الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام

محمد إسماعيل المقدم

الإِعلامُ بـ حُرمةِ أهلِ العلمِ والإِسلامِ تأليف محمَّد أحمد إسماعيل المقدّم عَفَا الله عَنه دارُ طيبة الرياض مَكتبةٌ الكوثر الرياض

بسم الله الرحمن الرحيم

الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض- شارع السويدي - غرب النفق ص ب: 7612 هاتف: 4253737 - فاكس 4258277 مكتبه الكوثر للنشر التوزيع الرياض - شارع العُليَا العَام - مقابل أسواق طيبة ص ب: 16863 - الرياض: 11474 - هاتف مُؤقت: 450632

مقدمة

مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كثيرًا كما أنعم علينا كثيرًا، وصلى الله على رسوله محمد الذي أرسله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيرًا. أما بعد. فانطلاقاً من قول الله تبارك وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال:1]، ومن قوله صلى الله عليه وسلم -: " إِياكم وسُوءَ ذاتِ البين، فإِنها الحالقة " (¬1) تأتي هذه التذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، في وقت اختلطت فيه الأوراق، وتشعبت السبل، وهُجرت فيه الآداب الشرعية، السنن المحمدية، والأخلاق الإسلامية. لقد رفع الله تعالى شأن حسن الخلق حين امتدح خليله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم) [القلم: 4]، ونوَّه - صلى الله عليه وسلم - بقدره حين قال: " إِنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الترمذي رقم (2639)، وصححه، وسوء ذات البين هى العداوة والبغضاء، والمراد بالحالقة: خصلة السوء التي تُذهب الدين كما تذهب الموسى الشعر، والحديث في " صحيح الترمذي " برقم (2036) (2/ 307). (¬2) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (273)، وابن سعد في " الطبقات " (1/ 192)، والحاكم (2/ 613)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/ 318)، وصححه الحافظ ابن عبد البر.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من شيء يوضع في الميزان أثقلُ من حسن الخلق، وإِن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة " (¬1). وأمر الله تعالى بحسن الخلق مع الناس كافة، ولم يستثن، فقال عز من قائل: (وَقولُوا للنَّاسِ حسْنًا) [البقرة: 83]، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (وقولوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) قال: " يعني الناس كلهم " (¬2)، وعن عطاء قال: " للناس كلهم، المشركِ وغيرِه " (¬3). وقال القرطبي رحمه الله: (قال أبو العالية: " قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به "، وهذا كله حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلْقًا مع البَرِّ والفاجر، والسُّنَي والمبتدع، من غير مداهنة ولا موالاة محرمة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: (فَقولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا) [طه: 44] فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: " إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدَّة، فأقول لهم بعض القول الغليظ "، فقال: " لا تفعل! يقول الله تعالى: (وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْنًا) فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى، فكيف بالحنيفي؟ ") (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي رقم (2088)، وعزاه المنذري إلى (البزار بإسناد جيد)، " الترغيب " (3/ 256)، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " رقم (1629). (¬2) " شعب الإيمان " (5/ 288). (¬3) رواه ابن جرير في " تفسيره " (2/ 296)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (308). (¬4) " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (2/ 16).

وعن أبي سنان، قال: قلت لسعيد بن جبير رحمه الله: " المجوسي يُوليني من نفسه، ويسلم عليَّ، أفأرد عليه؟ " , فقال سعيد: " سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو من ذلك؟ فقال: " لو قال لي فرعونُ خيرًا لرددتُ عليه " (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات " (¬2). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال معاذ: " يا رسول الله، أوصني "، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " استقم وليحسن خُلُقُكَ للناس " (¬3) وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " (¬4). ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن أحبَّكم إِليَّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلفون، وإِن أبغضكم إِليَّ المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرءَاء العنت " (¬5). وقال الحسن: " من ساء خُلُقه ; عذبَ نَفسه " (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (309). (¬2) " صحيح الأدب المفرد " رقم (848). (¬3) أخرجه الحاكم (1/ 54)، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم (524)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (1228). (¬4) رواه الترمذي رقم (2070)، وحسنه في " صحيح الترمذي " رقم (1618). (¬5) أخرجه الطبراني في " الصغير " (2/ 25)، وضعفه المنذري، والهيثمي (8/ 21)، والعراقي في " المغني " (2/ 160)، وقال الألباني: " لكن الحديث له شواهد كثيرة يرقى بها إلى درجة الحسن " اهـ. من " السلسلة الصحيحة " رقم (751). (¬6) " الإحياء " (3/ 57).

وعن أبي حازم سلمة بن دينار: " السيئ الخلق: أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون عنه، فرقًا منه، حتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى إن قطه ليفر منه " (¬1). وقال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]. قال شيخ الإسلام: " وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق أن لا يُظلَمَ، بل يعدل عليه " (¬2) اهـ. تتناول هذه " التذكِرة " مطلبين رئيسين: أحدهما: حسن الخلق مع المسلم، ورعاية حرمته، وصيانة عرضه من كل ما يشينه وبخاصة الغيبة التي شاعت، وذاعت، وتساهل الناس فيها. والثانى: الأدب مع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وحفظ حرمتهم، ومعرفة قدرهم، والتنزه عن الوقيعة فيهم، والنيل من مراتبهم الرفيعة، وهذا هو المقصود بعينه من هذه " التذكرة "، فإن المطلب الأول تمهيد لهذا الثاني باعتبار أن العالم له حقوق المسلم عامة، ثم له حقوق أخرى خاصة، فإن الله سبحانه وتعالى رفع المؤمنين على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر المؤمنين، فقال: (يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكمْ وَالَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (6/ 99). (¬2) " منهاج السنة " (126/ 5).

دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]. ومن المعلوم أنه لا يستوي ما حرمه الله من جهة واحدة، وما حرمه من جهات متعددة، فالجرم يعظم بتعدد جهات الانتهاك، ويعظم -تبعًا لذلك- الإثمُ، ويتضاعف العقاب: فظلم النفس بالمعاصي حرام في كل زمان ومكان لكنه أشد إذا وقع في الأشهر الحرم، ولذلك قال تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36]. ولهذا نظائر: قال - صلى الله عليه وسلم -: " لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، ولأن يسرق الرجل من عَشْرة أبيات أيْسَرُ له من أن يسرق من بيت جاره " (¬1). ومن هذا الباب قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197]، ومنه: تغليظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام، وفي ذوي الرحم، كما هو مذهب الشافعي (¬2). إن المسيء إلى العلماء، والطاعن عليهم بغيًا وَعدْوًا قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط؛ لأن حرمة العلماء مضاعفة، وحقوقهم متعددة، فلهم كل ما ثبت من حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولهم حقوق المسنين والأكابر، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (6/ 8)، والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (103)، وقال المنذري (3/ 195)، والهيثمي (1/ 168): (رواه أحمد والطبراني في " الكبير "، والأوسط "، ورجاله ثقات) اهـ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (65). (¬2) انظر: " تصنيف الناس بين الظن واليقين " للعلامة بكر بن عبد الله أبو زيد ص (57).

ولهم حقوق حملة القرآن الكريم، ولهم حقوق العلماء العاملين، والأولياء الصالحين، فمن ثم نص الشافعية على أن (الغيبة إذا كانت في أهل العلم وحملة القرآن الكريم فهي كبيرة، وإلا فصغيرة) (¬1) اهـ. إن الميدان الدعوي اليوم يموج بحالة من الخلل الناشيء عن " التضخم الكمي " الذي فرض نفسه على حساب " التربية النوعية " (¬2)، الأمر الذي أفرز كثيرًا من الظواهر المرضية من أخطرها تطاول الصغار على الكبار، والجهال على العلماء، وطلبة العلم بعضهم على بعض، حتى إن الواحد منهم ينسى قاموس التآخي، وما أسرع ما يخرج إلى العدوان على إخوانه، ويجردهم من كل فضل، فلا يحلم ولا يعفو ولا يصبر، ولكن يجهل فوق جهل الجاهلينا، بل إن من طلاب " آخر الزمان " من غاص في أوحال السب والشتم والتجريح، وانتدب نفسه للوقيعة في أئمة كرام اتفقت الأمة على إمامتهم، وهو لا يدري انما ذلكم الشيطان يستدرجه إلى وحل العدوان، وهو يحسب أنه يُحسن صنعًا، ويتوهم أنه يؤدي ما قد وجب عليه شرعًا. فرحم الله من جعل عقلَه على لسانه رقيبًا، وعملَه على قوله حسيبًا. * * * ¬

_ (¬1) " مغني المحتاج " (427/ 4). (¬2) وقد أطال وأطاب في تشخيص وعلاج هذه الظاهرة المفزعة الداعية المبدع " محمد أحمد الراشد " في كتابه " المنطلق " ص (240 - 277)، وفي غيره من سلسلة " إحياء فقه الدعوة "، فراجعه إن شئت.

الباب الأول

الباب الأول

الفصل الأول من أعظم حقوق المسلم صيانة عرضه, ورعايه حرمته

الفصل الأول من أعظم حقوق المسلم صِيانة عرضه, ورعايه حرمته فإن تحريم النيل من عِرض المسلم أصل شرعي متين، عُلم بالضرورة من دين الإسلام، و " حفظ العرض " أحد الضروريات الخمس التي شُرعت من أجلها الشرائع. لقد خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مسمع يزيد عن مائة ألف نفس من صحابته الأبرار في حجة الوداع، فقال: " إِن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ " (¬1). والأعراض: جمع عِرْض، (وهو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سَلَفه، أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحَسَبه (¬2)، ويُحامي عنه أن يُنتقص ويُثلبَ) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري رقم (67)، ومسلم رقم (1679) وغيرهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وهو طرف من خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع. (¬2) الحسب: هو الكرم والشرف الثابت في الآباء، من جهة مآثرهم وشرف أنسابهم، وقيل: هو الفعال الصالحة مثل: الشجاعة، والجود، وحسن الخلق، والوفاء. (¬3) " النهاية في غريب الحديث والأثر " (3/ 208 - 209)، وانظر: " فتح الباري " (10/ 464)، وإذا ذكر العرض مع النفس أو الدم أو المال فالمراد به " الحسب " فقط، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه "، وغلب " العرض " بمعنى " الحسب " في استعمال الفقهاء، وأما في سياق هذا البحث فإننا نعني بالعرض المعنى الواسع لكل ما يقبل المدح والذم في الإنسان، لا بمعنى " البُضع " فحسب، ولا بمعنى " الحسب " فحسب.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل المسلم على المسلم حرام، دَمُه ومالُه، وعِرْضُهُ " (¬1). ونظر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يومًا إلى الكعبة، فقال: " ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك " (¬2). وعن جابر رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: " يا رسول الله، إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها؛ غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها "، قال: " هي في النار "، قال: " يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تَصَّدَّقُ بالأثوار (¬4) من الأقِط (¬5)، ولا تؤذي جيرانها بلسانها "، قال: " هي في الجنة " (¬6). وعن سفيان بن حسين، قال: كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2564)، وأحمد (2/ 277، 360)، والبيهقي (6/ 92)، وغيرهم. (¬2) رواه موقوفًا الترمذي رقم (3032)، وابن حبان رقم (5763)، والبغوي رقم (3526) (13/ 104)، وحسنه الألباني في " غاية المرام " ص (249) رقم (435). (¬3) أخرجه مسلم (41) في " الإيمان ": باب بيان تفاضل الإسلام، والبيهقي في " السنن " (10/ 187)، وابن حبان رقم (197) بلفظ: " أسلم المسلمين إِسلامًا من سلم المسلمون من لسانه ويده "، وصححه الحاكم (1/ 10)، ووافقه الذهبي، بلفظ: " أكمل الموًمنين من سلم المسلمون من لسانه ويده "، وأخرجه بنحوه أحمد (3/ 372)، والطيالسي (1777). (¬4) الأثوار: جمع ثَور، وهي القطعة من الأقط. (¬5) الأقط: لبن جامد مستحجر. (¬6) رواه أحمد (2/ 440)، وابن حبان رقم (5764)، وقال الهيثمي في " المجمع " (8/ 168 - 169): " رجاله ثقات ".

تخوفت إن قمت من عنده أن يقع فيَّ، قال: فجلست حتى قام، فلما ذكرته لإياس، قال: فجعل ينظر في وجهي، فلا يقول لي شيئًا حتى فرغت، فقال لي: " أغزوت الديلم؟ "، قلت: " لا "، قال: " فغزوت السند؟ "، قلت: " لا "، قال: " فغزوت الهند؟ "، قلت: " لا "، قال: " فغزوت الروم؟ "، قلت: " لا "، قال: " فسلم منك الديلم، والسند، والهند، والروم، وليس يسلم منك أخوك هذا؟ "، فلم يعد سفيان إلى ذلك (¬1). وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يضمنْ لي ما بين لحْيَيْهِ، وما بين رجليه (¬2) أضمن له الجنة " (¬3). ومثل هذه الضمانة الجسيمة لا تُعَلَّقُ إلا على أمر عظِيم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البيهقي فى " الشعب " (5/ 314)، وانظر: " البداية والنهاية " (9/ 336)، " تنبيه الغافلين " (1/ 178) للسمرقندي- ط. دار الشروق 1410 هـ. (¬2) اللَّحْيان: هما العظمان في جانبي الفم، والمراد بما بينهما: اللسانُ، وما يتأتى به النطق، والمراد بما بين الرجلين: الفرج. (¬3) رواه البخاري (11/ 308) رقم (6474)، والترمذي رقم (2410).

أدلة تحريم الغيبة

أدلة تحريم الغيبة قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات11: 12]. يعني: إن كرهتم أكل لحم الإنسان الميت طبعًا، فاكرهوه شرعًا، فإن عقوبته أشد. (قال ابن عباس: " إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس ". وقال قتادة: " كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا، كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيًا ". واستعمِل أكل اللحم مكان الغيبة؛ لأن عادة العرب بذلك جارية، قال الشاعر: فإن أكلوا لحمي وَفَرتُ لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدًا) (¬1) ¬

_ (¬1) " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (16/ 335).

تعريف الغيبة

تعريف الغيبة: وبَيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّ الغيبة المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هل تدرون ما الغيبة؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم "، قال: " ذكرك أخاك بما يكره "، قيل: " أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ "، قال: " إِن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإِن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه ") (¬1). وعن المطلب بن عبد الله مرسلاً: (أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الغيبة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ") (¬2) الحديث. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، فقالوا: " لا يأكل حتى يُطعَمَ، ولا يَرْحَلُ حتى يُرْحَلَ له " (¬3)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اغتبتموه "، فقالوا: " يا رسول الله، حدَّثْنا بما فيه "، قال: ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2589)، وأبو داود (4874)، والترمذي (1934)، وقال: " حسن صحيح "، والدارمي (2/ 299)، والامام أحمد (2/ 230، 384، 386، 458)، وغيرهم. (¬2) أخرجه مالك في " الموطأ " ص (610) ط. الشعب، ووكيع في " الزهد " (437)، ومن طريقه هناد السري في الزهد (1172) عن الأوزاعي، وابن المبارك في " الزهد " (704)، وأورده السيوطي في " زوائد الجامع " من رواية الخرائطي في " مساوي الأخلاق " بلفظ: " الغيبة أن تذكر الرجل بما فيه من خَلْفِهِ " أي من ورائه دون علمه، رقم (14702) " جامع الأحاديث " (4/ 618)، وذكر الألباني في " الصحيحة " رقم (1992) أنه وقف عليه في نسخة مصورة من مخطوطة " مساوي الأخلاق " بلفظ: " الغيبة أن يُذكر الرجل بما فيه من خُلُقه "، قال: " ما كنا نظن أن الغيبة إلا أن يذكره بما ليس فيه "، قال: " ذلك من البهتان "، كذَا وقع فيه (خلقه) بالقاف، ولعله أولى، وانظر: " التوبيخ والتنبيه " لأبي الشيخ الأصبهاني رقم (190) ص (217 - 218). (¬3) والمعنى أنهم وصفوه بالكسل أو الضعف، حتى إنه لا يلي أموره بنفسه حتى يتولاها له غيره.

حكم الغيبة، والتحذير منها

" حسبك إِذا ذكرت أخاك بما فيه " (¬1). ومن ثم قال الراغب: " الغيبة: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير مُحْوِجٍ إلى ذكر ذلك " (¬2). وقال ابن الأثير في " النهاية ": " الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء، وإن كان فيه " (¬3). وقال النووي في " الأذكار " تبعًا للغزالي: " الغيبة ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلُقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز " (¬4) اهـ. حكم الغيبة، والتحذير منها: قال الإمام القرطبي رحمه الله: " لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل " (¬5) اهـ. وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي رحمه الله: (كل منهما -أي الغيبة ¬

_ (¬1) رواه أبو الشيخ في " التوبيخ والتنبيه " برقمي (188، 189)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (205)، وفيه المثنى بن الصباح، ضعيف، والحديث حسنه المنذري في " الترغيب " (506/ 3). (¬2) " الذريعة " ص (142). (¬3) " النهاية في غريب الحديث " (3/ 399). (¬4) " الأذكار النووية " ص (288) بتصرف. (¬5) " الجامع لأحكام القرآن " (16/ 337).

والنميمة- حرام بالإجماع، وإنما الخلاف في الغيبة: هل هي كبيرة أو صغيرة؟، ونُقِل الإجماع على أنها كبيرة، وقال أخرون: " محله إن كانت في طلبة العلم، وحملة القرآن، وإلا كانت صغيرة ") (¬1) اهـ. وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فهبَّت ريح مُنْتنَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين ") (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " حسبك من صفية كذا وكذا "، قال بعض الرواة: تعني أنها قصيرة، فقال: " لقد قلتِ كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته ") (¬3). ¬

_ (¬1) تطهير العيبة من دنس الغيبة " ص (45)، وانظر: " مغني المحتاج " (4/ 427). (¬2) أخرجه الإمام أحمد (3/ 351)، والبخاري في " الأدب المفرد " (732)، وابن حبان في " الثقات " (2/ 72)، وقال الهيثمي في " المجمع ": " رواته ثقات " (8/ 91)، وحسنه الحافظ في " الفتح " (10/ 470)، وحسنه الألباني في " غاية المرام " رقم (429)، وللحديث طريق أخرى عند البخاري في " الأدب المفرد " بسنده عن جابر بلفظ: (هاجت ريح منتنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن ناسًا من المنافقين اغتابوا أناسًا من المسلمين، فبعثت هذه الريح لذلك ") قال الألباني: " إسناده جيد على شرط الصحيح " اهـ. فائدة: قيل لبعضهم: " ما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تتبين في يومنا هذا؟ ". قال: " لأن الغيبة كثرت في يومنا، فامتلأت الأنوف منها، فلم تتبين الرائحة، وهي النتن، ويكون مثال هذا، مثال رجل دخل دار الدباغين، لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام، ويشربون الشراب، ولا تتبين لهم الرائحة، لأنه قد امتلأت أنوفهم منها، كذلك أمر الغيبة في يومنا هذا " اهـ. من " تنبيه الغافلين " (1/ 175) للسمرقندي. (¬3) أخرجه الامام أحمد (6/ 186, 206)، وأبو داود (4875)، والترمذي (2502)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (206)، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".

وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإِيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإِنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته ") (¬1). وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (بينما أنا أماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهما ليُعذبان، وما يعُذبان في كبير (¬2) وبلى! (¬3) فأيكم يأتيني بجريدة؟ "، فاستبقنا فسبقتُه، فأتيته بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة، قال: " إِنه يهوَّن عليهما ما كانتا رطْبَتَيْن، وما يعذبان إِلا في الغيبة والبول ") (¬4). ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي برزة رضي الله عنه الإمام أحمد (4/ 420)، وأبو داود (4880)، والبيهقي (10/ 247)، ورواه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أبو يعلى في " مسنده " (1675)، والبيهقي في " الدلائل " (6/ 256)، وقال الهيثمي في " المجمع ": " رجاله ثقات " (8/ 53)، وحسنه المنذري في " الترغيب " (3/ 240)، وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس، وبريدة بن الحصيب رضي الله عنهم. (¬2) نقل الأبي عن المازَري: " أي شاق تركه؛ لأن المنهي عنه: منه ما يشق تركه كالمستلذات، ومنه ما ينفر الطبع كالمسمومات، ومنه ما لا يشق تركه كهذا "، وقال عياض: (وقيل: المعنى " في كبير " عندكم، وهو عند الله كبير) اهـ. (¬3) أي حقًّا إنه كبير يعاقب الله عليه، وقد عاقبهما سبحانه في القبر بعد موتهما. (¬4) رواه الامام أحمد (5/ 39)، وابن ماجه (349)، والطيالسي (867)، وابن أبي شيبة (1/ 122)، والبيهقي في " عذاب القبر " (137)، وقال المنذري: " رواته ثقات " كما في " الترغيب " (3/ 512)، وقال الحافظ في " الفتح " (4/ 384): (إن رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني إسنادها صحيح) اهـ، وللحديث شواهد من حديث أبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن حسنة وغيرهم، انظرها مفصلة في " بذل الإحسان " للحوينى رقم (31).

وعن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: " أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يتأذى من البول " (¬1). وصَحَّ عن قتادة رضي الله عنه قال: " ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة " (¬2). وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لما عُرِج بِي مَررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس يَخْمِشُونَ (¬3) وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم " (¬4). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل (¬5)، فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تخلل " (¬6)، فقال: " وممَّ أتخلل؟ وما أكلت لحمًا! "، قال: " إِنك أكلت لحم أخيك ") (¬7). ¬

_ (¬1) البخاري في " الأدب المفرد " وصححه لغيره الألباني في " صحيح الأدب المفرد " رقم (564). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " , (رقم189) ص (129). (¬3) يخمشون: يخدشون ويقطعون. (¬4) أخرجه الإمام أحمد (224/ 3)، وأبو داود رقما (4878)، (4879)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (165)، وأبو الشيخ في " التوبيخ والتنبيه " رقم (201)، وصححه الألباني على شرط مسلم، كما في " الصحيحة " رقم (533). (¬5) أي غاب عن المجلس. (¬6) بالخاء: من التخلل، وهو استعمال الخلال لإخراج ما بين الأسنان من الطعام، وأصله: من إدخال الشيء في خلال الشيء وهو وسطه، ومنه تخليل الأصابع في الوضوء، وانظر: " النهاية " (2/ 73)، (1/ 430). (¬7) قال الهيثمي في " المجمع " (8/ 94): (رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح)، وزاد المنذري عزوه إلى ابن أبي شيبة، وقال في " الترغيب ": (رواته رواة الصحيح) اهـ (3/ 506)، وانظر: " غاية المرام " رقم (428).

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مَرَّ على بغل ميت، فقال لبعض أصحابه: " لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خير من أن يأكل لحم رجل مسلم " (¬1). " والغيبة ضيافة الفساق " كما قال بعض السلف. وعن إبراهيم بن أدهم: (أنه أضاف ناسًا، فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلاً، فقال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا، كانوا يأكلون الخبر قبل اللحم، وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز). (¬2) وعن ابن سيرين: ذكر الغيبة فقال: (ألم تر إلى جيفة خضراء منتنة؟). (¬3) وعن محمد بن عبيد الطنافسي، قال: (كنا عند " سفيان الثوري "، فأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الله أرأيت هذا الحديث الذي جاء " إِن الله ليبغض أهل البيت اللحميين " (¬4) الذين يكثرون أكل اللحم؟ قال سفيان: " لا، هم الذين يكثرون أكل لحوم الناس ") (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في " الأدب المفرد " (256)، ووكيع في " الزهد " (433)، وابن أبي شيبة (8/ 387)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (177)، (187)، وأبو الشيخ رقم (208)، وقال محقق " الزهد " لوكيع: " إسناده صحيح على شرط الشيخين " (3/ 748). (¬2) " تنبيه الغافلين " للسمرقندي (1/ 176). (¬3) رواه وكيع في " الزهد " (432)، وهناد في " الزهد " (2/ 564)، وفي " النهاية " (1/ 325): الجيفة: جثة الميت إذا أنتن. (¬4) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 307) رقم (6743) من حديث سمرة بن جندب مرفوعًا بلفظ: " إِن الله يبغض البيتَ اللحِمَ "، وانظر: " الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة " للسيوطي (58). (¬5) رواه البيهقي في " شعب الايمان " (5/ 299)، وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 75)، وابن أبي الدنيا بنحوه في " الصمت " رقم (739). وليس فيه التصريح برفع الحديث، وقال محققه الحويني: " رجاله ثقات " اهـ. ص (309)، وانظر: " النهاية " لابن الأثير (4/ 239).

وسمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب آخر، فقال: " إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس " (¬1). وعن عبد العزيز بن أبان أن سفيان الثوري رحمه الله قال: " إياك والغيبةَ، إياك والوقوعَ في الناس، فيهلِك دينُك " (¬2). وسئل بشر بن الحارث عمن يغتاب الناس يكون عدلاً؟ قال: " لا، إذا كان مشهورًا بذلك فهو الوضيع " (¬3). وقال الفضيل: سمعت سفيان يقول: " لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إليّ من أن أرميه بلساني " (¬4). وقال الحسن: " والله! لَلغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكَلةِ في جسده " (¬5). * * * ¬

_ (¬1) " تفسير القرطبي " (16/ 336). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " ص (206) رقم (171). (¬3) " حلية الأولياء " (8/ 344). (¬4) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 316). (¬5) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (191) ص (129).

ما تكون به الغيبة

مَا تكون بِهِ الغَيبَة تكون الغيبة بالقول، وتكون بغيره، قال الغزالي رحمه الله: (الذكر باللسان إنما حَرُم لأن فيه تفهيمَ الغيرِ نقصانَ أخيك وتعريفَه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يُفهم المقصود فهو داخل في الغيبة، وهو حرام) (¬1) اهـ. وقال الإمام النووي رحمه الله: (إن الغيبة: ذكرك الإنسانَ بما يكره، سواء ذكرته بلفظك أو في كتابتك، أو رمزت أو أشرت إليه بعينك، أو يدك أو رأسك، وضابطه: كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرمة، ومن ذلك المحاكاة، بأن يمشي متعارجًا أو مطأطئًا أو على غير ذلك من الهيئات، مريدًا حكاية هيئة من يتنقصه بذلك، فكل ذلك حرام بلا خلاف، ومن ذلك إذا ذكر مصنِّفُ كتابٍ شخصًا بعينه في كتابه قائلاً: " قال فلان كذا " مريدًا تنقصه والشناعة عليه، فهو حرام، فإن أراد بيان غَلَطه لئلا يُقَلَّد أو بيانَ ضعفه في العلم لئلا يُغترَّ به ويُقبلَ قوله، فهذا ليس غيبة، بل نصيحة واجبة يثاب عليها إذا أراد ذلك، وكذا إذا قال المصنف أو غيره: " قال قوم أو جماعة كذا، أو هذا غلط أو خطأ أو جهالة وغفلة ونحو ذلك "، فليس غيبة، إنما الغيبة ذكر الإنسان بعينه أو جماعة معينين. ومن الغيبة المحرمة قولك: فعل كذا بعض الناس، أو بعض الفقهاء، أو ¬

_ (¬1) " الإحياء " (3/ 142 - 143).

بعض من يدعي العلم، أو بعض المفتين، أو بعض من يُنسب إلى الصلاح أو يدعي الزهد، أو بعض من مَرَّ بنا اليوم، أو بعض من رأيناه، أو نحو ذلك، إذا كان المخاطبُ يفهمه بعينه لحصول التفهيم. ومن ذلك: غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يعرِّضُون بالغيبة تعريضًا يفهم به كما يفهم بالصريح، فيقال لأحدهم: " كيف حال فلان؟ "، فيقول: " الله يصلحنا، الله يغفر لنا، الله يصلحه، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ باللهِ من الشر، الله يعافينا من قلة الحياء، الله يتوب علينا "، وما أشبه ذلك مما يفهم منه تنقصه، فكل ذلك غيبة محرمة، وكذلك إذا قال: " فلان يُبتلى بما ابتُلينا به كلنا "، أو: " ما له حيلة في هذا، كلنا نفعله "، وهذه أمثلة، وإلا فضابط الغيبة: تفهيمُك الخاطبَ نقصَ إنسانٍ كما سبق) اهـ (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون؛ لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس، واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم، فيخوض معهم. ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالَب ديانة وصلاح، فيقول: " ليس لي عادة أن أذكر أحدًا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله "، ويقول: " والله إنه مسكين "، أو: " رجل جيّد، ¬

_ (¬1) " الأذكار النووية " ص (290 - 291).

ولكن فيه كيت وكيت " (¬1)، وربما يقول: " دعونا منه، الله يغفر لنا وله "، وإنما قصده استنقاصه وهضمًا لجنابه، ويُخرِجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقًا، وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه. ومنهم من يرفع (¬2) غيره رياءً، فيرفع نفسه، فيقول: " لو (¬3) دعوت البارحة في صلاتي لفلان؛ لما بلغني عنه كيت وكيت "، ليرفع نفسه، ويضعه عند من يعتقده، أو يقول: " فلان بليد الذهن، قليل الفهم "، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه. ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثنى على شخص، أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح، ليسقط ذلك عنه. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب، لِيُضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزإ به. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: " تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت! ومن فلان كيف وقع منه كيت؟! وكيف فعل كيت وكيت؟! " فيخرج اسمه في معرض تعجبه. ومنهم من يُخرج [الغيبة مخرج] (¬4) الاغتمام، فيقول: " مسكين فلان، ¬

_ (¬1) أي أنه يتصنع إبداء الشفقة والرحمة على أخيه، ثم يتصنع بالدعاء له عند إخوانه، ومن ذلك أيضًا قوله: " فلان حبيب " أو " طيب القلب " ويقصد أنه يُستغفل. (¬2) كذا بالأصل، ولعل الصحيح " يضع " كما يبدو من السياق بعده. (¬3) كذا، على سبيل التمني، ويحتمل أن تكون: " لقد دعوت " إلخ على سبيل الخبر، والله أعلم. (¬4) ليست هذه الزيادة بالأصل، والسياق يقتضيها.

غمني ما جرى له، وما تم له "، فيظن من يسمعه أنه يغتم له، ويتأسف، وقلبه منطوٍ على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه. ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإِنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان) (¬1) اهـ. وقال الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى: (إن علم إبليس أنك حذر خائف في كثير من أحوالك، لم يبدأ صاحبَك بالتزين له بالغيبة والكذب، إن علم أنك من ذلك نافر، وله مجانب، ولكن يدعكما، حتى إذا ذكرتما الله عز وجل، واستأنستْ قلوبكما، زين لكما فضول الكلام، والراحة إلى الدنيا، فإذا خُضتما في ذلك زين لكما الغيبة. فإن كنتما من الخائفين في كثير من أموركما أجرى الغيبة من قبل الغضب لله عزّ وجل، أو التعجب، أو الإنكار، أو التوجع لمن تغتابانه. وإن كنتما لا تقومان في الخوف ذلك المقام، أجرى بينكما الغيبة من قبل الغضب والغيظ والمكافأة لمن ذكركما، أو ذكر أحدكما، والآخر راضٍ بذلك) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) " مجموع الفتاوى " (28/ 237 - 238). (¬2) " الرعاية " ص (315).

أثر الغيبة في الطهارة والصوم

أثر الغيبة في الطهارة والصوم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " إن أحق ما طهر الرجل لسانه " (¬1)، بل رُوي عن بعض السلف أنه كان إذا أراد التنفير من هذه المعصية أمر المتورط فيها بالطهارة الحقيقية بالمضمضة (¬2) والوضوء (¬3)، تشبيهًا لها بالنجاسة الحسية، وإرشادًا إلى التحرز منها كما يُتحرز من النجاسات: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة الخبيثة يقولها " (¬4). وعن عبد الله مسعود رضي الله عنه قال: " لأن أتوضا من كلمة خبيثة أحبُّ إليَّ من أن أتوضأ من طعام طيب " (¬5). وعن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهما قالا: " الحدث حدثان: ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (9/ 66)، وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 307)، وابن أبي عاصم في " الزهد " رقم (26). (¬2) رُوي في حديث ضعيف عن معن عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي تُوُفيَ فيه، قالت صفية بنت حُيي: " والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي "، فغمزها أزواجُهُ، فأبصرهن، فقال: " مَضمِضْن "، قلن: " من أي شيء؟ "، قال: " من تغامزِكن بها، والله إِنها لصادقة ") أخرجه ابن سعد (8/ 128) ورجاله ثقات، لكنه مرسل، كما في تحقيق " سير أعلام النبلاء " (2/ 235). (¬3) وضوء الصلاة معروف، وقد يُراد به غسل بعض الأعضاء، كالأيدي والأفواه، انظر: " النهاية " (195/ 5). (¬4) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 302) رقم (6723). (¬5) رواه هناد في " الزهد " (1199)، وابن أبي شيبة (1/ 134)، وابن أبي عاصم (114).

حدث مِن فيك، وحدث من نومك، وحدث الفم أشد: الكذب والغيبة " (¬1). وعن أيوب بن سيرين أن شيخًا من الأنصار كان يمر بمجلس لهم، فيقول: " أعيدوا الوضوء، فإن بعض ما تقولون شر من الحدث " (¬2). وعن محمد بن سيرين قال: قلت لعبيدة: ممَّ يُعاد الوضوء؟ قال: " من الحدث وأذى المسلم "، قال: وكان شيخ يمر بمجلس لهم فيقول: " توضؤوا فإن بعض ما تقولون شر من الحدث " (¬3). وعن إبراهيم قال: " الوضوء: من الحدث، وأذى المسلم " (¬4). وعن الحارث قال: كنت آخذًا بيد إبراهيم، فذكرت رجلاً فاغتبته، قال: فقال: " ارجع فتوضأ، كانوا يَعُدُّون هذا هُجْرًا " (¬5). وعن موسى بن أبي الفرات قال: سأل رجلان عطاء، فقالا: مر بنا رجل فقلنا: " المخنث "، قال: قلتما له قبل أن تصليا أو بعد ما صليتما؟ قال: بعد أن نصلي (¬6)، فقال: " توضآ، وأعيدا الصلاة، فإنه لم يكن لكما صلاة " (¬7). وعن الحسن بن وهب الجُمَحِي قاضي مكة، قال: (وقعتُ في رجل من أهل مكة، حتى قلتُ: " إنه مُخَنَّث "، فصليت الظهر؟ فعرض في قلبي شيء، ¬

_ (¬1) " شعب الإيمان " (5/ 302). (¬2) " شعب الإيمان " (5/ 302). (¬3) " شعب الإيمان " (5/ 302). (¬4) " شعب الإيمان " (5/ 303). (¬5) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (118)، والهُجْر: هو الخنا والقبيح من القول، يقال: اهجر في مَنطقه، إذا أفحش، وأكثر الكلام فيما لا ينبغي. (¬6) كذا بالأصل ص (60)!، والسياق يقتضي أن يكون: " بعد أن صلينا "، لأن عطاء قال لهما: " أعيدا الصلاة ". (¬7) " السابق " رقم (119).

فسألت عطاء بن أبي رياح، فقال: " يعيد وُضوءه، وصلاته، وصومه " (¬1). وعن الضحاك بن عبد الرحمن بن أبي حوشب: أن رجلاً أتى إلى ابن أبي زكريا، فقال: " يا أبا يحيى! أشعرت أن فلانًا دخل على فلانة؟ " قال: " حلال طيب "، قال: " إنه دخل معه برجل "، فقال ابن أبي زكريا: " إنا لله! فقد وقع في نفسك لأخيك هذا؟! حرج عليك بالله أن تكلمني بمثل هذا "، فلما دنا من باب المسجد قال: " والله لا تدخل حتى ترجع، فتوضأ مما قلت " (¬2). وعن أبي صالح أنه أنشد بيت شعر فيه هجاء، فدعا بماء فتمضمض (¬3). وعن رجاء بن أبي سلمة قال: قلت لمجاهد: " يا أبا الحجاج؛ الغيبة تنقض الوضوء؟ " قال: " نعم، وتفطر الصائم " (¬4). وعن أنس رضي الله عنه قال: " إذا اغتاب الصائم أفطر " (¬5). وعن أبي المتوكل الناجي قال: (كان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا، جلسوا في المسجد، قالوا: " نطهر صيامنا ") (¬6). وعن طليق بن قيس قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: " إذا صمت فتحفظ ما استطعت "، فكان طليق إذا كان يوم صيامه دخل، فلم يخرج إلا إلى صلاة (¬7). ¬

_ (¬1) " التوبيخ والتنبيه " رقم (200). (¬2) " الزهد " لابن أبى عاصم رقم (121). (¬3) " السابق " رقم (122). (¬4) " السابق " رقم (120). (¬5) " السابق ": (1204). (¬6) " السابق " رقم (1207) , وابن أبى شيبة (3/ 3 - 4) , أحمد فى " الزهد " (178). (¬7) " المحلى " لابن حزم (6/ 179).

