواية بلفظ حدثنا، وفي مسجد البصرة وعدم نسيانه لما رواه وعدم كذب المحدث عنه وعدالة الصحابة. ثالثها: ترجيح رواية الحديث بلفظه دون معناه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 25.

رابعها: التحديث عن الأمم الماضية للاعتبار وتقرير الأحكام، وذلك ما اطلعه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه فقال له: ما صنع بك ربك. قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟ قال: قيل لي: لن يصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم وليدة فاغفر" (¬1). وهذا الحديث فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنّة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة، فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، هو في حكم المشيئة. وهذا الحديث أيضًا شرح (¬2) لحديث جندب المذكور ولغيره من الأحاديث [الموهمة] (¬3) لتخليد قاتل نفسه في النار، ورد على المعتزلة القائلين بذلك وعلى المرجئة القائلين بعدم المؤاخذة بالذنوب مع الإِيمان وهو نص في عين المسألة. ¬

_ (¬1) مسلم (116)، وأحمد (3/ 371). (¬2) في الأصل (الموهمة). (¬3) زيادة من ن هـ.

كتاب الحدود

كتاب الحدود

69 - كتاب الحدود

69 - كتاب الحدود الحدود: جمع حد، وهو في اللغة: المنع، ومنه حد الدار، وسميت الحدود حدودًا لمنعها من ارتكاب الفواحش. وقيل: لأن الله تعالى حددها وقدرها فلا يزاد عليها ولا ينقص منها. وكانت الحدود في صدر الإِسلام بالغرامات ثم نسخت بالحدود [المشهورة] (¬1). والمنصوص عليها، وفي سنن ابن ماجه وصحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "حدٌّ يقام في الأرض خير من أن تمطر أربعين يومًا" (¬2). رواه النسائي. وقال: ثلاثين، والإِمام أحمد بالشك فيهما. وذكر المصنف في الباب ستة أحاديث والأخير منها في إباحة فقء عين من نظر إليه من صير الباب. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) النسائي (8/ 75، 76)، وأحمد (2/ 402، 362)، وابن الجارود (801)، وابن ماجه (2538).

الحديث الأول

الحديث الأول 364/ 1/ 69 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "قدم ناس من عكل -أو عرينة- فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي - صلي الله عليه وسلم - بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا. فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلي الله عليه وسلم -، واستاقوا النعم. فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم. فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بهم، فقُطعت أيديهم وأرجلهم [من خلاف] (¬1)، وشمرت أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله". أخرجه الجماعة (¬2). هذا حديث عظيم مشتمل على نفائس من علم الأسماء والنسب ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة ما حاشية إِحكام الإِحكام. (¬2) البخاري (233)، ومسلم (1671)، وأحمد (3/ 161، 163، 170، 173، 233)، والنسائي (1/ 158، 160)، (7/ 93، 98)، وفي الكبرى له (6/ 334)، وأبو داود (4364، 4368)، وابن ماجه (2578)، والترمذي (72)، والبيهقي في السنن (8/ 490)، وعبد الرزاق (10/ 106)، والبغوي في شرح السنة (10/ 206).

واللغة والمبهمات والأحكام، ويتبين ذلك في وجوه: أولها: أنس - رضي الله عنه - تقدَّم التعريف به في أول باب الاستطابة. وأبو قلابة: سلف في باب صفة صلاة النبي - صلي الله عليه وسلم. ومراد المصنف: "بالجماعة" أصحاب الكتب الستة، وقد أسلفت لك ترجمة البخاري ومسلم في شرح ديباجة الكتاب، وراجع ترجمة الأربعة فيما أفردته في الرجال الواقعة في الكتاب. ثانيها: قوله: "عكل" بضم العين المهملة وسكون الكاف وبعده لام قبيلة نسبت إلى عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن آد بن طابخة، فغلبت عليهم ونُسبوا إليها. و"عرينة": بضم العين المهملة وفتح الراء ثم مثناة تحت ساكنة ثم نون ثم هاء: بطن من بجيلة. ثالثها: في "الصحيح" (¬1) أيضًا "من عرينة على الجزم"، وفيه "من عكل" على الجزم، وفيه "من عكل وعرينة" من غير شك. وفي "مصنف عبد الرزاق" (¬2) "من بني فرازة ماتوا هزلًا". وفي "أحكام ابن الطلاع" من بني سليم. وفي شرح الشيخ تقي الدين (¬3): من بني عرينة. رابعها: عدد العرنيين ثمانية كما ثبت في الصحيحين، وعزى ¬

_ (¬1) ينظر تخريج الحديث. (¬2) ينظر تخريج الحديث. أقضية رسول الله - صلي الله عليه وسلم - (13) لابن الطلاع. (¬3) إحكام الأحكام (4/ 340).

ذلك النووي في "مبهماته" (¬1) إلى مسند أبي يعلى، وتبعه تلميذه ابن العطّار في "شرحه"، وهو غريب، فقد أخرجه مسلم في الحدود والبخاري (¬2) في باب إذا أحرق المسلم هل يحرق؟ فعزوه إليهما أولى. خامسها: "اجتووا" بجيم ثم مثناة فوق؛ وهو مشتق من الجوا، وهو داء في الجوف، ومعناه: استوخموها كما جاء مفسرًا في الرواية الأخرى في الصحيح: "فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم"، أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أجسامهم. يقال: اجتوى البلد إذا كرهها. واستوخمه واستوبله: إذا سقم فيه عند دخوله، ومنهم من فرَّق بين اجتوى واستوبل، يقال: اجتوى البلد إذا كرهها، وإن كانت موافقة، واستوبلها إذا لم توافق وإن اجتواها (¬3). وقد وقع كذلك في بعض نسخ الكتاب. وفي الصحيح (¬4): "قدم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوا، وقد وقع بالمدينة الموم"، وهو البرسام، أي وهو نوع من اختلال يُطلق ¬

_ (¬1) المبهمات للنووي (539). أقول: عزاه للبخاري فقط مع أبي يعلى دون مسلم. (¬2) انظر تخريج حديث الباب. (¬3) العبارة هكذا في غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 174). قال أبو زيد: اجتويت البلاد إذا كرهتها وإن أنت موافقة لك في بدنك، واستوبلتها إذا لم تكن توافقك في بدنك، وإن كنت محبًا لها، اهـ. انظر مادة "جوا" وأيضًا "وبل" في النهاية. (¬4) في الأصل زيادة قد.

على ورم الرأس وورم الصدر (¬1)، وهو معرب. أصل اللفظة سريانية (¬2). وفي "مسند أحمد": "شكوا حمى المدينة"، ووقع في حواشي (¬3) بعض نسخ مسلم: "الحمى" بدل "المرم"، حكاه المازري (¬4). فلما حصل لهم ذلك أمرهم -عليه الصلاة والسلام-[أن] (¬5) يخرجوا [إلى] (¬6) الإبل واللقاح، فيشربوا من أبوالها وألبانها، فالمدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد. وقد ظهر خبثهم بعد ذلك وقبح فعلهم. سادسها: "اللقاح": ذوات الألبان من الإِبل. واحدها: لقحة، بكسر اللام وفتحها، وقيل: إنما يقال لقحة بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة لقرب ولادتها، ثم هي بعد ذلك لبون. ¬

_ (¬1) قال في إكمال إكمال المعلم (4/ 412)، وقع في بعض حواشي مسلم الحمى والبرسام ورم الصدر والرسام ورم الرأس وقل من رأيت من الأطباء من يحقق الفرق بين هذين. اهـ. محل المقصود. (¬2) قال في المعرب (44) "البرسام" معرب. وهو هذه العلة المعروفة "فبر" هو الصدر، "وسام" من أسماء الموت. وقيل: "بر" معناه الابن. والأول أصح لأن العلة إذا كانت في الرأس يقال لها "سرسام" و"سر" هو الرأس. وقيل تقديره: ابن موت، اهـ. انظر: قصد السبيل (1/ 270). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 412). (¬4) المعلم (2/ 377). (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) زيادة من ن هـ.

سابعها: هذه اللقاح ثبت في الصحيح أنها لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - , وثبت فيه أنها إبل الصدقة، ولعل الجمع بينهما اللقاح له والإِبل للصدقة، وكانت ترعى معها فاستاقوا الجميع، وإنما أذن لهم في شرب لبنها على هذه الرواية لأنه للمحتاجين من المسلمين، وهؤلاء منهم. وقد ترجم عليه البخاري في كتاب الزكاة استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (¬1). ثامنها: عدد هذه اللقاح خمس عشرة [. . .] (¬2) ذكره ابن سعد في "طبقاته" (¬3)، قال: وفقد منها واحدة. قال: وهذه اللقاح كانت ترعى بذي الحدر، ناحية قباء، قريبًا من عير على ستة أميال من المدينة. عاشرها: اسم هذا الراعي: يسار، بمثناة تحت في أوله، وهو مولى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وكان نوبيًا، فأعتقه. وقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- أصابه في غزوة محارب وبني ثعلبة، فجعله في لقاح له يرعى ناحية الحمى، فقتلوه ثم مثلوا به وغرزوا الشوك في لسانه وسمروا عينيه. وفي "معرفة الصحابة" (¬4) لأبي نعيم أنهم قتلوه وجعلوا الشوك في عينيه. وفي الصحيح: "ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم"، ولا تنافي بينهما، فإن الراعي اسم جنس. ¬

_ (¬1) الفتح (3/ 428) ح (1501). (¬2) في المخطوطتين كلمة (عدا). (¬3) الطبقات لابن سعد (2/ 93). (¬4) (2809).

الحادي عشر: "استاقوا" حملوا، وهو من السوق وهو السير السريع العنيف. الثاني عشر: "النعم" بفتح النون والعين المهملة، يُذكَّر ويؤنَّث. حكاهما ابن دريد وغيره. وقال الفراء: لا يؤنث، سمي نعمًا لنعومة بطنه، وهي الإِبل خاصة. قاله ابن دريد والهروي. قال الهروي: بخلاف الأنعام، فإنها الإِبل والبقر والغنم. وهذا غريب في الأسماء أن يدل الجمع على جنس لا يدل عليه المفرد. وقال الجوهري (¬1): الأنعام المال الراعية، وأكثر ما يقع على الإِبل. وقال النووي في "تحريره" (¬2): النعم الإِبل والبقر، وهو اسم جنس، وجمعه: أنعام. قال: ونقل الواحدي: إجماع أهل اللغة على هذا كله. وقال غيره: لا تطلق على الغنم أنها نعم إلا إذا كان معها إبل [أو] (¬3) بقر، ويُطلق على كل من الإِبل والبقر نعم بمفرده. الثالث عشر: في الصحيح أيضًا: أنهم "استاقوا ذود رسول الله - صلي الله عليه وسلم -"، وفيه أيضًا: "أنهم طردوا الإِبل"، ووجه الجمع أنهم استاقوا الذود، وهو النعم في الرواية الأخرى "مع إبل الصدقة" أيضًا. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (ن ع م). (¬2) تحرير ألفاظ التنبيه (234). (¬3) في ن هـ بالواو.

الرابع عشر: بعث - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم كرز بن جابر الفهري ومعه عشرون فارسًا. قاله ابن سعد في "طبقاته" (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2): وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين، فأرسل إليهم وبعث معهم قائفًا يقص أثرهم. وذكر أيضًا أبو حاتم ابن حبان في "ثقاته" (¬3) فقال: كان ذلك في السنة السادسة، وأنه بعث في طلبهم كرز بن جابر الفهري بسرية في شوال في عشرين راكبًا معهم قائف، فأخذ قرابهم حتى أخذوهم وجاءوا بهم إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -. وقال موسى بن عقبة: كان أمير السرية سعيد بن زيد. وروى محمَّد بن الفضل الطبري من حديث جرير: أنه -عليه الصلاة والسلام- بعثه في أثرهم، وفيه على تقدير صحة إسناده نظر؛ لأن قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست كما ذكرناه، وإسلام جرير كان في السنة العاشرة على المشهور؛ إلا أن يدعي أنه استعان به. الرابع عشر: "سمرت" بالميم المخففة وشددها بعضهم، والأول أوجه، أي كحلت بمسامير محماة. ويؤيده رواية البخاري: "ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها". وفي معظم نسخ "مسلم": "سمل" باللام وتخفيف الميم، أي فقأها وأذهب ما فيها إما بشوك أو بغيره. ¬

_ (¬1) الطبقات لابن سعد (2/ 93). (¬2) سبق تخريجه في حديث الباب. (¬3) الثقات لابن حبان (1/ 287).

قال أبو ذؤيب (¬1): والعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عور تدمع وقيل: بحديدة محماة تدنى من العين حتى يذهب ضوءها، وعلى هذا تتفق مع رواية من رواه بالراء، وقد تكون هذه الحديدة مسمارًا، وأيضًا فقد فقأها بالمسمار وسملها به كما فعل ذلك بالشوك، وقيل: إن الراء واللام بمعنى واحد، والراء تبدل منها. واستعمله القرطبي (¬2). الخامس عشر: إنما سمل أعينهم [لأنهم سملوا أعين الرعاة] (¬3)؛ كما ثبت في "صحيح مسلم"، وهو من أفراده، واستدركه صاحب المستدرك (¬4) ولا يحسن استدراكه على مسلم (¬5)؛ لأنه فيه -كما علمت-، نعم قد يستدرك على البخاري. السادس عشر: "الحرة" أرض تركبها حجارة سود -كما سلف في الصيام-، وفي رواية الصحيح: "ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا"، وفيه أيضًا: "وتركهم بالحرة يعضون الحجارة"، وفيه أيضًا: "فرأيت الرجل منهم يلزم الأرض بلسانه حتى يموت"، وفيه أيضًا: "أنه لم يحسمهم بالنار حتى ماتوا"، أي لم يكوهم لينقطع الدم. ¬

_ (¬1) انظر: ديوان الهذليين (1/ 3)، والنهاية (2/ 403) مادة "سمل". (¬2) المفهم (5/ 19). (¬3) في هـ ساقطة. وفي الأصل زيادة (الناس كالرعاة). (¬4) المستدرك (4/ 367). (¬5) سبق تخريجه.

قال القاضي (¬1): وهو حجة في أن المحارب لا يحسم لأنه ممن خير في حده بالقتل، لكن إن حسم نفسه لم يمنع. وأما السارق: فحده القطع فقط. فيبادر بحسمه لئلا ينزف دمه فيموت، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وغيرهما. السابع عشر: قوله: "يستسقون فلا يسقون"، أي: يسألوا ذلك وهذا إخبار عن الواقع لا يقتضي بهذا ولا غيره. وقد أجمع العلماء كما نقله القاضي (¬2) على أن من وجب عليه القتل فاستسقى الماء أنه لا يمنع منه لئلا يجمع عليه عذابان وأجيب عن عدم سقايتهم بجوابين حسنين: أحدهما: معاقبة بجنايتهم وكفرهم بسقيهم ألبان تلك الإِبل فعاقبهم الله تعالى بذلك فلم يسقوا. ثانيهما: أنهم عوقبوا بذلك لإِعطاشهم آل بيت النبي - صلي الله عليه وسلم - بأخذ لقاحهم ودعائه -عليه الصلاة والسلام- عليهم بقوله: "عطش الله من عطش آل محمَّد الليلة" (¬3)، كما رواه النسائي فكان ترك الناس سقيهم إجابة لدعائه - صلى الله عليه وسلم -. ووجه ثالث حسن: وهو ما ثبت في الصحيح أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإِسلام فلا حرمة لهم إذن من سقي الماء ولا غيره وهذا معنى قول أبي قلابة: و"كفروا بعد إيمانهم". ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 412). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 411). (¬3) انظر تخريج حديث الباب.

وقد اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز لمن معه ماء يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش ويتيمم، بخلاف الذمي والبهيمة. وقصر ابن العطار من "شرحه" في عزو هذه الرواية الي نقلناها من كونهم ارتدوا فقال: روى في بعض هذا الحديث الصحيح في "سنن أبي داود" (¬1) والنسائي من رواية ابن عمر: "أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإِسلام"، وهذا عجيب منه فعزوه إلى الصحيح أولى. وأيضًا فهو ثابت فيه من حديث أنس فإنه لا يعدل إلى راوٍ آخر إلا بعد عدمه في تلك الرواية كما جرت به عادة أهل هذا الشأن. الثامن عشر: في فوائده وأحكامه: الأولى: قدوم القبائل والغرباء على الإِمام. الثانية: نظر الإِمام في مصالحهم وأمره لهم بما يناسب حالهم وإصلاح أبدانهم. الثالثة: طهارة بول ما يؤكل لحمه وهو مذهب مالك وأحمد وقول ابن خزيمة والروياني من الشافعية. لكن إنما تكون طاهرة عند المالكية إذا كانت لا تستعمل النجاسة. قالوا: فإن كانت تستعمل فنجسة على المشهور. وأجاب المخالفون: وهم الحنفية وجمهور الشافعية القائلون بنجاسة بوله وروثه بأن شربهم الأبوال كان للتداوي وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات. ¬

_ (¬1) انظر تخريج حديث الباب.

واعترض عليهم: بأنها لو كانت نجسة محرمة للشرب ما جاز التداوي لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. وقد يجاب: عن ذلك بأن الضرورة جوزته. الرابع: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء فإنه -عليه الصلاة والسلام- بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاة. واختلف العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار فنفاه أبو حنيفة، وأثبته مالك والشافعي، ووافق بعض المالكية الحنفية. الخامسة: شرعية المثلة في القصاص والنهي عن المثلة محمول على من وجب عليه القتل لا على طريق المكافأة: كما سلف في الباب قبله. وقال بعضهم: فعله -عليه الصلاة والسلام- ذلك بهم فعل زائد على حد الحرابة لعظيم جرمهم لارتدادهم ومحاربتهم وقتلهم الرعاة وتمثيلهم بهم وأن النهي عن المثلة نهي تنزيه لا تحريم. وقال محمَّد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود. ذكره البخاري في حديث أنس، أي: وقبل أن تنزل آية المحاربة والنهي عن المثلة. وفي البخاري (¬1) أيضًا عن قتادة أنه قال: "بلغنا أنه -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك [أنه] (¬2) كان يحث على الصدقة، وينهى عن المثلة". وكذا قال الشافعي رحمه الله: إنه منسوخ، حكاه الإِمام في ¬

_ (¬1) (4192). (¬2) في ن هـ ساقطة.

"نهايته" عنه. وكذا ادعى نسخه ابن شاهين (¬1) بحديث كثير بن شنظير عن الحسن بن عمران قال: ما قام فينا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خطيبًا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة، وقال: هذا الحديث ينسخ كل مثلة كانت في الإِسلام، قلت: في سماع الحسن من عمران خلاف (¬2). وقال ابن الجوزي في كتابه: "الإعلام" (¬3) ادعاء النسخ يحتاج إلى التاريخ، وقد قال العلماء إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم بذلك ثابت وما حكاه عن العلماء قد أسلفته حديثًا صحيحًا مصرحًا به، لكن اعترض الشيخ تقي الدين على ما ذكره ابن الجوزي فقال: الحديث وردت فيه المثلة من جهات عديدة وأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فما يصنع بباقي ما جرى في المثلة فلابد له فيه من جواب غير هذا، وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين أنه ذكر ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ لابن شاهين (420). (¬2) قال الذهبي -رحمنا الله وإياه- في السير (4/ 567): قائلًا في إثبات سماع الحسن من عمران وقد صح سماعه في حديث العقيقة، وفي حديث النهي عن المثلة". اهـ. (¬3) الإِعلام في الناسخ والمنسوخ (تفسير آية المائدة (23))، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- (1/ 341): ويدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإِذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة، وقد حضر الإذن ثم النهي، وروى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود، ولموسى بن عقبة في "المغازي" وذكروا أن النبي - صلي الله عليه وسلم - نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين في "النهاية" عن الشافعي. اهـ.

أنهم قتلوا يسارًا مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم مثلوا به. فلو ذكر ابن الجوزي هذا كان أقرب إلى مقصوده مما ذكره من حديث سمل الأعين ققط على أنه أيضًا بعد ذلك يبقى نظر في بعض ما حكى في القصة. قلت: [وقد] (¬1) سلف أنهم مثلوا به وغرزوا الشوك في لسانه وسمروا عينه. ونقل القرطبي في "مفهمه" (¬2) عن أهل التواريخ والسير أنه -عليه الصلاة والسلام- إنما قطع أيديهم وأرجلهم لأنهم فعلوا كذلك بالراعي. قالوا: وأدخل الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتًا. وفي "النسائي" أنه -عليه الصلاة والسلام- صلبهم أيضًا. وقال ابن شهاب بعد أن ذكر قصتهم: ذكروا والله أعلم أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى بعد ذلك عن المثلة، فالآية التي في سورة المائدة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬3) الآية. وفي رواية فما مثّل نبي الله قبل ولا بعد ونهى عن المثلة. وقال: "لا تمثلوا بشيء"، وفي رواية من حديث جرير بإسناد ضعيف (¬4)، من حديث جرير فكره -عليه الصلاة والسلام- سمل الأعين فأنزل الله آية المحاربين. ¬

_ (¬1) في هـ ساقطة. (¬2) المفهم (5/ 19). (¬3) سورة المائدة: آية (33). (¬4) أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 247)، وهو حديث ضعيف لأن فيه الربذي ضعفه ابن كثير في تفسيره (2/ 53)، وابن حجر في الإصابة في ترجمة جرير بن عبد الله البجلي.

وفي سنن "أبي داود" و"النسائي" (¬1) عن أبي الزناد -عليه الصلاة والسلام- لما قطعهم وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك ونزل: {إِنَّمَا جَزَاءُ} الآية. السادسة: إن فعل الإِمام بالمحاربين وأهل الفساد ما يفعله في المثلة والقطع وسمر الأعين ونحو ذلك ليس هو من عدم الرحمة بل هو رحمة لما فيه من كف العادية عن الخلق وفعل ذلك بهم لا يظن أنه مخالف لوصف الرحمة الذي هو مشروط في حقهم على الرعايا، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن لي على قريش حقًا، ولقريش عليكم حقًا ما إذا حكموا فعدلوا، وائتمنوا فأدوا، واسترحموا فرحموا" (¬2). السابعة: عقوبة المحاربين وهو موافق للآية الكريمة السالفة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬3) الآية. واختلف العلماء في المراد منها في القتل والصلب والقطع من خلاف على قولين: أحدهما: أن "أو" فيها للتخيير، فيتخير الإِمام بين الأمور الثلاثة المذكورة فيها وهو قول مالك، إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله. ¬

_ (¬1) أبو داود (4370)، والنسائي (7/ 100)، والبيهقي (8/ 283). انظر تخريج حديث الباب. (¬2) أحمد (2/ 270)، وعبد الرزاق (19902)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 192)، وزاد نسبته إلى الطبراني في الأوسط وقال: رجال أحمد رجال الصحيح. (¬3) سورة المائدة: آية (33).

وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي: الإِمام بالخيار وإن قتلوا. وقال بعض الحنفية: إن هذا عن أبي حنيفة غلط لأن مذهبه فيمن أخذ المال. وقيل: إن الإِمام بالخيار: إن شاء قطعه وقتله أو صلبه وإن شاء قتله ابتداء وصلبه. والقول الثاني: أن "أو" للتقسيم قاله الشافعي وآخرون. فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا، وإن قتلوا وأخذوه قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئًا ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا وهو المراد بالنفي عند أصحاب هذا القول. قالوا: لأن ضرر هذه الأفعال يختلف فكانت عقوباتها مختلفة فلم تكن للتخيير. وحكى القاضي (¬1) عن مالك أنه يقتل ذا الرأي والتدبير، ويقطع ذا البطش والقوة، ويعزر من عداه. قال فجعلها مرتبة على صفاتهم لا على أفعالهم. [الثامنة] (¬2): جواز التطبب وأن طب كل ¬

_ (¬1) نسبه في إكمال إكمال المعلم (4/ 409). (¬2) في الأصل السابع وما أثبت من ن هـ.

[جسد] (¬1) بما اعتاد فإن هؤلاء القوم أعراب البادية عادتهم شرب أبوال الإِبل وألبانها وملازمتهم الصحارى فلما دخلوا القرى وفارقوا أغذيتهم، وعادتهم مرضوا فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، فلما رجعوا إلى عادتهم من ذلك صحوا وسمنوا. وقد أدخل البخاري هذا الحديث في الطب من "صحيحه" وترجم عليه الدواء بألبان الإِبل وأبوالها (¬2)، وفيه أنهم "قالوا يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا إن المدينة وخمة فأنزلهم الحرة في ذود له فقال: اشربوا ألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي"، الحديث. قال سلام بن مسكين: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثه بهذا فبلغ الحسن فقال: وددت أنه لم يحدثه. التاسعة: قتل المرتد من غير استتابة وفي كونها واجبة أو مستحبة خلاف شهير. ورأيت من يجيب بأنهم حاربوا والمرتد إذا حارب لا يستتاب لأنه يجب قتله فلا يظهر له معنى. العاشرة: قتل الجماعة بواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، وبه قال الشافعي ومالك وجماعة وخالف فيه أبو حنيفة. الحادية عشرة: لابد من تقدير اعتراف القائلين، أو الشهادة عليهم وإن لم يصرح بذلك في الحديث. ¬

_ (¬1) في الأصل سجيم وما أثبت من ن هـ. (¬2) الفتح (10/ 148) ح (5685).

الثانية عشرة: سماهم أبو قلابة سرّاقًا لأنهم أخذوا النعم من حرز مثلها وهو وجود الراعي معها ويراها كلها. الثالثة عشرة: خرّج البخاري هذا الحديث في صحيحه في مواضع منها باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق (¬1)؟ كما سلف، وفيه قالوا: "يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبغنا رسلًا، قال ما أجد لكم أن تلحقوا بالذود". ومنها في الحدود (¬2) "وذكر أنهم كانوا في الصفة يعني أولًا"، ومنها في الطب: كما سلف (¬3)، ومنها في الزكاة كما سلف. ومنها في المغازي بعد غزوة الحديبية وقبل غزوة ذي قرد فقال: قصة عكل وعرينة (¬4)، ثم رواه بلفظ: أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا المدينة وتكلموا بالإِسلام فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه، الحديث. وفيه: حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا الراعي وفيه: وتركوا في ناحية الحرة حتى ¬

_ (¬1) الفتح (6/ 177) ح (3018). (¬2) كتاب الحدود: (أ) باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا (12/ 113) ح (6804). (ب) باب سمر النبي - صلي الله عليه وسلم - أعين المحاربين (12/ 114) ح (6805). (ج) باب المحاربين من أهل الكفر والردة (12/ 111) ح (6802). (¬3) وأيضًا في باب: من خرج من أرض لا تلايمه (10/ 188) ح (5727). (¬4) الفتح (7/ 524) ح (4192).

ماتوا على حالهم (¬1). ¬

_ (¬1) ومما فات على المؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكره من تراجم البخاري: (أ) في كتاب الوضوء. باب: أبوال الإِبل والدواب والغنم والصلاة ومرابضها (1/ 400) ح (233). (ب) وفي كتاب التفسير باب قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (7/ 524) ح (4193). (خ) وفي كتاب الديات باب القسامة (12/ 239) ح (6899).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 365/ 2/ 69 - عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: "إن رجلًا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله. فقال الخصم [الآخر] (¬1) -وهو أفقه منه- نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2): قل، [قال] (¬3) إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنا بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد [عليك] (¬4) وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أُنيس -لرجل من أسلم- ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في متن العمدة مع حاشية إحكام الأحكام: النبي - صلي الله عليه وسلم -. (¬3) في المرجع السابق: فقال. (¬4) زيادة من المرجع السابق.

[إلي] (¬1) امرأة هذا، إن اعترفت فارجمها. [قال] (¬2) فغدا عليها، فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فرجمت (¬3). العسيف: الأجير. الكلام عليه من وجوه. الأول: في بيان الأسماء الواقعة فيه. أما عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة فهو أبو عبد الله الهذلي المدني التابعي، الفقيه، الأعمى، أحد الفقهاء السبعة. روى عن أبيه وعائشة وغيرهما وعنه، أخوه: عون، والزهري، وآخرون. واتفقوا على توثيقه وأمانته، وجلالته، وكثرة علمه، وفقهه، وحديثه، وصلاحه، وكان معلم عمر بن عبد العزيز. قال الزهري ما جالست أحدًا من العلماء إلَّا وأرى أني قد أتيت على ما عنده ما خلا عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة فإني لم آته إلَّا وجدت عنده علمًا طريفًا. مات سنة ثمان وتسعين على الصحيح وحمل علي بن الحسين جنازته. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق: على. (¬2) غير موجودة في المرجع السابق. (¬3) البخارى (2695)، ومسلم (1697)، وأحمد (4/ 115، 116)، وأبو داود (4445)، والنسائي (8/ 240، 241، 242)، والترمذي (1433)، والدارمي (2/ 177)، وابن الجارود (811)، والحميدي (2/ 354)، والبيهقي في السنن (8/ 369)، والبغوي (2579)، وعبد الرزاق (7/ 310)، وابن أبي شيبة (6/ 554)، وابن ماجه (2549).

أما أبو هريرة: فسلف التعريف به في الطهارة. وأما زيد بن خالد الجهني: فسلف التعريف به في باب: اللقطة. وأما أنيس: فهو صحابي مشهور يعد في الشاميين وهو ابن الضحاك الأسلمي، وقال أبو عمر: يقال مرثد بن أبي مرثد مات سنة عشرين وقيل: إنه ابن الضحاك. وقال النووي (¬1): إن هذا هو الصحيح ثبت. قلت: وسبقه إليه ابن الأثير فإنه قال إنه أشبه بالصحة لكثرة الناقلين له ولأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يقصد أن لا يؤمر في القبيلة إلَّا رجلًا منها لنفورهم من حكم غيره وكانت المرأة أسلمية (¬2). ورجحه ابن طاهر المقدسي أيضًا. الثاني: في مبهماته هذه المرأة أسلمية ولكن لا يحضرني اسمها وكذا اسم الأعرابي وابنه والخصم بعد البحث عن ذلك. الثالث: في ألفاظه ومعانيه. يعني: "أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين ومعناه: أسئلك رافعًا نشيدي [وهو صوتي] (¬3). و"كتاب الله" هنا حكمه مطلقًا، أي: بما كتب على عباده من الحدود والأحكام. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 207). (¬2) ذكره عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات (1/ 129). (¬3) زيادة من ن هـ.

قال الشيخ تقي الدين (¬1): وهو أولى من حمله على القرآن خاصة لأنه ذكر فيه التغريب، وليس منصوصًا فيه إلَّا بواسطة أمر الله باتباع رسوله وطاعته. قلت: لكن سيأتي أنه تفسير للسبيل الآتي في الآية فهو منصوص عليه فيه على هذا. وقال القرطبي (¬2): إن كانت هذه القضية وقعت بعد [نسخ [تلاوة] (¬3) آية الرجم فالمراد به] (¬4) حكم الله وإن كانت قبله، [فالمراد حقيقة كتاب الله] (¬5). وقوله: "وهو أفقه منه"، أي: لأنه أدى القصة على وجهها وتأنى واستأذن في الكلام ليأمن من الوقوع في النهي في قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} (¬6) بخلاف خطاب خصمه أنشدك الله: فإنه من جفا الأعراب. والعسيف: بالعين والسين المهملتين الأجير كما ذكره المصنف وهو في الصحيح معزوًا إلى مالك. وجمعه عسفاء، كأجير وأجراء، وفقيه وفقهاء. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 341). (¬2) المفهم (5/ 104). (¬3) زيادة من المفهم. (¬4) في ن هـ بياض ورمز له بحرف ط. (¬5) في ن هـ بياض ورمز له بحرف ط. وانظر لهما المفهم. (¬6) سورة الحجرات: آية 1.

وقوله: "كان عسيفًا على هذا" معناه: لهذا، والحروف يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، أي: عليها. وقوله: "فافتديت منه"، أي: من الرجم. "والوليدة" الأمة وجمعها ولائد وقد سلف في اللعان واضحًا. وقوله: "لأقضين بينكما بكتاب الله"، أي: بحكم الله كما سلف، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}، وفسر - صلى الله عليه وسلم - السبيل: بالرجم في حق المحصن وبالجلد والتغريب في حق غيره كما أخرجه مسلم (¬1) من حديث عبادة، وإن كان فيه ضم الجلد إلى الرجم أيضًا في حق المحصن، وسيأتي اختلاف العلماء فيه. وقيل: هو إشارة إلى أنه "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" هو مما نسخت تلاوته وبقي حكمه. فعلى هذا يكون الجلد قد أخذ من قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} (¬2) وقيل: المراد [بعض] (¬3) صلحكما الفاسد لأنه أكل المال بالباطل وكتاب الله مصرح بالنهي عنه. وقوله: "الوليدة والغنم رد"، أي: مردودة عليك. وأطلق ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1690)، وأحمد (5/ 313)، والترمذي (1334)، وأبو داود (4416)، وقد جاء تفسير السبيل بالحد كما ذكره أبو داود عن مجاهد باب في الرجم (4252). (¬2) سورة النور: آية 49. (¬3) زيادة من ن هـ.

المصدر على اسم المفعول كقولك: ثوب نسيج اليمن، أي: منسوج اليمن، وهذا خلق الله، أي: مخلوقه، ومعناه يجب ردها عليك. وقوله: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام"، هذا متضمن أن ابنه كان بكرًا وعلى أن ابنه اعترف بالزنا فإن إقرار الأب عليه لا يقبل إلَّا أن يكون هذا من باب الفتوى فيكون معناه إن كان ابنك زنى وهو بكر فحده ذلك. وقوله: "واغد يا أنيس" إلى آخره، إنما بعثه لإِعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه فلها عليه حد القذف فيطالب به أو تعفو إلَّا أن تعترف بالزنا فلا يجب عليه حد القذف بل عليها حد الزنا وهو الرجم لأنها كانت محصنة، فذهب إليها أنيس فاعترفت به فأمر -عليه الصلاة والسلام- برجمها فرجمت. قال النووي (¬1): كذا أوله العلماء من أصحابنا وغيرهم ولابد منه لأن ظاهره أنه بعث لطلب [إقامة] (¬2) حد الزنا وهو غير مراد لأن حد الزنا لا يحتاط له بالتجسس والتنقيب عنه بل لو أقر به مقرًا استحب أن يلقّن بالرجوع عنه فحينئذٍ يتعين التأويل المذكور، وقع للرافعي في كتاب الوكالة أن بعثه لاستيفاء الحد منها بالوكالة، وقال في آخر باب القضاء على الغائب: إنه لأجل سماع الدعوى على المحدودة. وقال القاضي عياض: إنما أرسله ليشهد عليها مع أبي الزاني ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 207). (¬2) زيادة من ن هـ.

ليكمل به النصاب، أي: وهو الشهادة على إقرارها على الخلاف الشهير فيه في الاكتفاء باثنين. ومعنى "اغد" امضِ وسر وليس معناه سر إليها بكرة كما هو موضوع الغداة. وكذا قوله: "فغدا عليها"، أي: مضى إليها وسار نحوها. وقوله (¬1): "فاعترفت" فأمر بها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فرجمت. وفي رواية للبخاري "فاعترفت فرجمها"، ورجح القرطبي (¬2) [هذه الرواية على تلك لأنها من رواية مالك عن الزهري وهو أعرف الناس به والأول من رواية الليث عنه] (¬3). الوجه الرابع في أحكامه. الأول: استحباب صبر الحاكم على جفاء الناس من الخصوم والمستفتين إذا قالوا احكم بيننا بالحق وافتنا بالحق. الثاني: حسن الأدب في المخاطبة للأكابر حيث قال: "وائذن لي". الثالث: جواز استفتاء غير الشارع في زمنه فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم ينكر ذلك عليه لما قال: "فسألت أهل العلم" وهو كالاقتصار على الظن مع القدرة على اليقين. ¬

_ (¬1) في الأصل مطموس من إثر التصوير. (¬2) المفهم (5/ 106). (¬3) في الأصل مطموس من إثر التصوير وما أثبت من المفهم.

الرابع: استفتاء المفضول مع وجود الفاضل. الخامس: إباحة الكلام للإِمام لمن شاء من الخصمين إذا اجتمعا بين يديه، قاله الخطابي (¬1). السادس: رد الصلح الفاسد. السابع: رد المال المأخوذ فيه. الثامن: أن الحدود لا تقبل الفداء. واختلف أصحابنا فيما إذا عفي عن حد القذف على مال على وجهين: وأصحهما أنه لا يستحقه، والخلاف محكي عند المالكية أيضًا بعد رفعه إلى السلطان مع الكراهة لأنه أكل مال في ثمن عرضه. قالوا: ولا خلاف أيضًا في المنع في حق الله تعالى كالحرابة والزنى والسرقة تبلغ السلطان أم لا، لأنه أكل مال بالباطل في إبطال حد إن بلغ السلطان أو أكل مال على أن لا يبلغه وهو حرام ورشوة ولا خلاف في الجواز في حق الأبدان من القصاص في الجراح والنفس. التاسع: استتابة الإِمام في إقامة الحدود. العاشر: وجوب الإِعذار وجوازه بواحد وفيه خلاف للمالكية. قال القاضي (¬2): وقد يمكن أنه -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنده اعترافها بشهادة هذين الرجلين فكان توجيه أنيس إعذار لها. ¬

_ (¬1) معالم السنن (6/ 258). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 462).

قلت: لابد من ذلك وإلَّا لزم الاكتفاء بشهادة واحد على الأقرار به ولا قائل به، وإنما اختلفوا في الاكتفاء باثنين فيه أو باشتراط أربعة. الحادي عشر: جواز حكم الحاكم في الحدود بما أقر به [الخصم] (¬1) عنده وسماعه منه من غير ضبط شهادة على الحدود، وهو أحد قولي الشافعي وأبي ثور، ولا يجوز ذلك عند مالك إلَّا بعد ضبط الشهادة عليه. الثاني عشر: إن حضور الإِمام الرجم ليس شرطًا فإنه -عليه الصلاة والسلام- لم يحضر رجمها، وخالف فيه أبو حنيفة. وحكى المالكي فيه خلافًا لهم. وعن أبي حنيفة حضور الشهود أيضًا وأنهم يبدأون بالرجم فإن ثبت بالإِقرار بدأ الإِمام. الثالث عشر: لم يذكر المصنف في روايته الحفر [لها] (¬2) وهو ثابت في صحيح مسلم وصحح أصحابنا أنه يستحب أن يحفر لها إن ثبت زناها [بالبينة ولا يستحب إن] (¬3) ثبت بالإِقرار. وحديث الغامدية هذا يرده فإنه [ثبت زناها بإقرارها وحفر لها] (¬4). الرابع عشر: شرعية التغريب مع الجلد [وفي البخاري "وجلد] (¬5) مائة وغربة عامًا". والحنفية خالفت فيه بناء على أن ¬

_ (¬1) في الأصل الحكم وما أثبت من ن هـ. (¬2) بياض بالأصل وما أثبت من ن هـ. (¬3) بياض بالأصل وما أثبت من ن هـ. (¬4) بياض بالأصل وما أثبت من ن هـ. (¬5) بياض بالأصل وما أثبت من ن هـ.

التغريب ليس مذكورًا [في القرآن] (¬1) وأن الزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز عندهم، وغيرهم يخالفهم في ذلك والمسألة مقررة في الأصول (¬2) وقد أجمع العلماء على وجوب جلد الزانى البكر مائة ورجم المحصن وهو الثيب ولم يخالف فيه أحد من أهل القبلة إلَّا ما حكاه القاضي (¬3) وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة والنظام وأصحابه أنهم لم يقولوا بالرجم. واختلف العلماء في جلد الثيب مع رجمه، فقال علي ابن أبي طالب والحسن البصري وأحمد وابن راهويه وداود وأهل الظاهر وابن المنذر: يجلد ثم يرجم. وقال الجمهور: الواجب الرجم وحده. وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث أنه يجب الجمع إذا كان شيخًا ثيبًا فإن كان شابًا ثيبًا، اقتصر على الرجم وهو مذهب باطل لا أصل له بالأحاديث الصحيحة. ومنها: قصة ماعز والغامدية، وحديث الجمع بينهما منسوخ فإنه كان في أول الإِسلام. وأوله بعضهم فقال: هو محمول على من زنا وهو بكر فلم يحد حتى زنا وهو محصن. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل وما أثبت من ن هـ. (¬2) انظر: البحر المحيط (4/ 108، 109)، والإِحكام لابن حزم (4/ 617)، وتقريب الوصول (319). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 448).

الخامس عشر: رجم الثيب دون جلده، وجلد البكر ونفيه، كما قررناه. السادس عشر: أن الحاكم إذا قذف إنسان معين في مجلسه وجب عليه أن يبعث إليه ليعرفه بحقه من القذف. واختلف أصحابنا في وجوب ذلك على الحاكم على وجهين وصححوا الوجوب. ومن تراجم البخاري (¬1) عليه إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به؟ انتهى. ولو شهد عنده بالقذف فلا يحده الإِمام إلَّا بطلب المقذوف عند الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي. وعند مالك أنه يرسل إليه فإن أراد سترًا تركه وإلَّا حده، واختلف قوله في عفوه وإن لم يرد سترًا. السابع عشر: قبول خبر الواحد، وقد سلف. الثامن عشر: الاكتفاء بمجرد الإِقرار دون مراعاة عذر. التاسع عشر: الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة، فإنه -عليه الصلاة والسلام- رتب رجمها على مجرد اعترافها ولم يقيده بعدد. العشرون: هذه الأسلمية كانت محصنة كما سلف فإن الإِحصان معتبر في الرجم بالإِجماع، ولعله كان معروفًا فاستغنى عن ذكره في الحديث. ¬

_ (¬1) (6842).

الحادي بعد العشرين: الرجوع إلى العلماء عند اشتباه الأحكام والشك. الثاني بعد العشرين: استصحاب الحال في استمرار الأحكام الثابتة وإن كان يمكن زوالها في حياته -عليه الصلاة والسلام- بالنسخ. الثالث بعد العشرين: أن ما أخذ بالمعاوضة الفاسدة يجب رده ولا يملك، وقد قدمنا في الوجه السابع أنه يؤخذ منه رد المال المأخوذ في الصلح الفاسد. قال الشيخ تقي الدين (¬1) وبه يتبين ضعف من اعتذر من الشافعية من بعض العقود الفاسدة، فإن المتعاوضين أذن كل منهما للآخر في التصرف في ملكه، وجعل ذلك سببًا لجواز التصرّف فإن ذلك الإذن ليس مطلقًا، وإنما هو مبني على المعاوضة الفاسدة. الرابع بعد العشرين: أن ما يستعمل من الألفاظ في محل الاستفتاء يسامح فيه في إقامة الحد والتعزير. فإن هذا الرجل قذف المرأة بالزنا, ولم يتعرض الشارع لأمر حده بالقذف، وأعرض عن ذلك ابتداء، كذا قرره الشيخ تقي الدين (¬2)، وفيه مخالفة لما أسلفناه. الخامس بعد العشرين: عدم الجمع بين الجلد، والرجم فإنه لم يعرِّفه أنيسًا ولا أمره به. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 344). (¬2) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 344)، وأيضًا المسألة بعدها.

السادس بعد العشرين: جواز إيجار الآدمي نفسه واستئجاره وهو لائح. السابع بعد العشرين: الرجوع إلى كتاب الله تعالى في الأحكام إما بالنص وإما بالاستنباط كما مر. الثامن بعد العشرين: القسم على الأمر بفعله تفخيمًا له وتعظيمًا. التاسع بعد العشرين: الحلف من غير استحلاف. الثلاثون: استدل به بعضهم على تأخير الحدود عند ضيق الوقت لأن الغدوّ إنما يكون في أول النهار وهو ضعيف كما قال القاضي عياض (¬1)، فإنه لم يثبت في الحديث إن ذلك كان في آخر النهار فأخر بعده. وقد أسلفنا أن المراد بالغدو هنا المضي والسير لا هذا. الحادي بعد الثلاثين: أن زنا المرأة تحت زوجها لا يفسخ نكاحها ولا يوجب تفرقة بينها وبينه إذ لو كان ذلك لفعل ولو فعل لنقل. وأغرب الجوزي بضم الجيم من الشافعية فقال: إنه يفسخ وهو غريب. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 460).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 366/ 3/ 69 - وعنه عنهما (¬1) قالا: "سئل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: [إذا] (¬2) زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها [ثم إن زنت فاجلدوها (¬3)]، ثم بيعوها ولو بضفير" (¬4). قال ابن شهاب: ولا أدري أبعد الثالثة، أو الرابعة؟ والضفير: الحبل. ¬

_ (¬1) في متن عمدة الأحكام مع الحاشية (عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني). (¬2) في المرجع السابق: إن. (¬3) زيادة من المرجع السابق. (¬4) البخاري (2153)، ومسلم (1704)، وأحمد (2/ 249، 422)، (4/ 116، 117، 343)، والترمذي (1433)، وأبو داود (4469)، والنسائي في الكبرى (7256، 7257، 7258، 7259، 7260)، وابن الجارود (821)، والحميدي (1082)، وابن ماجه (2565)، والبيهقي (8/ 421)، وعبد الرزاق (7/ 393)، وابن أبي شيبة (6/ 486)، ومالك (2/ 630).

الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في الحديث قبله، وابن شهاب سلف التعريف في باب العدة وأنه منسوب إلى جد جده. ثانيها: "الضفير": فقيل: بمعنى مفعول وفي بعض الروايات في الصحيح "ولو بحبل من شعر" وصفه بذلك لأنها أكثر حبالهم. والمراد بقوله: "اجلدوها" الحد بدليل الرواية الأخرى، في الصحيح في حديث أبي هريرة "فليجلدها الحد". والأمة: المملوكة وجمعها إماء (¬1) وأموات. والجلد المأمور به هنا هو نصف الحرة كما سيأتي. ومعنى "لم تحصن" لم تتزوج، وقيل: لم تسلم، وقيل: لم تعتق. قال القرطبي (¬2): والثاني: أولى الأقوال في الآية على ما أوضحه ابن العربي. ثالثها: الحكمة في بيعها وكونه ثمن حقير بتنفيرها وكسر نفسها عن الفاحشة والتنفير عن مثل فعلها لعدم مخالطتها. فإن قلت: كيف ينبغي له بيعها لغيره ويرضى لأخيه المسلم ما لا يرضى لنفسه. فالجواب: لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها في بيته أو بالإِحسان إليها أو بالتوسعة أو يزوجها أو غير ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (أم هـ). (¬2) المفهم (5/ 124).

ذلك. ذكره النووي (¬1) والقرطبي (¬2) وأيضًا الحرج في ذلك يزول بإعلام البائع بزناها. رابعها: اعترض الطحاوي (¬3) على قوله: "ولم تحصن"، وقال تفرد بها مالك وأشار بذلك إلى تضعيفها وأنكر ذلك الحفاظ عليه. وقالوا: بل رواها أيضًا ابن عيينة ويحيى بن سعد عن ابن شهاب [ثم] (¬4) ليس في ثبوتها حكم مخالف، فإن الأمة تجلد على النصف من الحرة سواء أكانت محصنة بالتزويج، كما سلف أو لم يكن. نعم فيه بيان من لم تحصن وقول الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬5) فيه بيان من أحصنت فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد وهو معنى ما ثبت من أفراد "صحيح مسلم" (¬6): أن عليًا - رضي الله عنه - خطب فقال: "يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن" الحديث. فإن قلت: ما الحكمة من التقييد في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}، مع أن عليها نصف جلد الحرة سواء كانت الأمة محصنة أم لا؟ ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 212). (¬2) المفهم (5/ 121). (¬3) شرح معاني الآثار (3/ 165). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) سورة النساء: آية 25. (¬6) مسلم (1705)، والترمذي (1441)، وأبو داود (4473).

فالجواب: كما ذكره في "شرح مسلم" (¬1) أن الآية نبهت على أن الأمة المزوجة لا يجب عليها إلَّا جلد نصف جلد الحرة لأنه الذي يتنصف، وأما الرجم: فلا يتنصف فليس مرادًا في الآية بلا شك فليس للأمة المزوجة الموطوءة في النكاح حكم الحرة الموطوءة فيه فبينت الآية الكريمة هذا لئلا يتوهم متوهم أن الأمة المزوجة ترجم وقد أجمعوا على أنها لا ترجم، فأما غير الأمة المزوجة فقد علمنا أن عليها النصف أيضًا بالأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث فإنه مطلق يتناول المزوجة وغيرها. الوجه الخامس: في أحكامه: الأول: أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ولذلك حط من قيمته من الأمر ببيعه ولو بحبل، قال أصحابنا: ولو زنا مرة ثم تاب وأصلح وباعه ثبت الرد به لأن تهمة الزنا لا تزول، ولهذا لا يعود إحصان الحر الزاني بالتوبة، ويجب على البائع الإِعلام به. وكذا على الأجنبي إذا عرف به أيضًا وهذا الاستنباط الذي ذكرته وهو أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ثم استشهدت بعد ذلك بالحط من قيمته ذكره النووي في "شرحه" (¬2). وقال الشيخ تقي الدين (¬3): كذا ذكره بعضهم. وعنى به النووي وفيه نظر، لجواز أن يكون المقصود أن يبيعها، وإن انحطت قيمتها ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 213). (¬2) شرح مسلم (11/ 212). (¬3) إحكام الأحكام مسح الحاشية (4/ 349).

إلى الضفير. فيكون ذلك إخبارًا متعلقًا بحال وجودي، لا إخبارًا عن حكم شرعي ولا شك أن من عرف بتكرر زنا الأمة انحطت قيمتها عنده. الثاني: إن الزاني إذا حد ثم زنى ثانيًا يلزمه حد آخر، وهكذا كلما زنى وحد ثم زنى يلزمه حد آخر، فلو زنا مرات ولم يحد لواحد منهن حد حدًا واحدًا للجميع. ثم حدها إنما يكون بإقرارها أو ببينة أو بعلمه عند من يجوزه. الثالث: ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي وفراقهم لكنه ذكر الفراق هنا في الرابعة فقد يستنبط منه أن من ارتكب معصية لا يفارق ببيع وهجران ونحوهما إلَّا بعد تكرر ذلك منه. الرابع: الأمر ببيع الأمة الزانية، وفي معناها العبد الزاني بعد المرة الثالثة لكن اختلف العلماء فيه هل هو أمر ندب أو إيجاب؟ ذهب الشافعي والجمهور إلى الأول. وذهب داود وأهل الظاهر وأبو ثور [إلى الثاني] (¬1) قال ابن الرفعة في "كفايته" البيع المذكور منسوخ. الخامس: الأمر بحدها في كل مرة وهو للوجوب وعطف البيع عليه لا ينافيه لأنه قد يعطف غير الواجب على الواجب كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (¬2)، وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) سورة الأنعام: آية 141. (¬3) سورة النور: آية 33.

السادس: بيع الشيء الثمين بثمن حقير إذا كان البائع عالمًا به وهو إجماع، فإن كان جاهلًا به فكذلك عند الشافعية وجمهور العلماء، ولأصحاب مالك فيه خلاف. قيل كالأول، وقيل تعتبر بالزيادة على الثلث أو النقص منه، واعترض الشيخ تقي الدين (¬1) على هذا الوجه فقال: ذكر بعضهم أن فيه دلالة على جواز بيع غير المحجور عليه ماله بما لا يتغابن [الناس به] (¬2). وهذا النظر تعرض له أيضًا القاضي (¬3) ثم القرطبي (¬4). السابع: أن الحد كاف ولا يضم إليه التعزير، فإن في الصحيح أيضًا "فليجلدها الحد ولا يثرب عليها" والتثريب: التوبيخ واللوم على المذنب، وأبعد من قال: معناه لا يبالغ في جلدها حتى يدميها. وقال الخطابي (¬5) معناه: لا يقتصر على التثريب. الثامن: أن السيد يقيم الحد على عبده وأمته وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة في طائفة: ليس له ذلك وهذا الحديث وغيره صريح في الدلالة للجمهور. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 348). (¬2) في ن هـ وإحكام الأحكام: (به الناس). ويوافقه في معالم السنن (6/ 279). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 466). (¬4) المفهم (5/ 121). (¬5) معالم السنن (6/ 279).

وحكى القاضي (¬1) الخلاف في إقامة القطع عليه ونقل عن مالك وغيره المنع من القطع والقتل وقصاص الأعضاء مخافة أن يمثل بعبده ويدعي أنه أقام عليه الحد فلا يعتق عليه. قال مالك: فإن كان لها زوج [أجنبي] (¬2) لم يحدها بل الإِمام بخلاف ما إذا كان عبده فإنه يحده (¬3). التاسع: إنه لا فرق في إيجاب الحد بين أن تكون الأمة أو العبد مزوجين أم لا لإِطلاقه -عليه الصلاة والسلام- الجلد من غير تفصيل وهو مذهب جمهور الأمة منهم الأئمة الأربعة. وقال جماعة من علماء السلف (¬4): لا حد على من لم تكن مزوجة من النساء والعبيد. منهم ابن عباس وطاوس وعطاء وابن جُريج وأبو عبيد، وهو مفهوم الآية السالفة، وقد أسلفنا بيانها. ونص هذا الحديث يقدم على المفهوم، قال ابن شاهين في "ناسخه ومنسوخه" (¬5): وأحسب هذا الحديث ناسخًا لحديث ابن عباس المرفوع "ليس على الأمة حد حتى تحصن" (¬6). مع أنه حديث قد ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم. (¬2) في ن هـ بياض. (¬3) انظر: المفهم (5/ 122). (¬4) انظر: المفهم (5/ 123). (¬5) ناسخ الحديث ومنسوخه (502). (¬6) الدر المنثور (2/ 491). سورة النساء: آية (25)، والعلل المتناهية (2/ 309). وذكره في مجمع الزوائد (6/ 273) , وقال: رواه الطبراني بإسنادين غير عبد الله بن عمران وهو ثقة. اهـ.

علل. وقيل: إنه روي موقوفًا على ابن عباس ولا أعلم [أحدًا] (¬1) أسنده [وجوده] (¬2) إلَّا عبد الله بن عمران العابدي. قلت: لكنه صدوق كما قاله أبو حاتم (¬3) الرازي. العاشر: قال الشيخ تقي الدين (¬4): قد يقال إن فيه إشارة إلى إعلام البائع المشتري بعيب السلعة، فإنه إنما تنقص قيمتها بالعلم بعيبها، وفيه نظر. ولو لم يعلم لم تنقص. الحادي عشر: قال وقد يقال أيضًا: إن فيه إشارة إلى أن العقوبات إذا لم تفد مقصودها من الزجر لم تفعل، فإن كانت واجبة كالحد، [فلترك] (¬5) الشرط في وجوبها على السيد وهو الملك, لأن أحد الأمرين لازم: إما ترك الحد ولا سبيل إليه لوجوبه. وأما إزالة شرط الوجوب، وهو الملك، فتعين. ولم يقل اتركوها، أو حدوها كلما تكرر فنخرج عن هذه التعزيرات التي لا تفيد لأنها ليست بواجبة الفعل فيمكن تركها. قلت: قد حكى إمام الحرمين عن المحققين أن المعزر إذا علم أن التأديب لا يحصل إلَّا بالضرب المبرح لم يكن له الضرب المبرح ¬

_ (¬1) زيادة من الناسخ والمنسوخ لابن شاهين. (¬2) غير موجودة في المرجع السابق. (¬3) الجرح والتعديل للرازي (5/ 130)، وقال ابن حبان في الثقات (8/ 130) يخطئ ويخالف وفي الجرح (المعابدي). (¬4) إحكام الأحكام مع الحاشية (4/ 350). مع التقديم والتأخير بين ولو لم يعلم لم تنقص وفيه نظر. (¬5) في إحكام الأحكام (فيترك).

ولا غيره، أما المبرح فلأنه مهلك وليس له الإِهلاك وأما غيره فلا فائدة فيه. قال الرافعي: ويشبه أن يبقى الأمر في حق الإِمام على أصل التعزير هل هو واجب عليه إن أوجبناه التحق بالحد وحينئذٍ يضربه ضربًا غير مبرح لضرورة الواجب.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 367/ 4/ 69 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -[أنه] (¬1) [قال] (¬2): "أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلي الله عليه وسلم -وهو في المسجد- فناداه [فقال] (¬3) يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه. فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فقال: "أبك جنون؟ قال: لا. قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: اذهبوا به فارجموه" (¬4). قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى. فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه". ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في المتن ساقطة. (¬4) البخاري (6815)، (1697)، وأحمد (2/ 453)، ومالك (2/ 626)، والنسائي في الكبرى (7177)، والبغوي في السنة (10/ 289).

"الرجل" هو ماعز بن مالك. وروى قصته جابر بن سمرة، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري, وبريدة بن الحصيب الأسلمي. الكلام عليه من وجوه: الأول: حديث جابر بن سمرة (¬1) رواه مسلم منفردًا به وحديث ابن عباس: أخرجاه (¬2) وحديث أبي سعيد (¬3) وبريدة (¬4) رواهما مسلم منفردًا به واتفقا على إخراجه من حديث جابر بن عبد الله (¬5) أحاله مسلم على حديث أبي هريرة. وقال بنحوه. والبخاري ذكره مطولًا ومختصرًا. وفي رواية له فقال له النبي - صلي الله عليه وسلم -: "خيرًا وصلى عليه" ثم قال البخاري: لم يقل يونس وابن شريح عن الزهري "وصلى عليه". يعني: إن معمر انفرد بها وقد قيل للبخاري رواه غيره قال: لا. الثاني: قوله قال ابن شهاب: "فأخبرني أبو سلمة ¬

_ (¬1) مسلم (1692)، وأبو داود (4422، 4423)، وأحمد (5/ 86، 87، 102 , 103)، والطبراني (1917)، وعبد الرزاق (13343)، والبيهقي (8/ 226). (¬2) مسلم (1693)، وأحمد (1/ 245)، والترمذي (1427)، وأبو داود (4425)، والنسائي في الكبرى (7171). (¬3) مسلم (1694)، وأبو داود (4432)، وأحمد (5/ 103). (¬4) مسلم (1695)، والنسائي في الكبرى (7167)، وأبو داود (4442). (¬5) مسلم (1691)، والترمذي (1429)، وأبو داود (4420، 4430).

بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "إلى آخره الذي في مسلم قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول: وكذا هو في "صحيح البخاري" في موضعين منه في هذا الباب. الثالث: في تبيين الأسماء الواقعة فيه. أما أبو هريرة: فسلف في الطهارة. وأما ابن شهاب: فتقدم في باب العدة. وأما أبو سلمة بن عبد الرحمن: فهو أحد الأعلام اسمه عبد الله على الأصح عند أهل النسب كما قاله ابن عبد البر في "الاستغناء" ويقال: إسماعيل ويقال: عوف حكاه [الصريفيني] (¬1) ويقال: لا يعرف له اسم وهو تابعي قرشي وزهري مدني متفق على ثقته وأمانته وفقهه وكثرة حديثه. روى عن أبيه عبد الرحمن بن عوف وخلائق صحابة وتابعين وعنه الشعبي وخلائق، مات بالمدينة سنة أربع وتسعين على أثبت الأقوال ابن اثنين وسبعين سنة. وعده بعضهم من الفقهاء السبعة. وأما جابر بن عبد الله: فسلف في باب الجنابة. وأما جابر بن سمرة: فهو أبو عبد الله ويقال أبو خالد وجده عمرو وقيل جنادة ابن جندب بن حجر بن رياب بن حبيب بن سواه بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن صعصعة بن قيس عيلان بن مضر السواى. ¬

_ (¬1) في الأصل غير واضحة.

له ولأبيه صحبة، نزل الكوفة وابتنى به دارًا في بني سواه وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص فأمه خلدة بن أبي وقاص. روي له عن النبي - صلي الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثًا اتفقا على حديثين وانفرد مسلم بمائة وعشرين قاله ابن الجوزي، وقال غيره بستة وعشرين. روى عنه جماعة من التابعين، قال خليفة: مات سنة ثلاث وسبعين، وقال ابن حبان: مات بالكوفة سنة أربع وسبعين في ولاية بشر بن مروان على العراق وصلّى عليه عمرو بن حريث وحديثه عند أهل الكوفة. وقال غيرهم: مات سنة ست وستين أيام المختار. وأما ماعز بن مالك فهو أسلمي مدني جاء إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - تائبًا منيبًا فرجم رحمه الله. قال -عليه الصلاة والسلام-: "رأيته يتخضخض في أنهار الجنة". وماعز لقب واسمه عريب وكنيته أبو عبد الله، كتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا بإسلام قومه روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا، قال ابن حبان [لماعز] (¬1) صحبة بلا رواية. وفي [الرواة] (¬2) أيضًا آخر يقال له ماعز وسأل النبي - صلي الله عليه وسلم - "أي الأعمال أفضل قال: إيمان بالله" (¬3) روى عنه البصريون ذكره ابن حبان في الصحابة من "تاريخ الثقات". ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الأصل (الرواية)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) تخريج الحديث.

فائدة: اسم [المرأة] (¬1) التي زنا بها ماعز فاطمة وقيل: منيرة (¬2) وهي أمة لهزّال وكان هزّال وصيًا على ماعز. وأما ابن عباس: فسلف التعريف به من باب الاستطابة. وأما أبو سعيد الخدري: فسلف أيضًا في الصلاة. وأما بريدة بن الحصيب: فهو أبو عبد الله، وقيل: أبو سهل، وقيل: أبو ساسان بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعيد بن رزاح بن عدي بن سهم بن مازن [الأسلمي] (¬3) أسلم قبل بدر ولم يشهدها وهو من المهاجرين. نزل البصرة ثم مرو وقبره بها وشهد خيبر والفتح وكان أميرًا على ربع أسلم. روى عنه ابناه عبد الله وسلمان، والشعبي وجماعة. وكان فارسًا شجاعًا مات سنة ثلاث وستين وقال المقدسي: ابن اثنين أو ثلاث وستين. وهو آخر من مات من الصحابة بخراسان. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وأربعة وستون حديثًا، اتفقا على حديث واحد. وانفرد [البخاري] (¬4) بحديثين، [ومسلم] (¬5) بأحد عشر. ¬

_ (¬1) في الأصل (الماعز)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) كما في المستفاد من مبهمات المتن والإِسناد للعراقي (73). (¬3) في ن هـ (أسلمي). (¬4) في ن هـ رمز له بحرف خ. (¬5) في ن هـ رمز له بحرف م.

الوجه الرابع في ألفاظه ومعانيه: قوله: "أتى رجل من المسلمين فقال"، إلى آخره. هذا هو المشهور أنه بدأ بالسؤال وحديث ابن عباس في الصحيح ظاهره أنه -عليه الصلاة والسلام- هو الذي بدأه به. قال القرطبي (¬1): وهذا أحد المواضع الثلاثة المضطربة في حديث ماعز. وثانيها: في الحفر له وسيأتي. وثالثها: في الصلاة عليه، وكذا في الاستغفار له، وكلها في الصحيح. وقوله: "حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات" هو بتخفيف النون، أي: كرره أربع مرات. وقوله: "أبك جنون"؟ إنما قاله تخفيفًا لحاله فإن الإنسان غالبًا لا يصبر على الإقرار بما يقتضي قتله من غير سؤال مع أن له طريق إلى سقوط الإِثم بالتوبة. وهي أستر له أو يبرر واقعته في صورة استفتاء وفعل ما أمر. وفي رواية في الصحيح "أنه -عليه الصلاة والسلام- سأل قومه عنه فقالوا: ما نعلم به بأسًا". وهذا مبالغة في تحقيق حاله. [و] (¬2) في صيانة دم المسلم فينبني الأمر عليه لا على مجرد إقراره بعدم الجنون فإنه لو كان مجنونًا لم يفد. قوله: "إنه ليس به جنون". لأن إقرار المجنون غير معتبر فهذا هو الحكمة في سؤاله عن ذلك. وقال القرطبي (¬3): في "مفهمه" إنما قاله لما ظهر عليه من الحال التي تشبه حال الجنون وذلك أنه ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 102). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) المفهم (5/ 89).

دخل إلى] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتفش الشعر، ليس [عليه] (¬2) رداء، يقول: [زنيت فطهرني كما قد] (¬3) صح في الرواية, أي: في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة. ومعنى "أحصنت" تزوجت، وإنما سأله عن الإِحصان لتردد حد الزاني بين الجلد والرجم ولا يمكن الإِقدام على أحدهما إلا بعد تبيين سببه. "وأذلقته" بالذال المعجمة وبالقاف أصابته بحدها. قاله النووي في "شرحه" (¬4). وكذا ذكره القرطبي في "مفهمه" (¬5) قال: وذلق كل شيء: حده. ومنه: لسان ذلق. وقال الشيخ تقي الدين (¬6): بلغت منه الجهد، قال وقيل: عَضَّته، وأوجعته، [وعقرته] (¬7). وفي "الصحاح" (¬8) الذلق بالتحريك القلق، وقد ذلق بالكسر وأذلقته أنا فعلى هذا معنى أذلقته: أقلقته. و"المصلى" هنا مصلى الجنائز ويؤيده الرواية الأخرى، وفي الصحيح "في بقيع الغرقد" وهو مصلى الجنائز بالمدينة. ¬

_ (¬1) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ له. (¬3) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ. (¬4) شرح مسلم (11/ 194). (¬5) المفهم (5/ 102). (¬6) إحكام الأحكام (4/ 354). (¬7) في المرجع السابق (وأوهنته). (¬8) مختار الصحاح 230 مادة (ذ ل ق).

و"الحرة": تقدم بيانها في الصيام. الوجه الخامس: في أحكامه: الأول: جواز الإقرار بالزنا عند الأئمة لإِقامة الحد عليه. الثاني: أن الحدود إذا وصلت إلى الإِمام يقيمها ولا يهملها. الثالث: جواز الإِقرار بالحقوق عند الحكام في المساجد. الرابع: نداء الكبار من العلماء وأهل الدين بأعلى نعوتهم [التي شرفهم الله تعالى بها، فإنه نادى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بيا رسول وهي أعظم نعوتة] (¬1). الخامس: إعراض الإِمام عن من أقر بما يوجب عليه حدًا ليرجع عن إقراره أو يثبت عليه. السادس: أن الإِمام يسأل عن شروط الرجم من الإِحصان وغيره سواء ثبت بالإِقرار أم بالبينة لترتيب الحكم عليه. السابع: أن إقرار المجنون باطل فإن الحدود لا تجب عليه، وأنه يحتاط للدماء أكثر من غيرها وكل ذلك إجماع. الثامن: التعريض للمقر بالزنا بأن يرجع ويقبل رجوعه بلا خلاف. التاسع: اعتبار الإِقرار بالزنا أربع مرات وهو مذهب أبي حنيفة والكوفيين وأحمد قالوا: لأنه -عليه الصلاة والسلام- إنما أخر تمام الحد إلى تمام الأربع مرات لكونه لم يجب قبل ذلك لأنه لو وجب ¬

_ (¬1) من ن هـ ساقطة.

قبله لما أخره فدل على أنه لا يجب إلا بعدها ويقوى ذلك بقول الراوي: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه -عليه الصلاة والسلام-" إلى آخره، ففيه إشعار بأن الشهادة أربعًا هي العلة في الحكم وقاسوه على شهود الزنا. وخالف في ذلك مالك والشافعي ومن وافقهما فقالوا: لا يعتبر تكرره بل يثبت مرة واحدة ويرجمه قياسًا على سائر الحقوق. وبأنهم رووا أن تأخير الحد إلى تمام الإِقرار أربعًا ليس للوجوب كما ذكره الأولون بل للاستثبات والتحقيق لوجوب السبب لأن مبنى الحد على الاحتياط في درئه بالشبهات. واحتجوا أيضًا بالحديث السالف: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فلم يشترط عدد. وحديث الغامدية في "صحيح مسلم" (¬1) ليس فيه أيضًا إقرارها أربع مرات ولأنه اعتراف بما يوجب القتل فلا يشترط فيه التكرار قياسًا على شهود الاعتراف بالقتل فإنه لا خلاف كما قال القاضي عياض أن الاعتراف بالقتل لا يعتبر فيه التكرار كالشهادة، فكذا في الرجم، ولا يحسن قياسهم الإِقرار على الشهادة لأن إقرار الفاسق على نفسه مقبول بخلاف شهادته. واشترط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء إقراره أربع مرات في أربع مجالس. ونقل القرطبي (¬2) هذا عن أصحاب الرأي، ونقل عن ابن أبي ليلى وأحمد اشتراط كونها في مجلس واحد، وما قدمناه ¬

_ (¬1) مسلم (1695)، وأحمد (5/ 347)، والنسائي في الكبرى (7163). (¬2) المفهم (5/ 90).

أولًا هو ما حكاه النووي (¬1). العاشر: تفويض الإِمام الرجم إلى غيره. فإن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اذهبوا به فارجموه" يشعر بعدم حضوره إياه. قال العلماء: لا يستوفي الحد إلَّا الإِمام أو من فوض إليه الإِمام. واستحب الفقهاء: أن يبدأ الإِمام بالرجم إذا ثبت الزنا بالإِقرار ويبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة. وكأن الإِمام لما كان عليه التثبت والاحتياط قيل له أبدأ، ليكون ذلك زاجرًا عن التساهل في الحكم بالحدود، داعيًا إلى غاية التثبت. وبدأة الشهود لأن قتله بقولهم (¬2). الحادي عشر: عدم الحفر للمرجوم فإنه هرب لما أذلقته الحجارة، فلو حفر له ما تمكن منه. ويؤيده رواية أبي سعيد في صحيح مسلم "فما أوثقناه ولا حفرنا له" نعم فيه أيضًا من حديث بريدة "فلما كان الرابعة حفر له حفرة". واختلف العلماء في الحفر للمرجوم على أقوال: أحدها: لا يحفر له وكذا للمرأة أيضًا، قاله مالك وأحمد وأبو حنيفة في المشهور عنهم. ثانيها: يحفر لها، قاله قتادة وأبو داود وأبو يوسف وأبو حنيفة في رواية عنه. ثالثها: يحفر لمن يرجم بالبينة لا لمن يرجم بالإِقرار، قاله بعض المالكية. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 192 , 193). (¬2) انظر: إحكام الأحكام (4/ 354)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 450).

رابعها: لا يحفر للرجل مطلقًا سواء ثبت بالبينة أم بالإِقرار، قاله أصحابنا. حكوا في المرأة ثلاثة أوجه: أحدها: يستحب الحفر لها إلى صدرها ليكون أستر لها. ثانيها: لا يستحب ولا يكره بل هو إلى خيرة الإِمام. وأصحها: إن ثبت زناها بالبينة استحب، وإن ثبت بالإِقرار فلا لتمكينها من الهرب إذا رجمت، فمن قال: بالحفر احتج بأنه حفر للغامدية وكذا لماعز في رواية أسلفناها. وأجاب عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له، أن المراد حفيرة عظيمة كما يحفر للمرأة. ومن قال: لا يحفر احتج بالحديث الآتي فإن فيه إن "الرجل يَجْنَأُ على المرأة يقيها الحجارة" ولو حفر لهما لم يجنأ عليها. وبالرواية الأخرى في قصة ماعز لكنها معارضة بالرواية الأخرى وبحديث الغامدية، ومن قال بالتخيير فهو ظاهر ومن فرق بين الرجل والمرأة حمل الحفر لماعز في إحدى الروايتين عنه على الجواز. الثاني عشر: أن الزاني المحصن إذا أقر بالزنا وشرع في رجمه وهرب ترك ولا يتبع لقيام الحد عليه، وهي مسألة خلافية. وممن قال بذلك الشافعي وأحمد قالا: ويقال له بعد ذلك فإن رجع عن الإِقرار ترك وإن أعاد رجم. وقال مالك: في رواية وغيره يتبع ويرجم.

وقال بعض أصحاب مالك: إن وجد على الفور كمل رجمه، وإن وجد بعد زمان ترك حكاه القرطبي (¬1) وحكي عن أشهب عن مالك: أنه إن جاء بعذر قبل منه وإلا فلا. واحتج الشافعي ومن وافقه: بما جاء في "سنن أبي داود" و"صحيح الحاكم" من حديث نعيم بن يزيد بن هزال عن أبيه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" (¬2). واحتج الآخرون: بأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يلزمهم ديته مع أنهم قتلوه بعد هربه. وأجاب الأولون: عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع، قالوا: وإنما قلنا لا يتبع في هربه لعله يريد الرجوع ولم يقل إنه يسقط الرجم بمجرد الهرب (¬3). الثالث عشر: أنه يكفي الرجم ولا يجلد. وقد سلف الخلاف فيه. الرابع عشر: أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يكن وقف مسجدًا لا يثبت له حكم المسجد، إذ لو كان له حكمه لجنب الرجم فيه وتلطيخه بالدماء والميتة. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 93). (¬2) أبو داود (4420). (¬3) ودليل ذلك من حديث جابر وفيه: "هلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فأما لترك حد فلا.

وذكر الدارمي من أصحابنا أن المصلى الذي للعيد وغيره إذا لم يكن مسجدًا هل يثبت له حكم المسجد؟ على وجهين والأصح المنع.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 368/ 5/ 69 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-[أنه قال] (¬1): "إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فذكروا له: أن امرأة منهم ورجلًا زنيا. فقال لهم رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "ما ترون في التوراة، في شأن الرجم؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم [إن] (¬2) فيها [آية] (¬3) الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم. فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقال [صدقت] (¬4) يا محمَّد فأمر بهما النبي - صلي الله عليه وسلم - فرجما، قال: فرأيت الرجل يَجْنَأُ على المرأة يقيها الحجارة (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، ومن متن العمدة مع الحاشية. (¬2) ساقطة من متن العمدة. (¬3) زيادة من متن العمدة. (¬4) من ن هـ ومن العمدة (صدقت). (¬5) البخاري (6841)، ومسلم (1699)، وأبو داود (4446)، والترمذي (1436)، والنسائي في الكبرى (7213، 7214، 7215، 7216، 7217، 7334، 11068)، وابن ماجه (2556)، والدارمي (2/ 178، 179)، والبيهقي في السنن (8/ 214)، والبغوي في شرح السنة (10/ 284)، ومالك (2/ 625)، والترمذي (1436). (¬6) في متن العمدة زيادة: (قال -رضي الله عنه-).

الذي وضع يده على آية الرجم: عبد الله بن صوريا. الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث بهذه السياقه للبخاري ولمسلم معناه. ثانيها: في الأسماء الواقعة فيه. أما راويه فسلف في باب الاستطابة. وأما عبد الله بن سلام: فهو أبو يوسف عبد الله بن سلام بتخفيف اللام ابن الحارث الخزرجي الإِسرائيلي حليف بني عوف من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم خليل الرحمن. وكان اسمه في الجاهلية الحصين فسماه النبي - صلي الله عليه وسلم - عبد الله. روى عنه ابنه يوسف وأبو هريرة وأنس وغيرهم وكان من علماء الصحابة وعالم أهل الكتاب وفاضلهم في زمانه بالمدينة، أسلم وقت مقدم النبي - صلي الله عليه وسلم - المدينة. قال عبد الله بن سلام خرجت في جماعة من أهل المدينة لينظروا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - حين دخوله المدينة فنظرت إليه وتأملت وجهه فعلمت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته منه: "يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". شهد له - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، ففي الترمذي من حديث معاذ بن جبل أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إنه عاشر عشرة في الجنة" ثم قال حسن غريب. قال ابن عبد البر حديث حسن الإِسناد صحيح. وصح من حديث سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من

أهل الجنة إلَّا له. قال ابن عبد البر: وهو حديث صحيح ثابت لا مقال فيه لأحد، وفيه نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} (¬1). وأنكر ذلك بعض المفسرين مستندًا إلى أن كل واحد من سورتي الرعد والأحقاف مكية وإسلام عبد الله بن سلام كان بعد ذلك بالمدينة، لكن وإن كانت السورتان مكيتان فقد شهد لمعنى الآيتين في الرعد والأحقاف بالاعتبار قوله تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (¬2). وقد تكون السورة مكية وفيها آيات مدنية كالأنعام وغيرها. شهد مع عمر -رضي الله عنهما- فتح بيت المقدس والجابية, والعجب من كونه لم يشهد بدرًا فإنه أسلم مقدم النبي - صلي الله عليه وسلم - المدينة كما سلف. روي له عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خمسة وعشرون حديثًا اتفقا على حديث واحد. وللبخاري حديث آخر. مات بالاتفاق سنة ثلاث وأربعين في ولاية معاوية بالمدينة. وأما عبد الله بن صوريا: فكان أعور. وقال ابن المنذر (¬3) إنه ابن صوريا بضم الصاد المهملة وسكون الواو وفتح الراء المهملة. وقيده بعضهم بكسرها. الوجه الثالث: في بيان المبهم الواقع فيه. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف: آية 10. (¬2) سورة يونس: آية 94. (¬3) مختصر السنن (6/ 265).

أما الرجل الزاني من اليهود: فلا يحضرني اسمه. وأما المرأة: فاسمها بسرة فيما حكاه السهيلي (¬1) عن بعض أهل العلم. وقوله: "قال فرأيت الرجل" هو ابن عمر الراوي. الوجه الرابع: في ألفاظه ومعانيه: معنى "يفضحونهم" تكشف مساويهم. رويت على أوجه في "صحيح البخارى" وغيره وليست في "مسلم". أحدها: "يَجْنَأ" بفتح الياء المثناة تحت ثم جيم ساكنة ثم نون مفتوحة وهمزة، يقال: جنا الرجل على االشيء وجانا عليه ويجانا إذا أكب عليه. وهذه الرواية هي المشهورة. ثانيها: "يجنى" بضم أوله ثم جيم ساكنة ثم نون مكسورة ثم ياء وعليها اقتصر الهروي في "غريبه" (¬2) فقال يجنى عليها، أي: يكب يقال: أجنا عليها يجني أجنا إذا أكب عليه يقيه شيئًا. قال: وفي حديث آخر "فلقد رأيته جانى عليها يقيها الحجارة بنفسه". وتبعه ابن الجوزي في "غريبه" (¬3) فقال: ومن خطه نقلت بعد أن ذكره في باب الجيم: [يجنا] (¬4) وفي لفظ: يُجانىءُ. والمعنى: يكب عليها. ثالثها: يجانى عليها مفاعلة من جانا يجانى عليها. ¬

_ (¬1) الروض الأنف (2/ 298). (¬2) الغريبين (1/ 403). (¬3) غريب الحديث (1/ 175)، ينظر غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 314). (¬4) في المرجع السابق (يُجْنىءُ).

رابعها: يحنى بفتح أوله وسكون ثانيه مهملًا، أي: يكب عليها، حكاها صاحب المطالع قال أبو عمر (¬1): هي أكثرُ الروايات عن شيوخنا عن يحيى، وكذا رواه ابن قعنب وابن بكير. خامسها: يَجْبأ بفتح أوله وإسكان ثانيه معجمًا ثم باء موحدة وهمزة، أي: ركع عليها حكاه صاحب "المطالع". سادسها: يُحْنَى بضم أوله وسكونه ثانية مهملًا مهموز. وقال صاحب "المطالع": كذا قيدناه في "الموطأ" من طريق الأصيلي. وجاء للأصيلي "فرأيته أجنا" بالجيم مهموز وهو عند أبي ذر "أجنأ". وروي في غير "البخاري" و"الموطأ" يجنوا، قال: والصحيح من هذا كله ما قاله أبو عبيد يجنا. ومعناه: يجنى عليها يقيها الحجارة بنفسه، يقال: من ذلك جنا يجنا قاله صاحب "الأفعال". وقال الزبيدي (¬2): حنى بكسر النون في الماضي [يحنو] (¬3) ويحني تعطف عليها. يقال: حنى يحني ويحنو ويكون أيضًا يحنى عليها ظهره فيكون بمعنى ما قاله أبو عبيد (¬4) وكذلك قول من قال يحني يخرج على معنى يكلف ذلك ظهره ويفعله حتى يحنأ بعده حنأ ¬

_ (¬1) الاستذكار (24/ 10). (¬2) هو أبو بكر محمَّد بن الحسن بن عبد الله الزبيدي الإِشبيلي المتوفى سنة (379) له مؤلفات منها لحن العامة، أو ما تلحن فيه عوام الناس. مختصر العين. (¬3) في ن هـ (يحنوه). (¬4) الذي في غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلّام (3/ 314)، يجانىء عليها يقيها الحجارة بنفسه، قال: يجانىء عليه -يعني ينحني.

الرجل يحنأ إذا صار كذلك. قال الأصمعي: أحنأت الترس جعلته يحنأ، أي: محدودِبًا وهذا مثله. ورجح القرطبي أيضًا في "مفهمه" (¬1) رواية الحاء المهملة فقال: رويناه في "الموطأ" بباء مفتوحة وبحاء مهملة من الحنو وهو الصواب، ورويناه يجنى بالجيم من غير همز وليس بصواب. وحكى بعض أصحابنا: أن صوابهما يجبأ بفتح الباء والجيم وحكاها عن أبي عبيد (¬2) وأظنه القاسم بن سلّام. والذي رأيته في "الغريبين" لأبي عبيد الهروي يجنى ثم ساق ما أسلفناه عنه قال: وفي "الصحاح" (¬3) حنأ الرجل على الشيء وحانا عليه ويحانأ إذا أكب عليه ورجل أحنأ بين الحنأ، أي: أحدب الظهر والمجنأ بالضم الترس. وتحصل من مجموع حكاية أبي عبيد وصاحب "الصحاح" أنه يقال جنأ مهموز ثلاثيًا ورباعيًا. واقتصر الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬4) على روايتين مما ذكرناه فقال: الجيد في الرواية يجنأ بفتح الياء وسكون الجيم وفتح النون والهمزة من الجنى. قال الشاعر (¬5): وبدلتني بالشطاط الجنى ... وكنت كالصَّعدة تحت السنان قال: وفي كلام بعضهم ما يشعر بأن اللفظة بالحاء، يقال: حنا ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 116). (¬2) الذي في غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلّام (3/ 314)، يجانىء عليها يقيها الحجارة بنفسه، قالا: يجانىء عليه -يعني ينحني. (¬3) مختار الصحاح (ج ن أ) (ح ن ى). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 357). (¬5) البيت للشاعر عوف بن محلم كما في الروض الأنف (2/ 198).

الرجل يحنو [حنوًا] (¬1) إذا كب على الشيء، قال الشاعر (¬2): [أغاضر] (¬3) لو شَهدْتِ غَدَاةَ بِنْتُمْ: ... [حُنُوَّا] (¬4) [العائدات] (¬5) على وِسادِي في أحكامه: الوجه الخامس: [الأول] (¬6) أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع وهو الصحيح كما أسلفته في الزكاة في الكلام على حديث ابن عباس. الثاني: أن الكفار إذا تحاكموا إلينا يحكم بينهم بحكم شرعنا لأنه -عليه الصلاة والسلام- رجمهما. وقد اختلف العلماء في أن الإِسلام هل هو شرط في الإِحصان أم لا على قولين: أحدهما: لا، وهو قول الشافعي وأصحابه فإذا حكم الحاكم على الذمي المحصن رجمه. ¬

_ (¬1) غير موجودة في إحكام الأحكام (4/ 357). (¬2) البيت للشاعر: كُثَيِّرُ بن عبد الرحمن بن أبي جمعة، من خُزَاعَةَ، وكان رافضيًا. ترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 503). (¬3) في غريب الحديث (3/ 314)، أعزّةُ وغاضرة: المذكورة هنا أم ولد بشر بن مروان كما في الشعر والشعراء. (¬4) في حاشية غريب الحديث (جنأ) براوية (أغاضر). (¬5) في المرجع السابق (العائذات)، ومعناها المرضعات وقيل: قريبات الوضع في السبع الأولى. (¬6) زيادة من ن هـ.

وثانيهما: نعم وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يصح إحصانه أيضًا. واستدل الشافعية بهذا الحديث فإنه -عليه الصلاة والسلام- رجمهما. واعتذر الحنفية عنه بأن قالوا: رجمهما بحكم التوراة فإنه -عليه الصلاة والسلام- سألهم عن ذلك عند قدومه المدينة. وادعوا أن آية حد الزنا نزلت بعد ذلك فكان ذلك الحديث منسوخًا. وهذا الذي ذكروه من ادعاء النسخ يحتاج فيه إلى تحقيق التاريخ. وادعى [مالك: أن] (¬1) رجمهما لكونهما ليسا أهل ذمة. قال النووي (¬2) وهو باطل لأنهما كانا من أهل العهد ولأنه رجم المرأة والنساء لا يجوز قتلهن مطلقًا. قلت: اعتذروا عن هذا بأنه لعله كان قبل النهي عن قتل النساء، وضعفه ظاهر أيضًا. وسؤاله -عليه الصلاة والسلام- اليهود بحضور ابن سلام ليس ليعرف الحكم منهم ولا لتقليدهم وإنما هو لإِلزامهم لما يعتقدونه في كتابهم الموافق لحكم الإِسلام ترتيبًا للحجة عليهم وإظهارًا لما كتموه وبدلوه منه إما بوحي من الله تعالى إليه في أنه موجود فيما بأيديهم من التوراة لم يغير كما غيرت أشياء، وإما بإخبار من أسلم منهم ولهذا ¬

_ (¬1) في ن هـ (أن مالكًا). انظر: الاستذكار (24/ 17، 18). (¬2) شرح مسلم (11/ 208).

لم يخف عليه - صلى الله عليه وسلم - حين كتموه (¬1). قال بعضهم: ويحتمل أن يكون سؤاله استخبارًا عما عندهم ثم يستعلم صحته من قبل الله ويكون حكمه إنما في التوراة لرضاهم به وأنه شرع لنا بأن شرعنا قرره ولم ينسخه. وقد قيل: إن هذا كان خاصًا به إذ لا نصل نحن إلى معرفة ما أنزل إليهم، وللإِجماع أن أحدًا لم يعمل به بعده ولقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} (¬2). الثالث: وجوب إقامة حد الزنا على الكافر والصحيح عند الشافعي، وجوب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا. وفي "سنن أبي داود" آخر الحديث إنه -عليه الصلاة والسلام- خير في ذلك قال: "فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم". وحكى القرطبي (¬3) عن الشافعي أنه لا يحكم بينهم في الحدود، ثم شرع يرده وهذه طريقة في مذهبه، والصحيح أنه يحكم بينهم فيها أيضًا. الرابع: أنه يصح نكاحه لأنه لا رجم إلا على محصن، فلو لم يصح لم يثبت إحصانه ولم يرجم. الخامس: علو الإِسلام على غيره من الأديان لرجوعه إليه في وقائعهم ومحاكماتهم. السادس: أنه لا يحفر للرجل ولا للمرأة، لأنه لو حفر لهما لم يجنأ عليها يقيها الحجارة، وقد سلف ما فيه. ¬

_ (¬1) انظر شرح مسلم (11/ 208). (¬2) سورة المائدة: آية 44. (¬3) المفهم (5/ 111).

وفي الحديث أيضًا منقبة ظاهرة لعبد الله بن سلام وحث على إظهار العلم وبيانه وتحريم كتمانه وتوبيخ مبدله ومحرفه والرجوع إلى النصوص وإقامة الدليل على الخصم من قبل نفسه والمبادرة إلى قبول الحق وتصديقه وجواز كلام بعض حاضري المجلس في أثناء كلام الحاكم، وإن لم يستدعه منه إذا ترتب عليه فائدة شرعية يفحم بها من كذب. خاتمة: الظاهر أن رجم اليهوديين إنما كان بإقرارهما، نعم جاء في "سنن أبي داود" (¬1) وغيره أنه شهد عليهما أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها"، فإن صح هذا فإن كان الشهود مسلمين فلا إشكال (¬2)، وإن كانوا كفارًا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرا بالزنا، إلا أن يدعى خصوص ذلك بتلك الواقعة أو أنه -عليه الصلاة والسلام- نفذ عليهم بما علم أنه حكم التوراة إلزامًا للحجة عليهم. على أنه روي عن الإِمام أحمد أن شهادتهم على بعضهم مقبولة وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وأهل الظاهر عند فقد المسلم. وعن أحمد قبولها على المسلمين في السفر عند فقدهم. ¬

_ (¬1) (4452). (¬2) قال ابن عبد البر في الاستذكار (24/ 20) يحتمل أن يكون الشهود مسلمين وهو الأظهر في هذا الخبر، ولذلك تحاكموا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - والله أعلم. اهـ.

خاتمة: في "سنن أبي داود" (¬1) من حديث أبي هريرة أن اليهود أتوه في المسجد -عليه أفضل الصلاة والسلام-، وأنه بعد ذلك مشى معهم إلى بيت المدراس. ثم ساق أبو داود الحديث سياقة حسنة، وذكر فيها سبب تركهم الرجم وأن الزهري قال فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم. وفي "صحيح مسلم" (¬2) من حديث البراء بن عازب أنه لما رجم اليهودي المجلود أنزل الله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}. إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} (¬3). يقول: ائتوا محمدًا فإن أمركم بالتحمم والجلد فخذوه. وإن أفتى بالرجم فاحذروا، فأنزل الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬4). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (4449). (¬2) صحيح مسلم (1700)، وأبو داود (4448). (¬3) سورة المائدة: آية (41). (¬4) سورة المائدة: آية (47).

الحديث السادس

الحديث السادس 369/ 6/ 69 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "لو أن (¬1) امرأ اطلع عليك بغير [إذنك] (¬2) فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك جناح" (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث أدخله المصنف في الحدود وهو مما زاده على "العمدة الكبرى". وكأنها مناسبة أن الشارع جعل مقابلة نظره إلى الشخص من صير الباب رميه بالحصا كما جعل مقابلة الزنا الجلد أو الرجم وغير ذلك. الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام- "فحذفته" هو بالخاء المعجمة، كما قيده النووي في "شرح مسلم" (¬4)، أي: والذال ¬

_ (¬1) في متن العمدة رجلًا أو قال: ... (¬2) في الأصل (إذن)، وما أثبت من ن هـ ومتن العمدة. (¬3) البخاري (6888)، ومسلم (2158)، وأبو داود (1752)، والنسائي (8/ 61)، وفي السنن الكبرى له (7065، 7066)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 338)، وأحمد (2/ 385، 243، 428). (¬4) شرح مسلم (14/ 138)، وفي ابن حبان (6003) (فحذقته) بالقاف.

المعجمة. قال: أي: رميته بها من بين اصبعيك. قال: "ففقأت" مهموز. وقال "صاحب المطالع" [. .] (¬1) [أيضًا] (¬2) [الأصوب] (¬3) أنه بالمعجمة. قال: وهو الرمي بحصى أو نوى بين سبابتيه أو بين الإِبهام وبالسبابة، وكذا قال القرطبي في "مفهمه" (¬4) [الرواية] (¬5) الصحيحة بالخاء المعجمة. قال: ومن رواها بالحاء المهملة فقد أخطأ فإن الخذف بالخاء بالحجر وبالمهملة بالعصا. قال: "والجناح" الإِثم، والمؤاخذة. الثالث في فقهه: أخذ الشافعي وغيره بظاهره وحكمته الاحتياط للحريم والعورات بالستر وعدم الاطلاع عليها. وأباه المالكية وقالوا: لا يقصد عينه ولا غيرها، وأكثرهم على وجوب الضمان إن فعل وهو مخالف للحديث. ومما قيل في تعليل المنع أن المعصية لا تدفع بالمعصية وهو ضعيف جدًا لأنه يمنع كونها معصية في هذه الحالة ويلحق ذلك بدفع الصائل وإن أريد بكونها معصية النظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن هذا السبب فهو صحيح لكنه لا يفيد. ¬

_ (¬1) في الأصل كلمة، رسمها هكذا: (وح). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ (الأجود). (¬4) المفهم (5/ 479). (¬5) في الأصل الرواة وما أثبت من ن هـ.

وقالوا: في تعليل عدم الضمان إنا أجمعنا على أن النظر إلى عورة غيره لا يبح فقىء عينه ولا يسقط عنه ضمانها فالنظر إلى الإِنسان في بيته أولى والحديث محمول على أنه رماه [ليشهد] (¬1) على أنه نظر [إليه] (¬2) ليدفعه عن ذلك غير قاصد لفقىء عينه فانتفى عنه الإِثم لذلك وهو المنفي في الحديث [والدية لا ذكر لها] (¬3) وهذا عجيب منهم. ففي "مسند أحمد" و"سنن النسائي" والبيهقي و"صحيح أبو حاتم بن حبان" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقأوا عينيه فلا دية له ولا قصاص" (¬4). قال البيهقي في"خلافياته" (¬5) إن إسناده صحيح ورواه أبو داود (¬6) بلفظ "فقد هدرت عينيه" وهي صحيحة على شرط مسلم كما قاله الشيخ تقي الدين في "اقتراحه" (¬7). وفي رواية للبيهقي (¬8) من رواية ابن عمر ما كان عليه فيه شيء وأنصف ¬

_ (¬1) في ن هـ (لينبه). (¬2) في الأصل (ليبو) وما أثبت من هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) أحمد (2/ 385)، والنسائي (8/ 61)، وسنن البيهقي (8/ 338)، وابن حبان (6004)، وابن الجارود (790). (¬5) مختصر الخلافيات (5/ 31). (¬6) أبو داود (5173). (¬7) الاقتراح (529). (¬8) سنن البيهقي (8/ 338).

القرطبي المالكي فقال في "مفهمه" (¬1): ظاهر الحديث مع الشافعي وأيضًا [فقد] (¬2) رام - صلى الله عليه وسلم -[أن] (¬3) يطعن بالمدرى (¬4) عين من أراد أن يطلع من جحر في باب بيته وقال: لو أعلم أنك تطلع لطعنت به في عينيك" (¬5). وما كان -عليه الصلاة والسلام- بالذي يريد أن يفعل ما لا يجوز، أو ما يؤدي إلى دية، قال: وحملهم الحديث على رفع الإِثم تحريف وتبديل بلا تأويل ولا قياس مع النصوص. وتوقف (¬6) أيضًا في نقلهم الإِجماع في مسألة العورة فإن الحديث يتناول كل مطلع كيفما كان، ومن أي جهة كان. بل هو أولى من الاطلاع في البيت لأن الاطلاع فيه مظنة الاطلاع على العورة، فنفس الاطلاع عليها أحرى وأولى. إذا تقرر لك ذلك فقد تصرف الفقهاء في هذا الحكم، بأنواع من التصرفات. منها: أن لا فرق بين أن يكون هذا الناظر واقفًا في الشارع ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 34). (¬2) في ن هـ (فقال)، وما أثبت يوافق المفهم. (¬3) زيادة من ن هـ. وفي المفهم بدل (المدرى) (المدارة). (¬4) المدرى: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه يسرح به الشعر المتلبد. اهـ. من النهاية (2/ 115)، وشرح مسلم (14/ 136). (¬5) أخرجه البخاري (6901)، ومسلم (2156)، النسائى (8/ 60، 61)، وأحمد (5/ 330)، والترمذي (2709). (¬6) من هنا بداية نقل من المفهم (5/ 482)، وقد تصرف فيه.

أو في خالص [ملك] (¬1) المنظور إليه، أو في سكة منسدَّة الأسفل؛ إذ ليس للواقف في ملكه مد النظر إلى حرم الناس، ولأصحابنا وجه ضعيف أنه لا يقصد إلَّا عين من وقف في ملك المنظور إليه. ومنها: أنه يجوز رميه قبل نهيه وإنذاره لإِطلاق الحديث وهو الأصح عند أصحابنا ولأنه -عليه الصلاة والسلام- كان يخايل الناظر ليرمي منه بالمِدْرى. وقيل: لابد من نهيه وإنذاره قبله وهو قياس الدفع في البدأة بالأهون فالأهون. ومنها: أنه لا يلحق غير النظر به كالسمع وهو الأصح عند أصحابنا لأن السمع ليس كالبصر في الاطلاع على العورات. ومنها: أن لا يرمى الناظر إلا بشيء خفيف كحصاة وبندقة وفي الحديث إشعار به لقوله: فحذفه. وهو لا يكون إلَّا بخفيف فلو رماه بثقيل أو رشقه بنشابه فإنه يتعلق به القصاص أو الدية وفيه وجه بعيد غريب أنه لا ضمان. ولو لم يندفع بالخفيف استغاث عليه ودفعه بما أمكنه. ومنها: أن الناظر لو كان له في الدار محرم أو زوجة أو متاع لم يجز قصد عينه [لأن له شبهة في النظر، وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم، بل لا يمنع قصد عينه] (¬2) إلَّا إذا لم يكن في الدار إلَّا محارمه. ولو كان الناظر محرمًا لحرم صاحب الدار فلا يرمى إلَّا ¬

_ (¬1) في ن هـ (ذلك)، وما أثبت يوافق ما في إحكام الأحكام. (¬2) زيادة من ن هـ وإحكام الأحكام.

أن تكون متجردة. وعن البندنيجي أنه يقال له: انصرف فإن هناك عورة مكشوفة فإن أصر جاز رميه. ومنها: أنه إذا لم يكن في الدار إلَّا صاحبها فله الرمي، إن كان مكشوف العورة ولا ضمان، وإلا فوجهان. أصحهما: لا يجوز رميه. والثاني: يجوز لأن من الأحوال ما يكره الاطلاع عليه. ومنها: إن الحرم إذا كن في الدار مستترات، أو بيت. فقيل: لا يجوز قصد عينيه لعدم الاطلاع على شيء. والأصح: الجواز، لإِطلاق الأحاديث، ولأنه لا تنضبط أوقات الستر والتكشف، فالاحتياط حسم الباب. ومنها: اشتراط عدم تقصير صاحب الدار في كف نظر الناظر فإن جعل بابه مفتوحًا أو كانت كوة واسعة في الدار أو ثلمة في الجدار لم يسدها، فإن كان الناظر مجتازًا لم يجز قصده. وإن وقف وتعمد، فقيل: يجوز قصده لتعديه النظر، والأصح: المنع لتفريط صاحب الدار. وأجرى هذا الخلاف فيما إذا نظر من سطح نفسه أو نظر المؤذن من المنارة، لكن الأظهر هنا جواز قصده أو لا تفريط من صاحب الدار وبقيت صور أخرى محل الخوض فيها كتب الفروع وقد بسطناها فيها ولله الحمد. قال الشيح تقي الدين (¬1): وهذه التصرفات الفقهية إن كانت ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 362)، وما ذكره من تصرفات الفقهاء استفادة منه مع تصرف المؤلف فيه بالزيادة والحذف.

داخلة تحت إطلاق الأخبار فهي مأخوذة منها، وما لا فبعضه مأخوذ من فهم المعنى المقصود بالأحاديث. وبعضه مأخوذ بالقياس، وهو قليل فيما ذكرناه. ومن تراجم البخاري على هذا الحديث "من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان" (¬1). قلت: ومن أحكامه حرمة النظر إلى بيت الغير بغير إذنه وإلى الأجانب. ¬

_ (¬1) (12/ 225) رقم (6888).

70 - باب [حد] السرقة

70 - باب [حد] (¬1) السرقة [السرقة] (¬2) بفتح السين وكسر الراء ويجوز إسكان الراء مع فتح السين وكسرها، وهي أخذ مال الغير خفية وإخراجه من حرزه، مأخوذ من المسارقة، ويقال: الذي يسرق الإِبل خاصة الحارث وفي مكياله المطفف وفي ميزانه المخسر ذكر ذلك ابن خالويه في كتاب "ليس" (¬3) وعدد أنواعًا أخر كثيرة. واعلم أن الله صان الأموال بإيجاب القطع على سارقها حرمة لها ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب لأن ذلك قليل بالنسبة إليها ولأنه يمكن استرجاع ذلك باستدعاء إلى ولاة الأمور ويسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة فإنه يندر إقامة البينة عليها [لعظم] (¬4) أمرها واشتدت عقوبتها لتكون أبلغ في الزجر عنها. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ وإحكام الأحكام مع الحاشية. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) كتاب: ليس في "كلام العرب" لابن خالويه: هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني المتوفى سنة (370). (¬4) في شرح مسلم (11/ 181) فعظم.

ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع فيها بقدر ما يقطع فيه حماية للعضو أيضًا وصيانة له فلما هانت بالمخالفة هانت. وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة وإن اختلفوا في تفصيله وذكر المصنف -رحمه الله- في الباب ثلاثة أحاديث:

الحديث الأول

الحديث الأول 370/ 1/ 70 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلي الله عليه وسلم - "قطع في مجن قيمته". وفي لفظ: ثمنه ثلاثة دراهم (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "المجن" بكسر الميم وفتح الجيم وبالنون الترس مفعل من معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء ونحو ذلك، ومنه الجن. وكسرت ميمه لأنه آلة في الاجتنان، كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره [قال الشاعر: فكان] (¬2) جنيِّ دون [من] (¬3) كنتُ أتقى ¬

_ (¬1) البخاري (6795)، ومسلم (1686)، مالك (2/ 634)، وأحمد (2/ 6، 80، 143)، (3/ 64)، والترمذي (1446)، والنسائي (8/ 76، 77)، وفي الكبرى له (7394، 7395، 7396، 7397)، وأبو داود (4386)، وابن ماجه (2584)، وابن الجارود (825)، والدارمي (2/ 173)، والبيهقي في الكبرى (8/ 446)، والبغوي في السنة (10/ 313). (¬2) في الأصل (كان). (¬3) في إحكام الأحكام: ما.

ثلاث شخوص: كاعبان ومُعصِرُ (¬1) الثاني: "القيمة" و"الثمن" مختلفان في الحقيقة والمعتبر القيمة وذكر الثمن، إما لتساويهما في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة وإلَّا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر إلَّا القيمة. الثالثة: اختلف العلماء في النصاب في السرقة، أصلًا وقدرًا. أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب، وشذ أهل الظاهر فلم يعتبروه، ولم يفرقوا بين القليل والكثير، وقالوا: بالقطع فيهما. وحكي أيضًا عن ابن بنت الشافعي والحسن والخوارج لعموم الآية ولم يخصوه بالأحاديث الصحيحة المفسرة لها نعم الاستدلال لاشتراطه بهذا الحديث فيه ضعف، فإنه حكاية فعل، لا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلًا عدم القطع فيما دونه نطقًا. وأما المقدار: ففيه [ثمانية] (¬2) أقوال: أحدها: ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم أم أكثرُ أم أقل ولا يقطع في أقل منه وهو قول كثير من العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أو الأكثرين منهم عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور وإسحاق وروي ¬

_ (¬1) ساقط من ن هـ، والبيت للشاعر عمر بن أبي ربيعة من قصيدته التي تسمى قصب السكر. (¬2) في ن هـ (ثلاثة). انظر للاطلاع على هذه الأقوال الاستذكار (24/ 158، 166).

عن داود أيضًا ودليلهم حديث عائشة الآتي ويقوم ما عدا الذهب بالذهب. ثانيها: عشرة دراهم، قاله أبو حنيفة ويقوم ما عدا الفضة بالفضة وفيه رواية عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده مرفوعًا "لا تقطع اليد إلَّا في عشرة دراهم" (¬1) لكنه ضعيف جدًا واختلف عنه في الدينار إذا لم يبلغ عشرة دراهم هل يعتبر بنفسه أو صرفه. ثالثها: ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم أو ما قيمة أحدهما ولا قطع فيما دون ذلك، قاله مالك وأحمد وإسحاق في رواية قال الشافعي وحديث عائشة الآتي لا يخالف حديث ابن عمر هذا فإن الدينار كان اثني عشر درهمًا وربعه ثلاثة دراهم أعني صرفه ولهذا قوِّمت الدية باثني عشر ألفًا من الورق وألف دينار من الذهب وهذا الحديث يستدل به لمذهب مالك في أن الفضة أصل في التقويم دون الذهب فإن [المسروق] (¬2) لما كان غيرهما، وقوِّم بالفضة دون الذهب دل على أنها أصل في التقويم، وإلَّا كان الرجوع إلى الذهب -الذي هو الأصل- أولى وأوجب، عند من يرى التقويم به، والحنفية أجابوا بأن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمته عنده ربع دينار أو ثلاثة دراهم ويكون عند غيره أكثرُ وضُعف هذا التأويل بأن ابن عمر لم يكن ليخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلَّا عن تحقيق لعظم أمر القطع. ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (9/ 474)، وذكره في مجمع الزوائد (6/ 273). (¬2) من ن هـ (الورق)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.

رابعها: أنه خمسة دراهم قاله سليمان بن يسار وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن في رواية وروي عن عمر أيضًا. خامسها: أنه أربعة، حكاه القاضي (¬1) عن بعض الصحابة. سادسها: إنه درهمين، روي عن الحسن (¬2). سابعها: إنه درهم، روي عن عثمان البتي حكاه القاضي عنه والقرطبي (¬3) قال: روي عن عثمان وهو مراده. ثامنها: إنه أربعون درهمًا أو أربعة دنانير، حكي عن النخعي. والصحيح من هذه المذاهب ما قاله الشافعي وموافقوه لأنه - صلى الله عليه وسلم - صرح ببيان النصاب من لفظه وإنه ربع دينار كما سيأتي في الحديث الآتي من طريق عائشة، وفي الصحيح أيضًا من حديثها "لا تقطع يد السارق إلَّا في ربع دينار فصاعدًا" (¬4) وهذا حصر منه في أنها لا تقطع إلَّا في القدر المذكور. وحديث ابن عمر في الكتاب قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم محمول على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعدًا ثم هي قضية عين لا عموم لها فلا يجوز ترك صريح لفظه -عليه الصلاة والسلام- في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة بل يجب حملها على موافقة لفظه ولابد من ذلك لتوافق صريح تقديره. ¬

_ (¬1) روى عن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - كما في مصنف ابن أبي شيبة (9/ 471). (¬2) انظر: تفسير القرطبي (6/ 161) والاستذكار (24/ 166). (¬3) المفهم (5/ 173). (¬4) البخاري (6790)، ومسلم (1684)، والنسائي (8/ 81)، وأبو داود (4383)، والترمذي (1445)، وابن ماجه (2585).