وعن مجاهد قال: " ما أصاب الصائم شوى (¬1) إلا الغيبة والكذب " (¬2)، وعنه قال: " من أحب أن يسلم له صومه؛ فليجتنب الغيبة والكذب " (¬3). وعن حفصة بنت سيرين قالت: " الصيام جنة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة " (¬4). وعن ميمون بن مهران: " إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب " (¬5). وعن عَبيدة السلماني قال: " اتقوا المُفْطِرَيْنِ: الغيبة، والكذب " (¬6). وعن أبي العالية قال: " الصائم في عبادة ما لم يغتب، وإن كان نائمًا على فراشه " (¬7). وقال الشاعر في هذا المعنى: واعلمْ بأنك لا تكونُ تصومُه ... حتى تكونَ تصومُهُ وتصونُه ¬

_ (¬1) (الشوى -بالقصر- الهين من الأمر، قال في " اللسان ": وفي حديث مجاهد: " كل ما أصاب الصائم شوى إلا الغيبة والكذب، فهي له كالمقتل "، قال يحيى بن سعيد: الشوى هو الشيء اليسير الهين، قال: وهذا وجهه، وإياه أراد مجاهد، ولكن الأصل في الشوى الأطراف، وأراد أن الشوى ليس بمقتل، وأن كل شيء أصابه الصائم لا يبطل صومه فيكون كالمقتل له؛ إلا الغيبة والكذب؛ فإنهما يبطلان الصوم، فهما كالمقتل له) أفاده العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في حاشية " المحلى " (6/ 179). (¬2) " المحلى " لابن حزم (6/ 179). (¬3) " الزهدد " لهناد رقم (1203). (¬4) " المحلى " لابن حزم (6/ 179). (¬5) " السابق ". (¬6) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (179). (¬7) " الزهد " لهناد رقم (1201).

وقال آخر: إذا لم يكن في السمع مني تَصَوُّنٌ ... وفي بصري غَضٌ، وفي منطقي صمت فحظي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ ... وإن قلتُ: " إني صمتُ يومًا " فما صُمْتُ وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: (ويُبطل الصومَ أيضًا تعمدُ كلِّ معصية -أي معصية كانت -لا تحاش شيئًا- إذا فعلها عامدًا ذاكرًا لصومه كمباشرة من لا يحل له ... ) إلى أن قال: (أو كذب، أو غيبة، أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم، أو غير ذلك من كل ما حرم على المرء فعله) (¬1). وقد استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " والصيام جُنَّة، وإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفث ولا يصخب " (¬2) الحديث. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " (¬3). وبما رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس، فقال لهما: " قِيئا "، فقاءتا قيحًا ودمًا ولحمًا عبيطًا، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ها، إِن هاتين صامتا عن الحلال، وأفطرتا على الحرام " (¬4). ¬

_ (¬1) " على " (6/ 177). (¬2) رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151). (¬3) رواه البخاري رقم (1903). (¬4) أخرجه الإمام أحمد (5/ 431)، والطيالسي (2107) , وقال الهيثمي: " وفيه رجل لم يسم " اهـ. (3/ 171)، وأشار المنذري في " الترغيب " إلى ضعفه (3/ 507).

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ( ... فلو اغتاب في صومه عصى، ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي، فقال: يبطل الصوم بالغيبة، ويجب قضاؤه) (¬1). وقد استدل الإمام الأوزاعي رحمه الله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رب صائم ليس له من صيامه إِلا الجوع " (¬2) الحديث، وبأدلة ابن حزم، وقال النووي: (وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث ... بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الرديء، لا أن الصوم يبطل به) (¬3) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " المجموع " (398/ 6). (¬2) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بهذا اللفظ ابن ماجه (1/ 539)، ورواه بنحوه الدارمي (2/ 301)، والامام أحمد (2/ 441، 373)، ورواه البيهقي (4/ 270) بلفظ: " ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ". (¬3) " المجموع " (6/ 399).

مستمع الغيبة والمغتاب شريكان في الإثم

مستمع الغَيبَة وَالمغتَاب شريكان في الإثم رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء الأسلمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد على نفسه بالزنا أريع شهادات، يقول: " أتيت امرأة حرامًا "، وفي كل ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث ... إلى أن قال: " فما تريد بهذا القول؟ "، قال: " أريد أن تطهرني "، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرْجَم، فرُجِمَ، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: " انظروا إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تَدَعْهُ نفسُهُ حتى رُجمَ رَجْمَ الكَلب "، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمرَّ بجيفة حمارٍ شائلٍ (¬1) برجله، فقال: " أين فلان وفلان؟ "، فقالا: " نحن ذا يا رسول الله "، فقال لهما: " كلا من جيفة هذا الحمار "، فقالا: " يا رسول الله، غفر الله لك، من يأكل من هذا؟ "، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما نِلْتُما من عِرْض هذا الرجل آنفًا، أشدُّ (¬2) من أكل هذه الجيفة، فو الذي نفسي بيده، إِنه الآن في أنهار الجنة ") (¬3). والشاهد فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كُلا)، وقوله: (نلتما) مع أن الذي اغتاب ¬

_ (¬1) الشائل: كل ما ارتفع. (¬2) وذلك لأن أكل جيفة الحمار لم يؤذ مسلمًا، ولم ينتهك عرضه، ولم تنشغل ذمته بحقوق العباد، فهو خير ممن يأكلون لحوم البشر، وفي كل شر. (¬3) رواه أبو داود (4/ 148)، رقم (4428)، وابن حبان رقم (4399)، وابن الجارود (814)، والدارقطني (3/ 196 - 197)، والببهقي (8/ 227)، وفي إسناده عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة، لم يوثقه غير ابن حبان، وقال البخاري: " لا يعرف إلا بهذا الحديث "، وفي " ذيل الكامل " للنباتي: (من لا يُعرف إلا بحديث واحد، ولم يشهر حاله، فهو في عداد المجهولين) اهـ. نقلاً عن تحقيق " الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان " (10/ 245 - 247).

أحدهما، والآخر استمع وأقر، ولم ينكر عليه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت العرب يخدم بعضهم بعضًا في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما، فقال -أحدهما لصاحبه: " إن هذا ليوائم نوم بيتكم " (¬1) فأيقظاه، فقالا: " ائت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقل له: " إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدماَنك " (¬2)، فقال: " قد ائتدما "، ففزعا، فجاءا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا: " (يا رسول الله بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: " قد ائتدما "، فبأي شيء ائتدمنا؟) "، قال: " بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إِني لأرى لحمه من أنيابكما "، وفي رواية: " ثناياكما "، قالا: " فاستغفر لنا "، قال: " هو فليستغفر لكما ") (¬3). والشاهد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قد ائتدما "، وقوله: " من أنيابكما " مع أن القائل أحدهما، لكن الآخر سكت، وأقر، ولم ينكر عليه. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (اعلم أن الغيبة -كما يحرم على المغتاب ذكرُها- يحرم على السامع استماعُها وإقرارها، فيجب على من سمع إنسانًا يبتديء بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك ¬

_ (¬1) في النسخة المطبوعة من " المختارة ": " نبيكم " وهو تصحيف منكر!، وقد شرحها الضياء بأن نومه يشبه نوم البيت لا نوم السفر، عابوه بكثرة النوم، والموايمة: الموافقة. (¬2) يستأدمانك: يقال: استأدم فلانًا، أي طلب منه الإدام، وهو ما يُستمْرَأ به الخبز. (¬3) رواه الضياء في " الأحاديث المختارة " رقم (1697)، والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " رقم (188)، وانظر: " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي، وابن السبكي، والزبيدي " (4/ 1754)، وانظر: " الدر المنثور " (6/ 95)، و " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (7/ 363) ط. الشعب.

المجلس إن تمكَّن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: " اسكت "، وهو يشتهي بقلبه استمراره، فقال أبو حامد الغزالي: " ذلك نفاق لا يخرجه عن الإثم، ولابد من كراهته بقلبه " (¬1). ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة، وعجز عن الإنكار، أو أنكر فلم يُقبل منه، ولم يمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكر الله تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمرآخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكَّن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون فيِ الغيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى: (وَإِذَا رأَيْتَ الَّذينَ {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68] (¬2) اهـ. روى ابن أبي الدنيا عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: " نَزِّه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به، فإن المستمع شريكُ القائل ". وسمعَكَ صُنْ عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح ... شريكٌ لقائله فانتبه * * * ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله في " تلبيس إبليس ": (وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه، وهو آثم بذلك من ثلاثة أوجه، أحدها: الفرح، فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب، والثاني: لسروره بثلب المسلمين، والثالث: أنه لا يُنكر) اهـ. ص (128). (¬2) " الأذكار النووية " ص (291).

الفصل الثانى أولويه الاشتغال بعيوب النفس

الفصل الثانى أولويه الاشتغال بعيوب النفس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يبصر أحدكم القذى (¬1) في عين أخيه (¬2)، وينسى الجِذْعَ (¬3) في عينه " (¬4). وفيه أن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدركه مع خفائه، فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر، لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لتتبع عيوب الناس لكف عن أعراض الناس، وسدَّ الباب إلى الغيبة. عجبت لمن يبكي على موت غيره ... دموعًا ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره ... عظيمًا وفي عينيه عن عيبه عمى قال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله: (الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيويه عن عيوب غيره؛ أراح بدنه، ولم يُتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه. وإنَّ من اشتغل بعيوب النَّاس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه، ¬

_ (¬1) القذى: ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ. (¬2) أي: في الإسلام. (¬3) الجذع: واحد جذوع النخل. (¬4) رواه ابن حبان في " صحيحه " (1848)، وأبو نعيم في " الحلية " (4/ 99)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (33).

وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه، وإنَّ من أعْجَز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب النَّاس عابوه) (¬1). المرء إن كان عاقلاً ورعًا ... أشغله عن عيوب غيره ورعُهْ كما العليلُ السقيم أشغله ... عن وجع الناس كلِّهم وَجَعُهْ وعن مجاهد عن ابن عباس قال: ذكروا رجلاً، فقال: " إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك؛ فاذكر عيوبك " (¬2). وقال أبو البُحتري العنبري: يمنعني من عيب غيري الذي ... أعرفه عندي فوق العيب عيبي لهم بالظن مني لهم ... ولست من عيبي في ريب إن كان عيبي غاب عنهم فقد ... أحصى عيوبي عالمُ الغيب (¬3) وعن بكر قال: (تسابَّ رجلان، فقال أحدهما: " مُحَلِّمي عنك، ما أعرف من نفسي ") (¬4). قيل للربيع بن خثيم: " ما نراك تغتاب أحدًا "، فقال: " لست عن حالي راضيًا حتى أتفرغ لذم الناس " (¬5)، ثم أنشد: لنفسيَ أبكي لست أبكي لغيرها ... لنفسيَ من نفسي عن الناس شاغلُ لقي زاهدٌ زاهدًا، فقال له: " يا أخي إني لأحبك في الله "؛ قال الآخر: ¬

_ (¬1) " روضة العقلاء ونزهة الفضلاء " ص (125). (¬2) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 311). (¬3) " طبقات الحنابلة " (1/ 190). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (708). (¬5) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 312).

" لو علمتَ مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله "؛ قال له الأول: " لو علمتُ منك ما تعلم من نفسك، لكان لي فيما أعلم من نفسي شُغل عن بغضك " (¬1). قبيحٌ من الإنسان أن ينسى عيوبه ... ويذكرَ عيبًا في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره ... وفيه عيوبٌ لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله قال: " لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة، قد غَفَلها عن نفسه " (¬2). وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: " كنا نُحَدَّثُ أن أكثر الناس خطايا أفرغُهم لذِكر خطايا الناس " (¬3). وقال الفضيل بن عياض: " ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد، وبغى، وتتبع عيوب الناس، وبكره أن يُذكر أحد بخير " (¬4). وقال مالك بن دينار: " كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة، وكفى المرء شرًا أن لا يكون صالحًا، ويقع في الصالحين " (¬5). وقال أبو عاصم النبيل: " لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سَفلَةٌ (¬6) لا دين لهم ". ¬

_ (¬1) " عيون الأخبار " (6/ 367). (¬2) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (746)، " صفة الصفوة " (3/ 101). (¬3) " الصمت " ص (104). (¬4) " جامع بيان العلم " (1/ 143). (¬5) " صفة الصفوة " (3/ 286)، وانظر " شعب الإيمان " للبيهقي رقم (6780). (¬6) السفلة أو السفلة من الناس: أسافلهم وغوغاؤهم.

لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله سِترًا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا قال بكر بن عبد الله: " إذا رأيتم الرجل موكَّلاً بعيوب الناس، ناسيًا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِر به " (¬1). وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس، فقال: " قد استدللتُ على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها ". وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال أخو العيوب آخر: شر الورى مَن بعيب الناس مشتغلاً ... مثلُ الذباب يُراعي موضعَ العِلَلِ وقال ابن السماك: " سَبُعُك بين لحييك، تأكل به كلَّ من مَرَّ عَليك، قد آذيت أهل الدور في الدور حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت ها هنا تنبشهم، إنما نرى نبشَهم أخْذَ الخِرَق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتَهم، إنه ينبغي لك أن يدلَّك على ترك القول في أخيك ثلاثُ خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمرٍ هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرتَ أخاك بأمر هو فيك؟ ولعلك تذكره بأمرٍ فيك أعظمُ منه، فذلك أشد استحكامًا لمقته إياك، ¬

_ (¬1) " صفة الصفوة " (3/ 249)، وربما كان ذلك كذلك لأنه يحسب أن إلصاق العيب بغيره ينفي عنه العيب، ويثبت له المروءة، وتقول العرب في مثل هذا: " فلان يتمرَّأ بنا "، والحقيقة أنه يقدح في مروءته، وقد عد السخاوي التحدث بمساوئ الناس من خوارم المروءة، كما في " فتح المغيث " (291/ 1).

ولعللت تذكره بأمرٍ قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: ارحم أخاك، وأحمد الذي عافاك " (¬1). إن شئت أن تحيا ودينك سالم ... وحظك موفورٌ وعِرْضُك صَيِّنُ لسانك لا تذكر به عورة امرئ ... فكلك عورات وللناس ألسُنُ وعينك إن أبدت إليك مساوئًا ... فصُنْها، وقل: يا عينُ للناس أعين (¬2) وقال أبو عبد الرحمن السلمي -رحمه الله تعالى-: " سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت زاذان المدايني يقول: رأيت أقوامًا من النَّاس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب النَّاس: فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقوامًا لم تكن لهم عيوب؛ اشتغلوا بعيوب النَّاس: فصارت لهم عيوب " (¬3). وذلك لأن من اغتاب اغتيب، ومن عاب عيب، فبحثه عن عيوب الناس يورث البحث عن عيويه، ولعل في قاعدة " الجزاء من جنس العمل " زاجرًا للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفوا عنها خشية أن يعاملوا بالعدل، فإن البلاء موكَّلٌ بالقول: لو شاء ربُّك كنتَ أيضًا مثلَهم ... فالقلبُ بين أصابع الرحمنِ عن إبراهيم قال: " إني لأرى الشيء مما يعاب، ما يمنعني من غيبته إلا مخافة أن اُبتلى به " (¬4). ¬

_ (¬1) " السابق " (3/ 176). (¬2) انظر: " شذرات الذهب " (3/ 350). (¬3) " عيوب النفس " ص (12). (¬4) رواه هناد في " الزهد " (1192)، وكذا وكيع فيه (313).

وعن الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: " إني لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله " (¬1). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " لو سخِرت من كلب، لخشيت أن أكون كلبًا، وإني أكره أن أرى رجلاً فارغًا ليس في عمل آخرة ولا دنيا " (¬2). وقال عمرو بن شرحبيل: " لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه؛ لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع ". قال ابن سيرين: (عَيَّرْتُ رجلاً، وقلت: " يا مفلس "، فأفلست بعد أربعين سنة) (¬3). وعن الحسن قال: " كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه؛ لم يمت حتى يبتليه الله به " (¬4). وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: (حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: " يا مسور، ما فعل طعنك على الأئمة؟ " قال: " دعنا من هذا وأحسِن "، قال: " لا والله، لتكلّمني بذات نفسك بالذي تعيب علي " قال مسور: " فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينتُ له " قال: " لا أبرأ من الذنب، فهل تعُدُّ لنا يا مسور مانلي من الإصلاح في أمر العامَّة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعدُّ الذنوب وتترك ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 315) رقم (6775). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (1/ 496). (¬3) " صيد الخاطر " ص (44). (¬4) " فيض القدير " (6/ 183).

المحاسن؟ " قال: " ما تُذكر إلا الذنوب " قال معاوية: " فإنَّا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى بأن تهلك إن لم تغفر؟ "، قال: " نعم "، قال: " فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحقَّ مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين، بين الله وبين غيره، إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإنِّي على دين يُقبل فيه العمل، ويُجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها "، قال: " فخصمني "، قال عروة: " فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه ") (¬1). عن أبي راشد قال: (جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر، فقال: إني رسولُ إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرءونك السلام، ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان، وما قولك فيهما؟ فقال: " هل غير؟ " قال: " لا "، قال: " جَهِّزوا الرجل "، فلما فُرغ من جَهازه قال: " اقرأ عليهم السلام، وأخبرهم أن قولي فيهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} [البقرة: 134] (¬2). وعن شريك قال: سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية، فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه فقال: " إنه من عرف نفسه اشتغل بنفسه، ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره " (¬3). وقال الشافعي: (قيل لعمر بن عبد العزيز: " ما تقول في أهل صفين؟ "، ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (3/ 150 - 151)، (391 - 392). (¬2) " العزلة " للخطابي ص (41). (¬3) " حلية الأولياء " (8/ 15).

قال: " تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها ") (¬1). وقال الرياشي رحمه الله: لعمرك إن في ذنبي لَشُغْلاً ... لنفسي عن ذنوب بني أمَيَّهْ على ربي حسابهمُ إليه ... تناهى علم ذلك لا إليَّه وليس بضائري ما قد أتوه ... إذا ما الله أصلح ما لديَّه (¬2) وعن الهيثم بن عبيد الصيدلاني قال: (سمع ابن سيرين رجلاً يسب الحجاج، فقال: " مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حَكَم عدل إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فشيئًا، أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسبِّ أحد ") (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " العزلة " للخطابي ص (41). (¬2) " الأذكار النووية " ص (288). (¬3) " شعب الإيمان " (5/ 287) رقم (6681).

الفصل الثالث وجوب حفظ اللسان

الفصل الثالث وجوب حفظ اللسَانِ الكلمة مسئولية: قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وعن مجاهد قال: (ما من شيء يتكلم به العبد إلا أُحصِي عليه، حتى أنينه في مرضه) (¬1). يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله مبينًا " مسئولية الكلمة " وخطرها: (إن جارحة اللسان الناطق بالكلام المتواطإ عليه، أساس في الحياة والتعايش دينًا ودنيا، فبكلمة التوحيد يدخل المرء في ملة الإسلام، وبنقضها يخرج منها، وبين ذلك مراحل انتظمت أبواب الشريعة، فلو نظرت إلى " الكلام " وما بني عليه من أحكام لوجدت من ذلك عجبًا في: الطهارة، والصلوات، وسائر أركان الاسلام، والجهاد، والبيوع، والنكاح، والطلاق، والجنايات، والحدود، والقضاء .... بل أُفردت أبواب في الفقهيات كلها لما تلفظ به هذه الأداة: " اللسان ": في أبواب: القذف، والردة، والأيمان، والنذور، والشهادات، والإقرار. ¬

_ (¬1) " الزهد " لهناد (2/ 535).

فضيلة الصمت

وفي أصل الأصول: " التوحيد " يدور عليه البحث والتأليف. فكم من كلام أوجب ردة فقتلاً، أو أوجب قذفًا فجلدًا، أو أوجب كفارات، أو نُزعت بسببه حقوق فَرُدَّتْ مظالم إلى أهلها، أو إقرار أوجب بمفرده حكمًا، ولذا قالوا: " إقرار المرء على نفسه أقوى البينات ". وهكذا من مناهج الشريعة المباركة الغراء؛ ولهذا تكاثرت نصوص الوحيين الشريفين في تعظيم شأن اللسان ترغيبًا وترهيبًا، وأفرد العلماء في جمع غفير من مفرداته المؤلفات؛ ففي الترغيب: الدعوة إلى الله على بصيرة، ونشر العلم بالدرس، وفضل الصدق، وكلمة الحق ..... وفي الترهيب: عن الغيبة، والنميمة، والكذب، وآفات اللسان الأخرى. وقد جمعتُ في ذلك " معجم المناهي اللفظية " (¬1) وبسطت أصوله الشرعية في مقدمته) (¬2). فضيلة الصمت: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من صمت نجا " (¬3). وعن أبي هريرة رضيِ الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت " (¬4). ¬

_ (¬1) انظره ص (9 - 14) (¬2) " تصنيف الناس بين الظن واليقين " ص (20 - 21). (¬3) رواه الترمذي (2501)، وقال: " غريب "، وأحمد (3/ 159)، والدارمي (2/ 299)، والطبراني في " الأوسط " ج 2، رقم (1956)، وقال المنذري (4/ 9): " رواته ثقات "، ونقل المناوي عن الزين العراقي قوله: " سند الترمذي ضعيف، وهو عند الطبراني بسند جيد " اهـ. من " فيض القدير " (6/ 171)، وقال الحافظ في " الفتح ": " رواته ثقات " اهـ. (11/ 309)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (536). (¬4) رواه البخاري (10/ 445)، ومسلم رقم (47).

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإِذا تكلَّمْتَ كُتِبَ لَك أو عليك " (¬1). وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " من كثُر كلامُه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به " (¬2). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طويلَ الصمت، قليلَ الضحك " (¬3). ووصف هندُ بنُ أبي هالة رضي الله عنه منطقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال: " .... كان طويلَ السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلامَ ويختمه باسم الله تعالى، ويتكلم بجوامع الكلم، كلامه فَصْل، لا فضولَ ولا تقصير " (¬4). وسأل الحسين بن علي رضي الله عنهما أباه عن مخرجه - صلى الله عليه وسلم - كيف كان يصنع فيه؟ فقال رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْزِنُ (¬5) لسانه إلا فيما يعنيه ... " (¬6). وقال أيضاً: " كان - صلى الله عليه وسلم - لا يذم أحدًا، ولا يَعيبه، ولا يطلب عورته (¬7)، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه " (¬8). ¬

_ (¬1) عزاه الحافظ إلى الطبراني، وسكت عليه في " فتح الباري " (11/ 309). (¬2) " جامع العلوم والحكم " ص (161). (¬3) رواه الإمام أحمد في " مسنده " (5/ 86، 88) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، ورواه البيهقي بلفظ: " كان طويل الصمت " (7/ 52)، (10/ 240)، والبغوي في " شرح السنة " (13/ 256)، وحسنه الألباني في " المشكاة " رقم (5826). (¬4) " مختصر الشمائل المحمدية للترمذي " للألباني ص (20). (¬5) يخزن: يحبس. (¬6) " السابق " ص (23). (¬7) أي: لا يطلب عورة أحد، وهي ما يُستحيى منه إذا ظهر، والمعنى: لا يُظهر ما يريد الشخصُ ستره، ويخفيه عن الناس. (¬8) " السابق " ص (25).

وعن يزيد بن أبي حبيب قال: " إن المتكلم لينتظر الفتنة، وإن المنصت لينتظر الرحمة " (¬1). وقد قيل: " ما ندم حليم ولا ساكت ". وقال الفضيل: " خصلتان تُقَسِّيان القلب: كثرةُ الكلام، وكثرة الأكل " (¬2). وعن سفيان قال: " طول الصمت مفتاح العبادة ". وعن محمد بن النضر الحارثي قال: كان يُقال: " كثرة الكلام تُذْهِبُ الوقَار " (¬3). وعن أبي الذَّيال قال: " تعلم الصمت ما تتعلم الكلام، فإن يكن الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك، ولك في الصمت خصلتان: تأخذ به من علم مَن هو أعلم منك، وتدفع به عنك من هو أجدل منك " (¬4). وقال إبراهيم بن الأشعث: (سمعت الفضيل يقول: من استوحش من الوحدة، واستأنس بالناس، لم يسلم من الرياء، ولا حجَّ ولا جهاد أشدُّ من حبس اللسان، وليس أحد أشدَّ غمًّا ممن سجن لسانه) (¬5). وقال إبراهيم بن أدهم: " إذا اغتممت بالسكوت، فتذكر سلامتك من زلل اللسان " (¬6). وعن مروان بن محمد قال: قيل لإبراهيم بن أدهم: " إن فلانًا يتعلم النحو "، فقال: " هو إلى أن يتعلم الصمت أحوج " (¬7). ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم وفضله " (1/ 549). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (8/ 440). (¬3) " الصمت " رقم (52) ص (68). (¬4) " السابق " (1/ 550). (¬5) " سير أعلام النبلاء " (8/ 436). (¬6) " حلية الأولياء " (8/ 20). (¬7) " السابق " (8/ 16).

وقال رياح القيسي: قال لي عتبة الغلام: " يا رياح! إن كنت كلما دعتني نفسي إلى الكلام تكلمت، فبئس الناظرُ لها أنا، يا رياح .. إن لي موقفًا يُغتبط فيه بطول الصمت عن الفضول " (¬1). وقال طاوس: " لساني سَبُع، إن أرسلته أكلني " (¬2). وعن شيخ من قريش قال: (قيل لبعض العلماء: " إنك تطيل الصمت "، فقال: " إني رأيتُ لساني سبعًا عقورًا، أخاف أن أخَلّيَ عنه فَيَعْقِرَني ") (¬3). قال بعضهم: (رأيت مالكًا صامتًا لا يتكلم، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالاً، إلا أن يكلمه إنسان فيسمع منه، ثم يجيبه بشيء يسير، فقيل له في ذلك، فقال: " وهل يكب الناس في جهنم إلا هذا؟ " وأشار إلى لسانه ") (¬4). وعن أبي بكر بن عياش قال: " أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى به عافية، وأدنى ضرر المنطق الشهرة، وكفى بها بلية " (¬5). ما إن ندمت على سكوتي مرة ... ولقد ندمت على الكلام مرارا وعن إبراهيم قال: " كانوا يجلسون، فأطولهم سكوتًا أفضلهم في أنفسهم " (¬6). وعن محارب قال: " صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بثلاث: بكثرة الصلاة، وطول الصمت، وسخاء النفس " (¬7). ¬

_ (¬1) " صفة الصفوة " (3/ 372). (¬2) " الإحياء " (3/ 125). (¬3) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (699) ص (300). (¬4) " ترتيب المدارك " (1/ 179). (¬5) " سير أعلام النبلاء " (8/ 501). (¬6) " الحلية " (4/ 224)، " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (55) ص (38). (¬7) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (79) ص (46).

الصمت ستر للعيوب

وحضر ابن المبارك يومًا عند الثوري، فلم يتكلم بحرف حتى قام، فلما قام قال الثوري لأصحابه: " وددت أني أقدر أن أكودن مثلَه " (¬1). وقال عبد الله بن أبي زكريا: " عالجت الصمت ثنتي عشرة سنة، فما بلغت منه ما كنت أرجو " (¬2). وعن مالك عن سعيد بن أبي هند، قال: " وجدت الصمت أشدَّ من الكلام " (¬3). وعن أرطاة بن المنذر قال: " تعلم رجل الصمت أربعين سنة، بحَصَاةٍ يضعها في فيه، لا ينزِعُهَا إلا عند طعام، أو شراب، أو نوم " (¬4). قال الإمام مُوَرِّقٌ العجلي: " تعلمت الصمت في عشر سنين، وما قلتُ شيئًا قط إذا غضبت، أندم عليه إذا زال غضبي " (¬5). الصمت سترٌ للعيوب: ومن فضائل الصمت أنه يستر العيوب، فقد اجتمع قس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: " كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ "، فقال: " هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها "، قال: " وما هي؟ "، قال: " حفظ اللسان " (¬6). استر العِيَّ ما استطعت بصمت ... إن في الصمت راحةً للصمُوت ¬

_ (¬1) " تقدمة الجرح والتعديل " ص (266). (¬2) " الصمت " لابن أبي الدنيا ص (303) رقم (713). (¬3) " الزهد " لا بن أبي عاصم رقم (36) ص (30). (¬4) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (435). (¬5) " سير أعلام النبلاء " (4/ 354). (¬6) " الأذكار النووية " ص (287).

الموازنة بين الصمت والكلام

واجعلِ الصمتَ إن عَييتَ جوابًا ... رُبَّ قولٍ جوابُهُ في السكوت (¬1) وقال الأعور الشَّنِّي: لسانُ الفتى نِصفٌ، ونصفٌ فؤاده ... فهل بَعْدُ إلا صُورةُ اللحمِ والدَّمِ وكأيّن ترى من ساكت لك مُعجب ... زيادتُهُ أو نقصه في التكلمِ (¬2) حُكي عن أبي يوسف الفقيه أن رجلاً كان يجلس إليه، فيطيل الصمت، فقال له أبو يوسف: " ألا تسأل؟ "، قال: " بلى، متى يفطر الصائم؟ "، قال: " إذا غربت الشمس "، قال: " فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟! "، فتبسم أبو يوسف -رحمه الله-، وتمثل ببيتين من الشعر: عجبتُ لإزراء العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للعيِّ وإنما ... صحيفةُ لُبِّ المرء أن يتكلما (¬3) فلسان العَييِّ عورة بين الفكين، تحتاج إلى ستر كالسوأتين، لأنه يتكلم، وأذنك تتظلم، وقلبك منه يتألم. الموازنة بين الصمت والكلام: فليكن الأصل هو الصمت، إذ يكفي في فضل الصمت كونه أقوى وسيلة وقائية من الغيبة وأخواتها من آفات اللسان، والسلامة لا يعدلها شيء إلا مَن تيقن مِن حصول الغنيمة بالكلام. رُويَ عن أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلُّ كلامِ ابنِ آدمَ عليه، لا له، إِلا أمرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن منكر، أو ذكرٌ لله " (¬4). ¬

_ (¬1) " الصمت " ص (300). (¬2) " السابق " ص (72). (¬3) " أدب الدنيا والدين " ص (266). (¬4) رواه الترمذي رقم (2142)، وقال: " هذا حديث حسن غريب "، وابن ماجه (3974)، وضعفه الألباني.

قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: (الكلام بالخير أفضل من السكوت، لأن أرفع ما في السكوت السلامة، والكلام بالخير غنيمة، وقد قالوا: " من تكلم بالخير غنم، ومن سكت سلم "، والكلام في العلم أفضل من الأعمال، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل، ووجهُ الله تعالي، والوقوف على حقيقة المعاني) (¬1) اهـ. وقيل لإياس بن معاوية: " إنك تكثر الكلام "، فقال: " أفبصواب أتكلم أم بخطأ؟ "، قالوا: " بصواب "، قال: " فالإكثار من الصواب أفضل " (¬2). وقال سعيد بن عبد العزيز: " لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: صموت واع، وناطق عارف " (¬3). وعن يونس قال: " رحم الله الحسن، إني لأحسِب الحسن تكلم حِسبة، رحم الله محمدًا، إني لأحسبه سكت حسبة " (¬4). وعن إسماعيل بن أمية قال: " كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم يخيل إلينا أنه يُؤَيَّد " (¬5). وقال الإمام النووي رحمه الله: (اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلامُ ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم وفضله " (1/ 551). (¬2) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (716) ص (303 - 304). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (8/ 36). (¬4) " السابق " (6/ 294). (¬5) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (15) ص (23)، و " الحلية " (3/ 313).

وتركُه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجرُّ الكلامُ المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة (¬1) لا يعدلها شيء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصْمُت " متفق عليه، وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي أن لا يتكلم إلا إذا كان الكلامُ خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم) (¬2) اهـ. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: " إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى تظهر) " (¬3) اهـ. وقال رجل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: (" أوصني "، فقال: " لا تتكلم!! "، قال: " ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم، قال: " فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت ") (¬4). قال مرةً رجل: " ما أشدَّ البرد اليوم! " فالتفت إليه المعافى بن عمران، وقال: " استدفأت الآن؟! لو سكتَّ؛ لكان خيرًا لك " (¬5). وقال أبو بكر محمد بن القاسم: (كان شيخنا أبو إسحاق -الشيرازي- إذا أخطأ أحد بين يديه، قال: " أيُّ سكتةٍ فاتتك؟ ") (¬6). ¬

_ (¬1) السلامة هي البراءة من العيوب كما في " القاموس "، وهي من الكلمات الجوامع، فإن من سلم نجا، فهي قريبة من العافية، ولذا تكون دعوة الرسل عند مرور الناس على الصراط: " اللهم سلم سلم "، وكان بعض السلف يدعو في الفتنة: " اللهم سلمنا، وسلم منا "، وقال الشاعر: وقائلة لي مالي أراك مُجَنبا ... أمورًا وفيها للتجارة مربحُ فقلت لها: كفي ملامك واسمعي ... فنحن أناسٌ بالسلامة نفرحُ (¬2) " رياض الصالحين " مع " دليل الفالحين " (4/ 347 - 348). (¬3) " الأذكار النووية " ص (284). (¬4) " جامع العلوم والحكم " ص (162). (¬5) " السير " (9/ 84). (¬6) " السير " (18/ 455).

وقد وصف إمام المحدثين بالبصرة عبد الرحمن بن مهدي حال السلف، فقال: " أدركتُ الناسَ وهم على الجُمَل " قال الإمام أحمد رحمه الله معقبًا: " يعني: لا يتكلمون، أي. ولا يخاصمون، إنما هي جمل يسيرة بحروف معدودة، تقليلاً من الكلام حتى في المباح، وإبعادًا لاحتمالات الزلل عند الإكثار " (¬1). وقالت الحكماء: " مثل الكلمة كالسهم لا يمكن رده، وإنما جُعل للإنسان لسان واحد وأذنان حتى يكون ما يسمع أكثر مما يتكلم، وهو على ردِّ ما لم يقل أقدر منه على رد ما قد قال " (¬2). * * * ¬

_ (¬1) " فضائح الفتن " ص (32). (¬2) " الرسالة المغنية في السكوت ولزوم البيوت " للإمام أبي علي الحسن بن البنا ص (28).

نصوص السنة الشريفة وآثار السلف في وجوب حفظ اللسان والكف عن أذية الخلق

نصُوصُ السِّنة الشريفة وَآثَارُ السَّلَفِ فَي وُجُوب حفظ اللسان والكف عن أذية الخلق عن شَكَل بن حميد رضي الله عنه قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله؛ عَلّمْني تعوذًا أتعوذ به، قال: فأخذ بكفِّي، فقال: قل: " اللهم إِني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيِّي ") (¬1). وكان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: " اللهم سلمنا، وسلِّم المؤمنين منَّا " (¬2). وعن شقيق قال: لبَّى عبد الله رضي الله عنه على الصفا، ثم قال: " يا لسان قل خيرًا تغنم، اسكت تسلم، من قبل أن تندم "، قالوا: " يا أبا عبد الرحمن هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ " قال: " لا، بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أكثر خطايا ابنِ آدمَ فِي لسانِهِ " (¬3). وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذا أصبح ابن آدم فإِن الأعضاء كلَّها تكفِّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإِنما نحن بك، فإِن ¬

_ (¬1) صحيح الترمذي رقم (2775)، صحيح أبي داود (1387). (¬2) " تذكرة الحفاظ " (1/ 139). (¬3) قال المنذري في " الترغيب ": (رواه الطبراني، ورواته رواة الصحيح، وأبو الشيخ فى " الثواب " والبيهقي بإسناد حسن) اهـ. (4/ 8)، وقال الألباني في " الصحيحة " رقم (534): " إسناده جيده، وهو على شرط مسلم " اهـ.

استقمت استقمنا، وإِن اعوججت اعوججنا " (¬1). وعن أبي بكر رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس شيء من الجسد إِلا يشكو ذَرَبَ اللسان على حِدَّته " (¬2). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سالت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله , أي الأعمال أفضل؟ قال: " الصلاة على ميقاتها "، قلت: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: " أن يسلم الناس من لسانك " (¬3). وعن ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طوبى لمن ملك لسانه، ووسِعَه بيتُه، وبكى على خطيئته " (¬4). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم - قلت: " يا رسول الله؛ ما النجاة؟ "، قال: " أملِك عليك لسانك، ولْيَسَعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتك " (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي رقم (2407)، والإمام أحمد في " مسنده " (3/ 96)، وزاد نسبته السيوطي في " الجامع الصغير " إلى ابن خزيمة، والبيهقي في " شعب الإيمان "، ورواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (1)، وأبو نعيم في " الحلية " (4/ 309). ومعنى " تكفر اللسان ": تذل وتخضع له. (¬2) أخرجه أبو يعلى في " مسنده " رقم (5)، وابن السني في " العمل " رقم (7)، والبيهقي في " الشعب "، واللفظ له، وصححه الألباني على شرط البخاري في " الصحيحة " رقم (535)، وذَرَبُ اللسان: حدته وشَرُّه وفُحشه. (¬3) قال في " الترغَيب " (3/ 523): (رواه الطبراني بإسناد صحيح، وصدرُه في " الصحيحين ") اهـ. (¬4) قال في " الترغيب " (3/ 524): (رواه الطبراني في " الأوسط " و " الصغير "، وحسن إسناده) اهـ. (¬5) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " رقم (134)، والإمام أحمد في " مسنده " (5/ 259) والترمذي (2406)، وحسنه، وانظر: " الصحيحة " رقم (890).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا، (¬1) يهوي بها سبعين خريفًا في النار " (¬2). وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إِن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار، أبعدَ ما بين المشرق والمغرب " (¬3). وسأل معاذ رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ " فقال: " ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على ¬

_ (¬1) وفي لفظ للبخاري: " لا يلقي لها بالاً " أي: لا يتأملها بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئًا، وهي من نحو قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15]، كما في " الفتح " (11/ 311). (¬2) رواه الترمذي رقم (2314)، وقال: " حسن غريب "، والإمام أحمد (2/ 236)، وابن ماجه برقم (3970)، وهو في " صحيح ابن ماجه " برقم (3256). (¬3) رواه البخاري (11/ 308)، ومسلم رقم (2988)، واللفظ له، وفي لفظ البخاري: " ما يتبين فيها "، قال الحافظ: " أي لا يتطلب معناها، أي لا يثبتها بفكره، ولا يتأملها حتى يتثبت فيها، فلا يقولها إلا إن ظهرت المصلحة في القول " اهـ. من " الفتح " (11/ 311). و (ما) الأولى نافية، و (ما) الثانية موصولة أو موصوفة. و (قال ابن عبد البر: " الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار هي التي يقولها عند سلطان جائر "، وزاد ابن بطال: " بالبغي أو بالسعي على المسلم، فتكون سببًا لهلاكه "، وإن لم يرد القائل ذلك ... وقيل: " هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله "، قال ابن التين: " هذا هو الغالب، وربما كانت عند غير ذي السلطان ممن يتأتى منه ذلك "، ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ... وقال القاضي عياض: " يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك "، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: " هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها ... " اهـ. بتصرف من " الفتح " (311/ 11).

وجوههِم -أو على مناخرهم- إِلا حصائد ألسنتهم " (¬1). وعنه رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: " اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، وإِن شئت أنبأتك بما هو أملك بك من هذا كله؟ "، قال: " هذا "، وأشار بيده إلى لسانه) (¬2). وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت " يا رسول الله حَدِّثني بأمرٍ أعتصم به "، قال: " قل: ربي الله، ثم استقم "، قلت: " يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ "، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: " هذا " (¬3). وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " يا ¬

_ (¬1) أصل الحديث رواه معاذ رضي الله عنه؛ قال: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: " يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار "، قال: " لقد سألت عظيمًا، وإِنه ليسير على من يسَّره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، ثم قال: " ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تطفيء الخطيئة، كما يطفيء النارَ الماءُ، وصلاةُ الرجل في جوفِ الليل "، ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} [السجدة: 16]، حتى بلغ ({جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجده: 17]، ثم قال " ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ " قلت: " بلى يا رسول الله "، قال: " رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد "، ثم قال: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: " بلى "، فأخذ بلسانه فقال: " تكفُّ عليك هذا "، قلت: " يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به .. ") الحديث، رواه الترمذي (2616)، وقال: " حسن صحيح " والإمام أحمد (5/ 231، 237)، والحاكم (2/ 413) وصححه على شرط الشيخين، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " برقم (2110)، و " صحيح ابن ماجه " (3209). (¬2) قال في " الترغيب " (3/ 532): " رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد " اهـ. وهو في " الصمت " له برقم (22). (¬3) أخرجه الترمذي رقم (2412)، وقال: " حسن صحيح "، وابن ماجه رقم (3972)، وابن حبان في " صحيحه " (5698).

رسول الله، عظني وأوجز " قال: " إِذا قمت في صلاتك، فصلِّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلامٍ تعتذرُ منه غدًا، واجمع الإِياس مما في أيدي الناس " (¬1). وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِياك وكلَّ ما يُعتذر منه " (¬2). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: " على كل مسلم صدقة "، قيل: " أرأيت إن لم يجد؟ "، قال: " يعتمل بيديه فينفع نفسه، ويتصدق "، قال: قيل: " أرأيت إن لم يستطع؟ " قال: " يعين ذا الحاجة الملهوفَ "، قال: قيل له: " أرأيت إن لم يستطع؟ " قال: " يأمر بالمعروف أو الخير "، قال: " أرأيت إن لم يفعل؟ " قال: " يمسك عن الشر فإِنها صدقة " (¬3). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " يا رسول الله؛ علمني عملاً يُدخلُني الجنة "، قال: " إِن كنت أقصرت الخُطبة لقد أعرضْت المسألة، أعتق النَّسَمَة، وفُكَّ الرقبة .... فإِن لم تطِق ذلك، فأطعم الجائع، وأسْقِ الظمآن، وأْمُرْ بالمعروف، وانه عن المنكر، فإِن لم تُطِقْ ذلك، فكُفَّ لسانَك إِلا عن خير ") (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه رقم (4171)، والإمام أحمد (5/ 412)، وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 462)،وحسنه الألباني في " صحيح ابن ماجه " رقم (3363)، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (401). (¬2) عزاه في " الصحيحة " رقم (354) إلى الضياء في " المختارة "، وحسنه. (¬3) رواه البخاري (10/ 447) , ومسلم رقم (1009). (¬4) رواه الإمام أحمد (4/ 299)، والطيالسي (739)، وابن حبان (374)، والبيهقي (10/ 272، 273) , والبغوي في " شرح السنة " (2419)، قال الهيثمي: (ورجاله -يعني أحمد- ثقات)، وصححه الأرناؤوط في تحقيق " الإحسان " (2/ 98).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإِيمان بالله والجهاد في سبيله "، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفَسها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا "، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: " تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق "، قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: " تكف شَرَّك عن الناس، فإِنها صدقة منك على نفسك " (¬1). وعن أبي كثير السُّحَيْمِيّ عن أبيه قال: (سألت أبا ذر قلت: " دُلَّني على عملٍ، إذا عمل العبد به دخل الجنة "، قال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " يؤمن بالله "، قال: فقلت: " يا رسول الله، إن مع الإيمان عملاً؟ "، قال: " يَرْضَخ (¬2) مما رزق الله "، قلت: " وإن كان مُعْدمًا لا شيء له "، قال: " يقول معروفًا بلسانه "، قال: قلت: " فإن كان عَيياً لا يُبْلِغ عنه لسانُه؟ "، قال: " فيعيِنُ مغلوبًا "، قلت: " فإن كان ضعيفًا لا قدرة له؟ "، قال: " فليصنع لأخرق " (¬3)، قلت: " وإن كان أخرقَ؟ "، قال: فالتفت إليَّ، وقال: " ما تريد أن تدع في صاحبك شيئًا من الخير، فَلْيَدَع الناسَ من أذاه "، فقلت: " يا رسول الله، إن هذه كلمة تيسير؟ " فقال - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده، ما من عبد يعمل بخصلة منها، يريد بها ما عند الله، إِلا أخَذَتْ بيده يوم القيامة، حتى تُدخله الجنة ") (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم رقم (136) (1/ 89)، والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (220). (¬2) الرضْخُ: العطية القليلة. (¬3) الأخرق: من ليس في يده صنعة. (¬4) رواه ابن حبان رقم (373)، والحاكم (1/ 63)، وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر: " الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان " (2/ 96 - 97).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا: " أفضل المؤمنين إِسلامًا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله " (¬1) الحديث. وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لا تعجبكم من الرجل طنطنته، ولكن من أدَّى الأمانة، وكفَّ عن أعراض الناس؛ لهو الرجل " (¬2). وقال بكر بن عبد الله المُزَنِيُّ رحمه الله: " اجتهدوا في العمل، فإن قَصَّرَ بكم ضعفٌ؛ فكُفُّوا عن المعاصي ". عن يحيى بن معاذ قال: " ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين: إحداها: إن لم تنفعه فلا تضره، والثانية: إن لم تسره فلا تغمه، والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه " (¬3). وعن عبد الله بن عون -رحمه الله- قال: " أحب لكم يا معشر إخواني ثلاثًا: هذا القرآن تتلونه آناء الليل والنهار، ولزوم الجماعة، والكف عن أعراض المسلمين " (¬4). وقال بعض السلف: " إن ضعفت عن ثلاث فعليك بثلاث: إن ضعفت عن الخير؟ فأمسك عن الشر، وإن كنت لا تستطيع أن تنفع الناس، فأمسِك عنهم ضُرَّكَ، وإن كنت لا تستطيع أن تصوم، فلا تأكل لحوم الناس ". * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن نصر في " الصلاة "، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (1491). (¬2) " تاريخ عمر " لابن الجوزي ص (226) - ط. مكتبة المؤيد. (¬3) " تنبيه الغافلين " (1/ 178). (¬4) " حلية الأولياء " (3/ 41).

ولما كان أحد البواعث على الغيبة شفاء الغيظ بمقابلة العدوان بمثله رغبت الشريعة السمحة في كظم الغيظ، وترك مقابلة العدوان بمثله، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]. وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخَيِّره من الحور ما شاء " (¬1). وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون " (¬2). وكان أحدهم يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر، فقال: " يا هذا لا تُفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعًا، فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه " (¬3). وقيل: إن رجلاً خاصم الأحنف بن قيس، وقال: " لئن قلتَ واحدة، لتسمعن عشرًا "، فقال: " لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة " (¬4). وعن بكار بن محمد السيريني قال: " كان عبد الله بن عون مشغولاً بنفسه ¬

_ (¬1) رواه الترمذي رقم (2022)، وأبو داود رقم (4777)، وغيرهما، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (6398). (¬2) " الإحياء " (3/ 187). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (6/ 389). (¬4) " السابق " (4/ 93).

وما سمعته ذاكرًا بلال بن أبي بردة بشيء قط، ولقد بلغني أن قومًا قالوا له: " يا أبا عون! بلال فعل كذا "، فقال: " إن الرجل يكون مظلومًا، فلا يزال يقول حتى يكون ظالمًا، وما أظن أحدًا منكم أشد على بلال مني "، قال: " وكان بلال قد ضربه بالسياط لكونه تزوج امرأة عربية (¬1). وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " التَّقيُّ مُلْجَمٌ، لا يفعل كلَّ ما يريد " (¬2). وعن عبد العزيز بن الماجشون: (قال أبو حازم لبعض أولئك الأمراء: والله لولا تبعة لساني، لأشفيت منكم اليوم صدري) (¬3). ليست الأحلام في حين الرضا ... إنما الأحلام وقت الغضب (¬4) ودخل عمر على أبي بكر رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: " مه! غفر الله لك "، فقال أبو بكر: " إن هذا أوردني الموارد " (¬5). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان " (¬6). تَحَفَّظْ منْ لسانك ليس شيء ... أحقَّ بطول سجن من لسان أما إذا أطَلقته حُرًّا، فهنالك تكون المهالك: إن اللسان إذا حللتَ عِقَاله ... ألقاك في شنعاءَ ليس تُقالُ ¬

_ (¬1) " السابق " (6/ 370). (¬2) انظر: " شعب الإيمان " للبيهقي رقم (5788). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (423). (¬4) " الحلية " (327/ 4). (¬5) " الموطأ " (2/ 988). (¬6) " الزهد " للإمام أحمد (162).

فالعقال والقيد أليقُ لكل لسان، وأحوط، وأبرأ، لأنه ليس من أحد يقيلك ويعفيك من سقطاته، إلا الأقل، فانتبه (¬1). وقال مالك بن دينار: " كان الأبرار يتواصون بثلاث؛ بسجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة " (¬2). وقال الفضيل بن عياض: " ما حجٌّ ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يُهمك لسانك، أصبحت في همٍّ شديد " (¬3). وعن عطاء بن أبي رباح قال: " إن من كان قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيدٌ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نُشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته؟! " (¬4). وقيل للمعافى بن عمران: ما ترى في الرجل يقرض الشعر ولقوله؟ فقال: " هو عمرك فأفنه بما شئت ". وعن يعلى بن عبيد قال: سمعت سفيان الثوري يقول: " لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟ " قلنا: لا، قال: " فإن معكم من يرفع الحديث " (¬5). وعن حاتم قال: " لو أن صاحب خَبرٍ جلس إليك، لكنت تتحرز منه، ¬

_ (¬1) " فضائح الفتن " ص (34). (¬2) " الحلية " (2/ 377). (¬3) " جامع العلوم والحكم " ص (162). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (5/ 86). (¬5) " حلية الأولياء " (7/ 70).

وكلامك يُعرض على الله فلا تحترز " (¬1). وقال أبو علي الدقَّاق: " لو كنتم تشترون الكاغد -أي الورق- للحَفَظة لسكتم عن كثير من الكلام " (¬2). وقال مالك بن دينار: " لو أن القوم كُلِّفوا الصحف؛ لأقلوا المنطق " (¬3). وكان مالك بن أنس يعيب كثرة الكلام، ويقول: " لا يوجد إلا في النساء أو الضعفاء " (¬4). وقال الحسن البصري: " يا عجبًا لابن آدم: حافظاه على رأسه، لسانه قلمهما، وريقه مدادهما، وهو بين ذلك يتكلم بما لا يعنيه " (¬5). وقال أيضًا: " ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه " (¬6). وقال رحمه الله: " لا تستقيم أمانة رجل حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه " (¬7). وقال الفضيل بن عياض: " والله ما يحل لك أن تؤذي كلبًا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف تؤذي مسلمًا؟ " (¬8). وقال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله: (كنت جالسًا بدهليز دارنا، فأقبل كلب، فقلتُ: " اخسأ كلبَ بنَ كلبٍ "، فزجرني الوالدُ من داخل البيت، فقلت: " أليس هو كلب بن كلب؟ " قال: " شرط الجواز عدمُ قصد ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (11/ 487). (¬2) " شرح الأربعين النووية " الحديث رقم (15) ص (50) ط. دار الصحابة- طنطا. (¬3) " الحلية " (2/ 375). (¬4) " الآداب الشرعية " لابن مفلح ص (37). (¬5) " الزهد " للإمام أحمد (43). (¬6) " الإحياء " (3/ 120). (¬7) " الآداب الشرعية " لابن مفلح ص (40). (¬8) " سير أعلام النبلاء " (8/ 427).

التحقير " فقلت: " هذه فائدة ") (¬1). وعن يحيى بن سعيد أن عيسى ابن مريم لقي خنزيرًا بالطريق، فقال له: " انفذ بسلام " , فقيل: " تقول هذا لخنزير؟ "، فقال عيسى: " إني أخاف أن أعوِّد لساني النطق بالسوء " (¬2). وقال عاصم بن أبي النَّجود: " ما سمعت أبا وائل -يعني شقيق بن سَلَمة- سبَّ إنسانًا قط، ولا بهيمة " (¬3). وعن المثنى بن الصباح قال: " لبث وهب بن منبه أربعين سنة لم يَسُبَّ شيئًا فيه الروح " (¬4). وعن عمرو بن مالك أنه سمع أبا الجوزاء يقول: " ما لعنت شيئًا قط، ولا أكلت شيئًا ملعونًا قط، ولا آذيت أحدًا قط " (¬5). قال الذهبي: انظر إلى هذا السيد، واقتد به. وعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: قال رأيت ابنة الربيع بن خثيم أتته، فقالت: " يا أبتاه " أذهب ألعب؟ "، قال: " يا بُنيتي، اذهبي قولي خيرًا " (¬6). وعن بكر بن ماعز، أن الربيع بن خثيم أتته ابنة له، فقالت: " يا أبتاه، أذهب ألعب؟ "، فلما أكثرت عليه، قال بعض جلسائه: " لو أمرتها فذهبت؟ "، قال: " لا يكتب عليَّ اليوم أني آمرها تلعب " (¬7). وعن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً، فقال: " ذاك الرجل ¬

_ (¬1) " الرفع والتكميل " للكنوي ص (46). (¬2) أخرجه مالك في " الموطأ " ص (609) ط. الشعب. (¬3) " السير " (4/ 163). (¬4) " نزهة الفضلاء " (1/ 440). (¬5) " السير " (4/ 371). (¬6) أخرجه ابن سعد (6/ 188)، وهناد في " الزهد " (2/ 538). (¬7) " الزهد " لابن المبارك رقم (371) ص (79).

الأسود "، ثم قال: " أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبته " (¬1). وعن الحسن قال: (يخشون أن يكون قولنا: " حُمَيْدٌ الطويلُ " غيبة) (¬2). وعن شعبة قال: (قال لي معاوية -يعني ابن قُرَّة-: لو مَرَّ بك رجل أقطع، فقلت: " هذا أقطع "، كان غيبة، فذكرته لأبي إسحاق، فقال: " صدق ") (¬3). وعن ثابت البُناني رحمه الله قال: (قال شداد بن أوس لغلامه: " ائتنا بسُفْرتنا فنعبث ببعض ما فيها "، فقال له رجل من أصحابه: " ما سمعت منك كلمة منذ صاحبتُك أرى أن يكون فيها شيء من هذه؟ " قال: " صدقت، ما تكلمت بكلمة مذ بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أزمها وأخطمها إلا هذه، وأيم الله لا تذهب مني هكذا "، فجعل يُسَبّح، ويكبِّر، ويحمد الله عز وجل ") (¬4). وعن حسان بن عطية رحمه الله، قال: (كان شداد بن أوس في سفر، فنزل منزلاً، فقال لغلامه: " ائتنا بالسُّفرة نعبث بها "، فأنكرتُ عليه، فقال: " ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت، إلا وأنا أخْطمُها وأزمُّها، إلا كلمتي هذه، فلا تحفظوها عليَّ ") (¬5). وعن يزيد بن حَيَّان التيمي قال: (كان يقال: " ينبغي للرجل أن يكون أحفظ للسانه منه لموضع قدمه ") (¬6). وقال سلمة بن دينار: " ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظًا للسانه منه لموضع قدمه " (¬7). * * * ¬

_ (¬1) انظر الحاشية رقم (5) ص (88). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (212) ص (137). (¬3) " الجامع لأحكام القرآن " (16/ 335). (¬4) " حلية الأولياء " (1/ 265 - 266). (¬5) " حلية الأولياء " (1/ 265 - 266). (¬6) " الصمت " رقم (32). (¬7) " صفة الصفوة " (2/ 57).

الفصل الرابع مجاهدة النفس في ترك الغيبه وحفظ اللسان

الفصل الرابع مجاهدة النفس في ترك الغيبه وحفظ اللسان قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] فمن سنة الجهاد البُداءة بالعدو الأقرب فالأقرب, والنفس الأمارة بالسوء بين جنبي الإنسان هى أقرب أعدائه إليه , فليبدأ بمجاهدتها وقمعها ,خصوصا وأنها تأمر اللسان بالغيبة, وتؤزره على المعاصي. عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " المجاهد من جاهد نفسه في الله عز وجل " (¬1). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أفضل الجهاد: أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل " (¬2). وقال أبو حازم رحمه الله: " قاتِل هواك أشدَّ مما تقاتل عدوك " (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 20، 22)، الترمذي (1621)، وقال: " حسن صحيح "، وابن حبان رقم (4624)، (4706)، والطبراني (18/ 309) رقم (797)، وقال الألباني في " الصحيحة ": " إسناده جيد " (3/ 484). (¬2) رواه أبو نعيم في " الحلية " (2/ 249)، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (1496). (¬3) " الحلية " (3/ 231).

ولولا أن الطباع قابلة بالمجاهدة لأن تُقَوَّمَ؛ لما جاءت الشرائع آمرة بالفضائل ومحذرة من الرذائل، فليجاهد العبد نفسه على تقويم لسانه، وتطهيره من الآفات لا سيما الغيبة، فإن استقامة اللسان ركن ركين من أركان استقامة سائر أعضائه (¬1). كان " وهيب بن الورد " رحمه الله تعالى يقول: " والله لترك الغيبة عندي أحب إليَّ من التصدق بجبل من ذهب " (¬2). وقال رحمه الله: " لأن أدع الغيبة أحبُّ إليَّ من أن يكون لي الدنيا منذ خُلقت إلى أن تفنى، فأجعلها في سبيل الله تعالى، ولأن أغض بصري عما حَرَّم الله تعالى، أحب إليَّ من أن تكون لي الدنيا وما فيها، فأجعلها في سبيل الله، ثم تلا قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وتلا قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] " (¬3). وكان السلف رحمهم الله تعالى يجاهدون أنفسهم أشد المجاهدة لتقويم " اللسان " وتهذيبه، ويصابرون على ذلك السنين الطوال: فعن علي بن حَمَلة قال: قال عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي: " عالجْتُ الصمت عما لا يعْنيني (¬4) عشرين سنة، قَلَّ أن أقدر منه على ما أريد "، قال: وكان لا يدع يُغتاب في مجلسه أحد، يقول: " إن ذكرتم الله أعَنَّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر بيان ذلك ص (85 - 86). (¬2) " التوبيخ والتنبيه " رقم (169). (¬3) " تنبيه الغافلين " (1/ 179). (¬4) حد " الكلام فيما لا يعنيك ": أن تتكلم بكلام لو سَكَتَّ عنه لم تأثم، ولم تستضِرَّ به في حال ولا مآل. (¬5) " الحلية " (5/ 149)، و " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (552)، وانظر: " الزهد " لابن أبي عاصم، ص (39).

" وكان عبد الله بن أبي زكريا إذا خاض جُلساؤه في غير ذكر الله، رأيته كالسَّاهي، فإذا خاضوا في ذكر الله، كان أحسن الناس استماعًا " (¬1)، " وكان -رحمه الله- لا يكاد أن يتكلم حتى يُسأل، وكان من أبشِّ الناس، وأكثرهم تبسمًا " (¬2). وعن سلمة بن خلف بن إسماعيل قال: قلت لسفيان الثوري: " إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتك، وإذا كنت في غير الحديث كأنك ميت؟ " قال سفيان: " أما علمت أن الكلام فتنة؟ " (¬3). وعن المعَلَّى قال: قال مورِّق: " أمْرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة، لم أقدر عليه، ولستُ بتارك طلبَه أبدًا "، قالوا: " وما هو يا أبا المعتمر؟ "، قال: " الكف عما لا يعنيني " (¬4). وقال محمد بن المنكدر: " كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت " (¬5). وعن جعفر بن بُرقان قال: (بلغني عن يونس -أي: ابن عبيد- فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليه أسأله، فكتب إليه: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، فأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيدة، ثم عرضت عليها مرة أخرى تركَ ذكرهم إلا من خير، فوجدت الصومَ في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك، هذا أمري يا أخي، والسلام) (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (715). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (714). (¬3) " حلية الأولياء " (7/ 63). (¬4) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (575). (¬5) " صفة الصفوة " (2/ 141). (¬6) " سير أعلام النبلاء " (6/ 290 - 291).

وقال ابن وهب: (نذرت أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنسانًا أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة) (¬1). وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: " يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم " (¬2). وقال خارجة بن مصعب: " صحبت ابن عون ثِنْتي عشرة سنة، فما رأيتُه تكلم بكلمةٍ كتبها عليه الكرام الكاتبون " (¬3). وعن الصَّلْت بن بَسْطام التيمي قال: (قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبْجَر فتعلَّم من توقِّيه في الكلام، فما أعلم بالكوفة أشدَّ تحفظًا للسانه منه) (¬4). وعن الفضيل بن عياض قال: " كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة " (¬5). وعن الحسن بن حَيٍّ قال: " إني لأعرف رجلاً يَعُدُّ كلامَه "، وكانوا يُرَوْنَ أنه هو (¬6). وقال بشر بن منصور: (كنا عند أيوب السختياني، فلغطنا، وتكلمنا، فقال لنا: " كفوا .. لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليومَ لفعلت ") (¬7). ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (9/ 228)، وانظر: " ترتيب المدارك " (3/ 240). (¬2) " الإحياء " (3/ 120). (¬3) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (742). (¬4) " السابق " رقم (428). (¬5) " السابق " رقم (436). (¬6) " الصمت لابن أبي الدنيا " رقم (639). (¬7) " حلية الأولياء " (3/ 8).

وما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسًا وقلمًا، فكل ما تكلم به كتبه، ثم يحاسب نفسه عند المساء (¬1). وقال رجل لحاتم الأصم: " ما تشتهي؟ "، قال: " أشتهي عافية يوم إلى الليل "، فقال له: " أليست الأيام كلها عافية؟ "، قال: " إن عافية يومي أن لا أعصي الله فيه " (¬2). وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: (وقد أخبرني بعض أشياخي من الصوفية، أنه كان من جملتهم رجلٌ إذا صفا له يوم واحد، جعل جَوْزًا في قِدر، وختم عليه، فإذا سُئل عن عمره أخرج القِدْرَ، وفضَّ الختم، وعدَّ الجوز، فيرى أن أيامه بعددها) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " الإحياء " (3/ 121) طبعة دار الكتب العلمية- 1406. (¬2) " حلية الأولياء " (8/ 83). (¬3) " أحكام القرآن " (3/ 1116).

قلة المخالطة وقاية من الغيبة

قلة المخالطة وقاية من الغيبة قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصاحب إِلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إِلا تقي " (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل " (¬2). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكبير، فحامل المسك، إِما أن يُحذِيَك (¬3)، وإِما أن تبتاعَ منه، وإِما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكبير إِما أن يُحْرِق ثيابك، وإِما أن تجد ريحًا خبيثة " (¬4). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: " فيه فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة، ومكارم الأخلاق، والورع، والعلم، والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود رقم (4832)، والترمذي رقم (2395)، والامام أحمد (6/ 257)، وابن حبان (554)، والحاكم (4/ 128)، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه أبو داود رقم (4833)، والترمذي (2497)، وقال: " حسن غريب "، والحاكم (4/ 171)، وسكت عنه، وأحمد (2/ 303، 334)، وحسنه في " صحيح الترمذي " رقم (1937). (¬3) يحذيك: يعطيك. (¬4) رواه البخاري رقم (2101)، ومسلم رقم (2628)، واللفظ له.

يكثر فجره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة " (¬1). وعن شقيق البلخي قال: (علامة التوبة البكاءُ على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهِجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار) (¬2). فحق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم، وأن يتجنب مجالسة الأشرار، لأنه لا يأمن غائلتهم، والطبع يسرق من الطبع وهو لا يدري، فصحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتنًا، وإذا مرت على الطيب حملت طيبًا، وقد قيل: " لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقالُه "، وقيل: " لا تصحب الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويود لك أنك مثله ". ولما كان " الدفع أسهل من الرفع "، و " الوقاية خيرًا من العلاج "؛ أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى فضيلة لزوم الإنسان بيته اتقاء الغيبة، فقال فيما رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه: " ... ومن جلس في بيته لم يغتب إِنسانًا كان ضامنًا على الله " (¬3). وهذا يدل على فضيلة من اعتزل مجالس الناس، ولزم بيته بنية كف شر لسانه عن إخوانه المؤمنين، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في أفضل الأعمال بعد الجهاد: " مؤمن ¬

_ (¬1) " شرح النووي " (5/ 484). (¬2) " السير " (315/ 9). (¬3) عجز حديث رواه ابن حبان في " صحيحه " رقم (372)، والطبراني في " الكبير " (20/ 54)، والحاكم (2/ 90)، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في " السنن " (9/ 166، 167)، وانظر: " المسند " (5/ 241)، والبزار (1649)، و " مجمع الزوائد " (5/ 277)، (10/ 304). ومعنى " ضامن على الله " أي: مضمون، على حَدِّ: " عيشة راضية " أي: مرضية، أو: ذو ضمان، قال النووي في " الأذكار ": (معنى " ضامن " صاحب الضمان، والضمان: الرعاية للشيء، كما يقال: " تامر، ولابن "، أي: صاحب تمر ولبن)، وانظر: " فتح القدير " للمناوي (3/ 319)، و " النهاية " لابن الأثير (3/ 102).

في شِعب من الشعاب يعبد الله، ويدع الناس من شره " (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم وهم جُلُوس في مجلسٍ، فقال: " ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ "، فقلنا: " بلى يا رسول الله "، قال: " رجل آخِذٌ برأس فرسه في سبيل الله حتى عُقِرَت أو يُقْتَلَ، فأخْبركم بالذي يليه؟ "، قلنا: " بلى يا رسول الله "، قال: " امرؤ معتزل في شعب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس " (¬2) الحديث. وقال القشيري: " ليس تحصل الغِيبة من الخلق إلا بالغَيبة عن الحق "، ولهذا كانت الغيبة وأكل لحوم الناس قوتًا لا يستغنى عن التهامه الشاردون عن منهج الله، والغافلون عن ذكره عز وجل، ومن ثم كثرت شكاوى الصالحين من أمثال هذه المجالس، وكثر تندمهم عليها، وفرارهم منها: فقد قيل لعبد الله بن المبارك: " إذا أنت صليت، لم لا تجلس معنا؟ "، قال: " أجلس مع الصحابة والتابعين، انظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ إنكم تغتابون الناس " (¬3). وقد قيل: " علامة المزيد قطيعة كل خليط، لا يريد ما تريد ". وقال محمد بن نضر الحارثي لأبي الأحوص: " أليس يزعمون أنه قال: (أنا جليس من ذكرني؟)، قال: بلى، قال: ما على أحد أن لا يجالس الناس " (¬4)، وعن أبي أسامة قال: قلت لمحمد بن النضر: أما تستوحش من طول ¬

_ (¬1) أخرجه -من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- مسلم (1888)، وابن ماجه (3978)، وابن حبان (606) وغيرهم. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 237)، والنسائي (5/ 83)، والدارمي (2/ 201 - 202)، وابن حبان (604)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: " وإسناده حسن ". (¬3) " سير أعلام النبلاء " (8/ 398). (¬4) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (83) ص (47).

الجلوس في البيت؟ فقال: ما لي أستوحش، وهو يقول: " أنا جليس من ذكرني " (¬1). وعن طلحة بن عبيد الله قال: " أقل العيب على المرء أن يقال: إنه يكثر الجلوس في بيته " (¬2). وقال الأعمش: كان يقال: " إذا طال المجلس؛ كان للشيطان فيه مطيع " (¬3). وقاله الزهري: " إذا طال المجلس؛ كان للشيطان فيه نصيب " (¬4). وعن خلف بن إسماعيل البرزاني قال: سمعت سفيان الثوري يقول: " أقِلَّ من معرفة الناس تَقلَّ غيبتُك " (¬5). وعن أبي ذر قال: " ما لي وللناس، وقد تركت لهم بيضاءهم وصفراءهم؟! " (¬6). لقاء الناس ليس يفيد شيئًا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حالِ (¬7) وقال الشافعي رحمه الله: " الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط " (¬8). ¬

_ (¬1) " الشعب " للبيهقي رقم (697). (¬2) " العزلة " للخطابي ص (12). (¬3) رواه الإمام أحمد في " العلل " (1/ 392). (¬4) " الإحياء " (3/ 366). (¬5) " حلية الأولياء " (7/ 8). (¬6) " الزهد " لابن أبي عاصم ص (42). (¬7) " وفيات الأعيان " (4/ 283)، " تذكرة الحفاظ " (4/ 1222). (¬8) " صفة الصفوة " (2/ 253).

وقال شقيق البلخي: " اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها، واحذر أن تُحرقك " (¬1). وقال عبد الله بن داود: " من أمكن الناس من كل ما يريدون، أضروا بدينه ودنياه " (¬2). وقال إبراهيم بن أدهم: " من أراد التوبة؛ فليخرج من المظالم، وليدعْ مخالطة الناس، وإلا لم ينل ما يريد " (¬3). وعن بشر بن الحارث: قال سفيان الثوري: " وددت أني إذا جلست لكم أقوم كما أقعد، لا عليَّ، ولا ليَ " (¬4). وعن زياد بن حدير، قال: " لوددتُ أني في حَيِّزٍ من حديد، ومعي ما يُصلحني، لا أكَلِّم الناسَ، ولا يكلموني حتى ألقى الله تبارك وتعالى " (¬5). ومن أنست منه أنه يهلكك بالغيبة، فاقطعه، وفرَّ منه فرارك من الأسد أو الأجرب. عن محمد بن واسع قال: (رأيت صفوان بن مُحْرِز في المسجد، وقريبًا منه ناس يتجادلون، فرأيته قام فنفض ثيابه، وقال: " إنما أنتم جَرَبٌ " مرتين). (¬6). ¬

_ (¬1) " السابق " (4/ 160). (¬2) " السير " (349/ 9). (¬3) " السابق " (7/ 389). (¬4) " الحلية " (7/ 63). (¬5) " السابق " (4/ 197)، و " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (67) ص (42). (¬6) " السابق " (2/ 215)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (126).

وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله (أنه دُعي إلى وليمة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: " إنه ثقيل "، فقال إبراهيم: " أنا فعلت هذا بنفسي حيث حضرت موضعًا يُغتاب فيه الناس "، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام) (¬1). وقال بشر بن منصور: " ما جلستُ إلى أحد، فتفرقنا، إلا علمتُ أني لو لم أقعد معه كان خيرًا لي " (¬2). وعن سفيان قال: " إني لألقى الأخ من الإخوان اللقاءة، فأكون بها غافلاً شهرًا " (¬3). وعن منصور بن زاذان قال: (إن الرجل من إخواني يلقاني، فأفرح إن لم يَسُؤْنِي في صديقي، ويبلِّغْني الغيبة ممن اغتابني، وإني لفي جَهْدٍ من جليسي حتى يفارقني، مخافة أن يأثم ويؤثّمَنِي) (¬4). وعن وهيب بن الورد قال: " وجدت العزلة في اللسان " (¬5). وعن عبد الله بن المبارك قال: (قال بعضهم في تفسير العزلة: " هو أن يكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخُض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت ") (¬6). فعزلة المؤمن من المجالس التي يسود فيها فضول الكلام والغيبة عِزٌّ له، بخلاف مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة، وهي من النار جُنَّة. عن عمر رضي الله عنه قال: " عليكم بذكر الله، فإنه شفاء، وإياكم وذكر ¬

_ (¬1) " الأذكار النووية " ص (291)، و " تنبيه الغافلين " للسمرقندي (1/ 179). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (8/ 361). (¬3) " حلية الأولياء " (7/ 53). (¬4) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (299). (¬5) " السابق " (38). (¬6) " السابق " (37).

الناس فإنه داء " (¬1). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: " من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم " (¬2). وما أحسن ما قال الشاعر: وَحدة الإنسان خير ... من جليس السوء عنده وجليس الخير خير ... من قعود المرء وحده وقال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: (ولسنا نريد -رحمك الله- بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجُمُعَات، وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن، والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبلها، ما لم يحل دونها حائل شغل، ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليها) (¬3) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " الزهد " لهناد (2/ 537). (¬2) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (77) ص (46)، " الحلية " (1/ 211). (¬3) " العزلة " ص (6).

الفصل الخامس ما يجب على من حضر مجلس غيبة

الفصل الخامس ما يجب على من حضر مجلس غيبة من حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصره إذا ظُلِم، وأن يذب عن عرضه إذا خاض فيه منافق أو ظالم لا يخشى يوم الحساب. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يَكُفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه " (¬1). وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من حمى مؤمنًا من منافق -أراه قال-: بعث الله مَلَكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم " (¬2). الحديث. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ذَبَّ عن عِرض أخيه بالغيب؛ كان حقًّا على الله أن يُعتقه من النار " (¬3). وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نصر أخاه بالغيب ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 304)، والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (239)، وحسنه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (2/ 160)، وأقره المناوي، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (926). (¬2) رواه أبو داود رقم (4883)، وحسنه في " صحيح أبي داود " رقم (4086). (¬3) رواه الإمام أحمد (6/ 461)، وقال الهيثمي في " المجمع " (8/ 95): (رواه أحمد والطبراني، وإسناد أحمد حسن) اهـ، وصححه الألبانى في " صحيح الجامع " (5/ 290).