وأما رواية: "قطع في مجن قيمته عشرة دراهم" وفي رواية "خمسة" فضعيفة لا يعمل بها إذا انفردت، فكيف وقد خالفت صريح الأحاديث الصحيحة بالتقويم بربع دينار مع أنه يمكن حملها على أنه كانت قيمته عشرة دراهم اتفاقًا. وأما الحديث الصحيح: "لعن الله السارق يسرق البيضة أو الحبل فتقطع يده" (¬1) فالمراد به التنبيه على ما هو خير وهو يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار فإنه شارك البيضة في الحقارة أو أراد جنس البيض وجنس الحبال أو أنه إذا سرق ذلك فلم يقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثرُ منهما فيقطع فكانت سرقة ذلك سببًا لقطعها، أو أن المراد إنه [قد] (¬2) يسرق ذلك فيقطعه بعض الولاة سياسة لا قطعًا جائزًا شرعيًا. وأبعد من قال: المراد بيضة الحديد (¬3) وحبل السفينة لأن بلاغة ¬

_ (¬1) البخاري (6783)، ومسلم (1687)، والنسائي (8/ 65)، وابن ماجه (2583)، والبغوي (2597، 2598)، والبيهقي (8/ 253)، وأحمد (2/ 253). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) هذا ذكره البخاري والبغوي بعد تخريجهما للحديث عن الأعمش بلفظ: "كانوا يرون أنه بيضة الحديد، والحبل: كانوا يرون أنه مما يسوى دراهم. اهـ. قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في "إعلامه" (2291). قلت: تأويل الأعمش هذا غير مطابق لمذهب الحديث ومخرج الكلام فيه، وذلك أنه ليس بالسائغ في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه هذا الحديث من اللوم والتثريب: أخزى الله فلانًا عرض نفسه للتلف في مال له قدر =

الكلام تأباه لأنه لا يذم عادة من خاطر بيده في شيء له قدر. تنبيه: القطع له شروط، منها: كون المأخوذ في حرز خلافًا لداود، ومحل الخوض فيها كتب الفروع فإنه أمس به. وكذا كيفية القطع هل هو من المنكب أو الرسغ أو المرفق فليراجع منه. والجمهور على أنه من اليد والرجل من المفصل وقال أحمد في الرجل من شطر القدم. ¬

_ = ومزية، وفي عرض له قيمة. إنما يضرب المثل في مثله بالشيء الوتح الذي لا وزن له ولا قيمة، هذا عادة الكلام وحكم العرف الجاري في مثله. وإنما وجه الحديث وتأويله: ذم السرقة وتهجين أمرها وتحذير سوء مغبتها فيما قل وكثر من المال. يقول: إن سرقة الشيء اليسير الذي لا قيمة له كالبيضة المذرة، والحبل الخلق الذي لا قيمة له إذا تعاطاها المسترق، فاستمرت به العادة لم ينشب أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها، حتى يبلغ قدر ما يقطع فيه اليد، فتقطع يده. يقول: فليحذر هذا الفعل وليتوقه قبل أن تملكه العادة ويمرن عليها ليسلم من سوء مغبته ووخيم عاقبته. اهـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 371/ 2/ 70 - عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" (¬1). هذا الحديث هو اعتماد الشافعي في مقدار النصاب، كما سلف، وقد روي عن عائشة عن النبي - صلي الله عليه وسلم - فعلًا وقولًا. وهذه الرواية قول، وهو أقوى في الاستدلال من الفعل، لأنه لا يلزم من قطع السارق في مقدار معين وقع على سبيل الاتفاق لا يقطع فيما دونه بخلاف القول فإنه قال على اعتبار مقدار معين من القطع وذلك دال على عدم اعتبار ما زاد عليه من إباحة القطع, لأنه لو اعتبر في ذلك لم يجز القطع فيما دونه. وأيضًا فرواية الفعل يدخل فيها ما سلف من التأويل ¬

_ (¬1) البخاري (6792)، ومسلم (1684)، ومالك (2/ 634)، وأبو داود (4383)، والترمذي (1445)، والنسائي (8/ 77، 81)، وفي الكبرى له (7403، 7404)، وابن ماجه (2585)، والدارمي (2/ 172، 173)، وابن الجارود (824)، والدارقطني (3/ 189، 190)، والحميدي (1/ 134)، والبيهقي في السنن (8/ 443)، والبغوي في السنة (2595).

المستضعف في أن التقويم أمر ظني إلى آخره. نبّه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬1) قال: وهذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة، فإن صريحه يقتضي القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع [فيه] (¬2). وأما دلالته على الظاهرية ومن قال بقولهم: فليس من حيث النطق، بل من حيث المفهوم، وهو داخل في مفهوم العدد (¬3)، ومرتبته أقوى من مرتبة مفهوم اللقب (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 368). (¬2) في المرجع السابق به. (¬3) مفهوم العدد، هو دلالته على ثبوت نقيض حكم المنطوق عند تقييده به أي بالعدد المسكوت فيما عدا العدد كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فإنه يدل على نفي الوجوب عن الزائد على الثمانين كما يدل على وجوبها بسبب تقييد الوجوب بالعدد المذكور. (¬4) مفهوم اللقب هو تعليق بجامد كفى الغنم زكاة. بمعنى: تعليق الحكم على أسماء الذوات. فإنه يدل على نفي الزكاة عن غير الغنم. انظر لهما تيسير التحرير (1/ 100، 101).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 372/ 3/ 70 - عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التى سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: من يجترىءُ عليه إلَّا أُسامة بن زيد حب رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فكلمه أُسامة، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله: [لو كانت] (¬1) فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" (¬2). وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلي الله عليه وسلم - بقطع يدها. ¬

_ (¬1) في متن العمدة لو أن. (¬2) البخاري (3732)، ومسلم (1688)، وأبو داود (4373، 4374)، والنسائي (8/ 72، 74)، وفي الكبرى له (7382، 7383، 7384)، وابن ماجه (2547)، والترمذي (1430)، وأحمد (6/ 162)، والدارمي (2/ 173)، وابن الجارود (804، 805، 806)، والبيهقي في الكبرى (8/ 442)، والبغوي في السنة (2603)، وعبد الرزاق (10/ 201)، وابن أبي شيبة (6/ 462).

الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا اللفظ الأخير هو لمسلم خاصة وفي بعض ألفاظ البخاري "ضَل" بدل "أهلك" وفي رواية له "أن بني إسرائيل كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه" وفي رواية لمسلم له: "إن هذه المخزومية سرقت في غزوة الفتح"، وفي رواية له: "أنه -عليه الصلاة والسلام- تلون وجهه لما كلمه أسامة في أمرها وأنه قال: يا رسول الله استغفر لي، وأنه لما كان العشي قام فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك" إلى آخره. وفيه "ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: اسم هذه المخزومية فاطمة بن الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عمرو بن مخزوم قاله ابن سعد (¬1). أسلمت وبايعت وهي ابنة أخي أبي سلمة عبد الله بن الأسد زوج أم سلمة، قال ابن سعد: وفي رواية أهل المدينة وغيرهم من أهل مكة أن التي سرقت فقطع يدها أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد بن هلال خرجت حجة الوداع فمرت بركب [نزول] (¬2) فأخذت عيبة لهم فأتوا بها النبي - صلي الله عليه وسلم - فقطع يدها. ثالثها: قد عرفت فيما مضى عن "صحيح مسلم" إن هذه ¬

_ (¬1) الطبقات (8/ 263). (¬2) في ن هـ ساقطة.

السرقة كانت في غزوة الفتح وعزاه ابن العطار في "شرحه" إلى "موطأ ابن وهب" وعزوه إلى ما ذكرناه أولى، وقد عرفت مما سقناه أيضًا أن المسروق كان عيبة لهم. وفي "سنن أبي داود" وكتاب "ابن عمر" أنه كان حليًا، وفي "سنن أبي داود" (¬1) أيضًا أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - رواه تعليقًا وأسنده ابن ماجه (¬2) من طريق ابن إسحاق إلى مسعود بن الأسود وفيهما أنها عاذت بزينب، وفي مسلم أنها عاذت بأم سلمة. الرابع: "قريش" قبيلة وهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة على المشهور وقيل: ولد إلياس. وقيل: ولد مُضر [بن] (¬3) نزار. وقيل: ولد فهر بن مالك بن النضر، وفهر لقب له واسمه قريش ونسبه البيهقي إلى أكثرُ أهل العلم. وقيل: إنه قصي بن كلاب حكاه الماوردي (¬4) وغيره. وسموا قريشًا لتقريشهم، أي: تجمعهم على أخذ الأموال، وقيل: لشدتهم، وقيل: لأنهم كانوا تجارًا والتجار يقرشون ويفتشون ¬

_ (¬1) انظر تخريج حديث الباب. (¬2) انظر تخريج حديث الباب. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) الحاوي الكبير. أقول: اختار ابن حزم -رحمه الله- في كتابه جمهرة أنساب العرب (12، 464) أن قريش ينتسبون إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة.

عن أموال التجارة. وحكى ابن دحية في "تنويره" في ذلك عشرين قولًا (¬1). والنسبة إلى قريش: قرشي، والعباسي: قريشي، فإن أردت بقريش الحي: صرفته، وإن أردت القبيلة لم تصرفه. الخامس: "المخزومية" نسبة إلى بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ويقظة وتميم وكلاب إخوة والمخزومي (¬2): في غير هذا نسبة إلى مخزوم بن عمرو وإلى مخزوم بن مالك، وإلى مخزوم بن صاهلة بطن من هذيل. السادس: في ألفاظه ومعانيه. إنما أهمهم شأنها لما خافوا من لحوق العار الجاهلي في قطع يدها وافتضاحهم بين القبائل به وظنوا أن الشفاعة والسعي في إسقاطه يفيدان فيه، فلما أقسم -عليه الصلاة والسلام- على أنه لو سرقت ابنته فاطمة لقطع يدها علموا أن ذلك حتم لا مندوحة عنه. وإنما قال: "لو سرقت فاطمة بنت محمَّد" لأن اسمها الأخرى فاطمة كما أسلفناه. ¬

_ (¬1) ذكر السبكي في كتابه طبقات الشافعية (3/ 148)، وروى في كتابه هذا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن سبب تسمية قريش قريشًا فقال: قريش حوت في البحر، يغلب الحيتان ويقهرهم، وهو أكبر دواب البحر، ويصطاد الحيتان وسائر دواب البحر فيأكلها فلذلك سميت قريش قريشًا لأنها أغلب الناس وأشجعهم. قلت: ويقال: إن في البحر شيئًا يقال له: القِرش، يفترس الآدمي. اهـ. محل المقصود منه. (¬2) انظر: اللباب في تهذيب الأنساب (3/ 179).

"والاجتراء" التجاسر بطريق الإِدلال. "والحِب" بكسر الحاء هو المحبوب، وفيه منقبة ظاهرة له. "وإنما" للحصر. قال الشيخ (¬1) تقي الدين: والظاهر أنه ليس للحصر المطلق مع احتمال ذلك، فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإِهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص، وهو الإِهلاك بسبب المحاباة في حدود الله فلا ينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص. "وأيم الله" معناها: القسم ولا يستعمل إلَّا مضافًا إلى الله تعالى وفيها لغات: "إيم الله " بكسر الهمزة وفتحها وضم الميم فيه أشهر من كسرها، و"إيمن الله" بكسر الهمزة وفتحها وبزيادة نون في آخرها و "إم الله" بكسر الهمزة وحذف الياء والنون، و"م الله" بحذف الهمزة والياء والنون وتثليث الميم، و"م الله" مثلث الميم أيضًا، و"أُومن الله" بضم الهمزة وسكون الواو وضم الميم والنون. وقد جمع ابن مالك لغاتها في بيتين فقال: همز أيم وأيمن فافتح وإكسر أو أم قل ... أو قل مُ أو من بالتثليث قد شكلا وأيمنُ اختم به الله كلا ... أضيف إليه في قسم تبلغ به الأملا وحكى القاضي (¬2) "لأيمن الله"، و"ليم الله باللام"، فهذه أربعة ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 373). (¬2) إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 419).

عشر لغة، قيل: هي جمع يمين وألفها ألف قطع وهو مذهب الفراء والصحيح أنها مفردة وأن ألفها ألف وصل. قال الأزهري (¬1): وضم آخره وحكم القسم الخفض [كما ضم لعمرك كأنه ضم يمينًا ثانية فقال: وايمنك ولايمنك عظيمة وعمرك ولعمرك عظيم]. وعن ابن عباس أن يمين الله من أسمائه تعالى (¬2). السابع في أحكامه وفوائده: الأول: قطع السارق رجلًا كان [أو] (¬3) امرأة. الثاني: تمسك أحمد وإسحاق بالرواية الثانية على أن جاحد المتاع يقطع يده. وجماهير العلماء وفقهاء الأمصار على أن لا قطع فيه وتأوّلوها على أن المراد أنها قطعت بالسرقة وذكرت العارية تعريفًا لها ووصفًا لا أنها سبب القطع جمعًا بينها وبين الرواية الأخرى إنها سرقت وقطعت بسبب السرقة وهو متعين فإنها قضية واحدة كما ذكره النووي في "شرح مسلم" (¬4)، لكن الاختلاف في عين المسروق يورث ريبة في تعددها إلَّا أن يدعى أن بعض الرواة اقتصر على بعضه وبعضهم على الباقي. ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (15/ 526) وما بين القوسين العبارة في التهذيب: "كأنه أضمر فيها يمين ثان، فقيل: وأيمنك فلأيمنك عظيمة، وكذلك: لعمرك فلعمرك عظيم". (¬2) المرجع السابق. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) شرح مسلم (11/ 188).

وادعى كثير من الأئمة أن الرواية الثانية أعني رواية الجحد شاذة فإنها مخالفة لجماهير الرواة والشاذ لا يعمل به ولهذا لم يودعها البخاري "صحيحه"، وإنما هي من أفراد مسلم قالوا: وتفرّد بها معمر. قال القرطبي (¬1): وقد تابعه عليها من لا يعتد بحفظه كابن أخي الزهري ونمطه. قال العلماء: وإنما لم يذكر السرقة في هذه الرواية لأن المقصود منها عند الراوي ذكر منع الشفاعة في الحدود لا الإِخبار عن السرقة. الثالثة: جواز الحلف من غير استحلاف وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم لأمر مطلوب، وقد اختلف العلماء في جواز الحلف به وهذا الحديث دال على جوازه. الرابعة: المنع في الشفاعة في الحدود، وهو إجماع، بعد بلوغه إلى السلطان، أما قبله فهو جائز عند أكثرُ العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه، أما المعاصي التي لا حد فيها وإنما فيها التعزير فيجوز الشفاعة والتشفيع فيها بالشرط السالف وإن بلغت الإِمام لأنها أهون. الخامسة: حرمة التشفيع في صاحب الحد إذا بلغ الإِمام. السادسة: تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى وحدوده وأنها سبب الهلاك، وقد نبّه -عليه الصلاة والسلام- على ذلك بهلاك من قبلنا من الأمم بذلك بالحصر "بإنهما" كما سلف. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 77).

السابع: جواز تعليق القول بتقدير أمر آخر وقد شذ قوم في المنع من قول: "لو" فإنه صح "أنها تفتح عمل الشيطان" (¬1) لكن المنع مؤول على فعل أمر قد فات أو فعل محذور ونحوه. الثامن: مساواة الشريف وغيره في أحكام الله وحدوده وأن من راع الشريف فيها يخشى عليه الهلاك. التاسع: عدم مراعاة الأهل والأقارب والأصحاب في مخالفة الدين وقد حث الله تعالى على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬2) وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} (¬3)، الآية. وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، الآية. العاشر: جواز الحلف باسم الله وهو يمين عندنا بالنية لا عند الإِطلاق على الأصح لأنه لا يعرفه إلَّا الخواص، وعن مالك وأبي حنيفة أنه صريح. الحادي عشر: استدل به لأحد القولين عند المالكية أنه قال: "والله لو وقع كذا لفعلت كذا" ونحو هذا، ومن ذلك لو كنت حاضرًا لك عند مخاصمة أخي لفقأت عينك، هل يكون حانثًا بهذا اللفظ أم لا؟ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في كتاب الحج. (¬2) سورة النساء: آية 135. (¬3) سورة التوبة: آية 24.

71 - باب حد الخمر

71 - باب حد الخمر ذكر فيه رحمه الله حديث أنس وحديث أبي بردة: الحديث الأول 373/ 1/ 71 - عن أنس [بن مالك] (¬1) - رضي الله عنه -[أن النبي - صلي الله عليه وسلم -] (¬2)، أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدة نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف] (¬3) أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر" (¬4). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذه السياقه المذكورة هي لمسلم خاصة، لكن ¬

_ (¬1) زيادة من متن (عمدة الأحكام). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) زيادة من متن (العمدة). (¬4) البخاري (6773)، ومسلم (1706)، وأبو داود (4479)، والترمذي (1443)، وابن ماجه (2570)، وأحمد (3/ 115، 176، 180، 272، 273)، وابن الجارود (829)، والبيهقي في السنن (8/ 553)، والبغوي في شرح السنة (2604).

[لفظة] (¬1) "بجريدتين" بدل "بجريد". قال عبد الحق في "جمعه" (¬2): ولم يخرج البخاري مشورة عمر، ولا فتوى عبد الرحمن بن عوف، وحديث أنس قال: "جلد النبي - صلي الله عليه وسلم - بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر، أربعين" ولم يقل عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أربعين. وهو كما قال. الوجه الثاني: هذا الشارب لا يحضرني اسمه بعد التتبع الشديد والفحص عنه. الوجه الثالث: "الخمر" هي الشراب المعروف وهي مؤنثة على اللغة الفصيحة المشهورة وذكر أبو حاتم السجستاني في "كتابه المذكر والمؤنث" (¬3) في موضعين منه أن قومًا فصحاء يذكرونها. قال سمعت ذلك ممن أثق به منهم. وذكر أيضًا ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (¬4) فيما جاء فيه لغتان التذكير والتأنيث. ولا يقال حُمرة بالهاء في اللغة الفصيحة. قال الجوهري (¬5): خمرة وخمر وخمور كتمرة وتمر وتمور. قال أهل اللغة: سميت خمرًا لسترها العقل. وقيل: لأنها ¬

_ (¬1) في ن هـ بلفظ. (¬2) انظر: كتاب تصحيح العمدة للزركشي، مجلة الجامعة الإِسلامية (75، 76). (¬3) كتاب المذكر والمؤنت (105)، ضمن مجموعة رسائل ونصوص في اللغة العربية. (¬4) (226). (¬5) مختار الصحاح (خ م ر).

تغطي حتى تدرك, وقيل: لأنها تركت فاختمرت واختمارها تغيرها. ولها أسماء زائدة على الثلاثمائة. وقد ذكرت جملة منها في "لغات المنهاج" فراجعها منه. واعلم أن الفاكهي قال: لا خلاف يعتد به في أن الخمر مؤنثة قال: وذكر النووي (¬1) أنها مذكرة على ضعف ولم أدر من أين نقله. هذا كلامه وقد عرفت سلفه فيه مما قدمته لك فلا إنكار عليه. الوجه الرابع: قوله: "فجلده بجريد" هكذا هو في عامة نسخ الكتاب، وفي بعض نسخه "بجريدة". والذي في الصحيح "بجريدتين" كما أسلفته لك. واختلف في معناه على قولين: أحدهما: أن الجريدتين كانتا مفردتين جلد بكل واحدة منهما عددًا حتى كمله من الجميع أربعين. وهذا تأويل أصحابنا. والثاني: أن معناه أنه جمعهما وجلده بهما أربعين جلدة، فيكون المبلغ ثمانين، وهذا تأويل من يقول جلد الخمر ذلك المقدار والأول أظهر لأن الرواية الأخرى الثانية في "صحيح مسلم" مبينة لهذه وهي كان -عليه الصلاة والسلام- يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين (¬2). الخامس: قوله: "نحو أربعين": ظاهره أن ذلك للتقريب لا للتحديد، لكن لابد من تأويله على عدم التساوي في الضرب ¬

_ (¬1) انظر: تحرير ألفاظ التنبيه (46). (¬2) انظر: شرح مسلم (11/ 218).

والآلة المضروب بها، فإن الحدود للتحديد، وإن كان القرطبي (¬1) نقل عن طائفة من علماء أصحابهم وغيرهم أن ذلك إنما كان منه -عليه الصلاة والسلام- على وجه التعزير والأدب. وأنه انتهى في ذلك إلى أربعين. وحسنه فلا يوافق عليه. السادس: وقع في "الموطأ" (¬2) أن الذي أشار على عمر بالثمانين علي بن أبي طالب، وهو خلاف ما ثبت في الصحيح من كونه عبد الرحمن بن عوف. وادعى القاضي عياض (¬3) أنه المشهور لكنه مرسل، فإنه من رواية ثور بن زيد الديلي، ولم يدركه, وعلى تقدير اتصاله فلعلهما أشارا به والذي بدأ بالمشورة عبد الرحمن فنسبت إليه لسبقه بها ونسبت في رواية إلى علي لرجحانه على عبد الرحمن. وقوله: "فلما كان عمر"، أي: زمن ولايته. السابع: قوله: "أخف الحدود" وهو منصوب بفعل محذوف، أي: جلده أو حده أخف الحدود. قال الشيخ تقي الدين: ويروى ثمانون بالرفع وثمانين بالنصب، أي: اجعله [أو] (¬4) ما يقارب ذلك. ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 129). (¬2) الموطأ (842) قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (24/ 265): هذا حديث منقطع، من رواية مالك، وقد روي متصلًا من حديث ابن عباس. (¬3) أشار إليه في شرح مسلم (11/ 220). (¬4) في الأصل بالواو وما أثبت من ن هـ، وموافق لإِحكام الأحكام (4/ 375).

واستبعد هذا الفاكهي وقال إنه بعيد أو باطل وكأنه صدر من الشيخ من غير تأمل قواعد العربية ولا لمراد المتكلم بذلك، [إذ لا يجيز أحد أجود الناس الزيدين] (¬1) على تقدير أجلهم، وأيضًا فإن مراد عبد الرحمن الإِخبار بأخف الحدود لا أمره بأن يجعل أخف الحدود ثمانين، فاحتمال توهيم الراوي لهذه الرواية القليلة أولى من ارتكاب ما لا يجوز لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى. وقال ابن العطار: جعله بعضهم مبتدأ وخبر فيكونان مرفوعين، وما أعلمه منقولًا رواية. الثامن: "أخف الحدود". يعني: المنصوص عليها في كتاب الله، فإن الحدود فيه حد السرقة بالقطع وحد الزنا بمائة جلدة وحد القذف بثمانين، فاجعلها ثمانين كأخف الحدود. التاسع: إنما استشار عمر - رضي الله عنه - الناس في ذلك لأن في زمنه فتح الشام والعراق وسكن الناس في مواضع الخصب وسعة العيش وكثرت الأعناب والثمار فأكثروا من شرب الخمر فزاد عمر حدها زجرًا لشاربها وتغليظًا عليهم، وكان ذلك سنة ماضية. قال -عليه الصلاة والسلام-: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" (¬2). وقال أيضًا: "اقتدوا ¬

_ (¬1) العبارة في حاشية (إحكام الأحكام) (4/ 376)، إذ لا يجوز أجود الناس الزيدين. (¬2) أحمد (4/ 126، 127)، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (44)، والترمذي (2676)، والبيهقي (6/ 541)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (1/ 95).

باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬1)، أي بكل واحد منهما. ولهذا عمل عثمان - رضي الله عنه - بهذا مرة وبالأول أخرى. وقال علي "كل سنّة" (¬2)، أي: لأن الأربعين فعل الشارع والصديق والثمانين فعل الفاروق بإجماع الصحابة [رضي الله عنه] (¬3) وهو المعروف من مذهب علي، وهذا من علي - رضي الله عنه - دال على اعتقاد حقيقة كونهما خليفتين وأن فعلهما سنة وأمرهما حق بخلاف ما [يكذبه] (¬4) الشيعة [عليه] (¬5). الوجه العاشر: في أحكامه: أولها: تحريم شرب الخمر وهو إجماع، فإن الحد لا يكون إلا على محرم كبيرة. ثانيها: وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلًا أو كثيرًا. وأجمعوا على أن شاربها لا يقتل وإن تكرر منه. وممن حكى الإِجماع على ذلك الترمذي في "جامعه" (¬6) وخلائق. وحكى القاضي (¬7) عن طائفة شاذة أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات ¬

_ (¬1) الترمذي (3663)، وابن ماجه (97)، والحميدي (449)، وأحمد (5/ 399)، وفي الفضائل له (479). (¬2) مسلم (1707)، وأبو داود (4480، 4481). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ، وشرح مسلم (11/ 219). (¬5) زيادة من ن هـ، وشرح مسلم. (¬6) سنن الترمذي (4/ 48). (¬7) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 496)، وشرح مسلم (11/ 217).

لأحاديث واردة في ذلك. وهو قول باطل مخالف لإِجماع الصحابة فمن بعدهم، وتلك الأحاديث منسوخة إما بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" (¬1). الحديث. وإما بدلالة الإِجماع فإنه استمر بعد وفاته وأجمعوا على أن شارب الخمر يجلد سواء سكر أم لا. واختلفوا في شارب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة على قولين: أحدهما: إلحاقه بشارب الخمر، وإن كان يعتقد إباحة النبيذ، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا. ثانيهما: [ما لا يحرم] (¬2) ولا يحد شاربه وهو قول أبي حنيفة والكوفيين. وقال أبو ثور: يحد معتقد تحريم النبيذ دون غيره. ثالثها: أن قدر حد الخمر أربعون، وبه قال الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وغيرهم. قال الشافعي: وللإِمام أن يبلغ به ثمانين لفعل عمر والصحابة -رضي الله عنهم-. بل روى عبد الرزاق (¬3) أنه -عليه الصلاة والسلام- فعله وإن لم يصح، كما قاله ابن حزم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في أول كتاب القصاص. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) مصنف عبد الرزاق (7/ 379).

ولأصحابه وجه أنه لا تجوز الزيادة على الأربعين لأن عليًا - رضي الله عنه - رجع عنه وكان يضرب أربعين. قال أصحابنا: والزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله وفي تعرضه للقذف والقتل وأنواع الإِيذاء وترك الصلاة وغير ذلك. وقيل: إنها حد لأن التعزير جناية مخففة. وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحق وابن المنذر: حده ثمانون. ونقله القاضي عياض (¬1) عن الجمهور سلفًا وخلفًا. واحتجوا: بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة وأن فعله -عليه الصلاة والسلام- لم يكن للتحديد، ولهذا قال في رواية الكتاب نحو أربعين. وحجة الشافعي: أنه -عليه الصلاة والسلام- جلد أربعين كما سلف وزيادة عمر تعزيرات والتعزير إلى رأي الإِمام إن شاء فعله وإن شاء تركه بحسب المصلحة مع فعله وتركه فرآه عمر ففعله، ولم يفعله الشارع ولا الصديق ولا علي على خلاف عنه، ولو كانت حدًا لم يترك، ولهذا قال علي - رضي الله عنه - "وكلُّ سنة"، أي: الاقتصار على الأربعين والبلوغ إلى الثمانين. ثم هذا الذي ذكرناه هو حد الحر. فأما العبد: فعلى النصف منه كما في الزنا والقذف. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 471).

وحكى القاضي حسين أن من أصحابنا من قال: أنه كالحر وهو غلط. الرابع: حصول الجلد في الخمر بالجريد وهو إجماع ومثله النعال وأطراف الثياب. واختلفوا في جوازه بالسوط على قولين وهي وجهان لأصحابنا، والأصح: الجواز. وشذ بعض أصحابنا: فشرط فيه السوط، وقال: لا يجوز فيه الضرب بالنعال والثياب لعسر الضبط وهو غلط، فاحش مردود على قائله لمنابذته صريح الأحاديث الصحيحة. وشذ بعضهم فقال: يتعين غير السوط. قال أصحابنا: وإذا ضرب بالسوط فليكن متوسطًا معتدلًا في الحجم بين القصب والعصى، فإن ضربه بجريدة فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة ويضربه ضربًا بين ضربتين ولا يرفع يده فوق رأسه ولا يكتفي بالوضع بل يرفع ذراعيه رفعًا معتدلًا. الخامس: مشاورة الإِمام والقاضي والمفتي أصحابه وحاضري مجلسه في الأحكام. السادس: جواز القياس والعمل به والاستحسان عند الحاجة إليه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 374/ 2/ 71 - عن أبي بردة هانئ بن نيار البلوي - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلَّا في حد من حدود الله عَزَّ وَجَلَّ (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب صلاة العيدين واضحًا، وأن ما ذكره في اسمه هو أصح الأقوال. الثاني: "البلوى" بفتح الباء الموحدة ثم لام ثم واو وياء النسب نسبة إلى بلى بن عمرو بن [حلوان] (¬2) بن [الحافي] (¬3) بن ¬

_ (¬1) البخاري (6848)، ومسلم (1708)، وأبو داود (4491، 4492)، والترمذي (1463)، وابن ماجه (2601)، وأحمد (3/ 466)، (4/ 45)، والدارقطني (3/ 207)، والدارمي (2/ 176)، والبيهقي (8/ 568)، والبغوي (2609)، وابن أبي شيبة (6/ 567)، والنسائي في الكبرى (7330). (¬2) غير موجود في جمهرة أنساب العرب (440) ونسبه كما في الجمهرة (443)، أبو بُرْدة بن نيار بن عمرو بن عبيد بن عمرو بن كلاب بن دُهمان بن غَنم بن ذُهل بن هُميم بن هنى بن بلى. أسقط (هاني) ". (¬3) في الأصل ون هـ، الحاف، وما أثبت من المرجع السابق.

قضاعة, فأبو بردة هو هانئ بن نيار بن عبيد بن كلاب بن غنم بن هُبَيْرة بن ذهل بن هانىء بن تلبيّ بن عمرو بن [حلوان بن] (¬1) [الحافي] (¬2) بن قضاعة". الثالث: هذا الحديث ذكر ابن المنذر (¬3) في إسناده مقالًا، وقال الأصيلي: اضطرب إسناده فوجب تركه، وقول ابن المنذر: يرجع إلى ما ذكره الأصيلي من الاضطراب، فإن رجال إسناده ثقات والاضطراب الذي أشار إليه: هو أنه روى عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبي بردة. وعنه عن أبيه عن أبي بردة وعنه عمن سمع النبي - صلي الله عليه وسلم -. وهذه الطرق كلها مخرجة في الصحيحين على الاتفاق والانفراد. وروى عنه عن رجل من الأنصار عن النبي - صلي الله عليه وسلم - وهذا الاختلاف لم يؤثر عند البخاري ومسلم. لأنه [يحتمل] (¬4) أن يكون سمعه من أبيه عن أبي بردة. [وسمعه من أبي بردة] (¬5) فحدث به مرة عن هذا، ومرة عن هذا. وقوله: عمن سمع النبي - صلي الله عليه وسلم - يريد به أبا بردة. وقوله: "عن رجل من الأنصار" يريد به أيضًا أبا بردة. فإنه -وإن كان قضاعيًا بلويًا- فإنه حليف للأنصار. فنسبه إليهم، وهو مشهور بالنسبة إليهم. وقد ذكر الدارقطني: أن حديث عمرو بن ¬

_ (¬1) انظر ت (2/ 230). (¬2) في الأصل ون هـ الحاف, وما أثبت من المرجع السابق. (¬3) انظر: مختصر السنن (6/ 294). (¬4) في المختصر (يجوز). (¬5) عن غير موجودة في المختصر.

الحارث المصري، الذي قال فيه "عن أبيه" صحيح, لأنه ثقة، وقد زاد رجلًا. وتابعه أسامة بن زيد. فهذا الدارقطني قد صحح الحديث بعد وقوفه على الاختلاف. وجنح إلى ما جنح إليه صاحبا الصحيح (¬1). الرابع: قوله: "لا يجلد" ضبط بوجهين: أحدهما: بفتح الياء وكسر اللام. وثانيهما: بضم الياء وفتح اللام. الخامس: اختلف في تفسير الحد في هذا الحديث. فقيل: أراد به حق من حقوقه وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها لأن المحرمات كلها من حدود الله تعالى. قال الشيخ تقي الدين (¬2): وبلغني عن بعض أهل العصر أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بهذه المقدرات أمر اصطلاحي فقهي، وأن عرف الشرع من أول الإِسلام لم يكن كذلك، أو يحتمل أن لا يكون كذلك -هذا أو كما قال- فلا يخرج عنه إلَّا التأديبات التي ليست عن محرَّم شرعي. وهذا، أولًا: خروج في لفظة "الحد" عن العرف فيها. وما ذكره (¬3) لا يوجب النقل، والأصل عدمه. وثانيًا: أنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل حق من حقوق ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة (-رضي الله عنهما-. والله عَزَّ وَجَلَّ أعلم). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 381). (¬3) في إحكام الأحكام زيادة: هذا العصري.

الله أن يزاد لم يبق لناشىء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط. إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا يجوز فيها الزيادة ليس إلَّا ما ليس بمحرم، وأصل التعزير فيه ممنوع, فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى. والذي تقتضيه الأدلة أن المراد به فعل المعاصي التي لا حد فيها. السادس: فيه إثبات التعزير في المعاصي التي لا حد فيها لما تقتضيه من جواز العشرة فما دونها. السابع: اختلف العلماء في مقدار التعزير، فالمنقول عن مالك وأصحابه أنه لا يتقدر بعشرة ولا غيرها وتخير العقوبات فوق العشرة وفوق الحدود على قدر الجريمة وصاحبها ويجعل ذلك موكولًا إلى رأي الإِمام واجتهاده. وبه قال أبو يوسف ومحمد وأبو ثور والطحاوي. وذهب أحمد وإسحاق: إلى أنه لا يزاد على عشرة أسواط عملًا بظاهر الحديث فإنه متعرض للمنع من الزيادة عليها وما دونها لا يعارض للمنع فيه. وبه قال صاحب "التقريب" (¬1) من الشافعية وأشهب من المالكية في بعض أقواله. وظاهر مذهب الشافعي جواز الزيادة على العشرة إلَّا أنه لا يبلغ به الحد. وعلى هذا ففي المعتبر وجهان: أصحهما: أدنى الحدود في حق المعزر، فلا يزاد في تعزير ¬

_ (¬1) مؤلفه نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود الفقيه أبو الفتح المقدسي النابلسي.

الحر على تسع وثلاثين ضربة، ليكون دون حد [الأحرار] (¬1) ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطًا ليكون دون حده. وثانيهما: أدنى الحدود على الإِطلاق، فلا يزاد في حد الحر أيضًا على تسعة عشر سوطًا. وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار فيه بحد الأحرار مطلقًا فيبلغ بالحر والعبد تسعًا وثلاثين ولا يزيد وجوّز الاصطخري من الشافعية في كتابه "أدب القضاء" (¬2) مجاوزة العشرة في غير السوط وهو مطابق للحديث. ولكن رواية البخاري عن عبد الرحمن بن جابر عمن سمع النبي - صلي الله عليه وسلم - يقول: "لا عقوبة فوق عشر ضربات إلَّا في حد من حدود الله" يرده. ثم من خالف الحديث وجوّز الزيادة عليه وهم جمهور الصحابة والتابعين كما حكاه النووي في "شرحه" (¬3) عنهم، وإن كان القرطبي (¬4) نقل عن الجمهور المنع من الزيادة. أجاب عن الحديث بأوجه: أحدها: الطعن فيه وقد سلف جوابه. ثانيها: نسخه بعمل الصحابة بخلافه من غير إنكار. وعن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أنه لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطًا. ويروى ثلاثين إلى الأربعين. وضرب عمر صبيغًا -بفتح ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام: الشرب. (¬2) مؤلفه هو الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد الاصطخري شيخ الشافعية ببغداد، ومحتسبها. ترجمته في تاريخ بغداد. (¬3) شرح مسلم (11/ 222). (¬4) المفهم (5/ 138).

الصاد المهملة ثم باء موحدة ثم مثناة تحت ثم غين معجمة- أكثر من الحد أو من مائة، وضرب من نقش على خاتمه مائة واستضعف هذا الوجه بأنه يبعد عليه إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل بعضهم أو فتواه على خلافه لا يدل على النسخ. ثالثها: أنه محمول على ذنب بعينه أو رجل بعينه، ذكره الماوردي من أصحابنا وفيه نظر. رابعها: أنه مقصور على زمن النبي - صلي الله عليه وسلم - لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهو ضعيف جدًا لأنه نزل العموم بغير دليل شرعي على الخصوص ثم هذه المناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص. خامسها: أن المراد [بالحد] (¬1) الحق وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها. وقد سلف ما فيه. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: لا يزاد في الأدب على ثلاثة، وبه قال أشهب مرة. وقال في مؤدب الصبيان لا يزيد على ثلاثة أسواط، فإن زاد اقتص منه، وهذا تحديد يبعد إقامة الدليل عليه، ولعله أخذه من أن الثلاث [اعتبرت] (¬2) في مواضع كثيرة من الشرع، وهو أول حد الكثرة. وفي ذلك ضعف. ¬

_ (¬1) في ن هـ، (الحق) وزيادة بالحاشية: يعضده ما روي عن عمر: يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور. وقال الحسن: إنكم لتأتون أمورًا هي في أعينكم أدق من الشعر وإن كنا لنعدها من الموبقات. تنبيه: وقع الخلاف في قدر التعزير دون الحد لأنه حق العباد فيترجح فيه. (¬2) في ن هـ (اغتفرت).

ومذهب أبي حنيفة أنه لا يبلغ بالتعزير أربعين. وقال ابن أبي ليلى: هو خمسة وسبعون ولا يبلغ به الحد. وروي عن مالك وأبي يوسف أيضًا، ومال إليه أصبغ. وعن ابن عمر: لا يجاوز به ثمانين. وقال ابن شبرمة: هو دون المائة وهو رواية عن ابن أبي ليلى. وحكي عن الشافعي أنه يضرب في الأدب أبدًا وإن أتى على نفسه حتى يفي بالإِنابة ويرجع عنه. وعن الزُّبيري من أصحابه إن تعزير كل ذنب مستنبط من حده لا يجاوز حده وهما غريبان، فتحصلنا على أقوال في المسألة: أحدها: أنه لا يزاد على عشرة. ثانيها: على ثلاثة. ثالثها: يزاد إلى تسعة عشرة. رابعها: إلى تسعة وثلاثين. خامسها: إلى خمسة وسبعين. سادسها: إلى ثمانين. سابعها: إلى دون المائة، ويأتي أكثر من ذلك عند الفرق بين الحر والعبد، وعلى قول الزبيري السالف وغير ذلك، فتأمله.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور

72 - كتاب الأيمان والنذور

72 - كتاب الأيمان والنذور الأيمان: جمع يمين، وأصلها في اللغة اليد اليمنى، وأطلق على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل لأنها تحفظ الشيء على الحالف كما يحفظ اليد. وهي في الشرع: تحقيق ما يحتمل المخالفة أو تأكيده بذكر اسم الله [تعالى] (¬1) وصفته بصفة مخصوصة. والنذور: واحدها نذر وهو مأخوذ من الإِنذار الذي هو التخويف، وهو لغة الوعد بخير أو شر. وشرعًا: الوعيد بخير. ولم يذكر في النذور إلَّا قوله في أواخره: "وليس على رجل نذر فيما لا يملك". وقد عقد له بابًا بعده، ثم ذكر في هذا الباب سبعة أحاديث: ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

الحديث الأول

الحديث الأول 375/ 1/ 72 - عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإِمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه هو أبو سعيد عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي. أمه: أروى بنت [أبي] (¬2) الفارعة من بني فراس. ¬

_ (¬1) البخارى (6122)، ومسلم (6152)، وأبو داود (2929، 3277، 3278) والترمذي (1529)، والنسائي (7/ 10، 11، 12)، (8/ 225)، وفي الكبرى له (5930)، والدارمي (2351، 2352)، والمسند (5/ 61، 62، 63)، وابن الجارود (929)، وأبو عوانة (4/ 405)، والبغوي في السنة (2435)، والبيهقي في السنن (10/ 55)، وعبد الرزاق (11/ 320)، وابن أبي شيبة (3/ 482)، (7/ 568). (¬2) زيادة يقتضيها السياق من كتب التراجم. انظر: تهذيب الكمال للمزي (17/ 159).

أسلم يوم الفتح. وقيل: كان اسمه عبد كُلال، ويقال: عبد كلوب، وقيل: عبد الكعبة، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -. وغزا خراسان في زمن عثمان، وعلى يده فتحت سجستان وكابل [واستعمله -عليه الصلاة والسلام- على سجستان] (¬1). روي له عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا اتفقا منها على هذا الحديث وانفرد مسلم بحديثين. روي عنه الحسن البصري وغيره. مات سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى. وقال الفاكهي في "شرحه" مات سنة أربع وأربعين، ثم حكى القولين السالفين. وفي موضع قبره ثلاثة أقوال: أحدها: بالبصرة، قاله خليفة وجماعات. ثانيها: بالكوفة وصلى عليه زياد، قاله ابن حبان. ثالثها: بمرو، حكاه الحاكم عن بعضهم وأنه أول من تولى من الصحابة بها. الثاني: في ألفاظه ومعانيه. "الإِمارة" بكسر الهمزة الولاية عامة كانت أو خاصة، ويدخل فيها القضاء والحسبة وغيرها، وفيها لغة أخرى، إمره بسكون الميم. أما الأمارة بالفتح، فالعلامة. ¬

_ (¬1) هذه العبارة خطأ والصحيح الذي في كتب التراجم كما في تهذيب الكمال (17/ 159)، واستعمله عبد الله بن عامر على سجستان. اهـ. لأن سجستان لم تفتح في زمن النبي - صلي الله عليه وسلم -.

وأما الأمَرة: بفتح الميم، فالمرة الواحدة من الأمر، يقال: لك على أمَره لمطاعة، أي: أمره أطول فيها وأمر فلان بكسر الميم وضمها صار أميرًا. ومعنى"وكلت إليها" لم يعن عليها، أي: لا يكون فيك كفاية لها ومن هذا شأنه لا يولى، يقال: وكله إلى نفسه وكلًا ووكولًا، وفي كثير من نسخ مسلم بدل الواو همزة. وقال القاضي عياض (¬1): هو في أكثرها كذلك والصواب بالواو. الثالث: في أحكامه وفيه مسائل: الأولى: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإِمارة مطلقًا، والفقهاء تصرفوا فيه بالقواعد الكلية: فمن كان متعينًا للولاية وجب عليه قبولها إن عرضت عليه، وطلبها إن لم تعرض, لأنه فرض كفاية لا يتأدى إلَّا به فيتعين عليه القيام به، وكذا إذا لم يتعين له، وكان أفضل من غيره، ومنعنا ولاية المفضول مع وجود الأفضل وإن كان غيره أفضل منه، ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل. فيكره له الدخول فيها وأن يسألها. وحرّم بعض الشافعية سؤالها. وحكى الشيخ تقي الدين (¬2): أن بعضهم حَرَّم له الطلب وكره للإِمام أن يوليه وقال: إن ولَّاه انعقدت ولايته وقد استخطىء فيما قال، ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء، لأحاديث وردت فيه. منها قوله -عليه الصلاة والسلام-: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (1/ 31). (¬2) ذكره وما قبله من إحكام الأحكام (4/ 386).

واثنان في النار" (¬1) رواه الأربعة وقال الحاكم صحيح الإِسناد. ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام-: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" (¬2) حسنه الترمذي مع الغرابة، وقال الحاكم: صحيح الإِسناد مع أن بعض العلماء يؤول هذا للمدح وقال لاجتهاده في طلب الحق، والظاهر أنه على الذم لعجزه غالبًا عن القيام وعدم المعين له على الحق. ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر: "لا تأمرن على اثنين" (¬3) متفق عليه. ومنها قوله: "إنكم ستحرصون على الإِمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة" (¬4). رواه البخاري. ومن أصحابنا من قال: القضاء من أعلى القربات، ومنهم إمام الحرمين وابن الصباغ، والأحاديث المحذرة منه محمولة على الخائن أو الجاهل بدليل الحديث السالف القضاة ثلاثة. وقال ابن الصباغ: الأحاديث المحذرة دالة على عظم قدره حتى لا يقدم عليه من لا يثق بنفسه، ويحمل حديث عبد الرحمن بن سمرة وما في معناه كحديث ¬

_ (¬1) أبو داود (3573)، الترمذي (1322)، ابن ماجه (2315)، وصححه الحاكم (4/ 90) ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه أحمد (7145) ,الترمذي (1325)، أبو داود (3571، 3572)، ابن ماجه (2308). (¬3) مسلم (1826)،النسائي (6/ 255)، أبو داود (2868)، البيهقي (3/ 129). (¬4) البخاري (7148)،النسائي (7/ 162)، (8/ 225)، البغوي (2465)، البيهقي (3/ 129)، (10/ 95)، أحمد (2/ 448، 476).

أبي موسى الثابت أيضًا في الصحيحين (¬1) لن نستعمل في عملنا هذا من أراده على من سأل لمجرد الرئاسة والنبل، ومن استحبه فهو لمن قصد به القربة وبالغ إمام الحرمين وجماعة فقالوا: القيام بفرض الكفاية أحرى بإحراز الدرجات وأعلى [في] (¬2) قبول القربات من القيام بفرض العين، فإن [فاعل] (¬3) فرض العين وتاركه يختص الثواب والعقاب به وفاعل فرض الكفاية كاف نفسه وسائر المخاطبين العقاب وأمل أفضل الثواب. وبالجملة فقد امتنع من الدخول فيه الشافعي حين استدعاه المأمون ليوليه قضاء الشرق والغرب واقتدى به الصدر الأول من أصحابه حتى أن أبا علي بن خيران لما طلب للقضاء هرب فختم على عقاره، وامتنع منه أيضًا أبو حنيفة حين استدعاه المنصور له فضربه وحبسه ثم أطلقه، وقيل: إن أبا حنيفة ولي القضاء بالرصافة أيامًا والشافعي وليه بنجران من بلاد اليمن أيامًا ولا يصح دخول معظم السلف من الصدر الأول فيه كان لعلمهم يقينًا أو ظنًا بالقيام به لله لا لشيء من حظوظ الدنيا ووجود من يعينهم على الحق، وامتناع الصدر الثاني والثالث لما فيه من الخطر وعدم براءة الذمة فيه وتحيلوا على الامتناع منه بأسباب توهم الجنون أو قلة المروءة وارتكبوا ذلك للخلاص من المحرم أو المكروه. ¬

_ (¬1) ولفظه عن أبي موسى: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه"، البخاري (7149)، مسلم (1456)، البغوي (2466). (¬2) ساقطة من ن هـ. (¬3) ساقطة من ن هـ.

المسألة الثانية: فيه إشارة إلى إلطاف الله تعالى بالعبد فيما قضاه وقدره وأوجبه عليه بالإِعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلًا زائدًا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين، فإنه لما كان خطر الولاية عظيمًا بسبب أمور في الوالي وبسبب أمور خارجة عنه كان طلبها تكلفًا ودخولًا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون. ولما كانت إذا أتت عن غير مسألة لم يكن فيها هذا التكليف كانت جديرة بالعون على أعبائها وأفعالها دل ذلك على ما قررناه وهي مسألة أصولية. المسألة الثالثة: أن من يتعاطى أمرًا سولت له نفسه أنه أهل له لا يقوم به بخلاف من عجز نفسه وقصرها عن ذلك، وهذا من ثمرات التواضع فإن من سأل الإِمارة لم يسألها إلَّا وهو يرى نفسه أهلًا لها فيوكل إليها فلا يعان ويخذل. الرابعة: أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها من فعل أو ترك بأن كان التمادي على اليمين مرجوحًا في نظر الشرع والحنث خير منه أنه يستحب له الحنث ويكفر وقد يكون الحنث واجبًا وقد قام الإِجماع على أنه لا يجب عليه كفارة قبل الحنث وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث وعلى أنه لا يجوز تقديمها قبل اليمين. واختلفوا في تقديمها على الحنث على قولين: أحدهما: يجوز وبه قال أربعة عشر من الصحابة وجماعات من التابعين ومالك والشافعي والأوزاعي والثوري والجمهور، لكن قالوا يستحب كونها بعد الحنث.

واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال: لا يجوز قبل الحنث لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها قبل وقتها كالصلاة وصوم رمضان. قال الخطابي (¬1): واحتج أصحابه بأن [الصوم] (¬2) مرتب على الإِطعام. فلا [يجزيء] (¬3) إلَّا مع عدم الأصل كالتيمم، [مع الماء وهو الصحيح عند أصحابه] (¬4). وأما التكفير بالمال، فيجوز تقديمه على كفارته كما يجوز تعجيل الزكاة، واستثنى بعض أصحابه حنث المعصية بأن حلف لا يزني فقال: لا يجوز تقديمه على كفارته لأن فيه إعانة على المعصية والجمهور على الاجتزاء كغيرها لأن الكفارة لا يتعلق بها تحليل ولا تحريم فإن المحلوف عليه على حالة حرام قبل اليمين وبعدها، وقبل التكفير وبعده. ووقع في "المحرر" للرافعي تصحيح الأول وتبعه البغوي فيه [لكنه] (¬5) صحح في "شرحه الصغير" الثاني واقتضاه [. . .] (¬6) كلامه في الكبير. ¬

_ (¬1) معالم السنن (4/ 368). (¬2) في معالم السنن (الصيام). (¬3) في المرجع السابق (يجوز). (¬4) العبارة في المرجع السابق (لما كان مرتبًا على الماء، لم يجز إلَّا مع عدم الماء). (¬5) في ن هـ (لكن). (¬6) في الأصل زيادة (في المحرر).

والقول الثاني في أصل المسألة: أنه لا يجوز تقديمها عليه بكل حال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي. وهذا الحديث ورد بألفاظ: أحدها: "فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير" وهذا ما في الكتاب. ثانيها: "فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" رواه البخاري. ثالثها: "فكفّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير"، رواه أبو داود والنسائي. وهذه الرواية صريحة للجمهور القائلين بالجواز، أما رواية "الواو" فقد يستدل بها من يجوز التقديم تارة ومن يمنعه أخرى من حيث الاهتمام بذكره أولًا لكن يخدشه أن "الواو" لا تقتضي الترتيب والمعطوف والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة وليس بجيد، طريقه من يقول في مثل هذا إن "الفاء" تقتضي الترتيب والتعقيب فيقتضي ذلك أن يكون التكفير مستعقبًا لرواية الخير في الحنث فإذا استعقبه التكفير تأخر الحنث ضرورة، نبّه على ذلك الشيخ تقي الدين قال: وإنما قلنا إنها ليس بجيد لما بيناه من حكم الواو. فلا فرق بين قولنا: "فكفر، عن يمينك وائت الذي هو خير" وبين قولنا: "فافعل هذين". ولو قال كذلك لم تقتضِ ترتيبًا ولا تقديمًا وكذلك إذا أتى بالواو وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء. وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه، بسبب الفاء وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقًا وهو ضعيف لما بينّاه.

"تذنيب" حديث الأعرابي الثابت في الصحيحين (¬1) حيث قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص وسماه الشارع مفلحًا لا يرد على ما قررناه من أن الحنث خير إذا كان التمادي على اليمين مرجوحًا في نظر الشرع لأنها كانت لغو يمين أو أراد لا أزيد في عدد الفرائض ولا أنقص منها وذلك لا يقتضي الإِنكار. الخامس: مقتضاه تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرًا بنصه، وأما مفهومه فقد يشعر بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رواية الخير في غيرها مطلوب. وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا}، وحمله بعضهم على ما دل عليه الحديث، ويكون معنى "عرضة"، أي: مانعًا و"أن تبروا" بتقدير من "أن تبروا". المسألة السادسة: فيه بيان كرم الله تعالى على عباده في عدم الوقوف عند الأيمان وبأنه يحنث فيها لئلا يؤدي ذلك إلى المنع من الخير وترك البر. ¬

_ (¬1) البخاري (46)، ومسلم (11)، وأبو داود (392)، والنسائي (1/ 226)، (4/ 120)، وابن الجارود (144)، والبيهقي في السنن (1/ 361) , (2/ 466، 467).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 376/ 2/ 72 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلَّا أتيت الذي هو خير، وتحللتها" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في باب السواك في الحديث الرابع منه. ثانيها: هذا الحديث ورد على سبب وهو أنه -عليه الصلاة والسلام- "قدم عليه رهط من الأشعريين فسألوه الحملان فقال: "والله لا أحملكم ولا عندي ما أحملكم عليه، ثم أتي بعد ذلك بإبل فأمر لهم بثلاث ذود". وفي رواية: "بخمس ذود غبر الذرى فلما انطلقوا ¬

_ (¬1) البخاري (3133)، ومسلم (1649)، وأبو داود (3276)، والنسائي (7/ 9)، وفي السنن الكبرى له (4721)، وابن ماجه (2107)، وأحمد (4/ 398، 401)، والبيهقي (10/ 31، 51)، والمسند (4/ 401، 460، 393، 397)، والترمذي (826، 827)، والدارمي (2/ 102، 103)، وابن الجارود (929)، والبغوي في السنة (2436).

كرهوا تحلل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه وخافوا عقوبة ذلك فأتوه وأخبروه بالخبر فقال: ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم. ثم قال: إني والله" إلى آخر الحديث. وفي رواية في الصحيح: "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" وفي الصحيح: "إن ذلك كان في جيش العسرة وهي غزوة تبوك" وفي أخرى فيه: "أنه أعطاهم ستة أبعرة ابتاعهن من سعد". ثالثها: في أحكامه وفيه مسائل: المسألة الأولى: الحنث إذا رآه خيرًا من التمادي على اليمين وقد سلف في الحديث قبله. المسألة الثانية: جواز الحلف من غير استحلاف. المسألة الثالثة: تقديم ما يقتضي الحنث في اللفظ على الكفارة، إن كان معنى: "وتحللتها" التكفير عنها. قال الشيخ تقي الدين: ويحتمل أن يكون معناه إتيان ما يقتضي الحنث، فإن التحلل يقتضي العقد. والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحلل الإِتيان بخلاف مقتضاها ثم قال: فإن قلت: فيكفي عن هذا قوله: "أتيت الذي هو خير" فإنه بإتيانه إياه تحصل مخالفة اليمين والتحلل منها، فلا يفيد قوله حينئذٍ: "وتحللت". فائدة: زائدة على ما في قوله: "أتيت الذي هو خير". ثم أجاب بأن فيه فائدة التصريح والتنصيص على كون ما فعله محللًا والإِتيان به بلفظه يناسب الجواز والحل صريحًا. فإذا صرح بذلك كان أبلغ مما أتى به على سبيل الاستلزام.

الرابعة: تأكيد ما يخبر به الإِنسان عن نفسه في المستقبل بالقسم فإنه - صلى الله عليه وسلم - أكد في هذا الحديث للحكم المذكور باليمين بالله تعالى عليه، وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث على الوفاء عند هذه الحالة. وفيه أيضًا تطييب قلب أصحابه وأمته إذا وقع لهم ذلك أن لا يخرجوا منه وهذا "الخير" الذي أشار إليه أمر يرجع إلى مصالح الحنث، المتعلقة بالمفعول المحلوف على تركه. خامسها: الاستثناء بإن شاء الله تبركًا وأدبًا فإن قصد به حل اليمين صح بشرط أن يكون متصلًا وأن ثبوته قبل الفراغ من اليمين كما ستعلمه في الحديث الرابع إن شاء الله. سادسها: ترجم البخاري على هذا الحديث الكفارة قبل الحنث (¬1) وبعده، وترجم عليه أيضًا الاستثناء في الأيمان (¬2)، وترجم عليه أيضًا لا تحلفوا بآبائكم (¬3)، وترجم عليه أيضًا بقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬4) وأراد أن أفعال الخلق مخلوقة لله تعالى ¬

_ (¬1) في كتاب: (الأيمان) ح (6721). (¬2) في كتاب: (الأيمان) ح (6718). (¬3) كتاب (الأيمان) و (النذور) ح (6649). (¬4) كتاب (التوحيد) ح (7555). وأغفل المؤلف رحمه الله تعالى الأبواب الآتية: 1 - في فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ح (3133). 2 - في المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن ح (4385). =

وهذا مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة. قال المازري (¬1): معناه أن الله تعالى أتاني، ما أحملكم عليه ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه. ¬

_ = 3 - الذبائح والصيد، باب لحم الدجاج ح (5518). 4 - في الأيمان، باب: اليمين فيما لا يملك (6680)، وفي باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6623). (¬1) المعلم بفوائد مسلم (2/ 367).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 377/ 3/ 72 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". ولمسلم: "فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". وفي رواية قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ينهى عنها، ذاكرًا ولا آثرًا" (¬1). يعني: حاكيًا عن غيري: أنه حلف بها". الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا الحديث ساقه الشيخان بتمام قوله: "قال عمر: ¬

_ (¬1) البخاري (6646)، ومسلم (1646)، والموطأ (2/ 480)، والترمذي (1534)، وأبو داود (3249، 3250)، وأحمد (1/ 18، 19، 32، 36)، (2/ 8، 11، 17، 142)، والحميدي (624، 686) والنسائي (7/ 4، 5)، وابن الجارود (922)، والبيهقي (10/ 28)، وابن ماجه (2094)، وعبد الرزاق (15922، 15923)، (15924)، والطيالسي والبغوي (2431)، وابن الجارود (922).

فوالله" إلى آخره وبدون قوله: "ولمسلم إلى قوله أو ليصمت" من هذا الوجه، ولم أر في البخاري هنا لفظة "ينهى عنها". وفي رواية لمسلم بعد قوله: "آثرًا، ولا تكلمت بها"، والحديث من رواية ابن عمر عن عمر ومن رواية ابن عمر أيضًا. وأما الزيادة: التي عزاها المصنف إلى مسلم وحده فليست فيه من هذا الوجه الذي [أورد الحديث من طريقه] (¬1) وإنما هي فيه من رواية ابن عمر وهذا لفظه: عن ابن عمر عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه. فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". وهذه الزيادة ثابتة في "صحيح البخاري" أيضًا في هذا الباب، وهذا لفظه: عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" يظهر أن هذه [الزيادة] (¬2) ليست في هذا الحديث من هذا الطريق وأنها ليست من أفراد مسلم فتنبه لذلك فإنه يساوي رحله. وقد وقع للمصنف هذا الموضع في "عمدته الكبرى" أيضًا. الثاني: سبب النهي أن قريشًا كانت تحلف بآبائها كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل العبارة هكذا: أورده من الحديث طريقه، وما أثبت من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ.

قال: "من كان حالفًا، فلا يحلف إلا بالله" (¬1) [وكانت] (¬2) قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم. وقد أسلفنا من حديثه أيضًا أنه -عليه الصلاة والسلام- أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. الثالث: سر النهي عنه أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وحقيقة العظمة لله عَزَّ وَجَلَّ لا شريك له فيها فإنها إزاره والكبرياء رداءه فمن نازعه فيهما قصمه كما صح في الأحاديث الصحيحة (¬3) حكاية [عنه] (¬4) سبحانه [وتعالى] (¬5)، وإذا كان كذلك فلا تضاهي بالتعظيم غيره. وقد قال ابن عباس: "لئن أحلف بالله فآثم أحب إليّ من أن أضاهي"، ومعنى أضاهي أحلف بغيره، وقيل: يرى أنه حلف وما حلف ويؤيد الأول الرواية الأخرى عنه "لئن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر" الرابع: قد فسر المصنف معنى قوله: "آثرًا" (¬6). وهو بمد ¬

_ (¬1) البخاري (3836)، ومسلم (1646)، والنسائي (7/ 4)، وأحمد (2/ 20)، والبيهقي (10/ 29). (¬2) في الأصل وكان، وما أثبت من ن هـ. (¬3) مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، والبغوي (3592)، والطيالسي (2387)، والحميدي (1149)، وأحمد (2/ 248، 376، 414، 427)، والأدب المفرد (552). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) قال الحميدي في مسنده (2/ 281): قال سفيان: سمعت محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة. وكان بصيرًا (بالعربية)، يقول: "ولا آثرًا". =

الهمزة، أي: ما حلفت بها بعد النهي ذاكرًا، أي: قائلًا لها من قبل نفسي ولا أروي عن غيري أنه قالها وهو مأخوذ من قوله: آثر الحديث فآثره إذا حدث به. الخامس: في أحكامه: الأول: المنع من الحلف بغير الله تعالى فإنه -عليه الصلاة والسلام- قال بعد ذلك فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت. وجرى ذكر الآباء أولًا لأنه هو السبب المثير له وهذا المنع للتنزيه على المشهور عند الشافعية، وقيل: إنه معصية. وحكاه المالكية أيضًا ولم يعزه الشيخ تقي الدين (¬1) إلَّا إليهم حيث قال: والخلاف موجود عند المالكية. وتوبع على ذلك ويدل للثاني قوله -عليه الصلاة والسلام- "من حلف بغير الله فقد أشرك" (¬2) رواه الحاكم في ¬

_ = آثره عن غيري أخبر عنه أنه حلف بها. وقال أبو عبيد -رحمنا الله وإياه- في "غريبه" (2/ 59)، "ولا آثرًا" يريد به: ولا مخبرًا عن غيري أنه حلف به، يقول: ولا أقول: إن فلانًا قال: وأبي لا أفعل كذا وكذا، ومن هذا قيل: حديث مأثور، أي: يخبر به الناس بعضهم بعضًا، يقال منه: أثرت -مقصورًا- الحديث آثرهُ أثرًا، فهو مأثور وأنا آثِرُ -على مثال فاعل- قال الأعشى: إن الذي فيه تماريتُما ... بيّن للسامع والآثِر وأما قوله: "ولا ذاكرًا" فقال عنها أيضًا (2/ 58)، ذاكرًا فليس من الذكر بعد النسيان، إنما أراد متكلمًا به كقولك: ذكرت لفلان حديث كذا وكذا. انظر أيضًا شرح السنة (10/ 4). (¬1) إحكام الأحكام (4/ 394). (¬2) أحمد (2/ 86، 87، 125)، والترمذي (1535)، وأبو داود (3251)، =

"مستدركه" من حديث ابن عمر وقال: صحيح على شرط الشيخين وللأول: أن يحمله على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقد في الله تعالى. فإن قلت: ما يصنع بقوله -عليه الصلاة والسلام- للأعرابي: "أفلح وأبيه إن صدق". قلت: عنه أجوبة: أحدها: أن هذا كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف. قاله جماعات منهم البيهقي في "سننه" (¬1). وقال النووي في "شرحه" (¬2) إنه الجواب المرضي. قال ابن الأثير في "جامعه" (¬3): وهذه اللفظة جارية في كلام العرب على ضربين: للتعظيم، وللتأكيد، والتعظيم هو المنهي عنه وأما التوكيد فلا، كقول الشاعر: لعمر أبي الواشين لا عمرُ غيرهم ... لقد كلفتني خطة لا أُريدها فهذا توكيد لأنه لا يريد أن يقسم بأبي الواشين. وهذا في كلامهم كثير. الثاني: أنه على حذف مضاف، أي: ورب أبيه. وعبارة البيهقي عنه في "سننه" (¬4) يحتمل أنه كان -عليه الصلاة ¬

_ = والطيالسي (1896)، والبيهقي (10/ 29)، والحاكم (1/ 18)، (4/ 297). (¬1) السنن للبيهقي (10/ 29). (¬2) (11/ 105) ويبحث عنه عند تخريج الحديث. (¬3) (1/ 224)، (11/ 652). (¬4) السنن الكبرى (10/ 29).

والسلام- أضمر فيه اسم الله تعالى كأنه قال: لا ورب أبيه وغيره لا يضمر. بل يذهب فيه مذهب التعظيم لأبيه. ثالثها: أنه قبل النهي قاله البيهقي (¬1) والماوردي (¬2) وغيرهما. وسمعت شيخنا يجيب بجوابين آخرين: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون الحديث "أفلح والله" فقصَّر الكاتب اللامين فصارت "وأبيه". ثانيهما: خصوصية ذلك بالشارع دون غيره وهذه دعوى لا برهان عليها. وأغرب القرافي -رحمه الله- حيث قال: هذه اللفظة وهي "وأبيه" اختلف في صحتها فإنها ليست في "الموطأ" وإنما فيها أفلح إن صدق، وهذا عجيب، فالزيادة بأبيه لا شك في صحتها ولا مرية. فإن قلت: فقد وقع في القرآن العظيم القسم بغيره تعالى كالشمس، والعاديات والضحى والليل وغير ذلك. قلت: عنه جوابان: أحدهما: أنه على حذف مضاف أيضًا كما سلف في الحديث. ثانيهما: أن الله تعالى يقسم بما شاء للتنبيه على شرفه [فإنه المتصرف في ملكه كيف شاء] (¬3) ونحن لا نتصرف إلَّا كما أذن لنا ¬

_ (¬1) المرجع السابق. وانظر (فتح الباري) (1/ 107، 108). (¬2) الحاوي الكبير (19/ 309). (¬3) بياض بالأصل.

وقد أبلغنا نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فقال: من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت. تنبيهات: أحدها: يكره أيضًا أن يحلف بغير الله تعالى. قال الماوردي من أصحابنا: ولا يجوز أن يحلف أحد بطلاق ولا عتاق ولا نذر لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة وإلزام عزم، قال: وإذا حلّف الحاكم بذلك عزله الإِمام لجهله. ثانيها: الحلف بالأمانة أشد كراهة من غيره. وفي سنن أبي داود (¬1) من حديث بريدة رفعه: "من حلف بالأمانة فليس منا" "وكان عمر - رضي الله عنه - ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي" رواه أحمد في كتاب "الزهد" له. ثالثها: لو خالف وحلف بغيره كالنبي والكعبة وغيرها من المخلوقات لم ينعقد يمينه، وقال أحمد: تنعقد بالنبي لأنه أحد ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3253)، وأحمد (5/ 352)، والحاكم وصحح إسناده ووافقه الذهبي (4/ 298). قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 46)، على قوله: "من حلف بالأمانة ليس منا" هذا يشبه أن تكون الكراهة فيها من أجل أنه إنما أمر أن يحلف بالله وصفاته، وليست الأمانة من صفاته، وإنما هي أمر من أمره، وفرض من فروضه، فنُهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله عَزَّ وَجَلَّ وصفاته.

ركني الشهادة كاسم الله تعالى (¬1). الحكم الثاني: إباحة الحلف بالله تعالى. قال أصحابنا: وهي مكروهة لأنه جعل الله تعالى عرضة يمينه وقد نهاه عنه ولأنه ربما عجز عن الوفاء بها ويستثنى من هذا مسائل. الأولى: أن تكون في طاعة كقوله: "والله لأغزون قريشًا" (¬2). الثانية: الأيمان الواقعة في الدعاوى إذا كانت صادقة. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإِسلام في الفتاوى -رحمنا الله وإياه- (1/ 335)، وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بأحد من الشيوخ أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه. فإنه للعلماء في ذلك قولين. والصحيح أنه نهي تحريم، ففي الصحيح عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه قال: "من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت"، وفي الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين أنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلَّا في نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فإنه عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه -كابن عقيل- الخلاف في سائر الأنبياء وهو ضعيف. وأصل القول بانعقاد اليمين النبي ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح. اهـ. (¬2) أبو داود مرسلًا (3285، 3286)، والبيهقي مرسلًا (10/ 47)، وأبو يعلى (2674، 2675)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 378)، والطبراني (11742).

الثالثة: إذا دعت إليها حاجة كتوكيد وتعظيم أمر وعليه ينزّل ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من الحلف وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله تعالى للآية السالفة. الثالث: حكم سائر أسمائه تعالى حكم هذا الاسم بالاتفاق. الرابع: جواز الحلف بالصفات أيضًا كالعلم والقدرة والعظمة والعزة والكبرياء والكلام والمشيئة (¬1) لأن الحلف بها كالحلف بالذات فينعقد اليمين وإن أطلق، إلا أن يسوي بالعلم المعدوم وبالقدرة المقدور وفيه خلاف محل بسطه كتب الفقه فإنه أليق به. واعلم أن ما يقسم به ثلاثة أنواع: أحدها: ما يباح به اليمين وهو القسم بأسماء الله تعالى وصفاته العلية وقد سلف. ثانيها: ما يحرم به اليمين وهو القسم بالأنصاب والأزلام واللات والعزى ونحو ذلك. فإن قصد تعظيمًا كفر، وإلا أثم. وممن نص على ذلك من المالكية ابن الحاجب ومثله الحلف بنعمة السلطان وتربة الشهيد ونحو ذلك. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل: لا إله ¬

_ (¬1) ولفظه من حديث ابن عمر قال: كان يمين النبي - صلي الله عليه وسلم - التي يحلف عليها: "لا ومقلب القلوب". البخاري (6617)، النسائي (7/ 2)، أحمد (2/ 25)، الدارمي (2/ 187)، الترمذي (540)، وابن ماجه (2093).

إلَّا الله" (¬1)، وإنما أمر بذلك لأنه تعاطى بحلفه صورة تعظيم الأصنام حتى حلف بها ولا كفارة عليه في هذا عند مالك والشافعي والجمهور خلافًا لأبي حنيفة. ثالثها: ما يختلف فيه بالتحريم والكراهة وهو ما عدا ذلك مما يقتضي تعظيمه كفرًا. الحكم الخامس: المبالغة في الاحتياط في الكلام بأن لا يحكى قول الغير الذي منع الشرع منه لئلا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعًا وهذا معنى قول عمر - رضي الله عنه -: "ولا آثرًا". ¬

_ (¬1) البخاري (4860)، ومسلم (1647)، وأبو داود (3247)، والترمذي (1545)، والنسائي (7/ 7)، وابن ماجه (2096) وأحمد (2/ 309).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 378/ 4/ 72 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: "قال سليمان بن داود -عليهما السلام-: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل إن شاء الله فلم يقل, فطاف بهن، فلم تلد منهن إلَّا امرأة واحدة: نصف إنسان. قال: فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته" (¬1). قوله: "قيل له: قل إن شاء الله". يعني: قال له الملك. الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وبالأسماء الواقعة فيه. أما سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فهو أحد المؤمنين الذي ملكهما تعالى الدنيا كلها والآخر ذو القرنين وقيل: إن ¬

_ (¬1) البخاري (2819)، ومسلم (1654)، والنسائي (7/ 25)، وفي الكبرى له (9032، 1302)، والبغوي (79)، وأحمد (229/ 2، 275، 506)، والبيهقي (10/ 44)، والحميدي (1174)، وعبد الرزاق في تفسيره (1/ 337).

الدنيا كلها ملكها أربعة: مؤمنان وهما هذان، وكافران وهما نمرود وبخت نصّر. قال القضاعي: ويقال إنه ملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة من عمره وسخر الله معه الجن والإِنس والطير والريح وأتاه النبوة، وكان إذا جلس في مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإِنس والجن، وكان إذا أراد سفرًا لغزوٍ أمر فنصب له خشب وحمل عليه ما يريد من الناس والدواب وآلة الحرب ثم يأمر العاصف من الريح فيدخل تحت ذلك الخشب ليحمله فإذا انتقل أمر الرخا فمدته شهرًا في غدوه وشهرًا في روحته إلى حيث يشاء. عاش ثلاثًا وخمسين سنة. وترجمته مبسوطة في كلامي على رجال هذا الكتاب فراجعها منه. وأما والده: على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فترجمته أيضًا مبسوطة في الكتاب المذكور فراجعها منه. وأما التعريف براويه فسلف أول الكتاب. الوجه الثاني: في ألفاظه ومعانيه: قوله: "لأطوفن" كذا هو في الروايات كلها وفي بعض نسخ "صحيح مسلم" و"البخاري" "لأطيفن" وهما لغتان فصيحتان يقال: طاف بالشيء وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه فهو طائف ومطيف وهو هنا كناية عن الجماع. واللام في قوله: "لأطوفن" الظاهر أنها لام جواب القسم، أي: والله لأطوفن ويؤيده قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو قال إن شاء الله لم يحنث", لأن عدم الحنث ووجوده لا يكون إلَّا عن قسم ويبعد أن تكون ابتدائية، وأن ذلك حكاية عن قول سليمان من غير قسم.

وقوله: "على سبعين امرأة" هو إحدى الروايات من قدر ذلك. وفي أخرى في مسلم "كان له ستون امرأة فقال: لأطوفن عليهن الليلة"، وفي أخرى له: "على تسعين امرأة". وفي كتاب النكاح من البخاري "مائة امرأة". وجاء في رواية أخرى: "على تسع وتسعين" ولا منافاة بين هذه الروايات لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير وهو من مفهوم العدد ولا يعمل به جمهور أهل الأصول. وقوله: "تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله". هذا قاله على سبيل التمني للخير وجزم بذلك لغلبة رجائه وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى لا لعرض الدنيا. قال بعض المتكلمين: نبه -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التسليم [والتفويض] (¬1) قال: ومن آفته نسيانه الاستثناء ليمضي فيه القدر السابق. و"الغلام" سلف الكلام فيه لغة. على الحديث الرابع من باب الاستطابة، والمراد هنا الشاب المطيق للقتال. وقوله: " [قيل له:] (¬2) قل إن شاء الله". يعني: قاله له الملك كما سلف من كلام المصنف وهو مصرح به في "صحيح البخاري" في نفس الحديث وهذا لفظه، "فقال له الملك: قل إن شاء الله فلم يقل ونسي" ذكره في أثناء النكاح (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في هـ ساقطة. (¬3) الفتح (9/ 450) رقم (5242).

وفي "صحيح مسلم": "فقال له صاحبه: أو الملك". وهو شك من أحد رواته، وفي رواية له: "فقال له صاحبه"، بالجزم من غير تردد. قال القرطبي (¬1): فإن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإِنس أو من الجن، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي. قال: وقد أبعد من قال: هو خاطره. وقال النووي (¬2): قيل المراد بصاحبه الملك وهو الظاهر من لفظه وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي. وقوله: "فقيل له قل إن شاء الله فلم يقل". قال القاضي عياض (¬3): قد فسر في الحديث الآخر بقوله: "فنسي"، وقيل: صرف عن الاستثناء ليتم سابق حكمه تعالى. وقيل: هو على التقديم والتأخير، والتقدير: فلم يقل إن شاء الله فقيل له: قل إن شاء الله. وقوله: "فلم يقل"، أي بلسانه لا أنه غفل عن التفويض إلى الله بقلبه فإنه لا يليق بمنصب النبوة. قال القرطبي (¬4): وهذا كما اتفق لنبينا محمَّد -عليه أفضل الصلاة والسلام- لما سئل عن الروح، والخضر، وذي القرنين، فوعدهم أن يأتي بالجواب غدًا، جازمًا بما عنده من معرفته بالله لكنه ذهل عن النطق بالمشيئة لا عن التفويض فاتفق أن تأخر الوحي عنه ¬

_ (¬1) المفهم (4/ 637). (¬2) شرح مسلم (11/ 120). (¬3) ذكره في (إكمال إكمال المعلم)، (4/ 377). (¬4) المفهم (4/ 637).

ورمى بما رمي لأجل ذلك ثم علمه الله بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية. فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب. وقوله: "وطاف بهن" في بعض روايات البخاري: "فأطاف بهن" وقد تقدم أنها لغتان. وقوله: "نصف إنسان". قيل: إنه الجسد الذي ذكر الله أنه ألقي على كرسيه. وفي مسلم "شق غلام" وفي لفظ: "بشق رجل" وفي بعض طرق البخاري: "فلم يحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا إحدى شقيه". وقوله: "لو قال إن شاء الله" إلى آخره، هذا محمول إلى أنه -عليه الصلاة والسلام- أوحي إليه بذلك في حق سليمان لا أن كل من فعل هذا لم يحصل له هذا. وفي بعض طرقه في الصحيح: "وأيم الله الذي نفس محمَّد بيدِه لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله". وهذا من خصائص نبينا -عليه الصلاة والسلام- في اطلاعه على أخبار الأنبياء السالفة والأمم الماضية. وقوله: "وكان دركًا لحاجته" هو بفتح الراء اسم من الإِدراك، أي: لحاقًا. قال تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} (¬1). المعنى أنه كان يحصل له ما أراد. وفي رواية للبخاري: "وكان أرجى لحاجته". الوجه الثالث: في فوائده وأحكامه: الأولى: قصد فعل الخير وتعاطي أسبابه. ¬

_ (¬1) سورة طه: آية 77.

الثانية: استحباب الاستثناء لمن قال سأفعل كذا قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. وكان -عليه الصلاة والسلام- يقولها إذا مرَّ على المقابر أيضًا. وقد ظهر أثر المشيئة أيضًا في قصة يأجوج ومأجوج لما قال الذي عليهم "ارجعوا وستحفرونه غدًا" (¬1). -يعني: السد- إن شاء الله فيجدونه كهيئته حين تركوه، فيحفرونه، ويخرجون"، وفي كل يوم قبل ذلك لم يستثن فيجدونه كأشد ما كان فينبغي إذن أن لا يترك في حال. الثالثة: ما خص به الأنبياء من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة. وكان نبينا عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام يطوف على إحدى عشرة في الساعة الواحدة كما ثبت في الصحيح (¬2). وهذا كله من زيادة القوة وصحة البنية مع ما كانوا فيه من الجهد كما هو معلوم من حالهم. وهو يوجب في العادة الضعف عن ذلك فخرق الله لهم العادة في أبدانهم كما خرقها لهم في معجزاتهم وأكثر أحوالهم. وحكى القرطبي في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3). قال: كان سليمان أكثر الأنبياء نساء اجتمع ¬

_ (¬1) الترمذي (3153)، وأحمد (2/ 510، 511)، وابن ماجه (4080)، وتفسير الطبري (16/ 21)، والحاكم (4/ 488). وقال ابن كثير في تفسيره لسورة الكهف: آية (97): إسناده قوي جيد لكن في رفعه نكارة. . . . إلخ. (¬2) ولفظه عن أنس: "كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة". الحديث أخرجه البخاري (268). (¬3) سورة النساء: آية 54. انظر: تفسير القرطبي (5/ 250).

عنده ألفا امرأة وثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية وكان له قوة أربعين نبيًا. [وقال مجاهد أعطي نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قوة أربعين رجلًا كل رجل من أهل الجنة. قال القاضي حسين: لا يجوز أن يوصف نبي من الأنبياء بالعنة لأنها عيب وهم منزهون عن العيوب، ذكره رادًا على من فسر "الحصور" بأنه الذي لا يأتي النساء عجزًا] (¬1). قال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلَّا الجماع فإنه يصفيه، ولذلك كانت الأنبياء تفعله كثيرًا. ويقال: إن كل من كان اتقى الله فشهوته أشد لأن الذي لا يكون تقيًا يتفرّج بالنظر وغيره بخلاف التقي. رابعها: أن اتباع المشيئة لليمين بالله ترفع حكمها. قال القاضي عياض (¬2): أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله، يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلًا قال: ولو جاز منفصلًا كما روي عن بعض السلف لم يحنث في يمين قط ولم يحتج إلى كفارة. قال: واختلفوا في الاتصال. فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله: "إن شاء الله" متصلًا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة التنفس والقيء. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، حيث ذكر في أعلى اللوحة الآتية وهو غير واضح. انظر: (عمدة الحفاظ)، (126). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 477).

والأصح عند أصحابنا: اشتراط نيّة الاستثناء قبل فراغ اليمين أيضًا. وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين: أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم، وقال عطاء: قدر حلبة ناقة. وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وعن ابن عباس الاستثناء أبدًا متى يذكره، وعنه إلى شهر وعنه إلى سنة، وعن بعضهم له ذلك سنة أو سنتين. وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنه يستحب له قول إن شاء الله تبركًا ولقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}. ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث. وأما قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فقال له صاحبه قل إن شاء الله"، فلا دلالة فيه على جواز الانفصال لأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين، أو أن الذي جرى منه ليس بيمين فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين. أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال: أنت طالق إن شاء الله أو أنت حر إن شاء الله، أو أنت عليّ كظهر أمي إن شاء الله، وما أشبه ذلك. فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور: صحة الاستثناء في جميع ذلك كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى فلا يحنث في طلاق ولا عتق ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قول إن شاء الله.

وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من هذا إلا اليمين بالله تعالى. وقال الحسن: يصح فيها وفي العتق والطلاق خاصة. قال الشيخ تقي الدين (¬1): فرّق مالك بين الطلاق واليمين بالله تعالى، وإيقاعه الطلاق بخلاف اليمين بالله, لأن الطلاق حكمًا قد شاءه الله مشكل جدًا. قلت: وبعض متأخري المالكية استدل بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". فاليمين المشروعة هي بالله تعالى فانصرف الاستثناء في هذا الحديث وغيره إليها بخلاف غيرها فإنها لم تشرع فلا ينصرف الاستثناء إليها. تنبيه: المشيئة ترد على أوجه: أحدهما: إلى الفعل المحلوف عليه، مثلًا كقوله: "لأدخلن الدار إن شاء الله" وأرد رد المشيئة إلى الدخول، أي: إن شاء الله دخولها. وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ولا يحنث إن لم يفعل. ثانيها: أن ترد إلى نفس اليمين، فلا ينفعه الرجوع، لوقوع اليمين وتيقن مشيئة الله تعالى. ثالثها: أن يذكره على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 397).

الله وامتثالًا للآية السالفة لا على قصد معنى التعليق. وهذا لا يرفع حكم اليمين (¬1). الحكم الخامس: أن الاستثناء لا يكون إلَّا باللفظ ولا تكفي فيه النية لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو قال إن شاء الله لم يحنث" وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة. وحكي عن بعض المالكية أن قياس قول مالك إن اليمين تنعقد بالنية صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ، وتبع بعضهم ذلك وفرق بأن اليمين خروج من الإِباحة إلى الحرمة فيكفي فيها أيسر الأسباب بخلاف الاستثناء فلا يكفي فيه إلا أقواها. السادس: إن الكناية في اليمين مع النية، فالصريح في حكم اليمين, لأنه -عليه الصلاة والسلام- حكى عن سليمان -عليه السلام- أنه قال: "لأطوفن" وليس فيه التصريح باسم الله تعالى، لكنه مقدر، لأجل اللام الداخلة على قوله: "لأطوفن" فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين ينعقد بمثله فالحديث حجة لمن قاله, وإن لم يكن فيحتاج إلى تأويله وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحًا في المحكي وإن كان ساقطًا في الحكاية، وهذا ليس بممتنع في الحكاية. فإن من قال: "والله لأطوفن" فقد قال: "لأطوفن" فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد (¬2). السابع: إذا تقرر ذلك فلا صراحة في الحديث على مقسم به ¬

_ (¬1) ساقها (إحكام الأحكام)، (4/ 397). (¬2) ساقها من (إحكام الأحكام)، (4/ 398).

معين، فقد يستدل به عن قال: أحلف أو أشهد وما أشبه ذلك أنه يمين إذا نواه وهو مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: ويمين مطلقًا. وقال الشافعي: لا مطلقًا. الثامن: جواز الإِخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل، بناءً على الظن، فإن هذا الإِخبار -أعني قول سليمان -عليه الصلاة والسلام- تلد كل امرأة منهن غلامًا- فلا يجوز أن يكون عن وحي، وإلَّا لوجب وقوع مخبره. وأجاز أصحابنا الحلف على الظن في الماضي [وقالوا: يجوز أن يحلف على خط مورثه إذا وثق بخطه وأمانته وجوزوا العمل به واعتماده. وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز العمل بالقرينة وإن كانت ضعيفة وذكره بعض المالكية احتمالًا. التاسع: قد يؤخذ منه ثبوت حكم الاستثناء وإن لم ينو من أول اللفظ, لأن الملك قال له: "قل إن شاء الله" عند فراغه من اليمين، فلو لم يثبت حكمه لما أفاد قوله. قال الشيخ تقي الدين (¬1): لكن يمكن أن يجعل ذلك تأدبًا لا لرفع اليمين، فلا يكون فيه حجة، وأقوى من ذلك في الدلالة قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو قال إن شاء الله, لم يحنث" مع احتماله للتأويل. وصحح أصحابنا أنه لابد من نية الاستثناء قبل فراغ اليمين ¬

_ (¬1) انظر: إحكام الأحكام (4/ 399).

كما مضى, وقال بعضهم: يشترط نيته من أولها. والصحيح من مذهب مالك أيضًا أن الشرط أن ينوي معها أو مع آخر حرف من حروفها، وقيل: لابد من نيته قبل قطعه بجميع حروف اليمين والله أعلم. العاشر: جواز استعمال "لو، ولولا" لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو قال إن شاء الله لم يحنث". وقد جاء في القرآن كثيرًا. وفي كلام الصحابة والسلف وترجم البخاري (¬1) على هذا باب ما يجوز من اللو، وأدخل فيه قول لوط -عليه الصلاة والسلام-: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (¬2) وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه" (¬3)، "لو مُد لي الشهر لواصلت" (¬4)، "ولولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم -عليه السلام-" (¬5)، "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" (¬6)، وأمثال هذا. قال القاضي عياض (¬7): والذي يفهم من ترجمة البخاري وما ذكره في الباب من الآيات والآثار إنه يجوز استعمال لو ولولا فيما يكون من الاستقبال فما امتنع من فعله لامتناع غيره، وفيما هو من ¬

_ (¬1) البخاري (13/ 224). (¬2) سورة هود. (¬3) البخاري (7238). (¬4) البخاري (7241)، ومسلم (1104). (¬5) البخاري (1586)، ومسلم (1333)، وأحمد (6/ 239)، وابن خزيمة (3020). (¬6) البخاري (3779)، وأحمد (3/ 246)، والبغوي (3976). (¬7) انظر إكمال المعلم (5/ 420، 421) للاطلاع على عبارته.

باب الممتنع من فعله لوجود غيره وهو من باب "لولا" ولم يدخل في الباب سوى ما هو الاستقبال أو ما هو حق صحيح مستيقن لحديث: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"، دون الماضي والمنقضي أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق. وقد ثبت في الحديث الصحيح الآخر في مسلم "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل". قال القاضي: حكاية (¬1) عن بعض العلماء: هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب "أنه لو كان كذا لكان كذا" من غير ذكر مشيئة الله تعالى والنظر إلى سابق قدره وحق علمه علينا، فأما إذا قاله على التسليم ورد الأمر إلى المشيئة فلا كراهة فيه. قال القاضي: وأشار بعضهم إلى أن "لولا" بخلاف "لو". قال القاضي (¬2): والذي عندي أنهما سواء إذا استعملتا فيما لم يحط به الإِنسان علمًا، ولا هو داخل تحت مقدور قائلها مما هو تحكم على الغيب واعتراض على القدر كما نبه عليه في الحديث. ومثله قول المنافقين: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، {أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا} , فرد الله عليهم باطلهم فقال: {فَادْرَءُوا عَنْ ¬

_ (¬1) ذكره في (إكمال إكمال المعلم)، (4/ 376). (¬2) ذكره في المرجع السابق.

أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}. فمثل هذا هو المنهي عنه، وأما هذا الحديث الذي نحن فيه فإنما أخبر -عليه الصلاة والسلام- فيه عن يقين نفسه أن سليمان -عليه الصلاة والسلام-: "لو قال إن شاء الله لجاهدوا"، إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والاجتهاد وإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى وهو نحو قوله -عليه الصلاة والسلام- "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها" (¬1) فلا ¬

_ (¬1) البخاري (3330)، ومسلم (1470)، وقوله: "لم يخنز اللحم" بالخاء المعجمة، والنون، والزاي، يقال: خنز اللحم يخنز من باب تعب: إذا أنتن وتغير ريحه، وفيه لغة أخرى أنه من باب قعد. قال النووي -رحمنا الله وإياه- في "شرح مسلم" (10/ 59): قال العلماء: معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى نُهوا عن إدخارهما، فادخروا، ففسد، وأنتن، واستمر من ذلك الوقت. وقوله: "لم تخن أنثى زوجها". قال الحافظ -رحمنا الله وإياه- في "الفتح (6/ 368): فيه إشارة إلى ما وقع من حواء في تزيينها لآدم الأكل من الشجرة حتى وقع في ذلك، فمعنى خيانتها: أنها قبلت ما زين لها إبليس حتى زينته لآدم، ولما كانت هي أم بنات آدم أشبهنها بالولادة ونزع العرق، فلا تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو بالقول، وليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلا, ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحَسَّنت ذلك لآدم، عُدَّ ذلك خيانةً له، وأما من جاء بعدها من النساء، فخيانة كل واحدة منهن بحسبها. قال الشيخ أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على الحديث في "المسند" (8019) بعد أن نقل كلام الحافظ: وأزيد على قول الحافظ: إنه لم يكن هناك رجال غير آدم حتى يوجد احتمال أن تكون الخيانة بارتكاب الفواحش. اهـ.

معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن "لو"، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. وكذا ما جاء من "لولا"، كقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ}، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا}، {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ}. لأن الله تعالى مخبر في ذلك عما مضى أو يأت عن علم خبر قطعيًا، وكل ما يكون من "لو" "ولولا" مما يخبر به الإِنسان عن علة امتناعه من فعله مما يكون فعله في قدرته فلا كراهة فيه لأنه إخبار حقيقة عن امتناع شيء لسبب شيء أو امتناع أو حصول شيء لامتناع [شيء] (¬1). وتأتي "لو" غالبًا لبيان السبب الموجب أو النافي فلا كراهة في كل ما كان من هذا إلا أن يكون كاذبًا من ذلك كقول المنافقين "لو نعلم قتالًا لاتبعناكم". الحادي عشر: فيه أيضًا استحباب التعبير باللفظ الحسن عن غيره فإنه عبر عن الجماع بالطواف كما سلف نعم لو دعت ضرورة شرعية إلى التصريح به لم يعدل عنه. ¬

_ (¬1) زيادة من شرح مسلم (11/ 123).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 379/ 5/ 72 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرىءٍ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، إلى آخر الآية (¬1). الكلام عليه من وجوه: والتعريف براويه سلف في أول الصلاة: الأول: يجوز تنوين "يمين" على أن يكون صبرٍ صفة لها ويكون من باب رجل عدل وترك تنوينه على الإِضافة، وهو المعروف المشهور في الرواية. الثاني: معنى "الصبر" هنا الحبس كما وجد في بعض نسخ الكتاب، أي: يحبس نفسه على اليمين بها كاذبة غير مبالٍ بها فكأنه ¬

_ (¬1) البخاري (2515)، ومسلم (138)، وأبو داود (3243)، والترمذي (2996، 1269)، والنسائي في الكبرى (5991، 5992)، وابن الجارود (926)، والحميدي (95)، وأبو عوانة (1/ 38، 39)، وابن ماجه (2323)، والبيهقي في السنن (10/ 427)، وأحمد (1/ 377)، والبغوي في السنة (1/ 130)، وابن أبي شيبة (5/ 252).

يحبس نفسه على أمر عظيم وهي اليمين الحانثة، ومنه نهى أن تصبّر البهائم (¬1)، أي: تحبس وتجعل غرضًا يرمى إليها. وقال القاضي عياض (¬2): الصبر هنا يحتمل أن يكون بمعنى الإِكراه، أي: أكره حتى حلف، ويحتمل أن يكون بمعنى الجرأة والإِقدام ومنه قوله تعالي: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}. قلت: هذا الثاني هو الظاهر مع ما ذكرته من كونه الحبس. الثالث: هذه اليمين تسمى أيضًا غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإِثم أو في النار، وهي من الكبائر وتتعلق بها الكفارة عند الشافعي خلافًا للأئمة الثلاثة، قالوا: وإثمها أعظم من أن يكفر، قال الماوردي (¬3) وغيره من الشافعية: وهذه اليمين يستحيل فرض انعقادها لأن عقدها، إنما يكون فيما ينتظر بعدها من برأو حنث، وهذه اليمين قد اقترن بها الحنث بعد استيفاء لفظها، فلذلك لم تنعقد، ووجبت الكفارة باستيفاء اليمين، ونحن نعتبر في وجوب الكفارة مجرد [. . .] (¬4) والحنث، وقد وجدا في هذه اليمين ولا يعتبر الانعقاد. ¬

_ (¬1) من حديث جابر عند مسلم ولفظه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل شيء من الدواب صبرًا". أخرجه مسلم (1959)، ومن حديث أبي أيوب ولفظ "نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن صبر البهائم". أخرجه أحمد (5/ 422)، والدارمي (2/ 83)، والبيهقي في السنن (9/ 71). (¬2) أشار إليه في إكمال إكمال المعلم (1/ 220، 242). (¬3) الحاوي الكبير (19/ 317). (¬4) بياض بمقدار كلمة (في الأصل).

الرابع: كأن ذكر المسلم [. . .] (¬1) من باب التشنيع على الحالف والحالة هذه كما يقال ذم العالم حرام وإن كان ذم غيره حرام لكن قيل هذا أشنع من قبل غيره ممن لم يتصف بهذا الوصف. وقال القاضي: خص بالذكر لأنه المخاطب وغالب المعاملات واقعة معه. الخامس: في الحديث وعيد شديد لفاعل هذه اليمين الكاذبة فإن غضب الله تعالى هو إرادة إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته (¬2) وذلك لما فيه من أكل المال بالباطل ظلمًا وعدوانًا والاستخفاف بحرمة اليمين بالله تعالى. سادسًا: فيه أيضًا تعظيم حرمة مال المسلم وإن قل وعصمته وهو دال على حرمة ذاته من باب أولى. سابعًا: فيه أيضًا تعظيم القسم بالله مطلقًا. الثامن: هذا الحديث يقتضي تفسير الآية المذكورة بالمعنى السالف وفي ذلك اختلاف المفسرين, ويترجح قول من ذهب إلى هذا المعنى لهذا الحديث وسيأتي من حديث الأشعث بن قيس الآتي أنها نزلت فيه وفي صاحب له في بئر كانت بينهما. ¬

_ (¬1) بياض بمقدار كلمة (في الأصل)، ولعلها (هنا). (¬2) الغضب من الصفات الفعلية لله التي يجب على الإِنسان إثباتها اتباعًا للكتاب والسنَّة أما تأويل الغضب بالإرادة فهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة.

وفي "صحيح البخاري" (¬1) من حديث عبد الله بن أبي أوفى "أن رجلًا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطى ما لم يعطِ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين فنزلت"، والله أعلم. وعن عكرمة (¬2) وعطاء أنها نزلت في رؤوس اليهود كعب بن الأشرف وغيره لما كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم المآكل والدعوة والرُشى التي كانت عليهم من أتباعهم. واعلم أن بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر يحصل للصحابة بقرائن مختلفة بالقضايا حتى قال بعض المحدثين تعيين الصحابي مرفوع مطلقًا لأنهم أعلم بتنزيل الوحي ومواقعه وأسبابه، والصحيح أن ما تعلق بسببه نزول آية أو تقديم حكم أو غيره مرفوع وإلَّا فموقوف. التاسعة: هذه الآية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد حقوق ونحوها وكل أحد يأخذ من وعيدها على قدر جريمته. العاشر: يؤخذ منه أن حكم الحاكم لا يغير سببًا ولا يخرجه عن حقيقته التي هو عليها في نفس الأمر وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور خلافًا لأبي حنيفة. ¬

_ (¬1) كتاب الشهادات (2675) في باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، وفي التفسير: باب قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (4551). (¬2) تفسير الطبري (6/ 528). سورة آل عمران: آية (77).

الحادي عشر: يدخل فيه المورِّي في الأيمان فإنها لا تنفعه إذا كان المحلف حاكمًا وحلفه بالله تعالى، فإن حلفه بغيره كالطلاق والعتاق إذا حلف ابتداء من غير تحليف حاكم أو حلفه غير حاكم بنفيه. نعم لا يجوز فعلها إذا كان فيها إبطال حق مستحق عليه إجماعًا، هذا تفصيل مذهب الشافعي. ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك خلاف وتفصيلًا ليس هذا موضع ذكره فإن محله كتب الفروع.

الحديث السادس

الحديث السادس 380/ 6/ 72 - عن الأشعث بن قيس قال: "كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: شاهداك، أو يمينه. قلت: إذًا يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال أمرىء مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله [عز وجل] (¬1) وهو عليه غضبان" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث مذكور في الصحيحين عقب حديث ابن مسعود، ذكره البخاري في مواضع منها: في الشهادات في باب: سؤال الحاكم المدعي هل لك بينة قبل اليمين؟ (¬3) عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين ¬

_ (¬1) زيادة من متن عمدة الأحكام. (¬2) البخاري أطرافه (2356)، مسلم (220)، أبو داود (3/ 565)، ابن ماجه (2/ 778)، الترمذي (3/ 565)، (5/ 224)، الطيالسي (95)، أحمد (5/ 211). (¬3) البخاري الفتح (2666، 2667).

-وهو فيها فاجر- ليقتطع بها مال امرىءٍ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان. قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي - صلي الله عليه وسلم -، فقال لي: ألك بينة؟ قال قلت: لا، فقال لليهودي: احلف. قال قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذًا يحلف ويذهب بمالي. قال فأنزل الله عنه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. . . .} إلى آخر الآية. ومنها إثر هذا الباب ذكره (¬1) موقوفًا على ابن مسعود عن أبي وائل عنه: "من حلف على يمين يستحق بها مالًا لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم أنزل الله تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {أَلِيمٌ (77)} ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بما قال، فقال: صدق، لفي أُنزلت هذه الآية، كان بيني وبين رجل خصومة في شيء، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: شاهداك أو يمينه. فقلت له: إنه إذن يحلف ولا يبالي، فقال النبي - صلي الله عليه وسلم -: من حلف على يمين يستحق بها مالًا -وهو فيها فاجر- لقي الله وهو عليه غضبان". فأنزل الله تصديق ذلك. ثم قرأ هذه الآية. ثم ذكره بعد هذا بورقة (¬2) عن أبي وائل عن عبد الله مرفوعًا "من حلف على يمين كاذبًا ليقتطع بها مال الرجل -أو قال أخيه- ¬

_ (¬1) كتاب الشهادات، باب: اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود. رقم (2669، 2670). (¬2) كتاب الشهادات، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ}، رقم (2677، 2676).

لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله تصديق ذلك في القرآن {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {أَلِيمٌ (77)}. فلقيني الأشعث فقال: ما حدثكم عبد الله اليوم؟ قلت: كذا وكذا. قال: بلى فيَّ أنزلت. وذكره في كتاب الرهن (¬1) في باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، موقوفًا على عبد الله من رواية أبي وائل عنه "من حلف على يمين يستحق بها مالًا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم أنزل الله تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} إلى قوله: {أَلِيمٌ (77)}، ثم إن الأشعث خرج إلينا فذكره كما سلف، إلَّا أنه قال في "بئر" بدل "في شيء" وقال بعد وهو عليه غضبان، ثم قرأ هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}، إلى قوله: {أَلِيمٌ (77)}. وذكره في الأيمان (¬2) في باب عهد الله عَزَّ وَجَلَّ من حديث أبي وائل أيضًا عن عبد الله مرفوعًا "من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم -أو قال أخيه- لقي الله وهو عليه غضبان. فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ تصديقه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية [قال سليمان في حديثه] (¬3) فمر الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم عبد الله؟ قالوا له. فقال الأشعث: نزلت فيَّ وفي صاحب لي في بئرٍ كانت بيننا". ¬

_ (¬1) كتاب الرهن، باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحو رقم (2515، 2516). (¬2) ح رقم (6659). (¬3) زيادة من البخاري ح رقم (6660).

وذكر بعد هذا بورقتين في باب قوله [الله] (¬1) تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية من حديث أبي وائل أيضًا عنه مرفوعًا "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} إلى آخر الآية (¬2). فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا: كذا وكذا، فقال: فيَّ أُنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي [فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) فقال بينتك أو يمينه، قلت: إذًا يحلف عليها يا رسول الله. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان". وأما مسلم فذكره في أول كتابه في أثناء الإِيمان مرفوعًا من حديث أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، [هو فيها فاجر] (¬4) لقي الله وهو عليه غضبان". قال: فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا: كذا وكذا. قال: صدق أبو عبد الرحمن [فيَّ نزلت] (¬5)، كان بيني وبين رجل أرض باليمن. فخاصمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هل لك عليه بينة؟ " فقلت: لا. ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري الفتح (11/ 557). (¬2) رقم (6677). (¬3) زيادة من البخاري. (¬4) زيادة من البخاري. (¬5) زيادة من البخاري.

قال: "فيمينه". قلت: إذن يحلف. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -, عند ذلك "من حلف على يمين صبر, يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ. . .} إلى آخر الآية. ثم رواه من حديث أبي وائل أيضًا عن عبد الله، قال: من حلف على يمين يستحق بها مالًا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. ثم ذكر نحو ما قاله، غير أنه قال: كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقال: "شاهداك أو يمينه". ثم رواه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله رفعه "من حلف على مال امرىءٍ مسلم بغير حقه، لقي الله وهو عليه غضبان" قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله: "إن الذين يشترون" إلى آخر الآية. هذا سياق رواية الصحيحين للحديثين فتأمل سياق المصنف لهما تجد فيه بعض التعارض. الوجه الثاني: في التعريف براويه: هو أبو محمَّد الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث [الأصغر بن الحارث الأكبر] (¬1) بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن ثور بن عفير بن عدي (¬2) بن مرة بن أُدد بن ¬

_ (¬1) غير موجودة في جمهرة أنساب العرب (425). (¬2) في الجمهرة زيادة الحارث ص (422، 425)، وفي أسد الغابة (1/ 97)، ابن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر.

زيد الكندي وكندة هم ولد ثور بن عُفَيْر، قدم على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سنة عشر في وفد كنده في ستين راكبًا من كندة وكان رئيسهم، فأسلم وأسلموا وكان رئيسًا مطاعًا فيهم، وكان في الإِسلام وجيهًا في قومه أيضًا. شهد اليرموك وأصيبت عينه وسمي أشعث لشعوثة رأسه. وكان اسمه معدي كرب فسمي أشعث وغلب عليه هذا الاسم حتى عرف به، وزوّجه الصديق بعد أن رجع عن ردته أخته أم فروة وهي أم محمَّد الذي كني به وشهد هو وجرير جنازة فقدم جريرًا وقال: إني ارتددت ولم يرتد. وخرج إلى العراق في خلافة عمر مع سعد وشهد القادسية والمدائن وجلولا ونهاوند واختط بالكوفة دارًا في كندة ونزلها وشهد تحكيم الحكمين وكان أحد شهود الكتاب. روي له عن النبي - صلي الله عليه وسلم - تسعة أحاديث اتفقا منها على هذا الحديث. روي له عن الشعبي وجماعة من التابعين. مات بعد علي بأربعين ليلة سنة أربعين وقيل: قبله بشهر, وقيل: سنة اثنين وأربعين، ودفن بداره بالكوفة، وصلّى عليه الحسن. وكانت ابنة الأشعث تحته. قال ميمون بن مهران: وهو أول من مشيت معه الرجال وهو راكب. قال الأصمعي: وهو أول من دفن في منزله. فائدة: في الرواة الأشعث بن قيس ثلاثة أولهم هذا، وثانيهم: جابري روى عن علي بن صالح، وثالثهم: همداني كوفي روى عن مسعر بن مكدام. الوجه الثالث: في بيان المبهم الواقع فيه -أعني الرجل-

الذي كان بينه وبينه خصومة. هو الجفشيش (¬1) بفتح الجيم وبالشين المعجمة المكررة. وقيل: بالحاء المهملة وقيل: بالخاء المعجمة. قال أبو حاتم: وكنيته أبو الخير. قال الطبراني: له صحبة ولا رواية عنه. قلت: يبعد هذا رواية البخاري "أنه كان من اليهود اللهم إلَّا أن يكون أسلم بعد". وقال ابن طاهر (¬2): اسمه معدان. الوجه الرابع: في ألفاظه غير ما سلف: "شاهداك" إما على أن يكون خبر مبتدأ فاعلًا بفعل مضمر، أي: أحضر شاهداك أو أشهد ونحو ذلك. وأما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: المستحق أو الواجب شرعًا، وشاهداك، أي: شهادة شاهديك. وأما على أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي: شاهداك أو يمينه الواجب لك في الحكم. وقوله: "إذن" اختلف الكتاب في كتابه "إذن" على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (351)، وذكر لكل قول في اختلاف اسمه حديثًا. (¬2) إيضاح الأشكال (115)، وقال ابن حجر في الفتح (5/ 33)، اسمه معدان بن الأسود ولقبه جفشيش بوزن فعليل. انظر: الإصابة (1/ 491)، وقد ذكر فيه أن اسم أباه النعمان معزوًا إلى ابن منده.

أحدها: إنها بالألف مطلقًا. ثانيها: إنها بالنون مطلقًا. ثالثها: إن كانت عاملة فبالنون، وإن كانت ملغاة فبالألف. الوجه الرابع: في فوائده: الأولى: الوعيد الشديد على فاعل ذلك. الثانية: اختلف أهل العلم فيما إذا ادعى على غريمه شيئًا فأنكره وأحلفه ثم أراد إقامة البينة عليه بعد الإِحلاف هل له ذلك؟ على قولين: أحدهما: لا. وهو قول للشافعي. والثاني: نعم، وهو قول مالك، إلَّا أن يأتي بعذر في تركه إقامة البينة يتوجه له وربما تمسكوا بقوله -عليه الصلاة والسلام- "شاهداك أو يمينه". وفي حديث آخر: "ليس لك إلَّا ذلك" رواه مسلم من حديث وائل بن حجر، وهو من أفراده. ووجه الدليل منه أن "أو" تقتضي أحد الشيئين فلو أجزنا إقامة البينة بعد التحليف لكان له الأمران معًا -أعني اليمين , وإقامة البينة- مع أن الحديث يقتضي أنه ليس له إلَّا أحدهما. قال الشيخ تقي الدين (¬1): وقد يقال في هذا: إن المقصود من الكلام نفي طريق أخرى لإِثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في هذين الجنسين -أعني البينة واليمين- إلَّا أن هذا قليل النفع ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 401).