نصره الله في الدنيا والآخرة " (¬1). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من رد عن عِرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة " (¬2). وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من امريء يخذل امرءًا مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حرمتُه، ويُنتقص فيه من عرضه، إِلا خذله الله في موطن يحب نصرته، وما من امريء ينصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إِلا نصره الله في موطن يحب نصرته " (¬3). وهذا ما التزمه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم في حق إخوانهم: فقد (سمع عمار بن ياسر رجلاً ينال من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال له: " اسكت مقبوحًا منبوحًا، فأشهد أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة "، وفي رواية: " اغرب مقبوحًا أتؤذي محبوبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ") (¬4). وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصة توبته قال: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في القوم بتبوك: " ما فعل كعب بن مالك؟ "، فقال رجل من بني سلمة: " يا رسول الله، حبِسه بُرْداه والنظرُ في عِطفيه " (¬5) - ¬

_ (¬1) عزاه في " السلسلة الصحيحة " رقم (1217) إلى الدينوري في " المجالسة "، والبيهقي في " الشعب "، والضياء في " المختارة ". (¬2) أخرجه الإمام أحمد (6/ 450)، والترمذي (4/ 327)، وحسَّنه، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (5/ 295). (¬3) رواه أبو داود (4/ 271)، وأحمد (4/ 30)، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع " (5/ 160). (¬4) أخرجه ابن عساكر كما في " الكنز " (3/ 116)، وابن سعد (8/ 65). (¬5) وهذا إشارة إلى إعجابه بنفسه.

أي جانبيه- فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا "، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) أي سكت مقرًا لإنكار معاذ على من فعل غيبة أو تلبس بها، وتشريعًا لمثله بالرد على المغتاب. وفي حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فقال: " أين مالك بن الدُّخْشُم؟ "، فقال رجل: " ذلك منافق لا يحب الله ولا رسوله "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إِلله إِلا الله، يريد بذلك وجه الله؟! وإِن الله قد حرم على النار من قال: لا إِله إِلا الله يبتغي بذلك وجه الله ") (¬2). وكان بين سعد وخالد رضي الله عنهما كلام، فذهب رجل يقع في خالد، رضي الله عنه، عند سعد، رضي الله عنه، فقال: " مَهْ، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا " (¬3). عن ابن عون قال: " كانوا إذا ذكروا عند محمد -أي ابن سيرين- رجلاً بسيئة، ذكره هو بأحسن ما يعلم " (¬4). قال الإمام النووي رحمه الله: (اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها، ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق، أو من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر) (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) رواه البخا ري (5/ 130)، ومسلم (4/ 2122)، وأحمد (3/ 457). (¬2) رواه البخاري (رقم 425) (1/ 519) -فتح، ومسلم رقم (33) (1/ 61)، وغيرهما، وانظر: " الإحسان " لابن بلبان (1/ 458). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (246)، وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 94). (¬4) " السير " (4/ 620). (¬5) " الأذكار النووية " ص (294).

ذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه دُعي إلى طعام، فلما جلس؛ قالوا: " إن فلانًا لم يجيء "، فقال رجل منهم: " إن فلانًا رجل ثقيل "، فقال إبراهيم: " إنما فعل هذا بي بطني حين شهدت طعامًا اغتبت فيه مسلمًا "، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام (¬1). إن غيبة المسلم ظلم وتعدّ لحدود الله عز وجل، وقد قال تعالى: (وَمَن {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} (¬2) [البقرة: 229]، ومحاصرةً لهؤلاء الظالمين؛ نهت الشريعة عن الركون إليهم: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] وعن معاشرتهم ومساكنتهم والقعود معهم: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (إذا حضرت أمرًا ليس بطاعة الله، ولا تقدر أن تنهى عنه فتنح عنهم، واتركهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إِذا علمه، أو شهده، أو سمعه " (¬3)) (¬4) اهـ. وغيبة المسلم من اللغو القبيح الذي يتنزه المؤمنون عن حضور مجالسه ¬

_ (¬1) راجع حاشية رقم (1) ص (76). (¬2) فاحذر أيها المكلف أولئك " اللحميين " الذين يستنكفون عن قبول النصيحة لهم بترك الغيبة، وينتحلون المعاذير ليسوغوا أكل لحوم الناس، ويتسترون وراء ترخيص الشريعة في ذكر مساويء بعض الناس في حالات خاصة، وما بالقوم حاجة إلى الرخصة، وإنما هم يستوحشون ممن لا يشاركهم، وينكر عليهم، فيحرصون على إزالة تلك الوحشة بمحاولة تسويغ الغيبة كي يونسهم بموافقتهم ومشاركتهم، وأولئك من " الظالمين " الذين سمى الله؛ فاحذرهم. (¬3) رواه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الإمام أحمد (3/ 84)، والترمذي رقم (2191)، وابن ماجه (4007)، وابن حبان في " صحيحه " رقم (278)، والبيهقي في " السنن " (10/ 90)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (168). (¬4) انظر: " المدخل " لابن الحاج (2/ 313).

والإنصات إليه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، وقال جل وعلا: وَإِذَا {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. * * *

المتنزهون عن الغيبة

المتنزهون عن الغيبة كان التنزه عن الغيبة -كغيره من الفضائل- سمة سائدة عند السلف الصالح والقرون الفاضلة. قال إياس بن معاوية بن قُرَّة رحمه الله تعالى: " كان أفضلهم عندهم -أي عند الصحابة رضي الله عنهم- أسلمهم صدورًا، وأقلهم غيبة " (¬1) وعن سهل بن عبد الله التُّسترِيِّ رحمه الله قال: " من أخلاق الصديقين أن لا يحلفوا بالله، وأن لا يغتابوا، ولا يغتاب عندهم، وأن لا يشبعوا، وإذا وعدوا لم يُخلفوا، ولا يمزحون أصلاً " (¬2). وقال بعضهم. " أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس " (¬3). وقال الإمام ابن الجوزي واصفًا شيخه عبد الوهاب الأنماطي: (كان على قانون السلف لم يُسمع في مجلسه غيبة ... ) (¬4). ثم عَزَّ هذا الخُلُق فيمن أتى بعدهم، قال الإمام وكيع بن الجراح (ت 197 هـ) رحمه الله تعالى: " من عزة السلامة من الغيبة أنه لم يسلم منها إلا القليل "، ¬

_ (¬1) " حلية الأولياء " (3/ 125). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (13/ 332). (¬3) " الإحياء " (3/ 152). (¬4) " صيد الخاطر " ص (173).

فإذا كان المتنزهون عن الغيبة في عهده رحمه الله قلة، فما بالك بزماننا: وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلاً ... فقد صاروا أعزَّ من القليل وعن أبي الرقاد قال: خرجت مع مولاي وأنا غلام، فدفعت إلى حذيفة فسمعته يقول: " إن كان الرجلُ ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير بها منافقًا، واني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات " (¬1). وعن الحسن بن صالح، قال: " فتشت عن الورع، فلم أره في شيء أقل منه في اللسان " (¬2). وتأمل قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: ( .. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: " يا زينب ماذا علمتِ أو رأيت؟ "؟ فقالت: " يا رسول الله! أحْمي سمعي وبصري، ما علمتُ إلا خيرًا ")، قالت عائشة رضي الله عنها: " وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعصمها الله بالورع " (¬3). وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى تَرى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم، ¬

_ (¬1) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (69) ص (43)، " الحلية " (1/ 279). (¬2) انظر: " شعب الإيمان " للبيهقي (5/ 316)، " الحلية " (7/ 32). (¬3) رواه البخاري رقم (4749)، وانظر: " فتح الباري " (8/ 478).

ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يُبالي ما يقول!!) (¬1) اهـ. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى معلقًا على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله "؟ قلت: بلى، فأخذ بلسانه، فقال: " تكف عليك هذا " الحديث: (هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله؛ وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره، وأحكمه وضبطه) (¬2) اهـ. وعن مبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد قال: " لا تجد من البر شيئًا واحدًا يتبعه البر كله غيرَ اللسان، فإنك تجد الرجل يكثر الصيام، ويفطر على الحرام، ويقوم اليل، ويشهد بالزور بالنهار -وذكر أشياء نحو هذا- ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق، فيخالف ذلك عمله أبدًا " (¬3). فاستقامة اللسان من أعظم أركان الاستقامة؛ لأنها إذا يُسِّرت للإنسان فتحت له أبواب البر، وأغلقت دونَه أبواب الفجور، ولذلك لما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، وقال له: " قل آمنت بالله، ثم استقم "، سأله سفيان: " ما أخوف ما تخاف علي؟ "، فأخذ بلسان نفسه (¬4)، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن زلل اللسان من أعظم القوادح في الاستقامة، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " اللسان قِوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان، لم يقم له جارحة " (¬5)، وعن يونس بن عبيد قال: " ما رأيت أحدًا لسانه منه على بالٍ، إلا ¬

_ (¬1) " الداء والدواء " ص (187 - 188)، فرى الجلد: مزَّقه. (¬2) " جامع العلوم والحكم " (2/ 146). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (6/ 291 - 292). (¬4) تقدم ص (57). (¬5) " الصمت " رقم (58) ص (69).

رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله " (¬1). وعنه رحمه الله قال: " خصلتان إذا صلحتا من العبد؛ صلح ما سواهما: صلاته، ولسانه " (¬2). وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: " خصلتان إذا رأيتهما في الرجل، فاعلم أن ما وراء هما خيرٌ منهما: إذا كان حابسًا للسانه، يُحافظ على صلاته " (¬3). وعنه -رحمه الله- أنه قال: " ما صَحَّ منطق رجل قط، إلا صحَّ ما وراء ذلك " (¬4). وعن الأوزاعي، عن يحيى رحمه الله قال: (أثنى رجل على رجل، فقال له بعض السلف: " وما علمك به؟ " قال: " رأيته يتحفظُ في مَنْطِقه ") (¬5). إن التنزه عن الغيبة مؤشر قوي على تمام القدرة على ضبط النفس، لا سيما إذا كان في الغيبة مصلحة شخصية أو حزبية، وتأمَّل قول " الصفدي " في " يحيى بن إسماعيل المخزومي ": " صحبته أكثر من عشرين سنة، وما رأيت منه سوءًا قط .. وكان قويَّ النفس يتقي لسانه " (¬6). أما ضعاف النفوس فلأنهم يشعرون بضآلة أنفسهم، فقد تميزوا غيظًا لما رأوا قممًا شاهقة، وهم سفوح واطئة، فأرادوا هدم القمم حتى تتساوى الرؤوس على السفوح الخفيضة، وحسبوا أنهم لن يصعدوا إلا على أشلاء العمالقة، فمن ¬

_ (¬1) " الصمت " رقم (653). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (6/ 293). (¬3) " الصمت " رقم (564). (¬4) " الزهد " لابن أبي عاصم رقم (56) ص (39). (¬5) " الصمت " رقم (418). (¬6) " الدرر الكامنة " (3/ 188).

ثم ينصبون مشانق التجريح لإلغاء الثقة في علماء الأمة، ويتعاطون غيبتهم، ويتداولونها، ويُدار عليهم بها كما يدار بكأس الماء على العطشى فمقل ومستكثر. وقد حفظت لنا كتب التراجم سِيَرَ أفذاذ من الرجال بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات، واللسان محبوس في سجن الصمت عن الهلكات، والكف قد كفت بالخوف عن الشهوات، والقدم قيِّدت بقيد المحاسبات، والليل لديهم يجأرون فيه بالأصوات، فإذا جاء النهار قطعوه بمقاطعة اللذات، حفظوا الله فحفظهم، وطهر ألسنتهم من آفة الغيبة المهلكة، فكانوا يجتنبونها كما يجتنبون النجاسات، ولا يسمحون للغيبة أن تدار في مجالسهم، كما لا يسمحون لكئوس الخمر أن تدور فيها، وهاك بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر: امتدح حسان بن ثابت رضي الله عنه أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، فقال: حَصانٌ (¬1) رَزان (¬2) ما تُزَنُّ (¬3) بريبةٍ ... وتُصبحُ غَرثى (¬4) من لحومِ الغوافلِ (¬5) وقال الأحنف بن قيس: " ما ذكرت أحدًا بسوء بعد أن يقوم من عندي " (¬6). وعن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، أنه كان لا يدعُ أحدًا ¬

_ (¬1) حَصَان: محصنة عفيفة. (¬2) رَزان: كاملة العقل. (¬3) ما تُزَنُّ: ما تُتهم. (¬4) غرثى: جائعة، أي لا تغتاب الناس، لأنها لو اغتابتهم شبعت من لحومهم. (¬5) الغوافل: هن الغافلات عما رُمين به من الفواحش -وهذا البيت ثابت في " الصحيحين " رواه البخاري برقم (4146)، ومسلم (2488). (¬6) " صفة الصفوة " (3/ 199).

يغتاب عنده (¬1). وقال الفلاَّس: " ما سمعت وكيعًا ذاكرًا أحدًا بسوء قط " (¬2). وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال: قال فلان -وسمَّى رجلاً-: " ما رأيت رجلاً من الناس إلا لابد أن يتكلم ببعض ما لا يريد غير عاصم بن عمر ". وعن أبي عُبيد قال: " ما رأيتُ رجلاً قَطُّ أشَدَّ تحفظًا في مَنْطِقِهِ من عمر بن عبد العزيز " (¬3). وعن جرير بن حازم قال: سمعت ابن سيرين ذكر رجلاً، فقال: " ذاك الأسود "، ثم قال: " أستغفر الله، أخاف أن أكون قد اغتبته " (¬4). وعن طوف بن وهب قال: (دخلت على محمد بن سيرين، وقد اشتكيت، فقال: كأني أراك شاكيًا؟ قلت: أجل، قال: اذهب إلى فلان الطبيب، فاستوصفه، ثم قال: " اذهب إلى فلان، فإنه أطبُّ منه "، ثم قال: " أستغفر الله، أراني قد اغتبته ") (¬5). وعن إبراهيم التيمي قال: " أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين سنة، فلم يتكلم بكلام لا يصعد " (¬6). وقال بعضهم. " صحبت الربيع بن خثيم عشرين عامًا، ما سمعت منه ¬

_ (¬1) " السير " (4/ 336). (¬2) " السابق " (9/ 158). (¬3) " الصمت " لابن أبي الدنيا رقم (419). (¬4) رواه هناد في " الزهد " (1191)، ووكيع في " الزهد " (434)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (213) ص (137)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 268). (¬5) رواه ابن سعد في " الطبقات " (7/ 196)، وأبو نعيم في " الحلية " (9/ 174). (¬6) رواه البيهقي في " الشعب " رقم (5036)، وابن أبي الدنيا في " الصمت " (413).

كلمة تعاب " (¬1). وقال أبو عاصم النبيل: " ما اغتبت مسلمًا منذ علمت أن الله حرم الغيبة " (¬2). وعن حزم قال: " كان ميمون بن سياه لا يغتاب، ولا يدع أحدًا يغتاب عنده، فإن انتهى، وإلا قام وتركه " (¬3). وعن الصَّلْت بن بَسْطامٍ: حدثني رجل من تيم الله، وكان قد جالس الشعبي وإبراهيم، قال: " ما رأيت أحدًا أملك للسانه من طلحة بن مُصَرِّف " (¬4). وهو القائل رحمه الله: " ما تكلمت بكلمة منذ عشرين سنة، لم أتدبرها قبل أن أتكلم بها إلا ندمت عليها، إلا ما كان من ذكر الله " (¬5). وقال أبو بكر بن عياش: " ما سمعت أبا إسحاق -السبيعي- يعيب أحدًا قط، وإذا ذكر رجلاً من الصحابة، فكأنه أفضلُهم عنده " (¬6). وقال خارجة بن مصعب: " صحبت عبد الله بن عوف أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة " (¬7). وعن يحيى القطان قال: " ما ساد ابن عون الناس أن كان أتركهم للدنيا، ولكن إنما ساد ابن عون الناس بحفظ لسانه " (¬8). ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (4/ 259). (¬2) " الصمت " لابن أبي الدنيا ص (300). (¬3) " السابق " رقم (177) ص (210). (¬4) " السابق " رقم (324). (¬5) " السابق " رقم (425). (¬6) " السير " (399/ 5). (¬7) " الحلية " (37/ 3). (¬8) " الحلية " (3/ 37).

وعن سلام بن أبي مطيع قال: " كان ابن عون أملكهم للسانه " (¬1). وعن معاذ بن معاذ قال: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد، قال: " إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه، وليس ذاك أن يسكت رجل لا يتكلم، ولكن يتكلم، فيسلم، كما يسلم ابن عون " (¬2). وقال يونس بن عبيد: " ما أعرف رجلاً يضبط نفسه منذ أربعين سنة ضبط ابن عون يومًا واحدًا " (¬3). وعن بشر بن الحارث قال: (كان رجل يجالس إبراهيم بن أدهم، فاغتاب عنده رجلاً، فقال: " لا تفعل "، ونهاه، فعاد، فقال له: " اذهب "، وصاح به، ثم قال: " عجبتُ لناكيف نُمْطر؟ ") (¬4). وكان رحمه الله يجتهد في سد الذريعة إلى الغيبة خوفًا من أن يُعْصى اللهُ بها، وغيرة على حرماته أن تُنتهك، فعن عيسى بن حازم قال: (كنا مع إبراهيم ابن أدهم في بيت ومعه أصحاب له، فأتوا ببطيخ، فجعلوا يأكلون، ويمزحون، ويترامون بينهم، فدق رجل الباب، فقال لهم إبراهيم: " لا يتحركن أحد "، قالوا: " يا أبا إسحاق تعلمنا الرياء؟ نفعل في السر شيئًا لا نفعله في العلانية؟ " فقال: " اسكتوا إني أكره أن يُعْصَى اللهُ في وفيكم ") (¬5). فلا نعجب إذن لما رواه يحيى بن يمان قال: " كان سفيان إذا قعد مع إبراهيم ابن أدهم، تحرَّز من الكلام " (¬6). وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: " أرجو أن ألقى الله، ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا ". ¬

_ (¬1) " السابق " (3/ 38). (¬2) " السابق " (3/ 38). (¬3) " السابق " (3/ 38). (¬4) " حلية الأولياء " (8/ 30). (¬5) " السابق " (8/ 9). (¬6) " السير " (7/ 393).

وعلق الحافظ الذهبي رحمه الله قائلاً: (قلت: صَدَق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم وَرَعه في الكلام في الناس، وإنصافَه فيمن يُضَعِّفُهُ، فإنه أكثر ما يقول: " منكر الحديث "، " سكتُوا عنه "، " فيه نظر "، ونحو هذا، وفى أن يقول: " فلان كذاب "، أو: " كان يَضَعُ الحديث "، حتى إنه قال: " إذا قلتُ: فلانٌ في حديثه نظر، فهو متَّهم واهٍ "، وهذا معنى قوله: " لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدًا "، وهذا هو والله غاية الورع) (¬1) اهـ. قال محمد بن أبي حاتم الورَّاق: (سمعته -يعني البخاري- يقول: " لا يكون لي خصم في الآخرة "، فقلت: إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب " التاريخ "، ويقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما رُوِّينا ذلك رواية، لم نَقُله من عند أثفسنا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بئس مولى العشيرة " يعني حديث عائشة (¬2). وسمعته يقول: " ما اغتبت أحدًا قطُّ منذ علمتُ أن الغيبة تضر أهلها ") (¬3) اهـ. وقال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: " منذ عَقَلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحدًا قط " (¬4). وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: " ما تكلمت بكلمة؛ ولا فعلت فعلاً؛ إلا وأعددت له جوابًا بين يدي الله عز وجل " (¬5). وقال الحسن بن بشار: " منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمة أحتاج أن أعتذر منها ". ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (12/ 439 - 441). (¬2) انظر: " فتح الباري " (10/ 452 - 455)، (10/ 471 - 472). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (12/ 441). (¬4) " السير " (9/ 482). (¬5) " شذرات الذهب " (6/ 5)، و " طبقات الشافعية " للسبكي (9/ 212)، " فتح المغيث " للسخاوي (90/ 1).

وعن مخلد بن الحسين قال: " ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر منها منذ خمسين سنة " (¬1). وفي ترجمة محمد بن أحمد التِّلمْساني رحمه الله: أنه " كان قائمًا على حفظ كتاب الله، طيب النغمة به، لمَ يُؤثر عنه في أحدٍ وقيعة، مع اتصاله بالسلطان " (¬2). وهذا محمد بن إدريس بن محمد القَمّولي نجم الدين (ت 709 هـ) الفقيه الشافعي (كان يستحضر الروضة، وأكثر شرح مسلم، والوجيز للواحدي، مع المشاركة في العربية، والأصول، والحساب، وكان لا يستغيب أحدًا، ولا يُمَكِّنُ أحدًا يستغيب بحضرته، مع ملازمة الاشتغال، والأمر بالمعروف، والتقلل من الدنيا) (¬3). وهذا محمد بن سليمان بن الفخر تاج الدين (كان متعبدًا متجنبًا للغيبة وسماعها) (¬4). وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة " أرون الدوادار ": " كان خيّرًا، ساكنًا، قليل الغضب، حتى يقال: إنه لم يَسمع منه أحد في طول نيابته بمصر وحلب كلمة سوء " (¬5). أما محمد بن عبد الحق بن عيسى الخُضَري (ت 747 هـ) فقد وُصف رحمه الله تعالى بأنه: (كان جِدًّا كله، لا هزل فيه، وأنه كان لا يمكِّن أحدًا أن يذكر عنده أحدًا بسوء) (¬6). ¬

_ (¬1) " حلية الأولياء " (8/ 266). (¬2) " الدرر الكامنة " (3/ 457). (¬3) " السابق " (3/ 467). (¬4) " السابق " (4/ 67). (¬5) " السابق " (1/ 374). (¬6) " السابق " (4/ 113).

وهذا سعيد بن محمد الملياني الغربي المالكي كان من أعيان المالكية (ت ا 77 هـ) (خيِّرًا متحرزًا من سَماع الغيبة، لا يُمَكَن أحدًا يستغيب، فإن لم يسمع نهيَه مَن في المجلس خرج مِن المجلس، ومات على ذلك رحمه الله) (¬1). * * * ونقفز إلى عصرنا الحاضر، لنطالع سيرة رجل من أفذاذ الرجال، وجِهْبِذ (¬2) من جهابذة العلماء، إنه العلامة القرآني محمد الأمين بن محمد الختار الشنقيطي رحمه الله تعالى، الذي اختُصَّ بهذا الخلق العزيز؛ وهو شدة التجافي عن الوقوع في أعراض الناس، فقد كان لا يسمح لأحد أن يغتاب في مجلسه مهما كان قدره، كأنه كان محاربًا مرابطًا على ثغرة، لا يُمَكِّن أحدًا من الاقتراب من محارم الله بانتهاش أعراض الناس، يحمي بذلك نفسه من الإثم، ويحفظ مجلسه نقيًا طاهرًا، ويؤدِّبُ من يلوذون به على ضبط النفس، وإشغالها بما ينفع، ووقايتها مما يضر. قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس في ترجمته رحمه الله: (وحدثني ابنه عبد الله عنه أنه قال في معرض التحذير من أعراض الناس: " قتل الأولاد وأخذ الأموال أهون من أخذ الحسنات لشايب كبير "؛ يعني نفسه -رحمه الله-، وهو تحذير من الغيبة. وحدثني أيضا: (أن رجلاً كبيرًا اغتاب عنده رجلاً، فنهاه، فقال المغتاب: ¬

_ (¬1) " السابق " (2/ 232). (¬2) الجهبذ: هو النقاد الخبير.

" أنا المتكلم لا أنت "، فرد عليه الشيخ بقوله: " أنا شايب بين جنبي سورة البقرة (¬1)، تسكت بأدب، أو تخرج "). وحدثني عنه أيضًا أنه كان يقول: " لا يتكلم في أنساب الناس إلا أحد رجلين: رجل به حسد يريد أن يُنْقِصَ الناسَ عن نفسه، أو رجل قليل النسب يريد أن يُلْحِقَ الناسَ به ") (¬2). وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أثناء سرده لسياق رحلته إلى الحج: (ثم جئنا آخر النهار بعد الثالثة للقرية المسماة " آتيه "، فالتمسنا عربيًا نبيت عنده، فدعانا رجل عربي -والله ما سألت عن اسمه ولا اسم أبيه خوفًا من الغيبة- فأنزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فبتنا بليلة لا أعاد الله علينا مثلها، أشد من ليلة نابغية، ومن ليلة مهلهلية ..... ) (¬3). وقال تلميذه فضيلة الشيخ عطية سالم حفظه الله ما نصه: " ولم يكن يغتاب أحدًا، أو يسمح بغيبة أحد في مجلسه، وكثيرًا ما يقول لإخوانه (تكايسوا)؛ أي: من الكياسة والتحفُّظ من خطر الغيبة، ويقول: " إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته؛ فلا يأتي فيها إلا الشيء الطيب ". ¬

_ (¬1) وقد حفظ الشيخ القرآن الكريم كله على خاله عبد الله، وعمره عشر سنوات. (¬2) (ترجمة الشيخ " محمد الأمين الشنقيطي ") ص (204 - 205). (¬3) (ترجمة الشيخ " محمد الأمين الشنقيطي ") ص (48)، والليلة النابغية هي ليلة النابغة التي قال فيها: * وليلٍ أقاسيه بَطيِء الكواكبِ * وليلة المهلهل هي التي قال فيها: أليلَتَنا بذي حسمٍ أنيري ... إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري إلى قوله:. وأنقَذَني بياضُ الصبح منها ... وقد أُنْقِذْتُ من شيءٍ كبير

وقال أيضا: " أما مكارم أخلاقه ومراعاة شعور جلسائه؛ فهذا فوق حد الاستطاعة، فمذ صحبته لم أسمع منه مقالاً لأي إنسان -ولو مخطئًا عليه- يكون فيه جرح لشعوره، وما كان يعاتب إنساناً في شيء يمكن تداركه، وكان كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه، وحينما كنت أسائله في ذلك يقول: ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومه ... لكنَّ سَيِّدَ قومِهِ المتغابي) (¬1) وقال رحمه الله مدافعًا عن نفسه حين رماه رجل ظلمًا بأنه كتب شعرًا يهجوه فيه: (فغضبت من تَزويره عَلَيَّ، لأني -ولله الحمد والمنة- لست ممن يهجو، وما كافأت أحدًا بسوء، وما أخذت أخًا بزلة، تحدثًا بنعمة الله تعالى)، ومما كتب في تلك المناسبة: وتمنعني من ذاك نفس عزيزة ... غلا سعرها في السوق يومَ كسَادِه تهاب الخنا والنقصَ في كل موطن ... وقلبٌ يُقَوِّيها بشِدةِ آدِهِ (¬2) وإني لأكسو الخِلَّ حُلَّةَ سُنْدُسٍ ... إذا ما كساني من ثياب حِدَادِه وكائِن يَغِيظُ المرَءَ ظنُّ حبيبِهِ ... به السوءَ بعضُ الظنِّ إثمٌ فعادِهِ (¬3) * * * ¬

_ (¬1) " السابق " ص (205 - 206) (¬2) آدَ يَئيد أيْدًا: اشْتَدَّ وقَوِيَ. (¬3) (ترجمة الشيخ " محمد الأمين الشنقيطي ") ص (206 - 207).

الفصل السادس

الفصل السادس كيف التوبة من الغيبة؟ قال الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى: " التوبة هي الندم على ما مضى من المعاصي والذنوب، والعزم على تركها دائمًا لله عز وجل، لا لأجل نفع الدنيا أو أذى (¬1)، وأن لا تكون عن إكراه أو إلجاء، بل اختيارًا حال التكليف " (¬2). اعلم وفقك الله -أنه يجب على من تدنس بالغيبة أن يبادر (¬3) بالتوبة إلى الله تعالي، وشروطها أربعة: الأول: أن يقلع المغتابُ فورًا، ويكف عن غيبة أخيه، فالتوبة مع مباشرة ¬

_ (¬1) وإن كفَّ حياءً من الناس؛ لم تصح توبته، ولا تكتب له حسنة، أفاده ابن مفلح في " الآداب الشرعية " (85/ 1). (¬2) " الآداب الشرعية والمنح المرعية " (1/ 84). (¬3) اعلم -وفقني الله وإياك لمرضاته- أن (المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها؛ عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة) أفاده ابن القيم رحمه الله وزاد: (وقلَّ أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده: أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة، ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة، مما يعلم من ذنوبه، ومما لا يعلم، فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنًا من العلم، فإنه عاص بترك العلم والعمل، فالمعصية، في حقه أشد)، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: " وأستغفرك لما لا أعلم "، وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو في صلاته: " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإِسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني " الحديث، انظر: " مدارج السالكين " (1/ 272 - 273).

الذنب- مستحيلة. الثاني: أن يندم على فعلها، قال - صلى الله عليه وسلم -: " الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له " (¬1)، فلا تتحقق التوبة إلا بالندم؛ لأن من لم يندم على القبيح؛ فذلك دليل على رضاه به، وإصراره عليه. قال الشاعر: متى ينتهي عن سيئ مَن أتى به ... إذا لم يكن منه عليه تندُّمُ الثالث: أن يعزم على أن لا يعود إلى هذه المعصية أبدًا، قال الحسن البصري في تعريف التوبة النصوح: " ندم بالقلب، واستغفار باللسان (¬2)، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود ". وحكى البغوي عن عمر وأبيّ ومعاذ رضي الله عنهم: " التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن في الضَّرْع " (¬3). الرابع: أن يتحلل ممن اغتابه، ويطلب عفوه عنها، وإبراءه منها، وذلك لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لَتُؤدُّن الحقوق إِلى أهلها يوم القيامة , حتى يُقادَ للشاة الجَلْحاء من الشاة القرناء " (¬4). ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي سعيد الأنصاري: أبو نعيم في " الحلية " (10/ 398)، وحسنه في " صحيح الجامع " (6/ 38). (¬2) أما الاستغقار باللسان، مع إصرار القلب والجوارح، فلا يجلب الغفران، بل هو " توبة الكذابين "، وانظر: " الآداب الشرعية " لابن مفلح (1/ 84). (¬3) " الآداب الشرعية والمنح المرعية " (1/ 86). (¬4) رواه مسلم رقم (2582)، والترمذي رقم (2422)، والجلحاء: التي لا قرن لها.

وعنه رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإِنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإِن لم يكن له حسنات، أُخِذ من سيئات أخيه فطُرحت عليه " (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إِن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإِن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أخِذَ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم يُطرح في النار " (¬2). وقد اختلف العلماء في هذا الشرط الأخير، وهاك طرفاً من أقوالهم في ذلك: قال النووي رحمه الله: " يجب على المغتاب التوبة بهذه الأمور الأربعة، لأن الغيبة حق آدمي، ولابد من استحلاله ممن اغتابه " (¬3). و (ذكر الشافعية وجهين في كونه هل يكفيه أن يقول: " قد اغتبتك، فاجعلني في حِلٍّ "، أو لا بد أن يبين له ما اغتاب به؟ الوجه الأول: يشترط بيانه، فإن أبرأه من غير بيانه لم يصح، كما لو أبرأه عن مال مجهول. ¬

_ (¬1) رواه البخاري رقم (6534) (11/ 395 - فتح)، والترمذي رقم (2421). (¬2) رواه مسلم رقم (2581)، والترمذي رقم (2420). (¬3) " الأذكار " ص (297).

والثاني: لا يُشترط، لأن هذا مما يُتسامح فيه، فلا يشترط علمه بخلاف المال. والأول أظهر، لأن الإنسان قد يسمح بالعفو عن غيبة دون غيبة، فإن كان صاحب الغيبة ميتًا أو غائبًا، فقد تعذر تحصيل البراءة منها، لكن قال العلماء: ينبغي أن يكثر من الاستغفار له والدعاء، ويكثر من الحسنات، وهو قول الحسن في الاقتصار على الاستغفار دون الاستحلال. والدليل على ذلك ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كفارة من اغتبتَ أن تستغفر له " (¬1). وقال مجاهد: " كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه، وتدعو له بخير " (¬2). وصحح الغزالي قول عطاء في جواب من سأله عن التوبة من الغيبة، وهو: أن تمشي إلى صاحبك، فتقول: " كذبتُ فيما قلتُ وظلمتك وأسأت، فإن شئت أخذت بحقك، وإن شئت عفوت " (¬3). وأما قول القائل: (العِرض لا عوض له، فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال "، فكلام ضعيف، إذ قد وجب في العِرض حد القذف، وتثبت المطالبة به، بل في الحديث الصحيح ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إِن كان له ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في " الصمت " رقم (291)، وضعفه العراقي في " المغني " (3/ 150)، وانظر: " الحاوي " للسيوطي (1/ 171). (¬2) " السابق " رقم (292)، وإسناده ضعيف. (¬3) " السابق " رقم (293) بسنده عن عطاء بن أبي رباح: (أنه سئل عن التوبة من الفِرْية؟ قال: ... ) فذكره، وإسناده ضعيف.

عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإِن لم تكن له حسنات، أخذت من سيئات صاحبه فحمل عليه " (¬1)، وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى: إنها طويلة الذيل: " قد اغتبتيها، فاستحليها " (¬2)، فإذن لابد من الاستحلال إن قدر عليه، فإن كان غائبًا أو ميتًا؛ فينبغي أن يكثر الاستغفار والدعاء، ويكثر من الحسنات) (¬3) اهـ. وقال الإمام القرطبي رحمه الله: ( .. هل يستحل المغتاب؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: " ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه، واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله، ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلِمة يستحلها منه، وإنما الظلمة ما يكون منه البدل والعِوض في المال والبدن ". وقالت فرقة: " هي مَظلمة، كفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه "، واحتجت بحديث يُروى عن الحسن قال: " كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ". وقالت فرقة: " هي مظلمة، وعليه الاستحلال منها "، واحتجت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت لأخيه عنده مظلمة في عِرض أو مال؛ فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، يؤخذ من حسناته، فإِن لم يكن له حسنات؛ أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته " خرجه البخاري ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب المظالم (5/ 101 - فتح). (¬2) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 13 3) رقم (6768) ولفظه: عن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله قالت: (دخلتُ على عائشة، وعندها أعرابية، فخرجت الأعرابية تجرُّ ذيلها، فقالت ابنةُ طلحة: ما أطول ذيلها!، فقالت لها عائشة: " اغتبتيها، أدركيها تستغفر لك "). (¬3) انظر: " الأذكار النووية " ص (297)، و " الموسوعة الفقهية " (31/ 338 - 339).

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت له مظلمة لأخيه من عِرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إِن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإِن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه " ... وقد رُوي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها، فلما قامت قالت امرأة: " ما أطول ذيلها! "، فقالت لها عائشة: " لقد اغتبتيها، فاستحليها "، فدلت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: " إنما الغيبة في المال والبدن "؛ فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحدِّ حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العِرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من بهت مؤمنًا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخَبال " (¬1)، وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: " إنها مظلمة؛ وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها "، فقد ناقضَ إذ سمَّاها مظلمة، ثم قال: " كفارتها أن يستغفر لصاحبها "، لأن قوله: " مظلمة " تثبت ظُلامة المظلوم؛ فإذا ثبتت الظلامة؛ لم يُزلها عن الظالم إلا إحلالُ المظلوم له. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه الطبراني في " الكبير " (12/ 388)، ولفظه: " ومن بهت مؤمناً أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال يوم القيامة، حتى يخرج مما قال، وليس بخارج "، وقال الهيثمي في " المجمع " (10/ 91): (رواه الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، ورجالهما رجال الصحيح، غير محمد بن منصور الطوسي، وهو ثقة). اهـ.

وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت له عند أخيه مظلمة في عِرض أو مال فليتحللها منه ". وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، ورأى أنه لا يُحِلُّ له ما حرَّم الله عليه؛ منهم سعيد بن المسيب، قال: " لا أحلل من ظلمني "، وقيل لابن سيرين: " يا أبا بكر! هذا رجل سألك أن تحله من مظلمة هي لك عنده "؛ فقال: " إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حَرَّم الغيبة عليه، وما كنت لأحِلَّ ما حرَّم الله عليه أبدًا " (¬1)، وخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على التحليل، وهو الحجة والمبيِّن، والتحليل يدل على الرحمة، وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] (¬2) اهـ. وحكى الإمام ابن مفلح رحمه الله القول بوجوب استحلال المغتاب، ثم قال: ( .. وقيل: إن علم به المظلوم؛ وإلا دعا له واستغفر ولم يُعلمه، وذكر الشيخ تقي الدين أنه قول الأكثرين، وذكر غير واحد: إن تاب من قذف إنسان ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي رحمه الله معلقًا على ما جاء عن سعيد بن المسيب وابن سيرين: هذا (ضعيف أو غلط، فإن المبرِّئ لا يُحلل محرمًا، وإنما يُسقط حقًّا ثبت له، وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على استحباب العفو، وإسقاط الحقوق المختصة بالمسقِط، أو يحمل كلام ابن سيرين على: " أني لا أبيح غيبتي أبدًا "، وهذا صحيح، فإن الإنسان لو قال: أبحت عرضي لمن اغتابني " لم يَصِرْ مباحًا، بل يحرم على كل أحد غيبة غيره، وأما الحديث: " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان إِذا خرج من بيته قال: " إِني تصدقت بعرضي على الناس " " فمعناه: لا أطلب مظلمتي ممن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا ينفع في إسقاط مظلمة كانت موجودة قبل الإبراء، فأما ما يحدث بعده فلابد من إبراء جديد بعدها، وبالله التوفيق) اهـ. من " الأذكار " ص (298)، وحديث أبي ضمضم المذكور رواه أبو داود برقم (4886)، (4887) عن قتادة، وقال الألباني: " صحيح مقطوع " كما في " صحيح أبي داود " (3/ 924). (¬2) " الجامع لأحكام القرآن " (16/ 337 - 339).

او غيبته -قبل علمه به- هل يُشترط لتوبته إعلامه والتحليل منه؟ على روايتين، واختار القاضي أنه لا يلزمه، لما روى أبو محمد الخلال بإسناده عن أنس مرفوعًا: " من اغتاب رجلاً ثم استغفر له من بعد غفر له غيبته " (¬1)، وبإسناده عن أنس مرفوعًا: " كفارة من اغتاب أن يستغفره له " (¬2)، ولأن في إعلامه إدخالَ غمًّ علمه، قال القاضي: فلم يجز ذلك ... ) إلى أن قال: ( .. وقال ابن عبد البر في كتاب " بهجة المجالس ": قال حذيفة رضي الله عنه: " كفارة من اغتبته أن تستغفر له "، وقال عبد الله بن المبارك لسفيان بن عيينة: " التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته "، فقال سفيان: " بل تستغفره مما قلت فيه "، فقال ابن المبارك: " لا تؤذوه مرتين "، ومثل قول ابن المبارك اختاره الشيخ تقي الدين ابن الصلاح في فتاويه (¬3) ... ). وقال: (واختار أصحابنا أنه لا يُعلمه بل يدعو له دعاءً يكون إحسانًا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثر، ومن هذا الباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيما مسلم شتمته، أو لعنته، أو سببته، أو جلدته، فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة ¬

_ (¬1) أوردهما ابن الجوزي في " الموضوعات "، ووافقه الألباني في " الضعيفة " برقمي (1520)، (1519). (¬2) أوردهما ابن الجوزي في " الموضوعات "، ووافقه الألباني في " الضعيفة " برقمي (1520)، (1519). (¬3) فقد قال رحمه الله في جواب سؤال عن حديث: " كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ": (الحديث وإن لم نعرف له إسنادًا يثبت، فمعناه يثبت بالكتاب والسنة المعتمدة، أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} إن كان هذا نزل في الصلوات فهو عام، والعام لا يختص بالسبب، وقد بين ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه: " أتبع السيئة الحسنة تمحها "، أما السنة: فمنها هذا، ومنها حديث حذيفة أنه شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذرب لسانه على أهله، فقال له: " أين أنت من الاستغفار؟ "، وذرب اللسان على الغير أخو الغيبة، فإن كلاهما أو كلاً منهما جنايات اللسان على الغير ... ) اهـ. من " فتاوى ابن الصلاح " ص (32).

تقربه بها إِليك يوم القيامة (¬1) "). (وهذا -أي الدعاء له- أحسن من إعلامه، فإن في إعلامه زيادة إيذاء له، فإنَّ تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم، ثم قد يكون ذلك سبب العدوان على الظالم أولاً، إذ النفوس لا تقف غالبًا عند العدل والإنصاف، فتبصر هذا، ففي إعلامه هذان الفسادان. وفيه مفسدة ثالثة -ولو كانت بحق- وهو زوال ما بينهما من كمال الإلف والمحبة، أو تجدد القطيعة والبغضة، والله تعالى أمر بالجماعة، ونهى عن الفرقة، وهذه المفسدة قد تعظم في بعض المواضع أكثر من بعض، وليس في إعلامه فائدة إلا تمكينه من استيفاء حقه كما لو علم)، ثم بيَّن أن حقه هنا هو العقوبة أو الأخذ من الحسنات ما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت عنده مظلمة لأخيه " الحديث. ثم قال: (وإذا كان فيعطيه في الدنيا حسنة بدل الحسنة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، فالدعاء له والاستغفار إحسان إليه، وكذلك الثناء عليه بدل الذم له، وهذا عام فيمن طعن علي شخص أو لعنه أو تكلم بما يؤذيه أمرًا أو خبرًا، بطريق الإفتاء أو التحضيض أو غير ذلك، فإن أعمال اللسان أعظم من أعمال اليد حيًا أو ميتًا، حتى لو كان ذلك بتأويل أو شبهة ثم بان له الخطأ، فإن كفارة ذلك أن يقابل الإساءة إليه بالإحسان، بالشهادة له بما فيه من الخير، والشفاعة له بالدعاء، فيكون الثناء بدل الطعن واللعن، ويدخل في هذا أنواع ¬

_ (¬1) رواه مسلم رقم (2603) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: (يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي، فقلت: " إِنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ").

الطعن واللعن الجاري بتأويل سائغ أو غير سائغ , كالتكفير والتفسيق ونحو ذلك) اهـ (¬1). وقال شيخ الإسلام، الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (وإن كانت المظلمة بقدح فيه، بغيبة أو قذف: فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه؟ أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه، ولا يشترط تعيينه، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام مَنْ قذفه واغتابه؟ على ثلاثة أقوال، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف، هل يشترط في توبة القاذف: إعلام المقذوف، والتحلل منه أم لا؟ ويخرَّج عليهما توبة المغتاب والشاتم. والمعروف في مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك: اشتراط الإعلام والتحلل، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم. والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي: فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه. ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول؛ شَرَطَ إعلامه بعينه، لا سيما إذا كان مَنْ عليه الحق عارفًا بقدره، فلابد من إعلام مستحقه به، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره. واحتجوا بالحديث المذكور، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان لأخيه عنده مظلمة -من مال أو عرض- فليتحلله اليوم ". قالوا: ولأن في هذه الجناية حقين: حقًا لله، وحقًا للآدمي، فالتوبة منها ¬

_ (¬1) " الآداب الشرعية والمنح المرعية " (1/ 62 - 65) باختصار.

بتحلل الآدمي لأجل حقه، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه. قالوا: ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه، إن شاء اقتص، وإن شاء عفا، وكذلك توبة قاطع الطريق. والقول الآخر: إنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّل غيبته بمدحه والثناء عليه، وذكر محاسنه، وقذفَه بذكر عِفَّته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه. وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، قدس الله روحه. واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة؛ فإنه لا يريده إلا أذىً وحنقًا غمًا، وقد كان مستريحًا قبل سماعه، فإذا سمعه؛ ربما لم يصبر على حمله، وأورثته ضررًا في نفسه أو بدنه، كما قال الشاعر: فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يُقَل وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه، فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به. قالوا: وربما كان إعلامه به سببًا للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصفو له أبدًا، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولِّدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم والتعاطف والتحابب. قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين: أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه

محض حَقّه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس. والثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تُهِج منه غضبًا ولا عداوة، بل ربما سَرَّه ذلك، وفرح به، بخلاف إعلامه بما مَزَّق به عرضه طول عمره ليلاً ونهارًا، من أنواع القذف والغيبة والهجو، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت، والله أعلم) اهـ (¬1). وقال رحمه الله في موضع آخر: (وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب، أم لا بد من إعلامه وتحلله؟) قال: (والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه، بل يكفيه الاستغفار له، وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره) قال. (والذين قالوا: " لا بد من إعلامه " جعلوا الغيبة كالحقوق المالية، والفرق بينهما ظاهر، فإن في الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه، فإن شاء أخذها، وإن شاء تصدق بها، وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك، ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصد الشارع، فإنه يوغر صدره، ويؤذيه إذا سمع ما رُمي به، ولعله يهيج عداوته، ولا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيله فالشارع الحكيم لا يبيحه، ولا يجيزه فضلاً عن أن يوجبه ويأمر به، ومدار الشريعة على تعطيل المفاسد وتقليلها، لا على تحصيلها وتكميلها) (¬2) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " مدارج السالكين " (1/ 290 - 291). (¬2) نقله عنه السفاريني في " غذاء الألباب " (1/ 93).

استحباب الإبراء من الغيبة

استحباب الإبراء من الغيبة ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه: (يُستحب لصاحب الغيبة أن يبرئ المغتاب منها، ولا يجب عليه ذلك؛ لأنه تبرع وإسقاط حق، فكان إلى خيرته (¬1)، ولكن يستحب له استحبابًا مؤكدًا الإبراءُ ليخلِّص أخاه المسلم من وبال هذه المعصية، ويفوز هو بعظيم ثواب الله تعالى في العفو ومحبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وطريقه في تطييب نفسه بالعفو أن يذكِّر نفسه أن هذا الأمر قد وقع، ولا سبيل إلى رفعه، فلا ينبغي أن أفوّت ثوابه، وخلاصَ أخي المسلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199]، الآية، والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " والله في عون العبد ما كان ¬

_ (¬1) وقد سُئل الإمام ابن الصلاح رحمه الله: عن رجل اغتاب رجلاً مسلمًا، وجاء إليه، وقال له: " قد اغتبتك، وقلت عنك: كذا، وكذا، اجعلني في حل "، فما فعل بجعله في حل، هل هو مخطيء بكونه لم يجعله في حل؟ وهذا الذي اغتابه بقي عليه تبعة منه أم لا؟ فأجاب رحمه الله: (ليس عليه أن يجعله في حل، ولكن حرم نفسه فائدة العفو، ومثوبة إسعاف السائل، والتبعةُ باقية على المغتاب، وينبغي أن يكثر من أن يقول: " اللهم اغفر لي، ولمن اغتبته، ولمن ظلمته "، وقد رُوي في حديث لا أعلم يقوى إسناده: " كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته "، وإن يثبت؛ فله أصل، والله أعلم) اهـ. من " فتاوى ابن الصلاح " ص (31).

العبد فى عون أخيه " (¬1)، وقد قال الشافعي رحمه الله: " من استُرضي فلم يَرْضَ فهو شيطان "، وقد أنشد المتقدمون: قيل لي: قد أساء إليك فلان ... ومُقام الفتى على الذلِّ عارُ قلت: قد جاءنا وأحدث عذرًا ... دية الذنب عندنا الاعتذار فهذا الذي ذكرنا من الحث على الإبراء عن الغيبة هو الصواب) (¬2) اهـ. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مالٌ قطُّ من صدقة، فتصدَّقوا، ولا عفا رجلٌ عن مظلمة ظُلِمها إِلا زاده الله تعالى بها عِزًا، فاعفوا يَزِدْكم الله عِزًا، ولا فتح رجل على نفسه بابَ مسألةٍ يسألُ الناسَ، إِلا فتح الله عليه بابَ فقر " (¬3). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ارحموا تُرْحَموا، واغفروا يغفر الله لكم، وويل لأقماع (¬4) القول، وويل للمُصِرِّين، الذين يُصِرون على ما فعلوا وهم يعلمون " (¬5). وعن جرير رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لا يَرحم لا يُرحم، ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) " الأذكار " ص (297 - 298). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في " ذم الغضب "، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (3/ 62). (¬4) الأقماع (جمع " قِمَع " الإناء الذي يجعل في رأس الظرف ليُملأ بالمائع، شبه استماع الذين يستمعون القول، ولا يعونه، ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئًا مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها مجتازًا كما يمر الشراب في القمع) أفاده المناوي في " الفيض " (1/ 474). (¬5) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (380)، وأحمد (2/ 165، 219)، وقال المنذري في " الترغيب ": (رواه أحمد بإسناد جيد) اهـ. (3/ 155)، وكلذلك قال العراقي كما نقله عنه المناوي في " الفيض " (1/ 475).

ومن لا يغفر لا يُغفر له، ومن لا يتب لا يتب الله عليه " (¬1). قال منصور الفقيه: وقال نبينا فيما رواه ... عن الرحمن في علم الغيوب مُحالٌ أن ينالَ العفوَ من لا ... يَمُنُّ به على أهل الذنوب (¬2) وعن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو مرفوعًا: " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " (¬3). وقال إبراهيم التيمي: " إن الرجل ليظلمني، فارحمه " (¬4). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: " يا عقبة بن عامر! صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمَّن ظلمك " (¬5). وإبراء المغتاب إذا جاء نادمًا معتذرًا يشمله عموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أقال مسلمًا، أقال الله تعالى عثرته " (¬6). ونقل المناوي عن ابن عبد السلام قوله: " إقالة النادم من الإحسان المأمور ¬

_ (¬1) أخرج الجملة الأولى الشيخان، والطبراني في الكبير (12/ 403)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (483). (¬2) " بهجة المجالس " (1/ 372). (¬3) رواه أبو داود (1941)، والترمذي (1924) وقال: " حسن صحيح "، وأحمد (2/ 160)، والحاكم (4/ 159)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الخرقي، والعراقي، وابن ناصر الدين الدمشقي، كما قاله الألباني في " الصحيحة " رقم (925). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (5/ 61). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 158)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (891). (¬6) رواه أبو داود (3460)، وابن ماجه (2199)، والبيهقي (6/ 27)، وصححه ابن حبان (1103)، والحاكم (2/ 45)، وابن دقيق العيد، وابن حزم.

به في القرآن " (¬1). والجزاء من جنس العمل، قال الشاعر: أقِلنِي أقالك من لم يَزَلْ ... يَقيكَ ويصرفُ عنك الردى وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يَجزيءُ بالسيئة، ولكن يعفو، ويصفح " (¬2). وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال. " لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليَّ في أذني الأخرى؛ لقبلت عذره " (¬3). العبد يذنب والمولى يقومه ... والعبد يجهل والمولى يعلِّمه إني ندمت على ما كان من زللي ... وزلة المرء يمحوها تندمه وروى الخلال عن الحسن قال: " أفضل أخلاق المؤمن العفو " (¬4). وقال الإمام أحمد بعد المحنة: (كل من ذكرني ففي حِل إلا مبتدعًا، وقد جعلت أبا إسحاق -يعني المعتصم- في حل، ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالعفو في قصة مِسْطح، قال أبو عبد الله: " وما ينفعك أن يعذِّب الله أخاك المسلم ¬

_ (¬1) " فيض القدير " (6/ 79). (¬2) رواه الترمذي رقم (2017)، وقال: " حسن صحيح "، وفي الشمائل رقم (298)، والطيالسي (2423)، وأحمد (6/ 174، 236، 246)، وصححه الألباني في " مختصر الشمائل " ص (182). (¬3) " الآداب الشرعية " لابن مفلح (1/ 302). (¬4) " السابق " (1/ 71).

في سببك؟ " (¬1). وقال الأحنف: " إن اعتذر إليك معتذر؛ تلقَّه بالبشر ". وقال عبد القاهر بن طاهر التميمي: يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترفْ ... ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف أبشر بقول الله في آياته ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (¬2) وقال الخليفة المنتصر بالله لما عفا عن أبي العَمرَّد الشاري: " لذة العفو أعذب من لذة التشَفِّي، وأقبح فعال المقتدر الانتقام " (¬3). وقال محمد بن أبي حاتم: سمعته -أي الإمام البخاري- يقول لأبي معشر الضرير: " اجعلني في حِلّ يا أبا معشر "، فقال: " من أي شيء؟ "، قال: " رويتُ يومًا حديثًا فنظرتُ إليك، وقد أُعجِبتَ به، وأنت تحرك رأسك ويدك، فتبسَّمتُ من ذلك "، قال: " أنت في حِلٍّ، رحَمك الله يا أبا عبد الله " (¬4). وقال عبد الله بن محمد بن زياد: كنت عن أحمد بن حنبل، فقال له رجل: " يا أبا عبد الله! قد اغتبتك، فاجعلني في حِلٍّ " , قال: " أنت في حل إن لم تعد "، فقلت له: " أتجعله في حِلٍّ يا أبا عبد الله، وقد اغتابك؟ " قال: " ألم ترني اشترطتُ عليه؟! " (¬5). ¬

_ (¬1) " نزهة الفضلاء " ص (828 - 829). (¬2) " الحاوي " للسيوطي (1/ 277). (¬3) " نزهة الفضلاء " (867). (¬4) " السابق " ص (904). (¬5) " حلية الأولياء " (9/ 174).

لطيفة

لطيفة كتب القاضي شرف الدين ابن المقري، صاحب " الروض " إلى أبيه، وقد قطع نفقته: لا تَقْطَعَنْ عادةَ بِرٍّ ولا ... تجعلْ عتابَ المرء في رزْقه فإن أمرَ الإفك من مِسْطحٍ (¬1) ... يَحُطُّ قَدْرَ النجَمِ مِن أَفْقَه وقد جرى منه الذي قَد جرى ... وعُوتبَ الصِّدِّيقُ في حَقِّه فأجابه والده مبيناً له سبب ذلك المنع: قد يُمْنَعُ المُضْطَرُّ من مَيْتةٍ ... إذا عَصَى بالسَّيْر في طُرْقه (¬2) لأنه يَقْوَى علىَ توبةٍ ... تُوجبُ إيصالَاً إلى رِزْقَه لو لم يَتُب من ذَنْبِهِ مِسْطَحٌ (¬3) ... ما عُوتِبَ الصِّدِّيقُ (¬4) في حَقِّه (¬5) ¬

(¬1) هو مسطح بن أثاثة، وأمه بنت خالة أبي بكر، أسلمت، وأسلم أبوها قديمَا، وكان أبو بكر يَمُونه لقرابته منه، فلما خاض مع أهل الإفك في أمر عائشة رضي الله عنها حِلف أبو بكر أن لا ينفعه، فنزلت: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22]، فعاد أبو بكر إلى الإنفاق عليه، ثبت ذلك في " الصحيحين " في حديث عائشة الطويل في الإفك. (¬2) يشير بهذا إلى مذهب الشافعية والحنابلة، وهو رواية عن مالك، الذين يرون أن الرخص لا تناط بالمعاصي، فمن أنشأ سفرًا يعتبر في ذاته معصية كالمرأة الناشز، والمسافر لظلم الناس، لا يباح له الاستفادة من الرخص الشرعية كيلا يعان على المعصية، فلا تحل الميتة للمسافر العاصي بسفره إذا اضطر إلى أكلها لحفظ حياته، إلا أن يتوب ويقلع عن المعصية فيحل له الأكل منها، وذلك لأنه قادر على استباحة الميتة بالتوبة. (¬3) وذلك أن أبا بكر لما حلف أن لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبدًا، جاء مسطح، فاعتذر، وقال: " إنما كنت أغشى مجالس حسان، فأسمع، ولا أقول ". (¬4) وذلك حين نزل قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] وفيه ترغيب عظيم في العفو، ووعد كريم بمقابلته، كأنه قيل: {أَلا تحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}؟ فهذا من موجباته، وصح أن أبا بكر رضي الله عنه لما سمع الآية قال: " بلى والله يا ربنا! إنا لنحب أن تغفر لنا "، وأعاد له نفقته. (¬5) " محاسن التأويل " (12/ 4500).

كيف التخلص من داء الغيبة؟

كيف التخلص من داء الغيبة؟ لو كانت الأخلاقُ صفاتٍ لازمةً، لا يمكن الإنسانَ تغييرُها ولا تبديلها ولا تهذيبها، لما أمر الشرع بالتخلي عن الأخلاق المرذولة، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، قال تعالى: ({لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فلا تكليف إلا بمقدور، ولا تكليف بمستحيل، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس 9: 10]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقَّه " (¬1)، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل " (¬2)، ومن هذا الجهاد جهاد " شهوة " الكلام؛ وذلك ببذل أقصى الوسع وغاية الجهد لصيانة اللسان، وكفه عن أذى الخلق. وقد مر بك في الفصول السابقة كيف يعالج داء الغيبة بوسائل نعيد إجمالها والزيادة عليها، فمن هذه الأسباب: الأول: علاج الأسباب التي تفضي إِلى الغيبة: لأن علاج كل علة بمضادة أسبابها، ومن أسباب الغيبة: 1 - الحسد: الذي يدعو صاحبه إلى التشفي والانتقام بالقدح في الآخرين وانتقاصهم. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (9/ 127)، وحسنَّه الألباني في " الصحيحة " رقم (342). (¬2) تقدم تخريجه ص (67).

وعلاجه: بأن يعلم أن الحسد من أخلاق اللئام، يتنزه عنه الكرام، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإِيمان والحسد " (¬1)، ويعلم أن الحسد سوء أدب مع الله، واعتراض على قضائه، وأنه بالغيبة لا يضر إلا نفسه، أما المحسود فهو مظلوم، ثم يستحضر ثواب الإمساك عن الشر والغيبة، ويستبدل ذلك بالدعاء له بالبركة. 2 - المجاملة: بأن يوافق جلساءه، ويشاركهم الغيبة كيلا يستثقلوه إذا هو أنكر عليهم، فيحسب ذلك من حسن المعاشرة. وعلاج هذا السبب بأن يستحضر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله الناس، ومن أسخط الله برضى الناس؛ وكله الله إِلى الناس " (¬2). 3 - إِرادة المغتاب أن يمدح نفسه: عن طريق تنقيص غيره، كأن يقول: " فهمه ركيك .. جاهل .. يعمل للدنيا " .. وعلاج ذلك بأن يتذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم " (¬3). ويعلم أنه ما دفعه إلى ذلك إلا العُجب والغرور، عن أنس رضي الله عنه: " لو لم تكونوا تذنبون، لَخِفْتُ عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجبَ العجبَ " (¬4). ¬

_ (¬1) عجز حديث رواه النسائي (6/ 12، 13)، وحسنه الألباني في " صحيح النسائي " رقم (2912). (¬2) رواه ابن حبان (1/ 511) رقم (277)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (2311) (392/ 5). (¬3) قطعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه مسلم رقم (2564). (¬4) أخرجه العقيلي (171)، وغيره، وقال المنذري: (رواه البزار بإسناد جيد) كما في " فيض القدير " (5/ 331)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (658).

الثاني: الاشتغال بعيوب نفسه عن عيوب الناس

4 - المدح: فيذكر عيوب الناس، أو يحاكي أفعالهم، ليُضْحِكَ جلساءه عليهم، قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: (وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح؛ لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء) اهـ (¬1). وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: لي صاحبٌ ليس يخلو ... لسانُه عن جراح يجيد تمزيق عِرضي ... على سبيل المزاح (¬2) 5 - التنافس على الدنيا: فيذم زملاءه لدى المسئولين ليرتفع في نظرهم أو يترقى إلى منصب أعلى. 6 - الحزبية والعصبية الجاهلية: بين بعض الجماعات العاملة في ساحة الدعوة، وهو " جَرَب الجماعات الإسلامية " وأخطر ما فيها اختفاء الغيبة والنميمة وراء دعوى " مصلحة الدعوة "، وتصوير الخوض في أعراض المخالفين على أنه " عبادة " يُتقرب بها إلى الله عز وجل! 7 - الفراغ: وما ينشأ عنه من وحشة وسآمة وملل، فيستهلك وقته بالغيبة وتتبع عورات الناس، وعلاجُه في قول الحسن رحمه الله: " نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل ". الثاني: الاشتغال بعيوب نفسه عن عيوب الناس: أن يتدبر في نفسه، قإن وجد فيها عيبًا اشتغل بعيب نفسه، ومهما وجد ¬

_ (¬1) " بهجة المجالس " (2/ 569). (¬2) " السابق " (2/ 270 - 271).

الثالث: مجاهدة النفس على لزوم الصمت

العبد عيبًا فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه، وهذا إن كان ذلك عيبًا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمرًا خِلْقيًا فالذم له ذمٌ لخالقه، فإن من ذم صنعة فقد ذمَّ صانعها، قال - صلى الله عليه وسلم -: " كل خَلَق الله عز وجل حسن " (¬1)، وقال رجل لحكيم: " يا قبيح الوجه! "، فقال: " ما كان خَلْقُ وجهي إليَّ فأحسنه ". وإذا لم يجد العبد عيبًا في نفسه فليشكر الله تعالى، ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم الذنوب، بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم العيوب. وليعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له، فينبغي أن " يكره لأخيه ما يكره لنفسه " (¬2). الثالث: مجاهدة النفس على لزوم الصمت: والاقتصار على الكلام بذكر الله، وما ترجحت مصلحته، والمحاسبة الدائمة للنفس على ذلك. الرابع: الفرار من مجالس الغيبة: واعتزال المغتابين، ولزوم مجالس الصالحين المتورعين عن الغيبة، المتميزين بصيانة ألسنتهم، فإن تعذر وجودهم، فعليه أن يدمن مطالعة أخبار السلف الصالح، ويقتدي بهم، ويكرر بين الحين والآخر مطالعة نصوص الوحيين في ¬

_ (¬1) قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد (4/ 390)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (1441). (¬2) وهذا مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأحيه ما يحب لنفسه "، رواه البخاري (1/ 57 - فتح)، ومسلم رقم (71)، والترمذي رقم (2515)، وغيرهم.

الخامس: استحضار حال المغتاب يوم القيامة

الترهيب من الغيبة، والترغيب في حفظ اللسان، قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. الخامس: استحضار حال المغتاب يوم القيامة: وكيف تُحبطُ الغيبة حسناتِهِ، وتُذْهبها أحوجَ ما يكون إليها، حيث تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرضه، فإن لم تكن له حسنات؛ نُقل إليه من سيئات خصمه، فأدنى عواقب الغيبة أن تنقص من ثواب أعماله، وذلك بعد المخاصمة، والمطالبة، والسؤال والجواب، والحساب. قال الشاعر: وأعقلُ الناسِ من لم يرتكب سببًا ... حتى يُفَكِّرَ ما تجني عواقبه آخر: وأحزم الناسِ من لو مات من ظمإ ... لا يقرب الوِرْدَ حتى يعرفَ الصَّدَرا قال رجل للحسن: " بلغني أنك تغتابني "، فقال: " لم يبلغ قدرك عندي أن أحكِّمك في حسناتي " (¬1). وقال رجل للفضيل بن عياض: " إن فلانًا يغتابني "، فقال: " قد جلب لك الخير جلبًا " (¬2). وقال عبد الرحمن بن مهدي: " لولا أني أكره أن يُعْصى الله، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المِصْر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في ¬

_ (¬1) " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (16/ 336). (¬2) " حلية الأولياء " (8/ 108).

صحيفته لم يعمل بها؟! " (¬1). وروي عن الحسن أن رجلاً قال: " إن فلانًا قد اغتابك "، فبعث إليه طبقًا من الرطب، وقال: " بلغني أنك أهديت إليَّ حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام " (¬2). وكتب أشهب بن عبد العزيز إلى رجل كان يقع فيه: " أما بعد: فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، واعلم أني أرتع في حسناتك ما ترعى الشاة الخضر، والسلام " (¬3). وذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: " يا مكذب! بخلت بدنياك على أصدقائك، وسخوت بآخرتك على أعدائك، فلا أنت فيما بخلت به معذور، ولا أنت فيما سخوت به محمود " (¬4). عن جعفر بن محمد قال: " إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك، فلا تغتم، فإنه إن كان كما يقول كانت عقوبة عُجِّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها " (¬5). وقيل لعمرو بن عبيد: " لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك "، قال: " إياه فارحموا " (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في " الشعب " (5/ 305). (¬2) " تنبيه الغافلين " (1/ 176). (¬3) " ترتيب المدارك " (1/ 450). (¬4) " تنبيه الغافلين " (1/ 177). (¬5) " سير أعلام النبلاء " (6/ 264). (¬6) " الجامع لأحكام القرآن " (16/ 336).

السادس: شكر نعمة اللسان

وقال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: " لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ؛ لأنهما أحق بحسناتي ". وقال أيضاً: (قلت لسفيان الثوري: " ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة! ما سمعته يغتاب عدوًا له "، قال: " والله هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها " (¬1). فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفًا من ذلك. السادس: شكر نعمة اللسان: بأن يحمد الله على نعمة النطق التي حُرمها غيره، ويعلم أن من شكرها استعمالها في مرضاة المنعم عليه بها، الذي أسداها إليه ليعبده بها ويذكره ويشكره، لا ليخوض بها في أعراض الناس، ويستطيل بها على خلق الله تعالى، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقال عز وجل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] (¬2). وقيل للحسن: " يا أبا سعيد: من أشد الناس صُراخًا يوم القيامة؟ "، فقال: " رجل رُزق نعمة؛ فاستعان بها على معصية الله ". أنالَكَ رزقَه لتقومَ فيه ... بطاعته وتشكرَ بعضَ حَقِّهْ فلم تشكر لنعمته ولكن ... قَوِيتَ على معاصيه برزقهْ ¬

_ (¬1) " مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة " لأبي المؤيد موفق المكي (1/ 190). (¬2) أي تضعون التكذيب بالقرآن مكان شكر هذه النعمة، كقول القائل: " جعلتَ إحساني إليك إساءة منك إليَّ، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوًا ".

السابع: التفكر في أسماء الله الحسنى

رأى أبو الدرداء امرأة سليطة اللسان، فقال: " لو كانت هذه خرساء؛ لكان خيرًا لها " (¬1). السابع: التفكر في أسماء الله الحسنى: وبخاصة الأسماء التي تستوجب المراقبة والإحسان؛ كالشهيد، والرقيب، والعليم، والسميع، والبصير، والمحيط، والحفيظ، قال حاتم الأصم: " تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتَّ فاذكر علم الله فيك " (¬2). الثامن: المحافظة على الصلوات، والتشبث بالصدق: أما الصلاة؛ فلقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت]: 45، وقد قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن فلاناً يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق! "، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " سينهاه ما تقول " أو قال: " ستمنعه صلاته " (¬3). وأما لزوم الصدق وتحريه، مع تجنب الكذب، فلأن الصدق خير عون على استقامة القلب والجوارح بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق، فإِن الصدق يهدي إِلى البر، وإِن البر يهدي إِلى الجنة .. " (¬4) الحديث. وقال ابن شوذب: سمعت يونس بن عبيد يقول: " خصلتان إذا صلحتا من العبد؛ صَلُحَ ما سواهما: صلاتُه، ولسانُه " (¬5) ¬

_ (¬1) " الصمت " لابن أبي الدنيا ص (89). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (11/ 485). (¬3) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الإمام أحمد (2/ 447)، والطحاوي في " المشكل " (2/ 430)، وصححه ابن حبان (639 - موارد)، وصححه في " المجمع " (2/ 258). (¬4) رواه البخاري (10/ 507) رقم (6094)، ومسلم رقم (2606)، (2607)، وأبو داود رقم (4989)، والترمذي (1972)، واللفظ له. (¬5) " سير أعلام النبلاء " (6/ 293).

التاسع: كثرة ذكر الموت

وعن مبارك بن فَضالة، عن يونس بن عبيد قال: " لا تجد من البر شيئًا واحدًا يتبعه البر كله غيرَ اللسان، فإنك تجد الرجل يكثر الصيام، ويفطر على الحرام، ويقوم الليل، ويشهد بالزور بالنهار "، وذكر أشياء نحو هذا " ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق، فيخالف ذلك عمله أبدًا " (¬1). التاسع: كثرة ذكر الموت: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " (¬2). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أتيت رسول - صلى الله عليه وسلم - عاشر عشرة، فقال رجل من الأنصار: " من أكيس الناس، وأكرم الناس يا رسول الله؟ "، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أكثرهم ذكرًا للموت، وأشدهم له استعدادًا، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة " (¬3). قال الحسن: " ما رأيت عاقلاً قط، إلا أصبته من الموت حذرًا، وعليه حزينًا "، وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كان بين أيديهم جَنازة، وقال أشعث: " كنا ندخل على الحسن، فإنما هو النار، وأمر الآخرة، وذكر الموت ". وكتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: " يا أخي احذر الموت في هذه الدار؛ قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده ". ¬

_ (¬1) " السابق " (6/ 291 - 292). (¬2) رواه الترمذي (6/ 594 - تحفة)، وقال: " حسن غريب "، والنسائي (4/ 4)، وابن ماجه (4258)، وابن حبان (2559، 2562)، والحاكم (4/ 321)، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في " الإرواء " (3/ 145) بشواهده- والهاذم هو القاطع. (¬3) رواه ابن ماجه (4259)، وابن أبي الدنيا، قال العراقي: " إسناده جيد "، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (1385).

وثمرة ذكر الموت أنه يرقق القلب، ويذيب قسوته، ويوقظه من غفلته، فيرجع العبد عن المعاصي، ويخرج من المظالم، ويقبل على الطاعات، ويكثر منها، لئلا يفجأه الموت الذي يقطعه عن أسباب النجاة، ويفوت عليه العمل الصالح، ورُوي عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد عش ما شئت فإِنك ميت، وأحبب من شئت فإِنك مقارقه، واعمل ما شئت فإِنك مجزيّ به " الحديث (¬1). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: (بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ بصر بجماعة، فقال: " على ما اجتمع هؤلاء؟ " قيل: " على قبر يحفرونه "، ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر، فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: " أي إِخواني لمثل هذا اليوم فأعِدّوا " ((¬2). وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: " عظني "، فقال: " اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فجدَّ فيه الآن، وما تكره أن يكون فيك، فدعه الآن ". اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي ... وغداً تموت وتُرفَعُ الأقلامُ وقال أبو حازم سلمة بن دينار: " كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت ". وقد ربط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ذكر الموت "، وبين " حفظ اللسان " كما في ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في " الحلية " (3/ 253)، والحاكم (4/ 324 - 325)، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسَّنه المنذري في " الترغيب " (2/ 11)، والألباني في " الصحيحة " رقم (831). (¬2) رواه ابن ماجه (4195)، والإمام أحمد (4/ 294)، والخطيب في " التاريخ " (1/ 341)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (1751).

قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن جاءه، فقال: " عظني وأوجز "، فقال: " إِذا قمت في صلاتك، فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً " الحديث (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى " (¬2) الحديث. واغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال: " اذكر القطن إذا وُضع على عينيك " (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (4171)، والإمام أحمد (5/ 412)، وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 462)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (401). (¬2) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الإمام أحمد (1/ 387)، والترمذي (2458)، والحاكم (4/ 323)، والطبراني في " الكبير " (3/ 246)، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع " (318/ 1). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (9/ 341).

الباب الثاني

الباب الثاني

الفصل الأول أهمية الأدب وشدة الحاجة إليه

الفصل الأول أهمية الأدب وشدة الحاجة إليه " أدب النفس " ممدوح بكل لسان، ومتزيَّن به في كل مكان، وباق ذكرُه مدى الأزمان، وكل من أعار الوجودَ نظرة البصير؛ علم أن حاجة المرء إلى تأديب نفسه من أهم الحاجات، وإذا كان الرجال بالأعمال، فإن الأعمال هي آثار الآداب والأخلاق والصفات، وبذلك يتفاضل الناس، وليس بالعلوم والإجازات والشهادات فحسب، فان العلم آلة تديرها الأخلاق، وتسيرها الآداب. وأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والآداب رشح الأرواح السامية، والنفوس المهذبة، والمعارف الراقية، فالإنسان مركب من جسدٍ مُدْرَك بالبصر، ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة، إما قبيحة وإما جميلة، فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرًا من الجسد المدرك بالبصر، ولذلك عظم أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص71: 72] فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين، والروح إلى رب العالمين (¬1)، وحسبك هذا دليلاً على شرف الأدب وفضله. ¬

_ (¬1) " جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب " للقاسمي ص (3).

ما وهب الله لامرئ هبةً ... أفضْلَ من عقله ومن أدبه هما حياة الفتى فإن فُقِدا ... فإن فقدَ الحياة أحسنُ به والأدب يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد الرغائب الجميلة، ويعز بلا عشيرة، وقد قيل: " من قعد به حَسَبه، نهض به أدبه " (¬1). قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلةُ أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب، فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجَّى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة (¬2)، والإخلال به مع الأم -تاويلاً وإقبالاً على الصلاة- كيف امتُحن صاحبه بهدم صومعته، وضَرْب الناس له، ورميه بالفاحشة (¬3). وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومُدْبِرٍ كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان. وانظر أدب الصّدِّيق رضي الله عنه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أن يتقدم بين يديه، فقال: " ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬4) كيف أورثه مقامه والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه -وقد أومأ إليه: ¬

_ (¬1) " لباب الآداب " ص (228). (¬2) انظر الحديث في البخاري (3/ 119)، ومسلم (17/ 55 - 57) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) انظر الحديث في البخاري (4/ 201)، ومسلم (16/ 106 - 108)، وأحمد (2/ 307، 308) (¬4) انظر الحديث في " صحيح مسلم " (1/ 316، 317).