بالنسبة إلى [النظر] (¬1) وفهم مقاصد الكلام (¬2)، قاعدة صحيحة نافعة للمناظر في نفسه، غير أن المناظر الجدلي قد ينازع في المفهوم ويعسر تقديره عليه. الثالثة: قد يستدل الحنفية بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "شاهداك أو يمينه" على ترك العمل بشاهد ويمين، وهو قول أهل الكوفة ويحيى بن يحيى من المالكية. وقال الجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم بخلافه لقضائه -عليه الصلاة والسلام- بذلك كما رواه خلق من الصحابة. الرابع: فيه رد على المالكية ومن قال بقولهم في إلحاقهم اليمين مع الشاهد في باب الاستحقاق، فإن الحديث ما دل إلَّا على أحدهما. الخامسة: فيه دلالة على توجه اليمين مطلقًا وإن كان الحق مما لا يثبت إلَّا بشاهدين كالنكاح ونحوه. وقد قيل إن كل دعوى لا تثبت إلَّا بشاهدين فلم يقم عليها بينة أو أقام شاهدًا واحدًا فإنها لا توجب يمينًا ولا غيرها وكل دعوى تثبت بشاهدين ويمين فإن اليمين يتوجه فيها (¬3). ¬

_ (¬1) في المرجع السابق المناظرة. (¬2) في المرجع السابق زيادة: نافع بالنسبة إلى النظر، وللأصوليين في أصل هذا الكلام بحث، ولم ينبه على هذا حق التنبيه، -أعني اعتبار مقاصد الكلام- وبسط القول فيه إلَّا أحد مشايخ بعض مشايخنا من أهل المغرب. وقد ذكره قبله بعض المتوسطين من الأصوليين المالكيين في كتابه في الأصول، وهو عندي. (¬3) جاء من رواية عشرين من الصحابة منهم ابن عباس ولفظه: "أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قضى بالشاهد واليمين". رواه مسلم من رواية أبي هريرة، وجابر.

السادسة: فيه إن الخصم إذا قال في خصمه كلامًا يلزم منه مسائلته بالقسم بالله أن لا يقرره وإنما يذكر له الوعيد على ذلك. السابعة: فيه أيضًا بناء الأحكام على الظاهر والله متولي السرائر. الثامنة: فيه أيضًا إن الحاكم أو المفتي إذا ذكر حكمًا يستوفي شروطه فإنه -عليه الصلاة والسلام- ذكر كون الاقتطاع بغير حق وكونه مال معصوم وكون الحالف فاجرًا في يمينه، ثم ذكر ما يترتب عليه وهو غضب الله -نعوذ بالله- وهذا الحكم مشروط بعدم التوبة الشرعية فإن تاب بشرطها زال ذلك.

الحديث السابع

الحديث السابع 381/ 7/ 72 - عن ثابت بن الضحاك الأنصاري - رضي الله عنه - أنه بايع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - تحت الشجرة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين بملة غير الإِسلام، كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال. ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة. وليس على رجل نذر فيما لا يملك" (¬1). وفي رواية: "لعن المؤمن كقتله". وفي رواية: "ومن ادعى دعوى كاذبةً ليتكثر بها، لم يزده الله [عز وجل] (¬2) إلا قلة". الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذه الرواية الأخيرة هي من أفراد مسلم كما نبه عليه عبد الحق. ¬

_ (¬1) البخاري (1363)، ومسلم (110)، والنسائي (7/ 55، 6، 19)، وأبو داود (3257)، والترمذي (1543)، وابن ماجه (2098)، وابن الجارود (924)، والحميدي (850)، وأحمد (4/ 33، 34)، والبيهقي (8/ 23) (10/ 30)، وأبو يعلى (1535)، والطيالسي (1197). (¬2) في هـ ساقطة.

ثانيها: في التعريف براويه وفيه اضطراب ذكرته فيما أفردته من الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعها. ثالثها: في أحكامه وفيه مسائل: الأولى: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله: "والله، والرحمن"، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقول الفقهاء: حلف بالطلاق على كذا، ومرادهم تعليق الطلاق به، وهو مجاز لمتابعة اليمين في اقتضاء الحث أو المنع، والأقرب هنا هذا لأجل قوله: "كاذبًا متعمدًا" والكذب يدخل القضية الأخبارية التي يقع مقتضاها تارة، وتارة لا يقع. وأما قولنا: "والله" وما أشبهه: فليس الإِخبار بها عن أمر خارجي. وهو الإِنشاء -أعني: إنشاء القسم- فتكون صورة هذا اليمين على وجهين: أحدهما: أنه معلق بالمستقبل كأن فعلت كذا فهو يهودي, أو نصراني. وثانيها: إنه يتعلق بالماضي، كقوله: إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني، فأما الأولى فلا تتعلق به الكفارة عندنا وعند المالكية، خلافًا للحنفية، وقد يتعلق الأولون بهذا الحديث فإنه لم يذكر كفارة، وجعل المرتَّب على ذلك قوله: "هو كما قال". وأما الثاني: فلا كفارة فيه عندنا وعند المالكية ولا يكفر بذلك أيضًا إلَّا أن يقصد التعظيم. وفيه خلاف عند الحنفية فقيل إنه لا يكفر اعتبارًا بالمستقبل.

وقيل: يكفر لأنه تنجيز معنى، كما إذا قال: "هو يهودي" قال بعضهم: والصحيح أنه لا يكفر فيها، إن كان يعلم أنه يمين. وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف، فقوله بملة غير الإِسلام يعم جميع الملل كاليهودية والنصرانية وغيرها. الثالثة: الكذب عند أصحابنا المتكلمين هو الإِخبار عن الشيء على خلاف ما هو عمدًا كان أو سهوًا. وخالفت المعتزلة فشرطوا فيه العمد. وهذا الحديث وغيره يرد قولهم فإنه -عليه الصلاة والسلام- قيده بالعمد لأنه قد يكون سهوًا يسبق لسانه فلا يكون كما قال. قال القاضي عياض (¬1): وقيد التعمد من زيادات سفيان الثوري وهي زيادة حسنة إن كان المتعمد الحلف بها مطمئن القلب بالإِيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه، فإن قاله معتقدًا لتعظيمها واعتقد اليمين بها لكونها حقًا فهو كافر كما اعتقد فيها. الرابعة: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة". هو من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم. لأن نفسه ليست ملكًا له، وإنما هي لله تعالى فلا يتصرف فيها إلَّا بما أُذن. قال القاضي عياض (¬2): وفيه دلالة لمالك -ومن قال بقوله- على أن القصاص من القاتل بما قتل به محدَّدًا كان أو غير محدد، ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (1/ 219). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (1/ 218).

خلافًا لأبي حنيفة، اقتداءً بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه في الآخرة. ثم ذكر حديث اليهودي، وحديث العرنيين، ونازعه الشيخ تقي الدين في أخذ ذلك من هذا الحديث، وقال: إنه ضعيف جدًا لأن أحكام الله تعالى لا تقاس بأفعاله. وليس كل ما فعله في الآخرة بمشروع لنا في الدنيا، كالتحريق بالنار، وإلساع الحيات والعقارب، وسقي الحميم المقطِّع للأمعاء. وبالجملة فما لنا طريق إلى إثبات الأحكام إلَّا نصوص تدل عليها، أو قياس على المنصوص عن القياسيين، ومن شرط ذلك أن يكون الأصل المقيس عليه حكمًا. أما ما كان فعلًا لله تعالى فلا، وهذا ظاهر جدًا، وليس ما نعتقده فعلًا لله تعالى في الدنيا أيضًا بالمباح لنا. فإن الله تعالى يفعل ما يشاء بعباده ولا حكم عليه. وليس لنا أن نفعل بهم إلَّا ما أذن لنا فيه، بواسطة أو بغيرها. الخامسة: التصرفات الواقعة قبل الملك للشيء على وجهين: أحدهما: تصرفات التنجيز كما لو أعتق عبد غيره، أو باعه، أو نذر نذرًا متعلقًا به. فهذه تصرفات لاغية اتفاقًا، إلا من شذ في العتق خاصة، حيث قال يعتق عليه إذا كان موسرًا, وقيل: إنه رجع عنه. ثانيها: التصرفات المتعلقة بالملك كتعليق الطلاق بالنكاح مثلًا، فهذا مختلف فيه، فالشافعي يلغيه كالأول، ومالك وأبو حنيفة يعتبرانه، ومشهور مذهب مالك باعتباره إذا خص دون ما إذا عمم. وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه ومخالفوه يحملونه على التنجيز،

أو يقولون بموجب الحديث، فإن التنفيذ إنما يقع بعد الملك، فالطلاق -مثلًا- لم يقع قبل الملك، فمن هاهنا يجيء القول بالموجب. قال الشيخ: وهاهنا نظر دقيق في الفرق بين الطلاق -أعني تعليقه بالملك- وبين النذر في ذلك، فتأمله. قلت: لعله إن الوفاء بالنذر قربة بل هو في أصله قربة على أحد الآراء فيه بخلاف أصل الطلاق فإنه أبغض الحلال إلى الله فلا يلزم الطلاق المعلق. بخلاف النذر المعلق. قال الشيخ: واستبعد قوم تأويل الحديث وما يقاربه بالتنجيز من حيث إنه أمر ظاهر جلي لا تقوم به. فائدة: يحسن حمل اللفظ عليها وليست جهة هذا للاستبعاد يقويه فإن الأحكام كلها في الابتداء كانت متيقنة وفي إثباتها فائدة متجددة، وإنما حصل الشيوع والشهرة لبعضها فيما بعد ذلك، وذلك لا ينفي حصول الفائدة عند تأسيس الأحكام. السادسة: اللعن الإِبعاد عن الرحمة وقطعه عنها والقتل هو الموت والقطع عن التصرفات، فقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولعن المؤمن كقتله" إما أن يكون كقتله في أحكام الدنيا، أو في أحكام الآخرة، لا يمكن الأول لأن قتله يوجب القصاص، ولعنه لا يوجب ذلك. وأما الثاني: فإما أن يراد بها التساوي في الإِثم، أو في العقاب، وكلاهما مشكل الآن والإِثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل،

وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة. وكذلك العقاب يتفاوت بحسب تفاوت الجرائم، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب، بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد، فإن الخيرات مصالح، والمفاسد شرور. نبه على ذلك الشيخ في "شرحه" (¬1)، ثم نقل عن القاضي عن المازري (¬2) أن الظاهر من الحديث التشبيه في الإثم وهو تشبيه واقع لأن اللعنة قطع عن الرحمة والموت قطع عن التصرف. قال القاضي: وقيل لعنته يقتضي قصده بإخراجه من جماعة المسلمين ومنعهم منافعه ويكثر عددهم به كما لو قتله. وقيل: لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه، وبعده منها بإجابة لعنته. فهو كمن قُتل في الدنيا، وقطعت عنه منافعه فيها. وقيل: معناه استواؤهما في التحريم. قال الشيخ: وأقول هذا يحتاج إلى تلخيص ونظر. أما ما حكاه عن الإِمام من أن الظاهر من الحديث تشبيه في الإِثم، وكذلك ما حكاه -من أن معناه استواؤهما في التحريم- فهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يقع التشبيه والاستواء في أصل التحريم والإِثم. والثاني: أن يقع في مقدار الإِثم. فأما الأول فلا ينبغي أن يحمل عليه, لأن كل معصية -قلّت ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 412). (¬2) المعلم بفوائد مسلم (1/ 306).

أو عظمت- فهي مشابهة أو مستوية مع القتل في أصل التحريم فلا يبقى في الحديث كبير فائدة، مع أن المفهوم منه تعظيم أمر اللعنة بتشبيهها بالقتل. وأما الثاني فقد بينا ما فيه من الإِشكال. وهو التفاوت في المفسدة بين إزهاق الروح وإتلافها، وبين الأذى باللعنة. وأما ما حكاه عن الإِمام -من قوله إن اللعنة قطع عن الرحمة، والموت قطع عن التصرف- فالكلام عليه أن نقول: اللعنة تطلق على نفس الإِبعاد الذي هو فعل الله تعالى. وهو الذي يقع فيه التشبيه. والثاني: أن تطلق اللعنة على فعل اللاعن وهو طلبه لذلك الإِبعاد بقوله: "لعنه الله" مثلًا، أو بوصفه للشخص بذلك الإِبعاد بقوله: "فلان ملعون"، وهذا ليس بقطع عن الرحمة بنفسه، ما لم تتصل به الإِجابة، فيكون حينئذ تسببًا إلى قطع التصرف، ويكون نظيره التسبب إلى القتل. غير أنهما يفترقان في أن التسبب إلى القتل -بمباشرة الحزِّ وغيره من مقدمات القتل- مفض إلى القتل بمطرد العادة، فلو كان مباشرة اللعن مفضيًا إلى الإِبعاد الذي هو اللعن دائمًا لاستوى اللعن مع مباشرة مقدمات القتل، وزاد عليه. وبهذا يتبين لك الإِيراد على ما حكاه القاضي، من أن لعنته له تقتضي قصد إخراجه عن جماعة المسلمين كما لو قتله، فإن قصده إخراجه لا يستلزم إخراجه، كما يستلزمه مقدمات القتل، وكذلك أيضًا ما حكاه من أن لعنته تقتضي قطع منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته،

إنما يحصل ذلك بإجابة دعوته، وقد لا تجاب في كثير من الأوقات، فلا يحصل انقطاعه عن منافعه، كما يحصل بقتله. ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإِجابة، مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إلى من مطرد العادة ويحتمل ما حكاه القاضي عن الإِمام وغيره -أو بعضه- أن لا يكون تشبيهًا في حكم دنيوي ولا أخروي بل يكون تشبيهًا لأمر وجودي بأمر وجودي كالقطع. والقطع -مثلًا في بعض ما حكاه-، أي: قطعه عن الرحمة أو عن المسلمين بقطع حياته، وفيه بعد ذلك نظر، والذي يمكن أن يقرر به ظاهر الحديث -في استوائهما من الإِثم- أنا نقول: لا نسلم أن مفسدة اللعنة مجرد أداه، بل فيها -مع ذلك- تعريضه لإِجابة الدعاء فيه، بموافقة ساعة لا يُسأل الله فيها شيئًا إلَّا أعطاه، كما دل عليه الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا ساعة" (¬1)، الحديث. وإذا عرّضه باللعنة لذلك ووقعت الإِجابة، وإبعاده من رحمة الله، كان ذلك أعظم من قتله, لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا، والإِبعاد من رحمة الله أبعد ضررًا بما لا يحصى، وقد يكون أعظم الضررين على سبيل الاحتمال متساويًا أو مقاربًا لأخفها على سبيل التحقيق. ومقادير المصالح والمفاسد وأعدادهما أمر لا سبيل للبشر إلى الاطلاع على حقائقه، هذا آخر كلامه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (3009).

وأجاب غيره بأوجه: ومنها: أنه خرج مخرج المبالغة قصدًا للزجر عن اللعنة كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "التمس ولو خاتمًا من حديد" (¬1) وكقوله: "ثم بيعوها ولو بضفير" (¬2). ومنها: أن تكون مفسدته كمفسدة القتل لكن خفف فيه القود رفقًا، كما خفف الإِيجاب في السواك عن كل صلاة رفقًا. ومنها: أن يكون المراد بالتشبيه بقتل الإنسان نفسه لأنه المتقدم في أول الحديث، فالتقدير ولعن المؤمن كقتله نفسه لأن المؤمن لا يكون لعانًا كما جاء في الحديث (¬3)، وإنما يلعن الكافر من كفر فقد أباح قتل نفسه فيكون لعنه مثل قتله نفسه لأنه نفى عنها الإِيمان المانع من قتلها فيكون كقتلها. السابعة: التقييد في المؤمن يحتمل أن يكون للتشنيع والتشنيع كما تقدم نظيره في الحديث الخامس من قوله: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرىء مسلم" والظاهر أنه لإِخراج الكافر ولا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين. واختلفوا: في لعن العاصي المعين، والمشهور المنع ونقل ابن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في النكاح. (¬2) سبق تخريجه في الحديث الثالث من كتاب الحدود. (¬3) ولفظه: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش". أحمد (1/ 404، 416)، والترمذي (1977)، والبيهقي (10/ 193، 243).

العربي الاتفاق عليه] (¬1). الثامنة: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ومن ادعى دعوى كاذبة" إلى آخره هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعطه (¬2) من ادعى فضيلة ليست [له] (¬3) أو علم أو إصلاح وغير ذلك من المزايا ويدخل فيه أيضًا الدعوى على خصمه بما ليس له والتكثر فيه يرجع إلى ضم ما ليس له إلى ماله والعلة فيه ذهاب بركته بضم الحرام إليه والتكثر في الأول يرجع إلى تعظيم الناس له على تقدير صحة ما ¬

_ (¬1) نهاية السقط. (¬2) وفيه حديث عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" البخاري (5219)، ومسلم (2130)، وأبو داود (4997)، وشرح السنة (1/ 233)، وأحمد (6/ 345، 346، 353)، وقال البغوي في شرح السنة (9/ 161)، المتشبع: المتكثر بأكثر مما عنده يتصلف به، وهو الرجل يُرى أنه شبعان، وليس كذلك "كلابس ثوبي زور" قال أبو عبيد: هو المرائي يلبس ثياب الزهاد يُرى أنه زاهد. اهـ. غريب الحديث (2/ 253)، وقال غيره: هو أن يلبس قميصًا يصل بكميه كمين آخرين يُرى أنه لابس قميصين فكأنه يسخر من نفسه. ويُروى عن بعضهم أنه كان يكون في الحي الرجل له هيأة ونُبل، فإذا احتيج إلى شهادة زور، شهد بها، فلا تُرد من أجل نُبله وحُسن ثوبيه. وقيل: أراد بالثوب نفسه، فهو كناية عن حاله ومذهبه، والعرب تكنى بالثوب عن حال لابسه، تقول: فلان نقي الثياب: إذا كان بريئًا من الدنس وفلان دنس الثياب: إذا كان بخلافه، ومعناه: المتشبع بما لم يُعط بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن. اهـ. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

ادعاه والقلة فيه قلة قدره وتعظيمه عندهم لكذبه في دعواه بها ولو كان كاذبًا ثم قيد التكثر في الكذب خرج مخرج الغالب فإن غالب كذب الناس إنما هو لجلب الحطام. فائدة: حكى ابن سيده "دعوى كاذب" بالتذكير لكن التأنيث أفصح، كما في الحديث. وحكى أيضًا "دعوى باطل". فائدة ثانية: المضبوط في معظم الأصول "ليتكثر" بالثاء المثلثة وضبطه بعضهم بالمهملة، وله وجه وهو أن يصير ذلك كبيرًا عظيمًا. التاسعة: في تلخيص الأحكام الواقعة في الحديث: أولها: المنع من الحلف بملة غير الإسلام كاليهودية والنصرانية وغيرها مطلقًا، وكذا تعليق الحلف بها وتقدم ذكر الكفارة فيه وعدتها. ثانيها: تحريم الجناية على نفسه بالقتل وإثمه بذلك. ثالثها: المماثلة في القصاص، وقد سلف فيه. رابعها: منع النذر فيما لا يملك وهل يجب عليه فيه كفارة يمين؟ قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وداود والجمهور: لا، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد" رواه مسلم (¬1) من حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه - وهو محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين ولا يملكه، بأن قال: إن ¬

_ (¬1) مسلم (1641)، أبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124)، والبغوي (2714)، وابن الجارود (933)، والحميدي (829).

شفى الله مريضي فللَّه علي أن أعتق عبد فلان أو أتصدق بثوبه أو بداره أو نحو ذلك، فأما إذا التزم في الذمة شيء لا يملكه فيصح نذره كأن شفا الله مريضي فللَّه علي عتق رقبة وهو في ذلك الحال لا يملك شيئًا. وقال أحمد: يجب في النذر في المعصية ونحوها كفارة يمين. وفيه حديث من طريق عمران بن حصين (¬1) وعائشة (¬2) "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" لكنه حديث [ضعيف] (¬3) باتفاق المحدثين، كما نقله النووي في "شرح مسلم". وأما حديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم: "كفارة النذر كفارة اليمين", فاختلف العلماء في المراد به على أقوال: أحدها: أنه محمول على نذر اللجاج والغضب كأن كلمت زيدًا مثلًا فللَّه عليّ حجة أو غيرها، فهو مخير بين كفارة يمين وبين ما التزمه، وهذا تأويل جمهور أصحابنا. ¬

_ (¬1) النسائي (7/ 19، 28، 29 - 30)، قال ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 51): هذان حديثان مضطربان لا أصل لهما عند أهل العلم بالحديث لأن حديث عائشة إنما يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث، وعنه رواه ابن شهاب لا يصح عنه غير ذلك، وقد أوضحنا ذلك في التمهيد (6/ 96) وحديث عمران بن حصين يدور على زهير بن محمَّد، عن أبيه، وأبوه مجهول لم يرو عنه، غير ابنه زهير، وزهير أيضًا عنده مناكير. اهـ. (¬2) أبو داود (3190، 319)، والترمذي (1524)، والنسائي (1/ 686). (¬3) زيادة من شرح مسلم (11/ 101).

ثانيها: أنه محمول على النذر المطلق كقوله: للَّه عليّ نذر، وهذا تأويل مالك وكثيرين أو الأكثرين. ثالثها: إنه محمول على نذر المعصية كمن نذر أن يشرب الخمر مثلًا، وهذا تأويل أحمد وبعض الشافعية. رابعها: إنه محمول على جميع أنواع النذور، وهذا تأويل جماعة من فقهاء المحدثين وقالوا: إنه مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزمه، وبين كفارة اليمين (¬1). خامسها: تغليظ التحريم في لعن المؤمن ووجوب احترامه ورعايته. سادسها: تحريم الدعوى تكثرًا كاذبًا، وذم التكثر والكذب وتحريم تعاطي أسباب القلة المعنوية. ¬

_ (¬1) وما ذكره هنا ساقه النووي في شرح مسلم (11/ 104).

باب النذور

73 - باب النذور

73 - باب النذور النذور: جمع نذر. يقال: نذرت أنذُر, بكسر الذال وضمِّها، كما سلف في باب الاعتكاف. وهو لغة: الوعد بخير أو شر. وشرعا: وعد بخير دون شر (¬1). قاله الماوردي (¬2): قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا نذر في معصية الله (¬3) ". وقال الرافعي: هو التزام شيء. وعبارة غيرهما: أنه التزام قربة غير لازمة بأصل الشرع. وزاد بعضهم مقصودة. وذكر المصنف في الباب خمسة أحاديث. ¬

_ (¬1) وقيل: هو التزام قربة لم تتعين. (¬2) الحاوي الكبير (20/ 3). (¬3) من رواية عمران بن حصين أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، وابن ماجه (2124)، وأحمد (2/ 75، 76)، والنسائي (7/ 19)، والبيهقي (10/ 68، 69)، والبغوي (2714).

الحديث الأول

الحديث الأول 382/ 1/ 73 - عن عمر - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة. وفي رواية: يومًا في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك" (¬1). هذا الحديث ذكره المصنف في باب الاعتكاف أيضًا. وقد سلف الكلام عليه هناك مستوفىً، ومما لم يذكره هناك: أن هذا السؤال من عمر وقع بالجعرانة بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، كذا ثبت في الصحيح ومما ذكرته هناك أنه قد يستدل به على لزوم الوفاء بكل منذور، ولا شك أن النذر على ثلاثة أقسام: أحدها: ما عُلق على وجود نعمة أو اندفاع نقمة فوجد ذلك فيلزمه الوفاء به. ¬

_ (¬1) البخاري (2032)، ومسلم (6156)، والترمذي (1539)، وأبو داود (3325)، والنسائى (7/ 21، 22)، والسنن الكبرى (4762، 4763، 4764)، وابن ماجه (2129)، وابن الجارود (941)، وأحمد (2/ 20)، والسنن الكبرى (10/ 132)، والحميدي (2/ 304)، وابن أبي شيبة (3/ 493).

ثانيها: ما علق على شيء لقصد المنع أو الحث، كقوله: إن دخلت الدار فعليَّ كذا، وهو المسمى بنذر اللجاج والغضب، وقد عرفت حكمه قريبًا في آخر الباب السالف. ثالثها: ما لم يعلق على شيء كللَّه عليَّ كذا. فالمشهور وجوب الوفاء به، وهو المراد بقولهم: النذر المطلق. وأما ما لم يذكر مخرجه كللَّه علي نذر، فقد سلف في الموضع المشار إليه أنه يلزمه كفارة يمين على قول مالك وكثيرين. وفيه دلالة أيضًا على أن الاعتكاف قربة تلزم بالنذر. وأصحابنا تصرفوا فيما يلزم بالنذر المطلق من العبادات، وليس كل ما هو عبادة [مثابًا] (¬1) عليه لازمًا بالنذر عندهم، ففائدة هذا الحديث من هذا الوجه أن الاعتكاف من القسم الذي يلزم بالنذر. وفيه دلالة أيضًا على عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف عملًا برواية "ليلة". وقد سلف ما فيه، وأبعد بعض من اشترطه، فحمل الاعتكاف في الحديث على غير بابه. وقال: المراد الاعتكاف هنا الجواز، وهو لا يحتاج إلى صوم. ووجه بعده أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية مقدم على اللغوية، ومن تراجم البخاري (¬2) على هذا الحديث إذا حلف لا يكلم إنسانًا في جاهلية ثم أسلم. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) (2043).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 383/ 2/ 73 - عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: ظاهر الحديث كراهة ابتداء النذر في الطاعة، وإن كان الوفاء به لازمًا لأن سياق بعض الحديث يقتضي أحد أقسام النذر، التي ذكرناها، وهو ما يقصد به تحصيل غرض أو دفع مكروه، وذلك لقوله: "وإنما يستخرج به من البخيل"، وهو ما نص عليه الشافعي -رحمه الله-، ولأنه التزام إيجاب على نفسه من غير إيجاب الشرع، فكره من هذا الوجه. وأما القاضي حسين والمتولي والغزالي والرافعي فإنهم قالوا: إنه قربة, لأنه -سبحانه وتعالى- حث عليه، حيث قال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ ¬

_ (¬1) البخاري (6608)، ومسلم (1639)، والنسائي (7/ 15، 16)، وابن ماجه (2122)، وأبو داود (3287)، والبيهقي (10/ 77)، وأحمد (2/ 61 , 86).

نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْر} (¬1) فتكون قربة، ولأنه وسيلة إلى القربة، ولها حكم المقاصد. وقال ابن الأثير في "نهايته" (¬2) النهي عنه تأكيد لأمره، وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاطُ لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصية، فلا يلزم. وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم: أن ذلك أمرٌ لا يجزُّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يصرف عنهم ضَرًّا، ولا يردّ [(¬3)] قضاءً، فقال: لا تنذروا، على أنكم [(¬4)] تدركون بالنذر شيئًا لم يُقَدِّرْهُ الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا، فاخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم. وقال الشيخ تقي الدين (¬5): في كراهة النذر إشكال على القواعد، فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة, ووسيلة المعصية معصية. ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة، ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة، إلَّا أن ظاهر إطلاق الحديث دل على خلافه، وإذا حملناه على القسم الذي أشرنا إليه من أقسام النذر -كما دل عليه سياق الحديث- فذلك المعنى الموجود ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 270. (¬2) النهاية لابن الأثير (5/ 39). (¬3) في ن هـ زيادة (به). (¬4) في ن والنهاية زيادة (قد). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 420، 422).

في ذلك القسم ليس بموجود في النذر المطلق، فإن ذلك خرج مخرج طلب العوضين، وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض، وليس هذا المعنى موجودًا في التزام العبادة والنذر بها مطلقًا، وقد يقال: إن البخيل لا يأتي بالطاعة إلَّا إذا اتصفت بالوجوب، فيكون النذر هو الذي أوجب له فعل الطاعة، لتعلق الوجوب به، ولم يتعلق به الوجوب لتركه البخيل، فيكون النذر المطلق أيضًا مما يستخرج به [من] (¬1) البخيل، إلَّا أن لفظة "البخيل" هنا قد تشعر بما يتعلق بالمال، وعلى كل تقدير فاتباع النصوص أولى. وما ذكره الشيخ تقي الدين من التفصيل، ذكره ابن الرفعة أيضًا، فقال: يمكن أن يتوسط [فيه] (¬2) [فيقال] (¬3) الذي دل عليه الخبر على كراهته نذر المجازاة. وأما نذر التبرر: فيظهر أنه قربة, لأن له فيه غرضا، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوع، أي: بسبعين درجة، كما أفاده إمام الحرمين. وكذا قال القرطبي (¬4): المنهي عنه هو نذر المجازاة، وفي معناه النذر على وجه التَّبرُّم والتَّحرُّج بأن ينذر عتق عبد استثقل به تخلصًا منه أو ينذر كثيرًا من العبادة كالصوم الكبير مثلًا مما يؤدي إلى الحرج والمشقة مع القدرة عليه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) (المفهم (4/ 607).

وقال الماوردي (¬1): الحديث دال على أن ما يبذله الإنسان من البر أفضل مما يلتزمه بالنذر. ثانيها: هذا النهي للتنزيه، وقال القرطبي (¬2): يظهر لي حمله على التحريم في حق من يُخاف عليه أن يعتقد أن النذر يوجب ذلك الغرض، أو أن الله يفعله لأجل ذلك، والأول يقارب الكفر. والثاني خطأ صراح، وحمله على التحريم في حق من لم يعتقد ذلك. وذكر المازري (¬3) في [سبب] (¬4) النهي احتمالين: أحدهما: كون الناذر يصير ملتزمًا له، فيأتي به على سبيل التكلف من غير نشاط. ثانيها: إتيانه به على سبيل المعاوضة لا على سبيل القربة، فينتقص أجره للأمر الذي طلبه، وشأن العبادة أن تكون محضة لله تعالى. وذكر القاضي (¬5) عياض احتمالًا ثالثًا: وهو أن بعض الجهلة قد يظن أن النذر يرد القدر، ويمنع من حصول المقدَّر، فنهى عنه خوفًا من جاهل يعتقد ذلك، وهذا يؤيده بعض روايات الحديث في الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن النذر وقال: "إنه لا يرد ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (5/ 20). (¬2) المفهم (4/ 607). (¬3) المعلم بفوائد مسلم (2/ 360). (¬4) في الأصل (سببه)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) ذكره النووي في شرح مسلم (11/ 99).

شيئًا، وإنما يستخرج به من الشحيح"، وفي رواية للبخاري (¬1): "إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل"، وفي صحيح مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل". وفي رواية له: "إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج". ورواه البخاري من هذا الوجه بلفظ: "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته، ولكن يلقيه النذر إلى القدر، قد قُدِّر له، فيستخرج الله به من البخيل فيؤتى عليه ما لم يكن يُؤتى عليه من قبل". ثالثها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنه لا يأتي بخير" يحتمل أن تكون هذه "الباء" باء السببية، كما قاله الشيخ تقي (¬3) الدين كأنه قال: لا يأتي سبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القرب والطاعة من غير عوض يحصل له وإن كان يترتب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها , لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه. ويحتمل أن يكون معناه: لا يغني من القدر شيئًا، كما سلف، ¬

_ (¬1) البخاري (6692). (¬2) البخاري (6609)، ومسلم (1640)، والنسائي (7/ 16)، وأبو داود (3288)، وابن ماجه (2123)، وابن الجارود (932)، والحميدي (1112)، والترمذي (1538)، وأحمد (2/ 314، 373، 412، 463). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 423).

وعليه اقتصر النووي في "شرح مسلم" (¬1). رابعها: قوله: "وإنما يستخرج به من البخيل"، معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعًا محضًا مبتدئًا وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المرض وغيره مما يعلق النذر عليه. قاله النووي في "شرحه". وعبارة الشيخ تقي الدين: الأظهر في معناه: أن البخيل لا يعطي طاعة إلَّا في عوض ومقابل يحصل له، فيكون النذر هو السبب الذي استخرج تلك الطاعة وهو غير ما ذكره النووي. خامسها: في أحكامه. الأول: كراهة النذر، وقد سلف ما فيه. الثاني: الإِخلاص في الأعمال، وأن ما ليس فيه إخلاص لا يأتي بخير. الثالث: ذم البخل والبخلاء. الرابع: أن من وقف مع الشرع في أعماله ليس ببخيل، بل هو الكريم حقيقة. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 99).

الحديث الثالث

الحديث الثالث 384/ 3/ 73 - عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: "نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية: فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيته فقال: لتمشِ ولتركبْ" (¬1). الكلام عليه من وجوه: واعلم فيها أن قوله "حافية" ليس في البخاري كما نبَّه عليه عبد الحق في "جمعه". [الأول:] (¬2) في التعريف براويه، وقد سلف في الحديث السادس من كتاب النكاح. [الثاني:] (¬3) أخته هي أم حِبان، بكسر الحاء المهملة، ثم باء موحدة، ثم ألف، ثم نون، بنت عامر أسلمت وبايعت. ذكره ابن ¬

_ (¬1) البخاري (1866)، ومسلم (1644)، وأبو داود (3399)، وابن ماجه (2134)، والنسائي في الكبرى (4756)، والنسائي (7/ 19)، والدارمي (2/ 183، 184)، وابن الجارود (936، 937)، والبيهقي (10/ 135، 136)، وعبد الرزاق (8/ 451)، والبغوي (10/ 27). (¬2) في ن هـ (الثاني). (¬3) في ن هـ (الثالث).

ماكولا (¬1) عن محمَّد بن سعد، وحكاه عنه ابن بشكوال في "مبهماته" (¬2)، ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابة، وهي من شرطه. [الثالث:] (¬3) معنى قوله: "لتمشِ ولتركبْ"، والله أعلم لتمش إن قدرت، وتركب إذا عجزت أو شق عليها المشي، وكذا ترجم له البيهقي في "سننه" (¬4) فقال: باب المشي فيما قدر عليه والركوب فيما عجز عنه، ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال باب الهدي فيما ركب واختلاف الروايات عنه، ثم ساق بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس "أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال [رسول الله] (¬5) - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب، ولتهدِ بدنة"، وفي رواية له: "أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال: إن الله غني عن نذر أختك، فتحج راكبة وتهدي بدنة". ورواه أبو داود في [سننه] (¬6) "، وقال: "تهدي هديًا". وخالفه هشام الدستوائي فَرَواه عن قتادة دون ذكر الهدي فيه، ورواه بإسناده عن هشام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي - صلي الله عليه وسلم - بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية فقال له ¬

_ (¬1) الإِكمال (2/ 311). (¬2) غوامض الأسماء المبهمة (837). (¬3) في ن هـ (الرابع). (¬4) السنن الكبرى (10/ 78، 79). (¬5) في ن هـ (النبي)، وما أثبت من السنن. (¬6) في ن هـ ساقطة.

النبي - صلي الله عليه وسلم -: "إن الله لغني عن نذرها، فمرها فلتركب" (¬1)، وكذلك روي عن خالد الحذاء، عن عكرمة دون ذكر الهدي فيه. ورواه ابن أبي عروبة عن قتادة، فأرسله، ولم يذكر الهدي فيه، ورواه أبو داود من حديث ابن (¬2) عدي عن شعبة، عن قتادة، عن عكرمة أن أخت عقبة بمعنى حديث هشام لم يذكر الهدي، وقال: "مُرْ أختك فلتركب"، قال أبو داود: رواه خالد عن عكرمة بمعناه، وقيل: عن [عكرمة] (¬3)، عن عقبة بن عامر دون ذكر الهدي فيه. كذلك رواه أبو داود عن شعيب بن أيوب، عن معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، عن عقبة بن عامر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت فقال: "إن الله لا يصنع بمشي أختك إلى البيت شيئًا"، ورواه [الحاكم] (¬4) في "مستدركه" من حديث يعلى بن عبيد ثنا أبو سعد البقّال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت، وأنه يشق عليها المشي. قال: مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي، فما أغنى الله أن يشق على أختك"، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، وروى في "مستدركه" أيضًا من حديث شريك، عن محمَّد بن عبد الرحمن مولى آل أبي طلحة، عن كريب، عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى ¬

_ (¬1) أبو داود (3296، 3297)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني (11829). (¬2) في هـ زيادة (أبي). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) زيادة من ن هـ ومستدرك الحاكم (4/ 302)، والطبراني (11949).

النبي - صلي الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أختي جعلت عليها المشي إلى بيت الله، قال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، قل لها فلتحج راكبةً ولتكفر يمينها". قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم. ورواه البيهقي (¬1) بسند شيخه الحاكم، ثم قال تفرد به شريك [القاضي] (¬2)، ورواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" (¬3) من هذا الوجه بلفظ: "جاء رجل إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقال: "إن أختي جعلت على نفسها أن تحج ماشية، قال: فمرها فلتركب [ولتكفر] (¬4) "، ثم قال ابن حبان: يشبه أن تكون هذه جعلت على نفسها أن تحج ماشية [إذ] (¬5) النذر لا كفارة فيه. قلت: ولحديث عقبة هذا طريق آخر رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه من حديث عبيد الله بن زحر عن أبي سعيد الرعيني، عن عبد الله بن مالك، عن عقبة بن عامر قال: "نذرت أختي أن تحج لله ماشية، غير مختمرة، قال: فذكرت ذلك لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقال: مُر أختك فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام" (¬6)، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (10/ 80). (¬2) زيادة من ن هـ والمرجع السابق. (¬3) ابن حبان (4384)، وأحمد (1/ 310، 315)، وأبو داود (3295). (¬4) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ وابن حبان. (¬5) في المرجع السابق (أو)، فليصحح. (¬6) الترمذي (1544)، وأبو داود (مختصر السنن) (3161)، وابن ماجه (2134)، والنسائي (7/ 20).

وقال البيهقي (¬1): هذا الحديث رواه يحيى بن سعيد عن عُبيد الله بن زحر هكذا، وكذلك رواه يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وكذلك رواه ابن جُريج قال: كتب إلى يحيى بن سعيد فذكره. ورواه الترمذي عن يحيى بن سعيد واختلف عليه في إسناده قال: وقال محمَّد بن إسماعيل البخاري: لا يصح فيه الهدي، يعني في حديث عقبة. قلت: وعُبيد الله هذا مختلف فيه، ضعفه الإِمام أحمد، وقال ابن المديني (¬2): منكر الحديث، وقال يحيى (¬3): ليس بشيء كل حديثه عندي ضعيف، وقال الدارقطني (¬4): ليس بالقوي، وقال ابن حبان (¬5): يروي الموضوعات عن الأثبات. وجزم ابن حزم من "محلاه" (¬6) بضعفه. وأما الحاكم: فأخرج له في "مستدركه" ولم يضعفه البيهقي في "سننه" (¬7)، بل حكى في باب بيع المغنيات عن البخاري أنه وثقه، وذكر الترمذي أيضًا ذلك ¬

_ (¬1) السنن (10/ 80). (¬2) الجرح والتعديل ترجمة (1499). (¬3) تاريخ الدارمي عن يحيى بن معين ترجمة (626)، وتاريخ الدوري (2/ 382). (¬4) الضعفاء للدارقطني ترجمة (327). (¬5) المجروحين (2/ 62). (¬6) المحلى (4/ 217) (5/ 165) (7/ 265) (9/ 58). (¬7) السنن (6/ 14).

عنه في "علله" (¬1)، وقال أبو عبيد الآجري (¬2): قال أبو داود: سمعت أحمد يقول عبيد الله بن زحر ثقة، وقال: في موضع آخر سألت أبا داود عن عُبيد الله بن زحر فقال: كان أحمد يوثقه، والذي يظهر من هذا هو أحمد بن صالح المصري، فإن حربًا قال: قلت لأحمد بن حنبل (¬3): عُبيد الله بن زحر فضعفه، كما أسلفناه وقال أبو زرعة (¬4): لا بأس به صدوق، وقال النسائي (¬5): ليس فيه بأس. قلت: ولم ينفرد به، بل تابعه بكر بن سوادة [ورواه] (¬6) عن ابن هاعان، عن أبي تميم الجيشاني، عن [عقبة] (¬7) أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "لتركب ولتلبس ولتصم"، رواه الطبراني (¬8) من هذا الوجه. وعبد الله بن مالك الراوي عن عقبة بن عامر ذكره ابن حبان في "ثقاته" (¬9)، وادعى ابن القطان جهالته، وفرق أبو حاتم بينه وبين ¬

_ (¬1) ذكره في حاشية تهذيب الكمال (19/ 39). (¬2) ذكره في تهذيب الكمال (19/ 38). (¬3) الجرح والتعديل ترجمة (1499)، وتهذيب الكمال (19/ 37). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق. (¬6) في ن هـ (فراواه). (¬7) في الأصل بياض، وما أثبت من ن هـ والطبراني. (¬8) الطبراني الكبير (17/ 324). (¬9) (5/ 49).

أبي [تميم] (¬1) الجيشاني الذي ولد في عصره (¬2) -عليه الصلاة والسلام- وهما واحد كما قاله ابن يونس وغيره، وصرَّح به الطبراني كما سلف عنه. وأبو سعيد الرُّعَينِي الراوي عن عبد الله اسمه جُعْثُل بن هَاعَان كما سلف في رواية الطبراني وهو قاضي إفريقية روى عن أبي تميم [وعنه] (¬3) بكر بن سوادة. وعُبيد الله بن زحر قاله ابن يونس، أخرجه عمر بن عبد العزيز إلى المغرب ليقرئهم القرآن، وكان أحد القراء الفقهاء، له وفادة على هشام بن عبد الملك، وادعى ابن القطان جهالته تبعًا لابن حزم في "محلاه". ولحديث عقبة هذا طريق آخر جيد، رواه الطحاوي في "مشكله" عن يونس أخي ابن وهب بن حي بن عبد الله المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عقبة أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية غير مختمرة، فذكر ذلك عقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مُرْ أختك فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام"، وحِيَيِّ هذا قال في [حديثه] (¬4) ابن معين ليس به بأس. وأخرج له الحاكم وابن حبان ¬

_ (¬1) في ن هـ (حاتم)، وما أثبت يوافق الجرح والتعديل (5/ 171، 172)، وتهذيب الكمال (15/ 512). (¬2) ذكر ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب نقلًا عن الدولابي (5/ 380). (¬3) في ن هـ (وعن)، وما أثبت يوافق تهذيب الكمال (15/ 512). (¬4) في ن هـ (حقه). وانظر: تاريخ الدارمي (91)، ترجمة (239)، وتهذيب الكمال (7/ 488).

وذكره في "ثقاته" (¬1) في أتباع التابعين، وخالف ابن حزم فقال في "محلاه" (¬2) إنه مجهول. قال الطحاوي: كشف وجهها حرام فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة لمنع الشريعة إياها منه (¬3)، ثم ذكره الطحاوي من وجه آخر، وفيه: "نذرت أن تحج ماشية ناشرة شعرها، فقال: "لتركب ولتصم ثلاثة أيام". وفي البيهقي (¬4) من حديث أبي هريرة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في جوف الليل في ركب إذ بصر بخيال قد نفرت منه إبلهم، فأنزل رجلًا فنظر، فإذا هو بامرأة عريانة ناقضة شعرها، فقال: مالك؟ قالت: نذرت أن أحج البيت ماشية عريانة ناقضة شعري فأنا أتكمن بالنهار وأتنكب الطريق بالليل، فأتى النبي - صلي الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "ارجع إليها فمرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دمًا". قال البيهقي: إسناده ضعيف (¬5)، قال: وروي من وجه آخر منقطع دون ذكر الهدي فيه، ثم أسند من حديث البصري عن عمران بن الحصين أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيًا فليهدِ هديًا وليركب". وفي رواية: "فليهد بدنة ¬

_ (¬1) الثقات (6/ 235). (¬2) المحلى (7/ 265). (¬3) معالم السنن (3/ 597). (¬4) السنن الكبرى (10/ 80). (¬5) انظر: كتاب المراسيل لابن أبي حاتم (40)، وتهذيب الكمال (6/ 122).

وليركب"، ثم قال: لا يصح سماع الحسن من عمران فهو مرسل (¬1)، قال: وروى فيه عن علي موقوفًا، قلت: فأما الحاكم فإنه أخرجه في "مستدركه" (¬2) من حديث الحسن عن عمران وقال: صحيح الإِسناد. قال في "مستدركه" (¬3) في كتاب اللباس: إن أكثر مشايخنا على أنه سمع منه، فهذه طرق حديث عقبة مع ما يشاكله، وقد حصل في إيرادها فوائد جمة، فلا تسأم من طولها، فإن طرق الحديث يفسر بعضها بعضًا. ورأيت في "معرفة الصحابة" للحافظ أبي موسى الأصبهاني أن هذا الحديث رواه جماعة عن عقبة بن عامر وروي عن عبد الله [بن مالك] (¬4) الجهني، والأول هو الصحيح. تنبيه: رواية "ولتهدِ بدنة"، عزاها القاضي عياض (¬5) ثم النووي (¬6) إلى أبي داود، وتبعه ابن العطار والفاكهي ولم أرها فيه، والذي فيه "ولتهدِ هديًا" كما أسلفناه عنه فتنبه لذلك. الوجه الرابع: في أحكامه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المستدرك (4/ 305). (¬3) المستدرك (4/ 191)، ووافقه الذهبي، وأما في تاريخ الدارمي في روايته عن يحيى بن معين (100) ففرق بين حديثه عن البصريين فنقل سماعه وبين حديثه عن الكوفيين فأثبته. (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) إكمال المعلم (5/ 395، 396). (¬6) شرح مسلم (11/ 103).

أولها: صحة النذر إلى الذهاب إلى بيت الله تعالى، فإذا قال: لله عليَّ أن آتي البيت الحرام أو بيت الله تعالى، ونواه انعقد نذره، ولزمه إتيانه بحج أو عمرة، خلافًا لأبي حنيفة، حيث قال: إذا لم بسم حجًا ولا عمرة [لا] (¬1) يلزمه شيءٌ، والأول قَوْلُ مالك والشافعي، وهو مروي عن عمر وابن عباس وهو ظاهر الحديث، إذا تقرر هذا فإنْ نَذَرَهُ راكبًا لزمه ذلك راكبًا، فلو ذهب ماشيًا لزمه دم لترفهه بتوفير مؤنة الركوب، وهذا بناء على أن الركوب أفضل وفيه خلاف مشهور عندنا ليس هذا موضع ذكره، وإن نذره ماشيًا لزمه ما التزم ويمشي من حيث أحرم، سواء من الميقات أو قبله على الأصح عندنا, ولا يجوز أن يترك المشي في الحج إلى أن يرمي جمرة العقبة إذا جعله آخر التحللين، ويفرغ من العمرة، وحيث أوجبنا المشي فركب لعذرٍ أجزأه، وعليه دم على أظهر قولي الشافعي، وهو شاذ وقيل: بدنة للروايتين اللتين أسلفتهما، أو بلا عذر أجزأه وعليه دم على المشهور فيهما عندنا. ومذهب مالك إن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لازم، سواء أطلقه أو علقه، فإن عجز في بعض الطريق أو ركب رجع من قابل فمشى ما ركب، وجعل ذلك في حج أو عمرة، إلَّا أن يعجز عن المشي في جملة فيركب ويهدي فيأول الحديث على حالة العجز عن المشي. فرع: نذر إتيان شيء من الحرم كالصفا ولو دار أبي جهل ودار الخيزران يوجب الحج أو العمرة لشمول حرمة الحرم في تنفير ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

الصيد وغيره. وعند المالكية حكاية خلاف في ذلك، وبقولنا يقول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولو نذر إتيان عرفات فإن أراد بذلك التزام الحج انعقد نذره به، وإلَّا فلا، لأن عرفات من الحل، فهو كبلد آخر. وأطلق ابن حبيب المالكي اللزوم، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه في كل هذا شيء ولا مسير من القياس. فرع: لو نذر إتيان مسجد المدينة والأقصى فالأظهر عند المراوزة إلحاقهما بالمسجد الحرام خلافًا للعراقيين والروياني. ولو نذر إتيان مسجد آخر سوى هذه الثلاثة لم يتعين جزمًا. وقال ابن المواز المالكي: إن كان قريبًا كالأميال لزمه المشي إليه وإن كان بعيدًا فلا. ثانيها: ظاهر الحديث إقرارها على الحفاء، لكن رواية الطبراني التي أسلفتها أنها نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لتركب ولتلبس". ظاهرها عدمه، وهو الظاهر، فإن الحفي ليس طاعة، فإذًا نَذْرُهُ لا يصح. ثالثها: جواز النيابة والاستنابة في الاستفتاء خصوصًا إذا كان المستنيب معذورًا لعدم بروزه لذلك أو مخالطته لهم ونحو ذلك. رابعها: قبول خبر الواحد. خامسها: أن من نذر الحج ماشيًا فلم يطقه في بعض الأحوال فإنه يركب وعليه دم، للحديث السالف. وأما رواية البدنة فإنها تُطْلَقُ لغةً على البعير والبقرة والواحد من الغنم. ولهذا لو نذر أن يهدي

شيئًا لزمه ما يجزئ من الأضحية , وهل يجب عليه مع الهدي الرجوع فيمشي ما ركبه أم لا؟ قال الشافعي وأهل الكوفة: بالمنع. وقال سلف أهل المدينة بالوجوب. وفرق مالك فقال: إن كان المشيُ يسيرًا لم يرجع، وإن كان كثيرًا رجع، ما لم يرجع لبلده البعيدة فيكفيه الدم. وطرق حديث عقبة التي أسلفناها لم يذكر فيها الرجوع البتة, فيقوى بها مقالة الشافعي وأهل الكوفة، والله الموفق.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 385/ 4/ 73 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: "استفتى سعد بن عبادة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - من نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "فاقضه [عنها (¬1)] " (¬2). الكلام عليه من وجوه. الأول: اسم أم سعد بن عبادة عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وكانت من المبايعات، توفيت سنة خمس من الهجرة، ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - في غزوة دومة الجندل، فلما قدم صلَّى على قبرها. وأما ابنها [سعد] (¬3) فترجمته مبسوطة فيما أفردته في الكلام ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) البخاري (2761)، ومسلم (6138)، والنسائي (6/ 253، 204) (7/ 21)، والطيالسي (2717)، وأحمد (1/ 219، 329)، وأبو داود (3307)، والترمذي (1546)، ومالك (2/ 472)، والحميدي (522)، وابن ماجه (2132)، والبيهقي (6/ 287) (10/ 85)، وأبو يعلى (2383). (¬3) في ن هـ ساقطة.

على رجال هذا الكتاب فراجعه منه وقبره بغوطة دمشق بقرية يقال لها "المنيحة" مشهور ومن قال: إنه دفن بحوران. فلعله نقل منها إلى المنيحة، لأنه لا يعرف قبره بها. الثاني: هذا النذر لم يتبين في هذه الرواية ما هو؟ وقد اختلف فيه على أقوال، حكاها القاضي عياض (¬1): أحدها: أنه كان نذرًا مطلقًا. ثانيها: أنه كان صومًا. ثالثها: أنه كان عتقًا. رابعها: أنه كان صدقة، واستدل كل قائل بأحاديث وردت في قصة أم سعد. قال: وأظهرها أنه كان نذرًا في المال [أو نذرًا] (¬2) مبهمًا (¬3)، ويعضده ما رواه الدارقطني من حديث مالك فقال له يعني النبي - صلي الله عليه وسلم -: "اسق عنها الماء" وحديث الصوم معلل بالاختلاف في سنده، ومتنه وكثرة اضطرابه، وذلك موجب ضعفه، لكن سلف في بابه أن ذلك غير قادح، وحديث من روى "فأعتق عنها" موافق أيضًا لأن العتق من الأموال، وليس فيه قطع بأنه كان عليها عتق. الثالث: في أحكامه: الأول: قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وفي رواية للبخاري ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال الإِكمال (4/ 359)، شرح مسلم (11/ 97). (¬2) زيادة من ن هـ، ومن المراجع السابقة. (¬3) في إكمال الإِكمال: (مطلقًا).

في النذر في باب "من مات وعليه نذر" في آخر الحديث فكانت سنة بعد، ولا خلاف في المالية، وسواء أوصى بها أم لم يوصي عند الشافعية خلافًا لأبي حنيفة ومالك حيث قالا لا يقضي إلَّا بالوصية به, ولأصحاب مالك خلاف في الزكاة إذا لم يوص بها. وحكاه القاضي حسين كلامًا للشافعي، وحكاه قولًا في الحج أيضًا. وأما البدنية كالصوم فقد سلف الخلاف فيه في بابه. ثانيها: استدل به أهل الظاهر على أن الوارث يلزمه نصًّا النذر الواجب عن الميت، إذا كان غير مالي [. .] (¬1) ولم يخلِّف تركةً. ومذهب الشافعي وجمهور العلماء أنه لا يلزمه ذلك، لعدم التزام الوارث له لكن يستحب، وحديث سعد هذا يحتمل أنه قضاه من تركتها أو تبرع به وليس فيه تصريح بإلزامه ذلك. ثالثها: استفتاء الأعلم ما أمكن، وللأصوليين خلاف شهير في هل يجب على العامي أن يبحث عن الأعلم أو يكتفي بسؤال أيِّ عالم كان؟ ويترجح الأول بأن الأعلم أرجح، والعمل بالراجح واجب. رابعها: بر الوالدين والأقارب بعد وفاتهم والتوصل إلى إبراء ذممَهِم. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة (أو كان).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 386/ 5/ 73 - عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي، صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك" (¬1). الكلام عليه من وجوه: سها بعض الشرَّاح فحذفه: أحدها: في التعريف براويه: هو أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمَّد، ويقال: أبو بشير كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي المدني الشاعر. ¬

_ (¬1) البخاري (6690)، ومسلم (2769)، والترمذي (3102)، وأبو داود (3317)، والنسائي (6/ 152، 153)، وفي الكبرى له (5615، 5616، 5617، 11232)، وعبد الرزاق (5/ 397، 399)، والطبراني في الكبير (19/ 42، 46 , 53)، أحمد (3/ 454، 456، 460)، وابن جرير في التفسير (7/ 11).

أحد الثلاثة الذين تيب عليهم بسبب التخلف عن تبوك: هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العامري ويقال: ابن ربيعة، ويقال: ابن ربعي. وقد ضبط أهل السير أسماءهم وأن أولها "مكة" (¬1)، وآخر أسماء آبائهم "عكة"، وفيهم أنزلت: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. . . .} (¬2) الآية وقصتهم مشهورة في الصحيحين بطولها. [وكان] (¬3) ممن شهد العقبة، واختلف في شهوده بدرًا، والصحيح أنه لم يشهدها، وشهد أحدًا والمشاهد كلها، حاشا تبوك، فإنه تخلف عنها. ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة آخى بينه وبين طلحة بن عُبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وأمه ليلى بنت زيد بن ثعلبة من بني سلمة أيضًا، وكان يهجو المشركين، ويتهددهم بالحرب، ويقول: فعلنا ونفعل. وكان شعراء المسلمين ثلاثة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. فكان كعب يخوفهم الحرب، وابن رواحة يعيرهم بالكفر، وكان حسان يقبل [على] (¬4) الأنساب قاله ابن سيرين [قال] (¬5) وأما شعراء ¬

_ (¬1) إشارة إلى رمز الاسم، مرارة، كعب، هلال هذا بالنسبة: إلى مكة" فـ"الميم" ترمز إلى مرارة و"الكاف" إلى كعب، و"الهاء" إلى هلال. وأما عكة فالحروف ترمز إلى آخر أسماء الآباء فـ "العين" ترمز للربيع, و"الكاف" ترمز إلى مالك و"الهاء" ترمز إلى أمية. (¬2) سورة التوبة: آية 118. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) زيادة من هـ. (¬5) زيادة من ن هـ.

المشركين: فعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعري. وأبو سفيان بن الحارث. روى كعب عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ثمانين حديثًا، اتفقا منها على ثلاثة، وللبخاري حديثٌ، ولمسلم حديثان. روى عنه بنوه عبد الله وعبد الرحمن وعُبيد الله ومحمد ومعبد وحفيده عبد الرحمن بن عبد الله وابن عباس وطائفة، عَمِنَ في آخر عمره، ومات بالمدينة في خلافة معاوية سنة خمسين وقيل: إحدى، وقيل: ثلاث، وقد جاوز الستين. الثاني: لم يتبين في رواية المصنف مقدار البعض، الممسك, وجاء مبينًا في سنن أبي داود تعيينه ففيه قلت: يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله وإلى رسوله صدقة، قال: "لا". قلت: "فنصفه". قال: "لا". قلت: فثلثه. قال: نعم. قلت: فإني سأمسك سهمي من خيبر، وهذه الرواية في سندها محمَّد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث فيكون حجة. الثالث: معنى: "إن من توبتي" من شكر توبتي. ومعنى: "انخلع" أخرج منه. كما جاء في "سنن أبي داود" كما ذكرناه آنفًا. الرابع في فوائده وأحكامه: الأولى: قصد فعل الخيرات، والتصدق بكل المال.

الثانية: المشاورة في الأمور المهمة لأهل العلم والدين، والشفقة بالمشاور، وإنما أورد الاستشارة بصيغة الحكم، لشدة ما حصل له من الفرج بالتوبة. الثالثة: استحباب الصدقة شكرًا لما يتجدد من النعم، لاسيما لما عظم منها، وهو أصل لأهل الطريق في عمل الشكران عند تجدد النعم أو دفع النقم ونحو ذلك. الرابعة: أن الصدقة لها أثر في محو الذنوب، فإنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (¬1)؛ [ولهذا] (¬2) شرعت الكفارات المالية، لما فيها من صلاحية محو الذنوب، ويترتب عليها الثواب الحاصل بسببها، وقد تحصل به الموازنة. فيمحي أثر الذنوب، وقد يكون دعاء من يتصدق عليه سببًا للمحو أيضًا. كذا ذكر هذا الاستنباط الشيخ تقي الدين (¬3)، ويترجح فيه، لأن تصدقه هنا لأجل الشكر، لا لمحو الذنب، فإنه لا ذنب إذن وأنه قال ذلك بعد أن تيب عليه. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 321، 399)، عبد الرزاق (20719)، ابن جان (1723)، الطبراني في الكبير (19/ 361)، الحاكم (4/ 422، 479)، قال في مجمع الزوائد (5/ 247) رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح، وأيضًا (10/ 230، 231)، وقال رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات. (¬2) في ن هـ (ولأجل هذا). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 426).

الخامسة: أن التقرب إلى الله [تعالى] (¬1) بمتابعة [رسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-] (¬2). السادسة: أن إمساك ما يحتاج إليه من المال أولى من إخراجه كله في الصدقة. وقد قسم العلماء ذلك بحسب اختلاف حال الإِنسان في صبره على الضرّ والإِضافة، فإن كان لا يصبر على ذلك كُره له، وإن كان يصبر فلا. وعلى ذلك تنزل الأخبار المختلفة الظواهر. وصحح أصحابنا أيضًا أنه يحرم عليه أن يتصدق بما يحتاج إليه لنفقة من يلزمه نفقته أو لدين لا يرجو له وفاء. السابعة: استدل به بعض المالكية على مذهبه أن من نذر التصدق بكل ماله أكتفي منه بالثلث وهو ضعيف، كما قال الشيخ تقي الدين (¬3)، لأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقته حتى يقع في محل الخلاف، وإنما هو [لفظ عن] (¬4) نية قصد فعل متعلقها -ولم يقع بعد- فأشار -عليه الصلاة والسلام- بأن لا يفعل (¬5) ذلك، [ويمسك] (¬6) بعض ما له، وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه. هذا ظاهر اللفظ، أو هو محتمل له وكيفما كان فتضعف منه الدلالة على مسئلة الخلاف، وهو تنجيز ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) إحكام الأحكام (4/ 426). (¬4) زيادة من ن هـ والمرجع السابق. (¬5) في ن هـ زيادة واو. (¬6) في ن هـ (بمسك)، وفي إحكام الأحكام "وأن يمسك".

الصدقة بكل المال نذرًا مطلقًا أو معلقًا. قلت: وأما أبو داود (¬1) ففهم منه نذر الصدقة بكل ماله، وترجم عليه في "سننه" [في] (¬2) باب: فيمن نذر أن يتصدق بماله، وأورد في أثنائه الرواية التي أسلفناها عنه وتبعه المصنف، فأدخله في النذور أيضًا، وفيه النظر المذكور. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (3/ 612). (¬2) زيادة من ن هـ.

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام للإمام الحافظ العلامة أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (723 - 804) هـ تقديم فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للافتاء حققه وضبط نصه وعزا آياته وخرّج أحاديثه ووثق نقوله وعلق عليه عبد العزيز بن أحمد بن محمد المشيقح غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين الجزء العاشر باب القضاء - كتاب العتق (387 - 436) حديث دار العاصمة للنشر والتوزيع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

باب القضاء

74 - باب القضاء

74 - باب القضاء القضاء، بالمد: الولاية، وجمعه أقضية. كغطاء وأغطية، وهو في الأصل إحكام الشيء وفراغه. ويكون أيضًا الحكم وبمعنى أوجب وقدر بمعنى الإِتمام والأداء. وذكر المصنف في الباب سِتَّةَ أحاديث.

الحديث الأول

الحديث الأول 387/ 1/ 74 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬1)، وفي لفظ: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا اللفظ الأخير عزاه النووي في "أربعينه" (¬2) إلى مسلم خاصة، وصرح عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين" بأن البخاري لم يخرجه، فإنه لما ذكره عن مسلم باللفظين قال: أخرج البخاري اللفظ الأول: "من أحدث في أمرنا هذا"، أي: دون الثاني، لكن البخاري ذكره معلقًا في أواخر "صحيحه"، في أثناء كتاب الاعتصام، [بالكتاب] (¬3)، فقال: (باب: إذا اجتهد العامل، أو الحاكم فأخطأ خلاف الصواب من غير علم، فحكمه مردود، ¬

_ (¬1) البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وأبو داود (4606)، وابن ماجه (14)، وأحمد (6/ 146، 180، 240، 256، 270)، والدارقطني (4/ 224، 225)، والبيهقي (10/ 120). (¬2) حديث (21). (¬3) ما ذكر قبله وبعده موجود في كتاب تصحيح العمدة للزركشي في مجلة الجامعة الإِسلامية عدد (75، 76)، (ص 116)، وهذه غير موجودة فيه.

لقول النبي - صلي الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" هذا لفظه، وذكره في أثناء الصلح باللفظ الأول سندًا، وترجم عليه إذا اصطلحوا على صلح جور فهو مردود (¬1). ثانيها: وجه مناسبة ذكر هذا الحديث في هذا الباب أن القضاء في المحاكمات لا ينحصر فما كان منها على قانون الشرع فهو المقبول، وما كان منها على خلافه فهو مردود. ثالثها: هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام أو نصفه أو ثلثه على ما ذكر فيه، لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام التي لا تنحصر، فإنه صريح في رَدِّ كلِّ البدع والمخترعات في الدين فهو إذن قاعدة عظيمة من قواعد وجوامع كلمه، فينبغي أن يعتني بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به. رابعها: معنى الحديث من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يعمل به، ولا يلتفت إليه، "ورد" معناه مردود فهو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول كأنه قال فهو باطل غير معتد به. خامسها: في اللفظ الثاني زيادة على الأول، وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين ببدعة سُبِقَ إليها فإذا احْتُجَّ عليه باللفظ الأول يقول: أنا ما أحدثت شيئًا. فيُحتج عليه بالثاني الذي فيه التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل أو سُبق بإحداثها. سادسها: في بعض فوائده. ¬

_ (¬1) الفتح (5/ 301).

الأولى: إبطال جميع العقود الممنوعة وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها وعلى تقدير الصحة وبعض الأحكام الباطلة. الثانية: رَدُّ محدثات الأمور والتمسك بما جاء به ولقد كثرت وشاعت ودونت وتعذر زوالها، وصار المنكِرُ لها كالمبتدع، فنسأل الله الإِعانة على الاستقامة. [الثالثة:] (¬1) أن النهي يقتضي الفساد, لأنه أخبر أن كل ما أحدث ممَّا ليس هو من الدين فهو رد. والمنهيات كلها ليست من أمره، فيجب ردها. ومن قال لا يقتضيه أجاب بأنه خبر واحد، فلا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة، وهو جواب فاسد. نعم قد يقع الغلط في بعض المواضع لبعض الناس فيما يقتضيه الحديث من الرد، فإنه قد يتعارض أمران فَيُنتَقل من أحدهما إلى الآخر، ويكون العمل بالحديث في أحدهما كافيًا، ويقع الحكم به في الآخر في محل النزاع، فللخصم أن يمنع دلالته عليه، فينبغي أن تنتبه لذلك. الرابعة: أن حكم الحاكم لا يغير ما في الباطن، لقوله: "ليس عليه أمرنا [ولم يقل ليس عليه أمر] (¬2) الحاكم وهو رد على من خالف في ذلك. ¬

_ (¬1) في ن هـ (الرابعة)، إلى آخر الفوائد. (¬2) زيادة من ن هـ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 388/ 2/ 74 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخلت هند بنت عتبة -امرأة أبي سفيان- على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلَّا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" (¬1). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في الطهارة. وهند هذه أم معاوية لها ذكر ونفس وابقة أسلمت عام الفتح بعد إسلام [زوجها أبي سفيان] (¬2) فأقرا علي نكاحهما وشكته ¬

_ (¬1) البخاري (2211)، ومسلم (1714)، والنسائي (8/ 246، 247)، وابن ماجه (2293)، وأبو داود (3532)، والبغوي (2149، 2397)، وأحمد (6/ 50، 206)، والدارمي (2/ 159)، والبيهقي (7/ 466، 477) (10/ 141، 269، 270). (¬2) بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ.

[ذلك] (¬1) اليوم لرسول الله - صلي الله عليه وسلم -[وشهدت أحدًا كافرة مع] (¬2) زوجها أبي سفيان وقصتها في البيعة مشهورة، ماتت في خلافة عمر في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والد الصديق سنة أربع عشرة في المحرم. وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب الأموى والد معاوية ويزيد وعتبة، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية وأفضلهم، ومن التجار، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكانت لا يجلسها إلَّا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. أسلم يوم الفتح، وقال -عليه الصلاة والسلام- يومئذٍ "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وشهد حنينًا وأعطى من غنائمها مائة بعير وأربعين أوقية، وزنها له بلال، وأعطى ابنيه يزيد، ومعاوية. وشهد الطائف، وفقئت عينه يومئذٍ وشهد اليرموك، ومات في خلافة عثمان سنة ثلاث وثلاثين ابن بضع وسبعين على أحد الأقوال فيها، وصلى عليه ابنه معاوية وقيل عثمان. ودفن بالبقيع. وممن قتل من أولاده يوم بدر كافرًا ابنه حنظلة، وبه كان يكنى كنيته فانتبه وترجمته موضحة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا [الكتاب] (¬3) وكذلك ترجمة هند. الوجه الثاني: في الكلام على ألفاظه: ¬

_ (¬1) بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ. (¬2) بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ.

قولها: "رجل شحيح" هو مبالغة في الشح، وهو البخل مع حرص، كما قاله الجوهري (¬1)، يقال: شحيح وشحاح بفتح الشين، وقال القاضي: الشح عندهم في كل شيء فهو [أعم] (¬2) من البخل وقيل: الشح لازم كالطبع. قال الجوهري: يقول شححت بالكسر أشح يشح وتشح. واعلم أن هذا الحديث ورد بثلاثة ألفاظ: إحداها: شحيح. ثانيها: ممسك. ثالثها: مسيّك، واختلف في ضبط هذين اللفظين على وجهين: أحدهما: فتح الميم وتخفيف السين. وثانيهما: كسر الميم وتشديد السين، وهذا أشهر من روايات المحدثين، والأول أصح عند أهل العربية ومعناها شحيح وبخيل، وكلاهما للمبالغة (¬3). قال القرطبي (¬4): ولم يرد أنه شحيح مطلقًا فتذمه بذلك وإنما وصفت حاله معها، فإنه كان يقتر عليها، وعلى أولادها، كما سلف، وهذا لا يدل على البخل مطلقًا، فقد يفعل الإِنسان هذا مع أهل بيته، ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (405). (¬2) في ن هـ (الأعم). (¬3) انظر: شرح مسلم (12/ 11). (¬4) المفهم (5/ 159).

لأنه يرى غيرهم أحوج وأولى، فيعطي غيرهم. وعلى هذا فلا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على بخله، فإنه لم يكن معروفًا بهذا. وقوله لها: "خذي" هذا الأمر على جهة الإِباحة بدليل الرواية الأخرى في الصحيح " [لا حرج] (¬1) عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف". [ومعنى بالمعروف] (¬2) القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإِباحة وإن كانت مطلقة لفظًا فهي مفيدة معنى. كأنه قال: إن صح أو ثبت ما ذكرت فخذي. الوجه الثالث: في أحكامه وفوائده: الأولى: وجوب نفقة الزوجة وهو إجماع. الثانية: أنها مقدرة بالكفاية، وهو قول الشافعي -رحمه الله-، وله قول ثان أن الاعتبار بالقاضي يجتهد [ويقدر] (¬3) حكاه الرافعي عن صاحب "التقريب" (¬4)، وعبارة الإِمام في حكايته عنه يقتضي أنه إنما يرجع إلى اجتهاد القاضي في الزيادة على الموفى حق المتوسط وفي نفقة الخادم فقط إلَّا في أصل النفقة، والصحيح في مذهبه أنها مقدرة ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) التقريب شرح على المختصر يستكثر فيه من الأحاديث ومن نصوص الشافعي باللفط لا بالمعنى بحيث يستغني من هو عنده غالبًا عن كتب الشافعي كلها. مؤلفه القاسم بن القفال الكبير الشاسي محمَّد بن علي انظر: طبقات الشافعية لابن شهية (1/ 188). أقول: سبق كتاب التقريب لنصر بن محمَّد بن نصر المقدسي.

بالأمداد على الموسر كل يوم مدان وعلى المعسر مد وعلى المتوسط مد ونصف. وقال ابن خيران (¬1) وغيره من أصحابنا: المعتبر عرف الناس في البلد. وعند أبي حنيفة ومالك: الاعتبار بحال المرأة ويختلف القدر برغبتها وزهادتها. ويقال: النظر عند أبي حنيفة إلى شرفها وحسنها. وعند أحمد: ينظر إلى حال الزوجين جميعًا، فيجب على الموسر للفقيرة نفقة متوسطة. ومحل الخوض في ذلك كتب الخلاف، وهذا الحديث شاهد للقول منها كما أسلفناه. الثالثة: وجوب نفقة الأولاد الصغار. الرابعة: أنها مقدرة بالكفاية، وهو الصحيح عندنا، خلافًا لابن خيران، فإنه قال: إنها [تتقدر بتعدد نفقة الزوجة] (¬2). الخامسة: جواز سماع كلام الأجنبية عند الإِفتاء والحكم، وكذا ما في معنى ذلك. السادسة: ذكر الإِنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والشكوى ¬

_ (¬1) هو الحسن بن صالح بن خيران أبو علي البغدادي، أحد أئمة المذهب، مات في ذي الحجة سنة عشرين وثلاثمائة. ترجمته في طبقات الشافعية للعبادي (67) شذرات الذهب (2/ 287)، ابن قاضي شهبة (1/ 92). (¬2) في ن هـ (يتقدر نفقة الزوجة).

ونحوهما، وهذا مستثنى [من المنع] (¬1) من الغيبة (¬2). السابعة: أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من له قدر حقه بغير إذنه ومراجعته، وهذا مذهب الشافعي، وأصحابه، وتسمى "مسألة الظفر" ومنع ذلك أبو حنيفة (¬3) ومالك (¬4) كما حكاه النووي في "شرحه لمسلم" (¬5) عنها. قال القرطبي (¬6): وهو مشهور مذهب مالك، وحكى غيره عن أبي حنيفة أنه يأخذ جنس حقه، ولا يأخذ غيره إلَّا أنه يأخذ الدراهم بدلًا من الدنانير وبالعكس. وعن أحمد (¬7) أنه لا يأخذ الجنس ولا غيره. وعن مالك إن لم يكن على المديون دين آخر فله أخذه، وإن كان عليه فلا يأخذ إلَّا قدر حصته. وحكى المازري عن مالك ثلاثة أقوال: ثالثها: الجواز لمن ظفر بجنس حقه، وإلَّا فلا. الثامنة: أنه يجوز الأخذ من الجنس ومن غيره، كما هو ظاهر الإِطلاق، والأصح عند أصحابنا أنه لا يأخذ غير الجنس إلَّا إذا تعذر الجنس. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر: كتاب الأذكار للنووي رحمه الله (292)، وقد سبق التعليق على هذا في (8/ 373) من هذا الكتاب المبارك. (¬3) انظر: فتح القدير (4/ 236)، رد المحتار والدر المختار (3/ 319). (¬4) القوانين الفقهية لابن جزي (359)، الشرح الكبير للدردير (4/ 335). (¬5) (12/ 7). (¬6) المفهم (5/ 161). (¬7) المغني (8/ 254).

التاسعة: جواز إطلاق الفتوى من غير تقييد بثبوت كما [أطلقه] (¬1) -عليه الصلاة والسلام-. وإن قلنا بالثاني: فلابد من إذنه. [الحادية عشرة] (¬2): جواز اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي. الثانية عشرة: جواز خروج الزوجة من بيتها لحاجتها من محاكمة واستفتاء وغيرهما، إذا أذن لها زوجها في ذلك، أو علمت رضاه به (¬3). الثالثة عشرة: أن ما يذكر في الاستفتاء لأجل ضرورة معرفة الحكم إذا تعلق به أذى الغير لا يوجب تعزيرًا. الرابعة عشرة: جواز القضاء على الغائب، كذا استدل به جماعة من أصحابنا، وترجم عليه البخاري (¬4) في صحيحه، وفيه قولان لأهل العلم: ¬

_ (¬1) في الأصل مطموسة، وما أثبتناه من ن هـ. (¬2) هكذا في المخطوط الحادية عشرة. والترقيم خطأ. العاشرة وهكذا إلى آخر الأحكام. (¬3) في ن هـ زيادة: لكن هند خرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} , فقال -عليه الصلاة والسلام- أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا فقالت هند: لو أشركنا بالله شيئًا ما دخلنا في الإِسلام إلى أن قال أبايعكن على أن لا تسرقن شيئًا فقالت هند أن أبا سفيان رجل شحيح الحديث، وظاهر هذا السياق يدل على أن خروجها لم يكن للاستفتاء فتنبه له. (¬4) الفتح (13/ 171) ح (7180)، باب: القضاء على الغائب.

أحدهما: لا يقضي عليه بشيء، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين. وثانيهما: يقضي عليه في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى. وهو قول الشافعي والجمهور، ذلك أن يمنع الدلالة من هذا الحديث لما نحن فيه, لأن القصة كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبًا عن البلد على الأصح أو مستترًا لا يقدر عليه أو متعذرًا. ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودًا، فلا يكون قضاء على الغائب، بل هو إفتاء، وبهذا كان السؤال على سبيل الاستفتاء لا في معرض الدعوى، وقد يقال قوله -عليه الصلاة والسلام- لها: "خذي" دال على أنه كان قضاء، إذ لو كان فتوى لقال: لا بأس عليك ونحوه. وقام علمه -عليه الصلاة والسلام- بأنها زوجته مقام البينة. ويجوز أن يكون مسافرًا وقت سؤالها وترك عندها ما لا يكفيها, ولهذا قالت: لا يعطيني. ولم تقل: ما ينفق عليّ فإن الغالب في حضور الزوج يتولى النفقة بنفسه. الخامسة عشرة: أنه لا يتوقف أخذ الحق من مال من عليه على تعذُّر الإِثبات عند الحاكم، وهو وجه لأصحابنا، لأن هندًا كان يمكنها الرفع إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأخذ الحق بحكمه. السادسة عشرة: أن للمرأة ولاية على ولدها من حيث أن صرف المال [على] (¬1) المحجور عليه أو تملكه له يحتاج إلى ولاية، ¬

_ (¬1) في ن هـ (إلى).

وفيه نظر, لأن الأب كان موجودًا، إلَّا أن يقال: إن تعذر استيفاء الحق من الأب أو غيره مع تكرر الحاجة دائمًا يجعله كالمعدوم وليس بطائل. السابعة عشرة: أن القول قول الزوجة في قبض النفقة، كما قاله أصحابنا, لأنه لو كان القول قوله كما قاله مالك لكلفها إثبات عدم الدفع. وأجاب عنه المازري (¬1) أن ذلك من باب تعليق الفتيا. الثامنة عشرة: من تراجم البخاري (¬2) على هذا الحديث من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، وذلك إذا كان أمرًا مشهورًا. وستمر بك المذاهب في المسألة في الحديث الآتي بعد إن شاء الله. واستدل به البيهقي في "سننه" (¬3) على أن له -عليه الصلاة والسلام- أن يحكم بعلمه. التاسعة عشرة: أن النفقة واجبة على الأب كما سلف. العشرون: أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئًا إلَّا بإذنه وإن قل، ورواية البخاري (¬4) "فهل عليّ [من] (¬5) حرج أن أطعم من الذي له [عيالنا] (¬6)؟ قال: لا [أراه إلَّا] (¬7) بالمعروف" ولم ¬

_ (¬1) المعلم (2/ 404). (¬2) الفتح (13/ 138) ح (7161). (¬3) السنن (10/ 142). (¬4) البخاري (3825)، باب: ذكر هند بنت عتبة -رضي الله عنها-. (¬5) زيادة من البخاري. (¬6) زيادة من المرجع السابق. (¬7) زيادة من المرجع السابق.

تذكر من تطعم محمولة على باقي الروايات أن المراد نفسها وبنيها. ورواية العيال محمولة على هذا وعلى من يلزمه نفقته من خادم. الحادي بعد العشرين: أن مال الغير على الغير محظور، لا يجوز التصرف فيه إلَّا بإذن صاحبه أو بأمر شرعي، [واستنبط القاضي حسين منه أيضًا ذكر المرء بالكنية عند العظيم من الناس وجواز الإِمام لا حد الخصمين دون الآخر] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 389/ 3/ 74 - عن أم سلمة -رضي الله عنها- "أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: "ألا إنما أنا بشرٌ، وإنما يأتين الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من [النار] (¬1) فليحملها أو يذرها" (¬2). الكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الجنابة. الثاني: في ألفاظه ومعانيه: -الجلبة- بفتح الجيم واللام، وفي رواية في الصحيح "لجبة" بتقديم اللام على الجيم مع فتحها، ¬

_ (¬1) في متن عمدة الأحكام (نار). (¬2) البخاري (2458)، ومسلم (1713)، والنسائي (8/ 233)، والترمذي (1339)، وابن ماجه (2317)، ومالك (2/ 719)، وأحمد (6/ 203، 290، 307)، والدارقطني (4/ 239)، والبيهقي (10/ 143، 149)، وابن الجارود (999، 1000)، وابن أبي شيبة (7/ 233)، والبغوي (2506).

وهما لغتان فصيحتان، ومعناها: اختلاط الأصوات، يقال: منه جلّبوا بالتشديد. و"الخصم" معروف يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث, لأنه في الأصل مصدر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه، فيقول: خصمان وخصوم. و"الحجرة" بضم الحاء وسكون الجيم وجمعها حجر وحجرات، وهذه الحجرة هي بيت أم سلمة -رضي الله عنها-، كما جاء في رواية أخرى في الصحيح "بباب أم سلمة". و"البشر" الخلق سمي بذلك لظهور بشرته دون ما عداه من الحيوان. وقوله: "إنما أنا بشر"، معناه التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئًا، إلَّا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك، وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن على خلاف ذلك، ولكنه إنما كلف بالظاهر. وهذا نحو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلَّا بحقها، وحسابهم على الله"، وقوله في حديث المتلاعنين "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"، ولو شاء الله لأطلعه على باطن أمر الخصمين، فحكم بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة ويمين، كما أطلعه على مغيبات وصارت في حقه معجزات، ولكن لما أمر الله

تعالى أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور. ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، ولهذا قال: "إنما أنا بشر" لأجل خطابه لهم وإلَّا فالغيب لا يعلمه من في السموات والأرض إلَّا الله، ولعله إنما عبر به دون غيره من الألفاظ امتثالًا لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره، ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن. وهذا الحديث وإن كان ظاهره يقتضي أنه قد يقع منه حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه -عليه الصلاة والسلام- لا يقر على خطأ في الأحكام، فلا مخالفة بينها, لأن مراد الأصوليين ما حكم فيه بالاجتهاد فهل يجوز أن يقع فيه خطأ؟ والأكثرون على الجواز، لكن لا يقر عليه، بل يُعلمه الله تعالى به، ويتداركه. ومراد الحديث ما حكم فيه بغير اجتهاد كالبينة واليمين، فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ، بل هو صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب الحكم بشاهدين مثلًا، فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما، وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك، ولا عيب عليه بسببه، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد، فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع، وإن كان يثاب على اجتهاده ويؤجر، وأبى بعض الشرّاح هذا، وقال: هو معصوم فلا يقع منه حكم بخلاف ما هو عليه

في نفس الأمر، وإنما قال ذلك تحذيرًا وتخويفًا لأمته أن يقع أحد منهم في شيء من ذلك. ومعنى "أبلغ" أكثر بلاغة وإيضاحًا لحجته. وفي رواية أخرى قال: في الصحيح "ألحن" بدل "أبلغ" ومعناهما، واحد، أي: أفصح وأفطن. وقوله: "فمن قضيت له بحق مسلم"، هذا التقييد خرج على الغالب، وليس المراد به الاحتراز من الكافر فإن مال الذمي والمعاهد والمرتد في هذا كمال المسلم. وقوله: "فإنما هي" هذا الضمير يعود إلى القضية أو الحالة هذه، وفي رواية أخرى في الصحيح: "فإنما أقطع له قطعة من النار"، والمعنى من قضيت [له] (¬1) بظاهر يخالف الباطن فهو حرام [يزُل به في] (¬2) النار، وهذا مَثَلٌ يُفهم منه شدة العذاب والتنكيل. وقوله: "فليحملها أو يذرها" لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬3). وكقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬4)، وليس المراد التخيير بين الفعل والترك، إذ العامل لا يختار الهلاك على النجاة باستمراره على الباطل، بل يختار النجاة بتركه. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ (يؤول به إلى). (¬3) سورة الكهف: آية 29. (¬4) سورة فصلت: آية 40.

الوجه الثالث: في أحكامه: الأول: أن حكم الحاكم لا يحل الباطل ولا يحل حرامًا. فإذا شهد شاهدا زور للإِنسان بمال فحكم به الحاكم لم يحل للمحكوم له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما. وإن شهدا بالزور أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق. وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الإِسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين من بعدهم. وقال أبو حنيفة: يحل حكم القاضي الفروج دون الأموال. وقال يحل نكاح المذكورة، قال صاحب "شرح المختار" للفتوى منهم القضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ كالنكاح والطلاق والبيع [وكذلك] (¬1) الهبة والإِرث وقالا: لا ينفذ باطنًا يعني محمدًا وأبا يوسف قال: صورته شهد شاهدان [بالزور] (¬2) بنكاح امرأة لرجل فقضى بها القاضي نفذ عنده يعني أبا حنيفة حتى حلَّ للزوج وطؤها خلافًا لهما, ولو شهدا بالزور على رجل أنه طلق امرأته بائنًا فقضى القاضي بالفرقة ثم تزوجها آخر جاز ذلك وعندنا إن جهل الزوج الثاني ذلك حل له وطؤها اتباعًا للظاهر لأنه لا يكلف علم الباطن وإن علم فلا, ولو وطئها الزوج الأول كان زانيًا ويُحَدُّ. وقال محمَّد: يحل له وطؤها [وقال أبو يوسف: لا يحل له وطؤها] (¬3) , لأن قول ¬

_ (¬1) في ن هـ (وكذا). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) زيادة من ن هـ.

أبي حنيفة أورث شبهة، فيحرم الوطء احتياطًا، ولا ينفذ في معتدة الغير ومنكوحته بالإِجماع؛ لأنه لا يمكنه تقديم النكاح على القضاء. وفي الأجنبية أمكن ذلك فيتقدم تصحيحًا له وقطعًا للمنازعة. وينفذ بيع الأَمَة عنده حتى يحل للمشتري وطؤها، وينفذ في الهبة والإِرث حتى يحل للمشهود له أكل الهبة والميراث. وروي عنه يعني أبا حنيفة: أنه لا ينفذ فيهما لهما قال و [قوله] (¬1) -عليه الصلاة والسلام-: "إنكم تختصمون" إلى آخره عام فيعم جميع العقود والفسوخ وغير ذلك، فينبغي أن يكون الحكم في الباطن هو عند الله. أما الظاهر فالحكم لازم على ما أنفذه القاضي، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر". قال: وله، يعني: أباحنيفة ما رُوي أن رجلًا خطب امرأة وهو دونها في الحسب، فأبت أن تتزوجه، فادعى أنه تزوجها. وأقام شاهدين عند عليّ فحكم عليها بالنكاح، فقالت: إني لم أتزوجه وإنهم شهود زور [فزوجني منه] (¬2)، فقال علي: شاهداك زوجاك. وأمضى عليها النكاح، ولأنه قضى بأمر الله تعالى بحجة شرعية، فيما له ولاية الإِنشاء، فيحل إنشاءه تحرزًا عن الحرام. وحديثها صريح في المال، قال: ونحن نقول به فإن قضاء القاضي الأملاك المرسلة، لا ينفذ بشهادة الزور لهذا الحديث، ولقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬3) , وروي أنها نزلت فيه، ولأن القاضي لا يملك ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) سورة النساء: آية 29.

إثبات الملك بدون التثبت؛ فإنه لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو. وأما العقود والفسوخ [فإنه يملك إنشاءها] (¬1)؛ فإنه يملك بيع أمَة زيد وغيرها من عمر وحال غيبته وخوف الهلاك للحفظ. وكذلك لو مات ولا وَصِيَّ له، ويملك إنشاء النكاح على الصغير وعلى الصغيرة والفرقة على العنين وغير ذلك، فيثبت أن له ولاية الإِنشاء في العقود والفسوخ، فيحل القضاء إنشاءه احترازًا عن الحرام، ولا يملك ذلك في الأملاك المرسلة بغير إثبات فتعذر جعله إنشاء فبطل. ثم يقول: لو لم تنفذ باطنًا، فلو قضى القاضي بالطلاق [أصبحت] (¬2) حلالًا للزوج الأول باطنًا، والثاني ظاهرًا ولو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي به الأول حلت للثالث أيضًا وهكذا رابع وخامس فتحل للكل في زمن واحد وفيه من الفُحْش ما لا يخفى، ولو قلنا بنفاذه باطنًا لا تحل إلَّا لواحد فلا فحش فيه. هذا آخر كلام هذا الشارح، قال النووي في "شرح مسلم" (¬3): وقول أبي حنيفة مخالف لهذا الحديث الصحيح ولإِجماع من قبله [(¬4)] ولقاعدة وَافقَ هو وغيره عليها وهي أن الأَبضاعَ أولى بالاحتياط من الأموال. وقال القرطبي (¬5): أيضًا قوله "أن حكم الحاكم، يغير حكم الباطن في الفروج خاصة، حتى يحل فيما إذا شهدا زورًا على رجل ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (لبقيت). (¬3) شرح مسلم (12/ 6). (¬4) في المرجع السابق زيادة ومخالف. (¬5) المفهم (4/ 158).

بطلاق زوجته، وحكم القاضي بشهادتهما أن يتزوجها غيره ممن يعلم كذبها مما شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال، ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة في الباطن ولم يَصُن [الفروج عن ذلك] (¬1) [والفروج] (¬2) أحق أن يحتاط لها وتصان. تذنيب: اتفق أصحابنا على ما حكاه الشيخ تقي الدين (¬3) على أن القاضي الحنفي إذا قضى بشفعة الجوار للشافعي أخذها في الظاهر واختلفوا في حِلها في الباطن على وجهين، ولا ينقض قضاؤه بها على الأصح عندنا، وعند المالكية لا يحل له الأخذ بها إذا حكم الحنفي له بها، والحديث عام بالنسبة إلى سائر الحقوق، والذي اتفق عليه أصحابنا أن الحجة إذا كانت باطلة في نفس الأمر بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها أن ذلك لا يؤثر، وإنما وقع التردد في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقاد القاضي اعتقاد المحكوم له، كما قلنا في شفعة الجار. الثاني (¬4): إجراء الأحكام على الظاهر، والله يتولى السرائر. الثالث: إعلام الناس بأنه -عليه الصلاة والسلام- في الحكم بالظاهر كغيره، وإن كان يفترق منع الغير في اطلاعه على ما يطلعه ¬

_ (¬1) في ن هـ (عن ذلك الفروج). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (4/ 435). (¬4) هكذا في المخطوط الثاني، ولعله اكتفى بالتذنيب عن الأول.

الله عليه من الغيوب الباطنة، وذلك في أمور [مخصوصة] (¬1) لا في الأحكام العامة، ومن هنا يتبين افتراء من أعرض عن قاعدة الشرع [وحكم] (¬2) بخاطر القلب وقال الشاهد المتصل بي أعدل من المنفصل عني أسأل الله [سلوك الصواب] (¬3) بما جاءت به السنَّة والكتاب. الرابع: قد سلف في أول الكتاب [أن الحصر قد يكون] (¬4) عامًّا، وقد يكون خاصًّا، وهذا من الخاص، وهو فيما يتعلق بالحكم بالنسبة إلى الحجج الظاهرة. الخامس: أن الحاكم لا يحكم إلَّا بالظاهر فيما طريقه الثبوت ببينة أو إقراره ولا يحكم ما يعلمه في الباطن مخالفًا لما ثبت في الظاهر ولا عكسه، نعم لو علم شيئًا بطريقه الشرعي خبرًا يقينًا أو ظنًّا راجحًا أو مشاهدة من غير بينة أو إقراره في حال الدعوى أو قبلها فيه سبعة مذاهب. أحدها: أنه لا يقضي بعلمه من شيء وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد والشعبي، وهو قول للشافعي وشريح، ومشهور مذهب مالك. الثاني: نعم مطلقًا، وبه قال أبو ثور ومن تبعه، وهو قول للشافعي أيضًا. الثالث: أنه يقضي به فيما سمعه في قضائه خاصة لا قبله ولا في غيره إذا لم يحضر مجلسه بينة، وفي الأموال خاصة، وبه قال ¬

_ (¬1) في الأصل مبتورة الكلمة، وما أثبت من هـ. (¬2) الكلمة مطموسة في الأصل، وما أثبت من ن هـ. (¬3) الكلمة مطموسة في الأصل، ما أثبت من ن هـ. (¬4) الكلمة مطموسة في الأصل، وما أثبت من هـ.

الأوزاعي وجماعة من أصحاب مالك وحكوه عنه. الرابع: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه، وفي غيره لا قبل قضائه، ولا في غير مضرة في الأموال خاصة، وبه قال أبو حنيفة. الخامس: أنه يقضي بعلمه في الأموال خاصة، سواء سمع ذلك في مجلس قضائه وفي غيره قبل ولايته أو بعدها، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وحكاه القرطبي قولًا عن الشافعي. السادس: أنه يقضي بعلمه في الأموال والقذف خاصةً ولا يشترط مجلس القضاء، وبه قال بعض المالكية. السابع: أنه يقضي بعلمه إلَّا في حدود الله تعالى، وهو أصح أقوال الشافعي، ومحل الخوض في [ذلك] (¬1) كتب الخلاف. الثامن: العمل بالظن وبناء الحكم عليه، حيث قال: فأحسب أنه صادق، وهو أمر إجماعي بالنسبة إلى الحاكم والمفتي. التاسع: موعظة الإِمام للخصوم، وعليه ترجم البخاري (¬2) وترجم عليه أيضًا القضاء في قليل المال وكثيره (¬3)، وترجم عليه ايضًا من أقام البينة بعد اليمين (¬4)، وقال فيه: "فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا [بقوله] (¬5) ". ¬

_ (¬1) في ن هـ (المسألة). (¬2) الفتح (13/ 157) ح (7169). (¬3) الفتح (13/ 178) ح (7185). (¬4) الفتح (5/ 288) ح (2680). (¬5) في ن هـ (فيه)، وهي خطأ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 390/ 4/ 74 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة [رضي الله عنهما] (¬1) قال: كتب أبي -أو كتبت له- إلى ابنه عُبيد الله بن أبي بكرة وهو قاضٍ بسجستان: أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" (¬2). وفي رواية: لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان. الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا اللفظ الأول هو ما ذكره مسلم ولم يذكر غيره، واللفظ الثاني هو ما ذكره البخاري هنا، وترجم عليه هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان (¬3)؟ ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) البخاري (7158) , ومسلم (1717)، وأبو داود (3589)، والترمذي (1334)، والنسائي (8/ 237، 238)، وابن ماجه (2316)، وابن الجارود (997)، والدارقطني (4/ 205)، والبغوي (2498)، وابن أبي شيبة (7/ 232، 233)، والبيهقي (10/ 104، 105)، وأحمد (5/ 36، 38، 46، 52). (¬3) الفتح (13/ 136) ح (7158).

الثاني: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه. أما عبد الرحمن [بن أبي بكرة] (¬1) فهو [أبو بحر] (¬2) ويقال: أبو حاتم عبد الرحمن بن أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي البصري، وهو أول من ولد في الإِسلام، وله عدة إخوة، روى عن أبيه وعلي وغيرهما، وعنه ابن سيرين وجماعة من التابعين ذكره أبو حاتم [بن حبان] (¬3) في "ثقاته". ولد سنة أربع عشرة. وتوفي سنة ست وتسعين مع إبراهم النخعي على قول في إبراهيم. وأما أخوه عُبيد الله: فهو أبو حاتم أحد الكرام المذكورين والسمحاء المشهورين. روى عن علي وأبيه، وعنه ابنه زياد وسعد مولى أبي بكرة وغيرهما. تولى قضاء البصرة وأمرة سجستان وثقه العجلي، وكان قليل الحديث. أمه هولة بنت غليظ من بني عجل، وهو أصغر من عبد الرحمن وأجود منه. مات سنة سبع وتسعين. [وأما أبوهما فسلف التعريف به في باب الربا والصرف] (¬4). الوجه الثالث: في ضبط ما فيه من أسماء الأماكن وتعريفه: "سِجِسْتان" بلاد معروفة لكابل، وكان بها جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وهي بكسر السِّين الأولى والجيم وسكون الثانية. ثم مثناة فوق. وقال صاحب "المشارق" (¬5) ثم "المطالع" هو بفتح السِّين ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) من ن هـ (انجر). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في هـ ساقطة. (¬5) مشارق الأنوار (2/ 234) ذكره فيه (بفتح السين الأولى وفتح الجيم).

والتاء ولم يزدا على ذلك, والذي ذكره السمعاني في "أنسابه" (¬1) فتحها كما قدمناه. الوجه الرابع: معنى "كتب أبي أو كتبت له إلى ابنه"، أي: كتب بنفسه مرة وأمر ولده عبد الرحمن مرة أخرى أن يكتب لابنه عُبيد الله، وهو أخو عبد الرحمن، وزاد ذلك عليه تأكيدًا. الوجه الخامس: في أحكامه وفوائده: الأولى: المنع من القضاء حالة الغضب، وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التهويش الموجب لاختلال النظر وعدم حصوله على الوجه المطلوب، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل حال يخرج الحاكم بها عن سداد النظر واستقامة الحال. . . . كالشبع المفرط والجوع المغلق والهم المضجر والفرح المفرط ومدافعة الحدث والتوقان إلى الطعام والمرض المؤلم والحر المزعج والبرد المنكي والنعاس الغالب وتعلق [القلب] (¬2) بأمر، ونحو ذلك، وهو قياس مظنة [على مظنة] (¬3) فإن كل واحد من هذه الأمور مهوش للذهن حامل على الغلط. وكأن الغضب إنما خُصَّ لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته. وقد رُوي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا "لا يقضي القاضي إلَّا وهو شبعان ريَّان" رواه البيهقي (¬4) وضعفه. لكن المعنى السالف يعضده. ولو خالف وقضى في حال ¬

_ (¬1) الأنساب (2/ 105). (¬2) في الأصل (الأمر)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) السنن الكبرى (10/ 106).

من هذه الأحوال نفذ إذا صادف الحق وكان مكروهًا لهذا النهي، وقد قضى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في شراج الحرة وقال في لقطة الإِبل: "مالك ولها دعها" في حال الغضب. قلت: لكنه في حق -عليه أفضل الصلاة والسلام- لا يكره فإنه معصوم، ولا يقول في الرضا والغضب إلَّا حقًّا، وممن صرح بعدم الكراهة في حقه هو في "شرحه لمسلم" هو بعد هذا بأوراق في أثناء كتاب اللقطة (¬1) حيث قال في حديث لقطة الإِبل: فيه جواز الفتوى والحكم في حال الغضب، وأنه نافذ، لكن يكره ذلك في حقنا, ولا يكره في حقه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف علينا هذا لفظه. وأما من ادعى أنه لعله تكلم عن الحكم قبل أن يغضب أو لم ينته به الغضب إلى الحد القاطع عن سلامة الحاضر فبعيد واهٍ، وأي ضرورة دعت إلى ذلك. الثانية: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الغضب لله تعالى أو لغيره، وهو ظاهر إطلاق جماعة من الشافعية، لكن قيد إمام الحرمين والبغوي وغيرهما الكراهة فيما إذا لم يكن الغضب لله تعالى. وأما الروياني فإنه يستغرب هذا التفصيل. الثالثة: العمل بالكتابة، وأنها كالسماع من الشيخ في وجوب العمل. وأما في الرواية فمنع الرواية بها قوم إذا كانت مجردة عن الإِجازة منهم الماوردي والصحيح المشهور بين أهل الحديث الجواز ¬

_ (¬1) شرح مسلم، كتاب: الأقضية (12/ 15)، كتاب: اللقطة (12/ 24).

[ثم] (¬1) أنه يقول في الرواية بالكتابة كتب إليَّ فلان، قال: [ثنا] (¬2) فلان أو أخبرني فلان كتابة أو مكاتبة ونحوه، ولا يجوز إطلاق ثنا، وأنا، وجوّزه الليث ومنصور وغير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم، واحترزت أولًا بالمجردة عن الإِجازة عن المقرونة بها كأجزتك [بما] (¬3) كتبت لك أو به إليك ونحوه من عبارات الإِجازة، فإنها في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإِجازة. الرابعة: في كتابة أبي بكرة لولده , ذكر الحكم مع دليله في الفتوى والتعليم نشر العلم للعمل به والاقتداء , وإن لم يسأل عنه. ¬

_ (¬1) في الفتح (13/ 138) (نعم). (¬2) في ن هـ (حدثنا). (¬3) في ن هـ (ما).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 391/ 5/ 74 - عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" [ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة الزور"، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت] (¬1) " (¬2). الكلام عليه من وجوه، واللفظ المذكور للبخاري بنحوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في الكلام على الحديث قبله، وأنه سلف في باب الربا. ثانيًا: في معانيه: قوله "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا"، معناه قال: هذا الكلام ثلاث مرات وكرره للتأكيد وتنبيه السامع على إحضار قلبه وفهمه لما يخبرهم به. وفَهِمَ الفاكهيُّ من قوله "ثلاثًا" أن المراد به عدد الكبائر وهو عجيب. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري (2653)، ومسلم (87)، والترمذي (2301)، وأحمد (5/ 36، 38)، والبيهقي (10/ 156)، والبغوي (1/ 83).

وقوله: "الإِشراك بالله"، يحتمل كما قال الشيخ تقي الدين أن يراد به مطلق الكفر، فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، لاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيهًا على غيره قال [ويحتمل أن يراد به خصوصه، إلَّا أنه يرد على هذا الاحتمال (¬1) أن بعض الكفر أعظم قبحًا من الإِشراك] (¬2). وهو التعطيل، أي لأنه نفي مطلق، والإِشراك إثبات مقيد، فهذا يرجح الاحتمال الأول. وقوله: "وعقوق الوالدين"، قد تقدم الكلام عليه في الحديث الثاني من باب الذكر عقب الصلاة فراجعه منه. وقوله: "وكان متكئًا"، فجلس جلوسه -عليه الصلاة والسلام- للاهتمام بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وإنما تمنوا سكوته شفقة عليه وكراهية لما يزعجه ويغضبه واهتمامه بأمر شهادة الزور أو قول الزور [يحتمل] (¬3)، كما قال الشيخ تقي الدين (¬4): أن تكون لأنها أسهل وقوعًا على الناس، والتهاون بها أكثرُ، فمفسدتها أيسر وقوعًا. ألا ترى أن المذكور معها هو الإِشراك بالله، ولا يقع فيه مسلم، وعقوق الوالدين، والطبع صارف عنه. وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها, وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها -وهو الإِشراك- قطعًا. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام زيادة (أنه قد يظهر). (¬2) زيادة من ن هـ والمرجع السابق. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) إحكام الأحكام (4/ 444).

ويحتمل أن يكون اهتمامه عليه الصلاة والسلام بها لأن مفسدتها متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الاشراك فإن مفسدته قاصرة على صاحبه. وقوله: "وقول الزور شهادة الزور" يحتمل أن يكون من باب ذكر الخاص بعد العام, لأن كل شهادة زور قول زور بخلاف عكسه. وقال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن يحمل قول الزور على شهادة الزور، فإنا لو حمناه على الإِطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقًا كبيرة وليس كذلك، وقد نصَّ الفقهاء على أن الكذبة الواحدة وما يقاربها لا تُسقط العدالة، ولو كانت كبيرة لأسقطت. وقد نص الله تعالى على عظم بعض الكذب. [فقال تعالى] (¬1): {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬2)، وعِظمُ الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، وقد نص في الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة عندي تختلف بحسب المعقول والمغتاب به، فالغيبة بالقذف كبيرة لإِيجابها الحد، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلاً، أو [نقص] (¬3) الهيئة في اللباس مثلًا، وليس العقوق وقول الزور مساوياً للإِشراك بالله قطعاً إلَّا إذا فعل ذلك معتقداً حله، ومعلوم أن الكافر شاهد بالزور وقائل به. ¬

_ (¬1) في الأصل (وقال)، وفي إحكام الأحكام (فقال)، وما أثبت ن هـ. (¬2) سورة النساء: آية 112. (¬3) في إحكام الأحكام (أو قبح بعض).

الوجه الثالث: في فوائده: الأولى: عِظم الذنوب وانقسامها في ذلك إلى كبير وأكبر، ويلزم منه انقسامها [إلى كبائر وصغائر] (¬1)، فإن أفعل التفضيل يدل على وجود مفضول غالبًا، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (¬2) [الآية] (¬3)، وقال الشيخ تقي الدين (¬4) وفي الاستدلال [به] (¬5) على ذلك نظر، لأن من قال "كل ذنب كبيرة" [فالذنوب والكبائر] (¬6) عنده [سواء، دال] (¬7) على شيء واحد، فيصير كأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر [(¬8)] الذنوب. وعن ابن عباس (¬9) رضي الله عنهما أن كل ما نهى [الله] (¬10) فهو كبيرة. وظاهر القرآن والحديث. بخلافه، ولعله أخذ "الكبيرة" باعتبار الوضع اللغوي، ونظر إلى عظيم المخالفة [للأجر] (¬11) والنهي وسمى كل ذنب كبيرة، وبهذا المذهب أخذ الأستاذ أبو إسحق الإِسفرائيني، وقال: الذنوب ¬

_ (¬1) في ن هـ تقديم وتأخير. (¬2) سورة النساء: آية 31. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) حكام الأحكام (4/ 438). (¬5) في المرجع السابق بهذا الحديث. (¬6) بين ن هـ والأصل تقديم وتأخير. (¬7) في إحكام الأحكام (متواردان). (¬8) في الأصل زيادة (الكبائر)، وهي غير موجودة في ن هـ والمرجع السابق. (¬9) في المرجع السابق وعن بعض السلف. (¬10) في المرجع السابق زيادة عزَّ وجلّ عنه. (¬11) في ن هـ ساقطة، وموجودة في الأصل والمرجع السابق.

كلها كبائر. وحكاه القاضي عياض عن المحققين؛ لأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله [تعالى] (¬1) كبيرة، ولهذا قال السلف رحمة الله عليهم: لا تنظر إلى الذنب، ولكن انظر إلى من عصيت. لكن جمهور السلف والخلف على الأول، وهو مروي عن ابن عباس أيضًا. قال الغزالي في "بسيطه": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فُهِمَا من مدارك الشرع وقاله أيضًا غير الغزالي بمعناه. ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدّا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا تكفره ذلك كما ثبت في الصحيح: "ما لم تغش الكبائر" فسمى الشرع ما تكفره الصلوات ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر [وهذا حسن بالغ] (¬2) ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فمانها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها, لكونها أقل قبحًا، ولكونها ميسرة التكفير. الثانية: درجات الكبائر متفاوتة بحسب تفاوت مفاسدها, ولا يلزم من كون هذا أكبر الكبائر استواء رُتبها أيضًا في نفسها، فإن الإِشراك بالله تعالى أعظم الكبائر، ويليه قتل النفس بغير حق، كما نص عليه الشافعي في "مختصر المزني"، واتفق عليه الأصحاب. قال ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق شرح مسلم (1/ 84، 85). (¬2) في شرح مسلم (1/ 85) (ولا شك في حسن هذا).