أن أثبت مكانك- بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قُدَّام تنقطع فيها أعناق المطيِّ، والله أعلم) (¬1). والأدب منه ما هو وهبيٌّ يجْبَلُ عليه الإنسان، ومنه ما هو كسبي يمكن اكتسابه بالمجاهدة والترويض (¬2)، قال - صلى الله عليه وسلم - لأشَجّ عبد القيس: " إِن فيك خَلَّتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة "، فقال: " يا رسول الله أنا أَتخلَّقُ بهما، أم الله جبلني عليهما؟ "، قال: " بل الله جبلك عليهما "، قال: " الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله " (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إِنما العلم بالتعلم، والحِلْم بالتحلم، ومن يتحر الخير يُعْطَه، ومن يتوق الشر يُوَقه " (¬4). ولو كانت الأخلاق والآداب صفات لازمةً في الإنسان، بحيث يستحيل تغييرها وتبديلها (¬5) كسائر الصفات الجسدية الوراثية لما أمر الشرع بالتحلي بالآداب الجميلة، والتخلي عن القبيحة (¬6)، وقد قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) ¬

_ (¬1) " مدارج السالكين " (2/ 391 - 392). (¬2) لكن الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم واستعدادهم لاكتساب الآداب أو تعديلها، فمن جُبل على أدب معين يسهل عليه ترسيخه في نفسه؛ لأن فطرته تعينه عليه. (¬3) رواه أبو داود رقم (5225)، وابن ماجه رقم (4188)، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " رقم (4354). (¬4) رواه الخطيب (9/ 127)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (342). (¬5) وكيف ينكر تغيير الأخلاق وترويض النفوس في حق بني آدم مع أن تغيير خُلُق البهيمة ممكن؟! إذ ينقل الوحش بالترويض من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وانظر: " جوامع الآداب " ص (4). (¬6) لأنه " لا تكليف إلا بمقدور " و " لا تكليف بمستحيل "، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس 9: 10]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآيه, [التحريم: 6]، قال علي رضي الله عنه: " علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدبوهم " (¬1). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلَّمها، فأحسن تعليمها، وأدَّبها، فأحسن تأديبها، وتزوجها، فله أجران " (¬2)، فإذا كان هذا في الأمَة فكيف بالأهل والأبناء؟ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " أدِّب ابنك، فإنك مسئول عنه: ماذا أدَّبته، وماذا علَّمته؟، وهو مسئول عن برِّك وطواعيته لك " (¬3). وقال إلكيا الهراس رحمه الله: " فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يُستغنى عنه من الأدب " (¬4). وقال سعيد بن منصور: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن، وسأله كثير بن زياد عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فقال: " يا أبا سعيد، ما هذه القرة الأعين، أفي الدنيا، أم في الآخرة؟، قال: " لا، بل والله في الدنيا "، قال: " وما هي؟ "، قال: " والله أن يُرِيَ الله العبدَ من زوجته، من أخيه، من حميمه طاعة الله، لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً، أو والداً أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل " (¬5). ¬

_ (¬1) " الدر المنثور " (6/ 244). (¬2) رواه البخاري (1/ 0 19)، ومسلم رقم (154)، والامام أحمد (4/ 395، 414). (¬3) " تحفة المودود " ص (225). (¬4) " الجامع لأحكام القرآن " (18/ 196). (¬5) " تحفة المودود " ص (226).

إن قوى النفس الإنسانية مفتقرة دائماً إلى تعهدها بالتربية والتثقف والتفقد والتقويم، كالأرض لا تُخرج ما في أرحامها إلا بالفلاحة والرعاية والتفقد، الأمر الذي يحتاج آلاتٍ وأسباباً خاصة. ولاشك أن " الأسرة " هي أخطر مؤسسة تربوية، وأن " الوالد " يتحمل المسئولية الكاملة عن التوجيه التربوي لأهله وولده، فإن فسد القَوَّامُ؛ عمَّ الفسادُ جميعَ الأقوام، وإن أخلَّ بواجباته التربوية صار هو الحاضر الغائب، وتساوى أبناؤه مع " اليتامى "، قال الشاعر: ليس اليتيم الذي قد مات والداه ... إن اليتيم يتيمُ العلمِ والأدبِ آخر: ليس اليتيمُ من انتهى أبواه من ... هَمِّ الحياة، وخلَّفاه ذليلا إن اليتيمَ لمن تَلْقَى له ... أمًا تَخلَّتْ أوَ أبًا مشغولا * * * * * * * * * * * * * *

اهتمام السلف الصالح بالأدب

اهتمام السلف الصالح بالأدب أصغى سلفنا الصالحون إلى التوجيهات الربانية والأحاديث النبوية التي ترفع شأن الأدب، وتحث عليه، وتحذر من سوء الأدب إلى حد تبرؤ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهله، حيث قال: " ليس منا من لم يُجلَّ كبيرنا , ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه " (¬1)، فانفعلوا بها، وأعطوها ما تستحق من الأولية والامتثال، فرأيناهم يُدخلون كتاب الأدب في مصنفاتهم " الجوامع "، ومنهم من أفرده بالتصنيف كما فعل البخاري في " الأدب المفرد "، والخطيب البغدادي في " الجامع "، وابن جماعة في " التذكرة "، وكما صنف ابن مفلح كتابه: " الآداب الشرعية، والمنح المرعية "، والسفاريني في " غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب "، وغيرهم. وكان تأديب الأولاد وظيفة تخصصية يباشرها المتأهلون لها، حتى كان يلقب الامام ابن أبي الدنيا بـ " مؤدب أولاد الخلفاء "، وكانوا يحرصون أشد الحرص على متانة الروابط بينهم وبين من يؤدبون أولادهم، وكانوا يحزنون إذا غابو عن أولادهم خشية أن لا يؤدَّبوا على ما يريدون ويشتهون. فقد ذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية، يقول لهم: " ما أشد ما مرَّ بكم في هذا الحبس؟ "، فقالوا: " ما فقدنا من تربية أولادنا " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (5/ 323)، والحاكم (1/ 122) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (5319). (¬2) " تربية الأولاد في الإسلام " (1/ 152).

من آثار السلف في الحث على التأدب

من آثار السلف في الحث على التأدب عن أيوب بن سويد قال: سمعت الثوري يقول: " كان يقال: حسن الأدب يطفيء غضب الرب عز وجل " (¬1). وقال البوشنجي: " من أراد العلم والفقه بغير أدب، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله " (¬2). وقال عبد الله بن المبارك: " من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة " (¬3). وقال رُوَيْم بن أحمد البغدادي لابنه: " يا بُني اجعل عملك مِلْحًا، وأدبَك دقيقًا " (¬4) أي: استكثر من الأدب حتى تكون نسبتُه في سلوكك من حيث الكثرةُ كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، فمعنى عبارة رويم: أن الإكثار من الأدب في العمل القليل، خير من العمل الكثير الخاوي عن الأدب. وقال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: (والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدبًا، وأشد الخلق تواضعًا، وأعظمهم نزاهة وتدينا، وأقلهم طيشًا وغضبًا، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، ¬

_ (¬1) " الحلية " (7/ 79). (¬2) " نزهة الفضلاء " (2/ 1006). (¬3) " مدارج السالكين " (2/ 381). (¬4) " الفروق " للقرافي (3/ 96).

وطرائق المحدثين، ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، ويصدفوا عن أرذلها وأدونها) (¬1) اهـ. وقال أيضاً رحمه الله: (ينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق القوم باستعمال آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] (¬2). وعن سفيان بن عيينة أنه كان يقول: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزان الأكبر، فعليه تُعرض الأشياء، على خُلُقه وسيرته وهَدْيه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل " (¬3). وعن ابن شهاب قال: " إن هذا العلم أدبُ الله الذي أدَّب به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأدب النبى - صلى الله عليه وسلم - أمته، أمانةُ الله إلى رسوله، ليؤديه على ما أدِّي إليه، فمن سمع علمًا؛ فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل " (¬4). وعن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: " إن حقّاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون مُتَّبِعًا لأثَرِ مَنْ مضى قبله " (¬5). وعن ثابت بن محمد قال: سمعت الثوري يقول: " إن استطعت ألا تَحُكَّ رأسك إلا بأثر؛ فافعل " (¬6). ¬

_ (¬1) " الجامع لآداب الراوي والسامع " (1/ 78). (¬2) " السابق " (1/ 142). (¬3) " السابق " (1/ 79). (¬4) " السابق " (1/ 79). (¬5) " السابق " (1/ 156). (¬6) " السابق " (1/ 142).

ترجيح السلف الأدب على العلم

ترجيح السلف الأدب على العلم الأدب لفظ جامع للفضائل والأخلاق الكريمة، التي تؤدي إلى المحامد. قال أبو زيد الأنصاري: " الأدب يقع على كل رياضة محمودة، يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل ". وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (الأدب: استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً، وعبر بعضهم بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستَحسَنَات، وقيل: بل هو تعظيمُ من فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من " المأدبة "، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمِّي بذلك؛ لأنه يُدعَى إليه) (¬1). هذه المعاني كلها تدخل في مسمى الأدب، وهي التي كان يطلق عليها في لسان السلف الصالح اسم: " الهَدْي "، وهَدْيُ الرجل: سيرته العامة والخاصة، وحالهُ، وأخلاقه. ولأن " خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - "، فقد كان السلف يرمقون من كان أولى الناس وأقومهم بهديه - صلى الله عليه وسلم -، فحينئذ يرتضونه أسوة وقدوة، وينتفعون بلحظه ولفظه، ويصدرون عن خُلقه وسلوكه، ويدونون هذا الهدي لتتناقله الأجيال وتنتفع به (¬2). ¬

_ (¬1) " فتح الباري " (10/ 400). (¬2) (وما يزال بعض الناس إلى عهد قريب -في بلاد الهند وما والاها- يراقبون ما يصدر عمن وصل في نظرهم إلى هذا المقام، فيكتبون عنه ما يقول وما يفعل، ويجمعون ذلك في كتاب يسمونه " الملفوظات " أو " الفيوضات ") وانظر: " صفحات في أدب الرأي " للشيخ محمد عوامة ص (61).

وقد أولى السلف " الأدب " اهتماماً عظيماً، فجدوا في طلبه، ودأبوا في تحصيله: فهذا الإمام عبد الله بن المبارك يقول: (إذا وُصف لي رجل له علم الأولين والآخرين، لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتاسف على فوته). وقيل للشافعي: " كيف شهوتك للأدب؟ " فقال: " أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه، فتودّ أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به " .. قيل له: " وكيف طلبك له؟ " قال: " طلب المرأة المضِلَّة ولدَها وليس لها غيره " (¬1). وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: " نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث " (¬2). وقال الحسن رحمه الله: " إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين " (¬3). وقال سفيان الثوري: " كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب، وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة " (¬4). وعن خالد بن نزار قال: سمعت مالك بن أنس يقول لفتى من قريش: " يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم " (¬5). ¬

_ (¬1) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (3). (¬2) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (3). (¬3) " لباب الآداب " ص (227). (¬4) " حلية الأولياء " (6/ 361). (¬5) " السابق " (6/ 330).

وقال الإمام مالك: (كانت أمي تُعَمِّمُني، وتقول لي: " اذهب إلى رييعة، فتعلم من أدبه قبل علمه " (¬1). وعنه: أن رجلاً قال لرجل من أهل السنة سأله عن طلب العلم، فقال له: " إن طلب العلم يحسن، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح حتى تمسي، ومن حين تمسي حتى تصبح، فالزمه، ولا تؤثرن عليه شيئاً " (¬2). وقال بعضهم لابنه: " يا بني! لأن تتعلم بابًا من الأدب، أحبُّ إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم " (¬3). وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: (يا بني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث " (¬4). • وكانوا يفتشون عمن يأخذون عنه العلم، وينقبون عن سمته وهديه قبل الجثو بين يديه، والتلقي منه. قال إبراهيم النخعي: " كانوا إذا أتوا الرجل لياخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه ". وعنه رحمه الله أنه قال: " كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ، سألنا عن مطعمه ومشربه ومُدخله ومُخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته " (¬5). ¬

_ (¬1) " ترتيب المدارك " (1/ 119). (¬2) " الحلية " (319/ 6). (¬3) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (2، 3). (¬4) " الجامع " للخطيب البغدادي (1/ 80). (¬5) " الكامل في ضعفاء الرجال " (1/ 154).

وقال مالك: " رأيت أيوب السختياني بمكة حَجتيْن، فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعدًا في فناء زمزم، فكان إذا ذكرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده يبكي حتى أرحمه، فلما رأيت ذلك كتبت عنه " (¬1) * وكان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرحلون إليه فينظرون إلى سمته، وهديه، ودَلِّه، قال: " فيتشبهون به " (¬2). * وجاء في ترجمة علي بن المديني عن عباس العنبري: " كان الناس يكتبون قيامه، وقعوده، ولباسه، وكل شيء يقول ويفعل " (¬3). * وروى الإمام مالك عن التابعي الجليل محمد بن سيرين قوله واصفًا حال كبار التابعين (¬4): " كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم "، قال مالك: " وبعث ابن سيرين رجلاً ينظر كيف هَدْيُ القاسم بن محمد (¬5) وحاله " (¬6)، وقال ابن وهب رحمه الله: (حدثني مالك أن ابن سيرين كان قد ثقل، وتخلَّف عن الحج، فكان يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم، ولبوسه، وناحيته (¬7)، فيبلغونه ذلك، فيقتدي بالقاسم) (¬8). وكان أبو بكر بن إسحاق إذا ذكر عقل أبي علي الثقفي يقول: " ذاك عقل مأخوذ عن الصحابة والتابعين "، وذلك: أن أبا علي أقام بسَمَرْقنْد مدة أربع سنين يأخذ تلك الشمائل من محمد بن نصر المروزي، وأخذها ابن نصر عن ¬

_ (¬1) " إسعاف المبطإ برجال الموطإ " ص (3) ط، الحلبي 1370 هـ. (¬2) " غريب الحديث " للقاسم بن سلام (3/ 383 - 384). (¬3) " تاريخ بغداد " (11/ 462). (¬4) لأن ابن سيرين توفي سنة 110 هـ. (¬5) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة، كان من أكابر التابعين والفضلاء والعلماء. (¬6) " الجامع " للخطيب (1/ 79). (¬7) ناحية الرجل: جهته، وطرفه، يريد: كل ما يصدر من طرف القاسم. (¬8) " سير أعلام النبلاء " (5/ 57).

يحيى بن يحيى، فلم يكن بخراسان أعقل منه، وأخذها يحيى عن مالك، أقام عليه لأخذها سنة بعد أن فرغ من سماعه، فقيل له في ذلك؟ فقال: " إنما أقمتُ مستفيدًا لشمائله، فإنها شمائل الصحابة والتابعين " (¬1). وقال ابن وهب: " ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه " (¬2). قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: (روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: " كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد رْهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حُسْنَ الأدب، وحسن السَّمْت ") (¬3) هـ. وكان العلامة ابن الشجري " لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة؛ إلا وتتضمن أدب نفس، أو أدب درس " (¬4). وقال جعفر بن سليمان: " كنت إذا وجدتُ من قلبي قسوةً، غدوت فنظرتُ إلى وجه محمد بن واسع، كان كأنه ثَكلى " (¬5). وعن ابن المبارك قال: (" إذا نظرتُ إلى الفضيل؛ جَدَّدَ لي الحزن، ومَقَتُّ نفسي "، ثم بكى) (¬6). وقال بشر بن الحارث: " إني لأذكر المعافى (¬7) اليوم، فانتفع بذكره، وأذكر رؤيته فانتفع " (¬8). ¬

_ (¬1) " ترتيب المدارك " (1/ 117). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (8/ 113). (¬3) " شرح منتهى الإرادات " للبهوتي (1/ 9). (¬4) " السابق " (20/ 196). (¬5) " السابق " (6/ 120). (¬6) " السابق " (8/ 438). (¬7) هو الإمام، شيخ الإسلام، ياقوتة العلماء المعافى بن عمران، أبو مسعود الأزدي الموصلي الحافظ (ت 185). (¬8) " السابق " (9/ 82).

حرصهم على ملازمة الشيوخ والمؤدبين

حرصهم على ملازمة الشيوخ وَالمؤَدِّبِينَ كان طلاب العلم في الصدر الأول يعتمدون " التلقي المباشر " من أفواه المشايخ عبر الملازمة الطويلة لهم، منهجًا ثابتًا لهم لا يحيدون عنه في طلب العلم، مع النهم، والمسابقة، والبكور، ومزاحمة العلماء بالركب، سئل الإمام مالك رحمه الله: " أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ "، فقال: " لا "، فقيل: " أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ، ولا يفهم ما يحدث؟ "، فقال: " لا يكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون قد طلب، وجالس الناس، وعرف وعمل، ويكون معه ورع " (¬1)، وقد اشتهر في بيان ما يشترط في طلب العلم بيتان لإمام الحرمين رحمه الله، قال: أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاءٍ، وحرصٍ، وافتقارٍ، وغربةٍ ... وتلقينِ أستاذ، وطولِ زمان (¬2) وقد قيل: " حيثما كنت؛ فكن قرب فقيه " (¬3). وذكر محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة قال: " الحكايات عن العلماء، ومجالستهم أحب الي من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم وأخلاقهم "، قال محمد: ومثل ذلك: ما رُوي عن إبراهيم النخعي -قال: " كنا ¬

_ (¬1) " إسعاف المبطإ برجال الموطإ " ص (4). (¬2) " طبقات الشافعية الكبرى " (5/ 208). (¬3) ولهذه الوصية قصة، فقد قال عبد الله بن أبي موسى التُّسترِيُّ: (قيل لي: حيثما كنت؛ فكن قرب فقيه "، قال: فأتيت بيروت إلى الأوزاعي، فبينما أنا عنده إذ سألني عن أمري، فأخبرته، وكان مجوسيًا، ثم أسلم، فقال لي: " ألك أب؟ "، قلت: " نعم، تركته بالعراق

نأتي مسروقًا، فنتعلم من هديه ودَلّه "، ثم أسند إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قوله: " من فقه الرجل: ممشاه، ومدخله، ومخرجه مع أهل العلم " (¬1). وعن مالك قال: " أتى نُعَيمٌ المجْمِرُ أبا هريرة رضي الله عنه عشرين سنة " (¬2). و" صحب ثابت البناني أنس بن مالك رضي الله عنه أربعين سنة " (¬3). وقال مالك: " كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه " (¬4). " وكان حامد بن يحيى البلخي ممن أفنى عمره بمجالسة ابن عيينة " (¬5). وقال نافع بن عبد الله: " جالست مالكًا أربعين سنة -أو قال: خمساً وثلاثين سنة- كل يوم أبكر، وأهجّر، وأروح " (¬6). ¬

_ = مجوسي "، قال: " فهل لك أن ترجع لعل الله يهديه على يديك؟ "، قلت: " ترى لي ذاك؟ "، قال: " نعم "، فأتيت أبي، فوجدته مريضًا، فقال لي: " يا بني أي شيء أنت عليه؟ " فأخبرته أني أسلمت، فقال لي: " فأعرض علي دينَك، فأخبرته بالإسلام وأهله، قال: " فإني أشهدك أني قد أسلمت "، قال: فمات في مرضه ذلك، فدفنته، ورجعت إلى الأوزاعي فأخبرته). (¬1) " جامع بيان العلم وفضله " (1/ 127)، ومن مظاهر التأكيد على أن مصاحبة العلماء لا تستقيم حياة المسلم بدونها، قول العلماء: " إذا لم يوجد مفت في مكان ما حرم السكنُ فيه، ووجب الرحيل منه إلى حيث يوجد من يفتيه في أحكام الدين وما ينزل به من نوازل "، كما نقله الدكتور عبد الكريم زيدان في " أصول الدعوة " ص (147)، ونقل -في نفس الموضع- عن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى قوله: " فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو حصن أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ويتعلم القرآن كله , وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث الأحكام ... إلخ، ثم يقوم بتعليمهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله؛ ففرضٌ عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين في صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، وإن كانوا بالصين " اهـ.

وهكذا كان الطالب يلازم شيخه ويقتدي به، ويتخلق بآدابه إلى جانب تضلعه من علمه وتزوده من معارفه، فمن ثَمَّ أثمر هذا النهج القويم طلاب علم يطيرون بجناحي العلم والعمل، ولا يقَال: " عالم " في الحقيقة إلا إذا كان عاملاً، فغير الجاري على مقتضى علمه هو والجاهل سواء، قال الشاعر: وإذا الفتى قد نال علمًا ثم لم ... يعمل به فكأنه لم يعلم عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع قال: " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به " (¬1). وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يكتب الأحاديث، فيكثر، فقال: " ينبغي أن يكثر العملَ به على قدر زيادته في الطلب "، ثم قال: " سُبُل العلم مثل سُبل المال، إنْ المال إذا ازداد ازدادت زكاته " (¬2). وقالت أم سفيان الثوري له، وهي تعظه: " يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك " (¬3). وعن الحسن قال: " قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في: تخشعه، وهديه، ولسانه، وبصره، وبره " (¬4). وعن إبراهيم بن إسماعيل قال: " كان أصحابنا يستعينون على طلب الحديث بالصوم " (¬5). ¬

_ (¬1) " اقتضاء العلم العمل " ص (90). (¬2) " السابق " ص (90). (¬3) " صفة الصفوة " (3/ 189). (¬4) " شعب الإيمان " (2/ 291). (¬5) " الجامع لآداب الراوي والسامع " (1/ 143).

وقال سفيان بن عيينة: " كان الشاب إذا وقع في الحديث احتسبه أهله " (¬1). قال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: " يعني أنه كان يجتهد في العبادة اجتهاداً يقتطعه عن أهله، فيحتسبونه عند ذلك ". * وكم كان للعلماء الربانيين مع تلاميذهم من لفتات تربوية صادقة، ونصائح سلوكية مخلصة، تعمل في قلوبهم، وتظهر في أحوالهم: فعن إسماعيل بن يحيى، قال: (رآني سفيان وأنا أمازح رجلاً من بني شيبة عند البيت، فتبسمتُ، فالتفت إليَّ، فقال: " تبتسم في هذا الموضع! إن كان الرجل ليسمع الحديث الواحد، فنرى عليه ثلاثة أيام سمته وهديه ") (¬2). وعن قاسم بن إسماعيل بن علي، قال: (كنا بباب بِشْر بن الحارث؛ فخرج إلينا؟ فقلنا: " يا أبا نصر حدِّثنا؟ فقال: " أتؤدون زكاة الحَديث؟ " قال: قلت له: " يا أبا نصر، وللحديث زكاة؟ " قال: " نعم، إذا سمعتم الحديث، فما كان في ذلك من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه " (¬3). وعن عمرو بن قيس الملائي قال: " إذا بلغك شيء من الخير، فاعمل به -ولو مرة- تكن من أهله " (¬4). وعن أبي عمرو بن حمدان قال: سمعت أبي يقول: (كنت في مجلس أبي عبد الله المروزي، فحضرت صلاة الظهر؛ فأذَّن أبو عبد الله؛ فخرجت من ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 143). (¬2) " السابق " (1/ 157). (¬3) " السابق " (1/ 144). (¬4) " السابق " (1/ 144).

فوائد

المسجد؛ مقال: " يا أبا جعفر إلى أين؟ " قلت: " أتطهر للصلاة "، قال: " كان ظني بك غير هذا، يدخل عليك وقت الصلاة، وأنت على غير طهارة! " (¬1). وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: (بتُّ ليلة عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء، فإذا هو كما كان، فقال: " سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له وِرْد من الليل " (¬2). فوائد (¬3) الأولى: اعلم -رحمك الله- أن معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يُرد الله به خيرًا، يفقهه في الدين " (¬4) أنه يفهمه في الدِّين، ومعنى " الدين " هنا ينبغي أن يفهم في ضوء قوله - صلى الله عليه وسلم -: " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " (¬5) بعدما سأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، وبهذا يعلم أن مدح " الفقه في الدين " لا يختص بعلم الفروع الظاهر، على علم الأدب الباطن؛ لأن " الدين " شامل للأمرين، بل الثاني أولى بالدخول فيه؛ لأنه النتيجة والثمرة المقصودة بالذات من العلم، إذ إنه علم تحصل به تصفية البواطن من عيوب النفس، وتعلّمُه واجب ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 143). (¬2) " السابق " (1/ 143) (¬3) مختصرة من " فتح المنعم " للشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله (3/ 313 - 353). (¬4) رواه من حديث أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: البخاري (1/ 150، 151)، ومسلم رقم (1037). (¬5) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري (8/ 513).

الثانية

على يد من هو أهلٌ له من الكُمَّل العارفين الجامعين بينه وبين علم الظاهر على الوجه الأتم، كما قيل في شأنه: علم به تصفية البواطنِ ... من كدرات النفس في المواطنِ وذاك واجب على المكلف ... تحصيله يكون بالمُعَرِّف (¬1) الثانية: اعْلم -أصلحك الله- أن تفضيل العالم على العابد، الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " (¬3) الحديث؛ لا يراد منه أن العالم المفضَّل عار عن العمل، والعابد عن العلم، بل المراد أن علم ذلك غالب على عمله، وعمل هذا غالب على علمه، فإن العابد إذا كان عاريًا عن العلم لا يُسمى في عرف الشرع عابدًا بل يسمى فاسقًا، لأنه بدوام تركه تعلم فروض العين لا يزال فاسقًا؛ كما قال بعض العلماء: وجاهل لفرض عين لم يَجُز ... إطلاقُ " صالحٍ " عليه فاحترِزْ لأنه بتركِهِ التعلُّما ... لم يَنِ فاسقًا يقول العلما أي يقول العلماء: إنه لم يزل فاسقًا بتركه التعلم الواجب عليه، فالصالح لا يُطلق شرعًا إلا على القائم بحقوق الله وحقوق العباد، ولا يمكن ذلك بدون العلم: وقائم بحق ربه وحق ... عباده فصالحًا قد استحق ¬

_ (¬1) المعَرِّف: الشيخ المربي الكامل لأنه هو المعرف لهذا الفن، الموقف على دقائقه، لأنه سلك مسالكه سابقًا، وعرف طرق مخاوفه، وكيفية النجاة منها. (¬2) قطعة من حديث رواه الإمام أحمد (5/ 196)، وأبو داود رقم (3641)، والترمذي رقم (2835)، وابن ماجه رقم (223)، وصححه الألباني. (¬3) رواه الترمذي رقم (2838)، وصححه الألباني.

الثالثة

فالصالح مرادف للعابد، لأن عبادة العابد بدون علم لا تسمى عبادة؛ لأن ما يفسده صاحبها أكثر مما يصلحه: إن الذي بدون علمٍ يَعْبُدُ ... لا يُحسن العملَ لكن يُفْسِدُ فترد أعماله، ولا تقبل لخلوها عن العلم: وكل من بغير علمٍ يعملُ ... أعمالُه مردودة لا تُقبَلُ والحاصل أن العابد هو العالم الذي غلب عمله على علمه، ولم يشتغل بتعليم الناس، بخلاف العالم فإن الغالب عليه التعليم، والإفتاء، والتصنيف. الثالثة: ينبغي لمن أراد التفقه في الدين في أول طلبه أن يمزجه بالتعبد، إذ إنه ليس ثَمَّ عمر طويل في الغالب حتى يترك له برهة منه، فيخشى عليه أن يموت وهو في السبب، قبل وصوله للمقصود. * * * * * * * * * * * * *

الفصل الثاني من أدب الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام

الفصل الثاني من أدب الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام قال الرازي في " مفاتيح الغيب " مشيرًا إلى قول موسى للخَضرِ عليهما السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}: (اعلم أن هَذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعًا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر. فأحدها: أنه جعل نفسه تبعًا له، لأنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}. ثانيها: أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، فكانه قال: " هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعًا لك؟ " وهذه مبالغة عظيمة في التواضع. ثالثها: أنه تعالى (¬1) قال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ) وهذا إقرار له على نفسه بالحاجة إلى ما عند أستاذه من العلم. رابعها: أنه تعالى قال: (مِمَّا علِّمْتَ) وصيغة " من " للتبعيض، فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضًا مشعر بالتواضع، كانه يقول له: " لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءًا من أجزاء علمك "، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءًا من أجزاء ماله. خامسها: أن قوله تعالى: (مِمَّا عُلِّمْتَ) اعتراف بأن الله علَّمه ذلك العلم. ¬

_ (¬1) هكذا نسب الرازي القول إلى الله تعالى هنا، وفي عدة مواضع مما يأتي، والأولى أن يقول: " قال تعالى على لسان موسى عليه السلام "، والله أعلم.

سادسها

سادسها: أن قوله تعالى: (رُشْدًا) طلب منه للإرشاد والهداية، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال. سابعها: أن قوله تعالى: (تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ) معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهًا بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا المعنى قيل: " أنا عبد من تعلمت منه حرفًا ". ثامنها: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، لا لأجل كونه فعلا لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: " لا إله إلا الله "، فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة، فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها، بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها. أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه الصلاة والسلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد، كون ذلك الأستاذ آتيًا بها، وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم، وترك المنازعة والاعتراض. تاسعها: أن قوله تعالى: (أَتَّبِعُكَ) يدل على طلب متابعته مطلقًا في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. عاشرها: أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل، وأنه هو موسى صاحب التوراة، وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير

الحادي عشر

واسطة، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة. ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه الصلاة والسلام آتيا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد. الحادي عشر: أنه تعالى قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} فأثبت كونه تبعًا له أولاً، ثم طلب ثانيًا أن يعلمه، وهذا منه ابتداء بالخدمة، ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم. الثاني عشر: أنه تعالى قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئًا، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم) (¬1) اهـ. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (تأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله، وخطابهم وسؤالهم، كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به؟ قال المسيح عليه السلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، ولم يقل: لم أقله، وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب، ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره، فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ¬

_ (¬1) " التفسير الكبير " (10/ 352 - 353) بتصرف.

ربه وما يختص به سبحانه، فقال: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثم أثنى على ربه، ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها، فقال: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به -وهو محض التوحيد-، فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117]، ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجلِ وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم، فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ثم وصفه بأن شهادته-سبحانه- فوق كل شهادة وأعم، فقال: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}. ثم قال: ({إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام، أي: شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم، وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدًا لغيرك، فإذا عذبتهم -مع كونهم عبيدك- فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد، وأعتاهم على سيدهم، وأعصاهم له: لم تعذبهم، لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته، فلماذا يعذب أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانًا عبيدَه؟ لولا فرط عُتُوهم، وإباؤهم عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب. وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم، فإذا عذبتهم؛ عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه، فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه، فليس في هذا استعطاف لهم، كما يظنه الجهال، ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة، كما تظنه القدرية، وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.

ثم قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: " الغفور الرحيم " وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم، فلو قال: " فإنك أنت الغفور الرحيم "؛ لأشعر باستعطافه رَبَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم، فالمقام مقام موافقة الرب في غضبه على مَنْ غضب الرب عليهم، فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم. والمعنى: إن غفرت لهم؛ فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار إساءته إليه، والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عينَ الأدب في الخطاب. وفي بعض الآثار " حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك "، واثنان يقولان: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك "، ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى، كقوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]. وكذلك قول إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء78: 80]، ولم يقل: " وإذا أمرضني " حفظا للأدب مع الله. وكذلك قول الخضِر عليه السلام في السفينة: {أَفَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}

[الكهف:79]، ولم يقل: " فأراد ربك أن أعيبها "، وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] ". وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10]، ولم يقولوا: " أراده ربهم "، ثم قالوا {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}. وألطف من هذا قول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، ولم يقل: " أطعمني ". وقول آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ولم يقل " رب قدرْتَ عليّ وقضيتَ عليَّ ". وقول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] ولم يقل: " فعافني، واشفني ". وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ولم يقل: " أخرجنى من الجب " حفظًا للأدب مع إخوته، وتَفَتيا عليهم: أن لا يخجلهم بما جرى في الجب، وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ولم يقل: " رفع عنكم جهد الجوع والحاجة "، أدبًا معهم، وأضاف ما جرى إلى السبب، ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه، فقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه، ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

ومن هذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل: أن يستر عورته , وإن كان خاليًا لا يراه أحد (¬1)، أدبًا مع الله، على حسب القرب منه، وتعظيمه وإجلاله، وشدة الحياء منه، ومعرفة وقاره). إلى أن قال رحمه الله تعالى: (وجرت عادة القوم أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، حين أراه ما أراه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وأبو القاسم القشيري صدر باب الأدب بهذه الآية، وكذلك غيره. وكأنهم نظروا إلى قول مَن قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبًا، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب، والإخلالُ به: أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلع أمام المنظور، فالالتفات زيغ، والتطلع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور: أن لا يصرف بصره عنه يَمنة ولا يَسرة، ولا يتجاوزه. هذا معنى ما حصلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه. وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر - صلى الله عليه وسلم -: تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره، فالبصيرة مواطئة له، وما شاهدته بصيرته فهو أيضًا حق مشهود بالبصر، فتواطأ في حقه مشهد البصر والبصيرة. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما رواه معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ") الحديث، وفيه: (قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: " الله أحق أن يستحيا منه من الناس ") رواه الامام أحمد (5/ 3 - 4)، وأبو داود رقم (4017)، والترمذي (2794)، و (2769)، وحسنه، والحاكم (4/ 180)، وصححه، ووافقه الذهبي.

ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم11: 12]، أي ما كذَب الفؤاد ما رآه ببصره. ولهذا قرأها أبو جعفر " ما كذب الفؤاد ما رأى " -بتشديد الذال- أي لم يكذّب الفؤاد البصر، بل صدقه وواطأه، لصحة الفؤاد والبصر، أو استقامة البصيرة والبصر، وكون المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقًا، وقرأ الجمهور {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} بالتخفيف، وهو متعد، و (مَا رَأَى) مفعوله , أي ما كذب قلبُه ما رأته عيناه، بل واطأه ووافقه، فلمواطاة قلبه لقالَبه، وظاهره لباطنه، وبصره لبصيرته: لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوز البصر حَدَّه فيطغى، ولم يمل عن المرئي فيزيغ؛ بل اعتدل البصر نحو المرئي، ما جاوزه ولا مال عنه، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فإنه أقبل على الله بكليته , وللقلب زيغ وطغيان، كما للبصر زيغ وطغيان، وكلاهما منتفٍ عن قلبه وبصره، فلم يزغ قلبه التفاتًا عن الله إلى غيره، ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه. وهذا غاية الكمال والأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه. فإن عادة النفوس، إذا أقيمت في مقام عال رفيع: أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه، ألا ترى أن موسى - صلى الله عليه وسلم - لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة؛ طلبت نفسه الرؤية؟ ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لما أقيم في ذلك المقام؛ وفاه حقه، فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه ألبتة؟ ولأجل هذا ما عاقه عائق، ولا وقف به مراد، حتى جاوز السموات السبع حتى عاتب موسى ربه فيه، وقال: " يقول بنو إسرائيل: إِني كريم الخلق على الله، وهذا قد جاوزني وخَلَّفني علوًا، فلو أنه وحدهـ؟ ولكن معه كل أمته ".

وفي رواية للبخاري: " فلما جاوزته بكى. قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي أن غلامًا بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي "، ثم جاوزه علوًا فلم تعقه إرادة، ولم تقف به دون كمال العبودية همة. ولهذا كان مركوبه في مَسْراه يسبق خطوه الطرفَ، فيضع قدمه عند منتهى طرفه، مشاكلاً لحال راكبه، وبُعْدِ شأوه، الذي سبق العالم أجمع في سيره، فكان قدم البراق لا يختلف عن موضع نظره، كما كان قدمه - صلى الله عليه وسلم - لا يتأخر عن محل معرفته. فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - في خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه، وتكميل مراتب عبوديته له، حتى خرق حجب السموات، وجاوز السبع الطباق، وجاوز سدرة المنتهى، ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين، فانصبَّت إليه هناك أقسام القُرَب انصبابًا، وأنقشعت عنه سحائب الحجب ظاهرًا وباطنًا حجابًا حجابًا، وأقيم مقامًا غبطه به الأنبياء والمرسلون، فإذا كان في المعاد أقيم مقامًا من القرب ثانيًا، يغبطه به الأولون والآخرون، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله، ما زاغ البصر عنه وما طغى، فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى، وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم، فقال تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس1: 4]، فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط يسأله السلامة لأتباعه وأهل سنته، حتى يجوزونه إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم) اهـ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) " مدارج السالكين " (2/ 378 - 384).