عليه الصلاة والسلام: "لا يزال ابن آدم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا" (¬1)، وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين [والسحر] (¬2) وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف وأكل الربا وغير ذلك فلها تفاصيل وأحكام يعرف بها مراتبها، ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها، كما قدمناه وعلى هذا يقال في كل واحدة منها لم هي من أكبر الكبائر، وإن جاء في موضع هي أكبر الكبائر، كما يقال في أفضل الأعمال. الثالثة: اختلفوا في أن الكبائر كلها معروفة أم لا؟ على قولين وبالثاني قال الواحدي وجماعات وأنه الصحيح، وإنما ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواع بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهي مشتملة على كبائر وصغائر. والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعًا من جميعها مخافة أن تكون من الكبائر. وبالأول قال الأكثرون. ثم اختلفوا في أنها معروفة بعد وضابط [أو] (¬3) بالعدد على قولين وبالثاني قال جماعات وفي الصحيح أنها ثلاث وفي رواية "أربع" وفي أخرى "سبع". ¬

_ (¬1) البخاري (6862) عن ابن عمر، ومن رواية ابن مسود في الكبير للطبراني (9071)، قال في الفتح (12/ 188): بسند رجاله ثقات إلَّا أن فيه انقطاعًا. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ.

واختلف في عدد [ذلك] (¬1) السبع أوعلى روايات، (¬2) وهذه الصيغة وإن كانت تقتضي الحصر فهو غير مراد، وإنما وقع الاقتصار عليها لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى, وذلك ظاهر في إرادة البعض، ويكون التقدير من الكبائر، ولهذا ثبت في الصحيح "إن من [أكبر] الكبائر شتم الرجل والديه" (¬3)، وإن منها عدم الاستبراء من البول، وإن منها النميمة. وجاء أن منها اليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام. وقد ذكر أصحابنا جملة مستكثرة. منها في الشهادات وتبعتهم في "شرح التنبيه". وروي عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي فقال: هي إلى السبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب. والقول الثاني: أنها معروفة بعد وضابط واختلف فيه على آراء: منها: ما روي عن ابن عباس أنه كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. ونحو هذا عن الحسن البصري. ومنها: أنها ما أَوْعَدَ الله عليه بنارٍ أو حد في الدنيا. ¬

_ (¬1) في ن هـ (تلك). (¬2) زيادة ن هـ. (¬3) البخاري (5973)، ومسلم (90)، وأبو داود (5141)، والترمذي (1902)، أحمد (2/ 195)، البغوي في السنة (3427). من رواية ابن عمرو وما بين القوسين زيادة من البخاري وبدل (شتم) (سب).

ومنها: عن ابن مسعود وإبراهيم النخعي هي جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. وهي: "إن تجتنبوا". ومنها: أنها كل ما قرن به وعيد أو لعنة أو حد فتغيير منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به. وكذا قتل المؤمن لاقتران الوعيد به، والمحاربة والزنا والسرقة والقذف كبائر لاقتران الحدود بها واللعنة ببعضها. ومنها: ما قاله الغزالي في "بسيطه" أنها كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار وخوف وحذر وندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرىء عليها اعتيادًا؛ في أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة. ومنها ما قاله ابن الصلا في "فتاويه" (¬1) أنها كل ذنب وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظميًا على الإِطلاق. ولها أمارات [(¬2)] منها: إيجاب الحد. ومنها: الإِيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة. ¬

_ (¬1) الفتاوى لابن الصلاح (148). (¬2) في الأصل زيادة واو، وما أثبت من ن هـ، ويوافق شرح مسلم (1/ 85).

ومنها: وصف فاعلها بالفسق. ومنها: اللعن. ومنها: ما قال ابن عبد السلام في "قواعده" (¬1) إذا أردت الفرق بينهما فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر [المنصوص عليها؛ فإن نقصت عن أقلّ مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر] (¬2) وأَرْبَتْ عليها فهي من الكبائر فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو رسوله أو استهان بالرسل أو كذب واحدًا منهم أو ضمَّخ الكعبة بالقذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة (¬3)، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة [ثم زنى] (¬4) بها أو مسلمًا [ثم] (¬5) يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة [(¬6)] مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دل الكفار على عورة [المسلمين] (¬7) مع علمه بأنهم يستأصلون بدلالته ويَسْبُون حرمهم وأطفالهم، ويغنمون أموالهم، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام (19). (¬2) زيادة من ن هـ، والمرجع السابق، وشرح مسلم (1/ 86). (¬3) مراد المؤلف -رحمنا الله وإياه-: أنه لم يرد نص خاص في هذا ومع ذلك فهو من أكبر الكبائر. (¬4) في المراجع السابقة (لمن يزني). (¬5) في المراجع السابقة (لمن). (¬6) في المراجع السابقة زيادة (أكل). (¬7) في ن هـ (المسلم)، وما أثبت يوافق المراجع السابقة.

الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه يقتل بسببه [أما إذا كذب عليه كذبًا] (¬1) يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر؛ قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر. فإن وقعا في مال خطير (¬2) فظاهر، وإن وقعا في حقير [(¬3)] فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطامًا عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة. قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب [فيه] (¬4)، والحاكم مباشر، فإذا جعل التسبب كبيرة. فالمباشرة [أولى] (¬5) (¬6) قال: وقد ضبط بعض العلماء] الكبائر فإنها كل ذنب قرن به وعيد أو حدّ أو لعن، فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة (¬7). ثم قال: الأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بها ومن مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها. قالوا: ¬

_ (¬1) في كتاب القواعد (ولو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه). (¬2) في المرجع السابق زيادة (فهذا). (¬3) في كتاب القواعد (كزبيبة وتمرة فهذا مشكل). (¬4) في ن هـ ساقطة، وفي كتاب القواعد (متوسل وفي شرح مسلم يوافق ن هـ. (¬5) في القواعد (فالمباشرة أكبر من تلك الكبيرة). (¬6) أسقط من كتاب القواعد قرابة صفحة وما أثبت يوافق نقله من شرح مسلم. (¬7) في أول ص 21 وما بعده في نهاية ص 22، من القواعد، وما أثبت يوافق نقله من شرح مسلم.

وهذا سببه بإخفاء ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وساعة إجابة الدعاء في الليل واسم الله الأعظم ونحو ذلك مما أُخفي واعترض الشيخ تقي الدين (¬1) فقال: سلك بعض المتأخرين طريقًا في معرفة الفرق بينها فأعرض مفسدة الذنب فذكره إلى قوله مع كونه من الكبائر، وعنى به الشيخ عز الدين وهذا الدي قاله عندي داخل فيما نص عليه الشرع بالكفر إن جعلنا المراد بالإِشراك بالله مطلق الكفر على ما سلف، ولا بد مع هذان أمرين: أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر. فإنه قد يقع الغلط في ذلك. ألا ترى أن السابق إلى الذهن أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل، فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه أن لا يكون من شرب القطرة الواحدة كبيرة [(¬2)] لأنها -وإن خلت عن المفسدة المذكورة- إلَّا أنه يقترن بها مفسدة التجريء على شرب الخمر الكبير الموقع في المفسدة، فبهذا الاقتران تصير كبيرة. الثاني: أَنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساوية لبعض الكبائر، أو زائدة عليها، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلمًا معصومًا لمن يقتله، فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال الربا، أو أكل مال اليتيم، وهما منصوص عليهما. وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تُفضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أوالهم, كان ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 441). (¬2) في المرجع السابق (لخلائها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة).

ذلك أعظم من فراره يوم الزحف [والفرار من الزحف] (¬1) منصوص عليه دون هذه. وكذلك نفضل على هذا القول الذي حكيناه من أن الكبيرة ما رتب عليها اللعن، أو الحد، أو الوعيد. فتعتبر المفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك، فما ساوى أقلها فهو كبيرة، وما نقص عن ذلك فليس بكبيرة. تذنيب: الإِصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وقد روي عن عمر وابن عباس وغيرهما "لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار"، ومعناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإِصرار، قال الشيخ عز الدين في ["قواعده"] (¬2) والإِصرار أن يتكرر منه الصغيرة تكرارًا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة، بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر. وقال ابن الصلاح في "فتاويه" الإِصرار التلبس بضد التوبة باستمرار العزم على المعاودة. [واستدامة] (¬3) الفعل بحيث يدخل (¬4) به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا [(¬5)] عظيمًا وليس [لزمان] (¬6) ذلك وعدده حصر. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن هـ. انظر: قواعد الأحكام (22، 23). (¬3) في الفتاوى (أو باستدامة)، وأيضًا في شرح مسلم. (¬4) في المراجع السابقة زيادة (ذنبه). (¬5) في الفتاوى (واو). (¬6) في المخطوط (لزمك)، وما أثبت من الفتاوى.

الرابعة. العقوق مأخوذ من العق وهو القطع وعدم وصله الرحم. قال صاحب (المحكم) (¬1): رجل عُقَقٌ وعُقُق وعَقٌ وعاقٌّ بمعنى واحد وهو الذي شق عصى الطاعة لوالديه وقد أسلفنا الكلام على هذه المادة في الحديث الثاني من باب الذكر عقب الصلاة كما سلف في الباب الإِشارة إليه. وأما حقيقة العقوق المحرم شرعًا [فقل] (¬2) من ضبطه وضبط الواجب [والمحرم] (¬3) من [الطاعة لها والمحرم] (¬4) من العقوق لهما فيه عسر ورتب العقوق مختلفة، وقد قال الشيخ عز الدين (¬5) كما حكيناه عنه ثم لم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء، أي وإنما طاعتهما تبع لطاعة الشرع، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقال: "إنما الطاعة في المعروف" (¬6)، ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة (علق). (¬2) في ن هـ (قل)، وما أثبت يوافق شرح مسلم. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) القواعد (20). (¬6) هذا وما قبله جزء من حديث علي رضي الله عنه، ولفظه: "أحسنتم لا طاعة لبشر في معصية الله إنما الطاعة في المعروف"، وفي لفظ: "لا طاعة في معصية الله جلّ وعلا". البخاري (4347)، ومسلم (1074)، والنسائي (7/ 109)، وأبو داود (2625)، وأحمد (1/ 84، 94، 124).

وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما (¬1) لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، وقد ساوى الولدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكن. وقال ابن الصلاح في "فتاويه" (¬2) العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيًا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما [في ذلك] (¬3) عقوق. وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات. قال: وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر في طلب العلم، وفي التجارة بغير إذنهما مخالفًا لما ذكرته، فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، ونقل الغزالي عن أكثرُ العلماء وجوب طاعتهما في الشبهات. وقال الطرطوشي (¬4): إذا نهياهُ عن سنَّة راتبة المرة بعد المرة أطاعهما وإن كان ذلك على الدوام فلا، لما فيه من إماتة الشرائع. وقال الشيخ تقي الدين (¬5) القشيري: الفقهاء قد ذكروا ¬

_ (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا هاجر إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - من اليمن قال: "هل لك أحد باليمن؟ "، قال: أبواي. قال: "أذنا لك؟ "، قال: لا، قال: "فأرجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلَّا فبرهما". أخرجه أبو داود (2530)، والحاكم (2/ 103)، وأحمد (3/ 75، 76)، والبيهقي (9/ 26). (¬2) في الفتاوى (201). (¬3) في المرجع السابق زيادة (كل). (¬4) بر الوالدين (155). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 443).

صورة جزئية، وتكلموا فيها منثورة، لا يحصل منها ضابط كلي، فليس يبعد أن يسلك في ذلك ما أشرنا إليه في الكبائر، وهو أن تقاس المصالح في طرف الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها، والمفاسد في طرف العدم بالمفاسد التي حرمت لأجلها. الخامسة: أن عقوق الوالدين أكبر الكبائر، ولا شك في عظم مفسدته لعظم حق الوالدين. السادسة: تحريم الإِشراك بالله تعالى وهو كفر بالإِجماع. السابعة: انقسام الكبائر إلى كفر وغيره. الثامنة: الاهتمام بذكر الشيء للتنبيه على وعيه ومنعه. التاسعة: تحريم شهادة الزور في معناها كل ما كان زورًا من لبس وشبع وتعاطي أمرٍ ليس هو له أهلًا. العاشرة: التحريض على مجانبة الذنوب. [الحادية عشرة] (¬1): الشفقة على الكبار من أهل العلم والدين وتمني عدم غضبهم. ¬

_ (¬1) في الأصل (الثانية عشرة)، وما أثبت من ن هـ.

الحديث السادس

الحديث السادس 392/ 6/ 74 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن [رسول الله] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يُعطَى الناس بدعواهم لادعى ناسٌ دماءَ رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬2). هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد أحكام الشرع، ولا يضر كونه روي موقوفًا، فإن الراوي قد ينشط فيرفع، وقول الأصيلي: إنه لا يصح رفعه إنما هو من قول ابن عباس، كذا رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مردود عليه، فقد أخرجه الشيخان في صحيحيهما مرفوعًا وكذا أرباب السنن، وقد رفعه نافع عن عمر الجمحي أيضًا، كما رواه أبو داود والترمذي وقال: إنه حديث حسن صحيح. ثم الكلام عليه بعد ذلك من وجوه: أحدها: اللفظ الذي ساقه المصنف هو لفظ مسلم، ولفظ ¬

_ (¬1) في متن عمدة الأحكام (النبي). (¬2) البخاري (2514)، ومسلم (1171)، والترمذي (1342)، وأبو داود (3619)، والنسائي (8/ 248)، والبغوي (2501)، وعبد الرزاق (15193)، وأحمد (1/ 343، 351، 356)، والبيهقي (10/ 252)، وابن ماجه (2321)، والدارقطنى (4/ 157).

البخاري في تفسيره سورة آل عمران من صحيحه (¬1) "لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم"، وفي آخره قال النبي - صلي الله عليه وسلم - "اليمين على المدعى عليه"، ولهذا لما ساقه المصنف في "عمدته الكبرى" باللفظ المذكور قال: رواه مسلم, والبخاري نحوه, ورواه البيهقي بإسناد جيد بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر". ثانيها: الحديث دال على أنه لا يقبل قول الإِنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، وإن غلب على الظن صدقه، بل يحتاج إلى بينة أو يصدق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يعطى لمجرد دعواه, لأنه لو [أعطي] (¬2) بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم واستباحها, ولا يمكن المدعى عليه أن يصون دمه وماله. وأما المدعي فيمكنه صيانتهما بالبينة. ثالثها: الأظهر من قولي الشافعي أن حد المدعي من يخالف قوله الظاهر والمدعى عليه من يخالفه ومحل البسط في ذلك كتب الفروع فإنه أليق به. رابعها: إنما جعلت البينة على المدعي؛ لأنها حجة قوية بانتفاء التهمة, لأنها [لا] (¬3) تجلب لنفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضرر. وجانب المدعي ضعيف, لأن ما يقوله خلاف الظاهر، فكلف ¬

_ (¬1) الفتح (8/ 213) ح (4552). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ ساقطة.

الحجة القوية، ليقوّي بها ضعفه. واليمين حجة ضعيفة, إذ الحالف متهم يجلب النفع لنفسه. وجانب المدعى عليه قوي، إذ الأصل فراغ ذمته، فاكْتُفِي منه بالحجة الضعيفة. خامسها: يُستثنى من قاعدة الدعاوى القسامة، فإنه يقبل منها قول المدعي لترجحه باللوث، وقد جاء استثناؤها في حديث آخر "إلَّا القسامة"، وقبول قول الأمناء في التلف، لئلا يزهد الناس في قبول الأمانات، فتفوت المصالح، أو قبول قول الحاكم في الجرح والتعديل لئلا] (¬1) تفوت المصالح المرتبة على الولاية للأحكام، وقبول قول الزوج في اللعان, لأن الغالب اتقاء الشخص الفحش عن زوجته، فإذا أقدم على ريها به قدم وضم إلى ذلك أيضًا قبول قول الغاصب في التلف مع يمينه، لضرورة الحاجة لئلا يخلد في الحبس. سادسها: الحديث دال لمذهب الشافعي وجمهور الأمة سلفها وخلفها: أن اليمين على المدعى عليه مطلقًا في كل حق، سواء أكان بينه وبين المدعي اختلاط أم لم يكن. وقال مالك وجمهور أصحابه والفقهاء السبعة وبه قضى علي رضي الله عنه: أن اليمين لا يتوجه إلَّا على من بينه وبينه خلطة، لئلا يبنذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد فاشْتُرِطَتِ الخُلطة منعًا لهذه المفسدة. واختلفوا في تفسير الخلطة، فقيل معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو بشاهدين. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

وقيل: يكفي الشهرة، وقيل: هى أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله، وقيل: هي أن يليق به أن يعامله بمثلها، وقريب من هذا قول الاصطخري من الشافعية أن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه. مثل أن يدعي المدني استئجار الأمير والفقيه لعلف الدواب وكنس بيته. ومثل دعوى المعروف بالتعنت وصبر ذوي الأقدار إلى القضاة وتحليفهم ليفتدوا منه بشيء، ودليل الجمهور إطلاق هذا الحديث، ولا أصل لاشتراط الخلطة في كتاب ولا سنة ولا إجماع. وهذه تصرفات لتخصيص العموم بغير أصل، ومن تصرفاتهم أيضًا أن من ادعى شيئًا من أسباب القصاص لم تجب به اليمين إلَّا أن يقيم على ذلك شاهدًا فيجب اليمين. ومنها: إذا ادعى الرجل على امرأته نكاحًا لم يجب له عليها اليمين في ذلك. قال سحنون منهم: إلَّا أن يكونا طارئين. ومنها: أن بعض الأمناء من يجعل القول قوله، لا يوجبون عليه يمينًا. ومنها دعوى المرأة الطلاق على الزوج لا يجب عليه اليمين، وعموم هذا الحديث راد على ذلك كله. سابعها: استدل بعضهم بقوله عليه الصلاة والسلام "دماء رجال" على إبطال قول مالك في التدمية ووجه استدلاله: أنه عليه الصلاة والسلام قد سوَّى بين الدماء والأموال في أنَّ المدَّعي لا يُسمع قوله فيها فماذا لم يُسمع قولُ المدَّعي في مرضه: لي عند فلان كذا، كان أحرى، وأولى أن لا يسمع قوله: دمي عند فلان، لحرمة الدماء، ولا حجة لهم كبيرة كما نبَّه عليه القرطبي (¬1)؛ لأن مالكًا ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 148).

-رحمه الله- لم يُسند القصاصَ أو الدية لقول المدعي دمي عد فلان، بل للقسامة على القتل والتدمية لوث يقوي جنبة المدعي في بداءتهم بالأيمان كسائر أنواع اللوث. ثامنها: أجمع العلماء على استحلاف المدعى عليه في الأموال، واختلفوا في غيرها على قولين: أحدهما: إلحاق الطلاق والنكاح والحدود والعتق بذلك أخذًا بظاهر الحديث، فإن نكل حَلف المدعي وثبتت دعواه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور. ثانيهما: إلحاق ما عدا الحد به، فإن نكل لزمه ذلك، قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الثوري والشعبي: لا يستحلف في الحد والسرقة، وقال: بنحوه مالك. قال: ولا يستحلف في السرقة إلَّا إذا كان متهمًا، ولا في الحدود والنكاح والطلاف والعتق إلَّا أن يقوم شاهد واحد، يستحلف المدعى عليه لقوة شبهة الدعوى. واختلف قوله إذا نكل هل يحكم عليه بما ادعى عليه أو يسجن حتى يحلف أو حتى يطول سجنه؟

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة

75 - باب الأطعمة

75 - باب الأطعمة ذكر فيه -رحمه الله- عثرة أحاديث: الحديث الأول 393/ 1/ 75 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت [النبي] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - يقول -[وأشار] (¬2) النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: "إن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات: استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (¬3). ¬

_ (¬1) في متن العمدة (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (¬2) في المرجع السابق (وأهوى). (¬3) البخاري (52)، ومسلم (1599)، والترمذي (1205)، والنسائي (7/ 241) (8/ 327)، وأبو داود (3329، 3330)، وابن ماجه =

هذا الحديث جمع على عِظم موقعه وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، قال جماعة: هو ثلث الإِسلام، وقال أبو داود: ربعه كما أسلفنا ذلك في الطهارة، وسبب عظم موقعه أنه عليه الصلاة والسلام نبَّه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي [أن يكون حلالًا وأرشد إلى معرفة الحلال والحرام] (¬1) وأنه ينبغي ترك الشبهات، فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذَّر من مواقعة الشبهات، وأوضح بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب، فإن بصلاحه يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه، بل لو أمعن الأئمة النظر في هذا الحديث كله من أوله إلى آخره لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها، كما نبه عليه القرطبي (¬2)، فإنه مشتمل على الحلال، والحرام، والمتشابهات، وما يصلح القلوب، وما يفسدها، وتعلق أعمال الجوارح بها ... فيستلزم إذن معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلها: أصولها وفروعها. ثم الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا إلحديث رواه عن النبي - صلي الله عليه وسلم - غير النعمان، رواه علي بن أبي طالب وابنه الحسن وابن مسعود وجابر بن عبد الله (¬3) ¬

_ = (3984)، والبغوي (2031)، والدارمي (2/ 245)، والبيهقي (5/ 264)، وأحمد (4/ 269، 271). (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) المفهم (4/ 499). (¬3) تاريخ بغداد (9/ 70)، وذكره في كنز العمال (3/ 433).

وابن عمر (¬1) وابن عباس (¬2) وعمار بن ياسر (¬3) أفاده ابن منده الحافظ، وأما أبو عمرو الداني فقال في كلامه على أحاديث قواعد الإِسلام الأربعة: "إنما الأعمال بالنيات"، وهذا الحديث و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، و"لا يؤمن أحدكم"، وقيل [...] (¬4) حديث "أزهد" لا أعلم رَوَى هذا الحديث عن النبي - صلي الله عليه وسلم - غير النعمان، ولا رواه عنه غير الشعبي، ثم اتفق على روايته عن الشعبي عن النعمان مرفوعًا متصلًا عبد الله بن عون وغيره. هذا كلامه، وقد علمت أنه رواه جماعات غير النعمان فاستفده. ثانيها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الصفوت، وهذا الحديث فيه التصريح بسماعه من النبي - صلي الله عليه وسلم -، وهو الصواب الذي قاله أهل العراق وجماهير العلماء فإنه عليه الصلاة والسلام مات. وعمره ثمان سنين فكان مميزًا صحيح السماع، ولهذا أكد السماع بإشارته بأصبعيه إلى أُذنيه، [قال القاضي] (¬5): وخالف أهل المدينة فلم يصححوا سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما حكاه يحيى بن معين عنهم. قال النووي (¬6): وهذه الحكاية ضعيفة أو باطلة، وقال ¬

_ (¬1) ذكره في مجمع الزوائد (4/ 76). (¬2) الطبراني في المعجم الكبير (10/ 333)، وذكره في مجمع الزوائد (10/ 296، 297)، وقال: فيه سابق الجزري ولم أعرفه. اهـ. (¬3) ذكره في مجمع الزوائد (4/ 76) (10/ 296)، وقال: وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. (¬4) في ن هـ زيادة (هو). (¬5) في ن هـ ساقطة. انظر: شرح مسلم (11/ 29). (¬6) المرجع السابق.

أبو عمرو الداني، في الكتاب السالف المشار إليه: الحديث الذي يتداوله أهل المدينة يشهد بسماعه من رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهو قضية ما نحله أبوه فوعاها وحفظها فدل على سماعه، وقد صرح في هذا الحديث بالسماع، وقيل: إنه كان سمع هذا الحديث وله سبع سنين. قال: ويقال المثل المضروب فيه هو من قول الشعبي. ثالثها: في ضبط ألفاظه ومعانيه قوله: "إن الحلال بين" معناه أنه بَيِّنٌ في عينه، ووصفه واضحٌ لا يخفى حله كالمأكولات من الفواكه والحبوب والزيت والعسل والسمن واللبن من مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات، وكالنظر والمشي والكلام وغير ذلك من التصرفات الحلال التي لا شك فيها، وكالاكتساب بالعقود الصحيحة الواضحة شرعًا وبالتبرعات المأذون فيها شرعًا ونحو ذلك من البين الواضح الذي لا شك في حله. وقوله: "والحرام بين" معناه أنه بين في عينه ووصفه أيضًا، واضح كالخمر والميتة والخنزير والبول والدم المسفوح. وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك البين الواضح الذي لا شك في حرمته. وقوله: "وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" معناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة. فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، وأما العلماء فيفرقون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب ونحو ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالًا، وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال

البين، يكون الورع تركه، ويكون داخلًا في قوله: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء فهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أو بحرمته أم يتوقف؟ فيه ثلاث مذاهب حكاها القاضي عياض، قال النووي (¬1): والظاهر أنها [(¬2)] على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب، أصحها: أنه لا يحكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ولا غيرها، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلَّا بالشرع. وثانيها: أن حكمها التحريم. وثالثها: الإِباحة. ورابعها: التوقف. وقوله: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرضه": معناه أتقاها على الوصف الذي ذكرنا من اقوقف عن الأشياء حتى يعلم حلها وحرمتها، فيعمل بها أو يمسك عنها، فإذا فعل ذلك وإن دينه عن الوقوع في المحذور، وعرضه عن كلام الناس فيه. والعرض هنا هو النفس، أي: استبرأ لنفسه من أن يلام على ما أتى به، وإنْ كَانَ العرضُ يطلق على أمور أخرى منها الحسب والجسد وفي صفة أهل الجنة: "إنما هو عرق يجري من أعراضهم" (¬3)، أي: من أجسادهم، وعلى رائحة الجسد أيضًا طيبة ¬

_ (¬1) شرح مسلم (11/ 28). (¬2) في شرح مسلم زيادة (مخرجة). (¬3) الحديث ذكره أبو عبيد في غريب الحديث (1/ 154)، وابن الجوزي في غريبه (2/ 83)، والفائق (2/ 409)، والنهاية (3/ 209).

كانت أو خبيثة، كما نصَّ عليه الجوهري (¬1). وقوله: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" يحتمل أن يكون معناه أن من كثر تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير ويحتمل أن يكون معناه أن من كثر تعاطيه الشبهات اعتاد التساهل وتمرن عليه، فيجسر بفعل شبهة على فعل شبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر أي تسوق إليه، عافانا الله من جميع البلايا. وهذا أورده القرطبي (¬2) حديثًا مرفوعًا وهو معنى قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. "ويوشك" بضم الياء وكسر الشين مضارع أو شك، أي: يسرع ويقرب، وهي أحد أفعال المقاربة. و"يرتع" بفتح التاء مضارع رتع بفتحها أيضًا، وفتحت في المضارع مراعاة لحرف الحلق. ومعناه أكل الماشية من الشرعي، وأصله إقامتها فيه وتبسيطها في الأ كل، ومنه قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [وذكر أبو سعد السمعاني (¬3) في ترجمة أبي الغنائم ¬

_ (¬1) مختار الصحاح (181، 182)، مادة (ع ر ض). (¬2) المفهم (2864). (¬3) هو عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمَّد تاج الإِسلام أبو سعد التميمي السمعاني المروزي، ولد في شعبان سنة ست وخمسمائة، توفي في غرة ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ترجمته في آداب اللغة (3/ 68)، ومفتاح السعادة (1/ 211)، وطبقات ابن شهبة (2/ 12).

النرسي (¬1) الحافظ من "ذيله" (¬2)، قال: قرأت بخط والدي الإِمام (¬3) سمعت أبا الغنائم محمَّد بن علي بن ميمون النرسي، يقول في قوله عليه الصلاة والسلام: "ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يجشر (¬4) -بالشين المعجمة- في قولهم جشر (¬5) إذا رعى] (¬6). وقوله: "ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه" ¬

_ (¬1) هو محمَّد بن علي بن ميمون الترسي، سمع من الشريف أبي عبد الله بن عبد الرحمن الحسني ومحمد بن إسحاق بن فدويه وغيرهما، روى عنه أبو بكر السمعاني. انظر: اللباب (3/ 306). (¬2) الذيل على تاريخ بغداد، في خمسة عشر مجلدًا، وقبل: في عشر مجلدات، تأليف أبي سعد السمعاني. (¬3) هو محمد بن منصور بن محمَّد تاج الإِسلام أبو بكر والد الإِمام أبي سعد، ولد سنة ست وستين وأربعمائة وتوفي بمرو في صفر سنة عشر وخمسمائة عن ثلاث وأربعين سنة. ترجمته: البداية والنهاية (12/ 180)، وطبقات الشافعية لابن هداية (72)، وكتاب العبر (4/ 22). (¬4) في الكبرى للنسائي (3/ 239) بالسين المهملة. (¬5) انظر: قال في النهاية (1/ 273) في حديث عثمان: "لا يَغُرَّنَّكم جَشَرُكُم من صلاته". الجشر: قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى، ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، فربما رأوه سفرًا فقصروا الصلاة، فنهاهم عن ذلك، لأنَّ المقام في المرعى، وإن طال، فليس بسفر. اهـ. الفائق (1/ 215)، وغريب الحديث (3/ 419، 420) , وفي صحيح ابن حبان (721) بالسين المهملة. (¬6) زيادة من ن هـ، والخبر ذكره في الطبقات الوسطى للشافعية بهامش الكبرى (7/ 11).

هو من باب التشبيه والتمثيل والمعنى: إن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم من دخوله، فمن دخله منهم أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفًا من الوقوع في عقوبته، فكذلك لله تعالى حمى وهي محارمه التي حرمها كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك من المعاصي، فكل هذا حمى لله تعالى من دخله باعتقاد حله أو غيره استحق العقوبة، ومن قاربه أوشك أن يقع فيه، ومن احتاط لنفسه بعدم المقاربة لشيء من ذلك لم يدخل في شيء من الشبهات، ويسمى هذا العدم عدم الاستدراج، والنفس بطبعها أمارة بالسوء إلَّا من رحمت فيستدرج من المباح إلى المكروه ثم إلى المحرم، فنسأل الله التوفيق والإِعانة على كسرها. و"الحمى" بمعنى المحمى فالمصدر فيه واقع موقع اسم المفعول وتثنية "حميان"، وسمع الكسائي بتثنيته بالواو، وتطلق المحارم على المنهيات قصدًا، وعلى ترك المأمورات [استلزامًا] (¬1) وإطلاقها على الأول أشهر، كما قاله الشيخ تقي الدين (¬2). و"المضغة" القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها، والمراد: تصغير جرم القلب بالنسبة إلى باقي الجسد [مع أن صلاح الجسد] (¬3) وفساده تابعان للقلب كالملك مع الرعية، فهو صغير الجرم عظيم القدر. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (التزامًا)، وما أثبت من الأصل ون هـ. (¬2) في إحكام الأحكام (4/ 452). (¬3) زيادة من ن هـ ومن شرح مسلم (11/ 29).

واصلحت بفتح العين مضارع يصلح بضمها. وفسدت بفتح السين مضارع يفسد بضمها، قال القرطبي (¬1): كذا رويناه، والمعنى: إذا صارت تلك المضغة ذات صلاح أو ذات فساد، قال: وقد يقال صلح وفسد بضم العين فيهما، إذا صار الصلاح أو الفساد هيئة لازمة لها، كما يقال: ظرُف، وشرُف، وقال النووي في (شرحه) (¬2)، قال أهل اللغة: يقال صلح الشيء وفسَد بفتح اللام والسين وضمها، والفتح أفصح وأشهر. والقلب (¬3): في الأصل مصدر: قلبن الشيء، أقلبنه قلبًا: إذا رددته على بدأته، ثم نقل فسمى به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه: ما سمي القلب إلَّا من تقلبه. . . فاحذر على القلب من قلب وتحويل وقد قيل: إن له عينين وأذنين [وهذا إنما يعلمه أهل الكشف] (¬4). وقد عبر عنه بالعقل [نفسه] (¬5)، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (¬6)، أي: عقل، قاله الفراء (¬7)، وقال تعالى: ¬

_ (¬1) المفهم (2865). (¬2) شرح مسلم (11/ 28، 29). (¬3) انظر: المفهم (4/ 494). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في الأصل (عنه)، وما أثبت من ن هـ. (¬6) سورة ق: آية 37. (¬7) معاني القرآن (3/ 80).

{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (¬1). الوجه الرابع: في فوائده: وهو أحد الأحاديث العظام، التي عدت من أصول الإِسلام، بل هو أصله كما سلف في أول الكلام: الفائدة الأولى: الحث على ارتكاب الحلال وعلى اجتناب الحرام، والإِمساك عن الشبهات والاحتياط [للدين] (¬2) والعرض وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن والوقوع في المحذور. الثانية. الأخذ بالورع، وهذا الحديث أصل كبير في الأخذ به وترك الشبهات، وللشبهات مثارات، منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحليل أو التحريم، وتعارض الأمارات بالحج، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لا يعلمهن كثير من الناس", إشارةً إلى ذلك مع أنه يحتمل أنه لا يعلم عينها وإن علم حكم أصلها في التحليل والتحريم، وهذا أيضًا من مثار الشبهات. الثالثة: أنه لا ورع في ترك المباح، لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن"، قال القرافي: وقد اختلف العلماء في أول العصر الذي أدركته: هل يدخل الورع والزهد في المباحات أم لا؟ فادعى ذلك بعضهم ومنعه بعضهم وصنف فيه بعضهم على بعض فقال ابن الأنباري: لا يدخل الورع فيها, لأن الله تعالى ساوى بين طرفي المباح. والورع مندوب إليه راجح أحد الطرفين، والرجحان مع التساوي محال، قال الشيخ تقي ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 46. (¬2) زيادة من ن هـ.

الدين (¬1): والجواب عن هذا عندي من وجهين: أحدهما: أن [المباح قد يطلق على ما لا جرح في فعله، وإن لم يتساو طرفاه، وهذا أعلم من] (¬2) المباح المتساوي الطرفين، فهذا الذي ردد فيه القول، وقال: إما أن يكون مباحًا [أم] (¬3) لا، فإن كان مباحًا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى، فإنه المباح قد صار منطلقًا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين، فلا يدل اللفظ على التساوي، إذِ الدَّال على العام لا يَدُلُّ على الخاص بعينه. والثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجحًا باعتبار أمر خارج فلا يتناقض حينئذٍ الحكمان. قال: وعلى الجملة فلا يخلو هذا الموضع من نظر، فإنه إن لم يكن فعلى هذا المشتبه موجبًا لضررٍ مَا في الآخرة، وإلَّا فيعسر ترجيح تركه، إلَّا أن يقال: إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال المتورعين، فإنهم يتركون ذلك تحرجًا وتخوفًا، وبه يشعر لفظ الحديث، وقال شهاب الدين [ابن] (¬4) الحميري يدخل الورع فيها، قال: وطريق الجمع بينها أن المباحات لا زهد فيها ولا ورع من حيث هي مباحات، وفيها الزهد والورع من حيث الاكثار منها، فإن الإِكثار منها يخرج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 449). (¬2) في ن هـ ساقطة، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬3) في المرجع السابق. (¬4) في ن هـ ساقطة.

يقع في المحرمات، وقد يفضي به كثرة المباحات إلى نظر النفس فإن كثرة المكاسب من الخيل والمساكن العالية والمآكل الشهية والملابس اللينة لا يكاد يسلم صاحبها عن الإِعراض عن مواقف العبودية الذي شمل مستوى الطرفين وغيره وهو أعم من المستوي الطرفين، فلا دلالة في الأعم على الأخص، فلا تناقض فيه إذن، وهذا هو الجواب الأول الذي أسلفناه عن الشيخ تقي الدين. الرابعة: في قوله: "فمن اتقى الشبهات" .. إلى آخره دلالة على أنه لا يجب عليه حماية عِرْضِهِ عن الطعن فيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: إني قد تصدقت بعرضي على الناس" (¬1). الخامسة: في قوله: "كالراعي حول الحمى" دلالة لمذهب مالك في سد الذرائع. السادسة: فيه تعظيم القلب وسببه صدور الأفعال الاختيارية عنه، وما يقوم به من الاعتقادات والعلوم، ورتب الأمر فيه على المضغة، والمراد: المتعلق بها, ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم والاعتقاد بالمفاسد والمصالح، [فتعين حماية مركزها من الفساد وإصلاحه] (¬2). السابعة: فيه أيضًا [(¬3)] الحث البليغ على السعي في إصلاح ¬

_ (¬1) روي من طريق مهلب بن العلاء عن قتادة، عن أنس وهو ضعيف. أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (63). انظر: إرواه الغليل (2366). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في ن هـ زيادة (على).

القلب وحمايته من الفساد، وأن لطيب الكسب أثرًا فيه [كما في ضده] (¬1). الثامنة: فيه أيضًا كما قاله جماعة أن العقل في القلب لا في الرأس، وهو مذهبنا ومذهب جماهير المتكلمين. وقال أبو حنيفة: إنه في الدماغ وقد يقال: في الرأس، وحكوا الأول عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء. واحتج القائلون. بأنه في القلب بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (¬2)، وبقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (¬3)، وبهذا الحديث فإنه عليه الصلاة والسلام جعل صلاح الجسد وفساده تابعًا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد، فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب. فعلم أنه ليس محلًا للعقل. واحتج القائلون: بأنه في الدماغ، بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك, لأن الله تعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع عن ذلك. قال المازري (¬4): لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) سورة الحج: آية 46. (¬3) سورة ق: آية 37. (¬4) المعلم (2/ 314).

التاسعة: فيه أيضًا أن العقوبة من حسن الجناية, لأنه كما انتهك محارم الله تعالى المانعة لما وراءها، فكذلك ينتهك محارم جسده بنجرده عن لباس التقوى، الذي هو حمى له من آفات الدنيا وعذاب الآخرة. العاشرة: فيه أيضًا ضرب الأمثال للمعاني الشرعية العملية، وفائدتها التنبيه بالشاهد على الغائب. الحادية عشرة: فيه أيضاً التنبيه على عظمة الله تعالى واجتناب محارمه التي مصالحها عائدة علينا فإنه الغني المطلق. الثانية عشرة: فيه أيضًا أن الأعمال القلبية أفضل من البدنية، وأنها لا تصلح إلَّا بالقلبية. الثالثة عشرة: أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فيما إذا كان العمل مقيدًا بهما، فإنه قد يختص بأحدهما أحكام دون الآخر، فيما إذا كان العمل مقيدًا بهما، فإنه قد يختص بأحدهما أحكام دون الآخر، وقد يلزم عن أحدهما أعمال بسبب الآخر. خاتمة: لما ذكر البخاري هذا [الحديث] (¬1) عقبه بأن قال (¬2): تفسير المشتبهات، وذكر فيه عن حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، دع ما يريبك [إلى ما لا يريبك] (¬3)، ثم ذكر قصة الأمة السوداء في الرضاع (¬4) وقصة ابن وليدة ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في البخاري فتح (4/ 291) زيادة: (باب). (¬3) زيادة من ن هـ والمرجع السابق. (¬4) الفتح ح (2052).

زمعة (¬1)، وحديث عدي بن حاتم الآتي في الصيد (¬2). ثم قال: باب (¬3) ما يتنزه من الشبهات. وذكر حديث التمرة الساقطة على الفراش (¬4)، ثم قال: باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات (¬5)، ثم ذكر حديث حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا. وحديث عائشة: يا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إن قومًا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "سموا [الله] (¬6) عليه وكلوه"، فتنبه لذلك. ¬

_ (¬1) الفتح ح (2053). (¬2) الفتح ح (2054). (¬3) البخاري، الفتح (4/ 293). (¬4) البخاري رقم (2055). (¬5) البخاري، الفتح (4/ 294). (¬6) زيادة من ن هـ والمرجع السابق.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 394/ 2/ 75 - عن أن بن مالك رضي الله عنه قال: أَنْفَجْنَا أرنبًا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا، وأدركتها فأخذتها فأتيت أبا طلحة، فذبحها وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوركيها وفخذيها فقبله (¬1). "لغبوا" أعيوا. الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. وأما أبو طلحة: فاسمه زيد بن سهل أحد النقباء ليلة العقبة، وأحد فضلاء الأنصار، مات بالمدينة بعد الثلاثة، وقد أوضحت ترجمته فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب فراجعه منه. ¬

_ (¬1) البخاري (2572)، ومسلم (9153)، والترمذي (1789)، وأبو داود (3791)، وابن ماجه (3243)، والدارمي (2/ 92)، وابن الجارود (332/ 811)، وأبو عوانة في مسنده (5/ 182، 183)، والبغوي (2801)، وأحمد (3/ 118، 171، 232، 291)، والبيهقي (9/ 537، 538)، وابن أبي شيبة (5/ 535).

ثانيها: في بيان ما وقع فيه من الأمكنة: "مرَّ الظهران" بفتح الميم وتشديد الراء. و"الظهران" بفتح الظاء المعجمة قيل تثنية الظهر. ويقال له مر الظهران، ويقال الظهران من غير إضافة "مر" إليه، وهو اسم موضع على بريد من مكة. وقيل على أحد عشر ميلًا. وقيل على ستة عشر ميلًا. ثالثها: "أنفجنا" بفتح الهمزة ثم نون ساكنة ثم فاء ثم جيم ثم نون ثم ألف يقال: أنفجت الأرنب فنفج، أي: أثرته فثار، كأنه يقول: أثرناه ودعوناه فعدا. وفي صحيح مسلم "استنفجنا" ومعناه أيضًا "أثرنا" و"نفرنا". ووقع للمازري، "بعجنا" بالباء الموحدة ثم عين مهملة وفسره بشققنا من بعج بطنه [إذا شقه، وهذا لا يصح رواية ولا معنى، كما نبه عليه القاضي (¬1) ثم القرطبي (¬2)] (¬3) وإنما هو تصحيف وكيف يشقون بطنها، ثم يسعون خلفها حتى لغبوا، ثم بعد ذلك يأخذونها ويذبحونها. و"الأرنب"، قال الجوهري هي واحدة الأرانب. وقال صاحب "المحكم" (¬4) الأرنب معروف يكون للذكر والأنثى، وقيل: الأرنب الأنثى والخُزَزُ الذكر. ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (1/ 97). (¬2) المفهم (4/ 239). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) لسان العرب، مادة (خزز).

والجمع: أرانب وأراد عن اللحياني (¬1). فأما سيبويه (¬2) فلم [يجز] (¬3) أران إلَّا في الشعر. "ولغبوا" بفتح الغين المعجمة على الفصيح المشهور. وحكى الجوهري (¬4) وغيره كسرها وهي ضعيفة. ومعناه تعبوا وأعيوا، كما فسره المصنف و"السعي" الجري. رابعها: في فقهه، وهو يشتمل على مسائل: الأولى: جواز أكل الأرانب وحله فإنه ذبح وأهدى وهو مذهب [العلماء] (¬5) الأربعة والعلماء كافة إلَّا ما حكى عن عبد الله بن عمرو بن العاص (¬6) وابن أبي ليلى من كراهية. وحجة الجمهور هذا ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن حازم -وقيل ابن المبارك- المتوفي سنة (215)، له كتاب "النوادر"، وقال السيوطي في المزهر (2/ 446)، نقلًا عن الصحاح أنه لقب باللحياني: لعظم لحيته ترجمته في مراتب النحويين (142، 143)، والمزهر (2/ 410)، وبغية الوعاة: (2/ 185)، وفهرست ابن النديم (71). (¬2) الكتاب (2/ 273)، ومستشهدًا ببيت لأبي الكاهل اليشكري، لسان العرب، مادة (أر ن ب)، لها أشاريرُ من لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ، من الثَّعالي ووَخْزٌ من أرانِيَها. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) مختار الصحاح (251). لسان الرب، مادة (لغب). (¬5) زيادة من ن هـ. (¬6) في حاشية الأصل زيادة: حكى القرطبي (المفهم) (4/ 239) عنه تحريم وحكى ابن شداد في دلائله (دلائل الأحكام 2/ 509)، عن جماعة الكراهة لم يسمهم. انظر: إلى مصنف ابن أبي شيبة (8/ 249)، وعبد الرزاق (517)، للاطلاع على الآثار.

الحديث مع أحاديث مثله، ولم يثبت في النهي عنها شيء. قال القاضي عياض (¬1): وفي أبي داود (¬2) [وغيره] (¬3) من المصنفات أنه عليه الصلاة والسلام "لم ينه عنها ولم يأمر يأكلها وزعم أنها ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (5/ 287). (¬2) أبو داود (3792). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 662)، ووقع في "الهداية" (211)، للحنفية أن النبي - صلي الله عليه وسلم - أكل من الأرنب حين أهدى إليه مشويًا وأمر أصحابه بالأكل منه، وكأنه تلقاه من حديثين: فأوله من حديث الباب. وقد ظهر ما فيه، والآخر من حديث أخرجه النسائي (7/ 196، 197) من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة "جاء" أعرابي إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها فوضحها بين يديه، فأمسك وأمر أصحابه أن يأكلوا" ورجاله ثقات، إلَّا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافًا كثيرًا، أقول: وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (4/ 516)، وابن أبي شيبة (8/ 247) البيهقي (9/ 321) إلى أن قال واحتج الحديث خزيمة بن جزء "قلت يا رسول الله، ما تقول في الأرنب قال لا آكله ولا أحرمه. قلت فإني آكل ما لا تحرمه. ولم يا رسول الله؟ قال: نبئت أنها تدمي". وسنده ضعيف. أقول: أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 249) ابن ماجه (3245) من طريقه، قال: ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة كما سيأتي تقريره في الباب الذي بعده، وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بلفظ "جيء إلى النبي - صلي الله عليه وسلم - فلم يأكلها ولم ينه عنها: "زعم أنها تحيض"، أخرجه أبو داود، وله شواهد عن عمر عند إسحق بن راهويه في سنده، وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها، وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة. اهـ. محل المقصود منه. (¬3) زيادة من ن هـ، ومثبته في المرجع السابق.

تحيض"، وهذا من نحو تقززه من أكل الضب (¬1). قلت: بل صح أنه عليه الصلاة والسلام "أكل منها"، ففي البخاري في كتاب الهبة (¬2) في هذا الحديث فبعث إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بوركها أو فخذيها قال: فخذيها لا شك فيه، فقبله. قلت: وأكل منه؟ قال: وأكل منه، ثم قال بعد: قبله (¬3)، وصح أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأكلها كما أخرجه البخاري من حديث كعب بن مالك (¬4)، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث محمَّد بن صفوان، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: صحيح الإِسناد. واعلم أنه وقع في "شرح الرافعي" عن أبي حنيفة تحريمها، والذي حكاه النووي في "شرحه لمسلم" (¬5) عنه حلها وهو ما أسلفنا. ¬

_ (¬1) من حديث عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن أكل العنب فقال: "لا آكله ولا أحرمه"، أخرجه البخاري (5536)، ومسلم (1943)، ومن حديث عد الله بن عباس قال: "دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بيت ميمونه بنت الحارث فأتى بضب ... "، الحديث أخرجه البخاري (5537)، ومسلم (1946). (¬2) كتاب الهبة، باب قبول هة الصيد، وقبل النبي - صلي الله عليه وسلم - من أبي قتادة عضد الصيد (2572). (¬3) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الموضع السابق: وهذا الترديد لهشام بن زيد وقف جده أنسًا على قوله "أكله" فكأنه توقف في الجزم به، وجزم بالقبول. اهـ. (¬4) هذا وهم من المؤلف رحمنا الله وإياه، فإن البخاري لم يخرج لكعب بن مالك رضي الله عنه حديثًا في أكله - صلى الله عليه وسلم - للأرنب. (¬5) شرح مسلم (13/ 105).

الثانية: جواز استثارة الصيد والعدو في طلبه. الثالثة: أنه يملك بأخذه ووضع اليد عليه. الرابعة: هدية الصيد وقبوله وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ويثيب عليها، ولا يقاس عليه في هذا غيره من الحكام لانتقاء المعنى عنه دون غيره، وهو خوف الميل، والله الموفق للصواب.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 395/ 3/ 75 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: " [نحرنا فرسًا على عهد رسول الله - صلي الله عليه وسلم -] (¬1) فأكلناه". وفي رواية: "ونحن بالمدينة" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذه الرواية: "ونحن بالمدينة"، وهي للبخاري وفي رواية له: "ذبحنا" بدل "نحرنا"، وفي أخرى: "نحرنا" لمسلم، وفي رواية لأحمد: "فأكلناه نحن وأهل بيته". ثانيها: في التعريف براويه هي أسماء بنت الصديق شقيقة عبد الله أمهما أم العزى قيلة ويقال. قتيلة بنت عبد العزى. وهي زوج ¬

_ (¬1) في متن إحكام الأحكام (نحرنا على عهد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فرسًا). (¬2) البخاري (5510)، ومسلم (1942)، والنسائي في الكبرى (4495، 4509، 6644)، والترمذي (1793)، وابن ماجه (3190)، والدارقطني (4/ 290)، وأحمد (6/ 345، 345، 353)، المنتقى (331/ 886)، والدارمي (2/ 87)، والبيهقي (9/ 549)، والبغوي (11/ 255)، وعبد الرزاق (4/ 526) , ابن أبي شيبة (5/ 539).

الزُّبير بن العوام وأخت عائشة [لأبيها] (¬1) وهي أسن من عائشة واختلف في إسلام أمها وأكثر الروايات على أن ماتت مشركة. أسلمت أسماء قديمًا بمكة. وقيل: كان إسلامها بعد سبعة عشر إنسانًا وهاجرت إلى المدينة، وهي حامل بعبد الله بن الزبير, فوضعته بقباء، وولدت له غيره أيضًا. وكانت تسمى "ذات النطاقين" لأنها زودت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأباها حين أرادا الغار، فلم تجد ما توكي به السفرة، فقطعت نطاقها. وقيل: ذوائيها وربطتها به، فسماها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بذلك. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: "أبدلك الله بنطاقك هذا بنطاقين في الجنة". روي لها عن النبي - صلي الله عليه وسلم - ستة وخمسون حديثًا، اتفقا منها على أربعة عشر وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها. وقال ابن الجوزي: اتفقا منها على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بأربعة. ماتت بمكة بعد ابنها عبد الله بيسير، اختلف في مقداره في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وبلغت من العمر مائة سنة لم يسقط لها سن، ولم ينكر من عقلها شيء، وكان قد ذهب بصرها، وفي "العلم المشهور" لابن دحية أنه لم يفسد لها بصر، ولعل المراد منه أنه لم يفسد لها بصيرة، وهي آخر المهاجرات، وفاة، وترجمتها مبسوطة فيما أفردناه [من الكلام على الأسماء الواقعة في] (¬2) هذا الكتاب فسارع إليه. ومن مناقبها الجليلة أنها وابنها وأباها وجدها أربعة صحابيون ولا يعرف هذا لغيرهم إلَّا لمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن قحافة. ¬

_ (¬1) في الأصل ون هـ (لأنها)، وما أثبت هو الصحيح. (¬2) في ن هـ (في أسماء رجال).

ثالثها: في ألفاظه، قولها: "نحرنا فرسًا"، وفي إحدى روايتي البخاري "ذبحنا" كما أسلفناه اختلف في الجمع بينهما، فمنهم من جعلها واقعتين مرة "نحرت"، ومرة "ذبحت" وهذا هو الصحيح المرجح عندهم, لأن حملها على الحقيقة فيها مع جواز نحر المذبوح وذبح المنحور، وهو مجمع عليه، وإن كان فاعله مخالفًا للأفضل، كما نقله النووي في "شرح مسلم" (¬1) وإن شوحح في نقل الإِجماع في ذلك. ومنهم من حمل النحر على [الذبح] (¬2) جمعًا بين الحقيقة والمجاز. "والفرس" يطلق على الذكر والأنثى. وقولها: "ونحن بالمدينة" ذكرته لتعرف أنه آخر الأمر، لا في أوله لئلا يتوهم نسخه. رابعها: في فقهه، وهو أكل لحم الخيل، وفيه ثلاثة مذاهب: أحدها: جوازه من غير كراهة، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين، منهم عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وفضالة بن عبيد وأسماء بنت أبي بكر وسويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جُبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وإسحاق وأبي يوسف ومحمد وداود وغيرهم. المذهب الثاني: حله مع الكراهة، وهو قول ابن عباس والحكم وبعض أصحاب أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 96). (¬2) في هـ (المذهب) وهي خطأ.

[المذهب] (¬1) الثالث: أنه حرام، وهو الصحيح عند أصحابه كما نقله عنهم الشيخ تقي الدين (¬2)، وعنه يأثم ولا يسمى حرامًا، وعليها اقتصر النووي في "شرحه" (¬3) في حكايتها عنه، وعند المالكية ثلاثة أقوال فيها: الكراهة، والتحريم، والإِباحة، قال الفاكهي: والظاهر منها وأظنه المشهور الكراهة. والصحيح عند المحققين: [التحريم] (¬4) واقتصر النووي في "شرحه"، والقرطبي (¬5) في النقل عن مالك على الكراهة فقط، ولم يحك القرطبي التحريم إلَّا عن طائفة شذت، منهم الحكم بن عتيبة، ثم قال: وفيه بُعْدٌ, لأن الآية لا تدل عليه والأحاديث تخالفه. واعتذر بعضهم: عن هذا الحديث بأن قال فعل الصحابة في زمنه عليه الصلاة والسلام لا يكون حجة إلَّا إذا علمه، وهذا مشكوك فيه، مع أنه معارض بحديث صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده المقدام بن معدي كرب، عن خالد بن الوليد أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وكل ذي ناب من السباع"، وفي بعض رواياتهم: "إن ذلك يوم خيبر" (¬6)، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في إحكام الأحكام (4/ 455). (¬3) شرح مسلم (13/ 95). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) المفهم (5/ 228). (¬6) أبو داود (3068)، والنسائي (4331)، وابن ماجه (3198)، والبيهقي =

والجواب عن هذا الاعتذار: أنه يبعد فعل مل هذا في زمنه عليه الصلاة والسلام وهو ممنوع، ولم يعلم به إمَّا بإخبار الصحابة وإما بوحي مع أنهم توقفوا في أكل أشياء دون هذا هي حلال شرعًا حتى سألوه عنها, وأذن لهم فيها، وقد نزل الوحي في أشياء دون هذا بالمنع. والإِذن، بل حديث جابر الآتي بعد هذا يصرح بالإِذن في أكلها، وأنها أُكلت يوم خيبر. وحديث خالد المذكور في نهيه عن أكلها ضعيف منكر باتفاقهم، وبنقدير صحته يكون منسوخًا، قال الإِمام أحمد: هذا حديث منكر. وقال أبو داود في "سننه" (¬1): [إنه] (¬2) منسوخ، قد [أكله] (¬3) جماعة من [الصحابة (¬4)] (¬5) بن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس، وأسماء ابنة أبي بكر، وسويد بن غفلة، وعلقعة، وكانت قريش في عهد النبي - صلي الله عليه وسلم - تذبحها، وقال النسائي: حديث جابر في الإِذن فيه أصح منه، ويشبه إن صح أن يكون منسوخًا، لأن قوله:، وأذن في لحوم الخيل". دليل على ذلك وقال أيضًا: لا أعلمه رواه غير بقية بن الوليد، قلت: قد تابعه (¬6) الواقدي، ¬

_ = في معرفه فة السنن (14/ 96)، وقال: هذا حديث مضطرب، ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات. اهـ. السنن (9/ 328)، وقال: باب بيان ضعف الحديث الذي روى فيه ابن عن لحوم الخيل. (¬1) السنن (4/ 152). (¬2) في السنن (هذا). (¬3) في السنن (أكل). (¬4) في السنن (أصحاب). (¬5) في السنن (منهم). (¬6) ذكر هذه المتابعات البيهقي في السنن الكبرى (9/ 328).

ومحمد بن حمير، وعمر بن هارون البلخي، لكن الأول ضعيف، والثالث متروك، والثاني ثقة. وقال يعقوب الفسوي (¬1): ليس بالقوي. وبقية: قد عنعن في بعض رواياته لهذا الحديث، إن كان قال في رواية أحمد وابن ماجه والنسائي (¬2)، حدثني ثور وهو مشهور بتدليس التسوية (¬3). وقال البخاري (¬4): صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه فيه نظر، وقال الخطابي (¬5): حديث جابر إسناده جيد [قال، وأما] (¬6) حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر، وصالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض. وقال موسى بن هارون الحافظ: لا يعرف صالح ولا أبوه [ولا جده] (¬7)، قلت: صالح ذكره ابن حبان في ¬

_ (¬1) كتاب المعرفة والتاريخ (2/ 308، 309). (¬2) والدارقطني (4/ 287)، وفي التاريخ الكبير (4/ 292). (¬3) تدليس "التسوية"، وهو أن يسقط المحدت شيخ شيخه ويسمى "تجويد". انظر: المقنع في علوم الحديث لابن الملقن -رحمة الله عليه- (163)، وحاشية المحقق عليه. (¬4) تاريخ البخاري الكبير (4/ 292). (¬5) معالم السنن (5/ 307). (¬6) في ن هـ (ضرب عليها). (¬7) في السنن الكبرى (9/ 328)، وأيضًا كرره صاحب الجوهر وفي معرفة السنن (14/ 97)، وسنن الدارقطني (4/ 287)، فلعلّه الصواب، أي: إنما يعرف صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب، بجده المقدام لأنه صحابي وموسى بن هارون الحمال أبو عمران البزاز: ولد سنة أربع =

"ثقاته" (¬1) نعم، قال خ: فيه نظر. وقال ابن القطان: لم تتبين عدالته وأبوه يحيى وثق (¬2) أيضًا. وجده المقدام (¬3): صحابي كما نص عليه الأئمة ابن منده وأبو نعيم وابن عبد البر (¬4) فلا تسأل عن مثله. وقال الدارقطني (¬5): هذا حديث ضعيف. قال: وإسناده أيضًا مضطرب. وقال الواقدي: لا يصح هذا، لأن خالدًا أسلم بعد فتح خيبر. وقال خ (¬6): إنه لم يشهد خيبر. وكذا قاله أحمد أيضًا إنما أسلم بعد الفتح. وقال ابن عبد البر (¬7): لا يصح لخالد مشهد مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قبل الفتح. [وقال البيهقي] (¬8) إسناده مضطرب، ومع اضطرابه فهو مخالف لحديث الثقات. ¬

_ = عشرة ومائتين وهو ثقة حافظ ومات في شهر شعبان سنة أربع وتسعين ومائتين وله ثمانون عامًا ترجمته في طبقات الحنابلة، (1/ 334)، وتاريخ بغداد (13/ 50، 51)، مستور (11/ 289). (¬1) الثقات (6/ 459)، وقال: يخطئ. تهذيب الكمال (31/ 570). (¬2) ذكره ابن حبان في ثقات (5/ 524)، وتهذيب التهذيب (11/ 289). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 415)، وتاريخ خليفة (301)، والطبقات له (72). (¬4) الاستيعاب (4/ 1482). (¬5) سنن الدارقطني (4/ 287، 288). (¬6) رمز للبخاري. (¬7) الاستيعاب (3/ 163). (¬8) في ن هـ ساقطة. السنن الكبرى (9/ 328)، ومعرفة السنن (14/ 96).

وقال عبد الحق: لا تقوم به حجة لضعف إسناده. وقال أبو محمَّد بن حزم في "محلاه" (¬1): حديث صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب هالك لأنهم مجهولون (¬2) ثم فيه دليل [على] (¬3) الوضع, لأن فيه عن خالد قال: غزوت مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خيبر وهذا باطل, لأنه لم يسلم إلَّا بعد خيبر بلا خلاف. قلت: بل فيه خلاف، حكاه أبو عمر، قيل: إنَّ إسلامه سنة خميس، وخيبر كانت سنة ست أو سبع على ما أسلفناه في ترجمة أبي هريرة. ثم إطلاقه الجهالة على المقدام خطأ فهو صحابي معروف كما مرَّ. واعتذر بعضهم عنه أيضًا أعني عن حديث أسماء وجابر أيضًا الآتي بأنهما في مقابلة دلالة النص، وهو قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (¬4)، فإنها خرجت مخرج ¬

_ (¬1) المحلى (7/ 408). (¬2) في المرجع السابق زيادة (كلهم). (¬3) غير موجودة في المرجع السابق. (¬4) سورة النحل: آية 8. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه - في الفتح (9/ 26، 653): [وأما ما نقل عن ابن عباس ومالك وغيرهما من الاحتجاج للمنع بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} , فقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم، وقرروا ذلك بأوجه: أحدها: أن اللام للتعليل ندل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ثانيها: عطف البغال والحمير فدل على اشتراكها معها في حكم التحريم فيحتاج من أفرد حكمها عن حكم ما عطفت عليه إلى دليل. ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كانت ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم لأنه يتعلق به بقاء النية بغير واسطة، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها, ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة، هذا ملخص ما تمسكوا به من هذه الآية، والجواب على سبيل الإِجمال أن آية النحل مكية اتفاقًا والإِذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي - صلي الله عليه وسلم - من الآية المنع لما أذن في قال. وأيضًا فآية النحل ليست نصًّا في منع الأكل، والحديث صريح في جوازه. وأيضًا على سبيل التنزل فإنما يدل ما ذكر على ترك الأكل، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه أو خلاف الأولى، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز وعلى سبيل التفصيل. أما أولًا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير قال اتفاقًا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل، ونظيره حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: "إنا لم نخلق بهذا إنما خلقنا للحرث" فإنه مع كونه أصرح في الحصر لم يقصد به الأغلب، وإلَّا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقًا، وأيضًا فلو سلم الاستدلال للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير، ولا قائل به. وأما ثانيًا: فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران، وهي ضعيفة. =

الامتنان بذكر النعم على ما دل عليه سياق الآيات قبلها فذكر تعالى الامتنان بنعمة الركوب والزينة في الخيل والبغال والحمير وترك الامتنان بنعمة الأكل، كما ذكر في الأنعام ولو كان الأكل ثابتًا [لما ترك الامتنان به، لأن نعمة الأكل في جنسها فوق نعمة الركوب والزينة، فإنه لا يتعلق بها البقاء بغير واسطة ولا يحسن ترك الامتنان بأعلى النعمتين، وذكر الامتنان بأدناهما فدل ترك] (¬1) الامتنان بالأكل على المنع منه، لا سيما وقد ذكرت نعمة الأكل في نظائرها الأنعام، وهذا وإن كان استدلالًا حسنًا إلَّا أنه يجاب عنه بوجهين، ذكرهما الشيخ تقي الدين (¬2). أحدهما: ترجيح دلالة الحديث على الإِباحة على هذا الوجه من الاستدلال من حيث قوته بالنسبة إلى تلك الدلالة. ثانيهما: أن يطالب بوجه الدلالة على غير التحريم، فإنها تشعر بترك الأكل وترك الأكل أعم من كونه متروكًا على سبيل التحريم أو التنزيه. وأجاب غيره بأنما خص الركوب والزينة بالذكر, لأنهما ¬

_ = وأما ثالثًا: فالامتنان إنما قصد به غالبًا ما كان يقع به انتفاعهم بالخيل فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا, ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر. وأما رابعًا: فلو لزم من الإِذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان بمنفعة له أخرى، والله أعلم]. اهـ. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 457).

معظم المقصود من الخيل، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (¬1)، فذكر اللحم لأنه معظم المقصود، وقد قام الإِجماع على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه. ولهذا سكت عن ذر حمل الأثقال عليها مع قوله تعالى في الأنعام "وتحمل أثقالكم" ولا يلزم من هذا تحريم حمل الأثقال على الخيل. واعتذر من قال بالكراهة عن حديث جابر الآتي بأنه كان في حال مجاعة وشدة حاجة فأباحها لهم وكانت الخيل بالإِباحة أولى، فإنه من باب فعل الأخف واجتناب الأثقل، وهو اعتذار عجيب، فحديث أسماء راد عليه، فإنه أكل بالمدينة كما سلف. تنبيه: لما ذكر الشيخ تقي الدين في"شرحه" (¬2) عن بعض الحنفية معارضة حديث جابر بحديث خالد بن الوليد [أنه عليه الصلاة والسلام حرمها أعترض فقال: إنما نعرفه بلفظ النهي لا بلفظ التحريم عن خالد وكأنه] (¬3) -رحمه الله- رآه بهذا اللفظ في سنن أبي داود في باب أكل [لحوم الخيل] (¬4) بلفظ النهي، لكن ذكره بعد هذا بورقة في باب النهي عن أكل السباع (¬5) بلفظ الحرمة، فتنبه لذلك، وقد سقت لك أقوال الأئمة في ضعفه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 455). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) في الأصل ون هـ (اللحم)، وما أثبت من السنن (4/ 149). (¬5) السنن (4/ 159)، رقم (3068).

الحديث الرابع

الحديث الرابع 396/ 4/ 75 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية، [وأذن في لحوم الخيل. ولمسلم وحده قال: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن [الحمار الأهلي] (¬1)] (¬2) (¬3). الكلام عليه من وجوه: الأول: هذه الرواية الأخيرة هي من أفراد مسلم، كما نص عليه إلَّا أن لفظه "ونهانا" بدل "ونهى" وفي رواية للبخاري "ورخَّص" بدل "وأذن". الثاني: خيبر تقدم الكلام عليها في الحديث التاسع من باب الرهن وغيره. ¬

_ (¬1) الأصل بياض. وما أضيف من متن العمدة. (¬2) في ن هـ بياض. وما أضيف من متن العمدة. (¬3) البخاري (4219)، ومسلم (1941)، وأبو داود (3788 , 3789)، والنسائي (7/ 201)، والدارمي في (2/ 87)، وأحمد (3/ 361)، وابن الجارود (885، 886)، والبيهقي (9/ 326، 327)، والبغوي (5281)، والدارقطني (4/ 289).

والخيل: اسم جنس لا واحد له من لفظه عند الجمهور، وسميت بذلك لاختيالها في مشيها بطول أذنابها. الثالث: في فقهه وهو حل الخيل، وهو ظاهر الحديث لقوله: "وأذن في لحوم الخيل" والإِذن إباحة. وقد تقدم الكلام عليه أيضًا، [وحرمة] (¬1) الحمار الأهلي، وقد سلف مبسوطًا في الحديث الثامن من كتاب النكاح، فراجعه من ثم وذكرت هناك معارضه وهي حديث "أطعم أهلك من سمين حمرك". ضعيف باتفاق الحفاظ لما في إسناده من الاضطراب وشدة الاختلاف. قال البيهقي (¬2): هذا الحديث مختلف في إسناده، ومثله لا يعارض به الأحاديث الصحيحة [] (¬3) بتحريم لحوم الحمر الأهلية. وقال عبد الحق: هذا الحديث ليس بمتصل الإِسناد إلَّا من حديث عبد الله بن عامر بن لويم، وهو غير معروف وعبد الرحمن بن بشر وهو مجهول. الرابع: فيه حل الحمار الوحشي، وقد أكل عليه الصلاة والسلام منه كما سبق في حديث أبي قتادة في باب المحرم يأكل من صيد الحلال. ¬

_ (¬1) في ن هـ وحرم. (¬2) السنن الكبرى (9/ 332)، في المعرفة والسنن (14/ 104). (¬3) في المرجع السابق زيادة (التي مضت مصرحة).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 397/ 5/ 75 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "أصابتنا مجاعةٌ ليالى خيبر، فلما كان يوم خيبر: وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها، فلما غلت بها القدور: نادى منادي رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: أن أكفؤ القدور [وربما قال] (¬1) ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئًا" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف بالصحابي براويه وهو عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد -بفتح الألف- ابن أبي رفاعة بن ثعلبة بن هوازن بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأسلمي، أبو إبراهيم، أو أبو محمَّد، أو أبو معاوية على أقوال، له ولأبيه صحبة وكذا لأخيه زيد، شهد عبد الله بيعة ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) البخاري (3155)، ومسلم (1937)، والنسائي (7/ 203)، ابن ماجه (3192)، البيهقي في السنن (9/ 329)، معرفة السنن (14/ 101)، وأحمد (4/ 291، 354، 356، 381)، والحميدي (2/ 312)، وابن أبي شيبة (5/ 542)، وعبد الرزاق (5/ 524).

الرضوان، وأول مشاهده حنين، روي [عنه] (¬1) عدة أحاديث مجموعها خمسة وتسعون، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بحديث. روى عنه طلحة بن مصرف وغيره. وكان من بقايا الصحابة بالكوفة، لما قبض عليه السلام تحول إليها، مات [سنة] (¬2) ست وثمانين، وقيل: سنة سبع أو ثمان قال الفلاس (¬3): وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة، وابتنى بها دارًا في أسلم، وكان قد كف بصره وكان يخضب بالحناء. ثانيها: هذا الرجل المنادي هو أبو طلحة الأنصاري، كما ثبت في "صحيح مسلم" من رواية أنس (¬4) [رضي الله عنه] (¬5) وعزاه النووي في "مبهماته" (¬6) إلى "مسند أبي ¬

_ (¬1) زيادةمن ن هـ. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) هو عمرو بن علي بن بحرين كنيز الحافظ المجود الناقد أبو حفص ولد سنة نيف وستين سنة مات سنة تسع وأربعين ومئتين في ذي القعدة. ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 470)، وتاريخ بغداد (12/ 207 , 212)، والنجوم الزاهرة (2/ 330). (¬4) ومسلم (1940)، وجاء في رواية أن المنادي بلال، وجاء في رواية أخرجها النسائي في الكبرى (6647)، والصغرى (4341) إن المنادي عبد الرحمن بن عوف. وجمع بينهما ابن حجر في الفتح (9/ 655)، أن عبد الرحمن نادى بالنهي مطلقًا. ونادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله: "إنها رجس". اهـ. (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) كتاب الإِشارة إلى بيان الأسماء المبهمات (594).

يعلى" (¬1) وعزوه إلى "صحيح مسلم" أولى. ثالثها: في ألفاظه قوله: "أصابننا مجاعة ليالي خيبر"، أي: الليالي التي أقمنا على فتحها. والمجاعة: الجوع لكنهم لم يبلغوا فيه إلى حالة الاضطرار حتى يحل لهم ما يحل للمضطر. "واكفؤا"، قال القاضي عياض (¬2): ضبطناه بألف وصل وفتح الفاء من كفأت ثلاثي ومعناه قلبت. قال: ويصح قطع الألف وكسر الفاء من أكفأت رباعي وهي لغتان بمعنىً عند الأكثرين من أهل اللغة منهم الخليل والكسائي وابن السكيت وابن قتيبة وغيرهم. وقال الأصمعي: يقال كفأت ولا يقال: أكفأته بالألف، وقد سلف الكلام على هذه الصادة في الطهارة وغيرها أيضًا. رابعها: أمره عليه الصلاة والسلام بإكفاء القدور محمولٌ على أنه بسبب التحريم لأكل لحومها عند جماعة، وهو المشهور السابق إلى الفهم، وقد وردت [(¬3)] علل أخرى، ذكرتها في الحديث الثامن من كتاب النكاح. قال الشيخ تقي الدين (¬4): فإن صحت تلك الروايات عن النبي - صلي الله عليه وسلم - وجب الرجوع إليه. ¬

_ (¬1) مسند أبي يعلى (2828). (¬2) مشارق الأنوار (1/ 344). (¬3) في ن هـ زيادة (على). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 460)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه-: قد زالت هذه الاحتمالات بحديث إن حيث جاء فيه "فإنها رجس" أخرجه البخاري، وهو دال لتحريمها لعينها لا لمعنى خارج. اهـ.

قلت: هو من تفقهات الصحابة، فإن أناسًا منهم قالوا: إنما نهى عنها لاْنها لم تخمس، كما سيأتي مثله من حديث رافع بن خديج في الباب الآتي في الإِبل والغنم (¬1). وقال آخرون: نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة، كما سلف هناك بزيادة عليه. الخامس: في أحكامه: الأول: جواز ذبح الحيوان أو نحره للحاجة بشرط جواز أكله. الثاني: أنه ينبغي لأمير الجيش إذا فعل فيه شيء على خلاف الشرع أن يأمر ناديه أن ينادي بإتلافه والمنع من تعاطيه. وقد كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا حالة أخرى، وهي جمعهم فيخطب، ويذكر ما يحتاجون إليه فيها. الثالث: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية وإن قلت، وقد سلف ما فيه، قال الشيخ تقي الدين (¬2): وهذا الحديث يشتمل على لفظ التحريم، وهو أولى من لفظ النهي، وتبعه ابن العطار على ذلك، والحديث إنما فيه عدم الأكل من لحمها، وهو دال على ذلك، نعم حديث أبي ثعلبة الآتي يشتمل على لفظ التحريم كما ستعلمه. الرابع: إكفاء القدور المطبوخة بها، وقد روى مسلم في صحيحه أهريقوها واكسروها قال "رجل" أو نهريقها ونغسلها قال: ¬

_ (¬1) ص 161. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 460).

أو ذاك" (¬1) وهذا تصريح بنجاستها وتحريمها، ويؤيده الرواية الاخرى في مسلم: "فإنها رجس"، وفي أخرى: "رجس أو نجس"، وفيه جواز غسل ما أصابنه النجاسة, لأن الذكاة فيما لا يحل لا يفيد طهارة عند الأكثرين، وأن الإِناء النجس يطهر بغسله مرة واحدة، ولا يحتاج إلى سبع إذا كانت غير نجاسة الكلب والخنزير، وما تولد من أحدهما. وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وعند أحمد يجب غسله سبعًا في الجميع على أشهر الروايتين عنه. وموضع الدلالة أنه عليه الصلاة والسلام أطلق الأمر بالغسل، ويصدق ذلك على مرة واحدة ولو وجبت الزيادة لبينها، فإن في المخاطبين قريب العهد بالإِسلام ومَنْ في معناه ممن لا يفهم من الأمر بالغسل إلَّا مقتضاه عند الإِطلاق، وهو مرة. وأما أمره عليه الصلاة والسلام أولًا بكسرها فيحتمل أنه كان بوحي أو باجتهاد، ثم نسخ وتعين الغسل، ولا يجوز اليوم الكسر، لأنه إتلاف مال. وقال القرطبي (¬2): كان الأمر بكسرها إنما صدر منه بناء على أن هذه القدور لا يُنتفع بها مطلقًا، وأن الغسل لا يؤثر فيها لما ¬

_ (¬1) من رواية سلمة بن الأكوع، والحديث متن عليه، أخرجه البخاري (2477)، ومسلم (1802)، وابن ماجه (3195)، والنبوي (3805)، وأحمد (4/ 47، 48)، والبيهقي (9/ 330). (¬2) المفهم (5/ 226، 227).

يسرى فيها من النجاسة، فلما قال الرجل: "أَوْ نُهريقُها ونَغْسِلُها" فهم الرسول إنها مما ينغسل، فأباح له ذلك، فبدَّل الحكم لتبدُّلِ سببه. ولهذا في الشريعة نظائر، وهي تدل على أنه عليه الصلاة والسلام يحكم باجتهاده فيما لم يُوْحَ إليه فيه شيء. [الخامس (¬1)] (¬2): أن الأصل في الأشياء الإِباحة، لأنهم أقدموا على ذبحها كسائر ما يذبح من الحيوان عندهم. ¬

_ (¬1) في ن هـ (السادسة). وما أثبت حسب الترتيب. (¬2) في الأصل بياض.

الحديث السادس

الحديث السادس 396/ 6/ 75 - " عن أبي ثعلبة [رضي الله عنه قال: رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية] " (¬1) (¬2). الكلام عليه من [وجهين] (¬3): أحدهما: في التعريف براويه، وسأذكره أول باب الصيد إن شاء الله (¬4). ثانيهما: في فقهه، وهو التصريح بلحوم الحمر الأهلية، وقد أسلفنا الكلام [فيه] (¬5) أيضًا. ¬

_ (¬1) في ن هـ بياض. (¬2) البخاري (5527)، ومسلم (1936)، والنسائي في الكبرى (6647)، والنسائي (7/ 304)، والطبراني في الكبير (22/ 210) (558، 560، 562، 564، 565، 574، 582، 600)، والبيهقي (9/ 555)، وشرح معاني الآثار (4/ 206). (¬3) في ن هـ (وجوه). (¬4) ص 130. (¬5) في ن هـ (عليه).

قال القرطبي (¬1): وأولى العلل فيه ما صرح به منادي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - حيث قال: "إن الله ورسوله يَنْهَيَانِكُم عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان". والرّجس: النجس. فلحومها نجسة، لأنها هي التي عاد عليها ضمير (إنها النجس) وهي التي أمر بإراقتها من القدور، وغسلها منها، وهذا حكم النجاسة. وأما التعليل بكونها "من جَوَالي القرية" فرواه أبو داود (¬2)، وهو حديث لا يصح. وأما ما عدا ذلك من العلل فمتوهَّمة مُقَدَّرة، لا يشهدُ لها دليل. ثم يقول: ولا بعْد في تعليل تحريمها بعلل مختلفة، كل واحدة منها مستقلة بإفادة التحريم. وهو الصحيح من أحد القولين للأصوليين، وأما تعليل من عللها بغير التخميس فغير صحيح لأنه: يجوز أكل الطعام ¬

_ (¬1) المفهم (5/ 224). (¬2) سنن أبي داود (3809)، وقال البيهقي في سننه (9/ 332): فهذا حديث مختلف في إسناده. اهـ. وفي معرفة السنن والآثار (14/ 104) قال: إسناده مضطرب. اهـ. وقال أيضًا: فكانه إن صح إنما رخص له في أكله بالضرورة حيث تباح الميتة، والله أعلم. اهـ. وقال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (16/ 304) على حديث جابر رضي الله عنه "نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأذن في لحوم الخيل". في هذا الحديث أوضح الدليل على أن النهي عن أكل الحمر الأهلية عبادة، وشريعة، لا لعلة الحاجة إليها، لأنه معلوم أن الحاجة إلى الخيل في العرف أوكد، وأشد، وأن الخيل أرفع حالًا، وأكثر جمالًا، فكيف يؤذن للضرورة في أكلها، وينهى عن الحمر؟ هذا من المحال الذي لا يستقيم.

والعلوفة من الغنيمة قبل القسمة اتفاقًا، لا سيما في حال المجاعة، والحاجة (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن عد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (14/ 119)، باب ما يجوز للمسلمين أكله قبل الخمس، ثم ساقط الأدلة المجوزة لذلك وأقوال أهل العلم.

الحديث السابع

الحديث السابع 398/ 7/ 75 - عن عبد الله بن عباس [رضي الله عنهما] (¬1) قال: "دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم -[بيت ميمونة، فأُتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل فرفع رسول - صلى الله عليه وسلم - يده [فلم يأكل] (¬2) فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه. قال، خالد: فاجتررته، فأكلته والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر" (¬3). [قال رضي الله عنه] (¬4): المحنوذ: المشوي بالرضف، وهي الحجارة المحماة] (¬5). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من متن العمدة. (¬3) البخاري (5391)، ومسلم (1945، 1946)، والنسائي (7/ 197، 198)، وأبو داود (3794)، والموطأ (1181)، والبيهقي (9/ 323)، والدارمي (2/ 93)، والطبراني (3158، 3817، 3821)، والبغوي (2799). (¬4) زيادة من متن العمدة. (¬5) في ن هـ بياض.

والكلام عليه من وجوه: الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. وخالد بن الوليد تقدمت نبذة من ترجمته في الزكاة، وميمونة أم المؤمنين سلف التعريف بها في باب الغسل، وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد. الثاني: في التعريف بما أبهم فيه، وذلك في موضعين: الأول: قوله: "فأُتي بضب محنوذ"، والتي أتت به هي أم حفيد (¬1) -بلا هاء على الأصوب الأشهر- واسمها هزيلة بنت ¬

_ (¬1) أقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والشديد: جاءت تسميتها في البخاري (5391)، ومسلم (44/ 1946) حفيدة بن الحارث -وهو متفق عليه-. وعند مسلم أيضًا (45/ 1946) أم حفيد والنسائي (7/ 199)، وابن الجارود برقم (894)، وفي مسند أحمد (برقم (1978، 1979، 2299، 2569). واسمها هزيلة كما في رواية الموطأ (1810)، وهو مرسل سليمان بن يسار جاء في الفتح (9/ 164) باسم عطاء بن يسار وهو غلط فليصحح. وقد ترجم لها ابن عبد البر بهذا الاسم في الاستيعاب برقم (4109). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 664): وحكى بعض شراح العمدة في اسمها حميدة بميم وفي كنيتها أم حميد بميم بغير هاء، وفي رواية بهاء وبفاء ولكن براء بدل الدال وبعين مهملة بدل الحاء بغير هاء وكلها تصحيفات. اهـ. وقال ابن بشكوال -رحمنا الله وإياه - في غوامض الأسماء المبهمة (512): قال الباهلي: قال لنا يعقوب الدورقي في أم حفيد هذه: يقال لها =

الحارث، وهي صحابية. وقيل: حفيدة بالهاء، وقيل: أم حفيدة، وقيل أم حميد بالميم بدل الفاء وقيل حميدة، وكله بضم الحاء مصغر، ويقال أم حفرة بالراء، ويقال: أم حفر، حكاها ابن العطار في "شرحه"، وهزيلة هذه أخت أم خالد لبابة الصغرى وأم عباس لبابة الكبرى. الموضع الثاني: قوله: "فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل"، ولا يحضرني تسميتها، لكن جاء في "صحيح مسلم" من حديث يزيد بن الأصم عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بينما هو عند ميمونة، وعندها الفضل بن العباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى إذ قرب إليهم خوان عليه لحم: فلما أراد النبي - صلي الله عليه وسلم - أن يأكل قالت له ميمونة: إنه لحم ضب، فكف يده. وقال: "هذا لحم لم آكله قط"، وقال لهم: "كلوا" فأكل منه الفضل وخالد [بن الوليد] (¬1) والمرأة، وقالت ميمونة: لا آكل من شيء إلَّا شيء يأكل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: "الضب" بفتح الضاد حيوان بري معروف يشبه الجرذون، لكنه كبير القد له أخبار طريفة عند العرب، ويذكرون عنه عجائب كثيرة من جملتها أن الذكر له ذكوان والأنثى لها فرجان، وولده يسمى الحسل، ومن عجائبه أن أسنانه لا تتبدل ولا يتقلع منها شيء، ولهذا يقال لا أبدل سن الحسل، والحسل هو الضب ومعنى ¬

_ = أم حفين، وأم عفين. قال الباهلي اسمها هزيلة. اهـ. (¬1) زيادة من مسلم.

ذلك لا أمل ما بقي سن الحسل. قال ابن خالويه في أوائل كتاب "ليس" الضب لا يشرب الماء ويعيش سبعمائة سنة فصاعدًا، ويقال: إنه يبول في كل أربعين يومًا قطرة ولا يسقط له سن، ويقال: إن سنه قطعة واحدة ليست مفرجة، والعرب تقول على لسان الضب إنه قيل له رد الماء وردًا يا ضب، فقال: أصبح قلبي صَرِدًا، لا يشتهي أن يَرِدَا، إلَّا عَرَادًا عَرِدًا، وَصلِّيَانًا بَرِدًا، وعَنْكَثًا مُلْتَبِدَا. ويأكل ولده، فلذلك قيل: "أعق من ضب"، قال ابن خالويه: وليس في الدنيا حيوان لا يسمع ولا يشرب الماء إلَّا النعام ولا مخ له، ومتى ذلقت رجل واحدة، له لم ينتفع بالباقية والضب لا يشرب ولكنه يسمع. الرابع: "المحنوذ" قد فسره المصنف ومنهم من أطلق أنه الشوي، وقدمه النووي في "شرحه" (¬1) لمسلم على الأول. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 99). قال البخاري -رحمه الله- صحيحه باب الشواء وقول الله تعالى: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}، أي: مشوي، قال ابن حجر في الفتح (9/ 542)، قوله: باب الشواء بكسر الشين المعجمة وبالمد معروف. فقوله: "وقول الله تعالى: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)} كذا في الأصل وهو سبق قلم والتلاوة "أن جاء" كما سيأتي قوله "مشوي" كذا ثبت قوله: "مشوي"، في رواية السرخسي، وأورده النسفي بلفظ "أي مشوي"، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)}، أي: محنوذ وهو المشوي مثل قتيل في قتول، وروى الطبري عن وهب بن منبه عن سفيان الثوري مثله، وعن ابن عباس أخص منه، قال حنيذ، أي: نضيج، ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد الحنيذ المشوي النضيج، ومن طرق عن قتادة والضحاك وابن إسحاق مثله، ومن طريق =

قوله: "لم يكن بأرض قومي" ظاهره أنه لم يكن جودًا فيها، وقد حكي عن بعض العلماء أن الضب موجود عندهم بمكة غير أنه قليل، وأنهم لا يأكلونه (¬1). ومعنى "أعافه" أكرهه تقذرًا، قاله أهل اللغة. ويقال: عِفْتُ الشيء أَعَافُهُ عَيْفًا إذا كرهته. وعِفْتُهُ أَعِيفُهُ عِيَافَةً من الزجر. وعافته: الطير تعيف إذا حام على الماء، ليجد فرصة ليشرب. وقوله: "فاجتررته" هو بالراء المكررة، وذكره بعض من تكلم على ألفاظ المهذب بالراء بعد الزاي، أي: قطعته والصواب الأول. قال النووي في "شرح المهذب" (¬2) وهو المعروف في كتب الفقه والحديث وغيرها. الخامس: في فقهه، وفيه مسائل: أهمها: [حل] (¬3) [أكل] (¬4) الضب، فإنه عليه الصلاة والسلام ¬

_ = السدي، قال: الحنيذ المشوي في الرضف، أي: الحجارة المحماة وعن مجاهد والضحاك نحوه، وهذا أخص من جهة أخرى وبه جزم الخليل صاحب اللغة ومن طريق شمر بن عطية قال: الحنيذ الذي يقطر ماؤه بعد أن يشوي، وهذا أخص من جهة أخرى والله أعلم. اهـ. انظر أيضًا (664). (¬1) انظر: الاستذكار (27/ 187)، والفتح (9/ 664 - 665). (¬2) (9/ 11)، وفيه غلط (أي: وطعنه)، فليصحح. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في الأصل ساقطة.

أمر خالدًا على أكله مع العلم به وتقريره أحد الطرق الشرعية مع قوله: "إنه ليس بحرام" (¬1)، وفي رواية أخرى في الصحيح: "كلوا فإنه حلال" (¬2)، وقد قام الإِجماع على ذلك، وعلى أنه ليس بمكروه، وما حكاه القاضي عياض (¬3) عن قوم أنهم حرموا، وكذا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وما حكاه ابن المنذر عن علي لا يصح عنهم، وإن صح فهم محجوجون بالنصوص وإجماع من قبلهم (¬4). وأما حديث إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن أبي راشد الحبراني، عن عبد الرحمن بن شبل: "نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن أكل الضب" (¬5)، فلا يصح أن يكون معارضًا لهذا الحديث الصحيح، على أن الخطابي (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي (9/ 323)، وأصله في الصحيحين عدا هذه اللفظة. (¬2) البخاري (7267)، ومسلم (1944)، وأحمد (2/ 137)، والبيهقي (9/ 323)، في المخطوطة "كلوه" وما أثبت من البخاري ومسلم. (¬3) إكمال إكمال المعلم (5/ 283). (¬4) نقل ابن حجر في الفتح (9/ 665) كراهة على له. وقال: قلت: قد نقله ابن المنذر عن علي، ثم تعقب نقل الإِجماع قائلًا، فأي إجماع يكون بعد مخالفته؟ اهـ. أي مخالفة علي. (¬5) أخرجه أبو داود (3796)، والبيهقي (9/ 326). أقول: له شاهد عند الطبراني في الكبير (22/ 333) من حديث أبي مريم وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 41)، وقال: فيه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في أهل الحجاز. اهـ. = (¬6) معالم السنن (5/ 311).

قال: ليس إسناده بذاك. وذكره ابن الجوزي في "علله" (¬1)، وقال: إنه حديث لا يصح وإسماعيل (¬2) ضعيف. قال. وروى من حديث جابر أيضًا (¬3). قال أبو حاتم الرازي (¬4) [فيه ليس بالقوي] (¬5)، وقال البيهقي في "خلافياته" و"سننه" (¬6) تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة. ¬

_ = قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 665) عن الحديث أخرجه أبو داود بسند حسن، فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريع بن عبيد، عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل، وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي، وهؤلاء شاميون ثقات ولا يغتر بقول الخطابي: إسناده ليس بذاك. وقول ابن حزم: فيه ضعفاء ومجهولون، وقول البيهقي، تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة وقول ابن الجوزي: لا يصح ففي كل ذلك تساهل لا يخفي، فإن رواية، إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري وقد صحح الترمذي بعضها. اهـ. محل المقصود منه. (¬1) العلل المتناهة (2/ 172). (¬2) في المرجع السابق زيادة (بن عياش). (¬3) هذا وهم من المؤلف -رحمنا الله وإياه- وإنما المذكور من رواية عائشة رضي الله عنها, ولفظه "قالت: نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن أكل لحم الضب"، قال أبو حاتم الرازي خالد ليس بالقوي". اهـ. (¬4) الجرح والتعديل (3/ 359). (¬5) العبارة في العلل (2/ 172)، خالد ليس بقوي أما في "الجرح" السؤال عنه وقال فيه: ليس بالقوي. (¬6) السنن الكبرى (9/ 326)، معرفة السنن (14/ 93)، مختصر الخلافيات (5/ 88).

قلت: إسماعيل إذا روى عن الشاميين [كان] (¬1) حجة كما نص عليه ابن معين والبخاري وغيرهما، وكذا البيهقي (¬2) نفسه في باب ترك الوضوء من الدم (¬3). وضمضم: هذا حمصي فلا ينبغي أن يعمل به إذًا من هذا الوجه وأسرف ابن حزم القول في تضعيفه، فقال في "محلاه" (¬4) حديث عبد الرحمن بن شبل فيه ضعفاء ومجهولون فسقط، وهذا غريب منه فالحديث في أبي داود عن محمَّد بن عوف (¬5)، وهو ثقة عن الحكم بن نافع أبي اليمان احتج به الشيخان (¬6)، عن ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) السنن (1/ 142). (¬3) الترجمة في السنن هكذا "باب ترك الوضوء من خروج الدم من غير مخرج الحدث". (¬4) المحلى (7/ 431). (¬5) محمَّد بن عوف، أبو جعفر، ويقال: أبو عبد الله الحمصي، الحافظ، قال أبو حاتم ثقة صدوق، ووثقه النسائي وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة اثنتين وسبعين ومئتين بحمص. ترجمته: الجرح والتعديل: الترجمة 241، ثقات ابن حبان (9/ 143)، وتهذيب الكمال (26/ 236). (¬6) الحكم بن نافع: أبو اليمان الحمصي، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم سئل أبي عن أبي اليمان: هو نبيل ثقة صدوق، وقال العجلي: لا بأس به. وقال الموصلي: كان ثقة ... ، مات سنة إحدى وعشرين، وقيل: اثنتين وعشرين ومئتين من ذي الحجة. ترجمته: الجرح والتعديل 13 الترجمة 586، وتاريخ البخاري الكبير =

إسماعيل بن عياش، وهو حجة عن الشاميين، كما قررناه (¬1) عن ضمضم (¬2) وثقه [(¬3)] ابن معين وغيره عن شريح (¬4) وثقه النسائي وغيره ¬

_ = 12 الترجمة 2691، وطبقات ابن سعد (7/ 472)، وتهذيب الكمال (7/ 146). (¬1) إسماعيل بن عياش بن سُليم العنسي أبو عتبة الحمصي، وثقه يحيى بن معين، ولد سنة اثنتين ومئة على اختلاف فيه وتوفي سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومئة. ترجمته في التاريخ الكبير (1/ 1/ 370)، وتاريخ بغداد (6/ 227، 228)، وتهذيب الكمال (3/ 163). (¬2) ضمضم بن زرعة بن ثوب الحضرمي الحمصي مختلف في توثيقه. وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم ضعيف. وقال صاحب كتاب "تاريخ الحمصيين" لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". ترجمته في "تاريخ الدارمي" (443) البخاري الكبير (4 الترجمة 3048)، الجرح والتعديل (4 الترجمة 2055)، وتهذيب الكمال (13/ 327). (¬3) في ن هـ زيادة (واو). (¬4) شريح بن عبيد بن شريح بن عبدٍ بن عريب الحضرمي أبو الصلت، وأبو الصواب الشامي الحمصي قال العجلي: شامي تابعي ثقة، وقال الدارمي، عن دحيم: من شيوخ حمص الكبار ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". ترجمته: الجرح والتعديل (4/ 1464)، وعلل أحمد (1/ 365)، وتهذيب الكمال (12/ 446). تنبيه: جاء في الفتح (9/ 665)، شريح بن عتبة وهو غلط، والصحيح ما أثبت، فليصحح.

عن أبي راشد (¬1)، قال العجلي: شامي ثقة، فأين الضعف والجهالة. ¬

_ (¬1) أبو راشد الحُبْرانيُّ الشامي الحمصي، ويقال: الدمشقي أحمد يقال: اسمه أخضر، ويقال: اسمه أخضر بن خُوط ويقال أيضًا اسمه: النعمان بن بشير قال: العجلي شامي تابعي، ثقة، ما لم يكن بدمشق في زمانه أفضل منه. ترجمته في طبقات ابن سعد (7/ 457)، والثقات لابن حبان (5/ 583)، وتهذيب الكمال (33/ 299، 300). أقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد في الجمع بين أحاديث النهي وأحاديث الإِباحة نقلًا عن ابن حجر -رحمنا الله وإياه - في الفتح (9/ 666) بتصرف برقم (1951). تحمُل أحاديث النهي على أول الأمر بدليل ما أخرجه مسلم برقم (1951) من رواية أبي سعيد "ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت"، وحديث عبد الرحمن بن حسنة عند أحمد (4/ 196)، ومسند أبي يعلى (931)، وابن أبي شيبة (8/ 266). قال ابن حزم في المحلى (7/ 431)، حديث صحيح إلَّا أنه منسوخ بلا شك. اهـ. وأيضًا ابن حجر في الفتح (9/ 665)، وذلك عند تجويز أن يكون مما مسخ وحينئذٍ أمر بإكفاء القدور. ويؤيد ذلك حديث ابن مسعود عند مسلم (2663) قال: سئل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير، أهي من مسخ الله؟ فقال: "إن الله عزَّ وجلَّ يهلك قومًا، أو يعذب قومًا، فيجعل لهم نسلًا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك". تنبيه: جاء في الفتح (9/ 665) اسم الراوي عبد الرحمن بن حسنة وعزوه لأبي داود وهو خطأ، فلم يخرجه أبو داود عن عبد الرحمن في حسنة وإنما خرجه عن ثابت بن وديعة، ووهم -رحمه الله- بخطأ آخر وهو تسمية الصحابي بالضحاك فيصحح. يراجع ثم توقف فلم يأمر ولم ينه بدليل حديث ابن عمر: "لست بآكله ولا =

المسألة الثانية: الإِعلام بما شك في أمره ليتضح حاله. [المسألة] (¬1) الثالثة: أن مطلق النفرة وعدم الاستطابة ليس دليلًا على الحرمة، بل [أمر] (¬2) مخصوص بذلك إن قيل بأن ذلك من أسباب التحريم، أعني الاستحباب كما يقوله الشافعي [رحمه الله] (¬3) وأبعد بعض أصحابه فحرّم اللحم إذا أنتن. وقد علل في رواية المصنف عدم الأكل بالعيافة. وفي رواية للطبراني في "أكبر معاجمه" (¬4) "إنا أهل تهامة نعافها, وأنتم يا أهل نجد تأكلونها" (¬5). ¬

_ = محرمه" البخاري (5536)، ومسلم (1943)، وغيرهما ثم قال ابن حجر وحمل الإِذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له -كما سبق-. ثم بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه، كما في حديث الباب ومرسل سليمان بن يسار وقوله: "إني تحضرني من الله حاضرة" الموطأ (1810) ثم أكل بعد ذلك على مائدته فدل على الإِباحة -كما في حديث الباب- وتكون الكراهة للتنريه في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث الإِباحة على من لا يتقذره ولا يلزم من ذلك أنه يكره مطلقًا. اهـ. وانظر: كلام ابن حزم في المحلى (7/ 431، 432) فإنه ساق قريبًا من هذا. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) انظر: تخريج حديث الباب. (¬5) لفظ الحديث: "لا تفعلا، إنكم أهل نجدٍ تأكلونها، وإنا أهل تهامة نعافها"، وعن رواية ميمونة، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 268)، وأبو يعلى (7084) , والطبراني في الكبير (23/ 436) (24/ 21)، وذكره =

وفي أفراد "مسلم" (¬1) من حديث جابر بن عبد الله [يقول] (¬2) أُتي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بضب، فأبى أن يأكل منه. وقال: "لا أدري لعله من القرون التي مسخت". وفي "المعجم الصغير" (¬3) للطبراني من حديث جابر بن سمرة سئل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن الضب فقال: أمة مسخت [والله أعلم] (¬4)، ثم قال لم يروه عن روح بن القاسم إلَّا محمَّد بن سواء. وورد في بعض الروايات: " [إني] (¬5) تحضرني من الله حاضرة" يريد الملائكة عليهم الصلاة والسلام فأحترمهم لأجل رائحته ¬

_ = الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 41)، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ممن يكتب حديثه مع ضعفه". اهـ. (¬1) مسلم (1949). (¬2) زيادة من المرجع السابق. (¬3) (1/ 53)، المعجم الكبير (2/ 80) من رواية ثابت بن وديعة. وقد جاءت رواية المسخ عن عدة من الصحابة: عن عبد الرحمن بن حسنة عند أحمد، والطبراني في الكبير، وأبي يعلى والبزار. وسمرة بن جندب، عند أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير. وعبد الرحمن بن تميم عند أحمد، وحذيفة بن اليمان أخرجه أحمد، والبزار. تنبيه: سقط في المطبوع من "مجمع الزوائد" اسم "جابر" (4/ 40)، واقتصر على "سمرة" وحسب الاطلاع على المصادر، فإن الحديث من رواية "جابر بن سمرة". (¬4) في المخطوط ساقطة: وما أضيف من المعجم الصغير ومجمع الزوائد. (¬5) في المخطوط (إنه)، وما أثبت من الموطأ (1810) مرسل سليمان بن يسار.

كما أتقي أكل الثوم إكرامًا لهم وقيل: إنما تركه، لأن الله تعالى [أعلمه] (¬1) أنه غضب على سبط من بني إسرإئيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض كما ثبت في "صحيح مسلم" (¬2) من حديث أبي سعيد الخدري وقيل: إن الشيوخ صاروا خنازير، والصغار قردة، قال: "فلا أدري لعل هذا منها فلست آكلها ولا أنهى عنها". وكان ذلك قبل أن يعلم أن الممسوخ لا يعقب، إذ في الصحيح "أن الله عزَّ وجلّ لم يهلك قومًا، أو يعذب قومًا، فيجعل لهم نسلًا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" (¬3) ونظير هذا ما ذكره في الفأرة لما قال: "فقدت أمة من بني إسرائيل [لا يدري] (¬4) ما فعلت ولا أراها إلا الفأر" (¬5)، قاله ظنًا قبل أن يوحي إليه ما ذكرناه، وعن ابن عباس "أن الممسوخ من بني إسرائيل عاشوا ثلاثة أيام وماتوا". المسألة الرابعة: جواز دخول أقارب الزوجة بيتها وتبسطهم ¬

_ (¬1) في ن هـ (أعلم). (¬2) (1951). نظر: ما قبل المسألة الثالثة من الجمع بين الأحاديث. (¬3) في المخطوط: (إن الله لم يجعل [بمسخ] نسلًا)، وفي ن هـ المسخ وما أثبت من صحيح مسلم (2663)، ومسند أحمد (1/ 390، 413، 433). (¬4) في المخطوط (لا أدري)، وما أثبت من صحيح البخاري ومسلم. (¬5) البخاري (3305) , ومسلم (2997)، وأحمد (2/ 234، 497). وجاء بلفظ: "الفأرة يهودية، وإنها لا تشرب ألبان الإِبل". وبلفظ: "الفأرة مسخ وعلامة ذلك أنها شرب من ألبان الشاة، ولا تشرب ألبان الإِبل".

[فيه] (¬1) إذا علموا أن الزوج لا يكره ذلك. الخامسة: الأكل من بيت الصديق والقريب الذي لا يكره ذلك، فإن خالدًا أكل منه في بيت خالته [وبيت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وصديقه لا سيما والمهدية] (¬2) خالته أم حفيد، ولعله أراد بالأكل جبر قلبها فإنه عليه الصلاة والسلام عافه ولم يأكله. السادسة: من تراجم البخاري على هذا الحديث بنحو من سياق المصنف له الأحكام التي تعرف باالدلائل, وكيف معنى الدلالة وتفسيرها. من كتاب الاعتصام (¬3). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) الفتح (13/ 329).

الحديث [الثامن]

الحديث [الثامن] (¬1) 399/ 8/ 75 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سبع غزوات، نأكل الجراد" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها. في التعريف براويه، وقد سلف في الباب. ثانيها: "الجراد" بفتح الجيم اسم جنس، واحدته جرادة، يطلق على الذكر والأنثى قاله الجوهري (¬3)، قال ابن دريد في "الجمهرة" سمي جرادًا, لأنه يجرد الأرض، فيأكل ما عليها. ¬

_ (¬1) في الأصل: (الخامس)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) البخاري (5495)، ومسلم (1952)، وأبو داود (3852)، النسائي (7/ 210)، والترمذي (1182، 1822)، والبغوي (2802)، والبيهقي (9/ 256، 257)، وابن الجارود (880)، والطيالسي (818)، والحميدي (713)، والدارمي (2/ 91)، وأحمد (4/ 353، 357، 380). (¬3) مختار الصحاح (49).

ثالثها: هذا اللفظ الذي أورده المصنف هو لمسلم. وفي لفظ له "ستًّا"، وفي آخر "ستًا أو سبعًا" على الشك، ولفظ البخاري: " [غزونا مع النبي - صلي الله عليه وسلم -] (¬1) سبع غزوات -أو ستًّا- نأكل [معه الجراد] (¬2) ". ثم قال: قال سفيان وأبو عوانة وإسرائيل عن أبي يعقوب عن ابن أبي أوفى "سبع غزوات". رابعها: في فقهه، والإِجماع قائم على حل أكل الجراد. ثم قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والجمهور: يحل سواءًا مات بذكاة أم باصطياد مسلم أو مجوسي أم مات حتف أنفه، سواء قطع بعضه أم أحدث فيه سبب. وقال مالك: في المشهور عنه وجمهور أصحابه وأحمد في رواية: لا يحل إلَّا إذا مات بسبب بأن يقطع بعضه أو يسلق أو يلقى في النار حيًّا أو يشوى، وذلك ذكاته، فإن مات حتف أنفه أو في وعاء لم يحل. وخالف ابن وهب في الوعاء. وقال سحنون: لا يطرح في الماء البارد. وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها، وعلى هذا فلا يعرف الحي منه مع الميت، فقال أشهب: يطرح الجميع. وقال سحنون: يؤكل الأحياء، وتكون ¬

_ (¬1) زيادة من البخاري (5495) الفتح. (¬2) في المخطوط (الجراد معه)، وما أثبت من البخاري.

الموتى بمنزلة خشاش الأرض يموت في القدر. وليس في هذا الحديث ما يدل على اشتراط من ذلك ولا عدمه؛ فإنه لا صيغة للعموم ولا بيان كيفية أكلهم، وقال الليث: يكره أكل ميتة الجراد إلَّا ما أُخذ حيًّا ثم مات فإنّ أخذه ذكاته. وإليه ذهب سعيد بن المسيب. والجمهور: تمسكوا بظاهر هذا الحديث وبحديث ابن عمر المرفوع "أُحلت لنا ميتتان: الحوت، والجراد" (¬1)، وقال البيهقي (¬2): [وقفه] (¬3) أصح وهي في معنى [المرفوع] (¬4). ¬

_ (¬1) ابن ماجه (3218، 3314)، والسنن الكبرى (9/ 257)، معرفة السنن (13/ 466). (¬2) معرفة السنن (13/ 466). (¬3) غير موجودة في المرجع السابق. (¬4) في الأصل المسند ون هـ (الميتتة)، وما أثبت من المرجع السابق.

الحديث التاسع

الحديث التاسع 400/ 9/ 75 - عن زهدم بن مُضَرِّبٍ الجَرْمِي قال: عند أبي موسى [الأشعري] (¬1)، فدعا بمائدة وعليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله، أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم، فتلكأ، فقال له: هلم، فإني رأيت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يأكل منه" (¬2). الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه سلف في باب السواك: أحدها: هذا الحديث بقي منه قطعة، وهي أن الرجل قال: عقب ذلك: "إني رأيته يأكل شيئًا فقذرته، فحلفت ألا أطعمه، فقال: هلم أُحدثك عن ذلك أني أتيت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في رهط من الأشعريين [يستحملونه] (¬3) فذكر الحديث كما سقناه في الحديث الثاني من باب الأيمان الذي هو طرف من هذا الحديث. ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) البخاري (3133)، ومسلم (1649)، والنسائي (7/ 206)، والترمذي (1826، 1827)، والبغوي (2807)، والبيهقي (5/ 333، 334)، والدارمي (2/ 103)، وأحمد (4/ 394، 397، 398). (¬3) في ن هـ ساقطة الحديث برقم (5518) الفتح.