أدب الصحابة رضى الله عنهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم -

أدب الصحابة رضى الله عنهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح8: 9]،فأوجب عز وجل تعزيزه وتوقيره - صلى الله عليه وسلم - وألزم إكرامه وتعظيمه، قال المبرد: (تُعَزِّرُوهُ): " تبالغوا في تعظيمه "، ونهى عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فى اهمال حقه , وتضيع حرمته {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}. وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات1: 4]، إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم الآمرة بالأدب العالي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأوامر الإلهية، فحفظوا حقوق سيد البرية، وتأدبوا معه - صلى الله عليه وسلم - بما يليق بمقامه الشريف، وفضله المنيف. ففي قصة صلح الحديبية أن عروة بن مسعود (جعل يرمق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينيه، قال: " فوالله! ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما

يُحدُّون إليه النظر تعظيمًا له "، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: " أي قوم! والَلّه! لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا) الحديث (¬1). وفي نفس القصة أن عروة بن مسعود دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يحدثه، ويشير بيده إليه، حتى تمس لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده السيف، فقال له: " اقبض يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا ترجع إليك " فقبض يده عروةُ (¬2). ورُوي أن عمر عمد إلى ميزابٍ للعباس على ممر الناس، فقلعه، فقال له: " أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضعه في مكانه "، فاقسم عمر: " لتصعدنَّ على ظهري، ولتضعنه موضعه " (¬3). وعن أبي رزين قال: قيل للعباس: " أنت أكبرُ أو النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ " قال: " هو أكبر، وأنا ولدتُ قبله " (¬4). ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، نزل على أبي أيوب، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السفل، ونزل أبو أيوب العلو، فلما أمسى، وبات؛ جعل أبو أيوب يذكر أنه على ظهر بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسفل منه، وهو بينه وبين الوحي، فجعل أبو أيوب لا ينام يحاذر أن يتناثر عليه الغبار، ويتحرك فيؤذيه، فلما أصبح غدا إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5/ 330 - فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/ 323 - 331)، وانظر: " فتح الباري " (5/ 341). (¬2) رواه البخاري (5/ 330 - فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/ 323 - 331)، وانظر: " فتح الباري " (5/ 341). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 210)، وابن سعد (4/ 20)، وضعفه الشيخ أحمد شاكر لانقطاعه، رقم (1790) تحقيق " المسند ". (¬4) عزاه الهيثمي في " المجمع " (9/ 270) إلى الطبراني، وقال: " رجاله رجال الصحيح ".

النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال. " يا رسول الله! ما جعلت الليلة فيها غمضًا أنا ولا أم أيوب "، فقال: " ومم ذاك يا أبا أيوب؟ " قال: " ذكرت أني على ظهر بيتٍ أنت أسفل مني، فأتحرك، قيتناثر عليك الغبار، ويؤذيك تحركي، وأنا بينك وبين الوحي " (¬1) الحديث. وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: (لما نزل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: " بأبي وأمي إني أكره أن أكودن فوقك، وتكون أسفل مني "، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن أرفق بنا أن نكون في السفل لما يغشانا من الناس "، فلقد رأيت جرة لنا انكسرت، فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة (¬2) لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فَرَقًا (¬3) من أن يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا شيء يؤذيه) (¬4) الحديث. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: " .. وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عينيَّ منه " (¬5). ولما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجَّهه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم في القضية أبى، وقال: " ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول - صلى الله عليه وسلم - " (¬6). وفي حديث قَيْلَة: " فلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا القرفصاء أرْعِدتُ من ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 415)، ومسلم (2053)، والطبراني في " الكبير " (3986)، والحاكم (3/ 465 - 461)، وصححه على شرط مسلم (!)، ووافقه الذهبي (!). (¬2) القطيفة: كساء له خمل. (¬3) الفَرَق: الخوف. (¬4) رواه مسلم (2053)، والطبراني في " الكبير " رقم (3855)، واللفظ له. (¬5) رواه مسلم رقم (121) (1/ 112). (¬6) انظر: " سير أعلام النبلاء " (3 ك 290 - 291).

الفَرَق، وذلك هيبةَ له وتعظيمًا) (¬1). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: " إن كان ليأتي عليَّ السنةُ، أريد أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فأتهيَّبُ منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب " (¬2). عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كانت أبواب النبي - صلى الله عليه وسلم - تُقْرعُ بالأظافير " (¬3). وعن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أنه كان في مجلس قومه وهو يحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم يقبل على بعض يتحدثون، فغضب، ثم قال: (انظر إليهم أحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم يُقبل على بعض؟! أما والله، لأخرجن من بين أظهركم، ولا أرجع إليكم أبدًا، فقلت له: " أين تذهب؟ "، قال: " أذهب فأجاهد في سبيل الله " (¬4)). ¬

_ (¬1) انظر: " الإصابة " (8/ 83 - 87). (¬2) عزاه الحافظ في " المطالب العالية " (3/ 325) إلى أبي يعلى، وسكت عليه البوصيري في " مختصر إتحاف السادة المهرة " (1/ 28). (¬3) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (1080)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (2092). (¬4) رواه الطبراني في " الكبير " (6/ 5656، 5866).

من أدب العلماء مع النبى - صلى الله عليه وسلم -

مِن أدبِ العلماءِ مع النبى - صلى الله عليه وسلم - قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (واعلم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره - صلى الله عليه وسلم - وذِكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته، قال أبو إبراهيم التُّجيبيُّ: " واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر، ويُسَكِّنَ من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدَّبنا الله به) اهـ (¬1). وهكذا كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله تعالى عنهم: فعن مصعَب بن عبد الله: (كان مالك إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده تغير لونُه وانحنى، حتى يصعُبَ ذلك على جُلسائه، فقيل له يومًا في ذلك؟ ققال: لو رأيتم لما أنكرتم علي ما ترون، كنتُ آتي محمد بن المنكدِر وكان سيد القُرَّاء -أي سيد العلماء- لا نكاد نسأله عن حديث إلا بكى حتى نرحمه، ولقد أتى جعفر بن محمد -هو جعفر الصادق- وكان كثير المزاح والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - اخضرَّ واصفرّ) (¬2)، وقال مالك أيضاً: " كلما أجدُ في قلبي قسوةً آتي محمد بن المنكدر، فأنظرُ إليه نظرة، فأتعظ بنفسي أيامًا ". ¬

_ (¬1) " الشفا " (2/ 91 - 92). (¬2) " ترتيب المدارك " (1/ 179).

" كان محمد بن المنكدر سيد القراء لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا كان يبكي " (¬1). وفي ترجمة أيوب بن أبي تميمة السختياني: قال مالك رحمه الله: (كنا ندخل على أيوب فإذا ذكرنا له حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - احتفز وما رأيته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على طهارة) (¬2). وفي ترجمة عامر بن عبد الله بن الزبير: قال الإمام مالك: (ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى لا يبقى في عينه دموع) (¬3). وقال في حق عبد الرحمن بن القاسم: (ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُنظر إلى لونه كأنه نُزِف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4). وقال في حق صفوان بن سليم: (ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين) (¬5)، فإذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم ¬

_ (¬1) " الشفا " (2/ 93). (¬2) " السابق " (2/ 94). (¬3) " السابق " (2/ 94). (¬4) " السابق " (2/ 95). (¬5) وصفوان بن سليم رحمه الله قد بلغ قصب السبق في العبادة والزهد، وكانت له مكانة خاصة عند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حيث قال فيه: " صفوان بن سليم في الثقات يُستشفى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره " كذا في " السير " للذهبي (5/ 377)، وقال سفيان رحمه الله: (أخبرني الحفّار الذي يحفر قبور أهل المدينة، قال: حفرت قبر رجل فإذا أنا قد وقعت على قبر، فوافيت جمجمة فإذا السجود قد أثر في عظام الجمجمة، فقلت لإنسان: " قبر من هذا؟ " فقال: " أوَ ما تدري؟ هذا قبر صفوان بن سليم ").

الناس عنه ويتركوه) (¬1). وعن معن بن عيسى القزاز قال: (كان مالك بن أنس إذا أراد أن يجلس للحديت اغتسل، وتبخَّر، وتطيب، فان رفع أحد صوته في مجلسه زَبَره (¬2)، وقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] فمن رفع صوته عند حديث النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعن حماد بن زيد قال: (كنا عند أيوب، فسمع لَغَطًا فقال: " ما هذا اللغطُ؟ أما بلغهم أن رفع الصوت عند الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كرفع الصوت عليه في حياته؟! " (¬4)). وعن حسين المعلِّم قال: " كان محمد بن سيرين يتحدث، فيضحك، فإذا جاء الحديث خشع " (¬5). وعن بشر بن الحارث قال: سأل رجل ابن المبارك عن حديث -وهو يمسي- فقال: " ليس هذا من توقير العلم "، قال بشر: " فاستحسنته جدًا " (¬6). وعن ابن وهب، قال: حدثني مالك (أن رجلاً جاء إلى سعيد بن المسيب وهو مريض، فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس فحدثه، فقال ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (5/ 365). (¬2) زبره: انتهره، وزجره. (¬3) " الجامع " للخطيب (1/ 406). (¬4) " السابق " (1/ 195). (¬5) " السابق " (1/ 412). (¬6) " السابق " (1/ 212).

فائدة

له الرجل: " وددت أنك لم تتعَنَّ "، فقال: " إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجع " (¬1). وعن ابن القاسم قال: (قيل لمالك: " لم لمْ تكتب عن عمرو بن دينار؟ "، قال: " أتيته والناس يكتبون عنه قيامًا، فأجْللْتُ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أكتبه وأنا قائم ") (¬2) وقال عبد الله بن المبارك: (وكنت عند مالك وهو يحدثنا؛ فلدغته عقرب؛ ستة عشر مرة (¬3)، ومالك يتغير لونه، ويصبر، ولا يقطع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من المجلس، وتفرق الناس، قلت: " يا أبا عبد الله، لقد رأيت منك اليوم عجبًا " قال: " إنما صبرت. إجلالا لحديث رسول - صلى الله عليه وسلم - ") (¬4). فائدة: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في مقدمة شرحه لكتاب " صحيح مسلم ": (فصل: يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله عز وجل أن يكتب " عز وجل " أو " تعالي " أو " سبحانه وتعالى " أو " تبارك وتعالي " أو " جل ذكره " أو " تبارك اسمه " أو " جلت عظمته " أو ما أشبه ذلك. وكذلك يكتب عند ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكمالها، لا رامزًا اليهما، ولا مقتصرًا على أحدهما. وكذلك يقول في الصحابي: " رضي الله عنه "، فإن كان صحابيًا ابن ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 409). (¬2) " السابق " (1/ 408) (¬3) كذا في الأصل، ولعله خطأ من الناسخ، والصواب: " ست عشرة مرة ". (¬4) " ترتيب المدارك " (1/ 155).

صحابي قال: " رضي الله عنهما "، وكذلك يترضى ويترحم على سائر العلماء والأخيار -أي يستحب ذلك أيضًا- ويكتب كل هذا وإن لم يكن مكتوبًا في الأصل الذي ينقل منه، فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء، وينبغي أن يقرأ كل ما ذكرنا، وإن لم يكن مذكورًا في الأصل الذي يقرأ منه، ولا يسأم من تكرر ذلك، ومن أغفل هذا حُرِمَ خيرًا عظيمًا، وفَوَّتَ فضلاً جسيمًا) (¬1) اه-. * * * ¬

_ (¬1) " شرح النووي " (1/ 39).

الفصل الثالث فضل العلماء

الفصل الثالث فضل العلماء * العلماء هم أئمة الأنام، وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحَمَوْا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، الذين قال فيهم الإمام أحمد رحمه الله: (يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لأبليسَ قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه) (¬1). قال ميمون بن مهران رحمه الله: " العلماء هم ضالتي في كل بلد، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدتُ صلاح قلبي في مجالسة العلماء ". وقد تواردت أدلة الكتاب الكريم والسنة المطهرة على الإشادة بفضلِ العلماء، والإشارة بعلو مقامهم، فمن ذلك قول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات " (¬2). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن الله وملائكته، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحر، ليُصَلُّون على معلم الناس ¬

_ (¬1) انظر " أعلام الموقعين " (1/ 9). (¬2) رواه الدارمي في " سننه " (353)، والطبري في " تفسيره، (13/ 18)، والبيهقي في " الشعب " (2/ 261).

الخير " (¬1). وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: " الخلق كلهم يصلون على معلم الخير، حتى نينانُ البحر " (¬2). وعن أنس رضي الله مرفوعاً: " صاحب العلم يستغفر له كل شيء، حتى الحوتُ في البحر " (¬3). * والعلماء هم أولو الأمر الذين أوجب الله طاعتهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. قال ابن عباس وضي الله عنهما: " يعني أهل الفقه والدين وأهل طاعة الله، الذين يعلِّمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده " (¬4) اهـ. وعن أبي الأسود قال، " ليس شيء أعزَّ من العلم، وذلك أن الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك " (¬5). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2825)، وقال: " حسن صحيح "، والطبراني في " الكبير " (7912)، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (1834). (¬2) عزاه الألباني إلى ابن عدي، والجرجاني، والديلمي، فانظر: " الصحيحة " رقم (1852). (¬3) عزاه الألباني إلى أبى يعلى في " مسنده "، وصححه، كما في " صحيح الجامع " رقم (3647). (¬4) رواه الحاكم في " المستدرك " (1/ 123)، واللالكائي (1/ 73). (¬5) انظر: " جامع بيان العلم " (1/ 257).

فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم يسوسون الناس بما يرجع إليهم من العلم والدين، وهؤلاء أولو الأمر، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولو أمرها) (¬1) اهـ. وقال رحمه الله في موضع آخر: (" أولو الأمر ": أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس) (¬2). وقال تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله واصفًا العلماء: (هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء (¬3) بنص الكتاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬4) [النساء: 59] اهـ. قال ميمون بن مهران: " إن مثل العالم في البلد كمثل عينٍ عذبة في البلد " (¬5). ¬

_ (¬1) " مجموع الفتاوى " (11/ 551). (¬2) " السابق " (28/ 170). (¬3) وينبغي أن يكون هذا فيما يتعلق بأمر العلم لا مطلقًا، كما ذكره بعض الشافعية، انظر: " غذاء الألباب " للسفاريني (1/ 338). (¬4) " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (1/ 10). (¬5) " جامع بيان العلم وفضله " (1/ 237).

وقد قيل: " مثل العلماء مثل الماء، حيثما سقطوا نفعوا " (¬1). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: " أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ "، قال: " بابني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف؟ أو منهما من عوض؟ " (¬2). قال الإمام أحمد: (الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يُحتاج إليه في كل وقت) (¬3). وكيف تستغني -ياطالب العلم- عن العلماء؛ والفقهاء منهم (يضبطون عقلك، والمحدثون ينخلون أحاديثك، وجهابذة التفسير يفقهونك في قرآنك، والمؤرخون يعلمونك صعود الأمم وهبوطها على مدار القرون، والأصوليون يدربونك على أستنباط الأحكام، وأرباب اللغة يُقَوِّمون لسانك الأعوج، والربانيون يوصلون قلبك إلى الملإ الأعلى) (¬4). * والعلماء هم صفوة البشر على الحقيقة، وهم ورثة أربعة عشر قرنًا من العمل الدؤوب لخدمة الدين. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإِن العلماء ورثة الأنبياء، وإِن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكنهم ورَّثوا العلم، ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 257). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (10/ 45). (¬3) " إعلام الموقعين " (2/ 256). (¬4) " أشواك في الحقل الإسلامي " ص (54).

فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نضَّر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأدَّاها، فرُبَّ حامِل فقهٍ غير فقيه، ورُبَّ حامل فقهٍ إِلى من هو أفقهُ منه " (¬2) الحديث. وعن ابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين " (¬3). وعن الأوزاعي رحمه الله قال: " الناس عندنا أهلُ العلم، ومن سواهم فلا شيء ". الناسُ من جهة التِّمثال أكفاءُ ... أبوهُمُ آدم والأمُّ حواءُ فإن يكن لهمُ في أصلهم نسبٌ ... يفاخِرون به؛ فالطين والماءُ ما الفضلُ إلا لأهل العلم إنهمُ ... على الهدى لمن استهدى أدِلاء وقدرُ كلِّ امرئٍ ما كان يُحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداءُ فاهل العلم هم أصحاب البصيرة الذين أوتوا الحكمة، فهم يقضون بها، ويعلِّمونها للناس، وهم أوفر الناس حظًّا من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (5/ 196)، والدارمي رقم (349)، وأبو داود رقم (3641)، والترمذي رقم (2823)، وابن ماجه رقم (223) وصحح البخاري بعض طرقه. (¬2) أخرجه الترمذي رقم (2659)، وقال: " حسن صحيح "، وابن ماجه رقم (232)، والبغوي في " شرح السنة " (1/ 236). (¬3) رواه البخاري (4/ 49)، (8/ 149)، ومسلم رقم (1037) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأحمد (1/ 306)، والترمذي (4/ 137) عن معاوية رضي الله عنه.

أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وبهذه البصيرة يتفرسون ويستشفون عواقب الأمور، ولا تستفزهم البداءات. * وهم حُرَّاس الدين، وحُماته من الابتداع والتحريف: فعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ، وابن عمر، وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يَحمل هذا العلمَ من كل خَلفٍ عدو لُه، يَنْفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويلَ الجاهلين " (¬1). وقد قيل لعبد الله بن المبارك: " هذه الأحاديث المصنوعة؟! "، فقال: " يعيش لها الجهابذة " (¬2). وعن ابن عُلية قال: (أخذ هارون الرشيد زنديقًا، فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: " لم تضرب عنقي؟ "، قال له: " أريح العباد منك "، قال: " فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها ما فيها حرف نطق به؟! "، فقال له الرشيد: " فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفًا حرفًا ") (¬3). * وهم أولياء الله الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أولياء الله: الذين إِذا رؤوا ذُكِر الله " (¬4). ومن أعظم مناقب الربيع بن خُثيم رحمه الله قول ابن مسعود رضي الله عنه ¬

_ (¬1) صححه الإمام أحمد، وابن عبد البر وانظر تخريجه وتحقيقه في " العواصم من القواصم " لابن الوزير (1/ 308 - 313)، و " تحقيق المشكاة " رقم (248). (¬2) " اللاليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " للسيوطي (2/ 472). (¬3) " تذكرة الحفاظ " (1/ 252). (¬4) أخرجه الطبراني في " الكبير " (12325)، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (1733).

له: " يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحَبَّك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتين " (¬1). وقال أبو إسحاق السَّبيعي في شيخه عمرو بن ميمون الأودي: " كان إذا رُؤي ذكر الله " (¬2). وكان محمد بن سيرين رحمه الله إذا مَرَّ في السوق، فما يراه أحدٌ إلا ذكر الله تعالى (¬3). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " قال الله تعالى: من عادى لي وَليًا؛ فقد آذنتُه بالحرب " (¬4) الحديث. قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: " إن لم يكن الفقهاء أولياء الله؛ فليس لله ولي ". وقال الإمام الشافعي رحمه الله: " إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة، فما لله ولي " (¬5). وكان عكرمة رحمه الله يقول. " إياكم أن تؤذوا أحدًا من العلماء، فإن من آذى عالمًا فقدآذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". * والعلماء عصمة للأمة من الضلال، وهم سفينة نوح من تخلَّف عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان من المغرقين. ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (4/ 258). (¬2) " تهذيب التهذيب " (8/ 109). (¬3) " تاريخ الإسلام " للذهبي (4/ 193). (¬4) رواه البخاري (11/ 340 - فتح) رقم (6502)، وآذنته: أعلمته. (¬5) " الفقيه والمتفقه " (1/ 36).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إِن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إِذا لم يُبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " (¬1). وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: (" خذوا العلم قبل أن يذهب " قالوا: " وكيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟ "، قال: (فغضب -لا يغضبه الله- ثم قال: " ثكلتكم أمهاتكم، أو لم تكن التوراة والإِنجيل في بني إِسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئًا؟ إِن ذهاب العلم: أن يذهب حَمَلته ") (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " أتدرون ما ذهاب العلم؟ "، قلنا: " لا "، قال. " ذَهاب العلماء " (¬3). وعنه رضي الله عنه قال: " لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يَدْرس، حتى يكثر أهل الجهل، وقد ذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل " (¬4). وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " من سوَّده قومه على الفقه، كان حياة له ولهم، ومن سوَّده قومُه على غير فقه، كان هلاكًا له ولهم " (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1/ 174، 175)، ومسلم رقم (2673). 175 (¬2) رواه الدارمي (1/ 77 - 78)، والطبراني في " الكبير " (8/ 276) رقم (7906)، وانظره ص (256، 262). (¬3) " السابق " (1/ 78). (¬4) " جامع بيان العلم " (1/ 603) رقم (1039). (¬5) " شرح السنة " (317/ 1).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لا يزال الناس بخيرٍ ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه عن صغارهم وشرارهم هلكوا " (¬1). وقال الحسن " موت العالم ثُلْمَة (¬2) في الإسلام، لا يسُدُّها شيء ما طرد الليل والنهار " (¬3). وقال هلال بن خبَّاب: سألت سعيد بن جبير؛ قلت: " يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ "، قال: " إذا هلك علماؤهم " (¬4). وقال سفيان بنْ عيينة: " وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهلُ العلم؟ " (¬5). وقال الحسن البصري: " الدنيا كلها ظُلمة إلا مجالس العلماء " (¬6). وقال الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله: ( ..... فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيَّروا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس، لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح، ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم " (1/ 616)، و " الزهد " لابن المبارك (815)، و " مصنف " عبد الرزاق (11/ 246)، و " حلية الأولياء " (8/ 49). (¬2) الثلمة: الكسر والخلل في الحائط، فاستعير. (¬3) " جامع بيان العلم " (1/ 595). (¬4) رواه الدارمي (1/ 78). (¬5) " شرح السنة " (318/ 1). (¬6) " جامع بيان العلم " (1/ 236).

فبقوا فى الظلمة، فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداءُ الفرائض، ولا كيف اجتنابُ المحارم، ولا كيف يُعْبد الله في جميع ما يَعبده به خلقُه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحيَّر الناس، ودَوَس العلم بموتهم، وظهر الجهل) (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " أخلاق العلماء " ص (96).

أدب الأئمة مع شيوخهم ومع بعضهم البعض

أدب الأئمة مع شيوخهم ومع بعضهم البعض ولأن " أدب الأئمة إِمام الأدب " نعرض فيما يلي مواقف عملية لأئمة الهدى في التأدب مع مشايخهم، ومع أقرانهم، لعلنا نقتبس منها الدرس والعبرة: فعن موسى بن يسار قال: (كان رجاء بن حيوة، وعدي بن عدي، ومكحول في المسجد، فسأل رجل مكحولاً عن مسألة، فقال مكحول: " سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة ") (¬1). (وكان القاضي " أحمد بن إبراهيم بن حماد المالكي " مع كونه كبير القضاة، إلا أنه كان يتردد إلى الإمام " أبي جعفر الطحاوي الحنفي " يسمع من تصانيفه، واتفق مجيء شخص لاستفتاء الطحاوي عن مسألة، والقاضي عنده، فقال له الطحاوي: " مذهب القاضي -أيده الله- كذا وكذا، فقال له السائل: " ما جئت إلى القاضي، إنما جئت إليك "، فقال: " يا هذا، هو كما قلت "، فأعاد السائل، فقال له القاضي: " أفته -أيدك الله- برأيك " فقال له الطحاوي: " إذا حيث أذن القاضي -أيده الله- أفتيته "، ثم أفتاه) (¬2). وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: (كان يحيى بن سعيد يجالس ربيعة، فإذا غاب ربيعة، حدثهم يحيى أحسن الحديث، وكان كثير الحديث، فإذا حضر ربيعة كفَّ يحيى إجلالاً لربيعة، وليس ربيعة بأسنَّ منه، وهو فيما هو ¬

_ (¬1) " الفقيه والمتفقه " (2/ 179). (¬2) " ذيل التبر المسبوك " (16).

فيه، وكان كل واحد منهما مبجِّلاً لصاحبه) (¬1). إن يختلفْ ماءُ الوِصال فماؤنا ... عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِن غَمامٍ واحِد أو تختلفْ نسبًا يؤلفْ بيننا ... أدب أقمناه مقامَ الوالدِ وعن عبيد الله بن عمر قال: (كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فيَسحُّ علينا مثل اللؤلؤ -ويشير عبد الله بيديه إحداهما على الأخرى- قال عُبيد الله: " فإذا طلع ربيعة، قطع يحيى حديثه إجلالاً لَربيعة، وإعظامًا له ") (¬2) عن محمد بن رافع قال: (كنت مع أحمد وإسحاق عند عبد الرزاق، فجاءنا يوم الفطر، فخرجنا مع عبد الرزاق إلى المصلَّى، ومعنا ناس كثير، فلما رجعنا، دعانا عبد الرزاق الي الغداء، ثم قال عبد الرزاق لأحمد وإسحاق: " رأيت اليومَ منكما عجبًا، لم تكبرا "، فقال أحمد وإسحاق: " يا أبا بكر، كنا ننتظر هل تكبر، فنكبر، فلما رأيناك لم تكبر، أمسكنا "، قال: " وأنا كنت أنظر إليكما، هل تكبِّران فأكبر!! ") (¬3). وقيل لأبي وائل: " أيكما أكبر؛ أنت أم الربيع بن خثيم؟ "، قال: " أنا أكبر منه سنًا، وهو أكبر مني عقلاً " (¬4). وقال أبو حاتم الرازي: (كان ابن المديني عَلَمًا في الناس في معرفة الحديث والعلم، وكان أحمد بن حنبل لا يسميه، إنما يَكْنِيه تبجيلاَّ لَه) (¬5). ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (6/ 92). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 320). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (9/ 566). (¬4) " السابق " (4/ 163). (¬5) " السابق " (11/ 43).

وقال أيضًا: (ما سمعت أحمد بن حنبل سمَّاه قط -يعني علي بن المديني- إنما كان يكنيه تبجيلاً له) (¬1). وقال أحمد بن حنبل: (قال لنا الشافعي: " أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث، فقولوا لنا حتى آخذ به ") (¬2). وجاء يحيى بن معين إلى أحمد بن حنبل فبينا هو عنده، إذ مرَّ الشافعي على بغلته، فوثب أحمد يُسَلِّم عليه وتبعه، فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: " يا أبا عبد الله كم هذا؟ "، فقال: " دع عنك هذا، إن أردت الفقه فالزم ذَنَبَ البغلة " (¬3). وقال العراقي: " لا ينبغي للمحدث أن يحدّث بحضرة من هو أولى منه بذلك ". وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء لسنه (¬4). وقال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: " مالك لا تحدث؟ " فقال: " أمَّا وأنت حيٌّ فلا " (¬5) * وقال أبو إسحاق الجوزجاني: سمعت يحيى بن معين يقول: " الذي يُحدِّثُ ببلد به من هو أولى بالتحديث منه أحمق، وإذا رأيتني أحدِّث ببلد فيها مثلُ أبي مُسْهِر فينبغي للحيتي أن تُحلقَ " (¬6). ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ " (2/ 428). (¬2) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (29). (¬3) " مناقب الشافعي " اللبيهقي (2/ 252)، و " سير أعلام النبلاء " (10/ 86 - 87). (¬4) " الجامع " للخطيب (1/ 320). (¬5) " السابق " (1/ 318). (¬6) " سير أعلام النبلاء " (10/ 231) وقوله: " فينبغي للحيتي أن تُحْلق " يعني عقوبةً وتعزيرًا، وقد =

وقال بعض أهل العلم في حق الحاكم ابن البيِّع صاحب " المستدرك ": (ولقد سمعت مشايخنا يذكرون أيامه، ويحكمون أن مقدمي عصره مثل أبي سهل الصعلوكي , والإمام ابن فورك، وسائر الأئمة يقدمونه على أنفسهم، ويُراعون حق فضله، ويعرفون له حرمته الأكيدة) (¬1) اهـ وكان بين الإمامين أبي نعيم وابن مَنْدة وحشة شديدة، ومع ذلك لما ذُكر لأبي نعيم ابنُ مَندة؛ قال: " كان جبلاً من الجبال " (¬2). ولما قدم العز بن عبد السلام إلى الديار المصرية بالغ الشيخ زكيُّ الدين المنذرى (محدِّث مصر وصاحب كتاب " الترغيب والترهيب " في الأدب معه، وامتنع من الإفتاء لأجله، وقال. " كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره؛ فمنصب الفتيا متعين فيه ") (¬3). أدب كمثل الماءِ لو أفرغتَه ... يومًا لسال كما يسيلُ الماء * * * ¬

_ = نص بعض فقهاء الشافعية على أنه (يجوز التعزير بحلق الرأس لا اللحية) اهـ. من " تحفة المحتاج " (9/ 178). (¬1) " سير أعلام النبلاء " (17/ 170). (¬2) " السابق " (17/ 32). (¬3) " حسن المحاضرة " (1/ 127).

النصرة والولاء بين العلماء

النصرة والولاء بين العلماء لقد ربط الإسلام المسلم بأخيه حتى صارا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، (فربْطُ الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إِن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إِذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " (¬1)، ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس، وإرادة الأخ تنبيهًا على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كقوله تعالى:: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]، أي: لا تخرجون إخوانكمِ، وكقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12]، أي: بأخوانهم على أصح التفسيرين، وقوله عز وجل: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي: إخوانكم على أصح التفسيرين، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 188]، أي: لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات، ولذلك ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (10/ 438) رقم (6012)، ومسلم رقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. (¬2) رواه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه البخاري (1/ 56) رقم (13)، ومسلم رقم (45)، والنسائي (8/ 115)، والترمذي رقم (2517)، وابن ماجه رقم (66).

ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية، قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]؛ إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [التوبة: 71]، وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] الى غير ذلك من الآيات. إن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق، وتؤلف المختلف هي رابطة " لا إله إلا الله "، ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كانه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضًا؛ عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم فيِ الأرضِ مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: ُ {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر 7: 9]. فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنما هي الإيمان بالله جل وعلا، لأنه قال عن الملائكة: {وَيُؤْمِنُون بِه} فوصفهم بالإيمان، وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فوصفهم أيضًا بالايمان , فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان، وهو أعظم رابطة. ومما يوضح ذلك قوله تعالى في أبي لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سيصلى نارًا

ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، ويُقابَلُ ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ولقد أجاد من قال: لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ ... وقد وضع الكفرُ الشريفَ أبا لهب وقد أجمع العلماء على أن الرجل إن مات، وليس له من الأقرباء إلا ابن كافر؛ أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية) (¬1). واعتبر ذلك أيضًا بقول الله تعالى مخاطبًا نوحًا عليه السلام في شأن ابنه الكافر: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: " ألا وإن وليَّ محمد من أطاع الله، وإن بعدت لُحْمَتُهُ، ألا وان عدو محمد من عصى الله، وإن قربت لحمته " (¬2). كان الحافظ ابن حجر رحمه الله يقرأ أجزاء على شيخه إبراهيم بن داود الآمدي برهان الدين، فقال في قراءته عليه تأدبًا: " أخبركم -رضي الله عنكم وعن والديكم- .. "، فنظر إليه الآمدي منكرًا، وقال: " ما كان على الإسلام (¬3)! " (¬4). لقد علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يجب موالاة كل مسلم بحسب موالاته لله ورسوله والمؤمنين، وأنه يُحب ويوالي بقدر نصرته للمؤمنين، ونكايته في أعداء ¬

_ (¬1) بتصرف من " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " (3/ 401 - 408). (¬2) انظر: " محاسن التأويل " للقاسمي (9/ 3448 - 3449). (¬3) لأن أباه مات على النصرانية وهو صغير، فحمله وصيه الشيخ عبد الله الدمشقي إلى مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فأسلم عليه. (¬4) " الدرر الكامنة " (1/ 21).

الدين: فعن أبي بَرْزَة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان في مَغْزًى له (¬1)، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: " هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: " نعم، فلانًا، وفلانًا، وفلانًا "، ثم قال: " هل تفقدون من أحد؟ "، قالوا: " نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا "، ثم قال: " هل تفقدون من أحد؟ " قالوا: " لا "، قال: " لكني أفقد جُلَيبيبًا، (¬2) فاطلبوه "، فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه، فقال: " قتل سبعة، ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه " (¬3)، قال: فوضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فحفر له، ووضع (¬4) في قبره، ولم يذكر غسلاً (¬5)) (¬6). وعن ثابتٍ البُنانيِّ عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جليبيب امرأة من الأنصار، فقال (¬7): " حتى أستأمر أمها "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فنعم إذًا "، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: " لا ها الله (¬8) إذًا ما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا جليبيبًا (¬9)، وقد منعناها من فلان وفلان؟ "، قال: ¬

(¬1) أي في سفر غزو له، أي: وفيمن معه جليبيب. (¬2) جُلَيبيب: تصغير جلباب. (¬3) ومعناه المبالغة في اتحاد طريقهما، واتفاق ما في طاعة الله تعالى، عكس قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من رغب عن سنتي فليس مني ". (¬4) وفي رواية: " ثم وضعه في قبره ". (¬5) لأن الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه. (¬6) رواه الإمام أحمد (4/ 421)، ومسلم رقم (2472). (¬7) أي: أبوها. (¬8) أي: هذا يميني، و " لا " لنفى كلام الرجل، و " ها " بالمد والقصر بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها. (¬9) " إذاً ما وجد ... " إلخ هو جواب القسم، قالت ذلك؛ لأن جليبيبًا كان في وجهه دمامة.

والجارية في سِترها تستمع، قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -بذلك، فقالت الجارية: " أتريدون أن تردوا على رسول - صلى الله عليه وسلم - أمره (¬1)؟ إن كان قد رضيه لكم؛ فانكحوه، فكأنها جلت (¬2) عن أبويها، وقالا: " صدقت "، فذهب أبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " إن كنت قد رضيته؛ فقد رضينا "، قال: " فإني قد رضيته "، فزوجها، ثم فزع (¬3) أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قُتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس: " فلقد رأيتها، وإنها لمن أنفق (¬4) بيت في المدينة "). وفي رواية قال ثابت: " فما كان في الأنصار أيِّم أنفقُ منها " (¬5) وحدث إسحاقُ بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتًا قال هل تعلم ما دعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم صُبَّ عليها الخير صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا كدًّا " (¬6)، قال: ¬

(¬1) وفي رواية: " ادفعوني إليه؟ فأنه لم يُضَيِّعْني ". (¬2) جَلَتْ: كشفت وأوضحت أمرًا خفي عليهما، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - {أَولَى {بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم} [الأحزاب: 6]، ولقوله تعالى: ({وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. (¬3) أي: أخافهم العدو. (¬4) أنفق: من النَّفاق -بفتح النون المشددة- وهو ضد الكساد، والمعنى أنها كانت أعظم امرأة أيِّم في بيوت المدينة يتسابق إليها الخُطَّاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، ويبركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. (¬5) رواه الإمام أحمد (4/ 422). (¬6) الكد: الشدة والضيق.

" فما كان في الأنصار أيم (¬1) أنفقُ منها ". وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الأشعريين إذا أرملوا (¬2) في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني (¬3)، وأنا منهم " (¬4). هكذا لقَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته هذا المعيار الدقيق للولاء والانتماء، وفي الجانب المقابل لقنهم معيار البراء في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا من دعا إِلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية " (¬5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى " (¬6) الحديث. * وكان أولى الناس بالتزام هذا المعيار العلماء الذين هم ورثته - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يزنون الأشخاص، ويحددون أقدارهم تبعًا لمقدار نفعهم للإسلام وأهله، ¬

_ (¬1) الأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكرًا كانت أو ثيبًا. (¬2) أرمل القوم: إذا فني زادهم ونَفِد، وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة، كما قيل في (ذَا مَتربَة) (البلد: 15) - اهـ. من " فتح الباري " (5/ 130). (¬3) أي هم متصلون بي، وتسمى " من " هذه الاتصالية، كقوله: " لست من دَدٍ " {انظر: " السلسلة الضعيفة " رقم (2453)}، والدد: اللهو واللعب. (¬4) رواه البخاري (5/ 128) رقم (2486)، ومسلم رقم (2500). (¬5) أخرجه أبو داود رقم (5121)، من حديث جبير بن مطعم رضمي الله عنه، وإسناده ضعيف، ويشهد له ما رواه مسلم برقمي (1850)، (1848). (¬6) رواه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الترمذي رقم (2696)، وقال الحافظ في " الفتح ": " في سنده ضعف ".