ثانيها: "زَهْدَم" بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة ثم ميم. "مُضَرِّبِ" بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة ثم ياء موحدة وكنية زهدم أبو مسلم وهو بصري تابعي ثقة. ثالثها: الجرمي بفتح الجيم [وهو بصري] (¬1) نسبةً إلى جرم كما تقدم من الحديث العاشر من باب صفة صلاة النبي - صلي الله عليه وسلم -. رابعها: هذا الرجل المبهم لا يحضرني [اسمه] (¬2) بعد البحث الشديد عنه. خامسها: في ألفاظه وفيه مواضع: [الأول] (¬3) "المائدة": ممدودة وفيها لغة أخرى: ميدة كحقنة، وقيل: سميت بذلك لأنها تميد بما عليها، أي تتحرك وتميل، وإنما تسمى مائدة إذا وضع عليها الطعام وإلَّا فهي خوان، قال الحليمي: والأكل عليها من عادة الحواريين، ولذلك سألوها عيسى عليه الصلاة والسلام. قال: ثم لم يزل ذلك عادة جارية، لا نعلم أحدًا أنكرها، وروي عن الصحابة الأكل عليها، فدل على إباحتها. قال القرطبي (¬4): وقد كان له عليه الصلاة والسلام خِوَانٌ، وأُكِل بحضرته ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ (تسميته)، يرى ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 646، 647) أن المبهم هو زهدم الراوي، وساق لذلك شواهد مع احتمال التعدد. (¬3) في الأصل (ساقطة)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) المفهم (5/ 233)، وما بين القوسين غير موجود في المفهم.

عليه، على ما اقتضاه ظاهر إيراد الحديث [السالف في الضب في الصحيح]، قال: وأما ما روي أنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم تكن لهم موائد، إنما كانوا يأكلون على السُّفَر، فذلك كان غالب أحوالهم. وقال النووي في "شرحه" (¬1) ليس المراد بهذا الخوان يعني في حديث الضب ما نفاه في الحديث المشهور في قوله: "ما أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خوان قط بل شيء [من] (¬2) نحو السفرة" (¬3). سادسها: "الدجاج" مثلث الدال حكاها ابن طلحة (¬4) في "شرح ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 102). (¬2) زيادة من المرجع السابق. (¬3) لفظ الحديث عن أنس بن مالك قال: "ما علمت النبي - صلي الله عليه وسلم - أكل على سُكُرجة قط، ولا خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوان قط. قيل لقتادة: فعلام كانوا يأكلون، قال: على السفر". البخاري (5386)، والترمذي (1788، 2363)، وأحمد (3/ 130). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه - في الفتح (9/ 533): قوله "على مائدته، أي: الشيء الذي يوضع على الأرض صيانة للطعام كالمنديل والطبق وغير ذلك، ولا يعارض هذا حديث أنس "أن النبي - صلي الله عليه وسلم - ما أكل على الخوان", لأن الخوان أخص من المائدة، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وهذا أولى من جواب بعض الشراح بأن أنسًا إنما نفى علمه قال: ولا يعارضه قول من علم. اهـ. (¬4) هو أبو سالم محمَّد بن طلحة بن محمَّد القرشي، ولد سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، وتوفي في رجب سنة اثنتين وخمسين وستمائة. ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي (8/ 63)، وسير أعلام النبلاء (23/ 293).

الفصيح" كما عزاها إليه اللبلي (¬1)، وحكاها أيضًا لمنذري (¬2) في "حواشيه" وغيرهما, ولم يحك النووي في كتبه (¬3) الضم وإنما قال اسم الدجاج يقع على الذكور والإِناث وهو بكسر الدال وفتحها، والفتح أفصح باتفاقهم الواحدة [دجاجة] (¬4) للذكر والأنثى. قال الجوهري (¬5): لأن الهاء إنما دخلته على أنه واحد من جنس مثل حمامة وبطة، قال: والدجاجة أيضًا كبة من الغزل. الثالث: "هلم" معناه تعال وهو استدعاء وأصله لمّ، أي: بنا "والهاء" في أوله للتنبيه، ويستعمل للواحد والجماعة والمذكر والمؤنث بلفظ واحد على لغة أهل الحجاز، خلافًا لأهل نجد، وتستعمل قاصرة إذا كانت بمعنى "أقبل" ومتعدية إذا كانت بمعنى "هات"، ونحو ذلك. وقوله: "فتلكأ"، أي: تردد وتوقف. الوجه السادس: في فقهه. ومهمة حل أكل الدجاج، وهو إجماع, لأنه من الطيبات، ولا ¬

_ (¬1) هو أبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي الفهري اللبلي المتوفى سنة 691، صاحب "تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح"، وقد سبق التعريف به. (¬2) هو أبو الفضل محمَّد بن أبي جعفر المنذري الهروي، المتوفى سنة (329) أكبر شيوخ الأزهري، ترجمته حجم الأدباء (18/ 99). (¬3) المجموع (9/ 20)، وشرح مسلم (11/ 111). (¬4) في ن هـ (الدجاجة). (¬5) مختار الصحاح (89)، وتهذيب اللغة (10/ 467).

عبرة بمن كرهه إن صح عنه، وسواء الوحشي والإِنسي منه، كما نبه عليه ابن الصباغ في "شامله" في الحج في كفارات الإِحرام. وفيه أيضًا: أن المرجع في الأحكام كلها إلى الشارع. وفيه أيضًا: البناء على الأصل، فإنه قد بين فيما أسلفناه أثر الحديث أن هذا الرجل علل تأخره بأنه رآه يأكل شيئًا فقذره، فإذن يكون أكل الدجاج الذي يأكل القذر مكروهًا، أو يكون ذلك دليلًا على أنه لا اعتبار بأكل النجاسة، وقد جاء النهي عن أكل الجلالة من طرق. وإذا تغير لحمها بأكل النجاسة، فاختلف فيه العلماء أعني في حله، والمرجح عند جمهور الشافعية أنه مكروه كراهة تنزيه، ورجح بعضهم التحريم، وبه جزم الشيخ تقي الدين في "شرحه" (¬1) ناقلًا له عن الفقهاء، واقتصر على أنه جاء النهي عن لبن الجلالة، وكلامه إنما هو في لحمها، وإن كان الحكم واحد. وفيه أيضًا: جواز أكل الطيبات على الموائد، وأنه لا يناقض الزهد، ولا ينقصه خلافًا لمن تقشف. وفيه أيضًا: جواز الدعاء بالمائدة للضيفان والأضحاب. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 465).

الحديث العاشر

الحديث العاشر 401/ 10/ 75 - عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (¬1) أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: "إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يلعقها، أو يُلعقها" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "يلعقها" الأولى بفتح أوله والثاني بضمه، يقال: لعِقت الشيء بالكسر ألعَقُه بالفتح لعقًا أي لحسته، وألعقت غيري يدي رباعي، فالأول متعدٍّ إلى مفعول واحد، والثاني إلى مفعولين، والثاني محذوف في هذه الرواية -أي أخاه- واللعقة بالفتح المرة الواحدة، [والملعوق] (¬3) اسم ما يلعق. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري (5456)، ومسلم (2031)، وابن ماجه (3269)، وأبو داود (3847)، وأحمد (1/ 291، 293، 346، 370،، والدارمي (2/ 95)، والنسائي في الكبرى (6775)، والبغوي (2870)، والطبراني في الكبير (11/ 166، 167)، وابى أبي شيبة (5/ 557). (¬3) في ن هـ (واللعوق)

ثانيها: علل هذا في الحديث الصحيح، أنه عليه الصلاة والسلام قال: "فإنه لا يدري في أي طعامه البركة". رواه مسلم (¬1) من حديث جابر وأبي هريرة وليس إعطاؤه يده غيره ليلعقها تركًا للبركة، بل هو من باب تحصيل البركة لغيره، لا من باب الإِيثار بالقرب، قال الشيخ تقي الدين (¬2): وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما مسح به، مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صحَّ الحديث بالتعليل لم يعدل عنه. قلت: التنصيص على علة لا يلزم منه أنه ليس ثم علة أخرى، وقد يعلل بأمر آخر وهو احترام الطعام عن إهانته، وقد قال القاضي عياض (¬3): إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام. ثالثها: في أحكامه. أولها: استحباب لعق الأصابع بعد الأكل قبل الغسل أو المسح، وقد كرهه بعض العامة واستقذره، وقوله هو المستقذر. ثانيها: استعمال التواضع. ¬

_ (¬1) رواية جابر أخرجها مسلم (2033)، والترمذي (1803)، وأحمد (3/ 301، 331، 337، 365)، والحميدي (1234). رواية أبي هريرة عند مسلم (2035)، والترمذي (1802). وأيضًا من رواية أنس بن مالك عند مسلم (2034)، والترمذي (1804). وأيضًا من رواية زيد بن ثابت المعجم الكبير (5/ 152)، برقم (4918). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 466). (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 340).

ثالثها: استعمال السنة، والأمر بها حتى فيما يعده الناس في العرف دناءة (¬1). رابعها: عدم إهمال شيء من فضل الله تعالى مأكولًا كان أو مشروبًا أو غيرهما، وإن كان تافهًا حقيرًا في العرف. خامسها: زاد أبو داود في روايته لهذا الحديث بعد قوله: "ولا يمسح يده بالمنديل"، وترجم عليه باب في المنديل. وفي أفراد البخاري (¬2) من حديث سعيد بن الحارث عن جابر ابن عبد الله أنه سأله عن الوضوء مما مست النار، فقال: " [قد] (¬3) كنا زمان [النبي - صلي الله عليه وسلم -] (¬4) لا نجد مثل ذلك من الطعام إلَّا قليلًا، ¬

_ (¬1) قال الخطابي -رحمنا الله وإياه- في معالم السنن (4/ 342): ولقد عابه -أي لعق الأصابع- قوم أفسد عقولهم الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة، وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح، أو مستقذر، كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالأصبع أو الصَّحْفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه، فإذا لم يكن سائر أجزائه الماكولة مستقذر يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصفحة واللاصق بالأصبع مستقذرًا كذلك. وإذا ثبت هذا: فليس بعده شيء أكثرُ من مَسِّه أصابعه بباطن شفتيه، وهو ما لا يعلم عاقل به بأسًا إذا كان الماس والممسوس جميعًا طاهرين نظيفين. وقد يتمضمض الإِنسان، فيُدخِل إصبعه في فيه، يدلك أسنانه وباطن فمه، فلم ير أحد ممن يعقل: أنه قذارة، أو سوء أدب، فكذلك هذا، لا فرق بينهما في نظر حسّ ولا مخبر عقل. اهـ. (¬2) البخاري (5457). (¬3) زيادة من هـ. (¬4) زيادة من هـ.

فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلَّا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا, ثم نصلي ولا نتوضأ" ولا معارضة بينهما؛ لأن عدم المناديل لم يكن لأنه السنة، بل لعدم وجدانهم إياها. سادسها: المراد بقوله "أو يلعقها" غيره ممن لا يتقذر ذلك كزوجة وجارية وولد وخادم يحبونه ويتلذذون به ولا يتقذرونه، وكذا من كان في معناه كتلميذ يعتقد وفور البركة (¬1) بلعقها، وكذا لو ألقمها شاة أو نحوها. سابعها: أطلق هنا "اليد" على الأصابع، وهو دال على جواز الأكل بجميع أصابع اليد، لكن الأكل بثلاث أصابع من السنة، قال القاضي: والأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب وتكبير اللقمة، ولأنه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها بالثلاثة إلَّا أن يضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلفيفه بالثلاثة فيدعمه بالرابعة أو الخامسة. ثامنها: جواز مسح اليد بعد الطعام. قال القاضي: وهذا والله أعلم فيما لم يحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غمر، ولزوجة ما لا يذهبه إلَّا الغسل، وإلاَّ فقد جاء في الحديث الترغيب في غسله والحذر من تركه (¬2). ¬

_ (¬1) سبق أن مرَّ مثل هذا الموضع وأن هذا من البدع، وربما يكون من الشرك، لأن البركة لا تطلب إلَّا من الله سبحانه وتعالى. (¬2) لحديث أبي هريرة ولفظه: "من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلَّا نفسه". أخرجه أبو داود (3852)، والترمذي =

تاسعها: إنما يخص اللعق بآخر الأكل [لا] (¬1) في أثنائه؛ لأنه يمس بأصابعه بزاقه في فيه، فإذا لعق أصابعه، ثم أعادها، صار كأنه بصق في الطعام، وذلك مستقذر مستقبح، نبَّه عليه القرطبي (¬2) في شرحه. ¬

_ = (1861) دون قوله "ولم يغسله". ابن ماجه (3297)، والبغوي في السنة (2878). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 579): أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة. اهـ. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) المفهم.

76 - باب الصيد

76 - باب الصيد هو [في] (¬1) الأصل مصدر صاد يصيد ويصود صيدًا فهو صائد، ثم أطلق الصيد على المصدر نفسه تسمية للمفعول بالمصدر، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2)، ثم في الباب أربعة أحاديث رابعها في الذكاة أو عليه، (¬3) ترجم في "عمدته الكبرى". ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) سورة المائدة: آية 95. (¬3) زيادة من ن هـ.

الحديث الأول

الحديث الأول 402/ 1/ 76 - عن أبي ثعلبة الخشني [رضي الله عنه] (¬1)، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيدٍ، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم [وبكلبي المعلم، في يصلح ليس؟ قال: أما ما ذكرت -يعني من آنية آهل الكتاب- فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، وكلوا فيها. وما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل"] (¬2). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ بياض. والحديث أخرجه البخاري (5478)، ومسلم (1930)، وابن ماجه (3207)، وأبو داود (2852، 2855، 2856، 2857)، والترمذي (1464، 1560)، والنسائي (7/ 181)، وابن الجارود (916)، والبغوي (2771)، والبيهقي (9/ 237، 247)، وأحمد (4/ 193، 195)، وعبد الرزاق (8503)، والطيالسي (1140، 1015).

الكلام عليه من وجوه: [أحدهما] (¬1): في التعريف براويه، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة: منها جرثوم بن [لاشر، وقيل: ناشر] (¬2)، وقيل: ناشم، وقيل: ماسح بن وبرة، وقيل: لاشر بن جرثوم بن عمرو، وقيل: جرثومة، وقيل: جرهم بن ناشم، وقيل: غير ذلك، وصحبته متفق عليها، وهو ممن غلبن عليه كنيته، شهد حنينا وغيرها. نزل داريا ونزل قرية البلاط أيضًا وبها ذريته، وكان ممن بايع تحت الشجرة، وضرب له سهمه في خيبر. وأرسله عليه الصلاة والسلام إلى قومه، فأسلموا وأخوه عمرو بن جرهم أسلم على عهد النبي - صلي الله عليه وسلم -، وهما من ولد لَبْوان بن مُرّ بن خشين بن النمر بن وبرة، قال أحمد بن محمَّد بن عيسى في "تاريخ حمص" بلغني أن أبا ثعلبة أقدم إسلامًا من أبي هريرة، واعتزل عليًّا ومعاوية. ومات في إمرة معاوية، وقيل: في ولاية عبد الملك. قال أبو الزَّاهرية: سمعته يقول: "إني لأرجو أن لا يخنقني الله كما أراكم تخنقون عند الموت. فبينما هو يصلي في جوف الليل قبض وهو ساجد، فرأت ابنته أن أباها قد مات، فاستيقظت فزعة، فنادت أمها: أين أبي؟ قالت: في مصلاه. فنادته، فلم يجبها، فأنبهته، فوجدته ساجدًا فحركته، فوقع لجنبه ميتًا. قال ابن سعد وجماعة: مات سنة سبع وخمسين. وقال ابن حبان في "ثقاته" سنة خمس وستين. ¬

_ (¬1) في الأصل (عليه)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ (ناشر)، وقيل (ناشم).

الثاني: يشترك مع أبي ثعلبة هذا في الكنية ثلاثة من الصحابة أيضًا. أولهم: أبو ثعلبة ابن عم كريم. [وثانيهم: أبو ثعلبة الأنصاري. وثالثهم: أبو ثعلبة] (¬1) الأشجعي. الثالث: هذه النسبة وهي الخشني -بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين ثم نون ثم ياء النسب- نسبة إلى خشين بطن من قضاعة. قال أبو عمر: لم يختلفوا في تسميته أبي خشين، وهو وائل بن النمر بن وبرة بن ثعلب -بالغين المعجمة- ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. ذكر نسبنه إلى خشين: البيهقي والسمعاني والحازمي وغيرهم، وقيل: أبي خشينة. حكاه أبو أحمد وابن الصلاح، والنووي في آخر "أربعينه"، وكذا ابن الأثير في "كناه" لكنه خالف في الأسماء منه. وعبارة الشيخ تقي الدين في "شرحه" إنه نسبة إلى بني "خشين" من قضاعة. قال: "وخشين" تصغير "أخشن" مرخم. الرابع: "أهل الكتاب" المراد بهم اليهود والنصارى، وإن كان كل من دان بدين الله بكتاب منزل على نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فهم أهل كتاب. الخامس: "الآنية" جمع إناء وجمع الآنية أواني. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

السادس: في أحكامه: الأول: السؤال عما يحتاج إليه من الأمور [المستقبلة] (¬1). الثاني [(¬2)]: جمع المسائل والسؤال عنها دفعة واحدة. الثالث: تفصيل الجواب "بأما" و"ما" وفي القرآن الكريم في قصة ذي القرنين في الكهف التفصيل "بإما" "أما". الرابع: أن استعمال أواني أهل الكتاب تتوقف على الغسل وقد اختلف الفقهاء في ذلك بناء على قاعدة تعارض الأصل والغالب، وذكروا الخلاف فيمن يتدين باستعمال النجاسة من المشركين وأهل الكتاب كذلك، وإن كان قد فرّق بينهم وبين أولئك، لأنهم يتدينون باستعمال الخمر أو يكثرون ملابستها. والنصارى منهم لا يجتنبون النجاسات، ومنهم من يتدين بملامستها كالرهبان، فلا وجه لإِخراجهم ممن يتدين باستعمالها. والحديث جارٍ على مقتضى ترجيح غلبة الظن، فإن الظن المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل. وقال النووي في "شرحه" (¬3) قد يقال هذا الحديث مخالف لما يقوله الفقهاء فإنهم يقولون: إنه يجوز استعمال أواني المشركين إذا غسلت، ولا كراهة فيها بعد الغسل، سواء وجد غيرها أم لا. وهذا الحديث يقتضي كراهة استعمالها إن وجد غيرها, ولا ¬

_ (¬1) في الأصل (المستعجلة) وما أثبت من هـ. (¬2) في الأصل مكرر الثاني. (¬3) شرح مسلم (13/ 80).

يكفي غلها في نفي الكراهة، وإنما يغسلها ويستعملها إذا لم يجد غيرها. والجواب: إن المراد بالنهي عن الأكل في آنيتهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون الخمر، كما صرح به في رواية أبي داود "إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخود في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر. فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء، وكلوا واشربوا"، وإنما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار، وكونها معتادة للنجاسة، كما يكره الأكل في المحجمة المغسولة. فأما الفقهاء: فمرادهم مطلق آنية الكفار التي ليست مستعملة في النجاسات، فهذه يكره استعمالها قبل غسلها، فإذا غسلت فلا كراهة فيها, لأنها طاهرة، وليس فيها استقذار ولم يريدوا نفي الكراهة عن آنيتهم المستعملة في الخنزير وغيره من النجاسات. تنبيهان: [أحدهما] (¬1): ظاهر الحديث أن استعمالها مع الغسل رخصة لا تجوز إلَّا عند الحاجة إليها، فإن ظاهر قوله: "ولا تأكلوا فيها"، وإن غسلت، فلو كان الغسل مطهرًا لها لما كان للتفصيل بين وجدان غيرما وعدمه معنى. الثاني: قد يستفاد منه أن أوعية الخمر ونحوها لا تطهير بالغسل [ولمالك] (¬2) في أوعية الخمر ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) في ن هـ (الأول). (¬2) في ن هـ (لكن).

أحدها: كسرها على كل حال. وثانيها: إن طبخت في الماء أو طبخ فيها الماء جاز استعمالها. وثالثها: التخفيف في الرقاق، والتشديد في غيرها. الخامس: إباحة الاصطياد بالقوس والكلب المعلم وهو إجماع، ولم يتعرض في الحديث للتعليم المشترط، والفقهاء تكلموا فيه، وجعلوا المعلم ما ينزجر بالانزجار، وتنبعث بالأشلاء، وإذا أخذه أمسكه على صاحبه، وخلى بينه وبينه، ولهم نظر في غير ذلك من الصفات محل الخوص فيها كتب الفروع. والقاعدة أن ما رتب عليه الشرع حكمًا ولم يجد فيه حدًا يرجع فيه إلى العرف، ولا شك في اشتراط إرساله، فلو استرسل بنفسه لم يحل ما قتله عند جميع العلماء، إلَّا ما حكي عن الأصم من إباحته وإلاَّ ما حكاه ابن المنذر عن عطاء والأوزاعي أنه يحل إذا كان صاحبه أخرجه للاصطياد، وهذا كله في الكلب المعلم، أما غيره فلا يحل ما قتل ولو بإرسال صاحبه إجماعًا. السادس: إباحة الاصطياد للأكل وللَّهو واللَّعب وغيرهما. وقال مالك: يكره إذا اصطاد لهما (¬1) لكن بقصد تذكيته والانتفاع وخالفه الليث وابن عبد الحكم، وقال الليث: ما رأيت حقًّا أشبه بباطل منه. ¬

_ (¬1) أي: للهو واللعب.

قال القاضي عياض: فإن فعله بغير نية التذكية فهو حرام, لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس عبثًا. السابع: الأمر بالتسمية عند إرسال السهم والكلب المعلم. وفي معناه إرسال الجوارح من الطير، والإِجماع [قائم] (¬1) على مشروعية التسمية عند الإِرسال على الصيد وعند النحر والذبح لكن اختلفوا هل ذلك على وجه الوجوب أو الندب؟ وفيه ثلاثة أقوال لهم: اْحدها: أنها سنة فإن تركها سهوًا أو عمدًا حل الصيد والذبيحة، وهو مذهب الشافعي وطائفة، ورواية عن مالك وأحمد. ثانيها: أنها واجبة، فإن تركها عمدًا أو سهوًا لم يحل، وهو مذهب أهل الظاهر، والصحيح عن أحمد في صيد الجوارح خلاف الذبيحة فإن مذهبه. القول الثالث: وهو مروي عن ابن سيرين، وأبي ثور. قالوا: لأنه وقف الإِذن في الأكل على التسمية والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه [عند] (¬2) القائلين بالمفهوم. وفيه ها هنا زيادة على كونه مفهومًا مجردًا، وهو أن الأصل تحريم أكل الميتة، وما أخرج [الصيد] (¬3) منها، إلَّا ما هو موصوف بكونه سمي عليه فغير المسمى عليه يبقى على أصل التحريم داخلًا تحت النص المحرم للميتة. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ (الإِذن).

والقول الثالث: إن تركها سهوًا حلَّت الذبيحة والصيد, وإن تركها عمدًا فلا، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، والثوري وجماهير العلماء، كما نقله عنهم النووي في "شرحه" (¬1) وحكاه القرطبي (¬2) قولًا عن الشافعي. وحكى أصحابنا في العمد ثلاثة أوجه: أولها: الصحيح الكراهة. ثانيها: خلاف الأولى. ثالثها: يأثم، قاله الشيخ أبو حامد في "تعليقه". واحتج من أوجبها، بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬3) وبهذا الحديث وأمثاله. واحتج الشافعية ومن وافقهم بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬4)، إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬5) فأباح ذلك بالتذكية من غير اشتراط التسمية ولا وجوبها, ولا يقال التذكية لا تكون إلَّا بالتسمية، لأنها في اللغة الشق والفتح. وبقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وهم لا يسمون غالبًا وفي "صحيح البخاري" (¬6) من حديث عائشة رضي الله عنها أن ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 73). (¬2) المفهم (5/ 207). (¬3) سورة الأنعام: آية 121. (¬4) سورة المائدة: آية 3. (¬5) سورة المائدة: آية 3. (¬6) البخاري (2057)، ولفظه في: "أن قومًا قالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا =

قومًا قالوا: يا رسول الله إن قومًا حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحمان، لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا، أنأكل منها أم لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "اذكروا اسم الله وكلوا"، وهذا ظاهر في عدم الوجوب، فان هذه التسمية هي المأمور بها عند الأكل والشرب لا التسمية عند التذكية والإِرسال. وأجابوا: عن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬1) بأن المراد به ما ذبح للأصنام، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ... وآية {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬2). قال القرطبي (¬3): وهو أشهر أقوال المفسرين في الآية وأحسنها. ولأن الله تعالى قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬4) وقد قام الإِجماع على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق فوجب حملها على ما ¬

_ = باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سموا الله عليه وكلوه". وساقه بلفظ آخر (5507)، أن قومًا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. وبلفظ (7398)، قالت: قالوا يا رسول الله إن أقوامًا حديثًا عهدهم بشرك يأتونا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: اذكروا أنتم اسم الله وكلوا". (¬1) سورة الأنعام: آية 121. (¬2) والآيتان هما من سورة المائدة: آية 3؛ وسورة البقرة: آية 173. (¬3) المفهم (5/ 207). (¬4) سورة الأنعام: آية 121.

ذكرناه، ليجمع بينها وبين الآيات السابقات، وحديث عائشة وحملها بعض الشافعية على كراهة التنزيه، وأجابوا عن أحاديث التسمية بأنها للاستحباب. الثامن: إباحة الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيره، وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والجمهور. وقال الحسن البصري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق: لا يحل صيد الكلب الأسود, لأنه شيطان. التاسع: حل ما اصطاده بالكلب المعلم من غير ذكاة، فإنه عليه الصلاة والسلام فرق في إدراك الذكاة بينه وبين غير المعلم. وقد جاء في الحديث إلآتي التصريح به حيث قال: "فإن أخذ الكلب ذكاته" فإذا قتل الصيد بظفره أو نابه حل، وكذا إن قتله بثقله على أظهر قولي الشافعي لإِطلاق الحديث. العاشر: حل ما أدرك ذكاته إذا كان غير معلم وهو إجماع، وهذا الإِدراك يتعلق بأمرين: أحدهما: الزمن الذي يمكنه فيه الذبح، فإن أدركه ولم يذبحه فهو ميتة، ولو كان ذلك لأجل العجز عما يذبح به لم يعذر في ذلك. الثاني: الحياة المستقرة كما ذكرها الفقهاء، فإن أدركه وقد أخرج حشوته أو أصاب بنابه مقتلا، فلا اعتبار بالذكاة حينئذٍ.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 403/ 2/76 - عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله، إنى أُرسل الكلاب المعلمة، فيمسكن عليَّ، وأذكر اسم الله، فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك"، قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها"، قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد، فأصيب، فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق، فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكلها". وحديث الشعبي عن عدي نحوه، وفيه: "إلَّا أن يأكل [الكلب] (¬1) فإن أكل [(¬2)] فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسمِ على غيره". وفيه: "إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته". ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ ومتن عمدة الأحكام. (¬2) في الأصل زيادة (الكلب).

وفيه أيضًا: "إذا رميت بسهمك فاذكروا اسم الله [عليه] (¬1). وفيه: "وإن غاب عنك يومًا أو يومين". وفي رواية: اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلَّا أثر سهمك فكل إن شئت، فإن وجدته فريقًا في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري: الماء قتله أو سهمك" (¬2)؟ الكلام عليه من وجوه: أحدها: قوله: "فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره"، هذه الزيادة ليست في هذه الرواية, وإنما ذكرها مسلم في رواية أخرى عقب هذه من هذا الوجه، وفي رواية أخرى بعد ذلك فكان ينبغى أن يقول وفيه: "فإنما سميت" إلى آخره. وقوله: "إذا أرسلت كلبك [المكلب] (¬3) " لم يذكر مسلم في روايته "المكلب" وليس في روايته هذه: "فإن أخذ المكلب ذكاته"، نعم في أخرى "فإن ذكاته أخذه". ¬

_ (¬1) زيادة من متن عمدة الأحكام. (¬2) البخاري (175)، ومسلم (1929)، والنسائي (7/ 179، 180، 181، 182، 183، 184)، وفي الكبرى له (4774، 4775، 4776، 4778، 4779، 4780، 4781، 4782، 4783، 4784، 4785، 4786)، وابن ماجه (3208)، وأبو داود (2847، 2848، 2849، 2850، 2851)، والترمذي (1465)، والدارمي (2/ 89، 90)، وابن الجارود (340، 342)، والدارقطني (4/ 294)، والسنن الكبرى (9/ 236، 238)، عبد الرزاق (4/ 470، 471)، والبغوي (2768)، وأحمد (4/ 256، 257، 258). (¬3) في ن هـ (المعلم).

وقوله: "وإن غاب" إلى آخره لفظه عند مسلم. و"إن رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يومًا فلم تجد فيه إلَّا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل". وفي رواية له: "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل فكل، إلَّا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك". ولفظ البخاري: "وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلَّا أثر سهمك فكل، وإن وقع بالماء فلا تأكل" (¬1)، وفي رواية له تعليقًا بصيغة جزم أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرمي الصيد فيفتقد أثره اليومين والثلاثة، ثم يجده ميتًا، وفيه سهمه، قال: يأكل إن شاء" (¬2)، قال عبد الحق: ولم يقل في شيء من طرقه "فأدركته حيًّا فاذبحه"، قال: ولم يذكر أيضًا قوله: "فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك". قلت: فليتأمل رواية المصنف أعني قوله: "وإن غاب عنك" إلى آخره فلم أرها كذلك بطولها في واحد من الصحيحين، والذي فيهما ما ذكرته لك: الوجه الثاني: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه. ¬

_ (¬1) البخاري (5484). (¬2) البخاري تعليقًا (5485)، وأبو داود (2853)، ووصله في تغليق التعليق (4/ 505).

أما همام: فهو ابن الحارث كوفي ثقة من فرسان الكتب الستة، عابد، تابعي، مات في أيام الحجاج. وأما عدي فهو أبو طريف، ويقال: أبو وهب عدي بن حاتم بن عبد الله [عدي] (¬1) بن حَشْرج بن امرئ القيس ابن عدي، [(¬2)] بن ربيعة بن جَرْوَل بن ثُقل بن عمرو بن الغوث بن طيّ بن أُدد بن [زيد] (¬3) (¬4) بن كهلان [(¬5)] بن يشجب بن يعرب بن قحطان الطَّائيّ، الجواد بن الجواد، وفد في شعبان سنة سبع، وقيل: سنة عشر، ونزل الكوفة وسكنها، روى عن النبي - صلي الله عليه وسلم - ستة وستين حديثًا اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد مسلم بحديثين، روى عنه الشعبي وجماعة، وكان شريفًا في قومه، خطيبًا حاضر الجواب، فاضلًا كريمًا، روي عنه أنه قال: ما دخل وقت صلاة قط إلَّا وأنا أشتاق إليها، وفي رواية: وأنا على وضوء، وقال: ما دخلت على النبي - صلي الله عليه وسلم - إلَّا وسّع لي أو تحرك، ودخلت عليه يومًا في بيته وقد امتلأ من أصحابه فوسع لي حتى جلست إلى جنبه، ومناقبه جمة، عاش مائة وعشرين سنة، وقيل: وثمانين ومات، زمن المختار سنة ثمان وستين، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع وشهد مع علي حروبه. ¬

_ (¬1) في جمهرة أنساب العرب (402)، وتهذيب الكمال (19/ 524) سعد. (¬2) في المرجعين السابقين زيادة (بن أخزم بن أبي أخزم). (¬3) في الجمهرة (398) (يشجب)، وما أثبت يوافق تهذيب الكمال (19/ 525). (¬4) وبعدها كما في المرجعين (بن عريب بن زيد). (¬5) في تهذيب الكمال (19/ 525)، والجمهرة زيادة (بن سبأ).

وأما الشعبي: فبفتح الشين المعجمة وإسكان العين المهملة وباء موحدة، ثم ياء النسب نسبةً إلى شعب بطن من همدان، واسمه عامر بن شراحيل، وقيل ابن عبد الله بن شراحيل، وقيل: ابن شراحيل ابن عبدٍ بن أخي فيس بن عبد، وكنيته [أبو عمرو] (¬1) وهو تابعي كوفي ثقة جليل فقيه علَّامة زمانه حافظ. ولد لست سنين خلت من خلافة عمر على المشهور. وأمه: من سبي جلولا، روي عن علي، وهو في صحيح (خ، م)، وعن ابن مسعود وعمر وطلحة وعبادة، ولم يسمع منهم، وروى عن جماعة من الصحابة، روي عنه أنه قال: أدركت خمسمائة منهم. وقال ابن حبان روى عنهم كلهم. وقال العجلي: سمع عن ثمانية وأربعين من الصحابة، ومرسله صحيح، لا يكاد يرسل إلَّا صحيحًا، وروى عنه خلق من التابعين وغيرهم، وولي قضاء الكوفة، ومن كلامه: إنما كان يطلب هذا العلم من جمع العقل والنسك، فإن انفرد بأحدهما قيل هذا لا يناله، واليوم يطلبه من لا عقل له ولا نسك. وقال الحسن البصري لما نعاه: كان والله كثير العلم قديم السلم من الإِسلام بمكان، مات بعد المائة ستة ثلاث أو أربع أو خمس أو ست [أو سبع] (¬2) أو تسع عن اثنتين وثمانين سنة، قال ابن طاهر: عن سبع وسبعين. الوجه الثالث: في بيان ألفاظه: ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) زيادة ن هـ.

"المِعراض": بكسر الميم وسكون العين المهملة وبالراء ثم ضاد معجمة بعد الألف: خشبة ثقيلة أو عصى محدد رأسها بحديدة. وقد يكون بدونها هذا هو الصحيح المشهور في تفسيره، كما قاله النووي في "شرحه" (¬1)، وقال الهروي: هو سهم لا ريش له ولا نصل، وقال ابن دريد هو سهم طويل له أربع قُذَذ رقاق. فإذا رمي به اعترض، وقال الخليل: كقول الهروي ونحوه عن الأصمعي، وقيل: هو عود رقيق الطرفين غليظ الوسط إذا رمى به ذهب مستويًا. وقوله: "ليس منها"، أي: ليس من الكلاب المعلمة، أن يراد ليس من كلابك بل من كلاب غيرك؛ لأنه لو أرسل رجلان كلبين على صيدين فقتلاه جميعًا أكلا، وكان الصيد بينهما، إلَّا أن ينفذ الأول مقاتله فلا شيء للثاني. وقوله: "فخزق" بالخاء المعجمة والزاي ومعناه نفذ. وعبارة القرطبي في "شرحه" (¬2) (خزق) معناه: خرق ونفذ. و (العرض): خلاف الطول. وقوله: "فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" معناه إن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، فإنما أباحه بشرط أن يعلم أنه أمسك علينا، وإذا أكل منه لم يعلم أنه أمسك لنا أم لنفسه، فلم يوجد شرط المعية والأصل تحريمه. وقوله: "فإن أخذ الكلب ذكاته"، أي: إن أخذ الكلب الصيد وقتله إياه ذكاة شرعية بمنزلة ذبح الحيوان الإِنسي، وهذا إجماع. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 75). (¬2) المفهم (5/ 209).

الوجه الرابع: في أحكامه. الأول: اشتراط التسمية، كما أسلفنا في الحديث السابق، وقد سلف الخلاف فيه، وهو أقوى في الدلالة من الأول, لأن هذا مفهوم شرط وذلك مفهوم صفة ومفهوم الشرط أقوى منه. الثاني: أكل مصيد الكلب إذا قتل وهو صريح في هذا، مفهوم من الحديث الأول. الثالث: أكل ما قتله الصيد بثقله، وهو أقوى من الأول. الرابع: أنه لا يحل أكل ما شاركه كلب آخر في اصطياده إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس هو من [أهل الذكاة، أو شككنا، فإن تحققنا أنه إنما شاركه كلب أرسله من هو من] (¬1) أهل الذكاة على ذلك الصيد [و] (¬2) حل ذلك معلل في الرواية السالفة، "فإنما سميت على كلبك ولم تسمِ على غيره"، وهو ظاهر في اشتراط التسمية ولو غلب على الظن فقولان عند المالكية، ووقع في "شرح الشيخ تقي الدين" (¬3) أن هذه الرواية وردت في حديث آخر، وهو عجيب فإنها في الكتاب، وقد ذكرها هو أولًا. الخامس: أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بعده حل، لأنه كالسهم، وإن [قتله] (¬4) بعرضه لم يحل، وقد جاء في بعض ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (4/ 472). (¬4) في الأصل (يعرضه)، وما أثبت من ن هـ.

روايات هذا الحديث في الصحيح (¬1) "فإنه وقيذ" وذلك لأنه ليس في معنى السهم، وهو في معنى الحجر وغيره من المثقلات، وهذا مذهب الأئمة الأربعة والجمهور. وقال الأوزاعي ومكحول وغيرهما من فقهاء الشام: يحل مطلقًا حتى قال: ابن أبي ليلى يحل ما قتله بالبندقية، وهو محكي عن سعيد بن المسيب وجمهور العلماء، كما نقله النووي في "شرحه لمسلم" (¬2) على أنه لا يحل صيد البندقية مطلقًا لحديث المعراض هذا, لأنه كله رض ووقذ، أي: مقتول بغير محدد والموقوذة المقتولة بالعصا ونحوها، وأصله من الكسر والرض، وأما حل الاصطياد به ففيه اضطراب عندنا أوضحته في "شرح المنهاج". السادس: تحريم أكل الصيد الذي أكل الكلب المعلم منه لتصريح المنع منه في هذا الحديث وتعليله بخوف الإِمساك على نفسه بأكله منه، وبهذا قال أكثر العلماء، كما حكاه النووي في "شرحه" (¬3) عنهم، ومنهم ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن البصري والشعبي والنخعي وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وداود، وبه قال الشافعي في أصح قوليه، محتجبين بحديث عدي هذا، وبقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهذا لم يمسك علينا، وإنما أمسك على نفسه، وقال ¬

_ (¬1) البخاري (5476)، مسلم (9129)، وأبو داود (2854)، والنسائي (4269)، وابن ماجه (3214). (¬2) (13/ 75). (¬3) شرح مسلم (13/ 75، 76).

سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وابن عمر ومالك: يحل. وهو قول ضعيف للشافعي، وفي "سنن أبي داود" (¬1) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه" لم يضعفه أبو داود، وأما ابن حزم فضعفه (¬2)، وحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وربما علل بأنه كان من المياسير فاختير له الحمل على الأولى بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان على عكس ذلك، فأخذ بالرخصة، وفيه نظر, لأنه علل عدم الأكل بخوف الإِمساك على نفسه، اللَّهم إلَّا أن يقال إنه علل بخوف الإِمساك لا بحقيقة الإِمساك. فيجاب عن هذا: بأن الأصل التحريم في الميتة، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الأصل وتأولت حديث ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه ونارقه، ثم عاد فأكل منه، فهذا لا يضر، كما صرح به صاحب "البيان" (¬3) و"الشامل" (¬4) ¬

_ (¬1) أبو داود (2852). (¬2) المحلى (7/ 475)، وقال ابن حجر في الفتح (2/ 609): أخرجه أبو داود ولا بأس بسنده. اهـ. (¬3) صاحب البيان هو يحيى بن أبي الخير بن سالم بن أسعد بن يحيى أبو الخير العمراني اليمانى، ولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة وتوفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. ترجمته طبقات الشافعية لابن هداية (79)، وطبقات السبكي (4/ 324)، وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 327). (¬4) صاحب الشامل: هو أبو نصر بن الصباغ فقيه العراق مولده سنة أربعمائة =

و"التحرير" (¬1) والدارمي (¬2) من أصحابنا فقالوا: إن أكل عقب القتل ففيه القولان، وإلَّا فيحل قطعًا، وتمناه إمام الحرمين، فقال: وددت لو فصّل فاصل بين أن يكف زمانًا ثم يأكل، وبين أن يأكل بنفس الأخذ، لكن لم يتعرضوا له. قلت: قد تعرض له الأئمة كما نقلناه عنهم، وجزم به النووي في "شرحه" (¬3). وأما جوارح الطير: إذا أكلت مما صادته فالأصح عند أصحابنا ¬

_ = وتوفي في جمادى الأولى وقيل: في شعبان سنة سبع وسبعين وأربعمائة، من مؤلفاته: "الشامل" و"الكامل" و"كتاب الطريق السالم" و"العمدة في أصول الفقه" ترجمه في طقات السبكي (3/ 230)، والبداية والنهاية (12/ 226). (¬1) صاحب التحرير هو أحمد بن حمد بن أحمد أبو العباس الجرجاني قاضي البصرة شيخ الشافعية، مات راجعًا من أصبهان إلى البصرة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة. ترجمة طبقات السبكي (3/ 31)، وطبقات ابن هداية (63)، وطبقات ابن شهبة (1/ 260). (¬2) الدارمي محمد بن عبد الواحد بن محمد بن عمر بن ميمون الإِمام أبو الفرج الدارمي، مولده سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وتوفي بدمشق في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، من مصنفاته "الاستذكار" و "جامع الجوامع ومودع البدائع"، وله كتاب "في الدرر الحكمي" و "مصنف في المتحيرة"، ترجمته في الأنساب للسمعاني (5/ 279)، طبقات السبكي (3/ 77). (¬3) شرح مسلم (13/ 77).

طرد القولين فيه كالكلب، ومنهم من قطع فيه بالحل دون الكلب، لإِمكان ضربه ليمتنع، ولما نقل النووي في "شرح مسلم" (¬1) عن الشافعي أن أرجح قوليه تحريمه، أعني في الجوارح. قال: وقال سائر العلماء بإباحته, لأنه لا يمكن تعليمها وذلك بخلاف السباع، وأصحابنا يمنعون هذا التأويل. تنبيه: قوله تعالى: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، قد أسلفنا أنه يحتج من منع من أكل ما أكل منه الصيد؛ لأنه لو أراد كل إمساك لقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بدون زيادة {عَلَيْكُمْ}، والقائل الآخر يجيب بأن فائدة {عَلَيْكُمْ} الإِشعار بأن ما أمسكه من غير إرسال لا يأكله. السابع: أن أخذ الكلب الصيد وقتله إياه ذكاة شرعية بمنزلة ذبح الحيوان الإِنسي، وهذا إجماع ولو لم يقتله الكلب، ولكن تركه، ولم يبقَ فيه حياة مستقرة أو بقيت ولم يبقَ زمن يمكن صاحبه لحاقه وذبحه فمات حل لقوله: "فإن أخذ الكلب ذكاته"، قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب إمرار السكين على حلقه ليريحه. الثامن: الحل فيما إذا جرحه بسهم وغاب عنه، ثم وجده ميتًا وليس فيه أثر غير سهمه لقوله: "وإن غاب عنك"، إلى قوله: "فكل إن شئت"، وهو أحد أقوال الشافعي ومالك في الصيد والسهم، والأصح عند أصحابنا تحريمه. والثالث: يحرم في الكلب دون السهم. قال النووي (¬2): ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 77). (¬2) شرح مسلم (13/ 79).

والأول أقوى [وأقرب] (¬1) إلى الأحاديث الصحيحة. وأما الأحاديث المخالفة له فضعيفة ومحمولة على كراهة التنزيه، وكذا الأثر عن ابن عباس "كل ما أصميت ودع ما أنميت" (¬2)، أي: كل ما لم يغب عنك دون ما غاب. التاسع: التنبيه على قاعدة عظيمة وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها" يدل على ذلك، وفي الصحيح زيادة أخرى على ذلك "وهي فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله", وفي ذلك تنبيه أيضًا على أنه لو وجده حيّا ومه حياة مستقرة فذكاه حل، ولا يضر في كونه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره, لأن الاعتماد حينئذٍ في الإِباحة على ما يذكيه الآدمي لا على إمساك الكلب، وإنما تقع الإِباحة وإمساك الكلب إذا قتله. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ والمرجع السابق. (¬2) السنن الكبرى (9/ 241)، والمعرفة (13/ 449) قال الشافعي -رحمنا الله وإياه-: ما أصميت ما قتلته الكلاب وأنت تراه، وما أنميت: ما غاب عنك مقتله .. ثم ساق الكلام إلى أن قال: ولا يجوز عندي فيه إلَّا هذا إلَّا أن يكون جاء عن النبي - صلي الله عليه وسلم - شيء فإني أتوهمه سقط كل شيء خالف أمر النبي - صلي الله عليه وسلم - ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع القدر بقوله - صلى الله عليه وسلم -. اهـ من معرفة السنن، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (9/ 611)، قال البيهقي: وقد ثبت الخبر بعني حديث الباب فينبغي أن يكون هو قول الشافعي. اهـ.

العاشر: حل لحوم الصيد وغيرها من اللحوم والأطعمة إذا بقيت يومًا أو يومين أو ثلاثة، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي ثعلبة الخشني "فغاب عنك فأدركته فكله ما لم ينتن"، وفي روية له في الذي يدرك صيده بعد ثلاث "فكله ما لم ينتن"، فهذا النهي عن أكله للمنتن للتنزيه لا للتحريم، وكذا الأطعمة المنتنة يكره أكلها ولا يحرم، إلَّا أن يخاف منها الضرر خوفًا معتمدًا، وقد أسلفنا في الحديث السابع من الباب الماضي وفيها تحريم اللحم المنتن، وهو بعيد ضعيف. الحادي عشر: إذا وجد الصيد غريقًا لا يحل، وهو إجماع، لأنه سبب للهلاك، ولا يعلم أنه مات بسب الصيد، وكذلك إذا تردى من جبل لهذه العلة، نعم يسامح في محيط الأرض إذا كان طائرًا, لأنه أمرٌ لا بدَّ منه. وقال مالك: إن مات بعدما وقع على الأرض لم يحل. الثاني عشر: أنه إذا أدرك ذكاته وجب ذبحه ولم يحل إلَّا بذكاة عملًا بقوله "فأدركته حيًّا فاذبحه" وهذا إجماع، وما نقل عن الحسن البصري والنخعي خلافه فباطل لا يصح عنهما.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 404/ 3/ 76 - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنهم، قال: سمعت رسول الله يقول: "من اقتنى كلبًا -إلَّا كلب صيد أو ماشية- فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان، قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرثٍ، وكان صاحب حرث" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها. هذا الحديث رواه مسلم باللفظ المذكور، بدون زيادة سالم، ثم رواه [بلفظ] (¬2): "من اقتنى كلبًا إلَّا كلب ماشية أو كلب صيد ينقص من عمله كل يوم قيراط. قال عبد الله: وقال أبو هريرة: أو كلب حرث". ¬

_ (¬1) البخاري (5481)، ومسلم (1570)، والنسائي في الكبرى (4791، 4802)، وابن ماجه (3203)، والحميدي (632، 633)، والبغوي (2775)، ومعاني الآثار (4/ 55)، وابن أبي شيبة (4/ 641)، وأحمد (2/ 4، 8، 37، 47، 60، 113، 156)، ومالك (2/ 738). عند أبي داود (2844) من رواية أبي هريرة. عند ابن ماجه (3205)، من رواية عبد الله بن مغفل. (¬2) زيادة من هـ.

ثم رواه بلفظ: "من اقتني كلبًا إلَّا كلب ضارٍ أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان. قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرث وكان صاحب حرث". ولفظ البخاري في هذا الباب: "من اقتني كلبًا إلَّا كلبًا ضاريًا لصيد أو كلب ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان". الوجه [الثاني] (¬1): في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة. وأما ابنه سالم: فكنيته أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو المنذر حكاه ابن طاهر. مدني تابعي جليل أحد الأئمة الفقهاء بالمدينة، واتفقوا على ثقته وعلمه وصلاحه، وزهده وفضله وورعه، روى عن أبيه وأبي هريرة وغيرهما، وعنه مولى أبيه نافع وابنه أبو بكر بن سالم وغيرهما، وكان أشبه ولد عبد الله به، وكان يخضب بالحناء، ويلبس الصوف تواضعًا، وكان شديد الأدمة, لأن أمه أم [ولد] (¬2) ولأبيه فيه [يقول] (¬3): يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم قال مالك: لم يكن أحدٌ في زمانه أشبه منه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش، كان يلبس الثوب بدرهمين. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث عاليًا من الرجال ورع. وقال ¬

_ (¬1) في ن هـ (الأصل) ثانيها، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ زيد. (¬3) زيادة من ن هـ.

إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أصح الأسانيد كلها [] (¬1) الزهري. عن سالم عن أبيه. مات سنة ست ومائة في عقب ذي الحجة، وقيل: سنة خمس, وقيل: ثمان وقد شاخ وصلَّى عليه [(¬2)] هشام [بن] (¬3) عبد الملك في حجته التي حج، ولم يحج في ولايته غيرها. فائدة: سالم بن عبد الله في الرواة ثمانية، كما أوضحتهم في رجال هذا الكتاب، فسارع إليه. الوجه الثالث: في ألفاظه: قوله: "قال سالم وكان أبو هريرة [يقول] (¬4): أو كلب حرث: وكان صاحب حرث. قال: العلماء ليس هذا توهينًا لرواية أبي هريرة ولا شكًّا فيها، [بل] (¬5) معناه. أنه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقته. والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه ما لا يتقنه غيره، ويعرف من أحكامه ما لا يعرفه غيره. وقد ذكر مسلم هذه الزيادة وهي اتخاذه للزرع من رواية جماعة، من الصحابة ابن المغفل وسفيان بن أبي زهير وأبي الحكم واسمه عبد الرحمن بن أبي أنعم البجلي عن ابن عمر فلم يتفرد بها أبو هريرة إذن، ولو انفرد بها لكانت مقبرلة مرضية مكرمة. ¬

_ (¬1) في هـ زيادة (عن). (¬2) في الأصل زيادة بن. (¬3) ساقطة من الأصل. (¬4) زيادة ن هـ. (¬5) زيادة من ن هـ.

"والاقتناء" الاتخاذ. "والقيراط" عبارة عن جزء معلوم عند الرب تعالى. فقيل: ينقص من ماضي عمله وقيل: من مستقبله. حكاه الروياني من الشافعية في "بحره". قال: واختلفوا في محل نقصان القيراطين، فقيل: قيراط من عمل النهار وآخر من الليل. وقيل: قيراط من عمل الفرض والآخر من النفل. وقوله: "نقص من أجره كل يوم قيراطان"، كذا جاء في روايات، وجاء في آخر "قيراط"، وفي الجمع بينهما أوجه. أحدهما: أن ذلك النوعين من الكلاب أحدها أشد ضررًا. ثانيها: في زمنين فذكر القيراط، ثم زاد التغليظ، فذكر قيراطين. ثالثها: أن ذلك يختلف باختلاف المواضع، فالقيراطان في المدينة خاصة لزيادة فضلها، والقيراط في غيرها. أو الأول في القرى والثاني في البراري. وظاهر الحديث بل صريحه أن النقصان في الآخرة خاصة، فلا ينبغي [إذن أن يستدل به على أن السيئات تحبط الحسنات، وهو قول خلاف أهل السنة، لا في] (¬1) نفس العمل، فإنه قد وجد واستقر، ويحتمل أن تكون العقوبة بعدم التوفيق للعمل، بمقدار قيراط ما كان ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

يعمل من الخير، فيكون النقص من الحمل على حقيقتة، ويلزم من تركه ترك الأجر المرتب عليه. وسبب النقص عقوبة مقتنيها: إما لارتكابه النهي، وإما لما ييتلي به من [ولوغها] (¬1) في غفلة صاحبها وعدم غسل ما ولغت فيه بالماء والتراب. وسبب المنع من اقتناء غير ما ذكرنا فيها من الترويع وإيذاء المَارِّ ومجانبة الملائكة لمحلها، وهو شديد لما في مخالطتهم من البركة، ولهذا حذَّر الشارع من كل حالة يلابسها الشيطان من مكان وزمان وفعل وقول لهذا المعنى. الوجه الرابع: في أحكامه: الأول: تحريم [اقتناء الكلب لغير حاجة، وأبعد بعضهم، فاستدل به على الكراهة، إذ ليس من الوعيد المحرم نقص الأجر، حكاه القاضي، وهو غريب ثم (¬2)] الكلاب في أصل الشرع ممنوعة الاقتناء، ولهذا أمر بقتلها أولًا كلها، ثم نسخ ذلك، ونهى عن قتلها، إلَّا الأسود البهيم. ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب، التي لا ضرر فيها، سواء الأسود وغيره. قاله إمام الحرمين من أصحابنا. والإِجماع قائم على قتل الكلب العقور. واختلفوا فيما عداها، فقال القاضي عياض: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتلها، إلَّا ما استثنى من كلب الصيد وغيره. قال: وهذا مذهب مالك وأصحابه. ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) في ن هـ ساقطة.

قال: واختلف القائلون بهذا في كلب الصيد ونحوه: هل [هو] (¬1) منسوخ من العموم الأول في الحكم بقتل الكلاب، وأن القتل كان عامًا في الجميع أم كان مخصوصًا بما سوى ذلك. قال: وذهب آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها، ونُسخ الأمر بقتلها والنهي عن اقتنائها إلَّا الأسود البهيم. قال القاضي: وعندي أن النهي أولًا كان عامًا عن اقتناء جميعها، وأنه أمر بقتلها، ثم نهي عن قتل ما سوى الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها، إلَّا كلب الصيد أو الزرع أو الماشية. وهذا الذي ذكره القاضي هو ظاهر الأحاديث الصحيحة. وخص حديث ابن المغفل الثابت في الصحيح (¬2) "أمر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم" ما سوى الأسود، فإنه عام، فيخص منه الأسود بالحديث الآخر: "عليكم بالأسود البهيم، ذي النقطتين، فإنه شيطان" (¬3). الثاني: جواز اقتنائه للصيد والزرع والماشية، وهل يقاس عليها غرض حراسة الدروب ونحوها، فيه وجهان لأصحابنا. حدهما: لا. يقتصر بالرخصة على ما ورد. وأصحهما: نعم؛ لأن العلة في الرخصة مقبولة، وهي الحاجة فيتعدى، ولهذا قال العلماء: الرخصة إذا عرفت عمت. وإذا وقعت ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) مسلم (1573)، وأحمد (5/ 56، 57). (¬3) من حديث جابر أخرجه مسلم (1572)، وأبو داود (2846).

عمت، فعمومها يكون في حكحها ومعناها. قال العجلي (¬1): ومحل الخلاف في حفظ الدروب في غير أهل البوادي وسكان الخيام في الفلوات. فأما هؤلاء فيجوز لهم اقتناؤه حول بيوتهم قطعًا، لتحرسهم من الطُّرَّاق والوحش، وحكاه الروياني في "بحره" عن "الحاوي". وسئل مالك: عن اتخاذه للحراسة، فقال: لا أرى ذلك، ولا يعجبني، وعلله بعض أصحابه بترويعها لمن ليس بسارق مثلًا. الثالث: جواز اقتناء الجرو المذكررات وتربيته لها، ويكون القصد لذلك قائمًا مقام وجود المنفعة بها: كبيع ما لا ينتفع به في الحال للانتفاع به مآلًا، وهو أصح الوجهين عندنا، لدخوله تحت اسم الكلب، وإن كان مخصوصًا باسم الجرو، ثم هذا إذا كان من قبيل المعلم، وإلاَّ فلا. قاله في "التهذيب" (¬2) وأراد -والله أعلم- ما إذا كان من كلاب معلم ذلك وإلاَّ فلا. ¬

_ (¬1) هو أسعد بن محمود بن خلف بن أحمد، منتخب الدين، أبو الفتوح، العجلي، الأصبهاني، مصنف التعليق على الوسيط والوجز -وهو جزعان- وتتمة التتمة، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة توفي في صفر سنة ستمائة بأصبهان. ترجمته: في طبقات ابن شهبة (2/ 25)، وشذرات الذهب (4/ 334). (¬2) مؤلفه الحسين بن مسعود بن محمَّد محيي السنَّة أبو محمَّد البغوي توفي بمرو الروذ في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة، وقد جاوز الثمانين من تصانيفه "التهذيب" "شرح المختصر" "شرح السنة" "معالم التنزيل". ترجمته: في الأعلام (2/ 284)، وفيات الأعيان (1/ 402)، وطبقات ابن قاضي شهبة (1/ 281).

الرابع: استدل المالكية بجواز اتخاذه للأمور المذكورة على طهارته. قالوا: فإن ملابسته مع الاحتراز منه أو عن مس شيء منه شاق. فالإِذن في الشيء إذن في مكملاته مقصودة، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه. ولك أن تقول الأذن في الملامسة لا يدل على الطهارة بدليل ملابسة القصاب ثوبه وثوب المرضع وصاحب السلس مثلًا، والضرورة هنا في الملابسة داعيةً جدًّا بخلاف تلك. الخامس: في إطلاق لفظ الكلب يشمل الأسود وغيره، وبه قال مالك والشافعي وجمهور العلماء. قالوا: لأنه غير خارج عن جنس الكلاب، ولأنه يغسل من ولوغه كغيره. وقال أحمد، وأبو بكر الفارسي (¬1): لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم، للأمر بقتله، ولأنه شيطان [رجيم] (¬2) وأجاب الجمهور عنه، بحمل الأمر على العقور. السادس: الحث على تكثير الأعمال والتحذير من تنقيصها والتنبيه على أسباب الزيادة والنقص لتجتنب أو ترتكب لأجل زيادتها. السابع: بيان لطف الله تعالى بخلقه في ترخيصه لهم ما ينفعم منه لحاجتهم إليه في أموالهم ومواشيهم ومنافعهم. ¬

_ (¬1) أحمد بن الحسين بن سهل أبو بكر الفارسي له مؤلفات منها "عيون المسائل"، وكتاب "الانتقاد على المزني" مات سنة خمسين وثلاثمائة. ترجمته: الأعلام (1/ 110)، وطبقات ابن شهبة (1/ 123). (¬2) زيادة: هـ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 405/ 4/ 76 - عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلي الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة، فأصاب الناس جوع، فأصابوا إبلًا وغنمًا، وكان النبي - صلي الله عليه وسلم - في أخريات القوم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور، فأمر النبي - صلي الله عليه وسلم - بالقدور، فأكفئت ثم قسم، فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، فطلبوه، فأعياهم، وكان في خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم، فحبسه [الله تعالى] (¬1)، فقال: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد [الوحش] (¬2)، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا. قال: قلت: يا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إنَّا لاقوا العدو غدًا، وليس معنا مدىً، أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه, فكلوا ليس [السن] (¬3) والظفر وسأحدثكم عن ذلك. أما السن: فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة" (¬4). ¬

_ (¬1) في ن هـ (الله تعالى). (¬2) في الأصل (الخيل)، وما أثبت من ن هـ. (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) البخاري (2507)، ومسلم (1968)، وأبو داود (2821)، والنسائي (7/ 191، 192)، وفي السنن الكبرى (4492، 4493، 4498، =

الأوابد: التي قد توحشت ونفرت من الإِنس. يقال: أبدت بأوبد أبودًا. [الكلام] (¬1) عليه من وجوه: [أحدها] (¬2): هذه السياقة للبخاري مع تفاوت ألفاظه فيه ذكره في باب التسمية على الذبيحة (¬3)، ومن ترك متعمدًا. ولفظه: "فأصبنا" بدل "فأصابوا"، وقال: "إنا لنرجوا -أو نخاف- أن نلقى العدو غدًا" بدل ما ذكر. وقال: "فكل" بدل قوله: "فكلوا"، وقال: "سأخبرك عنه"، بدل ما ذكر، وذكره البخاري (¬4) مختصرًا في عدة ¬

_ = 4499)، والترمذي (1472)، والدارمي في (2/ 84)، والحميدي (410)، والطبراني في الكبير (40/ 269، 270، 271، 272، 473)، وابن الجارود (895)، والبيهقي في السنن (9/ 247، 281)، والبغوي (11/ 214)، وعبد الرزاق (4/ 465، 466) (496)، وأحمد (3/ 140). (¬1) في الأصل بياض. (¬2) لفظ الحديث عند البخاري. (¬3) الفتح (9/ 633) (5498). (¬4) (أ) كتاب: الشركة باب قسمة الغنائم (2488)، والفتح (5/ 131). (ب) باب: من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم الفتح (5/ 139) ح (2507). (ج) كتاب: الجهاد والسير، ب: ما يكره من ذبح الإِبل والغنم في المغانم الفتح (6/ 218) ح (3075). (د) كتاب الذبائح والصيد، باب: التسمية على الذبيحة. (هـ) وفيه أيضًا، باب: ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، الفتح =

مواضع من هذا الباب، وذكره سلم بألفاظ نحوها. ثانيها: في التعريف براويه، وقد سلف عن آخر باب ما نهى عنه من البيوع، فراجعه. ثالثها: في التعريف بالأماكن الواقعة فيه: "ذو الحليفة" هذه مكان من تهامة بين جادّة وذات عِرْقٍ، وليست المهل الذي [بقرب] (¬1) المدينة، كذا نص عليه العلماء منهم الحازمي في "المؤتلف والمختلف" (¬2) في أسماء الأماكن لكنه قال: الحليفة من غير لفظة "ذي" والذي في الصحيحين إثباتها، فكأنه يقال بالوجهين. "وتهامة" بكسر التاء اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، سميت بذلك من التهم، وهو شدة الحر وركود الريح، قاله ابن فارس (¬3)، وقال صاحب "المطالع" لتغير هوائها، ¬

_ = (9/ 630) ح (5503)، وفيه أيضًا، باب: لا يذكي بالسن والعظم (9/ 633) ح (5560). (ز) وفيه أيضًا، باب: وإن من البهائم ... إلخ (9/ 638) ح (5509). (ح) وفيه أيضًا، باب: إذا أصاب قوم غنيمة ... إلخ (9/ 673) ح (5543). (ك) وفيه أيضًا، باب: إذا ند بعير لقوم، فرماه بعضهم بسهم فقتله، فأراد إصلاحهم، فهو جائز الفتح (9/ 673) ح (5544). (¬1) في ن هـ (بالقرب). (¬2) انظر: المشترك وضعًا والمفترق صقاعًا (144). (¬3) مجمل اللغة، باب: التاء والهاء وما يثلثهما (1/ 151).

رابعها: في ألفاظه ولغاته ومعانيه: "الإِبل" يكسر وتسكن للتخفيف ولا واحد لها من لفظها. "والغنم": اسم جنس "وأخريات القوم" أواخرهم. "وأكفيت" قلبت وأريق ما فيها. واختلف في سبب الأمر بإكفاء القدور، فالصواب: لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإِسلام، والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة، فإن الأكل من الغنائم قبل القسمة إنما يباح في دار الحرب، وأبعد المهلب بن أبي صفرة، فقال: إن ذلك عقوبة لهم لاستعجالهم في السير وتركهم الشارع في أخريات القوم، متعرضًا لمن يقصده من عدو ونحوه. قال القاضي (¬1): وقد يكون لأنهم انتهبوها, ولم يأخذوها باعتدال وعلى قدر الحاجة، ولذلك شرّك فيها ووقع في غير مسلم فانتهبناها فأمرهم عليه الصلاة والسلام بإكفاء القدور وما فيها. وقال: "لا تحل النهبة" (¬2). قال النووي في "شرح مسلم" (¬3)، واعلم أن المأمور به من إراقة القدور إنما هو إتلاف لنفس المرق عقوبة لهم. وأما اللحم: فلم يتلفوه بل يحمل على أنه جمع، ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإتلافه, لأنه مال للغانمين، وقد نهى عن إضاعة المال مع أن الجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة، إذ من جملتهم أصحاب الخمس، ومن ¬

_ (¬1) إكمال المعلم (6/ 421). (¬2) ابن ماجه (3938).إسناده صحيح. (¬3) (13/ 127).

الغانمين من لم يطبخ. ثم قال: فإن قيل: فلم ينقل أنهم حملوه إلى المغنم. قلنا: ولم ينقل أيضًا أنهم أحرقوه وأتلفوه وإذا لم يأت فيه نقل صريح، وجب تأويله على وفق القواعد الشرعية، وهو ما ذكرناه. وهذا بخلاف إكفاء لحم الحمر الأهلية يوم خيبر، فإنه أتلف ما فيها من لحم ومرق؛ لأنها صارت نجسة. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام فيها: "إنها رجس"، أو "نجس"، وأما هذه اللحوم فكانت طاهرة منتفعًا بها بلا شك فلا يظن إتلافها هذا آخر كلامه. وفي "سنن أبي داود" بإسناد جيد من حديث عاصم بن كليب، وهو من رجال مسلم عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: أصاب الناس حاجة شديدة وجهد، فأصابوا غنمًا فانتهبوها، وإن قدورنا لتغلي بها، إذ جاء رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: "إن النهبة ليست بأحل من الميتة"، وإن "الميتة ليست بأحل من النهبة" شك هناد أحد رواته. وهذا هو الحديث الذي أشار إليه القاضي عياض فيما تقدم، وهو صريح في إلقاء اللحم خلاف ما ذكره النووي، وقد يجيب بأنه لا يلزم من ترميله إتلافه لإِمكان تداركه بالغسل، لكن فيه بعد، وإنما أمر عليه الصلاة والسلام بذلك؛ لأنه أبلغ في الزجر، ولو ردها إلى المغنم لم يكن فيه كبير زجر إذ ما ينوب الواحد منهم نزر يسير فكان إفسادها عليهم مع تعلق قلوبهم وشهواتهم بها أبلغ في الزجر. ومعنى "ند" هرب وشرد نافرًا، وهو بفتح النون وتشديد الدال. و"الأوابد" النفور والتوحش كما فسره المصنف، وهو جمع

آبده بالمد وكسر الباء المخففة، يقال: فيه أبدت بفتح الباء يآبد بضمها وتأبد بكسرها أبودا وتأبدت، أي: يهرب من الإِنس وتوحشت. ويقال: جاء فلان بآبدة، أي: بكلم غريبة أو بخصلة منفرة للنفوس عنها الكلمة لازمة إلَّا أن يجعل فاعله بمعنى مفعوله. و"المدى" بضم الميم جمع مُدية بضم الميم [(¬1)] وكسرها وفتحها ساكنة الدال، وهي السكين, لأنها تقطع مدى حياة الحيوان. وقوله "أفنذبح بالقصب" جاء في رواية أخرى في الصحيح: "أفنذكى بالليط"، وهو باللام المكسورة ثم مثناة تحت ثم طاء مهملة، وهي قشور القصب "وليط" كل شيء قشوره والواحدة ليطة وهي معنى "أفنذبح بالقصب" على تقدير حذف مضاف. وادعى النووي في "شرح مسلم" (¬2) والقرطبي (¬3) إن في رواية أبي داود وغيره "أفنذبح بالمروة"؟ ولم أر ذلك في "سننه" (¬4) هنا. نعم أدخله في باب الذبح بها. قال: وهذه الروايات محمولة على أنهم قالوا هذا وهذا. فأجابهم عليه الصلاة والسلام بجواب جامع لما سألوه كله ولغيره نفيًا وإثباتًا. فقال: "ما أنهر الدم" إلى آخره. وقوله: "أنهر" معناه أسال وصب بكثرة وهو مشبه بجري الماء في النهر. يقال: نص الدم وأنهرته. قال القاضي عياض: وذكره الخشني ¬

_ (¬1) في الأصل (تكرير) بضم الميم. (¬2) شرح مسلم (13/ 127). (¬3) المفهم (5/ 368). (¬4) سنن أبي داود (2821).

بالزاي "والنهز" بمعنى [الدفع] (¬1) وهو غريب "وما" موصولة في موضع رفع بالابتداء وخبرها "فكلوا" (¬2)، ودخلت الفاء في الخبر هنا كما دخلت في قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3). [وقوله: "ليس السنن والظفر" هما منصوبان بالاستثناء بليس ويجوز الرفع على أن يكون اسم "ليس" و"الخبر" محذوفًا تقديره: ليس السنن والظفر وذكه، قال ابن القطان في "علله". وقع شك في إدراج "أما السن فعظم" إلى آخره ثم بين ذلك واضحًا] (¬4)، وقوله: "أما السنن فعظم"، قال ابن الصلاح: في "مشكل الوسيط" في ذلك دلالة واضحة على أنه كان متقررٌ كون الذكاة لا تحصل بالعظام قال: لم أجد بعد البحث أحدًا ذكر لذلك معنى يعقل. قال: كأنه عندهم تعبدي، وكذا نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال للشرع علل تعبد بها، كما أن له أحكامًا تعبد بها. يشير إلى أن هذا من ذاك، وقال النووي في "شرحه [لمسلم] (¬5) " (¬6) معنى الحديث: ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (5/ 298)، وذكره النووي في شرحه أيضًا (13/ 133)، أما في الفتح (9/ 628)، فقال: (الرفع). (¬2) والتقدير: ما أنهر الدم فهو حلال فكلوا، ويحتمل أن تكون "ما" شرطية ووقع في رواية أبي إسحق عن الثوري "كل ما أنهر الدم ذكاة" و"ما" في هذه موصوفة. اهـ. من الفتح (9/ 628). (¬3) سورة النحل: آية 53. (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) شرح مسلم (13/ 125).

لا تذبحوا بالعظام لأنها تنجس بالدم وقد نهيتهم عن تنجيس العظام في الاستنجاء، لكونها زاد إخوانكم من الجن، وهو طاهر. وفي "مشكل الصحيحين" (¬1) لابن الجوزي أن اجتاب الذبح بالعظم كان معهودًا عند العرب، أي: فأشار عليه الصلاة والسلام بذلك إليه. وقوله: "وأما الظفر فمدى الحبشة": معناه أنهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم. قاله ابن الصلاح (¬2) ثم النووي (¬3). وقال بعضهم: نهى عن السنن والظفر, لأنه تعذيب وخنق ليس على صورة الذبح. والحبشة، والحبش. جنس من السودان. والجمع الحُبشانٌ مثل حمل وحُمْلانٍ. الوجه الخامس: في بيان المبهم الواقع فيه. وهو قوله: فأهوى [رجل] (¬4) منهم بسهم وقد تطلبته في مظانه فلم أعثر عليه. الوجه السادس: في [بيان] (¬5) أحكامه:. الأول: تحريم التصرف في الأموال المشتركة كالغنيمة وغيرها من غير إذن أربابها، وإن قَلَّتْ ووقع الاحتياج إليها. ¬

_ (¬1) كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 184). (¬2) فتاوى ابن الصلاح (2/ 473). (¬3) شرح مسلم (13/ 125). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) زيادة من ن هـ.

الثاني: بيان مرتبة. الصحابة وما كانوا عليه من الرجوع إلى الشارع، وتعبدهم بأمره، وقبوله في كل حالة حتى في ترك مصالحهم، تقربًا إلى الله تعالى. الثالث: أن للإِمام عقوبة الرعية بما فيه مضرتهم من إتلاف صنفعة ونحوها، إذا كان فيه مصلحة شرعية. الرابع: أن قسمة الغنيمة لا يشترط فيها قسمة كل نوع على حده. الخامس: مقابلة كل عشرة من الغنم ببعير، في قسمة الغنيمة وغيرها، تعديلًا بالقيمة، فإن هذا الحديث محمول على أن هذه كانت قيمة هذه الغنم والإِبل، فكانت الإِبل نفيسة دون الغنم بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يكون هذا مخالفًا لقاعدة الشرع في الأضاحي، في إقامة البعير مقام سبع شياه, لأن هذا هو الغالب في قيمة الشياه والإِبل المعتدلة. وأما هذه القسمة فكانت قصة عين اتفق فيها ما ذكرناه عن نفاسة الإِبل دون الغنم. قلت: لكن في "سنن ابن ماجه" و"جامع الترمذي" من حديث ابن عباس كنا مع النبي - صلي الله عليه وسلم - في سفر، فحضر الأضحى [فاشتركنا] (¬1) في البقر سبعة، وفي البدنة عشرة" حسنه الترمذي وصححه ابن حبان (¬2) ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة، وما أثبت يوافق المصادر، ون هـ. (¬2) ابن ماجه (3131)، والترمذي (905)، والنسائي (7/ 222)، وأحمد (1/ 275)، وصححه الحاكم على شرط البخاري (23014)، ووافقه =

لكن لفظه "سبعة أو عشرة". ثم قال (¬1): وفي حديث رافع ابن خديج يعني حديثنا هذا كان عليه الصلاة والسلام يعدل في قسم الغنائم عشرًا من الشياه ببعير، دليل على أن البدنة تقوم عن عشرة إذا ذبحت. قلت: كأنه أخذ بظاهره ولم يؤوله كما أسلفناه، لكن حديث ابن عباس يقويه. نعم يعارضه حديث جابر الثابت في مسلم: "أمرنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أن نشترك في الإِبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" (¬2) ووقع في "شرح التنبيه" لابن يونس (¬3) أن أبا إسحاق المروزي قال: إن البدنة تجزئ عن عشرة. والظاهر أنه أخطأ في هذه ¬

_ = الذهبي، والبيهقي (5/ 235، 236)، وقال البيهقي وحديث أبي الزبير عن جابر -سيأتي- أصح من ذلك، وقد شهد الحديبية، وشهد الحج والعمرة، وأخبرنا أن النبي - صلي الله عليه وسلم - أمرهم باشتراك سبعة في بدنة، فهو أولى بالقبول. اهـ. ابن حبان (7/ 400). (¬1) أي: ابن حبان (13/ 204). (¬2) مسلم (1318)، وأبو داود (2807، 8280، والنسائي (7/ 222)، والبغوي (1311)، وأحمد (3/ 292، 304، 318، 366)، والبيهقي (5/ 234، 6/ 78) (9/ 295)، والطيالسي (1795)، والدارمي (2/ 78). (¬3) هو أحمد بن موسى بن يونس أبو الفضل ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة له مصنفات منها "شرح التنبيه" و"مختصر الأحياء" توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة في ربيع الآخر ترجمته: في وفيات الأعيان (1/ 90)، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 72).

[الحكاية] (¬1) [فإن] (¬2) الذي في "تعليق" القاضي حسين أن ذلك قول إسحاق، وأنه روى خبرًا أن أصحاب الحديبية كانوا سبعمائة فنحروا سبعين بدنة، وهذا لا يثبته أهل الحديث. ووقع في "شرح هذا الكتاب" للصعبي بخطه عزو هذه المقالة إلى الشيخ أبي إسحق والمتبادر من هذا الإِطلاق هو الشيرازي لا المروزي فهذا وهم آخر. السادس: أن ما توحش من المستأنس يكون حكمه حكم الوحشي، كما أن ما يأنس من الوحشي حكم المستأنس. السابع: جواز الذبح بكل ما يحصل به المقصود من غير توقف على كونه حديدًا بعد أن يكون محددًا إلَّا ما يسثنى فيشمل السيف والسكين والسنان والحجر والخشب والزجاج والخزف والنحاس. [الثامن] (¬3): اشتراط التسمية, لأنه علق الإِذن بمجموع أمرين: إنهار الدم والتسمية، والمعلق على سببين ينتفى بانتفاء أحدهما. [التاسع] (¬4): جواز عقر الحيوان الناد إذا عجز عن ذبحه ونحره. قال أصحابنا وغيرهم: الحيوان المأكول الذي ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في الأصل (السابع)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) في الأصل (الثامن)، وما أثبت من ن هـ.

لا تحل ميتته ضربان، مقدور على ذبحه ومتوحش. فالأول لا يحل إلَّا بالذبح في الحلق واللبة، وهذا مجمع عليه، وسواء فيه الإِنسي والوحشي إذا قدر على ذبحه بأن أمسك الصيد أو كان متأنسًا. أما الثاني: كالصيود والناد من الإِنسي فجميع أجزائها تذبح ما دامت متوحشة، فإذا رماها بسهم أو أرسل عليها جارحة فأصاب شيئًا منها وماتت حلت بالإِجماع. وأما إذا توحش إنسي: بأن ند بعير أو بقرة أو فرس أو شردت شاة أو غيرها فهو كالصيد فيحل بالرمي إلى غير مذبحه وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه، وكذا لو تردى منها شيء في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه ومريئه، فهو كالنادّ في حله بالرمي. وفي حله بإرسال الكلب وجهان. أصحهما: المنع. قال أصحابنا وليس المراد بالتوحش مجرد الإِفلات، بل متى تيسر لحوقه بعدوٍ أو استعانة بمن يمسكه أو نحو ذلك فليس متوحشًا، ولا يحل حينئذٍ إلَّا بالذبح في المذبح، وإن تحقق العجز في الحال جاز رميه، ولا يكلف الصبر إلى القدرة عليه، وسواء كانت الجراحة في فخذه أو خاصرته أو أي موضع كان من بدنه. وممن قال بجواز عقر الناد: علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، والشعبي، والحسن البصري،

والأسود بن يزيد، والحكم، وحماد، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وداود، والجمهور. وقال سعيد بن المسيب، وربيعة، والليث، ومالك: لا يحل إلَّا بذكاته في حلقه كغيره، وحديث رافع حجة عليهم (¬1). وقال الفاكهي، والقرطبي (¬2): قبله يحتمل أن يكون المراد: فاصنعوا به هكذا. أي: ليمسك، ثم هو باقٍ على أصله لا يؤكل إلَّا بتذكية كغيره. قلت: يرده ما رواه الحميدي (¬3) بعد قوله: "فاصنعوا به [ذلك] (¬4) وكلوه". [العاشر] (¬5): جواز ذبح المنحور ونحر المذبوح، وقد منعه داود، وعن مالك ثلاث روايات: يكره، يحرم، يجوز ذبح المنحور دون عكسه. وأجمع العلماء على أن السنة في الإِبل النحر وفي الغنم الذبح والبقر كالغنم عندنا وعند الجمهور. وقيل: يتخير بين ذبحها ونحرها. العاشر: التنبيه على أن تحريم الميتة إنما هو لبقاء دمها. قال ¬

_ (¬1) ما سبق ساقه من شرح مسلم لنووي (13/ 126). (¬2) المفهم (5/ 373). (¬3) الحميدي (1/ 200) رقم (411). (¬4) في الأصل ون هـ (هكذا)، وما أثبت من مسند الحميدي. (¬5) في الأصل (التاسع)، وما أثبت من ن هـ، ويلاحظ بقية الأوجه.

بعض العلماء: الحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامها، وتنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها. الحادي عشر: التصريح بمنع الذبح بالسن والظفر مطلقًا، سواء ظفر الآدمي وغيره متصلًا كان أو منفصلًا، طاهرًا كان أو نجسًا، وبهذا قال جمهور العلماء وفقهاء الحديث، منهم الشافعي وأصحابه وأحمد، وهو قول النخعي والحسن بن صالح والليث وإسحاق وأبي ثور وداود. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين، وإليه يميل كلام الشيخ تقي الدين فإنه قال في "الشرح" (¬1) فيه دليل على منع الذبح بالسن والظفر وهو محمول على المتصلين ثم قال: واستدل به قوم على منع الذبح بالعظم مطلقًا، لقوله: "أما السن [فعظم] (¬2) علل منع الذبح بالسن، [لأنه] (¬3) عظم، والحكم يعم بعموم علته. وعن مالك روايات أشهرها. جوازه بالعظم دون السنن كيفما كانا. والثانية. كمذهب الجمهور. والثالثة: كمذهب أبي حنيفة. والرابعة: حكاها عنه ابن المنذر يجوز بكل شيء حتى بهما. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 479). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) في إحكام الأحكام (بأنه).

وعن ابن جريح جواز الذكاة بعظم الحمار دون القرد، وكل هذا منابذ للسنة. واعلم أن الذكاة في المقدور عليه لا تحصل إلَّا بقطع الحلقوم والمريء بكمالهما، ويستحب قطع الودجين، ولا يشترط. وهذا أصح الروايتين عن أحمد. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم والمريء والودجين، وأسأل الدم حصلت الذكاة. قال: واختلفوا في بعض هذا. فقال الشافعي: يشترط قطع الحلقوم والمريء، ويستحب الودجان. وقال الليث، وأبو ثور، وأبو داود، وابن المنذر: يشترط الجميع. وقال أبو حنيفة: إذا قطع ثلاثة من هذه الأربعة أجزأه. وقال مالك: يجب قطع الحلقوم والودجين، ولا يشترط المريء، وهذه رواية عن الليث أيضًا. وعن مالك: رواية أنه يكفي قطع الودجين. وعنه اشتراط قطع الأربعة، كما قال الليث وأبو ثور. وعن أبي يوسف ثلاث روايات: إحداها: كأبي حنيفة.

وثانيها: إن قطع الحلقوم واثنين من الثلاثة الباقية حلت، وإلَّا فلا. وثالثها: يشترط قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال محمَّد بن الحسن: إن قطع من كل واحد من الأربعة أكثره حل، وإلاَّ فلا. [الثالث عشر] (¬1): [التصريح بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويجري الدم، ولا يكفي رضها ودفعها بما لا يجري الدم] (¬2). [الرابع عشر] (¬3): دفع أعظم المفسدتين بأخفها كما أسلفناه. [الخامس عشر] (¬4): استدل له مالك على القول لسد الذرائع، لأنه إنما أكفأ القدور، لما يخشى من المسارعة إلى مثل ذلك في جميع الغنيمة. تنبيهات: أحدها: قال القاضي (¬5): لم يذكر في هذه القسمة قرعة، ولا خلاف أن ما اختلفت أجناسه ولم يدخله قرعة؛ أنه يجوز فيه التفاضل والتساوي في القسمة؛ لأنها مراضاة، ولا تجوز القرعة إلَّا في التساوي واتحاد الجنس، وقد أسلفنا فيما مضى تأويل هذه القسمة. ¬

_ (¬1) في الأصل (الثاني عثر)، وما أثبت من ن هـ إلى آخر الأحكام. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في الأصل (الثاني عشر)، وما أثبت من ن هـ إلى آخر الأحكام. (¬4) في الأصل (الثاني عشر)، وما أثبت من ن هـ إلى آخر الأحكام. (¬5) ذكره وما بعده في إكمال إكمال المعلم (5/ 302).

ثانيها. قال أيضًا عن القاضي في تعديل النبي - صلي الله عليه وسلم - البعير بعشرة من الغنم حجة لجمع بهيمة الأنعام كلها في القسمة. قال: وقد اختلف المذهب عندنا في ذلك والأظهر والأكثر جوازه. ثالثها: قال أيضًا: فيه حجة لتعويض البعير بعشرة من الغنم في الهدايا. والمعروف في باب الهدايا إنما بسبع لا عشر، فمن قال بظاهر هذا الحديث قال: إذا فقدت البدنة في الهدي ينتقل إلى صوم سبعين يومًا عشرة عن كل شاه، ويخير بين الصوم وبين إطعام سبعين مسكينًا. وعند المالكية في ذلك قولان، وقد سلف الجواب عن هذا الحديث. رابعها: استنبط منه بعضهم سوق الإِمام رعيته حفظًا لهم وحياطة عليهم من عدو يكون وراءهم ونحو ذلك. وكذا قيل إنه كان يفعل ذلك في الحضر أيضًا، وهذا بخلاف ما يفعله بعض من يدعي المشيخة من الجهال، وربما ركب وأصحابه مشاة زهوًا وتكبرًا. [سادسها] (¬1): يستنبط منه أيضًا أن الغنيمة لا تملك إلَّا بعد قسمها وتخميسها على الوجه الشرعي. سابعها: استنبط منه بعضهم أن للإِمام أن يبيع مال المغنم ويقسم ثمنه من حيث إنه اعتبر فيه القيمة، وهي أعم أن يكون ثمنًا أو غيره. وقد قال بعضهم: إن المسألة ليست منقوله عند الشافعية، ثم حكى عن الظهير (¬2) التزمنتي، والجمال ¬

_ (¬1) في ن هـ (خامسها)، إلى آخر التنبيهات. (¬2) هو جعفر بن يحيى بن جعفر المخزومي، الإِمام ظهر الدين التزمنتي =

يحيى (¬1) التصريح بجواز ذلك، وسيأتي في الحديث التاسع (¬2) حكاية ثلاثة أقوال عند المالكية في ذلك. [ثامنها: أن المفتي يذكر دليل الحكم في فتواه] (¬3). ¬

_ = وتزمنت -بفتح التاء المثناة من فوقها ثم زاي معجمة - بلدة من صعيد مصر من عمل البهنسا. له مصنفات منها "شرح مشكل الوسيط"، مات سنة اثنتين وثمانين وستمائة. ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي (8/ 139)، وطبقات ابن شهبة (2/ 171). (¬1) هو يحيى بن عبد المنعم بن حسن جمال الدين والمعروف عند أهل مصر بالجمال يحيى توفي في رجب سنة ثمانين وستمائة وقد قارب الثمانين ترجمته في طبقات ابن شهبة (2/ 158)، وطبقات السبكي (8/ 355). (¬2) من كتاب الجهاد يسر الله الوصول إليه وإتمامه على خير وبركة. (¬3) في ن هـ ساقطة.

77 - باب الأضاحي

77 - باب الأضاحي هو "واضحي" جمع "أُضْحِيَّهٌ" بضم الهمزة وكسرها وتشديد الياء وتخفيفها، ويقال: "ضَحِيَّةٌ" بفتح الضاد وكسرها، وجمعها "ضَحَايَا"، وتجمع أيضًا على "أَضْحَاة" بكسر الهمزة وفتحها. وسميت الضحية: باسم زمن فعلها أو من الضحى الموضع الذي تذبح فيه على قولين. وذكر في الباب حديثًا واحدًا لأنه ذكر بعض أحكامه في باب العيدين، وهو: 406/ 1/ 77 - حديث أنس مالك رضي الله عنه قال: "ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" (¬1). والأملح: الأغبر وهو الذي فيه سواد وبياض. ¬

_ (¬1) البخاري (1551)، ومسلم (1966)، وأبو داود (2793، 2794)، والنسائي (7/ 220، 230)، وابن ماجه (3120)، والترمذي (1494)، والبغوي (1118، 1119)، والبيهقي (9/ 259، 283، 285)، وابن الجارود (909)، والدارمي (2/ 75)، وأحمد (3/ 115، 183، 222، 255)، والطيالسي (1968).

والكلام عليه من وجوه: أحدها: اختلف في تفسير "الأملح" على عبارات: إحداها: ما ذكر المصنف، وهو قول الكسائي وأبي زيد وأبي عبيدة، إلَّا أنهم زادوا فيه: والبياض أكثر (¬1)، وزاد المصنف فيه "الأغبر". ثانيها: أنه الأبيض الخالص البياض، قاله ابن الأعرابي (¬2) وغيره، وبه جزم الشيخ تقي الدين (¬3) فقال: والأملح الأبيض، والملحة البياض. ثالثها: أنه الأبيض ويشوبه شيء من السواد، قاله الأصمعي (¬4)، وهذا معنى الغبرة في كلام المصنف. رابعها: أنه الذي تعلوه حمرة، قاله بعضهم [ورأيت من يصوبه، وأنه المعروف عند العرب اليوم] (¬5). خامسها: إنه الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود، قاله الخطابي (¬6). سادسها: أنه المتغير الشعر بياض وسواد، قاله الداوودي، ¬

_ (¬1) غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 206). (¬2) تهذيب اللغة (5/ 102). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 481). (¬4) انظر: لسان العرب، مادة (م ل ح). (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) معالم السنن (4/ 101).

واقتصر الجوهري في "صحاحه" (¬1) عليه فقال: الملحة من الألوان: بياض يخالطه سواد، يقال: كبش (أملح) وتيس (أملح) إذا كان شعره خَلِيسًا. سابعها: نقله الماوردي (¬2) عن عائشة، أنه الذي يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويبرك في سواء، يعني أن مواضع هذه من بدنه سواد، وباقيه بياض. الوجه الثاني: في قصد أضحيته بالأملح وجهان، حكاهما الماوردي (¬3) والرافعي: أحدهما: لحسن منظره. وثانيهما: لشحمه وطيب لحمه, لأنه نوع [يتميز] (¬4) عن جنسه. الوجه الثالث: قوله (أقرنين)، أي: لكل واحد منهما قرنان حسنان. وقوله: "ووضع رجله على صفاحهما", أي: صفحة العنق وهو جانبه، وفعل هذا ليكون أثبت له وأملكه، لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فيمنعه من إكمال ذبحها أو تؤذيه، وورد النهي في بعض الأحاديث (¬5) عن هذه لن لا تقاوم هذا. ¬

_ (¬1) الصحاح، مادة (م ل ح)، ومختار الصحاح (264). (¬2) الحاوي الكبير (19/ 83). (¬3) المرجع السابق. (¬4) في المرجع السابق (متميز). (¬5) من حديث ابن عباس قال: مر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها. قال: أفلا قتل =

الوجه الرابع: في أحكامه: الأول: شرعية الأضحية، ولا خلاف أنها من شرائع الدين، وهي سنة مؤكدة على الكفاية وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: هي واجبة على المقيمين من أهل الأمصار. ويعتبر في وجوبها النصاب، وهو قول مالك والثوري، ولم يعتبر مالك الإِقامة، واستثنى الحاج بمنى (¬1). الثاني: تقديم الغنم في الأضاحي على الإِبل، بخلاف الهدايا، فإن الإِبل فيها مقدمة، وهو قول المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، قدموا الإِبل عليها، وقد يستدل المالكية باختيار النبي - صلي الله عليه وسلم - الغنم وباختياره تعالى في [فداء] (¬4) الذبيح (¬5). ¬

_ = هذا أو يريد أن يميتها موتتين. البيهقي (9/ 281)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 36): ورجاله رجال الصحيح. اهـ، لكن الحديث ليس فيه النهي عن وضع الرجل على صفحة العنق، وإنما المقصود منه النهي عن إحداد الشفرة وهي تنظر إليه، ويدخل ذلك تحت الأمر بإحسان الذبح، وبهذا جاء تبويب البيهقي في سننه فقال: باب الذكاة بالحديد وبما يكون أخف على المذكي وما يستحب من حد الشفار ومواراته عن البهيمة وإراحتها. (¬1) الاستذكار (15/ 155، 157). (¬2) الاستذكار (15/ 136، 141). (¬3) الحاوي الكبير (19/ 92). (¬4) في ن هـ (في هذا). (¬5) في ن هـ في الحاشية: وصفه تعالى بالعظمة؛ لأنه رعى في الجنة سبعين خريفًا، أو لأنه لم يكن من نسله حيوان، وإنما هو مكون بالقدرة، أو لأنه =

الثالث: استجاب تعداد الأضحية، فإنه عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين حتى قال أصحابنا: سبع شياه أفضل من بعير, لأن الدم المراق أكثرُ، والقربة تزيد بحسبه. الرابع: استحباب الأضحية بالأقرن، وقام الإِجماع على جوازها بالأجم، الذي لم يخلق له قرنان. واختلفوا في مكسور القرن، فجوزه الشافعي وأبو حنيفة والجمهور، سواء يدمي أم لا، وكرهه مالك إذا كان يدمي، وجعله عيبًا (¬1). الخامس: استحباب أحسنها وأكملها واختيار ذلك لها، وهو مجمع عليه وعلى عدم إجزاء المعيبة منها بالعيوب الأربعة الثابتة في الحديث الصحيح (¬2) في السنن الأربعة من حديث البراء رضي الله عنه، وهي "المرض والعجف والعَوَرُ والعرج البين" وكذا ما كان في معناها (¬3). ¬

_ = فُدِيَ به عظيم، أو لأنه مضى سنة إلى يوم القيامة. حاشية. (¬1) انظر: الاستذكار (15/ 131، 133). (¬2) أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، وابن ماجه (3144)، والمسند (4/ 284، 289)، والموطأ (482)، والدارمي (2/ 76)، والبيهقي في السنن (9/ 273). (¬3) قال أبو عمر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (15/ 124، 129)، أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث مجمع عليها, لا أعلم أخلافًا، بين العلماء فيها، ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها، فإذا كانت العلة في ذلك قائمة، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز في الضحايا، فالعمياء أحرى ألا تجوز، وإذا لم تجز العرجاء، فالمقطوعة الرجل أحرى ألا =

السادس: استحباب استحسان لون الأضحية، وهو مجمع عليه، وقد قال صاحب "المهذب" (¬1) والرافعي من أصحابنا: أفضلها البيضاء ثم [العفراء] (¬2) وهي التي لا يصفو بياضها ثم السوداء، وفي "صحيح الحاكم" (¬3) من حديث أبي هريرة رفعه "دم عفراء أحب إلى الله تعالى من دم سوداوين"، ورأي الإِمام أن أفضلية البياض تعبدًا، ومنهم من ادعى أنها أحسن منظر أو أطيب لحمًا. وأبدل صاحب "التنبيه" العفراء بالصفراء، وأدخل ابن الصباغ بين العفراء والسوداء البلقاء، وكذا النووي في "شرح المهذب" (¬4) ¬

_ = تجوز، وكذلك ما كان مثل ذلك كله، وفي هذا الحديث دليل على أن المرض الخفيف يجوز في الضحايا والعرج الخفيف الذي تلحق به الشاة في الغنم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البين مرضها، والبين ضلعها"، وكذلك النقطة في العين إذا كانت يسيرة، لقوله: [العوراء] البين عورها، وكذلك المهزولة التي ليست بغاية في الهزال، لقوله: "والعجفاء التي لا تنقي"، يريد بذلك التي لا شيء فيها من الشحم. والنقي: الشحم. كذلك جاء في هذا الحديث لبعض رواته، وقد ذكرناه في التمهيد، ولا خلاف في ذلك أيضًا. ومعنى قول شعبة فيه: والكسير التي لا تنقي، يريد الكسير التي لا تقوم، ولا تنهض من الهزال ... إلخ ما ذكر. (¬1) متن المهذب مع المجموع شرح المهذب (8/ 396). (¬2) في المرجع السابق (الغبراء). (¬3) البيهقي (9/ 273)، وفي لفظ: (دم عفراء أحب إليَّ من دم سوداوين) أحمد (2/ 417)، والمستدرك (4/ 227). (¬4) المجموع شرح المهذب (8/ 396، 397).

زاد الماوردي (¬1): الحمراء بين الصفراء والبلقاء. قال: إلا أنَّ لحم السوداء أطيب. قال: وحكى ابن قتيبة أن مداومة أكل [لحوم] (¬2) [السود] (¬3) يحدث موت الفجأة، قال الماوردي: فإن اجتمع حسن المنظر مع طيب اللحم فهو أفضل، وإن افترقا كان طيب المخبر، [أحسن] (¬4) من حسن النظر. ونقل النووي في "شرح مسلم" (¬5) عن الأصحاب ذكر الصفراء بين البيضاء والغبراء، وبعد الغبراء البلقاء ثم السوداء. السابع: استحباب تولي الإِنسان ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكل فيها إلَّا لتعذر وحينئذٍ يستحب أن يشهد ذبحها، وإن استناب فيها مسلمًا جاز، وإن استناب كتابيًّا كره كراهة تنزيه، وأجزأه، ووقعت الضحية عن الموكل. وبهذا قال الشافعي والعلماء كافة إلَّا مالكًا في إحدى الروايتين عنه، فإنه لم يجوزها، ويجوز أن يستنيب صبيًّا وامرأة حائضًا، لكن يكره توكيل الصبي لا الحائض على الأصح من رواية "الروضة" (¬6) , لأنه لم يصح فيه نهي، والأولى أن يوكل مسلمًا فقيهًا بباب الذبائح والضحايا, لأنه أعرف بشروطها وسننها، والحائض أولى من الصبي، والصبي أولى من الكتابي. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (19/ 93). (¬2) في المخطوطتين (الجداء)، وما أثبت من المرجع السابق. (¬3) في المرجع السابق (السواد). (¬4) في المرجع السابق (أفضل). (¬5) (13/ 120). (¬6) الروضة (3/ 200).

الثامن: شرعية التسمية عليها وعلى سائر الذبائح، وهو إجماع لكن هل هذه المشروعية على وجه الاشتراط أو الاستحباب؟ فيه خلاف سلف في الباب قبله. التاسع: استحباب التكبير مع التسمية عند الذبح, فيقول: باسم الله، والله أكبر. العاشر: استحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن اضجاعها [يكون] (¬1) على جانبها الأيسر، وإذا كان كذلك كان وضع الرجل على الجانب الأيمن؛ قالوا: لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين وإمساك رأسها باليسار. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

باب الأشربة

78 - باب الأشربة

78 - باب الأشربة ذكر فيه -رحمه الله- ثلاثة أحاديث: الحديث الأول 407/ 1/ 78 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال على منبر رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من [العنب] (¬1) والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل ثلاث، وددت أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد, والكلالة، وأبواب من أبواب الربا" (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل (العم)، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) البخاري (5581)، ومسلم (3032)، والترمذي (1874)، وأبو داود (3669)، والنسائي (8/ 295)، وابن الجارود (852)، والبغوي (3011)، والبيهقي (8/ 288، 289)، وعبد الرزاق (10570، 17051)، وابن أبي شيبة (8/ 105)، والدارقطني (4/ 248، 252).

الكلام عليه من وجوه: اْحدها: في التعريف براويه، وقد سلف أول الكتاب، وولده سلف في باب الاستطابة، وهذا الحديث ذكره البخاري هنا، ومسلم في آخر صحيحه في التفسير. الثاني في ألفاظه: "المنبر" سلف الكلام عليه في باب الجمعة. و"أما بعد" سلف الكلام عليه في الخطبة. وقوله: "أيها الناس" الأصل: يا أيها الناس، فحذف حرف النداء، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف حرف النداء، والنعت هنا نعت لا يستغني عنه، وهو أيضًا أحد المواضع التي يلزم فيها النعت وجوبًا. وقوله: "إنه نزل تحريم الخمر" يريد والله أعلم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ ...} (¬1) الآية، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ ...} (¬2) الآية، والإِجماع قائم الآن على تحريم الخمر العنبي والني وكانت تشرب في أول الإِسلام، لكن هل هو لاستصحاب حكمها في الجاهلية، أم لشرع ورد في إباحتها؟ فيها وجهان: رجح الماوردي (¬3) الأول ووجه الثاني، قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} (¬4)، أي: ما يسكر، قاله ابن عباس (¬5) وغيره. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 90. (¬2) سورة المائدة: آية 91. (¬3) الحاوي الكبير (17/ 265). (¬4) سورة النحل: آية (67). (¬5) تفسير الطبري (8/ 134، 135)، تفسير ابن كثير (2/ 575).

ثم حرمت في آيات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} (¬1)، {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬2)، {إِنَّمَا الْخَمْرُ} (¬3)، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ} (¬4)، إلى قوله: {بَطَنَ}. ووقع التحريم بالأولى (¬5) عند الحسن البصري وبالثالثة عند الأكثرين، ولما قدم الدارميون من تخمر في ربيع الأول سنة سبع من الهجرة وكانوا عشرة أنفس. هانئ بن حبيب، الفاكة بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن برة وأخوه الطيب بن برة، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، وزيد بن قيس، وعروة بن مالك وأخوه مرة بن مالك. أهدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد حرم الخمر"، فسألوه عن بيعها، فقال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". وبسبب نزول الآية الأولى من الآيات الأربعة فيما ذكره المفسرون أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار ساْلوا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وقالوا أفتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت الآية فتركها قوم للإِثم، وشربها قوم لقوله: {وَمَنَافِعُ} إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعا ناسًا من أصحاب رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وآتاهم بخمر، فشربوا، وسكروا، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 219. (¬2) سورة البقرة: آية 43. (¬3) سورة البقرة: الآيتان 90 , 91. (¬4) سورة الأعراف: آية 33. (¬5) أي بالآية الأولى.

فحضرت صلاة المغرب، فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ: "قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون" هكذا إلى آخر السورة بحذف "لا" فأنزل الله الآية الثانية السالفة، فحرمت في أوقات الصلاة، فتركها قوم، وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة. وتركها قوم في أوقات الصلاة، وشربوها في غير حين الصلاة حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال منه السكر، ويشرب بعد الصبح فيصحوا إذا جاء الظهر. واتخذ غسان بن مالك طعامًا ودعا رجالًا من المسلمين منهم سعد بن أبي وقاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه، وشربوا حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا الأشعار, وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجع فرضخه. فانطلق به سعد إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فشكا إليه الأنصاري، فقال عمر: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانًا شافيًا. فأنزل الله الآية الثالثة السالفة، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام. والأحزاب سنة أربع. وقيل: خمس فقال: عمر انتهينا يا رب (¬1). قال أنس: حرمت ولم يكن للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد منها. وقال ابن دحية في كتابه "وهج الخمر في تحريم الخمر" كان تحريمها في السنة الثالثة بعد أحد، وفي هذه الآية أعني -الثالثة - ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري (2/ 362) (4/ 95) (5/ 32).

عشرة أدلة على التحريم منها. وصفها بأنها "رجس من عمل الشيطان" (¬1) الرجس المحرم بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ}، إلى قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (¬2). وضمها إلى الميسر والأنصاب والأزلام (¬3). ورجا الفلاح (¬4): باجتنابها وإرادة الشيطان إيقاع العداوة بين ¬

_ (¬1) الرجس فيه أربعة أوجه: أحدها: السخط. والثاني: شر. والثالت: إثم. والرابع: حرام. وأصل الرجس: المستقذر، والممنوع منه، فعبر به عن ذلك لكونه ممنوعًا منه. (¬2) سورة الأنعام: آية 145. (¬3) الأنصاب والأزلام فيهما قولان: أحدهما: أن الأنصاب، الأصنام التي تعبد. و"الأزلام"، قداح من خشب يستقسم بها. والثاني: أن الأنصاب، حجارة حول الكعبة كانوا يذبحون عليها. و "الأزلام" تسع قداح ذوات أسماء حكاها الكلبي. ويستقمون بها في أمورهم، ويجعلون لكل واحد منها حكمًا. ثم قال: "فاجتنبوه" يحمل وجهين. أحدهما: فاجتنبوا الرجس أن تفعلوه. والثاني: فاجتنبوا الشيطان أن تطيعوه. (¬4) في قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فيه وجهان: أحدهما: تهتدون، والثاني: تسلمون.

المؤمنين بسببها. وإرادة إيقاع البغضاء بها (¬1). وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة (¬2) وكونها من عمل الشيطان (¬3) وإرادة الشيطان لما يترتب عليها، ومجرده يقتضي تحريمها واستفهام الانتهاء عنها بهل (¬4)، وهو يقتضي البلاغة في النهي واللطف في طلب النهي، ويتضمن ذلك فضل الباري علينا في جميع الوجوه، وهذا إبلاغ في الوعيد ونهاية في التهديد. فتحريمها الآن معلوم من الدين بالضرورة، ومن أحلها كفر بإجماع. وقوله: "وهي من خمسة": الظاهر أن هذه الواو عاطفة للجملة على التي قبلها، والمعنى على أنه أخبر أن الخمر يكون لنا من خمسة أشياء، ويجوز أن تكون "واو" الحال والمعنى نزل تحريم الخمر في حال كونها تعمل من خمسة أشياء، فلا يقتصر عليها، بل غيرها مما ¬

_ (¬1) وذلك بحضور الشر والتنافر لحدوث السكر وغلبة القمار. (¬2) فيه وجهان: أحدهما: أن الشيطان يصدكم عنه. والثاني: أن سكر الخمر يصدكم عن معرفة الله وعن الصلاة. وطلب الغلبة في القمار يشغل عن طاعة الله، وعن الصلاة. (¬3) أي: مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به؛ لأنه لا يأمر إلَّا بالمعاصي، ولا ينهى إلَّا عن الطاعات. (¬4) في قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} فيه وجهان: أحدهما: منتهون عما نهى عنه من الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، فأخرجه مخرج الاستفهام وعيدًا وتغليظًا. والثاني: فهل أنتم منتهون عن طاعة الشيطان فيما زينة لكم من ارتكاب هذه المعاصي. اهـ. وما سبق من الحاوي (19/ 274، 274).

في معناها ملحق به، ولهذا قال بعد: والخمر ما خامر العقل، وقال ذلك في خطبته بمشهد من الصحابة وغيرهم، وأقروه ولم ينكروا عليه، فصار إجماعًا. وقوله: "والخمر ما خامر العقل"، أي: غطاه، وهو مجاز تشبيه من باب تشبيه المعنى بالمحسوس. و"العقل" هو آلة التمييز، فلذلك حرّم ما خامره؛ لأن به يزول الإِدراك الذي طلبه الله تعالى من عباده، ليقوموا بحقوقه. وقوله: "عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه". إنما رد ذلك لأنه أبعد عن محذور الاجتهاد، وهو الخطأ على تقدير وقوعه، وإن كان مأجورًا عليه أجرًا واحد بخلاف النص، فإنه إصابة محضة. وقوله: "الجد" يريد ميراثه، وقد كان للسلف فيه خلاف كثير، ومذهب الصديق أنه كالأب عند عدمه. وقال عمر: قضيت في الجد بسبعين قضية لا ألوي في واحدة منها عن الحق، وكان السلف يحذرون من الخوض في مسائله وفي حديث روي، مرفوعًا، وموقوفًا وهو الصواب "أَجْرَأُكُم على قَسْمِ الجدَّ أجرأكم على النار". وقوله: "والكلالة" اختلف الناس فيها على خمسة أقوال، ذكرتها في "شرحي لفرائض الوسيط". وذكرت فيه عن الجمهور أنه القريب الوارث الذي ليس باب ولا ابن، وذكرت فيه هناك حديثين صحيحين. وآية الكلالة نزلت على النبي - صلي الله عليه وسلم - وهو في طريق مكة في حجة الوداع، وتسمى آية الصيف.

وقوله: "وأبواب من أبواب الربا"، أي: فإن تفاصيله كثيرة وللاشتباه يقع فيه كثيرًا. الوجه الثالث: في أحكامه. الأول: الخطبة على منبر. الثاني: ذكر "أما بعد" فيها. الثالث: "التنبيه" بالنداء. الرابع: ذكر الدليل على المقصود فيها. الخامس: تحريم الخمر. السادس: إلحاق ما عداها من المسكر بها، سواء في ذلك نبيذ التمر والزبيب والعسل والحبوب وأنواع ذلك جميعه مما ينبذ. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء سلفًا وخلفًا. وقال قوم من أهل البصرة: إنما يحرم عصير العنب ونقيع الزبيب النيء، فأما المطبوخ منهما والنيء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يشرب ويسكر. وقال أبو حنيفة: إنما يحرم عصير ثمرات النخل والعنب. قال: فسلاقة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلَّا أن يطبخ حتى ينقص ثلثاها. قال: وأما نقيع التمر والزبيب فيحل مطبوخهما وإن مسته النار شيئًا من غير اعتبار لحد، كما اعتبر في سلاقة العنب. قال: والنيء منه حرام، ولكن لا يحد شاربه. هذا كلامه ما لم يشرب ويسكر فإن سكر فهو حرام بالإِجماع. واحتج الجمهور: بأن الله تعالى نبه على أن علة تحريم الخمر

كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه العلة موجودة في جميع السكرات، فوجب طرد الحكم في جميع محاله، وأورد على هذا بأنه إنما يحصل المعنى في الإِسكار، وهو مجمع على تحريمه. وأجيب: بأنا أجمعنا على تحريم عصير العنب وإن لم يسكر، وقد علل الله سبحانه تحريمه بما سبق، فإذًا ما سواه في معناه، ووجب طرد الحكم في الجميع، ويكون المحرم الجنس المسكر، وعلل بما يحصل من الجنس في العادة. قال المازري: وهذا الاستدلال آكد مما يستدل به في هذه المسألة. قال: ولنا في الاستدلال طريق آخر، وهو أن نقول إذا شرب سلاقة الخمر عند اعتصارها، وهي حلوة لم يسكر فهو حلال بالإِجماع، فإن اشتدت وأسكرت. حرمت بالإِجماع، فإن تخمرت من غير تخليل آدمي حلت، فنظرنا إلى تبدل هذه الأحكام، ويحددها عند تحدد صفات تبدلها، فأشعرنا ذلك بارتباط الأحكام بهذه الصفة، وقام ذلك مقام التصريح بالنطق، فوجب جعل الجميع سواء في الحكم. واحتجوا أيضًا من السنة. بهذا الحديث وبحديث عائشة الآتي بعده. وبالحديث الآخر الصحيح: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" (¬1)، وغير ذلك من الأحاديث. ¬

_ (¬1) من رواية ابن عمر أخرجه مسلم (2003)، وأبو داود (3679)، والترمذي (1186)، والنسائي (8/ 296، 297)، والبيهقي (8/ 288)، والدارقطني (4/ 248)، وأحمد في كتاب الأشربة (26، 102).

قال ابن عبد البر (¬1): لا خلاف في الأخذ بقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر حرام"، واختلفوا في تأويله: هل المراد الجنس والقدر؟ فالجمهور: أنه الجنس قل أو كثر. وقال: قال أهل العراق، القدر المسكر. ومنطقهم به ضعيف، ورأيهم فيه سخيف. وقال البزار والنسائي والعقيلي وغيرهم: المروي في هذا الباب عن ابن عباس وعلي وأبي سعيد الخدري وغيرهم من قوله: [حرمت الخمر لعينها والمسكر من غيرها] (¬2) رجاله بين ضعيف ومتروك ومجهول. السابع: التنبيه على شرف العقل وفضله. الثامن: رد الإِنسان للخير وعدم الاشتباه والبيان الواضح لعدم وقوع الاختلاف وإرادة الوفاق. التاسع: إبراز ذلك وإيضاحه للناس. العاشر: أن المعتبر في الأحكام الشرعية مفاهيم الصحابة ولغاتهم، فإن الكتاب نزل بلغتهم. ¬

_ (¬1) التمهيد (1/ 256 , 257). (¬2) لفظ الحديث من رواية ابن عباس في سنن النسائي الكبرى (3/ 333): (أ) (حرمت الخمر قليلها وغيرها والسكر من كل شراب). (ب) (حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب). (ج) (حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب) لم يذكر ابن الحكم قبلها وكثيرها.

الحادي عشر: قال الخطابي (¬1) أبيه القياس وإلحاق حكم الشيء بنظيره. الثاني عشر: قال: فيه دليل أيضًا على جواز إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق بعد أن لم يكن. ¬

_ (¬1) معالم السنن (5/ 258).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 408/ 2/ 78 - عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -, سئل عن البتع؟ فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام" (¬1). (¬2) البتع: نبيذ العسل. الكلام عليه من وجوه: أحدها: "البتع" بباء موحدة مكسورة ثم تاء مثناة فوق ساكنة وبفتحها أيضًا حكاه الجوهري (¬3) ثم عين مهملة، وهو نبيذ العسل، كما ذكر المصنف، وهو شراب أهل اليمن. ثانيها: هذا الحديث من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -. ثالثها: فيه أنه يستحب للمفتي إذا رأى ما بالسائل حاجة إلى ما ¬

_ (¬1) البخاري (585)، ومسلم (2001)، النسائى (8/ 298)، وأبو داود (12/ 36)، والترمذي (1863)، وأحمد (6/ 36/ 96، 225)، وفي الأشربة له (1، 42)، والطيالسي (1478)، وابن ماجه (3386)، وابن الجارود (855)، والدارمي (2/ 113) , والدارقطنى (4/ 251)، والبغوي (3009). (¬2) في متن حاشية إحكام الأحكام زيادة (قال رضي الله عنه). (¬3) الصحاح. باب العين فصل الباء (1183).

سأل أن يضمنه في الجواب إلى المسؤول عنه، ونظيره حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". رابعها: فيه دلالة على تحريمه وتحريم كل مسكر وتحريم الجنس لا القدر, لأنهم إنما سألوا عن جنس البتع لا عن القدر المسكر منه، وإلَّا لقالوا: ما يحل منه وما يحرم. فوجب أن يكون الجواب عن الجنس السؤول عنه, لأنه لو كان جوابًا للقدر المسكر لكان عدولًا عما سئل عنه وذلك لا يجوز، وهذا هو المعروف المعتاد من كلام العرب إنهم إذا سألوا عن الجنس قالوا: هل هذا الشراب نافع أو ضار؟ فإن سألوا عن القدر قالوا: كم مقدار ما يشرب منة؟ والمراد بقوله: "أسكر"، أي: فيه صلاحية ذلك. خامسها: هذا السائل لا يحضرني اسمه بعد البحث عنه، وسؤاله عنه إما لأنه لم يبلغه تحريم الخمر إلَّا باسم خاص أو جواز التخصيص بها فقط، والله تعالى أعلم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 409/ 3/ 78 - عن عبد الله [بن عباس] (¬1) رضي الله عنهما، قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها: فباعوها" (¬2)؟ جملوها: أذابوها. الكلام عليه من وجوه: الأول: هذا البائع سمرة بن جندب رضي الله عنه، كذا ثبت مصرحًا به في "صحيح مسلم" (¬3)، وذكره أيضًا الخطيب في "مبهماته" (¬4) ¬

_ (¬1) في المخطوط (ابن عمر)، وما أثبت من البخاري ومسلم. (¬2) البخاري (2223)، ومسلم (1582)، والنسائي (7/ 177)، وفي الكبرى له (4583)، وابن ماجه (3383)، وأحمد (1/ 322، 293، 247)، والحميدي (1/ 13، 14)، وشرح سنة البغوي (8/ 2041)، والبيهقي في السنن (8/ 497، 498)، وابن أبي شيبة (5/ 187)، وعبد الرزاق (6/ 75). (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 11). (¬4) الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة (110).

وابن بشكوال (¬1) وغيرهما، ومن المتأخرين النووي (¬2) والشيخ تقي الدين (¬3)، ووقع في "أحكام المحب الطبري" أنه جابر بن سمرة، والظاهر أنه وهم، وكان سمرة بن جندب واليًا على البصرة من قبل عمر، قال ابن ناصر الحافظ: إنما كان يأخذ قيمة الجزية خمرًا، فيبيعه، فيهم ظنا منه أن هذا جائز، وكان على البصرة، فنهاه عمر، فكان ينبغي له أن يوليهم بيعها. قال ابن عقيل الحنبلي: فهم إذا باعوها أخذوا ثمنها ونحن نأخذه منهم، فهذا الحائل بين الأخذين يخرج اسم المأخوذ منهم عن اسم القيمة، كما قال عليه الصلاة والسلام لبريرة: "هو عليها صدقة ولنا هدية". وأجاب غيره بوجهين: أحدهما: أنه باع العصير ممن يتخذه خمرًا، فأطلق اسم الخمر عليه باعتبار ما يؤول إليه. الثاني: أنه خللها، ثم باعها. وفيه خلاف مشهور، ذكرهما الخطابي (¬4) وغيره. ومن يقول بجواز التخليل يحمل النهي عنه على أنه كان في أول الأمر، عقب تحريمها، حسمًا للباب. الثاني: تقدم الكلام على الشحوم وأحكامها وما يتعلق بذلك من الادِّهان في الحديث من باب العرايا من كتاب البيوع. ¬

_ (¬1) غوامض الأسماء (604). (¬2) الإِشارات إلى بيان الأسماء المبهمات (573). (¬3) أحكام الأحكام (4/ 486). (¬4) معالم السنن (5/ 261).

الثالث: الحديث دال على تحريم الخمر وبيعها، وقد سلف الكلام في بيعها في الموضع المشار إليه أيضًا. وقدمنا هناك عن أبي حنيفة أنه جوز أن يوكل المسلم ذميًّا في بيعها وشرائها، وهو دال أيضًا على تحريم بيع ما حرمت عينه مطلقًا. الرابع: فيه استعمال الصحابة القياس في الأمور من غير نكير، لأن عمر قاس بيعها عند تحريم عينها على بيع الشحوم عند، تحريمها, وهو قياس من غير شك. الخامس: فيه أيضًا تأكيد استعمال القياس، حيث دعا عمر على من خالفه وباعها بقوله: "قاتل الله فلانًا". السادس: فيه أيضًا الدعاء على فاعل ذلك، وهذه لفظة جرت على ألسنتهم من غير قصد لمعناها. السابع: قد فسَّر المصنف "جملوها"، وقد أوضحناها هناك في الموضع المشار إليه أولًا. الثامن: فيه دلالة على منع التحيل فيما حرم إذا كان طريقًا لارتكابه، كما فعلته اليهود هنا وفي الصيد يوم السبت.

باب اللباس

79 - باب اللباس

79 - باب اللباس ذكر فيه ستة أحاديث: الحديث الأول 410/ 1/ 79 - عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلبسوا الحرير. فإنه من لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة" (¬1). الكلام عليه من وجوه: [أحدها] (¬2): الحرير اسم جنس، واحدته حريرة، ذكره الجوهري (¬3)، قال [أبو] (¬4) هلال العسكري: ويقال له الدِّمَقْسُ ¬

_ (¬1) البخاري (5830)، ومسلم (6209)، والنسائي (8/ 200)، وفي الكبرى له (9588، 9589)، وأبو داود (4042)، والترمذي (2818)، وابن ماجه (3591)، ومالك في الموطأ (2/ 696)، وأحمد (1/ 29، 37، 39، 43، 46). (¬2) في ن هـ (الأول). (¬3) انظر: مختار الصحاح، مادة (ح ر ر). (¬4) زيادة من ن هـ. انظر: التلخيص (198).

والسَّرَقُ والسِّيَرَاءُ، وقيل: السِّيَراء، ضرب من البُرُود، مِسَيَّرٌ: مخطط. وهو عربي، وقيل: فارسي معرب وهو ضعيف (¬1)، وإنما سمي حريرًا، لأنه من خالص الإِبريسم. وأصل هذه الكلمة الخلوص؛ ومنه قولهم: طين حر، لأنه لم يخالطه رمل أو حمأة. وقيل: للحر خلاف العبد: لأنه خالص لنفسه. وحررت الكتاب: خلصته من التسويد. ثانيها: هذا الخطاب في قوله: "لا تلبسوا" للذكر، فلا يتناول الإِناث [كما] (¬2) هو مذهب المحققين من أهل الأصول، والأحاديث الصحيحة مصرحة بإباحته للنساء، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر عليًّا وأسامة (¬3) أن يكسو الحرير نساءهما. وقال في الذهب والحرير: "هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإِناثهم" (¬4)، والإِجماع قائم على ذلك، وإن خالف عبد الله بن الزُّبير فيه مستدلًا ¬

_ (¬1) المعرب للجواليقي (189)، وقصد السبيل (2/ 34). (¬2) في ن هـ (و). (¬3) من رواية ابن عمر عند البخاري (948)، ومسلم (2068)، وأبو داود (4041)، والثاني (8/ 201)، وأحمد (2/ 42). (¬4) والنسائي (8/ 160، 161)، وأبو داود (4057)، وابن ماجه (3595)، والبيهقي (2/ 425) من رواية علي بن أبي طالب. وجاء أيضًا من رواية عمر عند البزار (3005)، والطبراني في الصغير (464) , وهو ضعيف لأن في إسناده عمرو بن جرير وهو متروك. ومن رواية عبد الله بن عباس عند البزار أيضًا (3006)، والطبراني في الكبير (19/ 108)، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. ومن رواية عقبة بن عامر عن البيهقي (3/ 275).

بهذا الحديث، فقد انعقد الإِجماع بعده على التحريم، ولا عبرة بمن أباحه مطلقًا، كما [حكاه] (¬1) صاحب "المعلم" (¬2) عن قوم، وليحمل ما ذكر عن ابن الزبير على كراهة التنزيه، وكذا حديث عقبة بن عامر في "سنن النسائي" (¬3) أنه عليه الصلاة والسلام "كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول: إن كنتم تحبُّون حلية أهل الجنة وحريرها فلا تلبسوها في الدنيا", وفي حل افتراشه لهم، وحل الولي إلباسه للصبيان خلاف، محله كتب الفروع، وقد أوضحناه فيها. ثالثها: هذا الحديث محمول عند الجمهور على الخالص من الحرير، أما الممتزج بغيره فحلال إن لم يَزِدْ وَزْنُ الحرير، فإن زاد حَرُمَ، وعند الاستواء وجهان أصحهما: الحل. رابعها: هو محمول أيضًا على غير حالة الضرورة، فأما حال الضرورة كمفأجاة الحرب، ولم يجد غيره والجرب والحكة ونحو ذلك. وسيأتي في الباب الآتي إباحته، لأجل دفع القمل فتلك أحوال مستثناة ومحل [الخوض] (¬4) فيها كتب الفروع. ومنع مالك (¬5) إلباسه في الغزو والحكة وغيرهما، وجوَّزه عبد الملك في الغزو وعبد الوهاب للحكة. ¬

_ (¬1) في ن هـ (أباحه). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 374) عنه. (¬3) السنن الكبرى (5/ 434) (9436). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) الاستذكار (26/ 206، 208) لهذه المسألة وما بعدها.

واختلف قول مالك في العلم في الثوب ونحوه فنهى عنه مرة وأجازه أخرى. واختلف في اتخاذ الراية في أرض الحرب منه، فلم يره مالك، وأجازه ابن القاسم حكاه صاحب "الجواهر". خامسها: غير اللبس كالتدثر والجلوس عليه في معناه، وخالف فيه أبو حنيفة (¬1)، وفي "صحيح البخاري"، من حديث حذيفة رضي الله عنه "نهانا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليها" (¬2). سادسها: نبَّه على العلة في التحريم بقوله: "فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"، فإنه إشارة إلى أنه ما يحصل له به من التنعم والتزين، ونظير ذلك الخمر، ويبعد حمل هذا الحديث على المبالغة في الزجر، والظاهر حمله على المستحل للبسه. وقال القاضي: يحتمل أن يريد كفار ملوك الأمم والأعاجم، الذين كان زيهم، ويحتمل أن يريد من أراد الله عقابه بذلك من مؤمني المؤمنين فحرمه في الآخرة وقتًا قبل دخوله الجنَّة. فيكون إمساكه ذلك الوقت حرمان له من لباسه، ويحتمل: أن يمنع من لباسه بعد دخول الجنة، لكن ينسيه الله تعالى إياه، ويشغله عنه بلذات أخر حتى يقضى الله تعالى أمر حرمانه منه، أو يشغله عنه أبدًا، ويكون راضيًا بذلك، غير ¬

_ (¬1) أشار في الاستذكار إلى الخلاف (26/ 206). (¬2) البخاري (5426). تنبيه: وضع في ترقيم أطرافه على حديث (5828) وهو خطأ.

حاسد لغيره، ولا منتقص منه لتتم له لذته دون تنقيص ولا رؤية نقص، إذ لا حزن ولا تنغيص في الجنة، ولا يرى أحد قط من أهل الجنة أن منزلة غيره فوقه ولا لذته فوق لذته، كما أن أهل الغرف وعليين يراهم من دونهم، كالكواكب في الأفق، ثم من دونهم لا ينقص عنده محالهم ولا نقص. ويحتمل أن يريد بقوله: "لم يلبسه في الآخرة"، يعني مدة عقابه إذا عوقب على معصيته بارتكاب النهي عن لباسه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 411/ 2/ 79 - عن حذيقة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" (¬1). الكلام عليه من وجوه, ولم يتكلم عليه الشيخ تقي الدين رأسًا بل أورده إيرادًا فقط: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في السؤال. ثانيًا: "الديباج" بكسر الدال وفتحها، عجمي معرّب (¬2) جمعه ديابيج، قال الجوهري: وإن شئت قلت "دبابيج" بالباء على أن يجعل أصله مشددًا، كما قلناه في الدنانير يريد أن أصل دينار دِناَرٍ ¬

_ (¬1) البخاري (5426)، ومسلم (6207)، والنسائي (8/ 198، 199)، وفي الكبرى له (9615)، وأبو داود (3723)، الترمذي (1878)، وابن ماجه (3414)، والدارقطني (4/ 293)، وأحمد (5/ 390)، والحميدي (1/ 440)، وابن أبي شيبة (6/ 6). (¬2) المعرب للجواليقي (291)، وقصد السبيل (2/ 43).

بنون مشددة، فأبدل من إحدى حرفي تضعيفه باء لئلا تلتبس بالمصادر التي تجيء على فعال ككذباء، وهو ما غلظ وثخن من ثياب الحرير، وذكره بعد الحرير وإن كان نوعًا منه هو من باب ذكر الخاص بعد العام، قال الجواليقي (¬1): فأصله بالفارسية (دِيُوبَافْ) (¬2)، أي: نِسَاجَةُ الجن. ثالثها: "الصحاف" بكسر الصاد جمع صحفة بفتحها، وهي دون القصعة، قال الجوهري (¬3): قال الكسائي أعظم القصاع الجَفْنَة، ثم القَصْعَةُ تليها تُشبِعُ العَشَرَة ثم الصَّحْفَةُ تشبع الخمسة، ثم المِئْكَلةُ تُشْبِعُ الرجلين والثلاثة، ثم الصُّحَيْفةُ تشبع الرجل. رابعها: قوله: "فإنها لهم في الدنيا"، أي: للكفار، ومعناه أن الكفار إنما يحصل لهم ذلك في الدنيا. وأما الآخرة فمالهم فيها من نصيب. وأما المسلمون فلهم في الجنة الحرير والذهب، وما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. خامسها: قوله "ولكم في الآخرة"، أي: يوم القيامة، وجاء في رواية أخرى في الصحيح "يوم القيامة" بعد ذكر الآخرة، وإنما جمع ¬

_ (¬1) المعرب (291). (¬2) قال في المعجم الذهبي (98/ 387) في الفارسية: (ديوب) إبليس، و (باف، أو بافت) نسج. اهـ من شرح قصد السبيل (2/ 43)، وأيضًا في التخليص للعسكري (197). (¬3) انظر: مختار الصحاح، مادة (ص ح ف).

بينهما لئلا يظن أنه بمجرد [الموت] (¬1) صار في حكم الآخرة في هذا الإِكرام، فتبين أنه إنما هو يوم القيامة وبعده في الجنة أبدًا، ويحتمل أن المراد لهم في الآخرة من حين [الموقف] (¬2) ويستمر في الجنة أبدًا. سادسها: الحديث دال على تحريم لبس الحرير والديباج مطلقًا، واستثنى أصحابنا الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح حالة القتال لدعاء الحاجة إليه. سابعها: هو دال أيضًا على تحريم استعمال أواني النقدين مطلقًا سواء فيه الرجل والمرأة وهو الجديد وعن القديم أن المنع منهما للتنزيه، وهو غلط مرجوع عنه ومؤل أيضًا. ثامنها: خص الأكل والشرب بالذكر دون غيرهما، لكونهما الغالب في الاستعمال، لا للتقييد. وإن كان كلام المرعشي في "تقاسيمه" (¬3) يقتضي حرمة ذلك فقط، وهو جمود على النص، وأبعد داود فحرم الشرب فقط، وأجاز الباقي وهو عجيب منه، فإن الأكل قد نص عليه أيضًا في الحديث، وخص الإِناء بالشرب, لأنه معدله غالبًا، وكما خص الصحاف بالأكل. تاسعها: لا حجة فيه لمن قال الكفار غير مخاطبين بالفروع، ¬

_ (¬1) في شرح مسلم (36/ 13) موته. (¬2) في المرجع السابق (الموت)، ولعله أقرب للصواب كما جاء في حديث وصف نزع روح المؤمن ونزع روح الكفار. (¬3) سبق التعريف به.

لأنه لم يصرح بإباحتها لهم، وإنما أخبر عن الواقع في العادة، أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا، وإن كان حرامًا عليهم، كما هو حرام على المسلمين، وإنما ذكر ذلك تنبيهًا على تحريم التشبه بهم فيما يعانونه من أمور الدنيا تأكيدًا للمنع منه. عاشرها: المجازاة على الصبر على الزائل الفاني بالدائم الباقي.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 412/ 3/ 79 - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "ما رأيت من ذي لِمَّةٍ [سوداء] (¬1) في حلة حمراء أحسن من رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالقصير ولا بالطويل" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الإِمامة. ثانيها: الْلِمَّةُ بكسر اللام وتشديد الميم وتاء تأنيث مكتوبة هاء من شعر الرأس دون الجمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زادت فهي الجُمَّةُ، والجمع: لِمَمٌ، ولِمَامَ. ثالثها: "الحلة": تقدم الكلام عليها في الحديث الثاني من باب الأذان، فراجعه من ثم. ¬

_ (¬1) في ن هـ ومتن إحكام الأحكام ساقطة. (¬2) البخاري (3551)، ومسلم (2337)، والترمذي (1724، 3639)، وأبو داود (4072، 4183)، النسائي (8/ 183)، وأحمد (4/ 290، 295، 300، 303)، وابن ماجه (3599).

رابعها: "المنكب" ما بين الكتف والعنق، والمراد أن شعره عليه الصلاة والسلام يسترسل غير مضفور ولا مكفوف. خامسها: فيه جواز لبس الأحمر، وأما الأحاديث الواردة في المنع منه للرجال في "سنن أبي داود" ففي أسانيدها مقال، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على خلاف الأولى، وقد أسلفنا الكلام على ذلك في الحديث المشار إليه في باب الأذان، فليراجع منه. وقال القاضي عياض (¬1): وكره بعضهم جميع ألوان الحمرة، وأباح بعضم ما خط منها، وكره ما اشتدت حمرته، وأجاز بعضهم ما يمتهن منها، وكره ما يلبس. قلت: وصح النهي (¬2) عن لباس المعصفر، وهو المصبوغ ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم (5/ 381). (¬2) من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ولفظه: "ألقها، فإنها من ثياب الكفار"، ومسلم (2077). ومن رواية علي رضي الله عنه يقول: "نهاني رسول الله - صلي الله عليه وسلم -, ولا أقول نهاكم- عن لبس المعصفر". مسلم (2078). أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 181). ومن رواية ابن عباس رضي الله عنهما "لا تلبسوا ثوبًا أحمر متوردًا"، ابن أبي شيبة (8/ 181). ومن رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "أقبلنا مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - من ثنية إذا اخر فالتفت إليَّ وعليَّ ريطةٌ مضرجةٌ بالعصفر, فقال: "ما هذا؟ " فعرفت ما كره، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال: "يا عبد الله، ما فعلت الريطة؟ " فأخبرته، فقال: "ألا كسوتها بعض أهلك، فإنه لا بأس بذلك للنساء" =

أحمر بالعصفر، فقال به جماعة: وجعلوه نهي تنزيه، وأباحه الجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، لكنه قال غيرها أفضل منها. وفي رواية عنه (¬1) أنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق ونحوهما وقال البيهقي في "المعرفة" (¬2): نهى الشافعي الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعي: وإنما رخصت في المعصفر لأني لم أجد أحدًا يحكي عن النبي - صلي الله عليه وسلم - النهي عنه، إلَّا ما قال علي رضي الله عنه: "نهاني ولا أقول نهاكم" (¬3)، واعترضه البيهقي فقال: قد جاءت أحاديث تدل على النهي على العموم، ثم ذكرها، ثم قال: ولو بلغته لقال بها. وحمل الخطابي (¬4) النهي على ما صبغ منها بعد النسج، فأما ما صبغ قبله فليس داخلًا فيه. وهذا قد أسلفته في باب الأذان أيضًا، وحمل بعضهم: على المحرم بالحج أو العمرة، ليكون موافقًا ¬

_ = ابن أبي شيبة (8/ 181)، وأحمد (2/ 196)، وابن ماجه (3/ 360)، وأبو داود (4068). ومن رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - عن المفدم، قال يزيد: قلت للحسن: ما المفدم؟ قال: المشبع بالعصفر" ابن أبي شيبة (8/ 182). (¬1) الموطأ (1692). (¬2) معرفة السنن والآثار (2/ 451، 454). (¬3) مسلم (2078). ابن أبي شيبة (8/ 181). (¬4) معالم السنن (6/ 43).

لحديث ابن عمر "نهى المحرم أن يلبس ثوبًا مسَّه ورسٌ أو زعفران" (¬1). سادسها: في استحباب [إرسال] (¬2) الشعر للرجال، وكان لشعر سيدي رسول الله - صلي الله عليه وسلم - حالتان: حالة إلى المنكبين إذا طال وأخرى إلى شحمة أذنه إذا قصره، قال القاضي عياض (¬3): وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام كانت له لمة، فإن انفرقت فرقها، وإلَّا تركها، قال: وقد اختلف السلف في تفريق الشعر، ففرق منهم جماعة، واتخذ اللمة منهم آخرون، وهي الشعر الذي يلم بالمنكبين، قال: وجاء عنه أنه سدل، وأنه فرق، وهو آخر الأمرين منه، حتى جعله بعضهم نسخًا، فعلى هذا لا يجوز السدل واتخاذ اللمة، ويحتمل أن يكون فرق ليرى الجواز أو للندب، ولذلك اختلف السلف فيه، والصحيح جوازهما واختيار الفرق. سابعها: فيه توفير الشعر، وهذه الأمور الخلقية المنقوله عن الشارع، فيستحب الاقتداء به في هيئتها، وما كان ضروريَّا منها لم يتعلق بأصله استحباب بل بوصفه. ثامنها: قوله: "بعيد ما بين المنكبين" هو بمعنى الرواية الأخرى "جليل المُشَاس" (¬4)، والكتد، أي: عريض رؤوس ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في كتاب الحج. (¬2) في ن هـ (استرسال). (¬3) ذكر في شرح مسلم (15/ 90). (¬4) أخرجه الترمذي (5/ 599)، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 269، 270) من رواية علي رضي الله عنه.

المناكب، وهي المشاش، والكتد: مجتمع الكتفين وهو الكاهل، وهذه الصفات تدل على قوته في الضرب، والطعن، وأنه بطل لا يطاق، لأن أصول اليدين في هذه الأعضاء، كلما عظمت كانت قوة اليدين أعظم. تاسعها: قوله: "ليس بالطويل ولا بالقصير"، أي: متوسط بينهما، لكنه كان من معجزاته أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يمشي معه أحد من الناس ينسب إلى الطول الإِطالة، فإذا [فارقه] (¬1) ينسب إلى الربعة. ¬

_ (¬1) في الأصل (رافقه)، وما أثبت من ن هـ.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 413/ 4/ 79 - عن البراء بن عازب أيضًا قال: "أمرنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع؛ [أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي ولبس الحرير والإِستبرق والديباج" (¬1)] (¬2). الكلام عليه من وجوه: وهو حديث عظيم الموقع، يشتمل على جمل من القرب المطلوبة أمرًا ونهيًا. وفي رواية في الصحيح مكان "إبرار القسم أو المقسم" "إنشاد الضالة"، وفي أخرى: "وابرار القسم" من غير شك، وفي أخرى ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) البخاري (1239)، ومسلم (2066)، النسائي (8/ 201)، والترمذي (2809)، والبيهقي (1/ 27)، والبغوي (1406)، وابن أبي شيبة (8/ 210، 211)، وأحمد (4/ 284، 287، 299).

"وعن الشراب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة". وفي أخرى: "ورد السلام" بدل "وإفشاء السلام"، وفي أخرى: "نهانا عن خاتم الذهب أو عن حلقة الذهب". وفي أخرى: "وعن حلقة الذهب" من غير شك. وفي أخرى في البخاري: "ونصر الضعيف وعون المظلوم". وفي أخرى له: "وعن آنية الفضة". وفي أخرى له: "وعن الحرير والمياثر والسندس"، وفي أخرى له: "وعن المياثر الحمر"، و [قال] (¬1) في كتاب الأدب (¬2): "الاستبرق ما غلظ من الديباج وخشن منه" ونقلها عبد الحق عن مسلم أيضًا، ولم أرها فيه وقد ذكره مسلم ها والبخاري في مواضع من "صحيحه" في الجنائز (¬3)، والملازمة (¬4)، واللباس (¬5)، والطب (¬6)، الأدب (¬7)، ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) بعثت عنه في كتاب الأدب من صحيح البخاري فلم أرها ذكره هنا وفي الأدب المفرد. (¬3) في كتاب الجنائز: باب الأمر باتباع الجنائز برقم (1239). (¬4) هذا وهم أو تصحيف من المؤلف أو الناسخ -رحم الله الجميع- حيث لا يوجد في صحيح البخاري، كتاب أو باب: بهذا العنوان. (¬5) كتاب اللباس: باب لبس القسي (5838)، وأيضًا في باب الميثرة الحمراء (5849)، وفي باب خواتيم الذهب برقم (5863). (¬6) في بعض النسخ كتاب الطب وبعضها كتاب المرضى ثم ثنى بكتاب الطب. انظر: الفتح (10/ 104) , باب وجوب عيادة المريض (5650). وأغفل المؤلف -رحمنا الله وإياه- ذكره في كتاب المظالم، باب نصر المظلوم (2445). (¬7) كتاب الأدب في باب تشميت العاطس إذا حمد الله برقم (6222).

والنذور (¬1)، والنكاح (¬2)، والأشربة (¬3)، والاستئذان (¬4). الوجه الأول: في التعريف براويه، وقد سلف قريبًا الإِشارة في موطنه. ثانيها: في شيء من مفردات ألفاظه. الوجه الثاني: العيادة أصلها العوادة, لأنه من عاده يعوده، فقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها وهي من مادة العود من الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه إمَّا انصرافًا بالذات أو بالقول والعزيمة. وقد يطلق العود على الطريق القديم، تعود إليه السفر، فإن أُخذ من الأول فقد يشعر بتكرار العادة، وإن أخذ من الثاني يعد نقله نقلًا عرفيًا إلى الطريق لم يدل على ذلك قاله الشيخ تقي الدين في "شرح الإِلمام". [الثالث] (¬5): المرض الخروج عن الاعتدال الخامس بالإِنسان. قال الراغب (¬6) وهو ضربان: مرض جسمي وهو [الحقيقة] (¬7) ¬

_ (¬1) في كتاب الأيمان والنذور. باب قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (6654). (¬2) في كتاب النكاح: باب حق إجابة الدعوة والوليمة برقم (5175). (¬3) كتاب الأشربة: باب آنية الفضة (5635). (¬4) كتاب الاستئذان، باب: إفشاء السلام (6235). (¬5) في ن هـ (الثاني). (¬6) مفردات غريب القرآن (466). (¬7) غير موجودة في المرجع السابق، ويدل لها وهي المذكورة في قوله: "ولا على المريض حرج".

و (¬1) عبارة عن الرذائل كالجهل والجبن والبخل والنفاق [ونحوها] (¬2) من الرذائل الخلقية (¬3) [وهو مجاز التشبيه] (¬4) ويُشَبَّه النفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض إما [لكونها] (¬5) مانعة [من] (¬6) إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن عن التصرف الكامل. وإما لكونها مانعة عن تحصيل الحياة الأخروية المذكورة في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬7)، وأما لميل النفس [بها إلى] (¬8) الاعتتادات الرديئة ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرة. قال: ولكون هذه الأشباء مُتَصَّورَةً بصورة المرض قيل دَوِيَ صدر فلان، ونَغِلَ قلبه، قال عليه الصلاة والسلام: "وأي داء أدوى من البخل" (¬9)، ويقال: شمس مريضةٌ إذا لم تكن مضيئةٌ ¬

_ (¬1) (الثاني): زيادة علامة للتقسيم. (¬2) في المرجع السابق: "وغيرها". (¬3) في المرجع السابق زيادة نحو قوله: "في قلوبهم مرض". (¬4) في ن هـ (وهو مجاز من مجاز التشبيه)، أما في المرجع السابق غير مذكورة. (¬5) في الأصل (كونها)، وما أثبت من ن هـ والمفردات. (¬6) في المفردات (عن). (¬7) سورة العنكبوت: آية 64. (¬8) في النسخ (عن)، وما أثبت من المفردات. (¬9) الحاكم (3/ 219) (4/ 163)، والخطيب في تاريخه (4/ 217)، والطبراني في الكبير (19/ 81، 82)، وابن سعد في طبقاته (3/ 2/ 112)، وعبد الرزاق (20705)، وذكره في مجمع الزوائد (9/ 315)، وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير شيخي الطبراني ولم أر من ضعفهما.

لعارض [عرض] (¬1) لها قال الشيخ تقي الدين: يجوز في هذا أن يكون من مجاز التشبيه الصوري، وأن يكون من مجاز التشبيه المعنوي. الثالث: قال الراغب (¬2): يقال: تَبِعَهُ واتَّبَعَهُ قَفَا أثَرَهُ وذلك [(¬3)] وتارة بالارتسام والائتمار وعلى ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (¬4)، وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (20)} (¬5) , قال الشيخ تقي الدين: الحقيقة الاتباع بالجسم والمجاز كنه شايع ومن المحتمل لهما قوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (¬6)، والمجاز وهو التزام إتباعك واقتفاء أثرك أقرب. ومن المحتمل أيضًا ما في هذا الحديث من اتباع الجنازة وعلى هذا ينبني ما الأفضل هل المشي خلفها أو أمامها؟ أو يمكن أن يجعل حقيقة في القدر المشترك دفعًا للاشتراك والحجاز، إلَّا أن الأولى عندي إذا كثر الاستعمال في أحد الخاصين وتبادر الذهن إليه عند الإِطلاق أن يجعل حقيقة اللفظ وتقدمه على الأصل المذكور أعني عدم الاشتراك والمجاز, لأن الأصل يترك بالدليل الدال على خلافه ومبادرة الذهن وكثرة ¬

_ (¬1) في النسخ (يعرض)، وما أثبت من المفردات. (¬2) مفردات غريب القرآن (72). (¬3) في النسخ زيادة (تارة بالجسم)، وهي غير مذكورة في المرجع السابق. (¬4) سورة البقرة: آية 38. (¬5) سورة يس: الآيتان 20 و 21. (¬6) سورة الكهف: آية 66.

الاستعمال دليل على الحقيقة. نعم حيث يقرب الحال أو يشكل فلا بأس باستعمال الأصل، وإذا قلنا إنه محمول على الإِتباع بالجسم، فيحتمل أن يكون معبرًا به عن الصلاة، وذلك من فروض الكفاية عند الجمهور، ويكون التعبير بالاتباع عن الصلاة من باب مجاز الملازمة في الغالب؛ لأنه ليس في الغالب أن يصلي على الميت، ويدفن في محل موته، ويحتمل أن يراد بالاتباع الرواح إلى محل الدفن لمواراته، والمواراة أيضًا من فروض الكفاية لا تسقط إلَّا بمن يتأدى به. الرابع: الجنازة تقدم ضبطها في بابها [فليراجع منه] (¬1). الخامس: التشميت بالشين المعجمة والمهملة. قال الجوهري (¬2). تشميت العاطس أن يقال: له يرحمك [الله] (¬3) بالشين والسين، قال ثعلب: الاختيار بالسين؛ لأنه مأخوذ من الشمت وهو القصد والمحجة. وقال أبو عبيد (¬4): الشين أعلى في حاجتهم وأكثر, لأن فعله يتعدَّى إلى المفعول بنفسه وبحرف الجر. قال ابن الأنباري (¬5) فيما حكاه عنه القاضي (¬6) وغيره يقال: شمت فلانًا وسمت عليه، وكل داع بالخير مشمت ومسمت. وقال الأزهري: ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) مختار الصحاح، مادة (س م ت). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) غريب الحديث (2/ 183 - 184)، المفهم (5/ 389). (¬5) الزهر (1/ 161، 162). (¬6) ذكره النووي في شرحه (14/ 302).

قال الليث: معناه ذكر الله على كل شيء، ومنه قولك: للعاطس: يرحمك الله. وقال الزبيدي في، "مختصر العين": وشمت العاطس إذا دعوت له. ويقال: بالسين يعني المهملة، وقال ابن سيده في "المحكم" (¬1) تشميت العاطس معناه هداك الله إلى السمت. قال: وذلك لما في العطاس من الانزعاج والقلق، وكل داع بالخير مسمت. وقال الخطابي (¬2): شَمَّت وسَمَّت بِمَعْنىً، وهو أن يدعوَ للعاطس بالرحمة. وقال القزاز في "جامعه" (¬3) وقيل التشميت الرجاء والتبريك، والعرب تقول: شمته إذا دعا له بالبركة. وفي الحديث المرفوع "سمت عليهما" (¬4) يعني عليًّا وفاطمة أي دعا لهما وبرّك عليهما. وقيل: إنه مأخوذ من الشماتة، التي [(¬5)] فرح الرجل ببلاء عدوه وسوء ينزل به. يقال: شمت بعدوه شماتة وشماتًا وأشمته الله به وبات بليلة سوء من ليالي الشوامت أي من الليالي التي يسر بها الشوامت. قال الشيخ تقي الدين: وفي توجيه هذا المعنى وجهان: أحدهما: قال أبو علي: فيما ذكره عنه ابن سيده معناه: دعاء له أن لا يكون في حال يشمت به فيها. ¬

_ (¬1) ذكره في لسان العرب، مادة (سمت). (¬2) معالم السنن (7/ 311). (¬3) سبق التعريف به وبمؤلفه. (¬4) ذكره في غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 184). (¬5) يحسن هنا زيادة (هي).

وثانيهما: أنك إذا قلت: يرحمك الله. فقد أدخلت على الشيطان ما يسخطه فيسر العاطس بذلك، وقيل: إنه مأخوذ من التشمت الذي هو اجتماع الإِبل في المرعى. قال صاحب "الجامع" فيكون شمته، سألت الله أن يجمع شمله وأمره، وعن ابن العربي (¬1) أنه قال إن كان بالمعجمة فهو مأخوذ من الشوامت وهو القوائم، وإن كان بالمهملة فهو من السمت وهو قصد الشيء وناحيته. كأن العطاس يحل [معاقد] البدن ويفصّل معاقدة، فيدعو له بأن يرد الله شوامته على حالها وسمته على صفته. قال الشيخ [وهذا] (¬2): يقتضي أن السوامت تنطلق على قوائم الإِنسان, لأن العاطس المشمت إنسان لا غير. وقد قال ابن سيده: والشوامت قوائم الدابة، وهذا أخص مما ذكر عن ابن العربي. وفي "الصحاح" (¬3) كما قال ابن سيده ثم قال: وهو اسم. قال أبو عمر (¬4): ويقال لا ترك الله سامته، أي: قائمة، وقيل: معنى شمته وأشمته دعوت له بالهدى والاستقامة على سمت الطريق والعرب تجعل الشين والسين في لفظ. بمعنى كقولهم: جاحَشْتُه وجاحَفْتُه إذا زاحمته (¬5). وما أسلفناه [عن ابن العربي] (¬6) في المهملة أنه أخذه من السمت الذي هو قصد الشيء ¬

_ (¬1) القبس (1145، 1146)، وما بين القوسين فيه (مرابط). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) مختار الصحاح (423) مادة (ش م ت). (¬4) التمهيد (17/ 325). (¬5) تم ضبطها من الأمالي للقالي (2/ 125). (¬6) زيادة من ن هـ.

وناحيته. قال الشيخ تقي الدين: أحسن منه عندي أن يكون مأخوذًا من السمت، الذي هو الهيئة الموصوفة بالحسن والوقار، ومنه ما جاء في الحديث: "إن الهدي الصالح والسمت والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة" (¬1). السادس: "إبرار القسم" الوفاء بمقتضاه وعدم الحنث فيه. قال الزبيدي: وبرت يمينه صدقت وأبرها أمضاها صدقًا. وقال ابن طريف (¬2) في في "أفعاله" (¬3) بر الرجل يمينه برًّا وبرورا وأبرها رباعيًّا كذا استعملا أبر رباعيًا، فيكون المصدر إبرارا. والحديث ماش عليه واستعمله غيرهما ثلاثيًا. قال الشيخ تقي الدين: ويحتمل أن يكون إبرار القسم جعله ذا بر والمراد بالبر ما يقابل الإِثم فيكون الإِبرار بها أن يحلف بها على أمر جائز فقط. فإن حملنا اللفظ على الأول وكان متعلقًا بالقسم فلا حاجة إلى إضمار، ثم يحتمل أن يكون المراد إبرار الإِنسان قسم نفسه بأن يفي بمقتضى اليمين وإبراءه لقسم غيره عليه، وهو أن لا يحنثه، ويوقعه في مخالفة اليمين. وإن كان الإِبرار متعلقًا بالمقسم فلا بد فيه من إضمار، وهو أن يقدروا إبرار يمين المقسم أو ما يقارب ذلك. السابع: القسم بفتح القاف والسين الحلف. قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬4)، قيل: وأصله من القسامة، وهي ¬

_ (¬1) أبو داود (4776). (¬2) أبو مروان عبد الملك بن طريف الأندلسي المتوفى سنة 400 هـ بالتقريب. (¬3) راجع كتاب معجم المعاجم (258). (¬4) سورة الأنعام: آية 109.

أيمان تقسم على أولياء المقتول ثم سار اسمًا لكل حالف. قال الشيخ تقي الدين. وفي هذا نظر، ولو قيل إن القسامة من القسم كان أولى، أي لأنها أحد أنواعه. ولو قيل أيضًا: إنه مأخوذ من القسامة التي هي بمعنى الحسن. يقال: وجه قسيم أي: حسن لكان له وجه، كان الحالف حسن ما حكم به بتأكيده. باسم الله تعالى. الثامن: قوله: "أو المقسم" الظاهر أن "أو" هنا للشك من الراوي، لا للإِباحة, لأن في الرواية السالفة: "إبرار المقسم" من غير شك. والمقسم هو الحالف نفسه. قال الشيخ في "شرحه" (¬1) في قوله: "إبرار القسم" "أو المقسم" وجهان: أحدهما: أن يكون المقسم مضموم الميم مكسور السين (¬2)، التقدير يمين المقسم. والثاني. فتح الميم والسين على أن يكون [هو] (¬3) المقسم، وإبراره هو الوفاء بمقتضاه، وعدم التحنيث فيه. وإن كان ذلك على سبيل اليمين، -كما إذا قال: والله لتفعلن كذا-، فهو آكد مما إذا كان على سبيل التحليف، كقوله: بالله أفعل كذا. لأن في الأول إيجاب الكفارة على الحالف، وفيه تغريم للمال، وذلك إضرارٌ به. التاسع: "النَّصْرُ والنُّصْرَةُ" العون (¬4) [قال الراغب] (¬5)، ونصرة ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 493). (¬2) في المراجع السابق (ويكون في الكلام حذف مضاف تقديره: ...). (¬3) في المراجع السابق (بمعنى). (¬4) في مفردات غريب القرآن (495)، ثم ساقط بعدها آيات. (¬5) زيادة من ن هـ. وفي المرجع السابق زيادة (ونصرة الله للعبد ظاهرة).

العبد [(¬1)] هي نصرته لعباده، والقيام يحفظ حدوده ورعاية عهده [واعتبار] (¬2) أحكامه واجتنابه نواهيه. [الثامن] (¬3): "الظلم" (¬4) وضع الشيء في غير موضعه المختص به: إما بِنُقْصانٍ أو بزيَادَةٍ أو بعدول عن وقته ومكانه. ومن هذا يقال: ظَلَمْتُ السِّقَاءَ إذا تنَاوَلْتَهُ في غير وَقْتِهِ، وظلمت البعير إذا نحرته من غير داء، والمظلوم أيضًا اللبن المشروب قبل أن يبلغ الرؤوب (¬5). [التاسع] (¬6): الإِجابة تنطلق على القول والفعل. يقال: أجاب الله دعاك. أي: فعل ما سألته إياه وقول الشاعر: [وادع] (¬7) دعي يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجيبه عند ذلك مجيب يحتمل الإِجابة بالقول لتقدم النداء، ويحتمل الإِجابة بالفعل ببذل العطاء، نبه عليه الشيخ تقي الدين في "شرح الإِلمام" قال: ويستعمل استعمال التسمية نحو: دعوت ابني زيدًا ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة (الله). (¬2) في المرجع السابق (واعتناق). (¬3) في ن هـ الغاشي. (¬4) قال ابن فارس -رحمنا الله وإياه- في مقاييس اللغة (3/ 468): "الظاء واللام والميم أصلان صحيحان، أحدهما خلاف الضياء والنور، والآخر وضع الشيء في غير موضعه تعديًا". اهـ. (¬5) انظر: لسان العرب (8/ 263 - 265، 266)، مادة (ظ ل م). (¬6) في ن هـ (الحادي عشر) إلى آخر الأوجه. (¬7) في ن هـ (وداع).

[أي] (¬1) سميته، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬2)، حثًّا على تعظيمه، وذلك مُخَاطَبة من يقول: يا محمَّد ودعوته [إذا] (¬3) سألته واستعنت به. قال تعالى. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} (¬4)، أي: سَلْهُ، والدعاء إلى الشيء أيضًا الحثُّ إلى قصده. قال: الراغب (¬5): والدعاء كالنداء، لكن النداء قد يقال إذا قيل بيا أو أيا، ونحو ذلك من غير أن يضم إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلَّا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} (¬6)، والمراد بإجابة الدعوة هنا: وليمة العرس، وإن كان يعمها [و] (¬7) غيرها. الثاني عشر: مادة الإِفشاء تدل على الظهور والانتشار، فشت المقالة إذا انتشرف وذاعت، وليفشوا العلم أي يظهروه وينشروه وأفشى السر أظهره ونشره، فإفشاء السلام إظهاره وعدم إخفائه بخفض الصوت، وأما نشره فتداوله بين الناس وأن يحيوا سنته ولا يميتوها. ¬

_ (¬1) في ن هـ (لو). (¬2) سورة النور: آية 63. (¬3) في الأصل (إلى)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) سورة البقرة: آية 68. (¬5) مفردات غريب القرآن (170) وما قبله منه. مع تصرف. (¬6) سورة البقرة: آية 171. (¬7) في ن هـ ساقطة.

الثالث عشر: "السلام" اسم للمصدر مثل كلام، والاسم التسليم ويطلق بإزاء أمور: أحدها: كقوله تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} (¬1). ثانيها: بمعنى "السلامة"، لقوله تعالى {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬2)، أي: دار السلامة، وفيه قول الشاعر: تجيء بالسلامة أم عمرو ... وهل لك بعد قومك من سلام ثالثها: أن يكون بمعنى التسليم والتحية، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬3)، أي: يقولون سلام عليكم. رابعها: شجر العضاة، ويقال فيه: سلْمُ أيضًا (¬4). وأما قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (¬5)، فيحمل أن يراد به السلام على أن يكون سلام بدلًا مما يدعون، كأنه قيل ولهم سلام أي سلامة ويحتمل أن يراد التحية أي من الملائكة أو من الله مبالغة في تعظيمهم: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬6)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ¬

_ (¬1) سورة الحشر: آية 23. (¬2) سورة الأنعام: آية 127. (¬3) سورة الرعد. الآيتان 23 - 24. (¬4) أي: يقال فيه (السَّلامُ). (¬5) سورة يس: الآيتان 57 - 58. (¬6) سورة الرعد: آيتان 23 - 24.

إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬1)، مختلف في معناه. الرابع عشر: والخواتيم جمع: خاتم بفتح التاء وكسرها وختام وختم كما سلف في الحديث الرابع من باب صلاة العيدين (¬2)، قال ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 94. (¬2) انظر: (4/ 243) من هذا الكتاب المبارك. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (10/ 315): باب: خواتيم الذهب: جمع خاتم، ويجمع أيضًا على خواتم بلا ياء، وعلى خياتيم بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضًا، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها وهي واضحتان وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء (ختام) وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة بعدها واو (خيتوم) وبحذف الياء والواو مع سكون المثناة (ختم) وبألف بعد الخاء وأخرى بعد التاء (خاتام) وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة (خاتيام) وبحذف الألف الأولى وتقديم التحتانية (خيتام) وقد جمعتها في بيت وهو: خاتام خاتم ختم خاتم وختا ... م خاتيام وخيوم وختام وقبله: خذ نظم عد لغات الخاتم انتظمت ... ثمانيًا ما حواها قبل نظام ثم زدت ثالثًا: وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا ... ساغ القياس أتم العشر خاتام أما الأول: فذكر أبو البقاء في: (إعراب الشواذ في الكلام) على من قرأ العالمين بالهمز قال: ومثله الخأتم. وأما الثاني: فهو على الاحتمال، واقتصر كثيرون منهم النووي على أربعة، والحق أن الختم والختام مختص بما يختم به فتكمل الثمان فيه، وأما ما يتزين به فليس فيه إلَّا ستة وأنشدوا في الخاتيام وهو أعربها: أخذت من سعداك خاتياما ... لموعد تكتسب الآثاما

أبو عمر الجرمي (¬1): كل ما كان على فاعل يريد مفتوح العين. نحو فاعل: فإن جمعه على فواعيل نحو طوابيق وقوابيل وخواتيم. الخامس عشر: في اللفظ تردد بين الخواتيم وتختم فعلى الأول لا بد من حذف مضاف أي لبس خواتيم. وعلى الثاني لا حاجة إلى الحذف، لأن الإِضافة في الأول إلى الذات فلا بد، وأن تصرف إلى فعل يتعلق بها، وفي الثاني أضيف إلى المصدر فلا حاجة إلى غيره، فإن النهي يصح تعلقه [به بنفسه] (¬2). السادس عشر: الذهب لفظ مشترك في كلام العرب، ويراد به هنا ما غلب استعماله فيه، وهو أحد النقدين ويذكر ويؤنث. قال الجوهري (¬3): والقطعة منه ذهبة، وتجمع على الأذهاب والذهوب [و] (¬4) قال نفطويه: سمي بذلك لأنه يذهب ولا يبقى والذَّهَب: أيضًا مكيال لأهل اليمن معروف والجمع أذهاب وجمع الجمع: أذاهِبُ عن أبي عبيدة. و"الباء" في قوله: "عن شرب بالفضة" للاستعانة، ويحتمل أن تكون للمصاحبة. ¬

_ (¬1) هو أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي المتوفى سنة (225) له مصنفان منها: كتاب الأبنية، وكتاب الجمع والتثنية. انظر: كتاب طبقات النحويين واللغويين (74) للزيدي. (¬2) في الأصل كأنها (به وبنفسه)، ولكن ارتبطت الهاء والواو مع الرطوبة وفي ن هـ هذا الموضع فيه رطوبة. (¬3) الصحاح. فصل الذال ذهب (1/ 129). (¬4) زيادة من ن هـ.

السابع عشر: "المياثر" جمع مئثرة بكسر الميم وثاؤه مثلثة ولا همز فيها. قال الشيخ تقي الدين: وقال النووي (¬1) في مهموزه ويجمع أيضًا بالواو. [الثامن عشر] (¬2): واختلفت عبارتهم في تعريفها، قال الزبيدي: الميثرة مِرفَقةٍ كصفَّة السَّرْج. وقال الطبري: المياثر قطائف كانت النساء تضعهن لأزواجهن من الأرجوان الأحمر ومن الديباج على سروجهم وكانت مراكب العجم. وقيل: هي أغشية السروج من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. وقيل: هي شيء كالفراش الصغير يتخذ من الحرير تحشى بقطن أو صوت ويجعلها الراكب تحته فوق الرحل. وفي "صحيح البخاري" (¬3) عن يزيد بن رومان: أن المراد بها ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم (14/ 33)، أي: (وثر). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري فتح (10/ 292) باب لُبس القَسِّي. قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (10/ 293): وقوله: (وقال ابن جرير عن يزيد في حديثه: القسية ... إلخ)، هو طرف أيضًا من حديث وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث" له عن عثمان بن أبي شيبة المصنف (8/ 182)، عن جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن الحسن بن سهيل قال: "القسية ثياب مضلعة ... " =

جلود السباع (¬1). وهو ضعيف بعيد. قال أبو عبيد (¬2): وأما المياثر الحمر التي جاء فيها النص، فإنها كانت من مراكب العجم من ديباج أو حرير. أي وكأن الأصل "ونهانا عن افتراش المياثر"، قال الشيخ تقي الدين: وأصل اللفظ من "الوثارة" "والوثرة" يكسر الواو وسكون ¬

_ = الحديث ووهم الدمياطي فضبط يزيد في حاشية نسخته بالموحدة والراء مصغر، فكأنه لما رأى التعليق الأول من رواية أبي بردة بن أبي موسى ظن أن التعليق الثاني من رواية حفيدة بريد بن عبد الله بن أبي بردة وزعم الكرماني -وتبعه بعض من لقيناه-، أقول: والنووي في شرحه (14/ 33) أن يزيد هو ابن رومان، قال وجرير هو ابن حازم وليس كما قال، والفيصل في ذلك رواية، إبراهيم الحربى، وقد أخرج ابن ماجه أصل هذا الحديث من طريق علي بن مسهر عن يزيد بن أبي زياد عن الحسن بن سهل عن ابن عمر ... إلخ. (¬1) قال النوري -رحمه الله- شرح مسلم (14/ 33) وهذا قول باطل مخالف للمشهور الذي أطبق عليه أهل اللغه والحديث وسائر العلماء. اهـ. قال ابن حجر في الفتح (10/ 293)، وليس هو بباطل، بل يمكن توجيهه، وهوا إذا كانت الميثرة وطاء صنعت من جلد ثم حشيت، والنهي حينئذٍ عنها إما لأنها من زي الكفار، وإما لأنها لا تعمل فيها الذكاة أو لأنها لا تذكى غالبًا فيكون فيه حجة لمن منع لبس ذلك ولو دبغ، لكن الجمهور على خلافه، وأن الجلد يطهر بالدباغ، وقد اختلف أيضًا في الشعر هل يطهر بالدباخ؟ لكن الغالب على المياثر أن لا يكون فيها شعر، وقد ثبت النهي عن الركوب على جلود النمور. أخرجه النسائي من حديث المقدام بن معدي كرب. وهو مما يؤيد التفسير المذكور، ولأبي داود "لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر". اهـ. (¬2) غريب الحديث (1/ 228).

الثاء "والوثير" هو الفراش الوطيء، يقال ما تحته "وثر" و"وثار" وامرأة "وثيرة" كثيرة اللحم و"وثر" الشيء "وُثارة" بالضم أي وطيء، فأصلها الواو لكن قلبت ياء لسكونها وإنكسار ما قبله، أي كما في ميزان، وميقات، وميعاد. [التاسع عشر] (¬1): "القسط" بفتح القاف وتشديد السين المهملة. وذكر أبو عبيد أن أصحاب الحديث يقولون بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها ينسب إلى بلاد يقال لها القس، وقال أهل اللغة والعربية القسي قرية على ساحل البحر قريبة من تنيس وقال ابن وهب وابن بكير فيما حكاه القاضي (¬2) هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقَس من بلاد مصر مما يلي الفرماء. وقال الجوهري (¬3) هو ثوب يحمل من مصر يخالطه الحرير، وقال مسلم (¬4): هي ثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شية، وصوبه النووي (¬5)، وقال البخاري (¬6): فيها حرير [وفيها] (¬7) أمثال [الأترنج] (¬8)، وفي "سنن ¬

_ (¬1) في ن هـ (الثامن عشر). (¬2) مشارق الأنوار (2/ 193). (¬3) انظر: ختار الصحاح، مادة (ق س س). (¬4) مسلم نووي (14/ 72). (¬5) شرح مسلم (14/ 34). (¬6) البخاري فتح (10/ 292)، تغليق (5/ 64). (¬7) زيادة من المرجع السابق. (¬8) في المخطوط (الأترج)، وما أثبت من المرجع السابق مع موافقة لما ذكر. انظر: الفتح (10/ 293)، وتغليق (5/ 65).

أبي داود" (¬1) عن علي رضي الله عنه أنها ثياب من الشام أو من مصر مضلعة فيها أمثال الأترج. ومنهم من جعل السين مبدلة من الزاي وتكون بمعنى القزي المنسوب إلى القز، وهو رديء الحرير. وقيل: إنها ثياب كتان مخلوط بحرير. التاسع عشر: اللبس بضم اللام مصدر لبست الثوب ألبس بكسر الباء في الماضي وفتحها في المستقبل، وأما "اللبس" بكسر اللام فهو ما يلبس ولِبس الكعبة والهودج هو ما عليهما من لباس. وأما "اللبس": بالفتح فمصدر لبست الأمر ألبَسَ بفتح الماضي وكسر المستقبل. [الثامن عشر:] (¬2) الحرير، والديباج تقدم الكلام عليهما في الباب. و"الإستبرق" بكسر الهمزة غليظ الديباج فارسي معرب، قاله الجواليقي (¬3) قال وأصله إسْتَفْرَهْ. قال ابن دريد (¬4): وإسْتَرْوَهْ ونقل من العجمية إلى العربية، ويصغر على أُبَيْرِق، وبكسر على أَبَارِق ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (4225)، وأيضًا في مسلم (2078)، ولكنها مبهمة "فيها شيبة كذا"، ووصل ما علقه البخاري في التغليق (5/ 65). (¬2) في ن هـ (العشرون). (¬3) المعرب (108). (¬4) المحكم (3/ 502)، قال المعلق على المعرب وليد، وأنه تصحيف، والصواب (إستوره)، كما في الفهلوية، والقاف في الكلمة المعربة تمثل الكاف الفهلوية. اهـ.

بحذف السين والتاء معًا، وقال بعضم "الباء" في استبرق ليست باء خالصة وإنما هي بين الباء والفاء. وذكر الديباج بعد الاستبراق، إما من باب ذكر العام بعد الخامس ليستفاد بذكر الخاص فائدة التنصيص. ومن ذكر [العام] (¬1) زيادة إثبات الحكم في النوع الآخر أو من باب التعبير بالعام عند الخاص، ويراد به ما رق من الديباج ليقابل ما غلظ منه. الوجه الثالث في فوائده وأحكامه: الأول: شرعية عيادة المريض، وهي سنة عند الجمهور، وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه والقريب والأجنبي. واختلف العلماء في الآكد والأفضل منها، وقد تجب حيث يحتاج المريض إلى من يتعهده، وإن لم يعد ضاع، وأوجبها الظاهرية من غير هذا القيد لظاهر الأمر، والمحققون من أهل الأصول لا يعبؤن بقول داود خلافًا ووفاقًا، لإِخلاله بالقياس، وهو أحد شروط الاجتهاد. الثاني: شرعية اتباع الجنازة، وهو سنة بالإِجماع، وسواء فيه من يعرفه وقريبه وغيرهما. وقد أسلفنا في الوجه الثالث أنه إذا حملنا الاتباع على الأتباع بالجسم. فيحتمل أن يكون معبرًا به عن الصلاة، وأن يكون معبرًا به عن الرواح إلى محل الدفن لموارته. الثالث: [استدل] (¬2) بعضهم. بهذا الحديث على المشي خلف الجنازة, لأنه لا يقال لمن تقدمها تبعها، إنما المتبع التالي ¬

_ (¬1) في ن هـ (العادة). (¬2) في ن هـ ساقطة.

خلفها، وقد سلف ما في هذا في الوجه الثالث من الكلام على ألفاظه. الرابع: شرعية تشميت العاطس، وهو قول سامعه: يرحمك الله بعد حمد العاطس الله تعالى، وإسماعه المشمت حمده, وكونه مسلمًا وهو سنة كفاية عند الشافعية، وفرض عين عند ابن مزين (¬1) من المالكية، واختاره ابن العربي (¬2)، وهو ظاهر الحديث الصحيح كان حقًّا على كل سلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله. وفروع التشميت كثيرة، محل الخوض فيها كتب الفروع، وكذا كل فرد من الأفراد المذكورة في الحديث. الخامس: شرعية إبرار القسم والمقسم، وهو سنة مؤكدة إذا لم يكن على المقسم عليه ضرر ولا مفسدة في دين ولا دنيا، فإن كان شيء من ذلك لم يبر قسمه كما ثبت أن الصدِّيق رضي الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة النبي - صلي الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلي الله عليه وسلم -: "أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا"، فقال: أقسمت عليك يا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لتخبرني. قال: "لا تقسم" (¬3) ولم يخبره. ¬

_ (¬1) هو يحيى بن إبراهيم بن مُزَين الزيني مولى عثمان بن عفان، روى عن مطرف والقعنبي توفي سنة ستين ومئتين. انظر ترجمته: توضيح المشتبه (8/ 129)، والمؤتلف والمختلف للدارقطني (2163). (¬2) تحفة الأحوذي (10/ 200). (¬3) البخاري (7000)، ومسلم (2269)، وأبو داود (4632، 4633)، والترمذي (2294)، وابن ماجه (3918)، والبيهقي في السنن (10/ 38)، الدارمي (2/ 128)، والحميدي (536)، وأحمد =

السادس: شرعية نصر المظلوم وهو من الفروض اللازمة لمن علم ظلم المظلوم وقدر على نصره، ولم يخف ضررًا لما فيه من فعل المعروف معه وإزالة المنكر عن ظالمه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل يا رسول الله: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه" (¬1)، أي: فإن به يندفع الضرر الدنيوي عن المظلوم والأخروي عن الظالم، ويكفي في التحذير من الظلم قوله تعالى: ¬

_ = (1/ 219، 236)، من رواية ابن عباس. قال النووي في شرح مسلم (5/ 127)، إن هذا الحديث دليل لما قاله العلماء: إن إبرار القسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة إنما هو إذا لم تكن في الإِبرار مفسدة، ولا مشقة ظاهرة، فإن كان، لم يؤمر بالإِبرار، لأن النبي - صلي الله عليه وسلم - لم يبر قسم أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة، اهـ. وانظر أيضًا (14/ 32). (¬1) البخاري (2443)، والترمذي (2256)، وشرح السنة للبغوي (13/ 96)، وأحمد (3/ 99، 201). من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه. وعن جابر عند مسلم (2584)، وأحمد (3/ 323)، والدارمي (2/ 311). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (5/ 98) لطيفة: ذكر المفضل الضبي في كتابه "الفاخر" إن أول من قال "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وأراد بذلك ظاهره وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، لا على ما فسره النبي - صلي الله عليه وسلم - وفي ذلك يقول شاعرهم: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم لم أنصر أخي حين يظلم

عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬2)، الآية. تنبيه: علينا أيضًا أن نمنع المظالم بين أهل الذمة، ولا نمكن بعضهم من ظلم بعض، كما بين المسلمين. السابع: شرعية إجابة الداعي وهي عامة، والاستحباب شامل ما لم يقم مانع، وقد توسع الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في الأعذار المرخصة لتركها وعدم الإِجابة، وجعل بعضها مخصصًا لهذا العموم في إجابة الداعي، كقولهم: لا تجب إجابة من لا يليق بالمدعو مجالسته لما فيه من نقص مرتبنه وتبدله بإجابته لبعضه ولا يخلو عن نظر. وقد أسلفنا في وجوب وليمة العرس وعدد الولائم في باب الصداق، فراجع ذلك منه، وشرائط الإِجابة محل الخوض فيها كتب الفروع [فإنه أليق به] (¬3). الثامن: شرعية إفشاء السلام، وهو مشروع لمن عرفت ومن لم تعرف، كما نص عليه في الحديث الصحيح (¬4)، وهو يورث المحبة، ¬

_ (¬1) سورة هود: آية 18. (¬2) زيادة من البخاري، والسورة من هودة آية 102. والحديث أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، وابن ماجه (4018) والترمذي (3110)، شرح السنَّة (4162)، ومعالم التنزيل (2/ 401)، والبيهقي (6/ 94)، والطبري (18559)، والأسماء والصفات (1/ 82). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) ولفظه عن عبد الله بن عمرو، أن رجلًا سأل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أي الإِسلام =

كما نص عليه في الحديث الصحيح أيضًا، والإِفشاء يكون في الابتداء به ورده فابتداؤه سنة بالإِجماع، وكذا رده، فإن كان المسَلِّمُ عليه واحدًا تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة فإنه فرض كفاية. وفروع السلام كثيرة يحتمل إفرادها بالتأليف. [التاسع:] (¬1) تحريم التختم بالذهب على الرجال، وهو إجماع، وكذا لو كان بعضه ذهبًا وبعضه فضة، فإنه حرام، [ثم] (¬2) [يحرم عند الشافعية سنُّ الخاتم على الصحيح] (¬3). [العاشر] (¬4): تحريم الشرب في إناء الفضة، ومثله الأكل وسائر وجوه الاستعمالات، كما سلف في الحديث. الحادي عشر: تحريم مياثر الحرير على الرجال، سواء كانت على رَحْلٍ أو سرج أو غيرهما، وإن كانت من غير الحرير فليست بحرام، ومذهب الشافعي أنها لا تكره أيضًا، فإن الثوب الأحمر ¬

_ = خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن تعرف". البخاري (12)، ومسلم (39)، وابن ماجه (3253)، والنسائي (8/ 107)، وأبو داود (5194)، وشرح السنة (3302)، وأحمد (2/ 169). (¬1) في ن هـ (الثامن). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) العبارة هكذا في شرح مسلم (14/ 32) حتى قال أصحابنا لو كانت (فص) وهنا (سن) الخاتم ذهبًا أو كان مموهًا بذهب يسير فهو حرام، لعموم الحديث الآخر في الحرير والذهب. اهـ. محل المقصود منه. (¬4) في ن هـ (التاسع)، إلى آخر الأحكام.

لا كراهة فيه عندنا. وحكى القاضي (¬1) عن بعض العلماء كراهتها، لئلا يظنها الرائي من بعيد حريرًا، وقد أسلفنا عن يزيد بن رومان أنها جلود السباع. الثاني عشر: تحريم استعمال القسّي في حريرًا أو أكثره حريرًا، وإلاَّ كان مكروهًا كراهة تنزيه. الثالث عشر: تحريم الإِستبرق والديباج وسائر أنواع ثياب الحرير على الرجال. تنبيهات: أحدها: هذه المنهيات كلها للتحريم على ما قررناه. وأما الأوامر فبعضها للوجوب، وبعضها للندب، كما قررناه. وحقيقة الأمر لم يجاب، ففيه إذن جمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد، وفيه خلاف الأصوليين. ومن قال: بالمنع قد تكون الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو مطلق الطلب ولا يكون دالًا على أحد الخاصين الذي هو الوجوب أو الندب، فتكون اللفظة استعملت في معنى واحد. ثانيها: إخبار الصحابي عن الأمر والنهي على مراتب: أولاها: أن يحكي صيغة لفظ الشارع. وثانيها: كما في هذا الحديث، وهو مثل المرتبة الأولى على المختار في العمل به أمرًا ونهيًا، وإنما نزل عن الأولى لاحتمال أن ¬

_ (¬1) ذكره في شرح مسلم (14/ 33).

يكون ظن ما ليس بأمر أمرًا، إلَّا أن هذا الاحتمال مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. ثالثها: "أُمرنا" و"نُهينا" كالمرتبة الثانية على المختار عند الجمهور، وإنما نزلت عنها لاحتمال آخر يخصها، وهو أن يكون الآمر غير الشارع وهر مرجوح أيضًا، وقد أسلفنا الكلام على هذه المرتبة في باب الآذان أيضًا. ثالثها: يجب أن نفرق بين الجمع في الخبر وبين الخبر عن الجمع، كما نبه عليه الشيخ تقي الدين في "شرح الإِلمام" فإن الخبر قد يقع عن أمور متعددة في أوقات مختلفة، يجمعها الراوي في أخبار، كما لو رأى رجلًا يأكل ويشرب ويتكلم ويصلي في أوقات مختلفة، فأخبر عن الجميع، فقد جمع في خبره بين هذه الأمور وإن كانت متفرقة غير مجتمعة بالنسبة إلى وقت الفعل. وأما الخبر عن الجمع: كان يكون الفاعل قد فعل أشياء في وقت واحد أو حال واحدة، فقد أخبر عن الجمع، والجمع في الخبر أعم من الخبر عن الجمع, لأنه متى ثبت الخبر عن الجمع ثبت الجمع في الخبر، ولا ينعكس، ويترتب على هذا فوائد حكمية في غير ما موضع مثل قول الراوي: مسح على ناصيته وعلى عمامته وفرضنا أنه لم يدل دليل على الجمع بينهما في وضوء واحد، فإذا أردنا أن نستدل به على أن من مسح بعض رأسه كمل على العمامة، أو أردنا أن نجعله قرينة دالة على وجوب التعميم، كما فعله المالكية لم يتم ذلك لجواز أن يكون ذلك جمعًا في الخبر لا خبرًا عن

الجمع، ويكون الشارع فعل ذلك في وقتين مختلفين، وحينئذٍ لا يدل على التكميل، ولا تتم القرينة، وكذلك لو أراد من يجيز المسح على العمامة من غير مسح الشعر أو بعضه أن يستدل بمثل هذه الصيغة. [قوله] (¬1): "وعلى عمامته" لا اعتراض عليه [بأنه] (¬2) يجوز أن يكون خبرًا عن الجمع أي جمع بينهما في وقت واحد، فلا يكون دليلًا على جواز الاكتفاء بالمسح على العمامة، وإنما قلنا مثل قول الراوي على ناصيته وعمامته، وفرضنا أنه لم يدل دليل على الجمع بينهما في وضوء واحد, لأن الظاهر من رواية المغيرة أنه في وضوء واحد، وإنَّا قصدنا بها بيان الطريق بضرب من المثال، وما يترتب على هذه القاعدة في هذا الحديث، أنه هل استعمل اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه أم لا من جهة الراوي؟ فإنه لما قال: أمرنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -. احتمل أن يكون جمعًا في الخبر، لا خبرًا عن الجمع، واحتمل أن يكون جمعًا في خبر الشارع. قد تعددت صيغة الأمر في لفظة من جهة إلى بعض هذه الأمور دون بعض، فأمر ببعضها بصيغة مفردة له، وأمر بآخر بصيغة مفردة، وأراد بإحداها الوجوب، وبالأخرى الندب، فلا يلزم [أن يكون] (¬3) لفظ واحد استعمل حقيقته ومجازه. وأما لفظ الراوي وهو قوله "أمرنا" فهل يكون مستعملًا فيها؟ فيه نظر دقيق، فيلمح هذا ما قيل في علم الأصول: أن مدلول اللفظ قد يكون لفظًا وتأمله. و¬

_ (¬1) في الأصل (رابعها)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ (أنه). (¬3) زيادة من ن هـ.

[مما] (¬1) يترتب على ذلك أيضًا أنه قال: "وعن الحرير والاستبرق والديباج". ولقائل أن يقول: ما الفائدة من التكرار وكله حرير. فيقال: فيه إنما يكون تكرارًا لو كان إخبارًا عن الجمع بمعنى أنه أخبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن هذه الثلاثة في وقت واحد، فحينئذٍ يحتاج إلى الجواب، وإظهار الفائدة في الجمع بين النهي عنها مع إمكان الاكتفاء بذكر الحرير، أما إذا كان جمعًا في الإِخبار بأن يكون سمع النهي عن الحرير في وقت، وعن الاستبرق في وقت، وعن الديباج في وقت. فلا يلزم طلب الفائدة, لأن السؤال إنما يقرب إذا كان النهي عن الجمع في وقت واحد. رابعها: هذا الذي ذكره الصحابي في جانب الأمر يتعلق النظر فيه بالأمر والمأمور [والمأمور] (¬2) لأجله، لأنها كلها حقوق المسلم على أخيه على رواية المقسم. فأما الأمر: فينظر فيه هل هو على الوجوب أو الندب؟ وأما المأمور به: فهم المخاطبون فينظر هل تناولهم الأمر على الأعيان أو على الكفاية؟ وأما المأمور من أجله: فينظر في عمومه وخصوصه وينشأ من هذا الإِنظار أقسام متعددة بعضها يتعذر الحمل عليه وبعضها ممكن ويتوقف على الدليل. ¬

_ (¬1) في ن هـ (وما). (¬2) في ن هـ ساقطة.

الأول: أن يكون الأمر للوجوب على الأعيان [والعموم] (¬1) بالنسبة إلى المأمور من الجملة. ثانيها: أن يكون الوجوب على الأعيان لا على العموم بالنسبة إلى [أفراد] (¬2) المأمور من أجله. [ثالثها] (¬3): أن تجب على الكفاية لا على العموم بالنسبة إلى أفراد المأمور من أجله. [رابعها] (¬4): أن يكون الأمر للندب وتكون فيه هذه الأقسام كلها، وهذه الأقسام كلها تجري في كل نوع من هذه السبعة المذكورة في الحديث فتزيد الأقسام فترتقى إلى ستة وخمسين قسمًا من ضرب ثمانية في سبعه، نبه على ذلك الشيخ تقي الدين في الشرح المذكور وبسطه بسطًا بليغًا فوصل وجوه الكلام عليه فوق الأربعمائة فليراجع منه. ¬

_ (¬1) في ن هـ (لا على العموم). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في الأصل (رابعها)، وما أثبت من ن هـ. (¬4) في ن هـ (خامسها)، وما أثبت من الأصل.

الحديث الخامس

الحديث الخامس 414/ 5/ 79 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب، فكان يجعل فصَّهُ في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس كذلك، ثم إنه جلس [على المنبر] (¬1) فنزعه، فقال: إني كنت ألبسُ هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخلٍ، فرمى به، ثم قال: والله لا ألبسُهُ أبدًا. فنبذ الناس خواتيمهم" (¬2). وفي لفظ "جعله في يده اليمنى". الكلام عليه من وجوه: الأول: الأصل في "اصطنع" "اصتنع" بالتاء أبدلت بها, لأنها من مخرجها. الثاني: الخاتم فيه لغات، وقد سبقت في الحديث قبله. الثالث: "الفَص" بفتح الفاء أفصح من كسرها. ¬

_ (¬1) زيادة من متن إحكام الأحكام والبخاري. (¬2) البخاري (5865)، ومسلم (2091)، وأبو داود (4218)، والنسائي (8/ 165، 178)، والترمذي (1741)، وفي الشمائل له برقم (83، 89)، والبغوي (3133، 3134)، والحمدي (675)، وعبد الرزاق (19474)، وأحمد (2/ 146)، والحميدي (675)، والموطأ (936).

و"الكف" مؤنثة، وقيل: مذكر وهو غير معروف، سميت بذلك لأنها تكف عن البدن، أي: تدفع، وقيل: لأن بها تضم وتجمع. الرابع: "نزعه" بفتح الزاي ومضارعه ينزع بكسرها. و"نبذ" طرح، وقد روي عن ابن شهاب أن هذا الخاتم كان من الورق وهو وَهْمٌ، والمعروف من رواياته الأول (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (10/ 319، 321) معلقًا على هذا الوهم: قوله: "إنه رأى في يد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - خاتمًا من ورق يومًا واحدًا؛ وأن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق فلبسوها، فطرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه فطرح الناس خواتيمهم، هكذا روى الحديث الزهري عن أنس، واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه ونسب فيه إلى الغلط لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب اتخاذ الناس مثله إنما هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر، قال النووي تبعًا لعياض: قال جميع أهل الحديث هذا وهم من ابن شهاب لأن المطروح ما كان إلا خاتم الذهب، ومنهم من تأوله كما سيأتي. قلت: وحاصل الأجوبة ثلاثة: أحدها: قاله الإِسماعيلي فإنه قال بعد أن ساقه، إن كان هذا الخبر محفوظًا فينبغي أن يكون تأويله أنه اتخذ خاتمًا من ورق على لون من الألوان وكره أن يتخذ غيره مثله، فلما اتخذوه رمى به حتى رموا به ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه ونقش عليه ما نقش ليختم به. ثانيها: أشار إليه الإِسماعيلي أيضًا أنه اتخذه زينة فلما تبعه الناس فيه رمى به، فلما احتاج إلى الختم اتخذه ليختم به، وبهذا جزم المحب الطبري بعد أن حكى قول المهلب، وذكر أنه متكلف، قال: والظاهر من حالهم أنهم اتخذوها للزينة فطرح خاتمه ليطرحوا، ثم لبسه بعد ذلك للحاجة إلى =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الختم به واستمر ذلك، وسيأتي جواب البيهقي عن ذلك في "باب اتخاذ الخاتم". ثالثها: قال ابن بطال: خالف ابن شهاب رواية قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب في كون الخاتم الفضة استقر في يد النبي - صلي الله عليه وسلم - يختم به الخلفاء بعده، فوجب الحكم للجماعة، وإن وهم الزهري فيه، لكن قال المهلب: قد يمكن أن يتأول لابن شهاب ما ينفي عنه الوهم وإن كان الوهم أظهر، وذلك أنه يحتمل أن يكون لما عزم على إطراح خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة بدليل أنه كان لا يستغني عن الختم على الكتب إلى الملوك وغيرهم من أمراء السرايا والعمال، فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس أن يصطنعوا مثله فطرح عند ذلك خاتم الذهب فطرح الناس خواتيم الذهب، قلت: ولا يخفى وهي هذا الجواب، والذي قاله الإِسماعيلي أقرب مع أنه يخدش فيه أنه يستلزم اتخاذ خاتم الورق مرتين. وقد نقل عياض نحوًا من قول ابن بطال قائلًا: قال بعضهم: يمكن الجمع بأنه لما عزم على تحريم خاتم الذهب اتَّخذ خاتم فضة فلما لبسه أراه الناس في ذلك اليوم ليعلموا إباحته ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله: "فطرح خاتمه وطرحوا خواتيمهم" أي التي من الذهب. وحاصله أنه جعل الموصوف في قوله: "فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم"، خاتم الذهب وإن لم يجرِ له ذكر. قال عياض: وهذا يسوغ أن لو جاءت الرواية مجملة. ثم أشار إلى أن رواية ابن شهاب لا تحتمل هذا التأويل، فأما النووي فارتضى هذا التأويل وقال: هذا هو التأويل الصحيح، وليس في الحديث ما يمنعه. قال: وأما قوله: "فصنع الناس الخواتيم من الورق فلبسوها"، ثم قال: "فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم"، فيحتمل أنهم لما علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يصطنع لنفسه خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم خواتيم الفضة وبقيت معهم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خواتيم الذهب كما بقي معه خاتمه إلى أن استبدل خاتم الفضة وطرح خاتم الذهب فاستبدلوا وطرحوا. اهـ. وأيَّده الكرماني بأنه ليس في الحديث أن الخاتم المطروح كان من ورق بل هو مطلق، فيحمل على خاتم الذهب أو على ما نقش عليه نقش خاتمه، قال: ومهما أمكن الجمع لا يجوز توهيم الراوي. قلت: ويحتمل وجهًا. رابعها: ليس فيه تغيير ولا زيادة اتخاذ وهو أنه اتخذ خاتم الذهب للزينة فلما تتابع الناس فيه وافق وقوع تحريمه فطرحه، ولذلك قال: "لا ألبسه أبدًا"، وطرح الناس خواتيمهم تبعًا له، وصرَّح بالنهي عن لبس خاتم الذهب كما تقدم في الباب قبله، ثم احتاج إلى الخاتم لأجل الختم به فاتخذه من فضة ونقش فيه اسمه الكريم فتبعه الناس أيضًا في ذلك فرمى به حتى رمى الناس تلك الخواتيم المنقوشة على اسمه لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه بوقوع الاشتراك، فلما عدمت خواتيمهم برميها رجع إلى خاتمه الخاص به فضار يختم به، ويشير إلى ذلك قوله في رواية عد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي قريبًا في باب الخاتم في الخنصر "إنا اتخذنا خاتمًا ونقشنا فيه نقشًا فلا ينقش عليه أحد"، فلعل بعض من لم يبلغه النهي أو بعض من بلغه ممن لم يرسخ في قلبه الإِيمان من منافق ونحوه اتخذوا ونقشوا فوقع ما وقع ويكون طرحه له غضبًا ممن تشبه به في ذلك النقش، وقد أشار إلى ذلك الكرماني مختصرًا جدًا، والله أعلم. وقول الزهري في روايته إنه رآه في يده يومًا لا ينافي ذلك، ولا يعارضه قوله في الباب الذي بعده في رواية حمد "سئل إن هل اتخذ النبي - صلي الله عليه وسلم - خاتمًا؟ قال: أخر ليلة صلاة العشاء -إلى أن قال- فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه"، فإنه يحمل على أنه رآه كذلك في تلك الليلة واستمرَّ في يده بقية يومها ثم طرحه في آخر ذلك اليوم، والله أعلم. وأما ما أخرجه النسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع عن ابن عمر: "اتخذ النبي -صلي الله عليه وسلم - خاتمًا =

الخامس: إنما جعل فصه فيما يلي كفه، لأنه أسلم له، وأصون، وأبعد من الزهو والإِعجاب. السادس: الحديث دال على منع لباس خاتم الذهب، وأن لبسه كان أولًا، وتجنبه كان آخرًا. وعلى إطلاق [لفظ] (¬1) "اللبس" على التختم. وقد قام الإِجماع على إباحة خاتم الذهب للنساء, وعلى تحريمه للرجال، إلَّا ما روي عن أبي بكر بن محمَّد بن محمَّد بن عمرو بن حزم أنه أباحه للرجال، وعن بعضهم أنه مكروه لا حرام. وهذا باطل منهما، وهي محجوجان بالنصوص والإِجماع (¬2). ¬

_ = من ذهب فلبسه ثلاثة أيام" فيجمع بينه وبين حديث أنس بأحد أمرين: إن قلنا إن قول الزهري في حديث أنس: "خاتم من ورق" سهو وإن الصواب خاتم من ذهب، فقوله يومًا واحدًا ظرف لرؤية أنس لا لمدة اللبس، وقول ابن عمر ثلاثة أيام، ظرف لمدة اللبس. وإن قلنا أن لا وهم فيها وجمعنا بما تقدم فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر هذا، ومدة لبس خاتم الورق الأول كانت يومًا واحدًا كما في حديث أيضًا ثم لما رمى الناس الخواتيم التي نقشوها على نقشه، ثم عاد فلبس خاتم الفضة واستمر إلى أن مات. (¬1) في ن هـ (لبس)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (10/ 317): قال عياض: وما نقل عن أبي بكر بن حمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ، والأشبه أنه لم تبلغه السنَّة فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه، وكذا ما روى فيه عن خباب، وقد قال له ابن مسعود: "أما آن لهذا الخاتم أن يلقى؟ فقال: إنك لن تراه عليَّ بعد اليوم" فكأنه ما كان =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بلغه النهي، فلما بلغه رجع. قال: وقد ذهب بعضهم إلى أن لبس للرجال مكروه وكراهة تنزيه لا تحريم كما قال مثل ذلك في الحرير، قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إثبات الخلاف في التحريم، وهو يناقض القول بالإِجماع على التحريم، ولا بدَّ من اعتبار وصف كونه خاتمًا. قلت: التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الإِجماع بعده على التحريم، وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب, من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمَّد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عُبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه، ومن طريق حمزة بن أبي أسيد "نزعنا من يدي أبي أسيد خاتمًا من ذهب" وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة: بسند صحيح عن أبي السفر قال: "رأيت على البراء خاتمًا من ذهب" وعن شيبة عن أبي إسحاق نحوه. أخرجه البغوي في"الجعديات", وأخرج أحمد من طريق محمَّد بن مالك قال: "رأيت على البراء خاتمًا من ذهب فقال: قسم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قسمًا فألبسنيه فقال: إلبس ما كساك الله ورسوله، قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. قلت: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي - صلي الله عليه وسلم -، وقد روى حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله: إلبس ما كساك الله ورسوله، وهذا أولى من قول الحازمي: لعلَّ البراء لم يبلغه النهي. ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد: "كان الناس يقولون للبراء لم تتختم بالذهب، وقد نهى عنه رسول الله - صلي الله عليه وسلم -؟ فيذكر لهم هذا الحديث ثم يقول: =

وخالف في التختم بالفضة، بعض أهل الشام، فكرهه لغير ذي سلطان (¬1)، وروى فيه أثرًا وهو ¬

_ = كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: إلبس ما كساك الله ورسوله"، ومن أدلة النهي أيضًا ما رواه يونس عن الزهري عن أبي أدريس عن رجل له صحبه قال: "جلس رجل إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وفي يده خاتم من ذهب فقرع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يده بقضيب فقال: ألقِ هذا، وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في "باب لبس الحرير"، حيث قال في الذهب والحرير: "هذان حرامان على رجال أمتي حل لإِناثها" وحديث عبد الله بن عمرو رفعه: "من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرَّم الله عليه ذهب الجنَّة". اهـ. (¬1) قال ابن حجر -رحمنا إلَّا وإياه- في الفتح (10/ 325): وقد قال الطحاوي بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي ريحانة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الخاتم إلَّا لذي سلطان" ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلَّا لذي سلطان، وخالفهم آخرون فأباحوه، ومن حجتهم حديث أنس المتقدم: "إنَّ النبي - صلي الله عليه وسلم - لما ألقى خاتمه ألقى الناس خواتيمهم"، فإنه يدل على أنه كان يلبس الخاتم في العهد النبوي من ليس ذا سلطان، فإن قيل هو منسوخ قلنا الذي نسخ منه لبس خاتم الذهب، قلت: أو لبس خاتم المنقوش عليه نقش خاتم النبي - صلي الله عليه وسلم - كما تقدَّم تقريره. ثم أورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يلبسون الخواتم ممن ليس له سلطان انتهى. ولم يجب عن حديث أبي ريحانة. والذي يظهر أنه لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى, لأنه ضرب من التزيُّن، واللائق بالرجال خلافه، وتكون الأدلة الدالة على الجواز هي الصارفة للنهي عن التحريم، ويؤيده أن في بعض طرف نهي عن الزينة والخاتم الحديث، ويمكن أن يكون المراد بالسلطان =

شاذ (¬1). وخالف الخطابي في التختم للنساء بالفضة. وقال: يكره ¬

_ = من له سلطنة على شيء ما يحتاج إلى الختم عليه لا السطان الأكبر، خاصة والمراد بالخاتم ما يختم به فيكون لبسه عبثًا. وأما من لبس الخاتم الذي لا يختم به وكان من الفضة للزينة فلا يدخل في النهي، وعلى ذلك يحمل حال من لبسه، ويؤيده ما ورد من صفة نقش خواتم بعض من كان يلبس الخواتم مما يدل على أنها لم تكن بصفة ما يختم به، وقد سئل مالك عن حديث أبي ريحانة فضحفه وقال سأل صدقة بن يسار سعيد بن المسيب فقال: البس الخاتم، وأخبر الناس أبي قد أفتيتك، والله أعلم]. اهـ. تكملة: جزم أبو الفتح اليعمري أن اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة ويجمع بأنه كان في أواخر السادسة وأوائل السابعة لأنه إنما اتخذه عند أرادته مكاتبة الملوك كما تقدم، وكان إرساله إلى الملرك في مدة الهدنة، وكان في ذي القعدة سنة ست، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجه الرسل في المحرم من السابعة وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك، والله أعلم. (¬1) لفظه من حديث أبي ريحانة رضي الله عنه سمع النبي - صلي الله عليه وسلم - "أنه نهى عن عشر: عن الوشر، والوسم، والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل، وعن مكامعة المرأة المراة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النهبي، وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلَّا لذي سلطان"، قال أبو داود: الذي تفرد به من هذا ذكر الخاتم. أخرجه أبو داود (5049)، والنسائي (5094، 5113)، وأحمد، وهذا لفظ أبو داود وضعفه ابن عبد البر في الاستذكار (26/ 358).

لها إن وجدت الذهب، فإن لم تجده فلتصفره بزعفران وشبهه لما فيه من تشبه النساء بالرجال، وهو حرام، وهو باطل، لا أصل له. السابع: واستحباب جعل فص الخاتم في باطن الكف للاتباع، وقد عمل السلف به وبالظاهر أيضًا، ومنهم ابن عباس (¬1)، لكن الباطن أفضل للاتباع. الثامن: الحلف من غير إستحلاف عند إرادة تقرير الأحكام وتأكيدها. التاسع: استدل بهذا الحديث الأصوليون على مسألة التأسي بأفعاله عليه الصلاة والسلام، فإن الناس نبذوا خواتيمهم، لما رأوه نبذ خاتمه، قال الشيخ تقي الدين (¬2): وهذا لا يقوى عندي في جميع الصور التي تمكن في هذه المسألة، فإن الأفعال التي تطلب التأسي فيها على قسمين: أحدهما: ما كان الأصل أن يمتنع لولا التأسي لقيام المانع منه، فهذا يقوي الاستدلال به في محله. ¬

_ (¬1) من رواية محمَّد بن إسحاق، قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتمًا في خنصره اليمنى، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، قال؟ ولا يخال ابن عباس إلَّا قد كان يذكر أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كان يلبس خاتمه كذلك". أخرجه أبو داود (4229). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 497).

والثاني: ما [لا] (¬1) [يمنع] (¬2) فعله، لولا التأسي، كما نحن فيه، فإن أقصى ما في الباب أن يكون لبسه حرام على الشارع، دون الأمة، ولا يمتنع حينئذٍ، أن يطرحه من أُبيح له لبسه، فمن أرإد أن يستدل بمثل هذا على التأسي فيما الأصل منعه -لولا التأسي- فلم يفعل جيدًا، [(¬3)]، لما ذكرته من الفرق الواقع. [العاشر] (¬4): التختم في اليد اليمنى ولا يقال: إنه منسوخ لكونه رمى به؛ لأن الرمي نسخ بجواز لبسه لكونه ذهبًا، لا لكون التختم في اليمين بغير الذهب لا يسوغ، فالمنسوخ الحكم، لا وصف الحكم، وقد ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام تختم في اليمين (¬5) واليسار (¬6) في الخنصر، ونهى عن التختم في ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) في ن هـ (يمتنع)، وما أثبت من الأصل وإحكام الأحكام. (¬3) في الأصل (العاشر)، وما أثبت من ن هـ. وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬4) في الأصل (الحادي عشر) , وما أثبت من ن هـ إلى آخر الأوجه. (¬5) من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن أن النبي - صلي الله عليه وسلم - "كان يتختم في يمينة". أخرجه أبو داود (4226)، والترمذي في الشمائل (90)، والترمذي (1742)، قال محمد بن إسماعيل: حديث محمد بن إسحاق عن الصلت بن عبد الله بن نوفل: حديث حسن [وفي نسخة] حسن صحيح. اهـ النسائي (5206). (¬6) من رواية أن بن مالك رضي الله عنه قال: "كان خاتم النبي - صلي الله عليه وسلم - في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى" مسلم (2095)، والترمذي (1743).

الوسطى والتي تليها يعني السبابة، كما جاء في رواية أخرى (¬1). وأجمع المسلمون: على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر [وأما المرأة فإنها تتخذ خواتيم في أصابع. والحكمة في كونه في الخنصر:] (¬2) أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد كونه طرفًا، ولكونه لا يشغل اليد على تناوله من اشتغالها بخلاف غير الخنصر، ويكره للرجل جعله في الوسطى والتي تليها كراهة تنزيه للنهي السالف ولا يبعد القول بالتحريم إذا جرت عادة النساء بذلك، وقد حكى الخوارزمي (¬3) من الشافعية في "كافيه" وجهين في تحريم ذلك، حكاهما فيما إذا لبسه في غير المختصر، وقال القرطبي (¬4) في "شرحه" لو تختم في البنصر لم يكن ممنوعًا، ¬

_ (¬1) من حديث علي رضي الله عنه قال: "ونهاني أن أضع الخاتم في هذه أو في هذه للسبابة والوسطى" شك عاصم، لفظ أبو داود والبخاري معلقًا في باب لبس القسي. الفتح (10/ 292)، والتغليق (5/ 62)، ومسلم (2078)، والنسائي (5378)، والترمذي (7187)، وابن ماجه (3648)، يعني: الخنصر والإِبهام، ولعله وهم لأن رواية مسلم لم تنص على الخنصر. (¬2) زيادة من ن هـ وشرح مسلم (14/ 71). (¬3) هو محمود بن محمَّد بن العباس بن رسلان الخوارزمي أبو محمَّد ولد بخوارزم في رمضان سنة اثنتين وتسعين -بتقديم التاء- وأربعمائة، من مؤلفاته الكافي, تاريخ خوارزم، توفي في رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة ترجمته في طبقات ابن شهبة (2/ 19)، وهدية العارفين (2/ 403)، وطبقات السبكي (7/ 289). (¬4) المفهم (5/ 414).

قال: المنهي عنه الوسطى والسبابة وهذه ظاهرية منه. وجاء فيهما حديثان صحيحان. قال البخاري (¬1): والأصح في اليمين، وهو الأصح عند الشافعية أيضًا, لأنه زينة واليمين أشرف وأحق بالزينة والإِكرام وتختم كثيرون من السلف فيه وكثيرون في اليسار، واستحبه مالك، وكره اليمين صيانةً له، وادعى البغوي في "شرحه" (¬2) أنه كان آخر الأمرين من رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، ولا ينبغي أن يحمل ذلك على النسخ، وإنما هو أمر اتفاقي ويعارض هذا ما روي عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يتختم في يمينه وقُبِضَ والخاتم في يمينه، وذكر الزمخشري (¬3) في "ربيع الأبرار" (¬4) أنه عليه الصلاة والسلام كان يتختم في يمينه والخلفاء بعده، فنقله معاوية إلى اليسار، فأخذ المروانية بذلك، ثم نقله السفاح إلى اليمين فبقي إلى أيام الرشيد فنقله إلى اليسار، فأخذ الناس بذلك. ¬

_ (¬1) ذكره الترمذي في جامعه (1174)، كتاب اللباس، باب: ما جاء في لبس الخاتم في اليمين. (¬2) شرح السنة (12/ 58). (¬3) هو الإِمام أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي الملقب بجار الله، وُلد سنة سبع وستين وأربعمائة المتوفي سنة ثمان وثلاثون وخمسائة "بجرجانية" ليلة عرفة، له مصنفات منها: أساس البلاغة، الكشاف, ربيع الأبرار. ترجمته في: إنباء الرواة على أنباء النحاة للقفطي (3/ 265، 272)، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (7/ 137، 150). (¬4) ربيع الأبرار ونصوص الأخبار (4/ 24).

الحديث السادس

الحديث السادس 415/ 6/ 79 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - "نهى عن لبوس الحرير إلَّا هكذا، ورفع لنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أصبعيه السبابة، والوسطى". ولمسلم: "نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لبس الحرير إلَّا موضع إصبعين، أو ثلاثٍ، أو أربع" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذه الزيادة مما استدركها الدارقطني (¬2) على مسلم، وقال: لم يرفعها عن الشعبي إلَّا قتادة وهو مدلس، وقد رواه جماعة ¬

_ (¬1) البخاري (5828)، ومسلم (2069)، وأبو داود (4042)، والترمذي (1721)، وابن ماجه (3593)، وأحمد (1/ 51)، والبيهقي (2/ 423). (¬2) الإِلزامات والتتبع (382). انظر: جواب النووي في شرحه (14/ 48)، والفتح (10/ 285، 286)، وقد أشار ابن حجر بأن الدارقطني نبه على أن هذا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين، قال ذلك بعد أن استدركه عليهما وفي ذلك رجوع عن الاستدراك عليهما، والله أعلم. اهـ.

من الأئمة الحفاظ موقوفًا (¬1) على عمر، وجواب هذا أن الرفع مقدم عليه على الصحيح عند الفقهاء والأصوليين ومحققي المحدثين، لأنها زيادة من ثقة فقدمت. ثانيهما: "لبوس" بفتح اللام. و"الإِصبع" فيه عشر لغات أفصحها كسر الهمزة وفتح الباء قاله ابن السيد. "والسبابة" التي تلي الإِبهام، سميت بذلك لأنه يشار بها عند السب. ثالثها: هذا الحديث جمع فيه - صلى الله عليه وسلم - بين النهي عن لبس الحرير وما رخص فيه ومقداره، وفيه الرد على من يوسع فيه بالزيادة على أربعة أصابع، والمراد بالأصابع أصابع الآدمي لا أصابع الذراع الهاشمي وفي إشارته عليه الصلاة والسلام بإصبعيه ما يفهم ذلك. رابعها: توسع الفقهاء باعتبار الوزن، أو الظهور في المركب من الحرير وغيره، ولا بد لهم من الاعتذار عن هذا الحديث: إما بتأويل, أو بتقديم معارض. خامسها: يدخل في الإِباحة العلم في الثوب والعمامة وغيرهما، إذا لم يزد على أربع أصابع، وهو مذهب الشافعي والجمهور. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 357)، والنسائي في الكبرى (9626 - 9634).

وعن مالك رواية تمنعه، وهو قول ابن عمر، وعن بعض أصحابه، رواية بإباحة العلم، بلا تقدير أربع أصابع، بل يجوز وإن عظم، ويردهما صراحة هذا الحديث. سادسها: يدخل في النهي عن لبوس الحرير جميع الملبوسات: قبعًا، وكلوبة وقباء وغيرهما إلَّا ما استثني من ذلك للضرورة والحاجة.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد

80 - باب الجهاد

80 - باب الجهاد هو مأخوذ من الجَهد -بفتح الجيم- وهو التعب والمشقة -وبضمها- الطاقة بلغ جُهده -أي طاقته-، فالمجاهد في سبيل [الله] (¬1) هو البالغ في إتعاب نفسه في ذات الله وإعلاء كلمته التي جعلها طريقًا إلى الجنة وسبيلًا إليها، ووراء جهاد النفس والسيف جهاد القلب، وهو دفع الشيطان، ونهى النفس عن الهوى وشهواته المحرمة، وجهاد اليد واللسان، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن جملته جهاد القلب، وهو من أفضل الأعمال، لما فيه من بذل النفس في ذات الله تعالى. لا جرم جوزي بأنه حي عند ربه، إلى آخر ما جاء في التنزيل. وذكر المصنف في الباب تسعة عشر حديثًا، وبعضها في الفيء، وبعضها في النفل، وبعضها في المسابقة: ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

الحديث الأول

أولها 416/ 1/ 80 - عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما "أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -في بعض أيامه [التي لقى فيها العدو- انتظر، حتى إذا [زالت] (¬1) الشمس قام فيهم، فقال: "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". ثم قال النبي - صلي الله عليه وسلم -: "اللَّهم منزِّل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم، وانصرنا عليهم"] (¬2). الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه سلف في الأطعمة: وتقدم عليها أن أول غزوة غزاها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ذات العسير أو العشير بالسين المعجمة والمهملة، وهي من أرض [مدلج] (¬3)، ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (مالت). (¬2) في ن هـ ساقطة. والحديث أخرجه البخاري (1600)، ومسلم (1742)، والترمذي (1659)، وأبو داود (2631)، والبيهقي (9/ 152)، وأحمد (4/ 353، 354، 355، 381) , أبو عوانة (4/ 88، 89)، والنسائي في الكبرى (8632)، عبد الرزاق (5/ 249)، وابن أبي شيبة (7/ 647، 695). (¬3) في المخطوط (مذحج)، وما أثبت من طبقات ابن سعد.

وقال ابن سعد (¬1): كان قبلها ثلاث غزوات , يعني غزاها بنفسه، وقال ابن عبد البر في كتاب "الدرر في المغازي والسير" (¬2) أول غزاة غزاها وَدّان غزاها بنفسه في صفر سنة اثنتين من الهجرة، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ وَدَّانَ وادع بني ضمرة، ثم رجع، ولم يلق [حربًا] (¬3)، وهي المسماة بغزوة الأبواء وغزواته، دون الثلاثين، وسرياه فوق الأربعين، وموضع الخوض فيها كتب السير. الوجه الأول: قوله: "انتظر حتى إذا مالت الشمس"، أي: مالت، وجاء في رواية في غير هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام "كان لا يقاتل حتى تزول الشمس" (¬4)، والحكمة في ذلك أنه أمكن للقتال، فإنه وقت هبوب الرياح ونشاط النفوس، وكلما طال ازدادوا نشاطًا وإقدامًا على عدوهم. قاله النووي في "شرح مسلم" (¬5)، قال: قد جاء في البخاري (¬6): "أخّر حتى تهب الرياح، ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد (2/ 8، 9). (¬2) الدرر في المغازي والسير (95)، وطبقات ابن سعد (2/ 8). (¬3) في طبقات ابن سعد (كيد). (¬4) من حديث النعمان بن مقرن رضي الله عنه ولفظه: "كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر"، هذا لفظ الترمذي، البخاري (3159) (1612 - 1613)، وأحمد (5/ 444)، وأبو داود (2655)، والبيهقي (9/ 153) , وابن أبي شيبة (12/ 368)، والحاكم (2/ 116). (¬5) شرح مسلم (12/ 46). (¬6) البخاري (3159).

وتحضر الصلوات"، وسببه ففيلة أوقات الصلاة والدعاء عندها (¬1). وعبارة القاضي في "إكماله" الحكمة في ذلك أنه وقت هبوب الرياح المنشطة لهم، بخلاف قتالهم قبل ذلك، فإنه قد يغشاهم وقت النص الهاجرة، وهم في الحرب وشدته فيشتد عليهم الأمر، فيثبطهم فيؤدي إلى استيلاء العدو عليهم. وقيل: الحكمة أن الزوال وقت هبوب الصبا التي اختص بالنصر بها، قال عليه الصلاة والسلام "نصرت بالصبا" (¬2). الثاني: فيه استحباب المصافة بعد الزوال، كما قررناه. الثالث: إنما نهى عن لقاء العدو، لما فيه من صورة الإِعجاب والاتكال على النفس والوثوق للقوة، وهو نوع بغيٍ، وقد ضمن الله ¬

_ (¬1) وقد جاء مبينًا في سنن الترمذي بقوله قال: "وكان يقال عند ذلك تهيج رياح النصر ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم". (¬2) البخاري (1035)، ومسلم (900)، والبيهقي (3/ 364)، والبغوي (1149)، وأحمد (1/ 223، 373). قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (2/ 521): الصَبا بفتح المهملة بعدها موحدة مقصورة يقال القبول بفتح القاف لأنها تقابل باب الكعبة إذ مهبها من مشرق الشمس، وضدها الدبور وهي التي أهلكت بها قوم عاد، ومن لطيف المناسبة كون القبول نصرت أهل القبول، وكون الدبور أهلكت أهل الإِدبار، وأن الدبور أشد من لصبا, -إلى أن قال- ولما علم الله رأفة نبيه بقومه رجاء أن يسلموا سلط عليهم الصبا ... إلخ. والصبا هي الرياح الشرقية. الدبور: الرياح الغربية. اهـ من الفتح (7/ 402).

تعالى لمن بغي عليه أن ينصره، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم وتأوله بعضهم على النهي عن التمني في صورة خاصة، وهي إذا شك في الصحة فيه وحصول ضرر وإلاَّ فالقتال كله فضيلة وطاعة، والصحيح الأول، ولهذا نَبَّهَ عليه الصلاة والسلام عقب نهيه بقوله: "واسألوا الله العافية"، أي: فإنه لا يعدلها شيء، وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤالها، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات، [دينًا] (¬1) ودنيا وأخرى، أدامها الله علينا [بمنه وكرمه] (¬2). رابعها: فيه كراهة تمني لقاء العدو، كما قررناه، قال الشيخ تقي الدين (¬3): لما كان لقاء الموت من أشق الأشياء وأصعبها على النفوس من وجوه كثيرة، وكانت الأمور المقدرة عند النفس ليست كالأمور المحققة لها، خُشي أن لا تكون عند التحقيق كما ينبغي، فكره [تمنيه] (¬4) لذلك، ولما فيه -إن وقع- من احتمال المخالفة لما وعد الإِنسان من نفسه، ثم إمر بالصبر عند وقوع الحقيقة، وقد أصح، (¬5) النهي عن تمني الموت مطلقًا لضُرٍّ نزل به. وفي الحديث [الآخر] (¬6): "لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) إحكام الأحكام (4/ 500). (¬4) في المرجع السابق (تمني لقاء العدو). (¬5) في المرجع السابق (ورد). (¬6) غير موجودة في المرجع السابق.

شديد (¬1)، وفي الجهاد زيادة "على مطلق الموت". هذا آخر كلامه. قال ابن عباس: ولم يتمن [نبي] (¬2) الموت غير يوسف عليه الصلاة والسلام (¬3)، وقال غيره: إنما تمنَّى الوفاة على الإِسلام ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 331) من حديث جابر بن عبد الله وأخرجه البزار كما في الكشف (78/ 4، 152)، قال الهيثمي: في المجمع (10/ 199)، رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك (الرؤاسي) صوابه: (الراسبي)، وضعفه غير واحد، ووثقه ابن حبان، وقال: يغرب ويخطىء، وبقيه رجاله رجال الصحيح وقال أيضًا: (10/ 334) رواه أحمد والبزار وإسنادهما جيد. اهـ. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) تفسير الطبري (16/ 279)، وقال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (10/ 128): على باب تمني المريض الموت وقال أيضًا (10/ 130): قوله: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه): الخطاب للصحابة، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عمومًا، وقوله: "من ضر أصابه" حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي، فإن وجه الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا" على أن "في" في هذا الحديث سببية، أي بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة: ففي "الموطأ" عن عمر أنه قال: "اللَّهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وإنتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عمر، وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال: "يا طاعون خذني. فقال له =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عليم الكندي: لِمَ تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: لا يتمنين أحدكم الموت؟ فقال: إني سمعته يقول: بادروا بالموت ستًا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم ... " الحديث. وأخرج أحمد أيضًا من حديث عوف بن مالك نحوه وأنه "قيل له: ألم يقل رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: ما عمر المسلم كان خيرًا له ... " الحديث، وفيه الجواب نحوه، وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه: "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون". اهـ. (قوله: (باب تمني المريض الموت)، أي هل يمنع مطلقًا أو يجوز في حالة؟ ووقع في رواية الكشميهني نهى تمني المريض الموت، وكأن المراد مغ تمني المريض. وذكر في الباب خمسة أحاديث: الحديث الأول عن أنس. قوله: (ولا يتمنى) كذا للأكثر بإثبات التحتانية، وهو لفظ نفي بمعنى النهي. ووقع في رواية الكشميهني: "لا يتمنَ" على لفظ ابن، ووقع في رواية معمر الآتية في التمني بلفظ: "لا يتمنى" للأكثر، وبلفظ: "لا يتمنين" للكشميهني , وكذا هو في رواية همام عن أبي هريرة بزيادة نون التأكيد، وزاد بعد قوله أحدكم الموت: "ولا يدع به من قبل أن يأتيه" وهو قيد في الصورتين، ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك وهو كذلك، لهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة: "اللَّهمَّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت، فللَّه درَّه ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الأجلى شحذًا للأذهان. وقد خفى صنيعه هذا على من جهل حديث عائشة في الباب معارضًا لأحاديث الباب أو ناسخًا لها؛ وقوى ذلك بقول يوسف عليه السلام: =

لا الموت وقد ورد عنه [عليه الصلاة والسلام] (¬1) في بعض أدعيته: "وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" (¬2): وروى عن ¬

_ = {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}، قال ابن التين: قيل أن النهي منسوخ بقول يوسف فذكره: وبقول سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}، وبحديث عائشة في الباب، وبدعاء عمر بالموت وغيره. قال: وليس الأمر كذلك لأن هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت. قلت: وقد اختلف في مراد يوسف عليه السلام، فقال قتادة: لم يتمن الموت أحد إلَّا يوسف حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء الله، أخرجه الطبراني بسندٍ صحيح عنه. وقال غيره: بل مراده توفني مسلمًا عند حضور أجلي، كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم، وكذلك مراد سليمان عليه السلام. وعلى تقدير الحمل على ما قال قتادة فهو ليس من شرعنا، وإنما يؤخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه بالاتفاق، وقد استشكل الإِذن في ذلك عد نزول الموت لأن نزول الموت لا يتحقق، فكم من انتهى إلى غاية جرت العادة بموت من يصل إليها ثم عاش. والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال من يتمنى نزوله به ويرضاه أن لو وقع به، والمعنى أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه ويرضى به ولا يقلق، ولو لم يتفق أنه يموت في ذلك المرض). اهـ. (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) من رواية ابن عباس عند أحمد (1/ 368)، والترمذي (3233، 3234)، قال في تحفة الأشراف النكت الظراف (382)، وقال محمَّد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة: هذا حديث اضطرب الرواة في إسناده، وليس يثبت عند أهل المعرفة، اهـ. السنَّة لابن أبي عاصم (1/ 204)، والتوحيد لابن خزيمة (538)، والشريعة للآجري (496)، والمنتخب لعبد بن حميد =

[(¬1)] عمر أنه قال: "قد رق عظمي وانتشرت رعيتي فتوفني غير [مقصر] (¬2) ولا [عاجز] (¬3) " (¬4). فإن قلت: إذا كان الجهاد طاعة فكيف ينهى عن تمنيها. قلت: وقد أجيب عن هذا بإن المنهي عنه التهاون بأمر العدو وعدم أخذ الحذر منه كما مضى. ¬

_ = (1/ 228)، والأسماء والصفات للبيهقي (379)، والعلل لابن أبي حاتم (1/ 20)، والرؤية للدارقطني (332، 326). ومن رواية معاذ بن جبل: عند أحمد (5/ 243)، والترمذي (3253)، قال: سألت محمَّد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح ... إلخ كلامه، الأسماء والصفات للبيهقي (380) , والطبراني في الكبير (20/ 109، 141)، والوحيد لابن خزيمة (540)، والدارقطني في الرؤية (). وقد روي عن جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عايش (مختلف في صحبته)، وقد روى عنه عن بعض أصحاب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - السنة لابن أبي عاصم (1/ 204)، الشريعة للآجري (497)، والدارمي في السنن (2/ 126)، وأحمد (5/ 378)، والرؤية الدراقطني (316)، وعن ثوبان في السنة لابن أبي عاصم (1/ 204)، والتوحيد لابن خزيمة (543)، والرؤية للدارقطني (340)، والبغوي في السنة (4/ 38)، وأبي أمامة في السنة لابن أبي عاصم (1/ 170، 203)، والرؤية للدارقطني (333، 336)، والطبراني في الكبير (8/ 349). (¬1) في ن هـ زيادة (ابن)، وهو خطأ. (¬2) في الموطأ (مضيِّع). (¬3) المرجع السابق (مُفَرِّط). (¬4) الموطأ (2/ 824).

قال القاضي: هو بمعنى نهي أمته عن تمني المكاره، ولهذا كان السلف الصالح يتمنون من الله تعالى العافية من الفتن والمحن، لاختلاف الناس في الصبر عند نزولها, ولهذا قال في الحديث متصلًا به "واسألوا الله العافية". خامسها: استدل به بعضهم على منع طلب المبارزة, لأنها من تمني لقاء العدو، ولكن إن دعي إليها أجاب: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن له: يا بني لا تدعُ أحدًا إلى المبارزة، ومن دعاك إليها فأخرج إليه، فإنه باغٍ، وقد ضمن الله نصر من بُغِي عليه" (¬1). سادسها: قوله: "فإذا لقيتموهم فاصبروا" أمر بالصبر عند وقوع الحقيقة، وحثَّ على الصبر في القتال، وهو كظم ما يؤلم من غير إظهار شكوى ولا جزع، وهو الصبر الجميل، وهو آكد أركانه، وقد جمع الله تعالى آداب القتال في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} (¬2)، إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)} (¬3)، وقد جاءت آيات في الحث على الصبر، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} (¬4)، ومنها قوله تعالى: [{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} (¬5)] (¬6). ¬

_ (¬1) ذكرها في إكمال إكمال المعلم (5/ 54). (¬2) سورة الأنفال: آية 45. (¬3) سورة هود: آية 92. (¬4) سورة البقرة: آية 153. (¬5) سورة النحل: آية 126. (¬6) في ن هـ ({لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}).

سابعها: قوله: "واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، هذا من المجاز البليغ الحسن جدًا، فإن ظل الشيء لما كان ملازًا، جعل ثواب الجنة واستحقاقها بسبب الجهاد، وإعمال السيوف لازم لذلك، كما يلزم الظل، وهذا نظير "الجنة تحت أقدام الأمهات"، وكما في تخصيص السيوف دون آلات الحرب، لكونها الغالب مما يقاتل به، فإنها أسرع إلى الزهوق، وقال القاضي عياض: قيل: معنى الحديث إن ثواب الجهاد تحت ظلال السيوف, لأن معظم الجهاد بها , ولكونها تظل صاحبها عند رفعها للضرب بها غالبًا، وقيل: معناه دُنُوُّ الأقران من الأعداء حتى يكونوا جميعًا تحت ظلال السيوف، ولا يفرون، لأن كل من دنا منك فقد أظلك، وإلى نحو هذا أشار الخطابي (¬1)، وقال النووي (¬2): معناه ثواب الله، والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله ومشي المجاهدين في سبيله فاحضروا فيه بصدق واثبتوا. ثامنها: قوله "اللهم منزل الكتاب" إلى آخره، أشار بالكتاب إلى نصره على من خالفه، قال تعالى: {قتلُوهُمْ يُعَذِّبهم الله} (¬3) الآية. وأشار بِـ"مجري السحاب" إلى شدة الأخذ وسرعة البطش وهذا الدعاء إشارةً إلى ثلاثة أسباب يطلب لها الإِجابة. ¬

_ (¬1) معالم السنن (3/ 430). (¬2) شرح مسلم (12/ 46). (¬3) سورة التوبة: آية 14.

أحدها: طلب النصر بالكتاب المنزل، وعليه يدل قوله: "منزل الكتاب"، كأنه قال كما أنزلته فانصره وأعله، وأشار إلى القدرة بقوله: "ومجري السحاب". وأشار إلى أمرين بقوله: "وهازم الأحزاب". أحدهما: التفرد بالفعل وتجريد التوكيل واطراح الأسباب واعتقاد أن الله هو الفاعل. والثاني: التوسل بالنعمة السابقة إلى النعمة اللاحقة، وقد ضَمَّن الشعراء هذا المعنى أشعارهم بعد ما أشار إليه كتاب الله حكاية عن زكرياء عليه الصلاة والسلام ليس قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)} (¬1)، وعن إبراهيم عليه السلام في قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} (¬2)، وقال الشاعر: كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقى وقال آخر: قالوا نلت به وأنت في هذا التمادي ... فأجبتهم حسن الرجاء وملة الإِسلام زادي [لولاو] (¬3) الذي قدمن [بالإِيمان] (¬4) يثلج في فؤادي ... ما كان يختم بالإِساءة وهو بالإِحسان بادي ¬

_ (¬1) سورة مريم: آية 4. (¬2) سورة مريم. آية 47. (¬3) في الأصل: (لا و). (¬4) في ن هـ وضع فوقها (بالإِسلام)، وأثبت (الإِيمان) فوقها.

ومراده بالإِساءة ما يسوء الشخص بعد الإِحسان إليه، فإن [الله] (¬1) تعالى مالك لعبيده، يفعل ما يريد فلا يوصف بكونه أساء، ويحتمل الحديث معنى آخر وهو التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث، فإن بإنزال الكتاب، وإعجازه حصلت النعمة الأخروية وهي الإِسلام، قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} (¬2)، و"مجري السحاب" حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} (¬3)، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظها، فإن فائدة الجهاد إنما هي إعلاء كلمة الدين وصون المسلمين، فكأنه عليه الصلاة والسلام [يقول] (¬4) اللَّهم كما أنعمت بعظيم نعمتك الأخروية والدنيوية وحفظتهما فأبقهما. تاسعها: فيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار لنا والهزيمة على أعدائنا، وقد ورد أن هذا أحد المواضع التي يستجاب فيها (¬5). عاشرها: ترغيب الإِمام المقابلة عند اللقاء. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) سورة البقرة آية 2. (¬3) سورة الذاريات: آية 22. (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2540)، من رواية سهل بن سعد ولفظه "ثنتان لا تردان، أو قلما تردان (في تحفة الأشراف (4/ 124) - أو قال ما تردان): الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلحم بعضهم بعضًا".

حادي عشرها: [الدعاء] (¬1) بصفات الله التي تناسب طلب الداعي، لقوله: "وهازم الأحزاب، اهزمهم". ثاني عشرها: الصبر عند اللقاء كما مرَّ، فإن النصر مع الصبر، كما جاء في الحديث الآخر (¬2). ثالث عشرها: تعليق الإِمام الناس ما يحتاجون إليه. رابع عشرها: سؤال الله العافية كما مرَّ. خامس عشرها: التنبيه على أسباب الجنة بالضرب بالسيوف. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) في الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 307)، والطبراني في الكبير (11243) من رواية ابن عباس. قال ابن رجب -رحمنا الله وإياه- في كتاب "جامع العلوم والحكم": شرح الحديث التاسع عشر، وقد روي عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه أوصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيدها كلها ضعف وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضها أصلح من بعض، وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة. أقول: أما قوله "فقد روي عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه أوصى ابن عباس إلى أن قال: وعبد الله بن جعفر" فإن رواية عبد الله بن جعفر وصية من النبي - صلي الله عليه وسلم - له كما في الحديث الذي ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وسنده ضعيف (7/ 192). وجاء الأمر بالصبر رواية أنس بن مالك عند الخطب في تاريخه (10/ 287) ولفظه: "والنصر مع الصبر ... " الحديث.

سادس عشرها: سؤال الله تعالى بنعمته السالفة- نعمته اللاحقة. سابع عشرها: مراعاة انشراح النفوس ونشاطها لفعل الطاعة. ثامن عشرها: الحث على سلوك الأدب، وأن الشخص لا ينبغي له أن يثق بنفسه، ولا يدعي شيئًا من القوة والقدرة على لقاء العدو، فإنه لا حول ولا قوة إلَّا بالله.

الحديث الثاني

الحديث الثاني 417/ 2/ 80 - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، قال: "رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها. وموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها. والروحة يروحها العبد في سبيل [الله] (¬1)، أو الغدوة: خيرٌ من الدنيا [وما فيها] (¬2) " (¬3). [الرباط: مراقبة العدو في الثغور المتاخمة لبلاده] (¬4). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة. (¬2) ذكر الشارح أنه بهذه السياقة للبخاري في باب فضل رباط يوم في سبيل الله وهنا (فيها)، وفي البخاري: (وما عليها). (¬3) البخاري (2794)، ومسلم (1881)، وأحمد (3/ 433) (5/ 338)، وابن ماجه (2766)، والحميدي (930)، والنسائي (6/ 40) والنسائي في الكبرى (4326)، والترمذي (1664)، وأبو عوانة (5/ 47) والطبراني (6/ 5716، 5858، 5892)، والبيهقي في السنن (9/ 266). (¬4) زيادة من إحكام الأحكام.

أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في أول كتاب الجمعة. ثانيها: هذا الحديث بهذه السياقة للبخاري في الجهاد: في باب فضل رباط يوم في سبيل الله خير. ورواه قبله مختصرًا. ورواه مسلم مختصرًا بلفظ "والغدوة يغدوها في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". ثالثها: روى حديث "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها". رواه مع سهل بن سعد من الصحابة عمر بن الخطاب (¬1) وأنس (¬2) وابن عباس (¬3) والزبير (¬4) وأبو ¬

_ (¬1) السنن الكبرى (3/ 187)، ولفظ: "الغدرة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها"، قال ابن كثير في كتابه "مسند الفاروق" (207) بيه انقطاع. اهـ. (¬2) ولفظه: "غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" البخاري (2792)، وفي مسلم (1880)، وأحمد في المسند (3/ 132، 141، 153، 157، 207، 263، 264)، وأبو عوانة (5/ 47)، وابن أبي شيبة (5/ 286)، والزهد لابن أبي عاصم (242)، وابن ماجه (2/ 2757)، والبغوي (10/ 351، 352)، والترمذي (1165). (¬3) ولفظه: "لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها"، أحمد في المسند (1/ 256)، ومصنف ابن أبي شيبة (5/ 284) (14/ 512)، والترمذي (1649)، والطيالسي (2699)، والطبراني في الكبير (11/ 388)، وابن عساكر في تاريخه تهذيب (7/ 392). (¬4) ولفظه: "لغدوة في سبيل الله وروحة خير من الدنيا وما فيها، البزار (3/ 199)، وأبو يعلى (2/ 39)، والعقيلي في الضعفاء (276/ 3)، =

هريرة: (¬1)، وأبو أيوب (¬2) ومعاوية ابن حديج (¬3)، وأبو حميد (¬4)، ¬

_ = وأورده الدارقطني في العلل (4/ 240، 241)، قال في مجمع الزوائد (5/ 28)، رواه أبو يعلى والبزار وفيه عمرو بن صفوان المزني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. (¬1) ولفظه: "لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها" مسلم (1882)، والبخاري (2793)، وأحمد (2/ 532، 533)، والترمذي (1649)، وابن أبي شيبة (5/ 332)، والزهد لابن أبي عاصم (239، 247). (¬2) ولفظه: "لغدوة في سبيل الله أو روحة في سبيل الله خير مما طلعت عليه الشمس" مسلم (3883)، والنسائي (6/ 15)، والنسائي في الكبرى (3/ 12)، وأحمد (5/ 422)، والترمذي (1648)، أبو عوانة (5/ 48)، وابن أبي شيبة (4/ 560)، وعبد بن حميد (225)، والطبراني في الكبير (4/ 417). (¬3) ولفظه: "غدوة أو روحة في سبيل الله غير من الدنيا وما فيها"، أحمد في المسند (6/ 401)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 1045، 1046، 1047)، قال في مجمع الزوائد (5/ 284)، وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث. (¬4) لم أجده بعد البحث والتحري. أيضًا جاء من رواية أبي الدرداء أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (248). وقد ذكر ابن أبي عاصم في كتابه الجهاد (228) من رواه من الصحابة وأغفل عمر بن الخطاب والزبير، وأبا حميد، وزاد رواية أبي الدرداء. أقول: وجاء من رواية. 1 - أبي أمامة رضي الله عنه عند أحمد (5/ 266)، وسنده ضعيف. 2 - وعبد الله بن بسر رضي الله عنه، ولفظه: "لغدوة أو روحة في =

قاله ابن منده. وهو مخرج في "الصحيحين" من حديث أنس, وأبي هريرة. وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي أيوب. والمصنف ذكره بعد من حديث أنس وأبي أيوبَ كما ستعلمه. رابعها: "الرباط" مراقبة العدو في الثغور المتاخمة لبلادهم بحراسة من بها من المسلمين، وهو في الأصل الإِقامة على الجهاد. وقد يطلق على كل مقيم على طاعة: كالطهارة والصلاة وغيرهما من العبادات. ومنه الحديث الصحيح (¬1) المشهور في إسباغ الوضوء على المكاره وغيره: "فذلكم الرباط"، وهو مصدر رابطت أي لا زمت. وقيل: هو اسم لما يربط به الشيء، أي: يشد فكان المرابط في الثغور وغيرها ربط نفسه عن الاشتغال بغيرها من المخالفات وحظوظ النفوس. ¬

_ = سبيل الله خير من تعبد عبد في بيته سبعين عامًا". 3 - عن ابن عمر رضي الله عنهما "غدوة في سببل الله عزَّ وجلَّ خير من خمسين حجة"، عبد الرزاق (5/ 260)، وابن المبارك (2/ 186)، وسنن سعيد بن منصور (3/ 2/ 144). 4 - وجاء مرسلًا من رواية الحسن البصري. (¬1) ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط". رواه مسلم (41)، الترمذي (51).

خامسها: "السبيل" الطريق يذكر ويؤنث. وقد أسلفنا الكلام على السبيل في الحديث الثامن من باب أفضل الصيام وغيره، فراجعه من ثم. سادسها: [قوله] (¬1) "خير من الدنيا وما عليها"، أي: [إن] (¬2) ثواب ذلك خير من نعيم الدنيا كله لو ملكه إنسان، وقصد تنعمه به، لأنه زائل، ونعيم الآخرة باق، ولو لم يكن منه إلَّا النظر إلى وجهه الكريم لكان كافيًا، نسأل الله أن لا يحرمنا إياه. وقيل: في معناه ومعنى نظائره من تمثيل أمور الآخرة وثوابها بأمور الدنيا: أنها خير من الدنيا وما فيها, لو ملكها إنسان وملك ما فيها وأنفقها في أمور الآخرة حكاه القاضي (¬3) قال: هذا القائل وليس تمثيل الباقي بالفاني على ظاهره، أي: لأنه لا يقاس به، وإنما يقع التفضيل من علتين أخروتين باقيتين. وقال الشيخ تقي الدين (¬4): فيه وجهان: أحدهما: أن يكون من باب تنزيل الغيب منزلة المحسوس، تحقيقًا له وتثبيتًا في النفوس، فإن ملك الدنيا ونعيمها ولذاتها محسوسة، مستعظمة في طباع النفوس فحقِّق عندها أن ثواب اليوم ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 226)، وشرح مسلم للنووي (13/ 26، 27). (¬4) إحكام الأحكام (4/ 504).

الواحد في الرباط وهو من المغيبات خير من المحسوسات التي عهد تموها من لذات الدنيا. وثانيها: أنه قد استبعد بعضهم أن يوازن شيء من نعيم الآخرة بالدنيا كلها، فحمل الحديث أو ما هو في معناه على أن هذا الذي رتب عليه الثواب خير من الدنيا كلها, لو أنفقت في طاعة الله تعالى. وكأنه قصد بهذا أن تحصل الموازنة بين ثوابين أخرويين لاستحقاره الدنيا في مقابلة شيء من الأخرى، ولو [(¬1)] على سبيل التفضيل [(¬2)]، قال الشيخ: والأول عندي أوجه وأظهر. سابعها: سلف الكلام على حقيقة الدنيا وضبطها في أول حديث في الكتاب، وهو حديث: "إنما اعمال بالنيات" [فراجعه من ثم] (¬3). ثامنها: قوله: "ووضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما [عليها] (¬4) " إنما ضرب المثل به لأنه مما يخص القوس لأنه يضرب فرسه في الزحف، ونبه عليه الصلاة والسلام به على أن موضع السوط في الآخرة في غاية النفاسة، وإن كان تافهًا في الدنيا. تاسعها: "الروحة" بفتح الراء: المرة من الرواح أي وقت كان، والمراد به هنا من الزوال إلى الغروب. ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (كان). (¬2) في إحكام الأحكام زيادة (وأكدار، ولا بأضداد وأغيار، بل). (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) متن الحديث في الباب (وما فيها)، وهذا يوافق سباق البخاري كما ذكره.

"والغدوة" بفتح العين: المرة من الغدو، وهو من أول النهار إلى الزوال. أما بالضم فمن صلاة الغداة إلى طلوع الشمس. "وأو" هنا للتقسيم لا للشك. واللفظ مشعر بأنها تكون فعلًا واحدًا، ولا شك أنه قد يقع على اليسير والكثير من الفعل الواقع في هذين الوقتين، ففيه زيادة ترغيب وفضل عظيم. فالروحة تحصل هذا الثواب وكذا الغدوة. قال النووي (¬1): والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدوِّ أو الرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة وروحة في طريقه إلى الغزو، وكذا غدوه ورواحه في موضع القتال, لأن الجميع يسمى كدوة وروحة في سبيل [الله] (¬2)، [عاشرها] (¬3): صحف بعض الرواة (الغدوة) بالغزوة، فقال: "والغزوة يغزوها"، بالزاي والمعروف [بالدال] (¬4). [أحادي عشرة] (¬5): فيه الحث على الرباط في سبيل الله، والتنبيه على فضله، وهو أحد شعب الجهاد. وقال ابن حبيب: وليس من سكن الرباط بأهله وماله وولده مرابطًا، وإنما الرباط من خرج عن بلده وأهله وماله قاصدًا للرباط. ¬

_ (¬1) شرح مسلم (13/ 26). (¬2) زيادة من ن هـ (¬3) في ن هـ (تنبيه). (¬4) في ن هـ (الأول). (¬5) في ن هـ (عاشرها).

وقد اختلف هل هو أفضل من الجهاد أو الجهاد أفضل منه؟ فذهب ابن عمر إلى الأول, لأن فيه حقن دماء المسلمين، وهو أولى من سفك دماء المشركين. وحجة الثاني: اجتماع الأمرين فيه، وهذا الحديث ظاهر فيه، لأنه رتب على رباط قوم من الثواب مثل ما يرتب على الروحة أو الغدوة مع قلة العمل في اليوم وكثرته [وغيرهما] (¬1). [ثاني عشرها] (¬2): أن اليوم يطلق عليه رباط. وقال مالك: أقله [في الاستحباب أربعون] (¬3) يومًا. [الثاني عشر] (¬4): التنبيه على عظم فضل ما أُعد للمجاهد. وإن قل عمله. [الثالث عشر] (¬5): الحثّ على الغزو والرواح في سبيله. [الرابع عشر] (¬6): التنبيه على حقارة الدنيا وما فيها وعلى فنائها وبقاء الآخرة. ¬

_ (¬1) في ن هـ (فيهما). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) في ن هـ ساقطة. (¬6) في ن هـ ساقطة.

الحديث الثالث

الحديث الثالث 418/ 3/ 80 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انتدب الله"، ولمسلم، "تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلَّا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسولي، فهو علي ضامن: أن أُدخله الجنة، أو أَرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال أجرٍ أو غنيمة" (¬1). ولمسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله، -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله، إن توفاه: أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالمًا، مع أجرٍ أو غنيمة"] (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (36)، ومسلم (1876)، والترمذي (1619)، ومالك في الموطأ (2/ 355)، والنسائي (6/ 16، 17)، وابن ماجه (2753)، والنسائي في الكبرى (17610، 17611)، والترمذي (1619)، والبيهقي في الكبرى (9/ 157)، وأحمد (2/ 399، 424)، وسعيد بن منصور (2311، 2312). (¬2) في ن هـ ساقطة. والحديث أخرجه البخاري (2786)، ومسلم، والنسائي (6/ 17) (8/ 119)، والنسائي في الكبرى (4332، 4335)، وابن ماجه =

الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذه الزيادة التي عزاها المصنف إلى مسلم ليست فيه، وإنما هي في البخاري بطولها في باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله (¬1). وقال: "بأن يتوفاه" بدل "إن توفاه" فكان ينبغي أن يقول، وللبخاري بدل ولمسلم، وقد وقع له ذلك في "العمدة الكبرى" أيضًا. وفي مسلم من حديث آخر عن أبي هريرة [قال:] (¬2) قيل [لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) ما يعدل الجهاد في سبيل الله [عز وجل] (¬4)؟ قال: "لا تستطيعوه" [قال] (¬5) فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه" [و] (¬6) قال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله. لا يفتر عن صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" (¬7). ¬

_ = (2753)، وأبو عوانة (5/ 45) , وسعيد بن منصور (2320)، وعبد الرزاق (9530)، وابن أبي شيبة (4/ 561)، وأحمد (2/ 455). (¬1) الفتح (6/ 8)، ح (2786). (¬2) زيادة من مسلم. (¬3) في مسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) زيادة من المرجع السابق. (¬5) زيادة من المرجع السابق. (¬6) زيادة من المرجع السابق. (¬7) مسلم (1878)، والترمذي (1619)، وسعيد بن منصور (2320)، وأبو عوانة (5/ 44، 45)، وأحمد (2/ 424، 459)، والبيهقي في السنن (9/ 158).

ولفظ: "انتدب" للبخاري وفي رواية لهما "تكفل" بدل "تضمن" ولم ينبه على هذا [الموضع] (¬1) أحد من الشراح، بل أقروا المصنف على ذلك، فاستفده، فإن التنبيه عليه يساوي رحلة، وقد نبهنا فيما مضى على ما وقع للمصنف من هذا النحو، وعادتي في هذا الشرح أتتبع لفظ المصنف من الصحيحين أولًا قبل شرحه، ولله الحمد على ذلك وأمثاله. ثانيها: معنى "انتدب" سارع بثوابه وحسن جزائه. وقيل: أجاب وهو بمعنى "تكفل وتضمن" وكذا رواية "توكل" وكل ذلك عبارة عن تحقيق هذا الموعود من الله سبحانه وتعالى على وجه التفضل والامتنان منه، فإن هذه الألفاظ مؤكدة لما تضمن وتكفل به وتحفظ، وتحقيق ذلك من لوازمها، وهذا الضمان. ونحوه مواقف في لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ...} (¬2) الآية. قال بعض الصحابة: ما أبالي قتلت في سبيل الله أم قتلت ثم تلا هذه الآية. ثالثها: قوله: "إلَّا جهادٌ في سبيلي" هو بالرفع، وكذا ما عطف عليه, لأنه فاعل "يخرج" والاستثناء مفرغ. وقال النووي (¬3): هو بالنصب في جميع نسخ مسلم، وكذا قوله بعده "وإيمانٌ بي وتصديق"، وهو منصوب على أنه مفعول له وتقديره: لا يخرجه المخرج ويحركه المحرك إلَّا الجهاد والإِيمان ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) سورة التوبة: آية (111). (¬3) شرح مسلم (13/ 20).

والتصديق، ومعناه لا يخرجه إلَّا محض الإِيمان والإِخلاص لله تعالى وتصديق رسوله فيما أخبر به عن ربه في الحب على الجهاد والإِخلاص والجزاء على ذلك. رابعها: قوله: "وإيمان في وتصديق برسولي"، أي. إيمان بوعدي لمجازاتي له بالجنة على جهاده، وتصديق رسولي في ذلك، فهذا الثواب لا يحصل إلَّا لمن صحت نيته، وخلصت من شوائب الأغراض الدنيوية طويتة فإنه ذُكر بصيغة النفي والإِثبات المقتضيين للحصر. وفي رواية في الصحيح "لا يخرجه إلَّا جهادٌ في سبيله وتصديق كلمته"، والمراد بها كلمة الشهادة، وقيل: تصديق كلام الله في الإِخبار عما للمجاهدين من جزيل ثوابه. خامسها: قوله: "فهو عليّ ضامن", فيه وجهان: أحدهما: أنه فاعل بمعنى مفعول، كما قيل في [ماء] (¬1) دافق "وعيشة راضية"، أي: مدفوق ومرضية على احتمال [هاتين] (¬2) اللفظتين [(¬3)] [غير] (¬4) ذلك. وثانيهما: أنه بمعنى "ذا" ضمان، أي: صاحب ضمان كـ"لابن وتامر"، أي: صاحب لبن وتمر، ويكون الضمان ليس منه، وإنما نسبه إليه لتعلقه به، والعرب تضيف [بأدنى] (¬5) ملابسة. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ، وموافق لإِحكام الأحكام. (¬2) في الأصل (هذين)، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬3) في ن هـ زيادة (واو). (¬4) في إحكام الأحكام (لغير). (¬5) في المرجع السابق (لأدنى).

سادسها: قوله: "فهو عليّ ضامن", هو كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا ...} (¬1) الآية. سابعها: قوله: "أن أُدخله الجنة" يحتمل أن يدخلها أثر موته، كما قال تعالى في الشهداء: "إنهم أحياء عند ربهم يرزقون" (¬2) , وقال رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام "أرواح الشهداء تسرح في الجنة" (¬3) ويحتمل أن يكون المراد دخوله عند دخول السابقين والمقربين لها دون حساب ولا عقاب ولا مؤاخذة بذنب، وأن الشهادة كفارة لذنوبه، كما شرح به في الحديث الصحيح، حكاهما القاضي عياض (¬4). ثامنها: قوله: "أو أَرجعه"، هو بفتح الهمزة وكسر الجيم ثلاثيًّا متعدِّيًا, ولازمه، ومتعديه واحد. قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} (¬5)، وقال: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (¬6)، وهذيل تقول: ارجع رباعيًا. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 100. (¬2) سورة آل عمر إن: آية 169. (¬3) جزء من حديث عبد الله بن مسعود وأوله "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ... " الحديث. أخرجه مسلم (1887)، وأبو داود (2503)، والترمذي (1641)، وعبد الرزاق (9554)، وأحمد (6/ 186)، وأبو عوانة (5/ 53، 54)، وابن المبارك في الجهاد (62)، والبيهقي (9/ 163). (¬4) ذكره النووي في شرح مسلم (13/ 20، 21). (¬5) سورة التوبة: آية 83. (¬6) سورة طه: آية 40.

تاسعها: "المسكن" بفتح الكاف وكسرها، وقوله: "نائلًا ما نال" هو اسم فاعل من نال: والنيل العطاء وقد [فسره] (¬1) في الحديث بالأجر والغنيمة. العاشر: "الواو" في قوله "أو غنيمة" للتقسيم بالنسبة إلى القسمة وعدمها فيكون المعنى أنه يرجع إلى مسكنه مع نيل الأجر إن لم يغنموا أو معه إن غنموا، وقيل: "أو" هنا بمعنى الواو أي مع أجر وغنيمة، وكذا وقع بالواو في "مسلم" في رواية يحيى بن يحيى "وسنن أبي داود" وتلخيص المعنى إن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال الخير بكل حال. فإما أن يستشهد فيدخل الجنة، وأما أن يرجع بأجر أو به وغنيمة. واعلم أن هذا الحديث قد عورض بالحديث الثابت في الصحيح " [ما من غازية، أو سرية، تغزو فتغنم وتسلم، إلَّا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم] (¬2) وما من غازية، أو سرية [(¬3)] تخفق وتصاب إلَّا تم [(¬4)] أجرهم" (¬5) والإِخفاق أن يغزو فلا يغنم شيئًا ذكر القاضي عياض معنى ما ذكرناه من المعارضة عن غير واحد. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في ن هـ (مكرر). (¬3) في إحكام الأحكام زيادة (تغزر)، وما أثبت من صحيح مسلم. (¬4) في الأصل ون زيادة (لهم)، وما أثبت يوافق صحيح مسلم. (¬5) مسلم (1906)، والنسائي (6/ 18)، وابن ماجه (2785)، وأحمد (2/ 169)، وأبو داود ().

قال الشيخ تقي الدين (¬1): عندي أنه أقرب إلى موافقته منه إلى معارضته. ويبعد جدًّا أن يقال بتعارضهما. نعم [كلاًّ منهما] (¬2) مشكل. أما ذلك الحديث فلتصريحه بنقصان الأجر بسبب الغنيمة. وأما هذا فلأن "أو" تقتضي أحد الشيئين لا مجموعهما فيقتضي إما حصول [الغنية أو الأجر] (¬3) وقد قالوا: لا يصح أن تنقص الغنيمة من أجر أهل بدر، وكانوا أفضل المجاهدين, وأفضلهم غنيمة، ويؤكد هذا: تتابع فعل النبي - صلي الله عليه وسلم -[والصحابة] (¬4) من بعده على أخذ الغنيمة وعدم التوقف عنها. وقد اختلفوا -بسبب هذا الإِشكال- في الجواب: فمنهم من جنح إلى الطعن في ذلك الحديث، وقال: إنه لا يصح وزعم أن بعض رواته ليس بمشهور، وهذا ضعيف, لأن مسلمًا أخرجه في كتابه. ومنهم من قال: إن هذا الذي تعجّل من أجره بالغنيمة من غنيمة أخذت على غير وجهها. قال بعضهم: وهذا بعيد لا يحتمله الحديث. وقيل: [إن] (¬5) هذا الحديث -أعني الذي نحن في شرحه- شرط فيه ما يقتضي الإِخلاص والحديث الذي في نقصان الأجر ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 508). (¬2) في إحكام الأحكام كلاهما. (¬3) تقديم وتأخير بين الأصل ون هـ، وإحكام الأحكام. (¬4) في إحكام الأحكام (وأصحابه). (¬5) زيادة من ن هـ، وإحكام الأحكام.

يحمل على من [(¬1)] طلب المغنم فهذا شرّك بما [(¬2)] يجوز له التشريك فيه، وانقسمت نيته بين الوجهين فنقص أجره، والأول أخلص فكمل أجره. قال القاضي: وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجههما أن نقص أجر الغانم بما فتح الله عزَّ وجلَّ عليه من الدنيا، وحساب. ذلك بتمتعه عليه في الدنيا وذهاب شغف عيشه في غزوه وبعده إذا قوبل بعن أخفق، ولم يصب منها شيئًا، وبقي على شظف عيشه والصبر على حالة في غزوه وجد أجر هذا أبدًا في ذلك وافيًا مطردا بخلاف الأول. ومثله قوله في الحديث الأول: "فمنا من مات ولم يأكل شيئًا أجره شيئًا. ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يَهْدُ بها" (¬3). وأما الإِشكال في الحديث فظاهره جار على القياس, لأن الأجور قد تتفاوت بحسب زيادة المشقات، لا سيما ما كان أجره بحسب مشقته، أو لمشقته دخول في الأجر. وإنما يشكل عليه العمل المتصل بأخذ الغنائم. فلعل هذا من باب تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض. فإن ذلك الزمن كان الإِسلام فيه غريبًا -أعني ابتداء زمن النبوة- وكان أخذ الغنائم عونًا على علو الدين، وقوة [للمسلمين] (¬4) وضعفاء المهاجرين، وهذه مصلحة عظمى، قد يغتفر لها [بعض] (¬5) النقص في ¬

_ (¬1) في ن هـ زيادة (قصد مع الجهاد). (¬2) في الأصل زيادة (لا) , وما أثبت يوافق ن هـ، وإحكام الأحكام. (¬3) من رواية خباب بن الأرت رضي الله عنه، أخرجه البخاري (1276). (¬4) في إحكام الأحكام (المسلمين). (¬5) زيادة من ن هـ أحكام الأحكام.

الأجر من حيث هو هو. وأما ما قيل في أهل بدر، فقد يفهم منه أن النقصان بالنسبة إلى [الأجر، ولا] (¬1) ينبغي أن يكون كذلك، بل ينبغي أن يكون التقابل بين كما في أجر المغازي نفسه إذا لم يغنم وأجره إذا غنم. فيقتضي هذا أن يكون حالهم عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها, لا من حال غيرهم وإن كان أفضل من حال غيرهم قطعًا، فمن وجه آخر. لكن لا بد -مع هذا- من اعتبار المعارض الذي [ذكرته] (¬2) فلعله [مع] (¬3) اعتباره لا يكون ناقصًا. ويستثنى حالهم من العموم الذي في الحديث الثاني. أو حال من يقاربهم في المعنى [(¬4)]. وأما هذا الحديث: الذي نحن فيه فإشكاله من كلمه "أو" أقوى من ذلك الحديث، فإنه قد يشعر بأن الحاصل إما أجر، وإما غنيمة، فيقتضي أنه إذا حصلت الغنيمة يكتفي بها له، وليس كذلك. وقيل: في الجواب عن هذا بأن "أو" بمعنى الواو، وكان التقدير بأجر وغنيمة، وهذا -وإن كان فيه ضعف من جهة العربية- ففيه إشكال من حيث أنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين، كان ذلك داخلًا في الضمان، فيقتضي أنه لا بد من حصول أمرين لهذا المجاهد، إذا رجع مع رجوعه، وقد لا يتفق ذلك؛ بأن يتلف ما ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (الغير وليس). (¬2) في ن هـ وإحكام الأحكام (ذكرناه). (¬3) في الأصل (من)، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬4) في الأصل تكرار (وأما هذا الحديث في المعنى)، وما أثبت يوافق ن هـ وإحكام الأحكام.

حصل في الرجوع من الغنيمة. اللَّهُمَّ إلَّا أن يُتجوّز في لفظة "الرجوع إلى الأهل" أو يقال: المعية في مطلق الحصول، لا في الحصول في الرجوع. ومنهم من أجاب بأن التقدير: "أو أرجعه إلى أهله، مع ما نال من أجر وحده" "أو غنيمة وأجر" فحذف "الأجر" من الثاني، وهذا لا بأس به؛ لأن المقابلة إنما تشكل إذا كانت بين مطلق الأجر وبين الغنيمة مع الأجر. أما مع الأجر المقيد بانفراده عن الغنيمة فلا. [العاشر] (¬1): المراد بالقائم: المصلي. ففيه دلالة على فضل الجهاد، والحث عليه، فإنه جعله يعدل درجة الصيام والقيام. [الحادي عشر] (¬2): فيه أيضًا دلالة على الإِخلاص فيه، وأنه المقصود. [الثالث عشر] (¬3): بيان تولِّى الله جزاءه كيف شاء. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في ن هـ ساقطة. هكذا في الأصل الترقيم والصحيح الثاني عشر.

الحديث الرابع

الحديث الرابع 419/ 4/ 80 - وعنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "ما من مكلوم يكلم [في سبيل الله، إلَّا جاء يوم القيامة وكلْمُهُ يَدْمَى: اللون لون [الدم] (¬1) والريح: ريح المسك"] (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث ذكره البخاري في صحيحه في هذا الباب، وترجم عليه: باب من يجرح في سبيل الله [عز وجل] (¬3) ثم ذكره بلفظ "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يُكلم في سبيله- إلَّا جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك". وذكره "مسلم" في أثناء الحديث الذي قبل هذا، عقب قوله ¬

_ (¬1) في الأصل (دم)، وما أثبته من مصدر الحديث. (¬2) في ن هـ ساقطة. والحديث أخرجه البخاري (237)، ومسلم (1876) , والترمذي (1656)، والنسائي في الكبرى (4355)، والنسائي (6/ 28)، عبد الرزاق (9528)، والحميدي (1092)، وأبو عوانة (5/ 24). (¬3) زيادة من الفتح (6/ 20).

"من أجرٍ أو غنيمةٍ، والذي نفس محمَّد بيده! ما من كذا يكلم في سبيل الله، إلَّا جاء يوم القيامة كهيئة حين كلم، لونه لون دم، وريحه ريح مسك". ثم ذكره من وجه عن أبي هريرة بلفظ: "كل كذا يُكلمهُ المسلم في سبيل الله، ثم يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجَّرُ دمًا. اللون لون دم والعَرف عَرْفُ المسك". ثانيها: "المكلوم" المجروح و"الكلم" بفتح الكاف وإسكان اللام الجرح، و"يكلم" بإسكان الكاف، أي: يجرح. ثالثها: مجيئه يوم القيامة، وهو يدمي لفوائد. الأولى: ليشهد على ظالمه بالقتل شهادة ظاهرة، والدم في الفصل شاهد عجيب. الثانية: ليظهر شرفه لأهل الموقف بانتشار رائحة المسك من جرحه، الشاهد له ببذل نفسه في ذات الله تعالى. الثالثة: أن هذا الدم (خصلة) خلقها الله [تعالى] (¬1) عليه في الحقيقة أكرمه بها ليس الدنيا، فناسب أن يأتي بها يوم القيامة. رابعها: في فوائده وأحكامه. الأول: فضل الجراحة في سبيل الله. الثاني: أن الشهيد لا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره للحكمة التي ذكرناها. ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ.

الثالث: أن أحكام الآخرة وصفاتها غير أحكام الدنيا وذواتها، فإن الدم في الآخرة يتغير حكمه من النجاسة والرائحة الخبيثة التي في الدنيا إلى الطهارة والرائحة الطيبة يوم القيامة، وبذلك يقع الإِكرام له والتشريف، ويلزم من [قوله عليه الصلاة والسلام: "اللون لون دم" أن يكون دمًا نجسًا حقيقة، كما] (¬1) يلزم من كون رائحته ريح مسك أن يكون مسكًا حقيقة، بل يجعله الله تعالى شيئًا، يشبه هذا، ويشبه هذا بأشياء عما فارق الدنيا عليه كما أن إعادة الأجسام مما كانت عليه في الدنيا، وإن اتصفت بصفات أُخر من البقاء والدوام بعد أن كانت غير دائمة ولا باقية، ولهذا يكونون في طول واحد وسن واحد جردًا مردًا غير مختونين [(¬2)] فعلمنا أن الإِعادة حق مما انتقلت عليه، وإن اكتسبن أوصافًا لم تكن [(¬3)]، ليس حكمه حكمها, ولا فضله فضلها، وكذلك أهل الوضوء يبعثون يوم القيامة غرًّا محجلين من أثاره إكرامًا لهم وشهادة لهم بسبب عملهم في الدنيا ليتميزوا به. [الرابع] (¬4): أن الشهيد يبعث على حاله التي جرح عليها من الدنيا. [الخامس] (¬5): ذكروا في الاستنباط من هذا الحديث أشياء ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل (الرابع)، وما أثبته من ن هـ. (¬3) في ن هـ زيادة (وكذلك دم الشهيد يعاد للحكمة الذي ذكرناها وإن اكتسبت أوصافًا لم تكن). (¬4) في الأصل (الخامس)، وما أثبت من ن هـ. (¬5) في الأصل (السادس)، وما أثبت من ن هـ إلى آخر الفوائد.

متكلفة غير [صائرة على] (¬1) التحقيق، بل هي ضعيفة. منها: أن المراعى في الماء تغير لونه، دون تغير رائحته، لأنه عليه الصلاة والسلام سمى هذا الخارج من جُرح الشهيد "دمًا" وإن كان ريحه ريح المسك، ولم [يقل] (¬2) مسكًا، فغلَّب الاسمَ للونه على رائحته، فكذلك الماء ما لم يتغير (طعمه) (¬3) لم يلتفت إلى تغير رائحته، قال الشيخ تقي الدين: وفي هذا نظر يحتاج إلى تأمل، وهو كما قال: فإن فيه ذكر وصفين من غير تغليب لأحدهما على الآخر. قال القاضي عياض: وهذا قولنا فيما تغيرت رائحته بالمجاورة وما تغير بالمخالطة. فعند مالك: يقول لا عبرة بالرائحة، وإنما الاعتبار باللون والطعم، ويحكمون بنغيره بالرائحة بالإِضافة والنجاسة، ومنها ما ترجم [عليه] (¬4) البخاري (¬5) فيما يقع من النجاسات في الماء والسمن، قال القاضي: وقد يحتمل أن حجته فيه الرخصة في الرائحة كما تقدم، أو التغليظ بعكس الاستدلال الأول، فإن الدم لما انتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة، ومن حكم القذارة إلى الطيب بتغيير رائحته، وحكم له حكم المسك والطيب للشهيد، ¬

_ (¬1) في الأصل (جائزة في)، وما أثبت من ن هـ وإحكام الأحكام. (¬2) في إحام الأحكام (يكن) (4/ 515). (¬3) في المرجع السابق (لونه). (¬4) زيادة من ن هـ. (¬5) الفتح (1/ 342) ح (237).

فكذلك الماء ينتقل إلى العكس بخبث الرائحة وتغير أحد أوصافه من الطهارة إلى النجاسة. ومنها قال القاضي: إن أبا حنيقة يحتج بهذا الحديث على جواز استعمال الماء المضاف، المتغيرة أوصافه بإطلاق اسم الماء [عليه، كما يطلق] (¬1) على هذا اسم الدم، وإن تغيرت أوصافه إلى الطيب، قال: وحجته بذلك ضعيفة (¬2). ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة، وفي إحكام الأحكام (عليه، كما انطلق). (¬2) قال في إحكام الأحكام (4/ 516): (وأقول: الكل: ضعيف).

الحديث الخامس

الحديث الخامس 419/ 5/ 80 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت" (¬1). أخرجه مسلم. هذا الحديث هو من أفراد مسلم كما نص عليه وقد أسلفنا الكلام على "الغدوة والروحة" في الحديث الثاني من أحاديث الباب. وقوله "خير مما طلعت عليه الشمس وغربت"، وهو بمعنى "خير من الدنيا وما فيها"، وقد سلف الكلام عليه واضحًا، وإن كان قوله داوما فيها يشمل ما تحت طباقها مما أودعه الله من الكنوز وغيرها بخلاف هنا، فإنه لا يشمله، وإن كان أشمل من وجه، فإن الشمس تطلع على بعض السموات لأنها في السماء الرابعة وقيل: في السادسة. ¬

_ (¬1) انظر: ص 284 للاطلاع على تخريجه.

الحديث السادس

الحديث السادس 420/ 6/ 80 - عن أن رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "غدوة في سبيل الله، أو روحة، خير من الدنيا وما فيها" (¬1). وأخرجه البخاري. هذا الحديث متفق عليه في الصحيحين، فقوله: "وأخرجه البخاري" يعني مع مسلم ويقع في بعض الشروح. أخرجه البخاري بحذف "الواو" فيوهم أنه من أفراده فأحببت ذلك، وقد علم [(¬2)] له في "عمدته الكبرى" بعلامة البخاري فقط فأوهم أنه من أفراده، وليس كذلك، وقد ساقه البخاري بزيادة "ولقاب قوص أحدكم من الجنة أو موضع قيد -بمعنى سوطه- خير من الدنيا وما فيها. ولو أن امرأة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". والنصيف الخمار، واعلم أن هذا الحديث كان يستغنى عنه بالحديث السالف في الباب، وكذا حديث أبي أيوب الذي قبله أيضًا، فإن هذا الكتاب موضوع للاختصار، لا تجميع طرق الحديث. ¬

_ (¬1) انظر: ص 283 للاطلاع على تخريجه. (¬2) في ن هـ زيادة (هو).

الحديث السابع

الحديث السابع 421/ 7/ 80 - عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي - صلي الله عليه وسلم - إلى حنين -وذكر قصة - فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا عليه بينة فله سلبه قالها ثلاثًا" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة. ثانيها: صفة هذه القصة أن أبا قتادة قتل رجلًا، وأخذ سلبه آخر. فلما قال عليه الصلاة والسلام: "من قتل قتيلًا" إلى آخره، وكان هذا القول بعد الفراغ من القتال. قال ذلك الرجل: هو قاتله وعندي سلبه، فأرضه من حقه، فقال الصديق: لاها الله إذًا لا يعمد إلى أَسدٍ من أُسدٍ الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال عليه الصلاة والسلام: "صدق فأعطه إياه" فأخذه وباعه وكان درعًا ¬

_ (¬1) البخاري (3142)، ومسلم (1175)، وابن ماجه (2837)، وأبو داود (3717)، والترمذي (162)، والحميدي (423)، والبيهقي في السنن (9/ 50)، والدارمي (2/ 259)، وابن الجارود (1076)، وعبد الرزاق (5/ 236)، وابن أبي شيبة (7/ 649)، ومالك (2/ 363)، وأحمد (5/ 306).

واشتريت به مخرفًا في بني سلمة، وكان ذلك أول مال تأثلته في الإِسلام" (¬1)، وقوله: "ثلاثًا"، أي كرر هذه اللفظة ثلاثًا وذلك في مجلس واحد بين كل واحدة بينهما فصل ما. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون قالها متواليًا ليكون أثبت في نفس السامع، وأن يكون مفرقًا. قلت: وهذا هو المصرح به في الحديث. ثالثها: "حنين"، واد بين مكة والطائف وراء عرفات بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا، وهو معروف. وبين غزوة "حنين" و"فتح مكة" خمس عشر ليلة، فإن الفتح كان في عشرين رمضان سنة ثمان "وحنين" خامس شوال منها وكان يقصر في هذه المدة الصلاة. رابعها: روى أبو داود في "سننه" (¬2) من حديث أنس، أن أبا قتادة قتل ذلك اليوم عشرين رجلًا وأخذ أسلابهم. وفي رواية لأحمد (¬3): "فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلًا". ¬

_ (¬1) الذي يظهر من سياق المؤلف -رحمنا الله وإياه- للقصة أنه أوردها بالمعنى. (¬2) الذي في سنن أبي داود (2718)، ومسند أحمد (3/ 190، 279)، وأبو طلحة لا كما ذكره المؤلف -رحمه الله-. (¬3) مسند أحمد (3/ 114، 190، 279)، والذي في المسند (عشرين رجلًا)، وإنما جاء ذلك في صحيح ابن حبان (4841). تنبيه: ذكر ابن حجر -رحمنا الله وإياه- في الفتح (8/ 40) "راجلًا" بدل "رجلًا" ونسبه لأحمد. وبعد الاطلاع على المسند وجد الصواب "رجلًا" في الموضعين فليصحح. وعند أبي "داود" كذلك.

خامسها: "البينة" في الأصل هي العلامة، والمراد هنا علامة توضح أنه القاتل: إما إخبار واحد، أو ظن راجح برؤية سهم القاتل أو سيفه أو نحو ذلك، بما يرجح جانبه، فيما يدعيه من استحقاق السلب. واعلم أن السلب منسوب إلى جميع الجيش، فلا يقبل إقرار من هو في يده أنه القاتل على الباقين، إلَّا إذا كان مختصًا به [فيؤاخذ] (¬1) بإقراره. سادسها: السلب هو الشيء المسلوب سمي به, لأنه يسلبه كالمخيط بمعنى المخيوط، وهو عندنا ثياب القتيل والخف وآلات الحرب: كدرع وسلاح ومركوب وسرج ولجام وكذا سوار ومنطقة وخاتم [ونفقته] (¬2) معه وجنيبة تقاد معه لا حقيبة مشدودة على الفرس كما بسطته في كتب الفروع. وعن أحمد: الفرس ليست من السلب. سابعها: في فوائده وأحكامه. الأول: أن السلب للقاتل، لعموم هذا الحديث، ولا ينبغي هذا أن يكون السلب للجيش أولًا ثم أعلم عليه الصلاة والسلام أنه للقاتل مقبلًا غير مدبر. واختلف العلماء فيه على قولين: أحدهما: أنه يستحقه، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من ¬

_ (¬1) في مسلم (12/ 60) فيؤخذ. (¬2) في ن هـ (فصه).

قتل قتيلًا فله سلبه، أو لم يقل ذلك، وبه قال الشافعي، والأوزاعي، والليث، والثوري، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وابن جرير وغيرهم، قالوا: وهذا الحديث فتوى منه عليه الصلاة والسلام وإخبار عن حكم الشرع، فلا يتوقف على قول أحد (¬1). والقول الثاني: لا يستحق القاتل ذلك لمجرد القتل، وإنما هو لجميع الغانمين: كسائر الغنيمة، إلَّا أن يقول قبل القتال "من قتل قتيلًا فله سلبه" وبه قال مالك وأبو حنيفة ومن تابعهما، وحملوا الحديث على هذا، وجعلوا هذا إطلاقًا من النبي - صلي الله عليه وسلم -, وليس بفتوى وإخبار عام (¬2). واستضعف هذا: فإنه صرح في هذا الحديث في الصحيح بأنه عليه الصلاة والسلام قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم (¬3). وقال الشيخ تقي الدين (¬4): هذا يتعلق بقاعدة، وهي أن ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (14/ 138). (¬2) انظر: الاستذكار (14/ 138). (¬3) كما هو مصرح في سياق الحديث "خرجنا مع النبي - صلي الله عليه وسلم - يوم حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين، فاستدبرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقني عمر بن الخطاب، فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس النبي - صلي الله عليه وسلم -، فقال: من قتل قتيلًا فله سلبه" الحدث. فيتضح أنه قال ذلك بعد أن فرغ القتال. (¬4) إحكام الأحكام (4/ 519).

تصرفات الشارع في أمثال هذا إذا ترددت بين التشريع، والحكم الذي يتصرف فيه ولاة الأمور، هل يحمل على الأول أو على الثاني؟ والأغلب حمله على الأول، إلَّا أن مذهب مالك في هذه المسألة فيه قوة, لأن قوله عليه الصلاة والسلام من قتل قتيلًا" (¬1) [إلى آخره] (¬2) يحتمل [(¬3)] الأمرين [6] (¬4) [لكن] (¬5) جاءت أمور في أحاديث ترجح الخروج [عن الأغلب] (¬6) [حمله] (¬7) مثل قوله عليه الصلاة والسلام بعدما أمر أن يعطي السلب [للقاتل] (¬8) فقابل هذا القاتلُ خالد بن الوليد بكلام فقال عليه الصلاة والسلام بعده "لا تعطه يا خالد" (¬9). فلو كان مستحقًا له بأصل التشريع لم يمنعه منه بسبب كلامه لخالد فدل على أنه كان على وجه النظر فلما كلَّم خالد بما يؤذيه استحق العقوبة بمنعه، نظرًا إلى غير ذلك من الدلائل. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة (فله سلبه). (¬2) غير موجودة في المرجع السابق. (¬3) في المرجع السابق زيادة (ما ذكرناه من). (¬4) في المرجع السابق زيادة (أعني التشريع العام، وإعطاء القاتلين في ذلك الوقت السلب تنفيلًا -فإن حمل على الثاني فظاهر. وإن ظهر حمله على الأغلب -وهو التشريع العام-. (¬5) في إحكام الأحكام (فقد). (¬6) في المرجع السابق عن هذا الظاهر. (¬7) في ن هـ والمرجع السابق ساقطة. (¬8) في المرجع السابق (قاتلًا). (¬9) أخرجه أبو داود (2721)، وأحمد (3/ 72)، وسعيد بن منصور في سننه (2698).

قلت: قد أجبت عن هذا الحديث بجوابين: أحدهما: لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل، وإنما أخبره تعزيرًا له لإِطلاقه لسانه، في حق خالد وانتهاك حرمة الوالي ومن ولاه (¬1). ¬

_ (¬1) أقول وظاهر الحديث حرمانه منه لانتهاك حرمة الوالي كما يدل عليه لفظ الحديث من رواية عوف بن مالك الأشجعي، قال: خرجت مع زيد حارثة في غزوة فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورًا، فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه اياه، فاتخذه كهيئة الدَّرْقِ ومضينا فلقيا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سَرْجٌ مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يُفْرِي بالمسلمين، فقعد له المدديُّ خلف صخرة، فمر به الرومي فَعَرْقب فرسه، فخر، وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عَزَّ وَجَلَّ للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من المسلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته، قلت: لتردُّنُه عليه أو لأعَرِفنكها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل، خالد، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "يا خالد، ما حملك على ما صنعت"؟ قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد استكثرته، فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "يا خالد رد عليه ما أخذت منه"، قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد، ألم أف لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما ذلك"؟ فأخبرته، قال فغضب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقال: "يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كَدَرُهُ". أخرجه مسلم (1853)، وسقته بلفظ أبي داود (2719)، وأحمد (6/ 28)، والبيهقي في السنن (6/ 310)، ومعاني الآثار (3/ 231)، إلى هذا ذهب ابن حبان فقال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا خالد لا تعطه"، أراد به في ذلك الوقت، ثم أمره فأعطاه". اهـ. (11/ 176).

الثاني: لعله استطاب قلب صاحبه, فتركه باختياره، وجعله للمسلمين، وكأن المقصود بذلك استطابة قلب خالد للمصلحة في إكرام الأمراء (¬1)، فتكون واقعة عين لا تقتضي العموم. وفي المسألة قول ثالث، أنه إن كان السلب يسيرًا فهو للقاتل، وإن كان كبيرًا خمس، وسيأتي وفي "سنن أبي داود" بإسناد جيد من حديث عوف بن مالك وخالد بن الوليد أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالسلب للقاتل، و"لم يخمس السلب" (¬2)، وأخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" عن عوف أنه عليه الصلاة والسلام "لم يخمس السلب" (¬3)، وفي صحيح مسلم بمعناه. الثاني عشر: شرط الشافعي في استحقاقه أن يغزو بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال، والأصح أن القاتل لو كان ممن له رضخ ولا سهم له كالمرأة والصبي والعبد يستحق السلب أيضًا. وقال مالك: لا يستحقه إلَّا القاتل. وقال الأوزاعي والشاميون: لا يستحق [السلب] (¬4) إلَّا في قتيل قتله قبل التحام [القتل] (¬5) فأما من قتل في حال التحام [القتل] (¬6) فلا ¬

_ (¬1) ذكرهما النووي في شرح مسلم (12/ 64). (¬2) أبو داود (2721)، وأحمد (6/ 26)، وسنن سعيد بن منصور (2698)، وابن الجارود (1077). (¬3) ابن حبان (4844). (¬4) زيادة من شرح صحيح مسلم (12/ 59). (¬5) في المرجع السابق ون هـ (الحرب). (¬6) في المرجع السابق وهـ (الحرب).

يستحقه (¬1). وقال أبو ثور وابن المنذر: ويستحقه وإن كان المقتول منهزمًا (¬2). وقال أحمد: لا يكون إلَّا في المبارزة. الثالث: اختلفوا في تخميس السلب على أقوال. أصحها: عند الشافعية لا يخمس، لظاهر الحديث، بل صريح حديث عوف وخالد السالفين، وبه قال أحمد وابن جرير وابن المنذر وآخرون (¬3). وثانيها: نعم، وهو قول مكحول ومالك والأوزاعي، وهو قول ضعيف للشافعي (¬4). ثالثها: نعم، إذا كثر، وبه قال عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه فعله عمر مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله، فكان ¬

_ (¬1) الاستذكار (14/ 138، 139). (¬2) الاستذكار (14/ 140). (¬3) وحجتهم في ذلك أثر عمر رضي الله عنه أنه قال: "كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، أخرجه عبد الرزاق (5/ 233)، والأموال لأبي عبيد (310). وأيضًا عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - "من قتل قتيلًا فله سلبه" فملكه إياه ولم يستثن عليه شيئًا منه ولا استثنى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - شيئًا من سنته من جملة الغنيمة غير سلب القاتل. انظر الاستذكار (14/ 140، 141) فقد ذكر ذلك. (¬4) المرجع السابق.

قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألف فخمس ذلك (¬1). وعنه: أنه يخمس على القاتل وحده. ووقع في "شرح الفاكهي" عقب هذا نقلًا عن ابن عطية (¬2) أنه روى [في ذلك] (¬3) حديث عن النبي - صلي الله عليه وسلم - في أبي داود، وهو حديث مالك بن عوف الأشجعي. انتهى. وهذا الحديث هو في عدم التخميس كما أسلفته في ذلك وراويه "عوف بن مالك" لا "مالك بن عوف". وعن مالك: رواية أجازها إسماعيل القاضي أن الإِمام بالخيار، إن شاء خمسه، وإن شاء لم يخمسه (¬4). الرابع: أن السلب لا يعطي إلَّا لمن له بينة بأنه قتل ولا يقبل قوله بغير بينة، وهو مذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم. ونقله ابن عطية عن الجمهور (¬5). وقال مالك ¬

_ (¬1) ولفظه: "بارز البراء بن مالك أخو أنس بن مالك: مرزبان الزأرة فقتله، فأخذ سلبه، فبلغ ثلاثين ألفًا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فقال لأبي طلحة: "إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالًا كثيرًا، ولا أرانا إلَّا خامسيه"، أخرجه عبد الرزاق (5/ 233)، والبيهقي (6/ 310)، والأموال لأبي عبيد (310)، والتمهيد (23/ 247). (¬2) في الأصل (باطنه)، وما أثبت من ن هـ، وما أثبت هو الصواب لأنه يوافق ما في المحرر الوجيز (8/ 9). (¬3) زيادة من ن هـ. (¬4) ذكرها في الاستذكار (14/ 141). (¬5) المحرر الوجيز (8/ 9).

والأوزاعي: يمطي لقوله بلا بينة، قالا لأنه عليه الصلاة والسلام أعطاه السلب في هذا الحديث بقول واحد، ولم يحلفه (¬1). وأجاب الأول: بأنه محمول على أنه عليه الصلاة والسلام علم أنه القاتل بطريق، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالبينة فلا تلغى. وقد يقول المالكي هذا مفهوم وليس هو بحجة، وقد يجاب: بأنه عليه الصلاة والسلام سماها بينة، وعمل بها فيه مع قوله "لو يعطي الناس بدعواهم [لادعى ناس دماء رجال، وأموالهم، و] (¬2) لكن البينة على المدعي" الحديث. وأبعد بعض المالكية، فقال: إنه عليه الصلاة والسلام إنما أعطاه ببينة، وفي الشاهدان: أحدهما: أن السلب شاهد عرفي على أنه قتله، وهو بمنزلة الشاهد الواحد، ولذلك جعل لوثًا في باب القسامة يحلف مع الورثة. والآخر: هو الذي له شهد له به، واحتج بعضهم للأول بأن أبا قتادة إنما استحق السلب بإقرار من هو بيده، وهو ضعيف؛ لأن الإِقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوبًا إلى من هو في يده فيؤخذ بإقراره والمال هنا منسوب إلى جميع الجيش فلا يقبل إقرار بعضهم على الباقين. ونقل ابن عطية (¬3): عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا واحد بحكم حديث أبي قتادة وضعف قول الأوزاعي، وهو قول عديم النظير. ¬

_ (¬1) ذكره في الاستذكار (14/ 147)، وضعفه في المحرر الوجيز (8/ 9). (¬2) زيادة من متن العمدة والحديث سبق تخريجه في آخر باب القضاء. (¬3) المحرر الوجيز (8/ 9).

الخامس: استدل بعضهم لقول الأوزاعي وسحنون أنه لا يستحق السلب إلَّا من قتل أو أنفذ المقاتل، فأما إذا أسره، فإنه لا يستحق، وهو قول للشافعي والأصح أنه يستحقه, لأنه كفى شره فهو في معنى [قتله] (¬1). السادس: استدل به ابن رشد منهم في كتاب -الجعل والإِجارة- من "المقدمات" على جواز الجعل. وفيه نظر، فإن شرطه أن يكون معلومًا إلَّا ما استثنى للحاجة. السابع: استحباب إعادة المفتي أو العالم الكلام مرات لقصد الإِبلاغ والبيان. خاتمة: يؤخذ من إيراد المصنف جواز تقطيع الحديث الواحد من العارف باللفظ والمعنى إذا لم يكن للجملة المقطوعة تعلق بما قبلها، وقد فعل هذا البخاري وغيره من العلماء المحققين. وفيه أيضًا التنبيه: على اختصار تلك الجملة من الحديث بلفظ يدل عليه بقوله، وذكر قصة أوحديث قال فيه كذا أو نحو ذلك، فيجمع بين الاختصار والتنبيه على أنه بعض حديث. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

الحديث الثامن

الحديث الثامن 422/ 8/ 80 - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أتى النبي - صلي الله عليه وسلم -[عينٌ من المشركين -وهو في سفر- فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال [النبي - صلي الله عليه وسلم -] (¬1): "اطلبوه واقتلوه" فقتلته، فنفلني سلبه. وفي رواية، فقال: "من قتل الرجل؟ فقالوا: ابن الأكوع، فقال: "له سلبه. اجمع"] (¬2). الكلام عليه وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في صلاة الجمعة، وأنه منسوب إلى جده، فإنه سلمة بن عمرو بن الأكوع. ثانيها: اللفظ الأول الذي أورده المصنف هو للبخاري، إلَّا أنه ¬

_ (¬1) زيادة من متن العمدة. (¬2) في ن هـ ساقطة. والحديث أخرجه البخاري (3051)، ومسلم (1754)، وأبو داود (2653، 2654)، وابن ماجه (2836)، وشرح معاني الآثار (3/ 227)، وأحمد (4/ 46، 49، 50)، والبيهقي (6/ 307) (9/ 147)، والطبراني (6272، 6273)، وأبو عوانة (4/ 122، 123)، وشرح السنة (2709).

قال "فنفله سلبه" بدل "فنفلني رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سلبه"، وهو بمعناه، وترجم عليه الحربي إذا دخل دار الإِسلام بغير أمان. والرواية الثانية: هي لفظ مسلم، وذكر أن ذلك في غزوة هوازن، وساقه مطولًا وأدخله أبو "داود" في باب الجاسوس المستأمن. ثالثها: "الجاسوس" هو صاحب سر الشر، كما أن الناموس صاحب سر الخبر، يقال: اعتان له إذا أتاه بالخبر، ويقال له: ذو العينين أيضًا والعين من الألفاظ المشتركة، تطلق بإزاء أمور: أحدها: ما ذكرنا. ثانيها: حاسة الرؤية. ثالثها: عين الماء. رابعها: عين الركبة، ولكل ركبة عينان، وهي نقرتان في مقدمها عند الساق. خامسها: عين الشمس. سادسها: الدينار. سابعها: المال الفاض. ثامنها: عين الميزان, وهي ترجيح إحدى الكفتين على الأخرى. تاسعها: عين الشيء خياره. عاشرها: عين الشيء نفسه، يقال هو هو عينًا وهو هو عينه. الحادي عشر: المعاينة، ومنه قولهم: لا أطلب أثرا بعد عين، أي: بعد معاينة.

الثاني عشر: القليل بلد قليل العين، أي: قليل الناس. الثالث عشر: ماء عن يمين قبلة العراق يقال: أنشأت السحابة من قبل العين. الرابع عشر: العين مطر أيام لا [يقلع] (¬1). الخامس عشر: أسود العين [جبل] (¬2). السادس عشر: رأس عين بلدة. السابع عشر: العين من حروف المعجم. الثامن عشر: يقال هو عبدي عين: أي هو كالعبد ما دمت تراه، فإذا غبت فلا. التاسع عشر: يقال: أنت على عيني في الإِكرام والحفظ جميعًا، قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} (¬3). العشرون: يقال في الجلد عين، وهي دوائر رقيقة، وذلك عيب فيه (¬4). رابعها: "السلب" تقدم بيانه في الحديث قبله والسلب الذي أخذه ابن الأكوع، هو جمل أحمر، عليه رحله وسلاحه، كما جاء مبينًا في "صحيح مسلم". ¬

_ (¬1) في الأصل (يقطع)، وما أثبت يوافق ن هـ والمنجد في الفقه (32). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) سورة طه: آية 39. (¬4) للاطلاع على تفاصيلها، راجع مادة (ع ي ن)، والمنجد في اللغة (32، 259)، وشجر الدر في تداخل الكلام بالمعاني المختلفة (88، 144، 161، 193، 235، 231، 244)، ومعجم البلدان (4/ 174، 175)، وتاج العروس (فصل العين مع النون) (18/ 400، 414).

ولا يحضرني اسم هذا الرجل المقتول بعد البحث عنه. و"النفل" بالفاء العطاء من الغنيمة غير السهم المستحق بالقسمة، فهو الزائد على الواجب، ومنه نافلة الصلاة. والنافلة: ولد الولد. والأنفال: العطايا [واحد] (¬1) نفل بفتح الفاء وتسكن أيضًا. ويقال: نفل تنفيلًا، وذكر بعضه أهل اللغة: أن الأنفال الغنائم وأطلقه الفقهاء على ما يجعله الإِمام لبعض الغزاة لأجل الترغيب وتحصيل مصلحة أو عوض عنها. خامسها: في أحكامه: أحدها: الجلوس عند أصحابه لإِيناسهم بالحديث وتعليم العلم خصوصًا في الأسفار ووقت الحاجة إلى ذلك، وفي "صحيح مسلم" أن ذلك كان وقت التضحي فإنه قال: "بينا نحن نتضحى معه إذ جاء رجل" فذكره. ثانيها: الأمر بطلب الجاسوس الكافر الحربي وقتله، والإِجماع قائم على ذلك، لما فيه من كشفه لعورات المسلمين. واختلف العلماء في الجاسوس المعاهد والذمي، هل ينقض عهده ويقتل؟ على قولين: أحدهما: يصير ناقضًا للعهد بذلك، فإن رأى الإِمام استرقاق أرقه، ويجوز قتله. ثانيهما: لا ينتقض عهده بذلك، وبه قال جمهور العلماء، قال الشافعية: إلَّا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة.

أما الجاسوس المسلم: فقال الشافعي، والأوزاعي [وأبو حنيفة] (¬1) وبعض المالكية والجمهور: يعزره الإِمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما, ولا يجوز قتله. وقال مالك: يجتهد فيه الإِمام، ولم يفسر الاجتهاد، ونقل القاضي عياض: عن أكابر [أصحابه] (¬2) أنه يقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة، وقال [ابن] (¬3) الماجشون: إن عرف [قتل] (¬4) وإلَّا عزر. ثالثها ورابعها: أن القاتل يستحق السلب، وأنه لا يخمس، وتقدم الكلام فيه في الحديث قبله واضحًا. وقد يحتج به من يراه غير واجب بالشرع، بل بتنفيل الإِمام، لقوله "فنفلنيه"، وفيه ضعف ما. [رابعها] (¬5): أنه يستحق سلبه وإن كان هاربًا، وقد ذكر الفقهاء صورًا فيما يستحقه القاتل وترددوا في بعضها، فإن كان اسم السلب منطلقًا على كل ما معه، فقد يستدل به فيما اختلف فيه من بعض الصور، بل يستدل به على أنه كل ما على القتيل كيف كان, لأنه لم يستثن مما عليه شيئًا. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في الأصل (الصحابة)، وفي ن هـ (أصحابنا)، وما أثبت من إكمال إكمال المعلم (5/ 69). (¬3) زيادة من المرجع السابق. (¬4) في الأصل (جاز)، وفي ن هـ ساقطة، وما أثبت من المرجع السابق. (¬5) في ن هـ (خامسها).

[خامسها] (¬1): استحباب سؤال الإِمام عمن فعل فعلًا جميلًا ليثني عليه ويعطيه ما يستحق عليه. [ثامنها] (¬2): استحباب مجانسة الكلام إذا لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة. [تاسعها] (¬3): مبادرة الرعية إلى امتثال أمر إمامهم ما لم يكن معصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. [عاشرها] (¬4): قال القاضي: فيه جوازتنفيل جميع ما أخذته السرية, لأن سلبه كان جملة ما غنموه، وما كان مع سلمة غيره من الذين بعثهم النبي - صلي الله عليه وسلم -، ولا يخلو ما ذكره من نظر. ¬

_ (¬1) في ن هـ (سادسها). (¬2) في ن هـ (سابعها). (¬3) في ن هـ (ثامنها). (¬4) في ن هـ (تاسعها).

الحديث التاسع

الحديث التاسع 423/ 9/ 80 - " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله [- صلي الله عليه وسلم - سرية إلى نجد، فخرجت فيها، فأصبنا إبلًا وغنمًا، فبلغت سُهمَانُنَا: اثنى عشر بعيرًا، ونفلنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بعيرًا [بعيرًا] (¬1)] (¬2) " (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: ذكر "الغنم" من أفراد مسلم، كما نبه عليه عبد الحق في "جمعه". ثانيها: قوله: "قبل نجد" كذا هو في الصحيحين، وفي رواية لمسلم "إلى نجد". ¬

_ (¬1) في الأصل ساقطة ومثبته في متن عمدة الأحكام، وفي مصدر الحديث البخاري (3134) وغيره. (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) البخاري (3134)، ومسلم (1749)، وأبو داود (2711، 2744، 2745)، والموطأ (943)، وابن الجارود (1074)، والحميدي في المسند (694)، والدارمي (2/ 228)، وعبد الرزاق (9335، 9336)، والبيهقي في السنن (6/ 312)، وفي المعرفة (9/ 229)، وفي دلائل النبوة: (4/ 356)، وأحمد (2/ 10، 55، 80، 156).

ونجد: ما بين جرش إلى سواد الكوفة وحده, مما يلي المغرب الحجاز، وعن يسار الكعبة اليمن، ونجد: كلها من عمل اليمامة قال صاحب المطالع. وقال ابن الأثير (¬1): النجد: ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاص لما دون الحجاز، مما يلي العراق. ثالثها: "السرية": قطعة من الجيش أربعمائة ونحوها ودونها. وفي الحديث "خير السرايا أربعمائة"، سميت: لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها، وهي فعيلة بمعنى فاعلة. يقال: أسري وسرى إذا ذهب ليلًا. رابعها: قوله "فبلغت سهماننا اثنا عثر بعيرًا". قال النووي: هو في بعض النسخ يعني نسخ مسلم هكذا، وهو ظاهر، وفي أكثرها "اثنى عشر" (¬2) وهو صحيح على لغة من يجعل المثنى بالألف مطلقًا، وهو لغة أربع قبائل من العرب. وقد كثرت في كلامهم. ومنها قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (¬3). خامسها: قوله "ونفلنا" قد تقدم الكلام على النفل في الحديث قبله. سادسا: قوله: ["فكانت] (¬4) سهماننا اثنى عشر بعيرًا"، أي سهم كل واحد منهم. وقيل: معناه سهمان جميع الغانمين اثنى عشر، وهو غلط، فقد جاء في رواية لأبي داود وغيره أن الاثنى عشر بعيرًا ¬

_ (¬1) النهاية (5/ 19). (¬2) وهو هكذا في متن الحديث. (¬3) سورة طه: آية 63. (¬4) هكذا هنا (فكانت) أها متن الحديث (فبلغت).

كانت سهمان كل واحد من الجيش والسرية، ونفَّل السرية سوى هذا بعيرًا بعيرًا. وهذا لفظه "بعثنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في جيش قبل نجد، وانبعثت سرية من الجيش، فكان سهمان الجيش اثنى عشر بعيرًا اثنى عشر بعيرًا، ونفّل أهل السرية بعيرًا بعيرًا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر ثلاثة عشر". سابعها: في أحكامه: الأول: استحباب بعث السرايا للجهاد. الثاني: إثبات النفل، وهو مجمع عليه كما سلف، واختلف في محله، هل هو من أصل الغنيمة أو من أربعة أخماسها أو من خمس الخمس [وهي ثلاثة أقوال للشافعي، وبكل منها قال جماعة من العلماء. والأصح عندنا: أنه من خمس الخمس] (¬1). وبه قال سعيد بن المسيب (¬2) ومالك وأبو حنيفة وآخرون. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) انظر الاستذكار (14/ 98، 99). قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (105/ 106). وقول سعيد بن المسيب: كان الناس يعطون النفل من الخمس كما قال. والذي أراه أن يكون من خمس الخمس سهم النبي - صلي الله عليه وسلم -. قال أبو عمر: كان أعدل الأقاويل عندي، والله أعلم، في هذا الباب: أن يكون النفل من خمس الخمس سهم النبي - صلي الله عليه وسلم -، لولا أن في حديث ابن عمر هذا ما يدل على أنه لا يكون ذلك من خمس الخمس، وذلك أن تنزل تلك السرية على أنهم كانوا كرة مثالًا. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومعلوم أنه إذا عرفت ما للعشرة علمت ما للمئة وللألف، فمثال ذلك: أن تكون السريَّة عشرةً أصابوا في غنيمتهم مئة وخمسين بعيرًا، خرج منها خمسها بثلاثين، وصار لهم مئة وعشرين، قسمت على عشرةٍ، وجب لكلِّ واحدٍ اثنا عشر بعيرًا، ثم أعطي القوم من الخمس بعيرًا بعيرًا. فهذا صحيح على من جعل النقل من جملة الخمس، لا من خمس الخمس؛ لأن خمس ثلاثين لا يكون في عشرة أبعرة. وقد يحتجُّ أن يكون محتمل أن يكون من خُمس الخُمس، بأن يكون هناك ثياب وخرثي متاع غير الإِبل، فأعطى من لم يبلغه البعير قيمة البعير من غير ذلك من العروض". اهـ. وقال أيضًا (14/ 164، 165)، قال الإِمام مالك رحمنا الله وإياه في الموطأ (456) ذكر فيه مالك، عن أبي الزناد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: كان الناس يعطون النفل من الخُمس. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت إليَّ في ذلك. قال أبو عمر: قول مالك رحمه الله: "وذلك أحسن ما سمعت"، يدلُّ على أنه قد سمع غير ذلك. وقد أوردنا في باب "جامع النفل في الغزو" مذاهب العلماء من السلف والخلف في هذه المسألة، واستوفينا القول فيها في باب السلب من النفل قبل هذا. والآثار كلها المرفوعة وغيرها تدل على صحة ما ذهب إليه من قال: إنَّ النفل لا يكون إلَّا من الخُمس, لأن الله تعالى قد ملَّك الغانمين أربعة أخماس الغنيمة بعدما استثناه على لسان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - من السلب للقاتل، فقال عزَّ وجلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، فأعطى الغانمين الأربعة الأخماس بإضافة الغنيمة إليهم، ولم يخرج منها =

وممن قال إنه من أصل الغنيمة (¬1): الحسن البصري والأوزاعي وأحمد، وأبو ثور وآخرون، والذي يقرب من هذا الحديث أن هذا التنفيل كان من الخمس، لأنه أضاف الاثنى عشر إلى سهمانهم. فقد يقال: إنه إشارة إلى ما تقرر لهم استحقاقه، وهو الأخماس الأربعة الموزعة عليهم، فيبقى النفل من الخمس، واللفظ يحتمل لغير ذلك احتمالًا قريبًا، وإن استبعد بعضهم أن يكون هذا النفل إلَّا من الخمس من جهة اللفظ، فليس بالواضح الكبير نبه على ذلك الشيخ تقي الدين (¬2). وقد قيل: إنه تبين أن كون هذا النفل من الخمس من مواضع أخر. أن تنفل السرية جميع ما غنمت دون باقي الجيش، وهو خلاف ما عليه العلماء كافة قال أصحابنا: ولو نفلهم الإِمام من أموال بيت المال العتيدة دون الغنيمة جاز. ¬

_ = عنهم إلَّا الخُمس، فدلَّ على تمليكهم، كما قال جل وعز: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فدلَّ على أن للأب الثلثين بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، ثم جعل للأم الليث، يدل على أن الثُّلثين للأب، كذلك الغنيمة لما أضافها إلى الغانمين، وجعل الخُمس لغيرهم، وبالله التوفيق. ويخرج أيضًا من الغيمة: الأرض, لما فعله عمر بن الخطاب في جماعة الصحابة رضي الله عنهم وفيهم فقهاء، وتأوَّلوا في ذلك أنَّه الفيءُ، وقد اختلف في ذلك كُلِّه على حسبِ ما قَدْ ذكرناه، والحمدُ لله. قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}، فما كان للرسول ومن ذكر معه جرى مجرى الفيء، وكان له في قسمته الاجتهاد على ما وردت في ذلك السنَّة عنه - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. (¬1) المرجع السابق (14/ 106). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 522).

ثم التنفيل يكون لمن فعل جميلًا في الحرب انفرد به. الثالث: إثبات التنفيل للترغيب [في تحصيل] (¬1) مصالح القتال، ثم الجمهور على أن التنفيل يكون في كل غنيمة، سواء الأولى وغيرها، وسواء غنيمة الذهب والفضة وغيرهما. وقال الأوزاعي وجماعة من التابعين: لا ينفل في أول [غنيمة] (¬2) ولا ينفل ذهبًا ولا فضة (¬3) واستحبه مالك مما يظهر كالعمامة والسيف والقوس. الرابع: وجوب القسمة في الغنائم، وهو إجماع. الخامس: استدل به الباجي (¬4) على قسمة أعيان الغنيمة لا أثمانها، وعند المالكية فيها ثلاثة أقوال حكاها صاحب "الذخيرة". ثالثها: التخيير، قالوا: فلعل الحديث إنما دل على التخيير فأوقع أحد المخبرين لها على قسمة الأعيان ولا بد. السادس: جاء في رواية لمسلم "ونفلوا بعيرًا بعيرًا" فلم يعب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجمع (¬5) بين هذه ورواية الكتاب أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي - صلي الله عليه وسلم - فيجوز نسبته إلى كل واحد منهما، ونسبته منه أن أمير الجيش إذا فعل شيئًا من المصالح المتعلقة بالجيش من ¬

_ (¬1) في الأصل (في ترغيب)، وما أثبت من ن هـ، وشرح مسلم (12/ 56). (¬2) زيادة من شرح مسلم. (¬3) انظر: الاستذكار (14/ 167). (¬4) المنتقى (3/ 178). (¬5) ذكر هذا الجمع النووي في شرحه لمسلم (12/ 55)، والبيهقي في دلائل النبوة: (4/ 356).

نفل وغيره، لا ينقضه الإِمام بل يقره. السابع: أن السرية إذا انفصلت من الجيش فجاءت بغنيمة، فإنها تكون مشتركة بينها وبين الجيش, لأنهم ردًا لهم، أما إذا كان الجيش في البلد فتختص الغنيمة بالسرية، ولا يشارك فيها. الثامن: قال الشيخ تقي الدين: قد يستدل على أن المنقطع منها عن جيش الإِمام ينفرد بما يغنمه، من حيث إنه يقتضي أن السُّهمان كانت لهم. ولا يقتضي أن غيرهم شاركهم فيها. وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبًا [منهم] (¬1)، يلحقهم عونه وغوثه [إذا] (¬2) احتاجوا. قلت: حديث أبي داود صريح في التشريك بينهم، وما ذكره آخرًا هو مذهب مالك. التاسع: قال القاضي: اختلف في هذا النفل: هل كان بعد القسمة أو قبلها؟ وفي "مسلم" ما يدل على أنه بعد القسمة من الخمس أيضًا، ولأن قوله: "ونفلنا بعيرًا بعيرًا" لو كان من المغنم لم يكن له فائدة, لأن ذلك يكون حالهم لو لم ينفلوا، وقسمت بينهم الأخماس الأربعة. خاتمة: قال ابن عبد البر (¬3): النفل على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يريد الإِمام تفضيل بعض الجيش لقتاله وبلائه، فينفله من الخمس، واستحبه بعضهم من خمس الخمس المختص به عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (4/ 522) (منه). (¬2) في المرجع السابق (إن). (¬3) الاستذكار (14/ 101، 102)، وقد ساقها المصنف بتصرف.

ثانيها: أن يبعث الإِمام سرية من العسكر فينفلها ما غنمت دون العسكر، فحقه أن يخمس ما غنمت، ثم يعطى السرية مما بقي بعد الخمس ما شاء أو لا يزيد على الثلث, لأنه أقصى ما روي في النفل عليه الصلاة والسلام. ثالثها: أن يحرض الإِمام أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو، وينفل ما شاء منهم أو جميعهم مما يفتح الله عليه الربع أو الثلث. وكره مالك هذا لخبث النية لسببه وأجازه بعض السلف.

الحديث العاشر

الحديث العاشر 424/ 10/ 80 - عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث اتفق على إخراجه أيضًا من حديث أنس (¬2) وابن مسعود (¬3)، وانفرد مسلم بإخراجه من حديث أبي سعيد ¬

_ (¬1) البخاري (3188)، ومسلم (1735)، وأبو داود (2756)، والترمذي (1581)، والبغوي (2479، 2480، 2482)، وأحمد (2/ 16، 29، 48، 49، 56، 70، 75، 96، 112، 116، 126، 142، 103، 123، 156)، وابن أبي شيبة (12/ 460)، والبيهقي في السنن (9/ 230). (¬2) البخاري (3187)، ومسلم (1737)، والبغوي (2481)، وأحمد (3/ 142، 150، 250، 270)، وأبو يعلى (6/ 112، 231)، والبيهقي في سننه (8/ 160)، وابن أبي شيبة (12/ 461). (¬3) البخاري (3186)، ومسلم (1736)، وابن ماجه (2872)، وأحمد (1/ 411، 417، 441)، والبيهقي في الشعب (4353، 5270)، =

الخدري (¬1)، وفي بعض طرقه "لواء يوم القيامة يعرف به". ثانيها: "الغدر" في اللغة ترك الوفاء (¬2) يقال: غدرته بغدِر بكسر الدال في المضارع فهو غادر. و"اللواء" بالمد جمعه ألوية، قال أهل اللغة (¬3): عبارة الجوهري إنها المطارد، وهي دون الأعلام، والسود هو الراية العظيمة، لا يمسكها إلَّا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش، ويكون [الناس] (¬4) تبعًا له. وأصل رفع اللواء: الشهرة والعلامة، ولهذا جاء في رواية في صحيح مسلم "يرفع له بقدر غدرته". وكانت العرب تنصبها في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك لتتم فضيحته، قال القاضي (¬5): واللواء يوم القيامة على ثلاثة أوجه: لواء غدر، ولواء شعر، ولواء فخر، فالأول لمن نقض العهد للغدر في الجهاد فيجعل علامة له في ذلك المحل العظيم، فإنه قد اخفى غدره في الدنيا. ¬

_ = والدارمي (2/ 248)، وأحمد (1/ 411، 417)، وابن أبي شيبة (12/ 461)، والبيهقي في السنن (9/ 142)، والطيالسي (34). (¬1) مسلم (1136)، وابن ماجه (2873)، وأحمد (3/ 46)، والبيهقي في السنن (8/ 160)، وابن أبي شيبة (12/ 460، 461)، وأبو يعلى (2/ 419، 441). (¬2) مختار الصحاح (199)، مادة (غ د ر)، وتاج العروس (7/ 294). (¬3) مختار الصحاح (255)، مادة (ل وى). (¬4) في ن هـ (الجيش). (¬5) أشار إلى ذلك ليس إكمال إكمال المعلم (5/ 51).

والثاني: لواء امرئ القيس. والثالث: لواء سيدنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهو لواء الحمد الذي اختص به من دون سائر الرسل والأنبياء. ثالثها: هذا الحديث ونحوه وارد على نهي الإِمام عن الغدر في عهوده لرعيته أو للكفار أو غيرهم أو غدره للأمانة التي قلدها الله لرعيته، وأُلزم القيام بها والمحافظة عليها. رابعها: في فوائد: الأول: غلظ تحريم الغدر من صاحب الولاية العامة وغيره، لأن غدره يتعدى [ضرره] (¬1) إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر، لقدرته على الوفاء، كما صح: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، وشيخ زان، وعائل مستكبر"، ولا شك أن الغدر في الحرب والاغتيال فيه وغيره ممنوع شرعًا، خصوصًا إن تقدم ذلك عهد أو أمان، وقلنا: إن الدعوة إلى الإِسلام واجبة قبل القتال، وذلك كله متعلق بالإِمام، ولفظ الحديث عام في الإِمام وغيره، لكن غدر الإِمام أعظم، كما جاء في "صحيح مسلم" (¬2) من حديث أبي سعيد الخدري "ولا غادرَ أعظم غدرًا من أمير عامة". الثانية: شهرة الناس والتعريف بهم في القيامة بالنسبة إلى آبائهم، خلاف ما حكى أن الناس يدعون في القيامة بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) (1738).

أمهاتهم (¬1)، كذا قاله الشيخ تقي الدين (¬2)، وقد يقال هذا الفرد خاص، وليس فيه عموم كل الناس. ¬

_ (¬1) قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (4/ 524): قوله: "بالنسبة إلى أمهاتهم"، أقول: قال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} عن محمَّد بن كعب بأمهاتهم. قال: وإمام جمع أم. قال: قالت الحكماء في ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة: أحدها: لأجل عيسى. والثاني: تشريف الحسنين. والثالث: لئلا بفتضح أولاد الزنا. وردَّه القرطبي بهذا الحديث كما أشار إليه الشارح. وقد أجيب عنه بأن الذي في الآية هو الدعاء والدعاء والذي في هذا الحديث هو الإِخبار عن غدرته. قلت وفي الكشاف: ومن بدع التفسير أن إمام جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسنين وأن لا يفتضح أولاد الزنا, وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته. انتهى. قال في الكشف: لأن إمامًا جمع أم غير شائع، والمعروت أمهات. وأما الحكمة فإن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء، فإن خلقه من غير أب كرامة له لا لغض منه ليخبر أن الناس أسوته في انتسابهم إلى إمهاتهم، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما، مع أن أهل البيت من أهل العباءة كلهم كالحلقة المفرغة، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلَّا للأمهات وهي حاصلة، دعى غيرهم بالأمهات أو بالآباء، ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح. اهـ. (¬2) إحكام الأحكام (4/ 524).

الثالثة: اجتناب الأخف خوفًا من الأشد، فإن فضيحة القيامة أشد من فضيحة الدنيا، نسئل الله الستر. الرابعة: عقوبة الغادر بعكس خيانته كما أسلفناه، ووقع في "الموطأ" (¬1) عن ابن عباس أن عقوبهم تسليط العدو عليهم، ولفظه: "ما [خنز] (¬2) قوم بالعهد إلَّا سلط عليهم [العدو] (¬3))، قال الباجي (¬4): عقوبنهم في الدنيا، قال القاضي (¬5): ولسبب عظيم، الغدر منع قوم من الجهاد مع ولاة الحرب إذا كانوا يغدرون، وأجازوا إذا كانوا لا يغدرون. ¬

_ (¬1) الموطأ (449). (¬2) في الأصل (أخف)، وفي ن هـ (أخضر)، وما أثبت من الموطأ. (¬3) في الأصل (عدوهم)، وما أثبت من ن هـ والموطأ. (¬4) المنتقى (3/ 117). (¬5) أشار إلى ذلك في إكمال إكمال المعلم (5/ 52).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر 425/ 11/ 80 - " [عنه أيضًا] (¬1) أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي - صلي الله عليه وسلم - مقتولة، فأنكر النبي - صلي الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذه المقتولة لم أر من سماها بعد البحث عنه. ثانيها: النساء [جمع] (¬3) لا واحد له من لفظه، وكذلك النِّسْوَانُ والنُّسْوَةُ، والصِّبْيان: بكسر الصاد وضمها جمع صبي. ثالثها: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتلها إذا لم يقاتلوا؛ لأنه ليس في نفوسهم من إحداث الضرر والميل إليه ما في نفوس الرجال المقاتلين. والأصل عدم إتلاف النفوس وإنما أبيح من إتلافها ما يقتضيه دفع المفسدة، والغالب عدم القتال منها، فرفع عنهم القتل لعدم ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما). (¬2) البخاري (1304)، ومسلم (1744)، وأبو داود (2668)، وابن ماجه (2841)، والترمذي (1569)، ومالك (2/ 447)، وأحمد (2/ 22، 23، 75، 76، 100، 115)، والدارمي (2/ 222، 223)، والطبراني في الكبير (12/ 13416)، والبيهقي (9/ 77)، والبغوي (2694). (¬3) زيادة من ن هـ.

مفسدة المقاتلة حالًا، ورجاء هدايتهم مآلًا، فإن قاتلوا. قال جمهور العلماء: يقتلون. وعند المالكية: أن المرأة إذا كان لها رأي تقتل. وعندهم أربعة أقوال فيما إذا قاتلت. ثالثها: إن قَتَلَتْ قُتَلَتْ وإلاَّ فلا. رابعها: تقتل عند قتالها خاصة. وفيمن اقتصرت على الرمي بالحجارة: قولان عندهم. وفي المترهبات منهن: قولان أيضًا لهم. وعندهم أن المراهق: يقتل إذا قاتل. وأما الشيوخ: فإن كان فيهم رأي قتلوا، وإلَّا ففيهم وفي الرهبان خلاف. والأصح عند الشافعية: قتلهم. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقتلون، وحكاه ابن هبيرة عن أحمد أيضًا. لنا حديث الحسن عن سمرة رفعه "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" (¬1)، رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب. قال الحسن: ولو خرجوا مع رجالهم إلى بلاد [المسلمين] (¬2) يقتلون. ¬

_ (¬1) أبو داود (2670)، والترمذي (1853)، والبيهقي في السنن (9/ 19)، وفي معرفة السنن والآثار (13/ 18098). (¬2) في الأصل (المشركين)، وما أثبت من ن هـ والاستذكار (14/ 61).

قال الأوزاعي: كذا إذا كانت حارسة للعدو. قال القاضي (¬1): واختلف أصحابنا إذا قاتلوا ثم لم يظفر بهم بعد أن يرد القتال أو أسروا: هل يقتلون؟ على قولين (¬2). تنبيه: يجوز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعدٍّ، كما ثبت في "الصحيحين" (¬3) من حديث الصَّعب بن جثّامة. ¬

_ (¬1) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 55). (¬2) القول الأول: لا يقتلون، وهو مد مالك وأبي حنيفة مستدلين بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، وهؤلاء ليسوا ممن يقاتلون، وأيضًا جاء في الحديث أن النبي -صلي الله عليه وسلم - رأى امرأة مقتولة في إحدى المغازي فقال: "ما كانت هذه لتقاتل"، فنبَّه في ذلك على علة القتل، وهي المقاتلة، فلا يقتل إلَّا من قاتل القول الثاني للشافعي: أنهم يقتلون، واحتج بقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وأيضًا قتل دريد بن الصمة وهو شيخ كبير فان، وأيضًا بالحديث السابق: "اقتلوا شيوخ المشركين ... " الحديث، وبأن الجزية تؤخذ منهم وهي تحقن الداء، فلولا أن دماء غير محترمة لم تؤخذ منهم. (¬3) لفظ الحديث "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: "هم منهم"، أخرجه البخاري (3012)، ومسلم (1745)، وأبو داود (2672)، والترمذي (1570)، وابن ماجه (2839)، وعبد الرزاق (9385)، وأحمد (4/ 37، 38، 71، 72، 73)، والحميدي (781)، وابن الجارود (1044)، وأبو عوانة (4/ 95، 96، 97).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر 426/ 12/ 80 - عن أن بن مالك رضي الله عنه "أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، [شكيا] (¬1) القمل إلى في [غزاة] (¬2) لهما فرخص لهما في قميص الحرير، ورأيته عليهما" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سلف في باب الاستطابة. والتعريف بعبد الرحمن بن عوف: سلف في باب الصداق. والزبير: حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته صفية وأحد العشرة وأحد أعلام السابقين البدريين. قتل في جمادي الأولى سنة ست وثلاثين، قتله عمرو بن جرموز وقبره بوادي السباع من ناحية البصرة ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (شكوا). (¬2) في ن هـ (غزوة). (¬3) البخاري (2919)، ومسلم (2176)، وأبو داود (1722)، وابن ماجه (3592)، والنسائي (8/ 202)، والنسائي في الكبرى (9637)، وأحمد (3/ 122، 192، 215، 252)، والبغوي (3106)، وابن أبي شيبة (6/ 9).

مشهور بها. وترجمته موضحة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب. ثانيها: هذا الحديث ذكره البخاري في باب الحرير في الحرب من كتاب الجهاد، بلفظ "أن عبد الرحمن والزبير [شكيا] (¬1) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني القمل - فأرخص لنا في الحرير، فرأيته عليهما في "غزاة". ولفظ "مسلم": "إنهما شكوا إلى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - القمل فرخص لهما في قميص الحرير في غزاة لهما". ثالثها: لو ذكر المصنف هذا الحديث في باب اللباس، لكان أنسب من ذكره هنا, لأنه من المخصص لعموم النهي عن لبس الحرير، وهو مناسبته هنا عموم حاجة المغازي إلى ذلك. رابعها: يقال: شكيت وشكوت. وقد ذكر الحديث بهما. الفاكهي: وكأن الواو أكثر والشكوى إخبارك عن المشكو بسوء فعله بك. قال الجوهري (¬2): في المصدر شكوى وشِكَاتَةً وشَكِيَّةً وشَكَاةً، والاسم: الشَّكْوَى. خامسها: الحديث دال على جوازه، لأجل هذه المصلحة، وهي دفع القمل للمداواة، فإن برودته تدفعه، ولعله تعين لذلك في دفعه في ذلك الوقت، وقد سماه الراوي رخصة لأجل الإِباحة مع قيام دليل الخطر. ¬

_ (¬1) في البخاري (شكوا) ح (2920) (6/ 101). (¬2) المختار الصحاح (148)، مادة (ش ك ا).

ومن الشافعية: من خص جواز ذلك بالسفر، واختار ابن الصلاح منهم لظاهر الحديث. والأصح: الجواز حضرًا وسفرًا. وقال مالك (¬1): لا يجوز لبسه مطلقًا. والحديث حجة عليه ولا تعارض. فحديث "أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" (¬2) لما لا يخفى. سادسها: ثبت في "الصحيحين" أيضًا من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام [أرخص] (¬3) لهما -أعني ابن عوف والزبير- في قميص الحرير لحكة كانت بهما أو وجع كان بهما"، فيحتمل أنه أرخص لهما لدفع القمل مرة، وللحكة أخرى، ويحتمل أنهما اجتمعا لهما، والحكمة في جوازه للحكه أن برودته يمنع منها. وخالف مالك فيه، والحديث حجة عليه، وهو وجه بعيد عند الشافعية وفي وجه ثالث: لهم يجوز ذلك في السفر دون الحضر، لظاهر رواية في مسلم، أن ذلك كان في السفر، لكن جواب هذا أن الرخصة معقوله فتعدى، والسؤال صادف حالة السفر، فلا يتقيد به. سابعها: يباح أيضًا لمن خاف من حرٍ أو برد لم يجد غيره، ¬

_ (¬1) الاستذكار (26/ 208). (¬2) من رواية ابن مسعود: أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 23)، والطبراني في الكبير (9714). (¬3) لما يأتي لفظ الصحيحين أو أحدهما بهذا وإنما لفظ (رخص) علمًا أن بقية الحديث كما في سياق المصنف ليس هكذا في الصحيحين.

وكذلك لمن فاجأته الحرب، ولم يجد غيره وكذا الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح، كما سلف في بابه. ثامنها: استحب ابن الماجشون لباس الحرير في الغزو، أو لا يقصد به الخيلاء الممنوعة، حكاه عنه صاحب "المعلم" ومن الشافعية من جوز اتخاذ القباء ونحوه ما يصلح للحرب ولبسه فيها على الإِطلاق لما فيه من حسن الهيئة وزينة الإِسلام: كتحيلة السيف. تاسعها: استدل الطبري بهذا الحديث على أن كل علة تضطر [إنسان] (¬1) إلى لبس الحرير ويرتجى بلبسها خفته أنه يجوز معها لباسه. ¬

_ (¬1) في ن هـ (الإِنسان).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر 427/ 13/ 80 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال: كانت أموال بني النضير: مما أفاء الله على رسوله -[صلى الله عليه وسلم -] (¬1)، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله عز وجل" (¬2). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث، لما ذكره المصنف في "عمدته الكبرى" عزاه إلى الترمذي، ثم قال: ومتفق على معناه. هذا لفظه، وقد أخرجه مسلم في الجهاد، بلفظ: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله [على رسوله] (¬3) مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ¬

_ (¬1) زيادة من إحكام الأحكام. (¬2) البخاري (2901)، ومسلم (1757)، والترمذي (1719، 1610)، وأبو داود (2963، 2965)، والنسائي (7/ 132)، والسنن الكبرى له (4450، 6307، 6308، 6310)، والبيهقي (7/ 468، 6/ 296)، والبيهقي في الشعب (1390)، والحميدي (1/ 13)، والبغوي في السنة (2738) وعبد الرزاق (5/ 469)، وأحمد (1/ 25، 48)، وعبد الرزاق (5/ 469)، ودلائل النبوة للبيهقي (3/ 185). (¬3) زيادة من ن هـ وصحيح مسلم.

ركاب [فكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة] (¬1)، فكان ينفق على [أهله] (¬2) أنفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله" [عزَّ وجلَّ] (¬3) ثم ساقه بنحوه مطولًا بقصة. وأخرجه بها البخاري في خمسة مواضع من صحيحه (¬4). ثانيها: كانت غزوة بني النضير سنة أربع من الهجرة وقريظة والنضير قبيلتان من اليهود، وكان صاحب عهد بني قريظة كعب بن أسد، وكان حُيَيّ بن أخطب من سادات بني النضير، ونقض العهد مع ¬

_ (¬1) زيادة من صحيح مسلم. (¬2) زيادة من ن هـ وصحيح سلم. (¬3) غير موجود في صحيح مسلم. (¬4) أطرافه في (2904): الموضع الأول، باب: المجن ومن بترس يترس صاحبه ح (2904). الموضع الثاني، كتاب: فرض الخمس، باب: فرض الخمس ح (3094). الموضع الثالث، كتاب المغازي، باب: حديث بني النضير ح (4033). الموضع الرابع، كتاب التفسير، باب قوله تعالى {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} ح (4885). الموضع الخامس، كتاب النفقات، باب: حبس رجل قوت سنة ح (5357، 5358). الموضع السادس، كتاب الفرائض، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث" ح (6728). الموضع السابع، كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من التعمق والتنازع (7305).

النبي - صلى الله عليه وسلم - فكبر رسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون وقال: حاربت اليهود في قصة طويلة. ثالثها: في ألفاظه ومعانيه. معى [أوجف] (¬1) الإِيجاف الإِعمال. وقيل: الإِسراع والوَجيفُ ضرب من سير الخيل والإِبل يقال: وَجَفَ الفرس والبعير يَجِفُ [وجوفًا] (¬2) أسرع وأَوْجَفَهُ صاحبه إذا حمله على السير. و"الركاب" الإِبل خاصة، واحدته راحلة من غير لفظها. والجمع الركب مثل الكتب. وأما الركب فمن الأسماء المفردة الواقعة على الجمع، وليس بجمع تكسير لراكب، بدليل قولهم في تصغيره ركيب، وجمع التكسير: لا يصغر على لفظه. وقوله "فكانت لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - خالصة". معناه أن أموال بني النضير كان معظمها له لا كلها, لأن له عليه الصلاة والسلام مما أفاء الله عليه أربعة أخماسها والخمس الباقي فيكون له أحد وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين سهمًا والأربعة الباقية لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. قال الشيخ تقي الدين (¬3): ويحتمل أن يكون كلها كانت له أي كما هو مذهب مالك، وكان ما يفعله من الكراع والسلاح تبرعًا. وقوله: " [فكان] (¬4) عليه الصلاة والسلام يعزل نفقة أهله سنة" يعني ¬

_ (¬1) في الأصل ون هـ (فأرجع). (¬2) في مختار الصحاح (296) (وجِيفًا). انظر: مادة (وج ف). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 527). (¬4) في هـ ساقطة.

أنه لما كانت أموال بني النضير له خالصًا، واتسع عليه الحال ادخر لعياله نفقة سنة تطييبًا لقلوبهم. وكان قبل ذلك لا يدخر "لغدٍ شيئًا" أو "كان لا يدخر شيئًا لغد" (¬1) لأجل نفسه أو لأجل أهله، وإن كان مشاركًا لأهله فيما يدخر لهم. "والسلاح" يذكر ويجوز تأنيثه، وهو ما أعد من السلاح للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به. و"العدة" بضم العين كل ما يستعان به لحوادث الدهر من مال وسلاح. الرابع: في فوائده. الأولى: ما أكرم الله به نبيه من خصائص الدنيا والأخرى [(¬2)] وتقدمه بها على جميع المخلوقات. الثانية: أن حكم أموال الفيء كانت خاصًّا به في حياته، يضعه حيث شاء، فكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم، ويجعل ما بقي مصرف أكثر مال الله تعالى إلى أن توفي، وهذا ما قاله أكثرُ الشافعية بالنسبة إلى أربعة أخماس الفيء وخمس خمسه. وقال الغزالي وغيره: كان الفيء جميعه له إلى أن مات، وإنما يخمس بعد موته. وقال الماوردي (¬3) وغيره: اختصاصه عليه الصلاة والسلام ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي من رواية أن (2362)، وابن حبان (6378)، ودلائل النبوة للبيهقي (1/ 346). (¬2) الحاوي الكبير (10/ 428). (¬3) الحاوي الكبير (10/ 428).

بجميع الفيء كان في أول حياته، ونسخ في حياته. واختلف العلماء في مصرف الفيء بعده. فقيل: جميعه للمصالح ولا يخمس وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وقيل: إن الأخماس الأربعة للمرتزقة، وهم الأجناد المرصدون للجهاد، والخمس: لخمسة لمصالح المسلمين، ولبني هاشم والمطلب، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وهذا مذهب الشافعي. والأكثرون على أن لا يخمس حتى عد [القول] (¬1) بنخميسه من أفراد الشافعي، ومحل الخوض في المسألة كتب الخلاف. الثالث: جواز الادخار للنفس والعيال قوت سنة، وأن ذلك غير قادح في التوكل وفعله عليه الصلاة والسلام ذلك لم يكن لنفسه، بل كان للعيال تطييبًا لقلوبهم، وتسكينًا لهم، وجمعها على ما هم بصدده، وكان مع ذلك ينفقه قبل انقضاء العدة في وجوه الخير، ولا يتم جملة السنَّة، ولهذا توفي ودرعه مرهونة على شعيرٍ، استدان لأهله، ولم يثغ ثلاثة أيام تباعًا (¬2)، وقد تظاهرت الأحاديث ¬

_ (¬1) زيادة من هـ. (¬2) في رواية أبي هريرة رضي الله عنه ولفظ: "ما شبع آل محمَّد من طعام واحدٍ ثلاثًا حتى قبض - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا الأسودين: التمر، والماء"، أخرجه البخاري (5374)، دون قوله "إلَّا الأسودين" إلخ، البغوي (4076)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 265). وفي لفظ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ما أشبع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز البر حتى فارق الدنيا"، أخرجه مسلم (2976)، والترمذي (2358)، وابن ماجه (3343)، وأحمد (2/ 341). =

الصحيحة بكثرة جوعه وجوع عياله (¬1). وقام الإِجماع على جواز ادخار ما يستغله الإِنسان من أرضه وزراعته مما لم يشتره من السوق، كما فعل الشارع. ووقع الخلاف في ادخار قوت سنة من السوق، فأجازه قوم واحتجوا بهذا الحديث: ولا حجة فيه؛ لأنه لم يكن من السوق. ومنعه الأكثرون على ما حكاه القاضي عياض (¬2) إلَّا على ما لا يضر بالسعر، ومحل هذا الاختلاف ما إذا كان وقت سعة. أما [إذا كان] (¬3) في وقت ضيق الطعام على المساكين [لم يصح] (¬4) بل يشتري ما لا يضيق: كقوت أيام أو شهر، والصوفية أو بعضهم: قد يجعلون ما زاد على السنة خارجًا عن طريق التوكل. ¬

_ = ومن رواية عائشة رضي الله عنها: "ما شبع آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليالٍ تباع حتى قبض" أخرجه البخاري (5416)، ومسلم (3/ 2281)، وأحمد (6/ 156)، وابن ماجه (3344)، وابن أبي شيبة (13/ 249)، والبيهقي في السنن (7/ 47)، والدلائل (1/ 340). (¬1) كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أخرجه مسلم (2977)، والترمذي (2372)، وحديث عمر من رواية النعمان رضي الله عنهما، أخرجه مسلم (2978)، وابن ماجه (4146)، وحديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (2567)، ومسلم (2972)، وحديث أنس رضي الله عنه، أخرجه البخاري (2069)، والترمذي (1215). (¬2) ذكره في إكمال إكمال المعلم (5/ 73). (¬3) زيادة عن هـ. (¬4) زيادة من هـ هكذا رسمها قريبًا مما أثبت، وسياق الكلام يقتضيه.

الرابع: مراقبة الله تعالى في الأموال أخذًا وعطاءً وصرفًا ومنعًا. الخامس: البداءة بالإِنفاق على العيال والتوسعة عليهم، وما فضل يصرف في الأهم من المصالح العامة. وأما الإِنفاق على [النفس] (¬1) فيجوز تقديمها بالنفقة المتوسطة على العيال وغيرهم، ثم يصرف ما بقي على العيال وما سلف. لكن الأفضل إن كان ممن يصبر ويحتسب أن يؤثر، وإلاَّ فلا وأما حال الاضطرار المفضي إلى الهلاك فيتعين تقديم النفس. السادس: إعداد [اللأمة] (¬2) وكذا ثباتهم ومن يشرع له الغزو [و] (¬3) آلات الجهاد والاعتناء بتقديمها على غيرهما، وهو من القوة المأمور بإعدادها في الآية (¬4). السابع: التصون والتحرز في الغزو ونحوه، ولا يكون ذلك قادحًا في التوكل خلافًا لبعض من حكى عنه أنه كان إذا خرج لا يعلق ماءه، ويرى أن إعلاقه ليس من التوكل (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل (البعض)، وما أثبت من هـ. (¬2) في الأصل (الأئمة)، وفي ن هـ (الأدلة)، وما أثبت يقتضيه السياق -اللأمة- الدروع، كما قاله أهل اللغة، وإطلاق السلاح عليها من إطلاق اسم الكل على البعض. (¬3) زيادة من هـ. (¬4) آية سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}. (¬5) ورد أن سبب نزول قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} , ما أخرجه البخاري في حديث رقم (1523) وغيره، عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون نحن المتوكلون، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، قال البيهقي في الشعب (3/ 398) نقلًا عن الإِمام أحمد "وفي هذا أن الله تعالى أمر زوار بيته بالتزود، فقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، يعني الله تعالى أعلم، فإن خير الزاد ما عاد على صاحبه بالتقوى". اهـ. قال البيهقي في الشعب (3/ 398) نقلًا عن الحليمي، وهو ألَّا يتوكل على أزواد الناس فيؤذيهم ويضيق عليهم، ومن دخل البادية بلا زاد متوكلًا فإنما يرجوا أن يقيض الله له من يواسيه في زاده، وهذا عين ما أشارت الآية إلى المنع منه. اهـ محل المقصود، وقد أكثر علماء السلف في الإِنكار على من يفعل ذلك. فقد قال الإِمام أحمد لرجل أراد الخررج إلى مكة من غير زاد، حينما قال له: يا أبا عبد الله أنا متوكل، قال: فتدخل البادية وحدك أو مع الناس؟ قال: لا، مع الناس، قال: كذبت، لست بمتوكل، فادخل وحدك، وإلَّا فأنت متوكل على جرب الناس". اهـ. من الحث على التجارة. وجاء في شعب الإِيمان (3/ 472) عن سهل أنه قال: "من طعن في الاكتساب فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإِيمان". وفيه أيضًا: (3/ 459) عن الجنيد (ليس التوكل الكسب، ولا ترك الكسب، التوكل: شيءٌ في القلب، وقال أيضًا: إنما هو سكون القلب إلى موعود الله عز وجل. قال البيهقي رحمه الله: وعلى هذا ينبغي أن لا يكون تجريد هذا السكون عن الكسب شرطًا في صحة التوكل، بل يكتسب بظاهر الحلم معتمدًا بقلبه على الله تعالى، كما قال بعضهم: أكتسب ظاهرًا وأتوكل باطنًا، فهو مع كسبه لا يكون معتمدًا على كسبه، وإنما يكون اعتماده في كفاية أمره على الله عز وجل. اهـ. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ¬

_ = وقال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) (282): "لو قال رجل للصوفية: من أين أطعم عيالي؟! لقالوا: قد أشركت، ولو سئل عمن يخرج إلى التجارة لقالوا: ليس بمتوكل ولا موقن". وقال أيضًا نقلًا عن ابن عقيل رحمهم الله تعالى (279): يظن أقوام أن الاحتياط والتحرز ينافي التوكل، وأن التوكل هو إهمال العواقب واطراح التحفظ، وذلك عند العلماء هو العجز. والتفريط الذي يقتضي من العلماء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله بالتوكل إلَّا بعد التحرز واستفراغ الوسع في التحفظ، فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} , فلو كان التعلق بالاحتياط قادحًا في التوكل لما خص الله به نبيه، حين قال له: {وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ}، وهل المشاورة إلَّا استفادة الرأي الذي منه يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو". اهـ. وقال الحافط ابن رجب -رحمنا الله وإياه- جامع العلوم (409)، "واعلم أن نحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه، بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به". اهـ. وكلام أهل العلم في هذا طويل ومرتبط بعقدة التوحيد، كما ذكر شيع الإِسلام ابن تيمية -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (1/ 131) (10/ 35). الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإِعراض عن الأسباب قدح في الشرع. اهـ.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر 428/ 14/ 80 - " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أجرى النبي - صلي الله عليه وسلم - ما ضمر من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق" (¬1). قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى. قال سفيان: "من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل". الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث ساقه البخاري كذلك في الجهاد (¬2)، وترجم عليه السبق بين الخيل، ثم ساقه بنحوه، وترجم عليه إضمار ¬

_ (¬1) البخاري أطرافه (420)، ومسلم (1087)، والترمذي (1699)، وأبو داود (2575)، والنسائي (6/ 225)، وفي الكبرى (4424، 4425)، والدارمي (2/ 212)، وابن ماجه (2877)، والحميدي (2/ 301)، وأحمد (2/ 5، 11، 55)، ومالك (2/ 372)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 19)، وابن أبي شيبة (7/ 715)، وعبد الرزاق (5/ 304)، ومالك (2/ 467). (¬2) الفتح (6/ 71) ح (2868).

الخيل (¬1) للسبق، ثم ساقه بنحوه، وترجم عليه غاية السبق للخيل (¬2) المضمرة. وفيه قال موسى بن عقبة (¬3): أحد رواته من "الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة، ومنها إلى مسجد بني زريق ميل ونحوه". ورواه مسلم: بنحوه ولم يذكر قول سفيان ولا موسى، وفي رواية له قال عبد الله: "فجئت سابقًا فطفف بي الفرس المسجد". ثانيها: "سفيان" هذا هو ابن عيينة بن ميمون العلاَّمة الحافظ شيخ الإِسلام ومحدث الحرم، وترجمته موضحة فيما أفردته في الكلام على رجال هذا الكتاب، فليراجع منه، وترجمة الصعبي في رجال هذا الكتاب لسفيان هذا, ولسفيان الثوري، فكأنه توقف في المراد، وليس كما توهم، فإنه ابن عيينة لا الثوري، كما قررناه، فتنبه لذلك. ثالثها: في ألفاظه: معنى "أجرى" سابق كما جاء مبينًا في الصحيح أيضًا، وجاري في العلم ناظر. ¬

_ (¬1) الفتح (6/ 71) ح (2869). (¬2) الفتح (6/ 71) ح (2870). (¬3) لفظه في الفتح (6/ 71) فقلت لموسى: فكم كان بين ذلك؟ قال: ستة أمال أو سبعة، وسابق بين الخليل التي لم تضمر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق، قلت: فكم بين ذلك؟ قال: ميل أو نحوه، وكان ابن عمر ممن سابق.

و "تضمير الفرس" أن يقلل علفها، وتدخل بيتًا كنينًا، وتجلل فيه، لتعرق، ويجف عرقه، فيجف لحمها، وتقوى على الجري، قاله النووي في "شرحه" (¬1). وعبارة الشيخ تقي الدين (¬2): نحوها فإنه قال: الإِضمار ضد التسمين، وهو تدريج لها في أقواتها إلى أن يحصل لها الضمر. ونقل الفاكهي عن أهل اللغة أن التضحير أن تعلف حتى تسمن، ثم ترده إلى القوت، أي: فلا يعلف غيره، وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمى "المضمار"، والموضع الذي تضمر فيه يسمى أيضًا "مضمارًا" وهو بيت لين تجلل فيه لتعرق ويجف عرقها، فيجف لحمها، ويقوى على الجري. وذكر بعضهم (¬3) أنها تعلف الحب والقضيم حتى تسمن إلى آخره. ومن العرب من يطعمها اللحم واللبن في أيام التضمير. وعبارة بعضهم (¬4): أن التضمير أن تشد عليها سروجها، وتجلل بالأجلة حتى تعرق عنها، فيذهب رحلها، ويشتد لحمها. ويقال: ضَمَّر بالتشديد، وأضمر بالهمز والتخفيف، [والضُّمْرُ] (¬5) بسكون الميم وضمها: خفة اللحم والهزال. وقد ضَمَرَ ¬

_ (¬1) شرح مسلم (14/ 13). (¬2) إحكام الأحكام (4/ 530). (¬3) معالم السنن (3/ 398). (¬4) النهاية (3/ 99)، ذكره في النظم المستعذب (2/ 50). (¬5) في الأصل مكررة وهـ (المضمر).

الفرس بفتح الميم يَضْمرُ ضُمُورًا وضُمْر بالضم لغةً فيه، ويقال ضمرت الفرس وأضمرتها. رابعها: في تبين أسماء الأماكن الواقعة فيه. فأما "الحَفْيَاءُ" فبفتح الحاء المهملة وسكون الفاء تمد وتقصر والأشهر المد والحاء مفتوحة بلا خلاف وأخطأ من ضمها، كما نبَّه عليه صاحب "المطالع"، ويقال أيضًا: "بحيفاء" (¬1) بتقديم الياء عن الفاء، كما حكاه الحازمي (¬2)، والمشهور في كتب الحديث وغيرها تأخيرها عنها. و"الثنية" بنشديد الياء الطريق في الجبل. و"الوداع" بفتح الواو سميت بذلك لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة، يودعهم مشيعوهم بها. وقيل: لأنه عليه الصلاة والسلام ودع بها بعض من خلفه على المدينة في أحد خرجاته. ¬

_ (¬1) ذكرها رواية كما في المغانم المطابة في معالم طابة، للفيروزآبادي (117)، وأيضًا في المؤتلف والمختلف في أسماء البلدان. انظر: معجم البلدان (2/ 276). (¬2) هو محمَّد بن موسى بن عثمان بن موسى بن عثمان الحازمي الهمداني، وُلد سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة، له مولفات منها الناسخ والمنسوخ، عجالة المبتدي وفضالة المنتهي في الأنساب، توفي في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة عن خمس وثلاثين سنة، ترجمته شذرات الذهب (4/ 282)، وطبقات ابن شهبة (2/ 46).

وقيل: بعض سراياه المبعوثة، والأول أصح، فإنه إسم قديم جاهلي لهذه الثنية، وقد قال نساء الأنصار حين قدم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - المدينة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع (¬1) وقول سفيان: إن بين الحفياء والثنية ستة أميال أو خمسة هو قول الأكثر، خلافا لقول موسى بن عقبة السالف. و"زريق" بزاي مضمومة ثم راء مهملة بطن من الأنصار من الخزرج، ينسب إليه جماعة من الصحابة وغيرهم. و"الميل" (¬2) حيث أطلق المراد به في المسافة ألف باع. والباع: أربعة أذرع. والذراع: أربعة وعشرون أصبعًا. والأصبع: ست شعيرات بطن حبة إلى ظهر أخرى. ¬

_ (¬1) أخرجها البيهقي في دلائل النبوة (2/ 506)، قال ابن حجر -رحمنا الله وإياه- الفتح (8/ 129)، وقد روينا بسندٍ منقطع في الحلبيات قول النسوة لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع". اهـ. البيهقي في دلائل النبوة (2/ 506) ضعفه العراقي في تخريج إحياء علوم الدين (1997). قال: رواه البيهقي في الدلائل من حديث ابن عائشة معضلًا وليس فيه ذكر الدف والألحان. اهـ. (¬2) الميل (1848) م.

والشعير: ست شعيرات من شعر البغل أو ما قام مقامه. وقال ابن عبد البر (¬1): أصح ما قيل في الميل: أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع. خامسهاة في فوائده: الأول: جواز المسابقة بين الخيل. الثاني: تضميرها وهو إجماع أيضًا وكذا فيما قبله، لكن اختلف العلماء في المسابقة بينهما هل هو سنة أو مباح، ومذهب الشافعية الأول. الثالث: جواز تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وليس هو من باب تعذيبها، بل من باب تدريبها [للحرب] (¬2) وإعدادها لحاجتها والكر والفر. الرابع: بيان الغاية التي يتسابق إليها ومقدار أمدها. الخامس: إطلاق الفعل على الآمر به والمسوغ له، وليس في الحديث دلالة على العوض فيها, ولا على جوازها على غير الخيل، ولا على غير ذلك من الشروط التي اشترطها الفقهاء في عقد المسابقة، فلا حاجة إلى الخوض فيها، فإنه تعرض لها بعض الشراح، وقد قام الإِجماع على جواز المسابقة بغير عوض بين جميع أنواع الخيل، سواء أكان معها ثالث أم لا فأما [المسابقة بعوض] (¬3) ¬

_ (¬1) الاستذكار (1/ 237). (¬2) زيادة من ن هـ. (¬3) ما أضيف من شرح مسلم للنووي (13/ 14).

فجائزة بالإِجماع، لكن يشترط أن يكون العوض من غير المتسابقين أو منهما، ويكون معهما محلل، وهو ثالث على فرس مكافىء لفرسيهما, ولا يخرج المحلل من عنده شيئًا، فيخرج هذا العقد عن صورة القمار، ومحل الخوض في ذلك كتب الفروع، وقد بسطناها فيها, ولله الحمد. السادسة: جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها, وليس في ذلك تزكية لهم، وليس إضافة المسجد إلى بني رزيق إضافة تمليك، وإنما هي إضافة تمييز، وقد ترجم البخاري (¬1) على هذه المسألة فقال: باب جواز قول مسجد بن فلان، وروي عن إبراهيم النخعي (¬2) أنه كان يكره أن يقال مسجد بني فلان، ولا يرى بأسًا أن يقال مصلى بني فلان. ... ¬

_ (¬1) البخاري الفتح (1/ 515)، ح (420). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 438).

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر 429/ 15/ 80 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني [(¬1)] وعرضت عليه يوم الخندق [وأنا ابن خمس عشرة] (¬2) فأجازني" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: "غزوة أُحُد" كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث. "وغزوة الخندق" كانت في شوال، وقيل: في جمادى الآخرة، وقيل: في ذي القعدة سنة أربع، وقيل: خمس، وهو يوم الأحزاب، ¬

_ (¬1) في متن العمدة زيادة (في المقاتلة). (¬2) في هـ ساقطة. وفي متن العمدة زيادة (سنة). (¬3) البخاري (9407)، مسلم (1868)، والترمذي (1136) , وأبو داود (2957)، وابن ماجه (2543)، والنسائي (6/ 155)، وفي الكبرى (5624، 8877)، وأحمد (2/ 17)، وأبو عوانة (4/ 53، 54)، وعبد الرزاق (5/ 310، 311).

ومقتضى هذا على القول الثاني، وهو مخالف لمقضى الحديث الصحيح، فإن مقتضاه أن يكون سنة خمس عشرة، لكنه موافق للأول، أو يكون ابن عمر طعن في الرابعة عشر يوم أُحُد وفي السادسة عشر يوم الخندق، فعبر عنهما بما ذكر. فائدة: رد النبي - صلي الله عليه وسلم - يوم أُحُد مع ابن عمر زيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس وزيد بن أرقم، وأبا سعيد الخدري. وأجازهم يوم الخندق. وقيل: إن بعض هؤلاء إنما رده يوم بدر. وأجازه يوم أُحُد، لأجل البلوغ وعدمه، ذكره كله ابن عبد البر في "سيرته" (¬1) ومن رد يوم أُحُد [عقيب] (¬2) بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن خيثمة. وفي هذا نظر, لأنه تغيب فكيف يرد. وسعد بن حبته جد أبي يوسف القاضي وهو بحاء مهملة مفتوحة، ثم موحدة ثم مثناة فوق. الوجه الثالث: معنى "لم يجزني وأجازني"، أي: جعلني يوم الخندق رجلًا في حكم المقاتلين، بخلاف يوم أُحُد بدليل رواية مسلم: عرضني يوم أُحُد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة. الحديث. وفي لفظ: "فاستصغرني". الوجه الرابع: في فقهه، هو دال على أن البلوغ بالسن يحدد ¬

_ (¬1) الدرر في اختصار المغازي والسير (147). (¬2) في الإِصابة (4/ 255). ذكره بالتكبير والذي رد ابنه سعد كما ذكره أيضًا في أسد الغابة (3/ 422).

بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب، وأحمد وغيرهم. قالوا باستكمال خمس عشرة سنة ليصير مكلفًا، وإن لم يحتلم فيجري عليه جميع الأحكام من وجوب العبادات وغيرها، ويستحق سهم الرجل من الغنيمة، ويقتل إن كان من أهل الحرب. وفي المسألة قول ثان: أنه يحدد بسبع عشرة. وثالث: بثمان عشرة، وهذه الأقوال الثلاثة عند المالكية، والمشهور عندهم ثالثها. وفرق أبو حنيفة: بين الغلام والجارية، فقال ثمان عشرة في الغلام وسبع عشرة في الجارية. واعتذر عن هذا الحديث بأن الإِجازة في القتال حكمه منوطة بالإِطاقة والقدرة عليه، فأجازه عليه الصلاة والسلام لابن عمر في الخمس عشرة, لأنه رآه مطيقًا للقتال، ولم يكن مطيقًا له قبلها, لا لأنه أراد الحكم عن البلوغ وعدمه، ويرد هذا رواية ابن حبان: "فلم يجزني ولم يرني بلغت". وقال في الثاني: "فأجازني ورآني بلغت"، وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما بلغه هذا الحديث، جعله حدًّا بين الصغر والكبر، وكتب إلى عماله. أن يفرضوا لمن كان ابن خمس عشرة سنة، ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال، وعمل به الصحابة والتابعون. الوجه الرابع: هو دال أيضًا، على أن الخندق كانت سنة أربع، وهو الصحيح وجماعة من أهل السير والتواريخ قالوا إنها كانت سنة خمس، وهذا الحديث يرده لأنهم أجمعوا على أن أُحُد كانت سنة

ثلاث، فتكون الخندق سنة أربع، لأنه جعلها في هذا الحديث بعدها بسنة. الوجه الخامس: هو دال أيضًا على أنه ينبغي للإِمام استعراض الجيش قبل الحرب، فمن وجده أهلًا أجازه، ومن وجده غير أهل رده، كما فعل عليه الصلاة والسلام.

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر 430/ 16/ 80 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ "أن النبي - صلي الله عليه وسلم - قسم في النفل، للفرس سهمين، وللرجل سهمًا" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا كان يوم خيبر، كما ذكره البخاري في صحيحه وله في لفظ آخر "للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا"، ولم يقل في النفل قال: وفسره نافع، قال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم. ثانيها: "النفل" بفتح النون والفاء يطلق، ويراد به أمور ثلاثة، قدمتها في آخر الحديث التاسع من الباب، والمراد هنا الغنيمة، وعليه محل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية. ¬

_ (¬1) البخاري (2863)، ومسلم (1762)، والترمذي (1554)، وأبو داود (2733)، وابن ماجه (2854)، والدارمي في (2/ 225، 226)، وابن الجارود (1085)، والبيهقي في السنن (6/ 324، 325)، وفي الدلائل (4/ 238)، وسعيد بن منصور (2/ 277، 278)، وعبد الرزاق (5/ 185)، وابن أبي شيبة (7/ 661)، وأحمد (2/ 80، 152).

وحديث ابن عمر السالف في سرية نجد، المراد به فيها ما ينفله الإِمام السرية زائدًا على سهمه. ثالثها: معنى "قسم للفرس سهمين وللرجل سهمًا"، أنه أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، بدليل الرواية التي أسلفناها عن البخاري. رابعها: قوله: "للفرس سهمين وللرجل سهمًا" كذا هو في أكثر الروايات، وفي بعضها: "وللراجل سهمًا" بالألف، وفي بعضها: "للفارس سهمين". خامسها: اختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة، فقال الجمهور (¬1): يكون للرجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم: سهمان بسبب فرسه، وسهم بسبب نفسه، ومن قال هذا ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق، وأبو عبيد وابن جرير وآخرون. وقال أبو حنيفة (¬2): للفارس سهمان فقط: سهم لها وسهم له. وحكي عنه أنه قال: لا أفضل بهيمة على مسلم. ولم يقل بقوله هذا أحد إلَّا ما روي عن علي وابن موسى. وقوله: "لا أفضل بهيمة على مسلم". ¬

_ (¬1) الاستذكار (14/ 170 - 172). (¬2) الاستذكار (14/ 171).

جوابه أن يقال له فلا تساو بينهما. وقد قيل إن السهم مستحق بما يلزم من المؤنة والتأثير في القتال ومؤنة الفرس أكثر من مؤنة الفارس، وتأثيره في القتال أكثر. وحجة الجمهور: هذا الحديث على رواية الكتاب وهي رواية الأكثرين كما قدمنا ذلك عنهم ومن روى "للرجل" [فروايته] (¬1) محتملة ويتعين حملها على موافقة الأولى جمعًا بين الروايتين. وقال الشيخ تقي الدين: هذا الحديث [معرض] (¬2) للتأويل من وجهين: أحدهما: أن يحمل النفل على المعنى الذي ذكرناه، أي: وهو الغنيمة. والثاني: أن تكون اللام في قوله: "للفرس سهمين" [اللام] (¬3) التي للتعليل لا التي للملك، أو للاختصاص، أو أعطى الرجل سهمين لأجل فرسه، أي: لأجل كونه ذا فرس، وللرجل سهم مطلقًا. وقد أجيب عن هذا ببيان المراد في رواية أخرى صريحة، وهي رواية أبي معاوية، أي: وابن نُمير وأبي أسامة عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - "أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه". ¬

_ (¬1) في الأصل (فرواية)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) في إحكام الأحكام (متعرض). (¬3) زيادة من إحكام الأحكام.

قلت: ومثله من رواية ابن عباس (¬1) وأبي عمرة (¬2) الأنصاري. فقوله: "أسهم" استدل به على أنه ليس خارج عن السهمان. وقوله: "ثلاثة أسهم" صريح في العدد المخصوص وهذه الرواية صحيحة الإِسناد، إلَّا أنه اختلف فيه على عُبيد الله بن عمر، ففي رواية بعضهم (¬3) عنه كرواية المصنف، وقيل: إنه وهم فيه، [أي] (¬4): هذا الراوي ولحديث (¬5) أبي معاوية وما في معناه عاضد من غيره، ومعارض له لا يساويه [في] (¬6) الإِسناد، أما العاضد فرواية المسعودي: حدثني أبو عمرة عن أبيه، قال: أتينا رسول الله -صلي الله عليه وسلم -[(¬7)] أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهمًا، وأعطى الفارس سهمين، لكن المسعودي وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فيه مقال، وقد استشهد به البخاري (¬8)، وعن رجل من آل أبي عمرة، عن [أبي عمرة] (¬9) بمعناه إلَّا أنه قال: "ثلاثة نفر، زاد: فكان للفارس ثلاثة أسهم"، وأبو عمرة صحابي، ¬

_ (¬1) ذكره في نصب الراية (3/ 414)، وعزاه المسند إسحاق بن راهويه. (¬2) أخرجه أبو داود (2734)، في كتاب: الجهاد، باب: في سهمان الخيل. (¬3) في إحام الأحكام (للفرس سهمين، وللرجل سهمًا). (¬4) في ن هـ ساقطة. (¬5) في إحكام الأحكام (وهذا الحديث -أعني رواية أبي معاوية-). (¬6) زيادة من ن هـ، وإحكام الأحكام. (¬7) في ن هـ زيادة (ونحن)، ولا توجد في سنن أبي داود. (¬8) البخاري (1027)، وتغليق التعليق (2/ 391). (¬9) في الأصل (ابن عمر)، وما أثبت من ن هـ، وسنن أبي داود. مختصر السنن للمنذري مع المعالم (4/ 52).

واختلف في اسمه، فقيل: بشير وقيل: ثعلبة بن عمرو، وقيل: عمرو بن محصن، وقيل غير ذلك. وأما المعارض: فمنه ما روى عبد الله بن عمر وهو أخو عُبيد الله المتقدم عن نافع، عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام "قسم يوم خيبر للفارس سهمان، وللرجل سهمًا". قال الشافعي (¬1): وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ، وهما أبناء عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. وقال في القديم: [إنه] (¬2) سمع نافعًا يقول: "للفرس سهمين وللرجل سهمًا"، فقال: "للفرس سهمين وللرجل سهمًا"، وقد عضد رواية عُبيد الله ما رواه أبو داود من حديث مجمع بن يعقوب بن مجمع، عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري، -وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن-، قال: شهدت الحديبية مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، إلى أن قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفا وخمسمائة، منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهمًا" (¬3). قال أبو داود: ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار (9/ 247). (¬2) في معرفة السنن (9/ 247) (كأنه)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام. (¬3) أبو داود (2736)، وأحمد (3/ 420)، وابن أبي شيبة (12/ 400، 401)، والدارقطني (4/ 105، 106)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 445)، والبيهقي في السنن (6/ 352)، والحاكم (2/ 131)، وقال: صحيح الإِسناد، ووافقه الذهبي.

وحديث أبي معاوية. أصح والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مُجَمِّع ومن قال "ثلاثمائة فارس" وكانوا مائتي فارس. قال الشافعي (¬1): مجمع ابن يعقوب شيخ لا يعرف، قال: فأخذنا في ذلك بحديث عبد الله ولم نر له خبرًا مثله يعارضه. ولا يجوز رد خبر إلَّا بخبر مثله. قال البيهقي (¬2): والذي رواه مجمع بن يعقوب بإسناده في عدد الجيش، وعدد الفرسان، قد خولف فيه، ففي رواية جابر، وأهل المغازي، أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة، وهم أهل الحديبية. وفي رواية ابن عباس، وصالح بن كيسان، وبُشر بن يسار، [وأهل المغازي] (¬3) أن الخيل كانت مائتي فارس فكان للفارس سهمان، ولصاحبه سهم. ولكل راجل سهم. فرع: لو حضر بأفراس لم يسهم إلَّا لفرس واحد عند الجمهور، ومنهم الحسن ومالك وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن. ¬

_ (¬1) معرفة السنن (9/ 248)، والسنن الكبرى (6/ 325)، وقال ابن التركماني معلقًا عليه: "قلت هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك. وقال حديث كبير صحيح الإِسناد, ومجمع بن يعقوب معروف، قال صاحب الكمال: روى عنه القعنبي ويحيى الوحاضي، وإسماعيل بن أبي أويس، ويونس المؤدب، وأبو عامر العقدي وغير، وقال ابن سعد: توفي بالمدينة وكان ثقة، وقال أبو حاتم وابن معين في به بأس وروى له أبو داوود والنسائي. اهـ. ومعلوم أن ابن معين إذا قال: ليس به بأس فهو توثيق". اهـ. (¬2) في معرفة السنن (9/ 248). (¬3) زيادة من المرجع السابق.

وقال الأوزاعي والثوري والليث، وأبو يوسف: يسهم لفرسين، وروى مثله أيضًا عن الحسن ومكحول ويحيى الأنصاري وابن وهب وغيره من المالكيين، قالوا ولم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين [إلاَّ حديثًا] (¬1)، روى عن سليمان بن موسى أنه يسهم (¬2). ¬

_ (¬1) في هـ (إلَّا شيئًا). (¬2) الاستذكار (14/ 172، 173).

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر 431/ 17/ 80 - " وعنه أيضًا أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث في السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا اللفظ اللبخاري ولفظ مسلم زيادة "قد" قبل، "كان" وزاد في آخره "والخمس في ذلك واجب كله". ثانيها: هذا هو التنفيل بالمعنى الآخر الذي أسلفناه في معنى النفل، وهو أن يعطي الإِمام لسرية أو لبعض أهل الجيش خارجًا عن السهمان. والحديث مصرح بأنه خارج عن قسم عامة الجيش إلَّا أنه ليس معينًا لكونه من رأس الغنيمة أو من الخمس، فإن اللفظ يحمل لهما جميعًا، وقد بينا اختلاف الناس في ذلك في الحديث التاسع من هذا الباب، وروى مالك (¬2) عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن ¬

_ (¬1) البخاري (3135)، ومسلم (1750)، وأبو داود (2746)، والبغوي في شرح السنة (2727). (¬2) الموطأ (456).

المسيب يقول: "كان الناس يعطون النفل من الخمس"، وروى ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: " [بعث] (¬1) رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سرية إلى نجد، فخرجت فيها فأصبنا نعمًا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرًا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بالذي أعطانا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرًا بنفله" (¬2) وهذا [يدل] (¬3) على أن النفل من رأس الغنيمة. وروى زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة قال: "شهدت النبي - صلي الله عليه وسلم - نفل الربع في البداءة, والثلث في الرجعة" (¬4). وهذا أيضًا يدل على أن التنفيل من أصل الغنيمة ظاهرًا مع احتماله، وروى في حديث حبيب هذا أنه عليه الصلاة والسلام "كان ينفل بعد إخراج الخمس" (¬5) , أي ينفله من أربعة أخماس ما يأتون به إذا بعثهم إلى موضع في البدأة أو الرجعة، وهذا ظاهر، وترجم أبو داود عليه (¬6)، باب: فيمن قال الخمس قبل النفل وأبدى بعضهم فيه احتمالًا آخر، وهو أن يكون قوله: "بعد الخمس"، أي بعد أن يفرد الخمس، فعلى هذا بقي محتملًا لأن ينفّل ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. (¬2) أبو داود (2743)، التمهيد (14/ 35، 36)، وقد أطال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- التمهيد في رد هذه الرواية. انظر الاستذكار (14/ 98، 99). (¬3) زيادة هـ. (¬4) أبو داود (2750)، وابن ماجه (2853). (¬5) أبو داود (2748، 2749). (¬6) السنن (3/ 183).

ذلك من الخمس, أو من غيره, فحمله على أن ينفل من الخمس احتمالًا وحديث ابن إسحاق صريح أو كالصريح. ثالثها: للحديث تعلق بمسائل الإِخلاص في الأعمال، وما يضر من المقاصد الداخلة فيها، وما لا يضر وهو موضع دقيق المأخذ ووجه تعلقه به أن التنفيل للترغيب في زيادة العمل والمخاطرة والمجاهدة، وفي ذلك مداخلة لقصد الجهاد لله تعالى، إلَّا أن ذلك لم يضرهم قطعًا، لفعل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ذلك لهم، ففي ذلك دلالة لا شك فيها على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا يقدح في الإِخلاص، وإنما الإِشكال في ضبط قانونها، [وتمييزها من] (¬1) يضر مداخلته فيه من المقاصد، وتقتضي الشركة فيه المنافاة للإِخلاص، وما لا تقتضيه، ويكون تبعًا لا أثر له، ويتفرع [عليه] (¬2) غير ما مسألة نبه عليه (¬3) الشيخ تقي الدين. رابعها: الحديث دال أيضًا على أن لنظر الإِمام مدخلًا في المصالح المتعلقة بالمال أصلًا وتقديرًا على حسب المصلحة على ما [اقتضى] (¬4) حبيب بن مسلمة في الربع والثلث، فإن "الرجعة" لما كانت أشق على الراجعين، وأشد لخوفهم, لأن العدو قد كان نَذر بهم [لقربهم] (¬5) فهو على يقظة من أمرهم، اقتضى زيادة التنفيل، ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام (وتمييزها). (¬2) في المرجع السابق (عنه). (¬3) في المرجع السابق (4/ 538). (¬4) في المرجع السابق (ما اقتضاه حديث). (¬5) زيادة من المرجع السابق.

"والبدأة" لما لم يكن فيه هذا المعنى: اقتضى [نفعهم] (¬1) ونظر الإِمام متقيد بالمصلحة لا على أن يكون بحسب التشهي، وحيث يقال إن النظر للإِمام (¬2) فهذا هو المراد. خامسها: الحديث دال أيضًا كما تقدم على أنه يجوز للإِمام أن ينفل بعض من ينصب من السرايا أي يعطيهم زيادة على ما يحصل لهم من قسم عامة الجيش، واختلف العلماء في حد النفل على قولين: أحدهما: أنه لا حد له وإنما هو لاجتهاد الإِمام وهذا قول الشافعي (¬3). والثاني: أنه لا يتجاوز به الثلث، لحديث حبيب السالف، وهو قول مكحول والأوزاعي (¬4). ثم اعلم أن الأنفال لله ورسوله، فإنه عليه الصلاة والسلام سئل عن شيء منها، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬5)، ثم أنزل الله تعالى حكم الغنائم فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ...} (¬6) الآية. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (نقصه). (¬2) في المرجع السابق زيادة. (¬3) الأم للشافعي (4/ 145). (¬4) الاستذكار (14/ 107). (¬5) سورة الأنفال: آية 1. (¬6) سورة الأنفال: آية 41.

واختلف العلماء في آية الأنفال (¬1) على قولين. أحدهما: أنها منسوخة بآية الغنائم، وأنها كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة كلها، ثم جعل أربعة أخماسها للغانمين، كالآية الأخرى، وهذا قول ابن عباس وجماعة. والثاني: أنها محكمة، وأن النفل من الخمس وقيل محكمة، وأن للإِمام أن ينفل ما شاء لمن يشاء بحسب ما يراه. وقيل محكمة مخصوصة، والمراد أنفال السرايا , ولعل هذا الحديث يدل عليه. ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (14/ 103 - 151)، والناسخ والمنسوخ (2/ 366)، لابن النحاس نواسخ القرآن لابن الجوزي (148).

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر 432/ 18/ 80 - عن أبي موسى عبد الله بن قيس رضي الله عنه، عن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا" (¬1). الكلام على هذا الحديث من وجوه: أحدها: في التعريف براويه أبو موسى الأشعري، وقد سلف في السواك. ثانيها: هذا الحديث اتفق الشيخان أيضًا على إخراجه من حديث ابن عمر (¬2) رضي الله عنه، وانفرد مسلم بإخراجه من حديث أبي هريرة (¬3) رضي الله عنه، وسلمة بن ¬

_ (¬1) البخاري (7071)، ومسلم (163)، وابن ماجه (2577)، والترمذي (1459)، والسنن الكبرى (8/ 20). (¬2) رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجها البخاري (6874)، ومسلم (611)، وابن ماجه (2576)، والنسائي في الكبرى (3563)، والنسائي (7/ 117، 118)، وأحمد (2/ 3، 16، 53، 142، 150)، وعبد الرزاق في مصنفه (18681)، والسنن الواردة في الفتن للداني (86، 87، 88)، والطيالسي (1828)، والبيهقي (8/ 20). (¬3) مسلم (164)، وابن ماجه (2575)، وأصول السنَّة لابن أبي زفين (178).

الأكوع (¬1)، ولفظه في هذا "السيف" بدل "السلاح". ثالثها: كأن المراد بالحديث -والله تعالى أعلم- حمل على المسلمين السلاح لقتالهم, لأن فيه تخويفًا لهم وإدخالًا للرعب عليهم، فأما من حمله لإِرعاب المفسدين والمخالفين بإذن الإِمام فهو حمل لهم لا عليهم، فإن لم يقصد به القتال بل فصد أمرًا شرعيًّا كإظهار قوة الإِسلام لإِرهاب العدو وإعلامهم بقوتهم واهتمامهم بقتالهم، فهذا مندوب لا شك فيه، وإن قصد اللعب والخيلاء فمحذور، وقد يعبر عن مقصود الحمل وهو القتل، فإنه ملازم له غالبًا. رابعها: معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "فليس منا"، أي: ليس على مثلنا، أو ليس على طريقتنا, ولا مهتديًا بهدينا، لا أن ذلك يخرجه عن الإِسلام، اللهم إلَّا أن يستحل ذلك، فيكفر باستحلال المحرم، لا يحمل السلاح، وكذلك كلما جاء من هذا المعنى، فهذا تأويله مثل [(¬2)]: "من غشنا فليس منا" (¬3)، وقوله: "ليس منا من لطم ¬

_ (¬1) مسلم (99)، وأحمد (4/ 45، 46)، والبغوي (2565)، والطبراني (6242، 6249، 6251). (¬2) في الأصل زيادة (من)، ولا محل لها هنا. (¬3) مسلم (102)، وابن ماجه (2234)، والترمذي (1315)، والإِيمان لابن منده (550، 552)، والبغوي (2120، 2121)، والبيهقي (5/ 320)، وأبو داود (3452)، وأبو عوانة (1/ 57). قوله: "من غشنا فليس منا" وفي رواية: "من غشني فليس مني"، قال البغوي -رحمة الله علينا وعليه-: لم يرد به نفيه عن دين الإِسلام، إنما =

الخدود" (¬1) وغير ذلك في أحاديث كثيرة، وقد نقل عن السلف أنهم قالوا في مثل هذا الحديث وأشباهه أن الأولى إطلاق لفظه، كما أطلقه الشارع من غير بيان، ولا تأويل, لأن إطلاقه أبلغ في الزجر، وأوقع في النفوس من التأويل. خامسها: الحديث دال على تحريم قتال المسلمين وتغليظ الأمر فيه، وعلى حمل السلاح لغير مصلحة شرعية، وقد نهى الشارع عن تعاطي السيف مسلولًا، وأمر بالإِمساك على النصال (¬2) ومنع من الإِشارة بالحديد ونحوه خوف نزع الشيطان من يده إلى أخيه المسلم (¬3). وكل ذلك دليل على احترام المسلم، وتعاطي الأسباب ¬

_ = أراد أنه ترك اتباعي، إذ ليس هذا من أخلاقنا رأفعالنا، أو ليس هو على سنتي وطريقي في مناصحة الأخوان، هذا كما يقول الرجل لصاحبه: أنا منك، يريد به الموافقة والمتابعة، قال الله سبحانه وتعالى إخبارًا عن إبراهيم عليه السلام "فمن تبعني فإنه مني" والغش نقيض النصح، مأخوذ من الغشش، وهو المشرب الكدر. اهـ. محل المقصود منه. (¬1) البخاري (1294)، ومسلم (103)، وابن ماجه (1584)، والترمذي (999)، والنسائي (4/ 20)، والبيهقي (4/ 63، 64)، والبغوي (5133)، وابن الجارود (516)، وأحمد (1/ 386، 432، 442، 456، 465). (¬2) ولفظ النهي من حديث جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أن يتعاطى السيفُ مسلولاّ، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. (¬3) ولفظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال "لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده، فيقع في حفرة من النار" متفق عليه. =

الحاملة على أذاه لكرامته عنده وتعريف [مقامه] (¬1). ¬

_ = وفي رواية لمسلم قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه". قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزع"، قال النووي -رحمنا الله وإياه- في رياض الصالحين (603)، ضبط بالعين المهملة مع كسر الزاي، وبالغين المعجمة مع فتحها ومعناهما متقارب، ومعناه بالمهملة يرمى، وبالمعجمة أيضًا يرمى ويفسد، وأصل النزع: الطعن والفساد. اهـ. (¬1) في الأصل (معانيه)، وما أثبت من ن هـ.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر 433/ 19/ 80 - عن أبي موسى رضي الله عنه [أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - سئل] (¬1) عن الرجل: يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله [عزَّ وجلّ] (¬2) " (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا السائل ورد في الصحيح أنه من الأعراب، ولم أقف على اسمه، فليبحث عنه. ثانيها: "الشجاعة" ضد الجبن، وهي شدة القلب عند البأس، ¬

_ (¬1) في ن هـ (قال سئل رسول الله - صلي الله عليه وسلم -)، وأيضًا في إحكام الأحكام ومتن العمدة. (¬2) في ن هـ ساقطة، إحكام الأحكام ومتن العمدة. (¬3) البخاري (123)، ومسلم (1904)، والترمذي (1646)، وأبو داود (2517، 2518)، والنسائي (6/ 23)، وابن ماجه (2783)، والسنن الكبرى (9/ 167، 168)، وأحمد (4/ 392، 397، 402، 405، 417)، وسعيد بن منصور (2/ 27)، والبغوي (5/ 514)، وعبد الرزاق (5/ 268).

والرجل شجاع وقوم "شِجْعَةٌ" و"شجْعانٌ"، فإن قلت: "شَجِيعٌ"، قلت: "شُجْعان" و"شُجعاءُ" أيضًا مثل فقهاء. وقد يقال: امرأة "شُجاعة" ومنهم لا يصف المرأة بذلك (¬1). ثالثها: "الحَمِيّةُ": الأَنَفَةُ والغيرة على عشيرته والعصب وحَمَيْتُ عن كذا حَميَّة بالتشديد، ومحمية إذا أتعب منه. رابعها: "الرياء" ممدود وقل قصره، وهو ضد الإِخلاص، وقال الغزالي: إنه إرادة نفع الدنيا [وبعمل] (¬2) الآخرة، أي: إما متمحضًا أو مشاركًا. خامسها: القتال للشجاعة يحتمل أنواعًا (¬3). أحدها: أن يقاتل إظهارًا لشجاعته ليقال إن فلانًا شجاع، فهذا ضد الإِخلاص، وهو الذي يقال فيه لكي يقال: وقد قيل (¬4). ويكون ¬

_ (¬1) انظر: مختار الصحاح مادة (ش ج ع). (¬2) في الأصل (مجمل في)، وما أثبت من هـ. (¬3) نص كلام صاحب إحكام الأحكام (4/ 541، 544). (¬4) إشارة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به، فعرفه نعمته فرفها، قال: في عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء! فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ... " الحديث، أخرجه مسلم (1905)، والنسائي (6/ 23، 24)، والحاكم (2/ 110)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجه البخاري. ووافقه الذهبي، وأيضًا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، =

الفرق بين هذا القسم وبين قوله بعد: "ويقاتل رياء" ويكون المراد بالرياء إظهار المقاتلة لإِعلاء كلمة الله تعالى وبذل النفس في رضاه، والرغبة فيما عنده، وهو في الباطن بخلاف ذلك، فيقال: إنه شجاع والذي قلنا إنه قاتل إظهارًا للشجاعة، ليس مقصوده إلى تحصيل المدح على الشجاعة من الناس فافترقا إذن. ثانيها: أن يقاتل للشجاعة طبعًا قصدًا فهذا لا يقال إنه كالأول لعدم قصده إظهار الشجاعة ولا يقال: إنه قاقل لتكون كلمة الله هي العليا [إذ] (¬1) لم يقصد ذلك أيضًا نعم إن كان قد تقدم له القصد أولًا، ثم قاتل بعد ذلك بمقتضى طبعه، ولم يطرأ على النية الأولى ما ينافيها، فلا يضر عدم القصد ثانيًا. فإن الشجاع قد تدهم (¬2). ثالثها: أن يقاتل الشجاع قاصدًا إعلاء كلمة الله تعالى، وهو أفضل من القسم الذي قبله إذا تقرر هذا فقد علم أن الحمية خارجة عن هذين القسمين أعني الرياء والشجاعة، فإن الجبان قد يقاتل حمية والمرأى يقاتل لا لحمية وخارجة أيضًا عن القتال، لتكون كلمة الله هي العليا إذ المراد بالحمية حمية لغير الله تعالى، إما متمحضًا أو إشراكًا. ¬

_ = أن أعرابيًا أتي النبي - صلي الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، الحديث فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" متفق عليه. (¬1) في الأصل (إذا)، وما أثبت من ن هـ. (¬2) أي (تدهمه الحرب)، كما في إحكام الأحكام.

[رابعها] (¬1): الحديث دال على وجوب الإِخلاص في الجهاد، وصرح بأن القتال للشجاعة والحمية والرياء خارج عن ذلك ودال أيضًا على أن الإِخلاص هو العمل على وفق الأمر، ودال أيضًا على تحريم الفخر بالشجاعة، اللَّهُمَّ إلَّا أن يقصد بذلك إظهار النعمة، ودال أيضًا على تحريم الرياء، ودال أيضًا على السؤال عن الأعمال القلبية، وفيه أيضًا بيان أحوال الناس في جهادهم ونياتهم. ¬

_ (¬1) في ن هـ (سادسها).

كتاب العتق

كتاب العتق

81 - باب العتق

81 - باب العتق هو في الشرع إزالة ملك عن آدمي لا إلى مالك تقربًا إلى الله تعالى مأخوذ من قولهم: عن الفرس: إذا [سبق] (¬1) ونجا، وعتق الفرخ: إذا طار، قاله الأزهري (¬2). والعبد بالعتق يتخلَّص ويذهب حيث يشاء، وهو من الألفاظ المشتركة أيضًا فالعتق: أيضًا الكرم يقال ما أبين العتق في وجه فلان. يعنون الكرم. والعتق: الجمال، ومنه لقب الصديق بعتيق. والعتق أيضًا السبق والنجاة، وذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث". ثالثها: في التدبير، وعليه ترجم الشارح باب التدبير. ¬

_ (¬1) زيادة من تهذيب اللغة. (¬2) تهذيب اللغة (1/ 210)، والزاهر (274).

الحديث الأول

الحديث الأول 434/ 1/ 81 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوِّم عليه قيمة عدلٍ، فأَعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلَّا فقد عتق منه ما عتق" (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: صيغة "من" للعموم، فتقتضي دخول أصناف المعتقين في الحكم المذكور، ومنهم المريض، وقد اختلف في ذلك. فالشافعية يرون أنه إن خرج من الثلث جميع العبد [يقوم] (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري (2521)، ومسلم (1150)، الترمذي (1346، 1347)، والنسائي في الكبرى (4957)، والنسائي (7/ 319)، وأبو داود (3940)، وابن ماجه (2528)، والموطأ (2/ 592)، والدارقطني (4/ 6، 7)، وأحمد (1/ (56) (2/ 34، 53، 113، 142، 156)، والبيهقي (6/ 96)، والحميدي (2/ 295)، والبغوي في شرح السنة (9/ 356)، وابن أبي شيبة (5/ 201)، وعبد الرزاق (9/ 150). (¬2) في إحكام الأحكام (قوم).

عليه نصيب الشريك، [ويعتق] (¬1) عليه, لأن تصرف المريض في ثلثه كتصرف الصحيح في كله، ونقل أعن، (¬2) أحمد أنه [لا يقيم] (¬3) في حال [المرض] (¬4)، وذكر [(¬5)] أبو الوليد بن رشد عن ابن الماجشون فيمن أعتق [حصة] (¬6) [عبد] (¬7) بينه وبين شريكه في المرض، أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه، إلَّا من رأس ماله إن صح، فإن لم يصح لم يقم في الثلث على [(¬8)، حال، وعتق [منه] (¬9) [حصته] (¬10) وحده، والعموم كما ذكرنا يقتضي التقويم وتخصيصه بما يحتمله الثلث مأخوذ من الدليل الدال عل اختصاص تصرف المريض في التبرعات في الثلث. ثانيها: يدخل في العموم أيضاً المسلم والكافر. وللمالكية في ذلك تصرف، فإن كان الشريكان والعبد كفارًا لم يلزموا بالتقويم، وإن كانا مسلمين والعبد كافرًا فالتقويم، وإن كان أحدهما مسلمًا ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (وعتق). (¬2) في المرجع السابق غير موجودة. (¬3) في ن هـ (يقوم)، ويوافق المرجع السابق. (¬4) في المرجع السابق (المريض). (¬5) في المرجع السابق (قاضي الجماعة). (¬6) في المرجع السابق (خطه من). (¬7) في ن هـ ساقطة وموجودة في المرجع السابق. (¬8) في ن هـ زيادة (كل). (¬9) في الأصل (فيه)، وما أثبت من هـ وإحكام الأحكام. (¬10) في المرجع السابق (خطه).

والآخر كافرًا فإن أُعتق المسلم كُمَّل عليه، سواء كان العبد مسلمًا أو ذميًّا، وإن أعتق الكافر فقد اختلفوا في التقويم [على ثلاثة مذاهب: الإِثبات، والنفي، والتفريق بين أن يكون العبد مسلمًا [فيلزمه] (¬1) التقويم] (¬2) وبين أن يكون ذميًّا فلا يلزمه، وإن كانا كافرين والعبد مسلمًا، فروايتان، أو، (¬3) للحنابلة أيضًا وجهان فيما إذا أعتق الكافر نصيبه من مسلم -وهو موسر- هل يسري إلى باقيه؟ وهذا التفصيل الذي ذكرناه يقتضي تخصيص صور من هذا [العمومات] (¬4). أحدها: إذا كان الجميع كفارًا، وسببه ما دل عندهم على عدم التعرض للكفار في خصوص الأحكام الفرعية، [(¬5)]. ثانيها: إذا كان المعتِق هو الكافر، على [مذهب] (¬6) من يرى [أن لا] (¬7) [تقوم، أو لا تقوم] (¬8) [(¬9)]، إذا كان العبد كافرًا. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (فيلزم). (¬2) في ن هـ ساقطة. (¬3) في الأصل ساقطة، وما أثبت من هـ إحكام الأحكام. (¬4) في هـ (العموم)، وما أثبت يوافق المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق زيادة (واو). (¬6) زيادة من هـ وإحكام الأحكام. (¬7) زيادة من المرجع السابق. (¬8) في المرجع السابق (تقويم، أو لا تقويم). (¬9) في الأصل زيادة (إلَّا)، وما أثبت من هـ وإحكام الأحكام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.

[أما] (¬1) الأول: [فرأى] (¬2) أن المحكوم عليه بالتقويم هو الكافر، ولا [التزام] (¬3) له [بفروع الأحكام الإِسلامية] (¬4). وأما الثاني: [فرأى] (¬5) أن التقويم إذا كان العبد مسلمًا لتعلق حق [العتق بمسلم] (¬6). ثالثا: إذا كانا كافرين، والعبد مسلمًا على قول، وسببه ما ذكرناه من تعلق حق المسلم بالعتق [(¬7)]، وهذه التخصيصات: إن أخذت من قاعدة كلية لا مستند فيها إلى نص معين، تحتاج إلى الاتفاق عليها [(¬8)] وإن استندت إلى نص معين، فلا بدَّ من النظر في دلالته مع دلالة هذا العموم، ووجه الجمع بينهما أو التعارض. ثالثها: "الشرك" في الأصل مصدر، وهو هذا النصيب, لأن المصدر لا يقبل العتق، [فأطلق] (¬9) على متعلقه، وهو المشترك، والشرك أيضًا الشريك والاشتراك أيضًا، ولا بدَّ في الحديث من ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (فأما). (¬2) في المرجع السابق (فيرى). (¬3) في المرجع السابق (إلزام). (¬4) في المرجع السابق (بأحكام فروع الإِسلام). (¬5) في المرجع السابق (فيرى). (¬6) في هـ (المسلم بالعتق)، وفي إحكام الأحكام (المعتق بالمسلم). (¬7) في المرجع السابق (واعلم أن). (¬8) في المرجع السابق زيادة (وإثبات تلك القاعدة بدليل). (¬9) في المرجع السابق (وأطلق).

إضمار [تقديره "جزء مشترك" أو ما يقارب ذلك] (¬1) لأن المشترك في الحقيقة: هو جملة العين، أو الجزء المعين منها إذا أُفرد بالتعين، كاليد والرجل مثلًا، وأما النصيب [المعين] (¬2) فلا اشتراك فيه. رابعها: معنى "قيمة عدل"، أي: لا زيادة ولا نقص وهو بفتح العين. خامسها: قوله عليه الصلاة والسلام "وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق" الصواب أنه مرفوع، كذا رواه مالك (¬3) وغيره عن الحفاظ، وجعله أيوب (¬4) من قول نافع الراوي عن ابن عمر. قال القاضي عياض: وما قاله مالك وعبيد الله العمري أولى وقد جواده، وهما في نافع أثبت من أيوب عند أهل هذا الشأن كيف وقد قال أيوب (¬5) مرة: لا أدري هو من الحديث أم هو شيء قاله نافع، فقد شك، وقد رواه يحيى بن سعيد (¬6) عن نافع، وقال في هذا الموضع: "وإلاَّ فقد جاز ما صنع" فأتى به على المعنى قال: وهذا كله يرد قول من قال بالاستسعاء. سادسها: الحديث دال على أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك ¬

_ (¬1) في الأصل (جز وما يقاربه)، وفي ن هـ (حرف وما يقاربه)، وما أثبت من المرجع السابق. (¬2) في المرجع السابق (المشاع). (¬3) الموطأ (2/ 592). (¬4) انظر: الاستذكار (23/ 118)، والتمهيد (14/ 266). (¬5) التمهيد (14/ 267). (¬6) انظر: الاستذكار (23/ 118).

قُوِّم عليه باقيه إذا كان موسرًا بقيمة باقيه موسرًا كان العبد مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا أو أمة، ولا خيار للشريك في هذا، ولا للمعتق، بل يبعد هذا الحكم وإن كرهوه كلهم مراعاة لحق الله تعالى في الحرية والإِجماع قائم على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الإِعتاق، وما حكى عن ربيعة (¬1) أنه قال لا يعتق نصيب المعتق موسرًا كان أو معسرًا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة والإِجماع فلا يلتفت إليه. وأما نصيب الشريك فاختلف العلماء على حكمه إذا كان المعتق موسرًا على ستة مذاهب (¬2): أحدها: وهو الصحيح في مذهب الشافعي، وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق وبعض المالكية أنه عتق بنفس الإِعتاق، ويقوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإِعتاق، ويكون ولاء جميعه للمعتق وحكمه من حين الإِعتاق حكم الأحرار في الميراث وغيره من الأحكام، وليس للشريك إلَّا المطالبة بقيمة نصيبه، كما لو قتله. قال هؤلاء: ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمر نفوذ العتق، وكانت القيمة دينًا في ذمته، ولو مات أخذت من تركته، فإن لم يكن له تركة ضاعت القيمة، واستمر عتق جميعه. قالوا: فلو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه، كان إعتاقه لغوًا, لأنه قد صار كله حرًّا. ¬

_ (¬1) الاستذكار (23/ 126). (¬2) انظر: شرح مسلم للنووي (370/ 11، 138)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 153).

المذهب الثاني: أنه لا يعتق إلَّا بدفع القيمة، وهو مشهور مذهب مالك، وبه قال أهل الظاهر، وهو قول للشافعي. المذهب الثالث: أن الشريك بالخيار إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه. والولاء بينهما، وإن شاء قُوِّم نصيبه على شريكة المعتق، ثم يرجع المعتق بما دفع إلى شريكه على العبد، يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتق. المذهب الرابع: وهو مذهب عثمان البتي بالتاء المثناة فوق: لا شيء على المعتق، إلَّا أن يكون جارية رائعة تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر. المذهب الخامس: حكاه ابن سيرين أن القيمة في بيت المال. [المذهب السادس] (¬1): يحكى عن إسحاق بن راهويه أن هذا الحكم للعبيد دون الإِماء، وهو قول شاذ مخالف للعلماء كافةً، والأقوال الثلاثة قبله فاسدة مخالفة لصريح الأحاديث وهي مردودة على قائلها. هذا كله إذا كان المعتق لنصيبه موسرًا، فإما إذا كان معسرًا حال الإِعتاق ففيه أربعة مذاهب (¬2): أحدها: مذهب مالك الشافعي وأحمد وأبي عبيد وموافقيهم أنه ينفذ العتق في نصيب المعتق فقط، ولا يطالب المعتق بشيء ولا يستسعى العبد، بل يبقى نصيب الشريك رقيقًا كما كان، وبهذا قال علماء الحجاز بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) شرح مسلم (10/ 138)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 155).

المذهب الثاني: مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وسائر الكوفيين وإسحاق يستسعى العبد في حصة الشريك. واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدى في سعايته على معتقه. فقال ابن أبي ليلى: يرجع عليه، وقال أبو حنيفة، وصاحباه: لا يرجع ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب. وعند الآخرين: هو حر بالسراية. والمذهب الثالث: مذهب زفر وبعض البصريين أنه يقوم على المعتق ويؤدي القيمة إذا أيسر. والمذهب الرابع: حكاه القاضي عياض عن بعضهم أنه إن كان المعتق موسرًا بطل عتقه في نصيبه فيبقى العبد كله رقيقًا كما كان، وهو مذهب باطل. أما إذا ملك الإِنسان عبدًا كما له، فاعتق بعضه عتق كله في الحال بغير استسعاء. هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة (¬1)، وانفرد أبو حنيفة: فقال يستسعى في بقيته لمولاه، وخالفه أصحابه في ذلك فقالوا بقول الجمهور: وحكى القاضي (¬2) أنه روى عن طاوس وربيعة وحماد ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة، ¬

_ (¬1) انظر: الاستذكار (23/ 126)، وإكمال إكمال المعلم (4/ 155)، وشرح مسلم (10/ 138). (¬2) الاستذكار (23/ 126، 127، 128)، وشرح مسلم (10/ 138).

وقاله أهل الظاهر, وعن الشعبي و [عبيد الله] (¬1) بن الحسن العنبري؛ أن للرجل أن يعتق من عبده ما شاء. سابعها: لو كان نصيب الشريك مرهونًا، فهل يمنع الرهن سراية العتق إلى نصيب شريكه؟ فيه وجهان للشافعية: والأصح: المنع، وهو ظاهر عموم الحديث، لكنه ليس بالشديد القوة, لأنه خارج عن المعنى المقصود بالكلام, لأن المقصود إثبات السراية إلى نصيب الشريك على المعتق من حيث هو كذلك، لا مع قيام المانع, فالمخالف لظاهر العموم يدعى قيام المانع من السراية، وهو إبطال حق المرتهن. ويقويه بأن تناول اللفظ [لصورة] (¬2) قيام المانع غير قوي، لأنه غير المقصود، والموافق لظاهر العموم يلغى هذا المعنى بأن [المعتق] (¬3) قد قوي على [إبطال حق المالك في العين بالرجوع إلى القيمة فلأن يقوى على] (¬4) إبطال حق المرتهن كذلك أولى. وإذا ألغي المانع عَمِلَ اللفظ العام عمله. ثامنها: لو كاتب عبدًا ثم أعتق أحدهما نصيبه، فيه من البحث ما أسلفناه من أمر العموم والتخصيص بحالة عدم المانع، والمانع هنا صيانة الكتابة عن الإِبطال، وها هنا زيادة أمر آخر، وهو أن يكون لفظ "العبد" [عند الإِطلاق متناولًا للمكاتب، ولا يكتفي في هذا ثبوت ¬

_ (¬1) في الأصل (عبد الله)، وما أثبت يوافق شرح مسلم والاستذكار وهو الصواب، وفي المعلم (عبد الله). (¬2) في ن هـ (لصور)، ويوافق إحكام الأحكام. (¬3) في ن هـ وإحكام الأحكام (العتق). (¬4) زيادة من هـ وإحكام الأحكام.

أحكام الرق عليه، لأن ثبوت تلك الأحكام لا يلزم منه تناول لفظ "العبد"] (¬1) له عند الإِطلاق، فإن ذلك حكم لفظي يؤخذ من غلبة استعمال اللفظ، وقد لا يغلب الاستعمال، وتكون أحكام الرق ثابتة، وهذا المقام إنما هو في إدراج هذا الشخص تحت هذا اللفظ وتناول اللفظ له أقرب. تاسعها: أعتق نصيبه، ونصيبُ شريكه مُدَبَّر، فيه ما تقدم من البحث, وتناول اللفظ ها هنا أقوى من المكاتب، ولهذا كان الأصح من قولي الشافعية عند أصحابه أنه يقوم عليه نصيب الشريك والمانع ها هنا: إبطال حق الشريك من قربة مُهِّد [سببها] (¬2). عاشرها: أعتق نصيبه من جارية ثبت الاستيلاد في نصيب شريكه منها، فلا مانع من إعمال العموم ها هنا أقوى مما تقدم، لأن السراية تتضمن نقل الملك، وأم الولد لا تقبل نقل الملك من ملك إلى ملك عند من يمنع من بيعها، وهذا أصح وجهي الشافعية ومن يجري على العموم يلغي هذا المانع، بإن الإِعتاق وسرايته كالإِتلاف، وإتلاف أم الولد [يوجب القيمة] (¬3). الحادي عشر: العموم يقتضي أنه لا فرق بين عتق مأذون فيه، أو غير مأذون، والحنفية فرقوا بين الإِعتاق المأذون وغيره. وقالوا: لا ضمان في الأعتاق المأذون فيه كما لو قال لشريكه: أعتق نصيبك. ¬

_ (¬1) زيادة من هـ وإحكام الأحكام. (¬2) في إحكام الأحكام (سبيلها)، وفي الحاشية ما أثبت. (¬3) في ن هـ (موجب للقيمة)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.

الثاني عشر: يقتضي صدور العتق منه باختياره له، فيثبت الحكم حيث كان مختارًا له، وينتفي حيث الاختيار، أما من حيث المفهوم، وإما لأن السراية على خلاف القياس فتختص بمورد النص، وإما لإِبداء معنى مناسب يقتضي التخصيص بالاختيار, وهو أن التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات. وذلك يقتضي التخصيص بصدور أمر يجعله إتلافًا [(¬1)، [ولا شك أن] (¬2) [أضداد] (¬3) الصيغة المقتضية للعتق بنفسها [داخلة] (¬4) في مدلول الحديث (¬5)، ولا ورث بعض قريبه، عتق عليه ذلك البعض من غير إختيار، [ولا يسري إلى ما فيه ولا يقوم عليه] (¬6) عند الشافعية، ونص عليه بعض المالكية والحنفية، لعدم [اختيار العتق] (¬7) وسببه معًا، وعن أحمد رواية أنه يعتق (¬8) أنصيب الشريك، إذا كان موسرًا, [ومثله] (¬9) أن يعجِّز المكاتب نفسه بعد أن اشترى شقصًا ¬

_ (¬1) في إحكام الأحكام زيادة (وها هنا ثلاث مراتب: مرتبة لا إشكال في وقوع الاختيار فيها، ومرتبة لا إشكال في عدم الاختيار فيها، ومرتبة مترددة بينهما أما المرتبة الأولى): (¬2) في المرجع السابق غير موجودة. (¬3) في المرجع السابق (إصدار). (¬4) في المرجع السابق (ولا شك في دخولها). (¬5) في المرجع السابق (وأما المرتبة الثانية، فمثالها ما إذا). (¬6) في المرجع السابق (فلا سراية ولا تقويم). (¬7) في المرجع السابق (الاختيار في العتق). (¬8) في المرجع السابق زيادة (عليه). (¬9) في المرجع السابق (ومن أمثلته).

[فعتق] (¬1) على سيده، فإن الملك والعتق يحصلان [بغير] (¬2) اختيار السيد، فهو كالإِرث [(¬3)]، ولو وجد سبب العتق باختياره [(¬4)] [كقبوله] (¬5) [بيع بعض قريبه] (¬6) أو هبة [أو الوصية له به] (¬7)، وقد نزله [ذلك الشافعي] (¬8) منزلة [المباشرة] (¬9) ونص عليه بعض المالكية في الشراء والهبة، [فيسري إلى ما فيه] (¬10)، وينبغي أن يكون من ذلك تمثيله بعبده عند من يرى العتتى بالمثلة، وهو مالك وأحمد، [ولو أعجز السيد مكاتبه] (¬11) بعد أن اشترى شقصًا ممن يعتق على سيده، فانتقل إليه الملك بالتعجيز، الذي هو سبب العتق، فإنه لما اختاره كان كاختياره لسبب العتق بالشراء وغيره، وفيه اختلاف لأصحاب الشافعي (¬12)، ويضعف هذا عن الأول أنه لم يقصد ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (يعتق). (¬2) في المرجع السابق (بعد)، والصواب ما أثبت فلتصحح. (¬3) في المرجع السابق زيادة (وأما المرتبة الثالثة الوسطى: فهي ما إذا). (¬4) في المرجع السابق زيادة (وهذا أيضًا تختلف رتبه، فمنه ما يقوى في تنزيل مباشرة السبب منزلة المباشرة المسبب). (¬5) في المرجع السابق (كقوله) فلتصحح. (¬6) في المرجع السابق (لبعض قريبه في بيع). (¬7) في المرجع السابق (أو وصية). (¬8) في المرجع السابق (الشافعية). (¬9) في المرجع السابق (المباشر وقد). (¬10) في المرجع السابق غير موجودة. (¬11) في المرجع السابق (ومنه يضعف عن هذا، وهو تعجز السيد المكاتب). (¬12) في المرجع السابق (ووجه ضعف).

[التمليك] (¬1)، وإنما قصد التعجيز، فحصل العتق [ضمنًا بخلاف الأول، فإنه منزل منزلة المباشرة باختيار التملك بالقبول، فهو أقوى من التعجيز الذي حصل العتق فيه ضمنًا] (¬2). الثالث عشر: مثل الاختيار في الملك الاختيار في سببه، فيدخل فيه ما إذا أكره على العتق بحق، فإنه كالاختيار، وفرق بين اختياره ما يوجب العتق في نفس الأمر، وبين اختياره ما يوجب ظاهرًا، فإذا قال أحد الشريكين لصاحبه: قد أعتقت نصيبك -وهما معسران عند هذا القول- ثم اشترى أحدهما نصيب صاحبه، فإنه يحكم بعتق النصيب المشترى، مؤاخذة للمشتري بإقراره، وهل يسري إلى نصيبه؟ بمقتضى ما قررناه: [أو] (¬3) لا يسرى, لأنه لم يختر ما يوجب العتق في نفس الأمر، وإنما اختار ما يوجب الحكم به ظاهرًا. وقال بعض الحنابلة: يعتق جميعه، وهو ضعيف. الرابع عشر: ظاهر أعتق التنجيز، وأجرى الفقهاء مجراه: التعليق بالصفة، مع وجود الصفة، وأما العتق إلى أجل [فاختلفت] (¬4) المالكية فيه، [والمنقول] (¬5) عن مالك وابن القاسم: رحمهما الله أنه ¬

_ (¬1) في هـ والمرجع السابق (التملك). (¬2) العبارة في المرجع السابق (وقد حصل الملك فيه ضمنًا، إلَّا أن هذا ضعيف، والأول أقوى). (¬3) في المرجع السابق (أن) مكررة وهي غلط فلتصحح. (¬4) في ن هـ وإحكام الأحكام (فاختلف). (¬5) في المرجع السابق (فالمنقول).

يقوَّم عليه الآن، فيعتق إلى أجل، وقال سحنون: إن شاء المتمسك قوَّمه الساعة، فكان جميعه حرًّا إلى سنة مثلًا، وإن شاء تماسك، وليس له بيعه قبل السنة، إلَّا من شريكه، وإذا تمت السنة قُوِّم عليه مبتدىء العتق عند [يوم] (¬1) التقويم. الخامس عشر: مقتضى الحديث أنه لا فرق في الجزء المعتق بين القليل والكثير، لأجل التنكير الواقع في سياق الشرط. السادس عشر: إذا أعتق عضوًا معينًا -كاليد والرجل- اقتضى الحديث ثبوت الحكم المذكور فيه، وخلاف أبي حنيفة في الطلاق جارٍ هنا، وتناول اللفظ لهذه الصورة أقوى من تناولها للجزء المشاع, لأن الجزء الذي تفرد بالعتق مشترك حقيقة. السابع عشر: الحديث يقتضي أن يكون المعتق جزءًا من المشترك، فيتعدى النظر فيما إذا أعتق الجنين، هل يسري إلى الأم؟ الثامن عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "له" يقتضي أن يكون العتق منه مصادفًا لنصيبه، كقوله: أعتقت نصيبي من هذا العبد، فعلى هذا لو قال: أعتقت نصيب شريكي، لم يؤثر في نصيبه، ولا في نصيب شريكه على الحذهبين، فلو قال للعبد الذي يملك نصفه: "نصفك حرٌّ" أو أعتقت نصفك. فهل يحمل على النصف المختص به، أو يحمل على النصف شائعًا؟ فيه اختلاف لأصحاب الشافعي، وعلى كل حال فقد عتق إما كل نصيبه، أو بعضه، فهو داخل تحت الحديث. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق ساقطة.

التاسع عشر: ثبوت الحكم في العبد [المشترك وهو مقتضى الحديث] (¬1)، والأمة مثله [وهو قياس بالنسبة إلى هذا الأصل، وفي معناه الذي لا] (¬2) ينكره منصف. غير أنه ورد ما يقتضي دخول الأمة في اللفظ، فإنهم اختلفوا في الرواية, فقال القعنبي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "من أعتق شركًا له في مملوك"، وكذلك جاء في رواية أيوب عن نافع، وأما عبيد الله عن نافع. فاختلفوا عليه ففي رواية أبي أسامة وابن نُمير عنه، "في مملوك" كما في رواية القعنبي عن مالك، وفي رواية بشر بن المفضل عن عُبيد الله "في عبد"، وفي بعض هذه الروايات عموم، وجاء ما هو أقوى من ذلك في رواية موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يرى في العبد والأمة يكون بين الشركاء، فيعتق أحدهما نصيبه منه، يقول: قد وجب عليه عتقه كله، وفي آخر الحديث "يخبر بذلك ابن عمر عن النبي - صلي الله عليه وسلم -"، وكذلك جاء في رواية صخر بن جويرية عن نافع "يذكر العبد والأمة" قريبًا مما ذكرناه من رواية موسى، وفي آخره، رفع الحديث إلى النبي - صلي الله عليه وسلم -. العشرون: قوله عليه الصلاة والسلام: "وكان له مال" إن كان بالفاء اقتضى ذلك أن يكون اليسار معتبرًا في وقت العتق. وإن كان بالواو احتمل أن يكون للحال، فيكون الأمر كذلك. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (غير وجودة). (¬2) العبارة في المرجع السابق (وهو بالنسبة إلى هذا اللفظ قياس في معنى الأصل الذي لا ينبغي).

الحادي بعد العشرين: قوله عليه الصلاة والسلام: "له مال" يخرج عنه من لا مال له، وبه قال الشافعية فيما إذا أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موته، فأعتق بعد موته، فلا سراية، وإن خرج كله من الثلث، لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث، ويبقى الميت لا مال له، ولا تقويم على من لا يملك شيئًا وقت نفوذ العتق في نصيبه، وكذلك لو كان يملك كل العبد فأوصى بعتق جزء منه، فأعتق [منه جزءًا] (¬1) لم يسر، وكذلك لو دَبًر أحد الشريكين نصيبه، فقال: إذا من فنصيبي منك حر. وكل هذا جاء عليه ما ذكرناه عند من قال به، وظاهر المذهب عند المالكية فيمن قال: إذا مت فنصيبي منك حر: أنه لا يسري، وقيل: إنه يقوَّم في ثلثه، وجعله موسرًا بعد الموت. الثاني بعد العشرين: أطلق "الثمن" في هذه الرواية والمراد القيمة، فإن "الثمن" ما اشتريت [به] (¬2) العين، وإنما يلزم بالقيمة لا بالثمن، وقد تبين المراد في رواية بشر بن الفضل عن عُبيد الله "ما يبلغ ثمنه يقوم عليه قيمة عدل". وفي رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه "أيما عبد كان بين اثنين فأعتق أحدهما فإن كان موسرًا، فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة -أو قال قيمة- لا وكس ولا شطط"، وفي رواية أيوب: "من كان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل"، وفي رواية موسى "يقام وماله قيمة العدل"، وفي هذا كله ما يبين أن المراد بالثمن القيمة. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (غير موجودة). (¬2) زيادة من ن هـ والمرجع السابق.

الثالث بعد العشرين: قوله عليه الصلاة والسلام: "ما يبلغ ثمن العبد" يقتضي تعليق الحكم بمال يبلغ ثمن العبد [فلو] (¬1) كان المال لا يبلغ كمال القيمة، ولكن قيمة بعض النصيب، ففي السراية وجهان، ولأصحابنا فيمكن أن يستدل به من لا يرى السراية بمفهوم هذا اللفظ، ويؤيده أن في السراية بعيضًا لملك الشريك عليه، والأصح عندهم السراية إلى القدر الذي هو موسر به، تحصيلًا للحرية بقدر الأمكان، والمفهوم في مثل هذا ضعيف. الرابع بعد العشرين: إذا ملك ما يبلغ كمال القيمة إلَّا أن عليه دينًا يساوي ذلك أو يزيد عليه فهل يثبت الحكم في السراية والتقويم؟ فيه الخلاف [(¬2)] في منع الدين الزكاة، والأصح الثبوت ووجه الشبه بينهما اشتراكهما في كونهما حقًّا لله تعالى، مع أن فيهما حقًّا [للآدمي] (¬3)، ويمكن أن يستدل بالحديث من لا يرى الدين مانعًا ها هنا، أخذًا بالظاهر [ومن يرى الدين] (¬4) مانعًا يخصص هذه الصورة بالمانع الذي يقيمه فيها خصمه، والمالكية على أصلهم في أن من عليه دين بقدر ماله فهو معسر. الخامس بعد العشرين: [مقتضى الحديث] (¬5) أنه مهما كان للمعتق ما يفي بقيمة نصيب شريكه فيقوم عليه، وإن لم يملك غيره. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (فإذا). (¬2) في المرجع السابق زيادة (الذي). (¬3) في الأصل (في الآدمي)، وهو (لأدمي). (¬4) زيادة من المرجع السابق. (¬5) في المرجع السابق (يقتضي الخبر).

هذا هو الظاهر، والشافعية أخرجوا قوت يومه، وقوت من تلزمه نفقته ودَسْت ثوب، وسكنى يوم. والمالكية اختلفوا فقيل: باعتبار قوت الأيام، وكسوة ظهره، كما في الديون التي عليه، ويباع منزله الذي يسكن فيه وشِوارُ بيته. وقال أشهب منهم: إنما يُترك له ما يواريه لصلاته. السادس بعد العشرين: اختلف العلماء في وقت حصول العتق عند وجود شرائط السراية إلى الباقي. وللشافعي رحمه الله ثلاثة أقوال: أصحها: أنه يحصل بنفس الإِعتاق، وهي رواية عن مالك. وثانيها: أنه لا يحصل إلَّا بأداء القيمة، وهو ظاهر مذهب مالك. وثالثها: أن يتوقف، فإن أدى القيمة بأن حصول العتق من وقت الإِعتاق، وإلَّا بأن أنه لم يعتق، وألفاظ الحديث المذكور مختلفة عند الرواة. ففي بعضها قوة لمذهب مالك. وفي بعضها ظهور لمذهب الشافعي، وفي بعضها احتمال متقارب وألفاظ هذه الرواية تشعر بما قاله مالك، وقد استدل بها على هذا المذهب، لأنها تقتضي ترتيب التقويم على عتق النصيب، وتعقب الإِعطاء وعتق الباقي للتقويم [(¬1)]، فالتقويم أما أن يكون راجعًا إلى ترتب في الوجود أو إلى ترتب في الرتبة. والثاني باطل، لأن عتق النصيب الباقي -على قول السراية- بنفس أعتاق الأول: إما مع إعتاق الأول، أو عقيبه. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق زيادة (فهذا الترتيب بين الإِعطاء وعتق الباقي للتقويم).

فالتقويم إن أريد به الأمر الذي يقوِّم به الحاكم والمقوم فهو متأخر في الوجود عن عتق النصيب، والسراية معًا، فلا يكون عتق نصيب الشريك مرتبًا على التقويم في الوجود، مع أن ظاهر اللفظ يقتضيه. وإن أريد بالتقويم وجوب التقويم مع ما فيه من المجاز، فالتقويم بهذا التفسير مع العتق الأول يتقدم على [الإِعطاء وعتق الباقي، فلا يكون عتق الباقي متأخرًا عن التقويم على هذا التفسير] (¬1)، لكنه متأخر على ما دل عليه ظاهر اللفظ. وإذا بطل الثاني تعين الأول. وهو أن يكون عتق الباقي راجعًا إلى الترتيب في الوجود، أي يقع أولاً التقويم، ثم الإِعطاء، وعتق الباقي. وهو مقتضى مذهب مالك، إلَّا أنه يبقى على هذا احتمال أن يكون "وعَتَقَ عليه العبد" معطوف على "قوم قيمة عدل" لا على "أعطى" فلا يلزم تأخر عتق الباقي [عن] (¬2) الإِعطاء, ولا كونه معه في درجة واحدة فعليك بالنظر في أرجح الاحتمالين، أعني عطفه على "أعطى" أو عطفه على "قوّم". وأقوى منه رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه إذ فيها "وكان موسرًا فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة -أو قال: قيمة- لا وكس ولا شطط، ثم يقوم لصاحبه حصته ثم يعتق". فجاء بلفظة "ثم" المقتضية لترتيب العتق على الإِعطاء والتقويم. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة. (¬2) في المرجع السابق (على).

وأما ما يدل ظاهره للشافعي فرواية حمّاد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عصر: "من أعتق نصيبًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق". وأما ما في رواية بشر بن المفضل عن عُبيد الله فمما جاء فيها: "من أعتق شركًا له في عبد فقد عتق كله، إن كان للذي أعتق نصيبه من المال ما يبلغ ثمنه، يقوم عليه قيمة عدل، فيدفع إلى شركائه أنصباءهم ويخلي سبيله"، فإن في أوله ما يستدل به لمذهب الشافعي، لقوله: "فقد عتق كله"، فإن ظاهره يقتضي تعقيب عتق كله لإِعتاق النصيب، وفي آخره ما يشهد لمذهب مالك، فإنه قال: "يقوم قيمة عدل فيدفع [إلى شركائه أنصباءهم ويخلي سبيله" تفسير كونه عتق كله بأن يقوم عليه قيمة عدل فيدفع] (¬1)، فأتبع [الإِعتاق] (¬2) النصيب للتقويم ودفع القيمة للشركاء عقيب التقويم، وذكر تخلية السبيل بعد ذلك "بالواو". قال الشيخ (¬3) والذي يظهر في هذا أن ينظر إلى هذه الطرق ومخارجها، فإذا اختلفت الروايات في مخرج واحد أخذنا بالأكثر فالأكثر، أو بالأحفظ فالأحفظ، ثم نظرنا إلى أقربها دلالة على المقصود، [فيعمل] (¬4) بها. وأقوى ما ذكرناه لمذهب مالك لفظة "ثم" وأقوى ما ذكرناه لمذهب الشافعي رواية حمّاد [وقوله: "من أعتق نصيبًا له في عبد ¬

_ (¬1) زيادة من المرجع السابق. (¬2) في المرجع السابق (إعتاق). (¬3) إحكام الأحكام (4/ 562). (¬4) في المرجع السابق (فحُمل).

وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل] (¬1) فهو عتيق لكنه يحتمل أن يكون المراد أن مآله إلى العتق، أو أن العتق قد وجب له وتحقق. وأما قضية وجوبه بالنسبة إلى تعجيل السراية، أو توقفها على الأداء [المحتمل] (¬2)، فإذا آل الحال إلى هذا، فالواجب النظر في أقوى [الدليل، (¬3) وأظهرهما دلالة. ثم على تراخي العتق عن التقويم والإِعطاء، أو دلالة [لفظة] (¬4) "عتيق" على تنجيز العتق. هذا بعد أن يجري ما ذكرناه من اعتبار اختلاف الطرق، واتفاقها. السابع بعد العشرين: يمكن أن يستدل به من يرى السراية بنفس الإِعتاق، على عكس ما قدمناه في الوجه قبله. وطريقه أن يقال: لو لم تحصل السراية بنفس الإِعتاق، لما تعينت القيمة جزاء للإِعتاق لكن تعينت، فالسراية حاصلة بالإِعتاق، بيان الملازمة أن إذا تأخرت السراية عن الإِعتاق، وتوقفت على التقويم. فإذا أعتق الشريك الآخر نصيبه نفذ، وإذا نفذ فلا تقويم، فلو تأخرت السراية لم يتعين التقويم، لكنها متعينة [بالحديث] (¬5). الثامن بعد العشرين: اختلف الحنفية في تجزئ الإِعتاق, بعد اتفاقم على عدم تجزئ العتق، فأبو حنيفة: يرى التجزىء فيه وصاحباه لا يريانه. ¬

_ (¬1) زيادة من المرجع السابق. (¬2) في المرجع السابق (فمحتمل). (¬3) في المرجع السابق (الدليلين). (¬4) في الأصل ساقط، وفي هـ (لفظ)، وما أثبت من المرجع السابق. (¬5) في المرجع السابق (للحديث).

وانبنى على مذهب أبي حنيفة أن للساكت أن يعتق إبقاء للملك، ويضمن شريكه؛ لأنه جنى على ملكه بالإِفساد، واستسعى العبدَ لأنه ملكهُ، وهذا في حال يسار المعتق، فإن كان في حال إعساره سقط التضمين وبقي الأمران الآخران. وعند أبي يوسف ومحمد لما لم يتجزأ الإِعتاق عتق كله، ولا يملك أعتاقه. ولهما أن يستدلا بالحديث من جهة ما ذكرناه من تعين القيمة فيه، ومع تجزئ الإِعتاق لا تتعين القيمة. التاسع بعد العشرين: الحديث يقتضي وجوب القيمة على المعتق للنصيب: إما صريحًا كما في [(¬1)] الروايات " [قوِّم] (¬2) عليه قيمة عدل" وإما دلالة سياقه فلا يشك فيها، كما في رواية أخرى. وهذا يرد مذهب من يرى أن باقي العبد يعتق من بيت المال، وهو مروي عن ابن سيرين، ومقتضاه التقويم على الموسر. وذكر بعضهم قولًا آخر: أنه ينفذ عتق من أعتق ويبقى من لم يعتق على نصيبه، يفعل فيه ما يشاء. وروي في ذلك عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان بيني وبين الأسود غلام شهد القادسية وأبلى فيها، فأرادوا عتقه -وكنت صغيرًا- فذكر ذلك الأسود لعمر، فقال: اعتقوا [(¬3)] [ويبقى ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (بعض). (¬2) في المرجع السابق (يقوم). (¬3) في المرجع السابق زيادة (أنتم).

نصيبه] (¬1) حتى يرغب في مثل ما رغبتم فيه، أو يأخذ نصيبه". وفي رواية عن الأسود قال: "كان ليس ولإِخوتي غلام أبلى يوم القادسية، فأردت عتقه لما صنع. فذكرت ذلك لعمر فقال: لا تفسد عليهم نصيبهم حتى يبلغوا. فإن رغبوا فيما رغبت فيه، وإلاَّ لم تفسد عليهم نصيبهم" (¬2). فقال بعضهم: لو رأى التضمين لم يكن ذلك إفساد لنصيبهم. والإِسناد صحيح. غير أن في إثبات قولِ بعدم التضمين عند اليسار بهذا نظر ما. وعلى كل تقدير، فالحديث يدل على التقويم عند اليسار المذكور فيه. الثلاثون: فيه العمل بالظنون في باب القيم: وهو محل اتفاق لامتناع النص على الجزئيات من القيم: في مدة اليسار. الحادي بعد الثلاثين: استدل به على أن ضمان المتلفات التي ليست من ذوات الأفعال بالقيمة، لا بالمثل صورة. الثاني بعد الثلاثين: اشتراط قيمة العدل يقتضي اعتبار ما تختلف به القيمة عرفًا من الصفات التي يعرفها الناس. الثالث بعد الثلاثين: فيه الرد على ربيعة حيث قال إذا أعتق أحدهما نصيبه من العبد فإنه مردود. وصريح الحديث والإجماع يرده. وقد حمل قوله على منع عتق المشاع. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (ويكون عبد الرحمن على نصيبه). (¬2) قال ابن حزم في المحلى (9/ 191) مسألة (1667) وهذا إسناد كالذهب المحض. اهـ.

الرابع بعد الثلاثين: تعليق العتق بإعطاء الشريك حصصهم. حيث رتب على العتق التقويم بالفاء. ثم على التقويم بالفاء الإِعطاء والعتق، وعلى قوله: إنه يسرى بنفس العتق، لا يتوقف العتق على التقويم والإِعطاء. وقد أسلفنا في ذلك ثلاثة أقوال: ثالثها: التوقف ولا ينافي هذا القول لفظ الحديث. الخامس بعد الثلاثين: قوله عليه الصلاةوالسلام: "وإلَّا فقد عتق منه ماعتق" فهم منه: "عتق منه ما عتق" ففط، لأن الحكم السابق يقتضي عتق الجميع، أعني عتق الموسر، فيكون [عتق] (¬1) المعسر لا يقتضيه. نعم، يبقى ها هنا: أنه هل يقتضي بقاء الباقي من العبد على الرق، أو يستسعى العبد؟ فيه نظر. والذين قالوا بالاستسعاء منع بعضهم أن يدل الحديث على بقاء الرق في الباقي، وأنه إنما يدل على عتق هذا النصيب فقط، ويؤخذ حكم الباقي من حديث آخر، وسيأتي الكلام في ذلك عقب هذا الحديث الثاني إن شاء الله تعالى. [السادس بعد الثلاثين: قال المازري: اختلف هل الأفضل عتق الذكور أو الإِناث؟ وهذا الحديث يدل على فضل عتق الذكور, لكن الحديث الآتي يرده، وهذا بناءً منه على أن الحديث لا يتناول الأمة، وهو قول إسحاق بن راهويه لكنه قول مردود وقد ¬

_ (¬1) في هـ (عسر).

قدمنا ما فيه] (¬1). ¬

_ (¬1) زيادة من ن هـ. وما ذكره عن المازري غير موجود في المعلم، بعد الاطلاع على موضعه، وإنما المذكور فيه عن إسحاق: أن معتق نصف الأمة لا يضمن بقية، قيمتها، كما في العبد, لأنه هو المنصوص عليه في الحديث، وقد رد عليه المازري بقوله: وأنكر حذاق أهل الأصول هذا ورأوا أن الاْمة في معنى العبد، وأن هو لا يلتبس على أحد سمع هذا اللفظ وقالوا: إذا كان الفرع في معنى الأصل قطعًا صار كالمنصوص عليه. اهـ. من المعلم (2/ 221، 222).

الحديث الثاني

الحديث الثاني 435/ 12/ 81 - " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلي الله عليه وسلم - قال: من أعتق شقصًا من مملوك فعليه خلاصه [كله] (¬1) في ماله، فإن لم يكن له مال، قُوِّم المملوك قيمة عدل، ثم استسعى [العبد] (¬2) غير مشقوق عليه" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: لفظ "الاستسعاء" مختلف فيه بين الرواة، فمنهم من فصله من الحديث، وجعله من رأي قتادة. قال الدارقطني: رواه شعبة وهشام عن قتادة، وهي أثبت فلم يذكرا فيه الاستسعاء، ووافقهما همام ففصل الاستسعاء من الحديث، وجعله من رأي قتادة. قال: وعلى هذا أخرجه البخاري وهو الصواب. ¬

_ (¬1) في ن هـ ساقطة، ومتن العمدة. (¬2) زيادة من إحكام الأحكام ومتن العمدة. (¬3) البخاري (2492)، ومسلم (1503)، والنسائي في الكبرى (3/ 185، 186)، والترمذي (1348)، وأبو داود (3934، 3938)، وابن ماجه (2527)، وأحمد (2/ 426، 472، 531)، والحميدي (1093)، والبغوي (2422)، وابن أبي شيبة (5/ 201)، وعبد الرزاق (9/ 152).

قال الدارقطني (¬1): وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول ما أحسن ما رواه همام، وضبطه، [بفصل] قول قتادة عن الحديث. ونقل القاضي (¬2): عن الأصيلي وابن القصار وغيرهما أن من أسقط السعاية من الحديث أولى ممن ذكرها, ولأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر. وقال ابن عبد البر (¬3): الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكرها. وقال غيره (¬4): قد اختلف فيها عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ذكرها، وتارة لم يذكرها، فدل على أنها ليست عنده من متن الحديث كما قال غيره. وقال الشيخ تقي الدين (¬5): هذا الحديث قد أخرجه الشيخان في صحيحيهما، وحسبك بذلك، فقد قالوا: إن ذلك أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعللات، لا تصبر على النقد، ولا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث، يرد عليهم فيها مثل تلك التعللات. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 127) وما بين القوسين في السنن (وفصل) العلل للدارقطني (2031). (¬2) إكمال إكمال المعلم (4/ 156). (¬3) التمهيد (14/ 273)، والاستذكار (23/ 120). تبيه في إكمال إكمال المعلم (4/ 156)، خطأ ونصه (إذ ليست في الأحاديث الآخر من رواية أبي عمر بن عبد البر)، والصواب (ولأنها ليست في الأحاديث الآخر من رواية ابن عمر. وقال ابن عبد البر) فلتصحح. هكذا في إكمال المعلم (5/ 98). (¬4) ذكره في إكمال إكمال المعلم (4/ 156). (¬5) إحكام الأحكام (4/ 566).

ثانيها: "الشقص" بكسر الشين وفتحها. والشقيص بزيادة ياء ثلاث لغات: النصيب، سواء كان قليلًا أو كثيرًا. وصوّب بعضهم زيادة الياء، وكلاهما صواب. ثالثها: "المملوك" يتناول الذكر والانثى وقد يتعسف متعسف، ويقول: لا يطلق على الأنثى. نعم هو أولى من لفظ "عبد"، على أن بعض الناس (¬1) أدعى أن لفظ "العبد" يتناول الذكر والأنثى، وقد نقل "عبد وعبده". رابعها: قوله عليه الصلاة والسلام "فعليه خلاصه"، قد يشعر بأنه لا يسرى بنفس العتق, لأنه لو أعتق بنفس العتق سراية لتخلص على هذا التقدير بنفس العتق. واللفظ يشعر باستقبال خلاصه، إلَّا أن يقدر محذوف أي: فعليه عوض خلاص, ونحوه. خامسها: قوله "فعليه خلاصه" كل هذا يراد به: الكل من حيث هو كلُّ، أعني لكل المجموعي لأن بعضه قد تخلص بالعتق السابق، والذي يخلصه كله من حيث هو كل هو تتمة عتقه. سادسها: قوله: "في ماله" يرد به على من يقول: إنه يعتق من بيت مال المسلمين، وهو ابن سيرين، فإن إضافة المال إلى السيد المعتق ينافي بيت مال المسلمين. سابعها: قد يستدل به من يقول: إن الشريك الذي لم يعتق أولًا ليس له أن يعتق بعد [عتق] (¬2) الأول إذا كان الأول موسرًا, لأنه ¬

_ (¬1) أي ابن حزم، وانظر: (المحلى). (¬2) زيادة من إحكام الأحكام.

لو [أعتقه] (¬1) ونفذ، لم يحصل الوفاء يكون خلاصه من ماله. لكن يرد عليه لفظ [(¬2)] الحديث [الذي قبله] (¬3) [فإنه] (¬4) من لوازم عدم [صحة] (¬5) عتقه [في] (¬6) أنه يسري بنفس العتق ويبقى النظر في الترجيح بين هذه الدلالة والتي قدمناها من قوله: "قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد" فإن ظاهره ترتيب العتق على إعطاء القيمة، فأي الدليلين كان أظهر عُمِلَ به. ثامنها: قوله "فعليه خلاصه كله في ماله" يقتضي عدم استسعاء العبد عند يسار المعتق. تاسعها: قوله: "فإن لم يكن له مال" ظاهره: النفي العام للمال، والمراد به المال الذي يؤدي إلى خلاص المملوك. عاشرها: معنى الاستسعاء عند [جمهور]. القائلين به: أن العبد يكلف الاكتساب والطلب حتى يحصل قيمة نصيب الشريك الآخر، فإذا دفعها إليه عتق. فمعنى قوله: "استسعى" ألزم السعي فيما يَفُك به بقية رقبته من الرق. وقال بعضهم: هو أن يخدم سيده الذي لم يعتق بقدر ماله فيه من الرق. وتتفق الأحاديث على هذا. ¬

_ (¬1) في المرجع السابق (أعتق). (¬2) في المرجع السابق (ذلك). (¬3) غير موجودة في المرجع السابق. (¬4) في المرجع السابق (فإن كان). (¬5) زيادة من هـ والمرجع السابق. (¬6) في هـ (بالواو)، والمرجع السابق غير موجودة.

الحادي عشر: قوله: "غير مشقوق عليه" أي لا يكلف المملوك ما يشق عليه في السعابة. الثاني عشر: فيه جواز عتق العبد المشترك من بعض الشركاء. الثالث عشر: أنه إذا كان له مال يلزم خلاص باقيه من ماله. الرابع عشر: أنه إذا لم يكن له مال واستسعى العبد فيما يفك به رقبته أنه لا يكون سعيًا شاقًا على العبد، بل يعمل فيه بالاجتهاد والظن الراجح، كما قلنا في القيمة. الخامس عشر: تعظيم حق العتق، وأنه مطلوب مؤكد للشرع. السادس عشر: استسعاء العبد عند عسر المعتق، وتقدم الاختلاف فيه في الحديث قبله. والمخالفون في الاستسعاء يعارضونهم بالحديث السالف "وإلَّا فقد عتق منه ما عتق". قال الشيخ تقي الدين (¬1): والنظر بعد الحكم بصحة الحديث منحصر في تقديم [أحد الدليلين] (¬2) على [الآخر] (¬3) أعني دلالة قوله: "عتق منه ما عتق" على رق الباقي. ودلالة ["الاستسعاء"] (¬4) على لزومه في هذه الحالة، والظاهر ترجيح هذه الدلالة على الأولى. ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 568). (¬2) في المرجع السابق (إحدى الدلالتين). (¬3) في المرجع السابق (الأخرى). (¬4) في المرجع السابق (استسعى).

الحديث الثالث

[. . .] (¬1) الحديث الثالث 436/ 3/ 81 - عن جابر عن عبد الله رضي الله عنهما قال: "دبر رجل من الأنصار غلامًا له. -وفي لفظ- بلغ النبي - صلي الله عليه وسلم -: أن رجلًا من أصحابه أعتق غلامًا له عن دبر لم يكن له مال غيره. فباعه [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) بثمانمائة. درهم، ثم أرسل ثمنه إليه" (¬3). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا العبد المدبر اسمه يعقوب القبطي، والسيد أبو مذكور. وقيل: بذكور. حكاه أبو نعيم (¬4)، والذي اشتراه نعيم بن ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام زيادة (باب بيع المدبر). (¬2) زيادة من المرجع السابق. (¬3) البخاري (2141)، ومسلم (997)، والنسائي (8/ 304)، والسنن الكبرى له (6248، 6249)، وأبو داود (3957)، والبيهقي في السنن (4/ 178)، والحميدي (2/ 513)، وابن أبي شيبة (5/ 77)، والبغوي (9/ 365)، وأحمد (3/ 305، 369). (¬4) معرفة الصحابة لأبي نعيم رقم (3086).

عبد الله النحام [بنون ثم حاء مهملة قال الجوهري (¬1): يقال نحم الرجل ينحم بالكسر فهو نحام مأخوذ من النحم وهو التنحنح والزحير. ثانيها: جاء في بعض طرق هذا الحديث في غير الصحيح: أن الذي دبر هذا الغلام مات، فباعه النبي - صلي الله عليه وسلم - بعد موته. ولا يصح ذلك، وجاء في بعض طرقه أيضًا: أنه إنما باع صدقة المدبر لا نفسه. ولا يصح أيضًا. وقد أوضحت ذلك في "تخريجي لأحاديث الرافعي" فسارع إليه. ثالثها: معنى "دبر وأعتق عن دبر" أعتقه بعد موته أي قال: أنت حر بعد موتي. فكأنه علق عتقه بموته، والموت دبر الحياة، وبه سمى التدبير في غير الرقيق كالخيل وغيره مما يوصي به. وقيل: سمى تدبيرًا, لأنه دبر أمر دنياه باستخدامه واسترقاقه، وأمر آخرته بإعتاقه وهو مردود إلى الأول أيضًا, لأن التدبير في الأمر مأخوذ من لفظ الدبر أيضًا، لأنه نظر في عواقب الأمر وإدباره. رابعها: فيه جواز التدبير وصحته وهو إجماع، ثم ذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث. وخالف الليث وزفر، فقالا: هو من رأس المال. خامسها: جواز بيع المدبر قبل موت سيده، لهذا الحديث قياسًا على بيع الموصى بعتقه فإنه جائز إجماعًا وهو مذهب الشافعي وأصحابه. وممن جوّزه عائشة وطاوس وعطاء والحسن ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة (نحم).

ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود. وكما يجوز بيعه يجوز هبته، والوصية به وغيرهما من التصرفات المزيلة للملك، سواء كان التدبير مطلقًا أم قصدًا، خلافًا لأبي حنيفة في المطلق. ولمالك في المطلق والمقيد معًا. وعن أحمد روايتان: إحداهما كمذهبنا والأخرى أن له بيعه للدين فقط، ويمتنع بيع المدبر. قال جمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين ومنهم أبو حنيفة ومالك وتأولوا معه على أنه عليه الصلاة والسلام إنما باعه في دين كان على سيده، كما رواه النسائي والدارقطني (¬1). وروي أنه عليه الصلاة والسلام باعه وقضى عنه دينه، ودفع الفضل إليه. وروي عن عائشة (¬2) رضي الله عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولا خالفها، وهذا يدل على جواز بيعه مطلقًا قالوا: ولأنه تعليق للعتق بصيغة انفرد السيد بها، فيتمكن من بيعه كالمعلق عتقه بدخول [الدار] (¬3). وتأوله بعض المالكية: على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه. قال: هذا القائل وكذلك برد كل من تصدق بكل ماله. وهذا واه، والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله. ومنهم من يقول: أنا أقول بجواز بيعه في صورة كذا وفي صورة كذا، والواقعة واقعة حال لا عموم لها، فيجوز أن يكون في الصورة التي أقول بجواز بيعه فيها، فلا تقوم على الحجة في المنع ¬

_ (¬1) الدراقطني (4/ 137، 138، 140). (¬2) الدارقطني (4/ 141). (¬3) زيادة من ن هـ.

من بيعه في غيرها، كما يقول مالك في جواز بيعه في الدين على التفصيل المذكور في هذهبه. قال القاضي عياض (¬1): والأشبه عندي أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك نظرًا له إذ لم يترك لنفسه مالًا. والصحيح ما قاله أصحاب الشافعي ومن وافقهم: أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبر بكل حال ما لم يمت السيد. سادسها: نظر الإِمام في مصالح رعيته وأمره إياهم بما فيه الرفق لهم، وبإبطال ما يضر من تصرفاتهم التي يمكن فسخها [(¬2)]. ¬

_ (¬1) إكمال المعلم (3/ 514). (¬2) ن هـ ز، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله قال مؤلفه رحمه الله وهو الشيخ الإِمام العلاَّمة أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي النحوي عرف بابن الملقن نجز هذا الشرح مساء يوم السبت ثاني عشر من المحرم سنة ست وستين وسبعمائة وقد اشتمل والحمد لله على فنون من هذا العلم كعلم اللغة العربية والأحكام الشرعية وأسماء الصحابة والتابعين. وما تيسير من مآثرهم ومناقبهم وبيان مبهماته ومهماته والجمع بين المختلفات ومذاهب علماء الإِسلام والأماكن العظام، فله الحمد على تيسير كل ذلك وأمثاله وأنعامه وأفعاله، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، اللهم انفع به مؤلفه وقارئه وكاتبه والناظر فيه ومالكه وجميع من سمعه والمسلمن علقه كاتبه لنفسه ولمن شاء ربه من بعده، فقير رحمة ربه محمد بن رجب بن عبد العال بن موسى بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم الشافعي الزبيري لطف الله به وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين، ووافق الفراغ من كماله في وقت مبارك بعد الأذان وقبل صلاة الصبح التاسع من ربيع الآخرة سنة تسعين وثمانمائة وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله التابعين.

آخر كتاب شرح العمدة للشيخ الإِمام العالم العلاَّمة أبي حفص عمر بن الشيخ الإِمام العالم العلاَّمة أبي الحسن علي بن الشيخ الإِمام العالم العلاَّمة أبو العباس أحمد الشافعي الشهير بابن أبو الحسن النحوي. غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، والله الموفق للصواب وإليه وجميع المسلمين بمحمد (¬1) وآله. المرجع والمآب به الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وذكر مؤلفه المذكور عفا الله عنه أن هذا الشرح نجز مساء يوم السبت ثاني عشر من شهر الله المحرم سنة ست وستين وسبعمائة أحسن الله تقضيها وما بعدها في خير وعافية، وقد اشتمل بحمد الله ومنه على فنون من هذا العلم كعلم العربية واللغة والأحكام الشرعية وأسماء الصحابة والتابعين وما تيسر من مآثرهم ومناقبهم وبيان مبهماته ومهماته، والجمع بين المختلفات، ومذاهب علماء الإِسلام والأماكن العظام، فله الحمد على تيسير ذلك وأمثاله وأفضاله، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين اللهم انفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه، والناظر فيه وجميع المسلمين ... آمين. وعلقه لنفسه أجمع فقير رحمة ربه المعترف بذنبه محمَّد بن سليمان عوض بن سليمان البكري الشافعي في مستهل ربيع الآخر من شهور سنة ست وستين وسبعمائة غفر الله له ولوالديه وبجميع المسلمين وكتبه أجمع من خط مؤلفه اللهم صلِّى على محمَّد وآله. ¬

_ (¬1) هذا توسل بدعي لا يجوز فينبغي على القارئ والكاتب والمتكلم تجنبه.

تم الكتاب بمعونة الملك الوهاب سائلًا الله عزَّ وجلّ أن يجعله ذخرًا يوم القيامة ووالديّ، ولمؤلفه ووالديه، وناسخيه ووالديهم، وجميع المسلمين وأن يمنحنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وأن يغفر لنا زلاتنا ويستر عوراتنا ويكشف كربتنا وأن يصلح لي نيتي وذريتي وأن يجعلهم هداة مهتدين وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وأن يصلح حال أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والأموات، كما أسأله أن يجعله خالصًا لوجه الكريم وأن ينفع به ممن اطلع عليه وقرأه وكتبه وسعى في نشره تعلمًا وتعليمًا وطباعة. وصلَّي الله وسلَّم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. تم كتابته والتعليق عليه وتصحيحه في مدينة بريدة حرسها الله من كل سوء وديار المسلمين. أبو أحمد/ عبد العزيز بن أحمد بن محمَّد بن حمود المشيقح 15/ 12/ 1415 هـ

§1/1