وتجلى هذا الولاء في ثناء بعضهم على بعض

ونكايتهم لأعداء الإسلام وأهله، وكانت رقعة محبتهم للشخص تتسع بقدر محبته لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن من أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ خُدَّامه وأصحابه، وأحب حملة العلم والقرآن. حكى ابن كثير في تاريخه: (أن أبا محمد البربهاري الحنبلي -العالم الزاهد الفقيه- عطس يومًا وهو يعظ، فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم، حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة) (¬1). وقال أبو حاتم الرازيُّ: " ما رأيت أحدًا أعظم قدرًا من أبي مسهر، كنتُ أراه إذا خرج إلى المسجد، اصطفَّ الناسُ يسلمون عليه، ويقبلون يده " (¬2). وقال المروذي: (قدم رجل من طرَسُوس، فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل؛ رفعوا أصواتهم بالدعاء: " ادعوا لأبي عبد الله ") (¬3)، يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وتجلى هذا الولاء في ثناء بعضهم على بعض: عن يحيى بن سعد قال: ذكر عمر فضل أبي بكر، فجعل يصف مناقبه، ثم قال: " وهذا سيدُنا بلال حسنةٌ من حسناته " (¬4). وهذا ابن عمر رضي الله عنهما -وهو من هو- يتواضع لمفتي مكة عطاء مع أنه تابعي: فعن عمر بن سعيد عن أمه قالت: (قدم ابن عمر مكة، فسألوه، فقال: " أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل، وفيكم ابن أبي رباح -يعني عطاء-؟!) (¬5) ¬

_ (¬1) " البداية والنهاية " (11/ 201). (¬2) " الجرح والتعديل " (6/ 29). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (11/ 210). (¬4) " الجامع " للخطيب (1/ 340). (¬5) " صفة الصفوة " (2/ 143)، وقد روي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في " سير أعلام النبلاء " (81/ 5).

وتجلى هذا الولاء في دفاع بعضهم عن بعض

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: (أيَّ رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر! هل لهذين من خَلَف، أو عنهما من عِوض؟) (¬1). وما أحسن ما نُسب إلى الشافعي رحمه الله من قوله (¬2): قالوا: يزورك أحمد وتزوره ... قلت: الفضائل ما تعدت منزله إن زارني فبفضله، أو زرته ... فلفضله، فالفضل في الحالين له وقال حاشد بن إسماعيل: (كنت بالبصرة، فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل -أي البخاري- فلما قدم قال بُندار: " اليوم دخل سيد الفقهاء ") (¬3). * وتجلى هذا الولاء في دفاع بعضهم عن بعض: فعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة عند عمَّار، فقال: " اعزب مقبوحًا منبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! " (¬4). وقال كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: (ولما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - تبوك , ذكرنى, وقال: " ما فعل كعب "؟ فقال رجل من قومي: " خلَّفه يا نبي الله برداء، والنظر في عطفيه "، فقال معاذ رضي الله عنه: " بئس ما قلتَ، والله ما نعلم إلا خيرًا ") (¬5). وقال عباد بن عباد: (أراد شعبة أن يقع في خالد الحذاء -أحد الأئمة الحفاظ الأعلام- فأتيتُه أنا وحماد بن زيد، فقلنا له: " مالك؟! أجُنِنْتَ؟! "، وتهددناه , ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (10/ 45)، " تاريخ بغداد " (2/ 62، 66). (¬2) " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " ص (195). (¬3) " تاريخ بغداد " (2/ 16). (¬4) أخرجه الترمذي رقم (3888) , وحسنه، وابن سعد في " الطبقات " (8/ 65)، وأبو نعيم، في " الحلية " (44/ 2). (¬5) قطعة من حديث طويل رواه البخاري (5/ 130)، ومسلم (4/ 2122)، وأحمد (3/ 457).

فسكت) (¬1) ولما زلَّ الإمام الحافظ وكيع بن الجراح زلة عالم فروى خبرًا منكرًا، فاتته فيه سكتة، كادت نفسه تذهب غلطًا، فاجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة صلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم: " الله الله! هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف "، قال سفيان: " ولم أكن سمعته إلا أني أردتُ تخليص وكيع ". وكان قد رفع أمره إلى العثماني -متولّي مكة- فحبسه، وعزم على قتله، ونُصِبت خشبة خارج الحرم، وبلغ وكيعًا، وهو محبوس، قال الحارث بن صديق: فدخلتُ عليه لما بلغني، وقد سبق إليه الخبر، قال: وكان بينه وبين ابن عيينة يومئذ مُتباعَد، مقال لي: " ما أرانا إلا قد اضطررنا إلى هذا الرجل، واحتجنا إليه "، فقلت: " دع هذا عنك! فإن لم يدركك، قُتِلت "، فأرسل إلى سفيان، وفزع إليه، فدخل سفيان على العثماني، فكلَّمه فيه، والعثماني يأبى عليه، فقال له سفيان: " إني لك ناصح، هذا رجل من أهل العلم، وله عشيرة، وولدُه بباب أمير المؤمنين، فتشخص لمناظرتهم "، قال: فعمل فيه كلام سفيان، فأمر إطلاقه ..... (¬2). ولما اقتيد الإمام الشافعي مكبَّلاً بالحديد إلى بغداد سنة (184 هـ) إثر اتهامه زورًا بالتحريض ضد العباسيين، وناقشه الخليفة الرشيد، بحضور محمد بن الحسن الشيباني الذي كان قاضي بغداد في ذلك الوقت، والذي استأنس ¬

_ (¬1) " تهذيب التهذيب " (3/ 122)، و " سير أعلام النبلاء " (6/ 191). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (9/ 160، 163).

الشافعي به لما رآه في مجلس الرشيد عند الاتهام، ولأن العلم رحم بين أهله؛ قال الشافعى مخاطبًا الرشيد: " إن لي حظًا من العلم، وإن القاضي محمد بن الحسن يعرف ذلك "، فسأل الرشيد محمدًا، فقال: " له من العلم حظ كبير، وليس الذي وقع عليه من شأنه "، وكانت تلك الشهادة من الإمام محمد بن الحسن رحمه الله سببًا في نجاة الشافعي، وتبرئته من الاتهام الكاذب (¬1). (ولما وقعت المناظرة لشيخ الإسلام ابن تيمية مع الشافعية، وبحث مع الصفي الهندي، ثم ابن الزملكاني، بالقصر الأبلح، شرع الإمام أبو الحجاج المزي رحمه الله يقرأ كتاب " خلق أفعال العباد " للبخاري، وفيه فصل في الرد على الجهمية، فغضب بعض الفقهاء، وقالوا: " نحن المقصودون بهذا "، فبلغ ذلك القاضي الشافعي يومئذ، فأمر بسجنه، فتوجَّه ابن تيمية وأخرجه من السجن، فغضب النائب، فاعيد، ثم أفرِج عنه) (¬2). وتكلم الامام المحقق ابن قيم الجوزية حول درجة " الفتوة " ثم قال رحمه الله: (ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي؛ فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه، ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة، وما رأيت أحدًا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله رُوحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: " وددت أني لأصحابي مثلُه لأعدائه وخصومه "، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذىً له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزَّاهم، وقال: ¬

_ (¬1) " تاريخ المذاهب الإسلامية " (1/ 234). (¬2) " الدرر الكامنة " (5/ 234)، ت (5122).

وتجلى هذا الولاء في حزنهم لموت الواحد منهم

" إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجونه فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه " ونحو هذا الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله، ورضي عنه) (¬1) اهـ. واستفتى السلطان محمد بن الملك المنصور قلاوون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموه في حق شيخ الإسلام (¬2)، وأخرج السلطان من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله. قال شيخ الإسلام: (ففهمت مقصوده أن عنده حنقًا شديدًا عليهم، لما خلعوه، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم). قال: كان القاضي زين الدين ابن مخلوف -قاضي المالكية- يقول بعد ذلك: " ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا " (¬3). وتجلى هذا الولاء في حزنهم لموت الواحد منهم: قال الحسن: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " موت العالم ثُلْمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار " (¬4). ¬

_ (¬1) " مدارج السالكين " (2/ 345). (¬2) وكان هؤلاء العلماء والقضاة هم الذين حكموا على شيخ الإسلام بالحبس ثمانية عشر شهرًا، وكانوا هم أنفسهم الذين مالئوا بيبرس الجاشنكير خصم السلطان محمد بن قلاوون عليه. (¬3) " العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية " ص (187)، وانظر: " الرد الوافر " ص (197)، و " البداية والنهاية " (14/ 54). (¬4) " شرح السنة " (1/ 317).

وقال أيوب: " إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي " (¬1). وأخرج اللالكائي أن حماد بن زيد قال: (كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيُرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل يُذكر بعبادة فما يُرى ذلك فيه) (¬2). وقال أيوب: " إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " (¬3). وقال يحيى بن جعفر: " لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل -أي البخاري- من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم " (¬4). وعن عبيد الله بن عبد الكريم قال: (كان محمد بن داود خصمًا لأبي العباس بن سريج القاضي، وكانا يتناظران، ويترادان في الكتب، فلما بلغ ابن سريج موتُ محمد بن داود نحَّى مخاده، ومشاوره، وجلس للتعزية، وقال: " ما آسى إلا على تراب أكل لسان محمد بن داود ") (¬5). ونظرة إلى مراثي الأئمة في إخوانهم من العلماء تعكس صدق هذه المشاعر الحارة. * * وتجلى هذا الولاء في دعاء بعضهم لبعض اعترافًا بجميلهم، ومكافأة ¬

_ (¬1) " حلية الأولياء " (3/ 9). (¬2) " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " لللالكائي (1/ 61) رقم (34). (¬3) " السابق " (1/ 61) رقم (35). (¬4) " تاريخ بغداد " (2/ 24). (¬5) " السابق " (5/ 259).

لصنيعهم، وقد قال الشافعي رحمه الله: " الحر من راعى وِداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة ". عن أم الدرداء قالت: (كان لأبي الدرداء ستون وثلاث مائة خليل في الله، يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب، إلا وكَّل الله به ملكين يقولان: " ولك بمثل "، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟) (¬1). قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (ما مددت رجلي نحو دار أستاذي حماد إجلالاً له، وكان بين داري وداره سبعُ سِكك، وما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرتُ له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه أو علمني علمًا) (¬2). وقال أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة: (إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبويَّ، ولقد سمعت أبا حنيفة يقول: " إني لأدعو لحماد مع أبويَّ "). قال ابن راهويه رحمه الله: " قلَّ ليلة إلا وأنا أدعو فيها لمن كتب عنا، ولمن كتبنا عنه " (¬3). وقال الحارث بن سريج: (سمعت يحيى القطان يقول: " أنا أدعو الله للشافعي، أخصه به "). وقال الإمام أحمد: " ما بِتُّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي، وأستغفر له ". ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (2/ 351). (¬2) " مناقب الإمام أبي حنيفة " للخوارزمي (2/ 7). (¬3) " فتح المغيث " (2/ 301).

قال ابن أبي حاتم: رأيت في كتاب عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني - المعووف برستة- إلى أبي زرعة بخطه: " اعلم -رحمك الله- أني ما أكاد أنساك في الدعاء لك ليلي ونهاري: أن يمتَّع المسلمون بطول بقائك، فإنه لا يزال الناس بخير ما بقي من يعرف العلم، وحقَّه من باطله .. وقد جعلك الله منهم .. " (¬1). وسأل رجل الإمام أحمد فقال: " بالري -مدينة بالمشرق- شاب يقال له: أبو زرعة "، فغضب أحمد، وقال: " تقول: شاب؟ " -كالمنكر عليه، ثم رفع يديه، وجعل يدعو الله عز وجل لأبي زرعة، ويقول: " اللهم انصره على من بغى عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء، اللهم .. اللهم ... " في دعاء كثير (¬2). وقال عبد الله بن أحمد: " ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم ". و (كان لأبي حمدون -أحد القراء المشهورين- صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه: " يا أبا حمدون! لمَ لَمْ تُسرج مصابيحك الليلة؟ " قال: فقعد فأسرج، وأخذ الصحيفة فدعا لوَاحدٍ واحد حتى فرغ) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " الجرح والتعديل " (1/ 341). (¬2) " طبقات الحنابلة " (1/ 130). (¬3) " تاريخ بغداد " (9/ 361).

الفصل الرابع الأدب مع العلماء

الفصل الرابع الأدب مع العلماء إن التأدب مع العلماء الموقعين عن رب العالمين هو تأدب مع الله تعالى، وتعظيم العلماء تعظيم لشعائر الله، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32] و " الشعيرة " هي كل ما أشعر الله بتعظيمه من أعلام الدين، وتوقير حملة الشرع وحماته من توقير الشارع نفسه عز وجل؛ قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، قال سعيد بن جبير: " ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته "، وكل ما يشرف بالإضافة إلى الله عز وجل فإن حقه التعظيم، قال سعيد بن المسيب رحمه الله: " لا تقولوا: مُصَيْحِف، ولا مُسَيْجِد، ما كان لله فهو عظيم حسنٌ جميل " (¬1). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه " (¬2). وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: " اتفقوا على توقير أهل القرآن والإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الخليفة ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (4/ 238). (¬2) رواه الإمام أحمد (5/ 323)، والحاكم (1/ 122)، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (5319).

فائدتان

والفاضل والعالم " (¬1). وقد بلغ أمر تعظيم العلماء، ووجوب صيانة تاريخ أكابر المسلمين إلى حَدِّ النص عليه في متون " الاعتقاد " التي لا تضم إلا أمهات قضايا العقيدة المتفق عليها عند أهل السنة، بحيث لا يخالف فيها إلا شاذ خارج عن الجماعة، قال الإمام الطحاوي في " عقيدته " المشهورة: " وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يُذْكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ". قال شارحه رحمه الله: " قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فيجب على كل مسلم -بعد موالاة الله ورسوله- موالاةُ المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصًا الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمُحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا " (¬2) اهـ. فائدتان: الأولى: العلم رَحِمٌ بين أهله: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنما أنا لكم مثل الوالد لولده - ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن مفلح في " الآداب الشرعية " (1/ 408). (¬2) " شرح الطحاوية " (2/ 740).

الثانية: الأدب مع الأكابر خلق مغروز في نفوس البهائم

وفي لفظ: بمنزلة الوالد- أعلِّمُكم ... " الحديث (¬1). وفي مقدمة " تهذيب الأسماء واللغات " تحدث النووي رحمه الله عن أهمية تراجم العلماء، فقال رحمه الله: " إنهم أئمتنا وأسلافنا، كالوالدين لنا ". وقال في " المجموع " وهو يترجم الإمام أبا العباس بنَ سُريج: " وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه ". وقال الشاعر: أفضِّل أستاذي على فَضْل والدي ... وإن نالني من والدي المجدُ والشرفْ فهذا مُرَبِّي الروحِ والروحُ جوهرٌ ... وذاك مربي الجسمِ والجسمُ كالصدف فبين العالم والمتعلم أبوة دينية (¬2)، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وفي قراءة أبي: " وهو أب لهم " (¬3). الثانية: الأدب مع الأكابر خلق مغروز في نفوس البهائم: فقد قال عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] والشاهد في قولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ فإنه يدل على ظهور رحمة سليمان وجنوده، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، ويدل على أدبها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود رقم (8)، وابن ماجه (1/ 131)، والدارمي (1/ 172)، وحسنه الألباني في " المشكاة " (1/ 112). (¬2) يسميها القانون الإيرلندي " الرضاع الأدبي ". (¬3) انظر: " طريق الهجرتين " ص (16).

الرفيع مع نبي الله سليمان وصحبه حيث نزهتهم عن أن يفعلوا ذلك عمدًا، واعتذرت عنهم بأنهم إن صدر منهم أذى لكم، فإنما هو عن غير قصد منهم، لأنهم لا يشعرون بذلك، ولا يتعمدونه (¬1)، فكيف ينبغي أن يكون أدبنا مع صحابة نبينا - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وسائر أئمتنا؟! وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملةَ في جحرها، وحتى الحوتَ، ليصلون على مُعَلِّم الناسِ الخيرَ " (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: " التفسير الكبير " للرازي (12/ 197)، و " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (170/ 13). (¬2) قال القرطبي رحمه الله: (وقولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى الدين والعدل والرأفة، ونظير قول النملة في جند سليمان: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ قولُ الله تعالى في جند محمد - صلى الله عليه وسلم -: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ,التفاتًا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن، إلا أن المثنيَ على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى، والمُثني على جند محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الله عز وجل بنفسه؛ لما لجنود محمد - صلى الله عليه وسلم - من الفضل على جند غيره من الأنبياء؛ كما لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين) اهـ. من " الجامع لأحكام القرآن " (13/ 170). (¬3) " صحيح الترمذي " رقم (2159).

من آداب طالب العلم

من آداب طالب العلم قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامة، وتجلس قُدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل: " قال فلان خلاف قولك "، ولا تأخذ بثوبه، ولا تُلح عليه في السؤال، فإنه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء) (¬1). وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تُعَنّته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تُفضين له سرًا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته، وإن زَلَّ قبلت معذرته، وعليك أن تُوَقِّره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقتَ القوم إلى خدمته " (¬2). وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: " يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذل في المجالس بالسخف والضحك والقهقهة وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يُستجاز من المزاح بيسيره ونادره ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم وفضله " (1/ 580) رقم (992)، و " الجامع " للخطيب (1/ 199). (¬2) " إرشاد الطالب " ص (78 - 79).

وقال ابن جماعة في آداب المتعلم مع زملائه

وطريفه، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدور، وجلب الشرَّ، فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويُزيل المروءة " (¬1) اهـ. ومن أدبه: أن يحضر درس الشيخ على أحسن الهيئات، وأكمل الطهارات، " وكان الشيخ أبو عمر يقطع من حضر من الفقهاء الدرس محففًا بغير عمامة، أو مفكك أزرار الفرجية " (¬2). وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " أحِبُّ إلي أن انظر القارئ أبيض الثياب " (¬3)؛ يعني ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق. وقال ابن جماعة في آداب المتعلم مع زملائه. " أن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه، واحترام لمجلسه، وهم رفقاؤه، فيوقر أصحابه، ويحترم كبراءهم وأقرانه، لا يجلس وسط الحلقة، ولا قدام أحد إلا لضرورة -كما في مجالس التحديث- ولا يفرق بين رفيقين، ولا بين متصاحبين إلا بإذنهما معًا " (¬4). وعلى طالب العلم أن ينظر شيخه بعين الإجلال، فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدَّق بشيء وقال: " اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب بركة علمه مني ". * * * ¬

_ (¬1) " الجامع " للخطيب (1/ 156). (¬2) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (235). (¬3) " الإحكام " للقرافي ص (271). (¬4) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (152 - 153).

توقير العالم وهيبته

توقير العالم وهيبته قال طاووس بن كيسان: " إن من السنة أن تُوَقِّر العالم " (¬1). وعن الحسن قال: رُئيَ ابن عباس يأخذ برِكاب أبيّ بن كعب، فقيل له: " أنت ابنُ عَمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟ "، فقال: " إنه ينبغي للحَبْر أن يُعَظَّمَ ويُشَرَّفَ " (¬2). وعن الشعبي قال: (صلَّى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال له زيد: " خَلِّ عنك يا ابن عم رسول الله "، فقال ابن عباس: " هكذا يُفعل بالعلماء والكبراء "). وفي رواية عنه قال: (أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، فقال: " أتمسك لي وأنت ابنُ عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " قال: " إنا هكذا نصنع بالعلماء " (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن حديث ما منعني منه إلا هيبتُه، حتى تخلَّف في حجة أو عمرة في الأراك الذي ببطن " مر الظهران " لحاجته، فلما جاء وخلوتُ به؛ قلت: " يا أمير المؤمنين! أريد أن أسألك عن حديث منذ سنتين، ما منعني إلا هيبة لك "، قال: " فلا تفعل، إذا أردت أن تسألني فسلني، فإن كان عندي منه أخبرتك، وإلا قلتُ: لا أعلم، فسألتَ من يعلم "، قلت: " من المرأتان اللتان ذكرهما الله تعالى أنهما تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " قال: " عائشة وحفصة ... " الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم " (1/ 459). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 188). (¬3) " الجامع " للخطيب (1/ 188). (¬4) " جامع بيان العلم " (1/ 456).

وعن الليث قال: " كان سعيد بن المسيب يركع ركعتين، ثم يجلس، فيجتمع إليه أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، لا يجترئ أحد منهم أن يسأله عن شيء إلا أن يبتدئهم بحديث، أو يجيئه سائل فيسأل، فيسمعون " (¬1). وعن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي قال: " ما كان إنسان يجترئ على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يُستأذَنُ الأمير " (¬2). وعن محمد بن سيرين قال: " رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأصحابه يعظمونه، ويُسَوِّدونه، ويُشَرِّفونه مثل الأمير " (¬3). وقال الأعمش رحمه الله: " كنا نهاب إبراهيم كما يُهاب الأمير " (¬4). وعن أبى عبد الله المُعَيطي قال: (رأيت أبا بكر بن عياش بمكة، فأتاه سفيان ابن عيينة، فبرك بين يديه، فجعل أبو بكر يقول له: " يا سفيان كيف أنت؟ يا سفيان كيف عيال أبيك؟ "، قال: فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال سفيان: " لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعدًا ") (¬5). وعن الحسن بن علي الخلال قال: (كنا عند مُعْتَمر بن سليمان يحدثنا، إذ أقبل ابن المبارك، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: " حَدثنا "، فقال: " إنا لا نتكلم عند كُبَرائنا ") (¬6). أما مجالسهم فقد قال أحمد بن سنان: ¬

_ (¬1) " الجامع " للخطيب (1/ 400). (¬2) " السابق " (1/ 184). (¬3) " الجامع " للخطيب (1/ 182). (¬4) " تذكرة الحفاظ " (1/ 74). (¬5) " الجامع " للخطيب (1/ 320). (¬6) " السابق " (1/ 321).

" كان عبد الرحمن (ابن مهدي) لا يتحَدَّث في مجلسه، ولا يبرى قلمٌ، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة " (¬1). وعن أبي عاصم قال: " كنا عند ابن عون -وهو يحدِّث- فمَرَّ بنا إبراهيم بن عبد الله بن حسن في موكبه، -وهو إذ ذاك يُدْعَى إمامًا بعد قتل أخيه محمد- فما جسر أحد أن يلتفت، فينظر إليه، فضلاً عن أن يقوم، هيبةً لابن عَوْن " (¬2). وأنشد الأزدي (¬3): وقِّر مشائخَ أهلِ العلمِ قاطبةً ... حتى تُوَقَّرَ إن أفضى بك الكِبَرُ واخدم أكابرهم حتى تنال به ... مِثلاً بمثلٍ إذا ما شارف العُمُرُ عن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول -وذُكر له أصحاب الحديث، وأنهم لا يستعملون الأدب- فقال: " ما أعلم أني أخذت شيئًا من الحديث ولا القرآن أو النحو أو غير ذلك من الأشياء، مما كنت أستفيد؛ إلا استعملتُ فيه الأدب، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله العلم، فازددتُ من ذلك، حتى ربما كنت أكون في مجلسه، فأصفِّح الورقة تصفحًا رفيقًا هيبةً له لئلا يسمع وقعها " (¬4). وعن الربيع بن سليمان قال: " والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبةً له " (¬5). ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ " (1/ 331). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 185). (¬3) " أدب الإملاء والاستملاء " للسمعاني ص (136). (¬4) " توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس " ص (153). (¬5) " مناقب الشافعي " للبيهقي (2/ 145).

وقال الإمام أحمد رحمه الله: " لزمت هُشَيْمًا أربع سنين ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبة له " (¬1). قال عبدوس: " رآني أبو عبد الله يومًا وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى اليوم ". وفي ترجمة إبراهيم بن أبي طالب، قال الإمام أحمد بن إسحاق الفقيه: " ما رأيت في المحدثين أهيب من إبراهيم بن أبي طالب، كنا نجلس كأن على رؤوسنا الطير، لقد عطس أبو زكريا العنبري فأخفى عُطاسَه، فقلت له سِرّاً: " لا تخف! فلست بين يدي الله ") (¬2). قال أبو زكريا العنبري: " شهدت جنازة حسين القباني سنة (289) فصلى عليه أبو عبد الله -يعني البوشنجي (¬3) - فلما انصرف قدمت دابته، فأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وابن خزيمة -إمام الأئمة- بركابه، والجارودي، وإبراهيم بن أبى طالب يسويان عليه ثيابه، فمضى، ولم يكلم واحدًا منهم " (¬4). وعن الإمام أبي حازم الأعرج رحمه الله تعالى قال: " لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهًا، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين، ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا " (¬5). وقال إسحاق الشهيد: (كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر، ثم يستند إلى ¬

_ (¬1) " تذكرة الحفاظ " (1/ 249). (¬2) " السابق " (2/ 638). (¬3) محمد بن إبراهيم بن سعيد، شيخ أهل الحديث في عصره. (¬4) " تهذيب التهذيب " (9/ 9). (¬5) " سير أعلام النبلاء " (5/ 316).

أصل منارة مسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني، والشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، يستمعون الحديث، وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم: " اجلس "، ولا يجلسون هيبة وإعظامًا) (¬1). وقال البخاري: " ما رأيت أحدًا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين ". وقال عبد الرحمن بن واقد: " رأيت باب مالك بالمدينة كأنه باب الأمير " (¬2). عن أبي عبد الله يحيى بن عبد الملك الموصلي قال: " رأيت مالك بن أنس غير مرة، وكان بأصحابه من الإعظام له والتوقير له .. ، وإذا رفع أحد صوته؛ صاحوا به " (¬3). قال أبو مصعب: (كانوا يزدحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزِّحام، وكنا إذا كنا عنده لا يلتفت ذا إلى ذا، قائلون برؤوسهم هكذا، وكانت السلاطين تهابه، وكان يقول: " لا "، و " نعم "، ولا يقال له: " من أين قلت ذا؟ " ((¬4). قال ابن الخياط يمدح مالك بن أنس (¬5): يَدَعُ الجوابَ فلا يُراجَعُ هيبةً ... والسائلون نواكِسُ الأذقانِ نورُ الوقار وعِزُّ سلطان التقى ... فهو المهيبُ وليس ذا سلطانِ ¬

_ (¬1) " مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي ص (83). (¬2) " تذكرة الحافظ " (1/ 208). (¬3) " الجامع " للخطيب (1/ 182). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (8/ 111). (¬5) " الجامع " للخطيب (1/ 185).

تواضع الطالب لشيخه

تواضع الطالب لشيخه لا يُنال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، وتواضع الطالب لشيخه رفعة، وذُلُّه له عِزٌّ، وخضوعه له فخر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ذَللتُ طالبًا، فعززتُ مطلوبًا " (¬1). وعن أبي بكر محمد بن الأدموني النحوي قال: (إذا تعلم الإنسان من العالم، واستفاد منه الفوائد؛ فهو له عبد، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ}، وهو يوشع بن نون، ولم يكن مملوكًا له، وإن كان متلمذًا له، متبعًا له، فجعله الله فتاه لذلك) (¬2). وقال عبد الله بن المعتز: " المتواضع في طُلاب العلم أكثرهم علمًا، كما أن المكان المنخفض أكثرُ البقاع ماء " (¬3). تواضع إذا ما طلبت العلوم ... تكن أكثر الناس علمًا ونفعا وكل مكان أشد أنخفاضًا ... يُرى أكثر الأرض ماءً ومرعى (¬4) وعن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: " لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم " (1/ 507). (¬2) " الفقيه والمتففه " (2/ 99). (¬3) " الجامع " للخطيب (1/ 198). (¬4) " أدب الإملاء والاستملاء " ص (144).

أفلح " (¬1). العلم حرب للفتى المتعالي ... كالسيل حرب للمكان العالي وعوتب الشافعي على تواضعه للعلماء فقال: أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها وكان عمرو بن قيس الملائي إذا بلغه الحديث عن الرجل، فأراد أن يسمعه، أتاه حتى يجلس بين يديه، ويخفض جناحه، ويقول: " عَلِّمني رحمك الله مما علَّمك الله " (¬2). وقال شعبة: " كنت إذا سمعت من الرجل الحديث، كنت له عبدًا ما يحيا " (¬3). وعن إدريس بن عبد الكريم قال: (قال لي سلمة بن عاصم النحوي: " أريد أن أسمع كتاب العدد من خلف "، فقلت لخلف، فقال: " فليجئ "، فلما دخل رفعه لأن يجلس في الصدر، فأبى، فقال: " لا أجلس إلا بين يديك "، وقال: " هذا حق التعليم "، فقال له خلف: جاءني أحمد بن حنبل ليسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه، فأبى، وقال: " لا أجلس إلا بين يديك، أُمِرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه! ") (¬4). وكان " ربيع القطان " من الفقهاء المعدودين، والعُبَّاد المجتهدين، وكان أبوه رحمه الله من أهل العبادة، قال أخوه أحمد: (كنا إذا جلسنا مع والدي، وخطر في باله شيء من العلم، قام من مكانه يبحث بين يدي ربيع ابنه، فيقوم ربيع إليه، ويقول: لم فعلت هذا؟ فيقول: " أردت أن أسألك عن شيء من العلم "، فيقول: ¬

_ (¬1) " الفقيه والمتفقه " (2/ 93). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 210). (¬3) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (90). (¬4) " تاريخ بغداد " (9/ 134).

" وهلا وأنت في مكانك؟ "، فيقول: " أردت أن أعطي العلم حقه ") (¬1). وعن مالك بن أنس رحمه الله قال: (وجَّه إليَّ هارونُ الرشيد يسألني أن أحدثه، فقلت: " يا أمير المؤمنين! إن العلم يُؤتَى ولا يأتى "، قال: فصار إلى منزلي فاستند معي إلى الجدار، فقلت: " يا أمير المؤمنين! إن من إجلال الله إجلالَ ذي الشيبة المسلم "، قال: " فجلس بين يديَّ ") (¬2). وحكى بعضهم أن الخليفة هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي، ليعلِّمه العلم والأدب، فرآه يومًا يتوضأ، ويغسل رجله، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعاتب الأصمعيَّ في ذلك، فقال: " إنما بعثتُه إليك لتعلِّمَه وتَؤدبه، فلماذا لم تأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل بالأخرى رجلك؟! ". وقال أحمد بن حمدون: " دخل هارون بن زياد مؤدِّب الواثق إليه، فأكرمه إلى الغاية، فقيل له: " من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل؟ "، فقال: " هذا أوّل من فَتَقَ لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله "). وعن أبي معاوية الضرير قال: " صب عليَّ بعد الأكل شخص لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من يَصُبُّ عليك؟ قلت: لا، قال. أنا، إجلالاً للعلم " (¬3). وقال قتيبة بن سعيد: (قدمت بغداد، وما كانت لي همة إلا أن ألقى أحمد بن حنبل، فإذا هو جاءني مع يحيى بن معين، فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل، وجلس بين يدي، وقال " أملِ عليَّ هذا "، ثم تذاكرنا، فقام أيضًا، وجلس بين يديَّ، ¬

_ (¬1) " ترتيب المدارك " (2/ 332). (¬2) " الحث على طلب العلم " للعسكري ص (84). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (9/ 288).

فقلت: " يا أبا عبد الله! اجلس مكانك "، فقال: " لا تشتغل بي، إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه "). وعن عمرو الناقد قال: " كنا عند وكيع، وجاء أحمد بن حنبل فقعد، وجعل يصف من تواضعه بين يديه، قال عمرو: فقلت: يا أبا عبد الله، إن الشيخ يكرمك فمالك لا تتكلم؟ قال: وإن كان يكرمني، فينبغي لي أن أُجِلَّه " (¬1). ولما بلغ الثوريَّ مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذى طوى، فحل سفيان رأس البعير عن القطار، ووضعه على رقبته، وكان إذا مر بجماعة قال: " الطريقَ للشيخ " (¬2). وقال محمد بن حمدون بن رستم: سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى البخاري، فقال: " دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله " (¬3). وعن عاصم بن أبي النَّجود قال: " ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبَّل كفي " (¬4). وقال إبراهيم بن الأشعث: " رأيت سفيان بن عيينة يقبّل يد الفضيل مرتين " (¬5). وكان الشيخ شمس الدين الديروطي -صاحب البرج بدمياط- إذا مَر على فقيه، ¬

_ (¬1) " مناقب الإمام أحمد " لابن الجوزي ص (82). (¬2) " تهذيب الأسماء واللغات " (1/ 300). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (12/ 432). (¬4) " السابق " (5/ 257). (¬5) " السابق " (8/ 438).

ينزل عن دابته، ويسوقها أمامه، ويقبل يده، ثم لا يركب حتى يبعد عنه جدًا، ويتوارى عنه بجدار أو نحوه، مع أنه بلغ في العلم الغاية وشرح " المنهاج " وغيره. وكان المأمون قد وكل الفراء يُلَقِّن ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض الى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدِّمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كلُّ واحدٍ منهما فردًا، فقدمَّاها، وكان المأمون له على كل شيء صاحبُ خَبَر، فرفع ذلك الخبر إليه، فوجَّه إلى الفراء، فاستدعاه، فلما دخل عليه قال. " من أعزُّ الناس؟ "، قال: " ما أعرف أعز من أمير المؤمنين "، قال: " بل من اذا نهض؛ تقاتل على تقديم نعليه وليَّا عهد المسلمين، حتى رضي كل واحد أن يقَدِّم له فردًا ". إلى أن قال المأمون: " وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رَفَع من قدرهما , ... فليس يكبر الرجل -وإن كان كبيرًا- عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلِّمه العلمَ ". وقال أبو زرعة الرازي: (سمعنا أحمد بن حنبل -وذُكر عنده إبراهيم بن طَهْمان- وكان أحمد متكئًا من علة - فاستوى جالسًا، وقال: " لا ينبغي أن يُذكر الصالحون فنتكئ "، وذكر أبو الوفاء بن عقيل في " الفنون " أنه كان مستندًا، فأزال ظهره، وقال: " لا ينبغي أن يجري ذكر الصالحين ونحن مستندون "). وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاحُ * * *

أدب الطالب عند مخاطبة شيخه

أدب الطالب عند مخاطبة شيخه ينبغي لطالب العلم أن يراعي الأدب في مخاطبة شيخه (فلا يناديه باسمه مجردًا، أو مع لقبه كقوله: " يا شيخ فلان "، بل يقول: " يا شيخي " أو: " يا شيخنا "، فلا يسميه لأنه أرفع في الأدب، ولا يخاطبه بتاء الخطاب، ولا يناديه من بُعْدٍ من غير اضطرار، وانظر ما يذكره الله تعالى من الدلالة على الأدب مع معلمٍ الناس الخير - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] , الآية، وكما لا يليق أن تقول لوالدك ذي الأبوة الطينية: " يا فلان " أو: " يا والدي فلان "، فلا يجمل بك مع شيخك) (¬1). وذكر الخطيب البغدادي رحمه الله أن من أدب الطالب مع شيخه أن (ينبله في الخطاب، ويبجله في الألفاظ، ولا تكون مخاطبته له كمخاطبته أهل السوق، وأفناء (¬2) العوام، فقد قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} وهذا أصل في أن يُميز ذو المنزلة بمنزلته، ويُفرق بينه وبين من لم يلحق بطبقته) (¬3) اهـ. وقال أيضًا: (إذا خاطب الطالبُ المحدثَ عظَّمه في خطابه، بنسبته إياه إلى العلم، مثل أن يقول له: " أيها العالم "، أو " أيها الحافظ "، ونحو ذلك) (¬4) اهـ. قال المروذي: دخلتُ على ذي النون السجن، ونحن بالعسكر، فقال: " أيُّ شيء حال سيدنا؟ "؛ يعني: أحمد بن حنبل (¬5). ¬

_ (¬1) " حلية طالب العلم " ص (25) بتصرف. (¬2) الأفناء: الأخلاط، مفردها: فِنو. (¬3) " الفقيه والمتفقه " (2/ 179). (¬4) " الجامع " للخطيب (1/ 183). (¬5) " نزهة الفضلاء " (2/ 813).

وقال ابن المديني: " أمرني سيدي أحمد بن حنبل ألا أحَدِّث إلا من كتاب " (¬1). وعن جعفر الطَّستي: أنه سمع أبا مسلم الكَجِّي يقول: -وذُكِر عنده صالح جَزَرهْ- فقال. " ما أهونه عليكم! ألا تقولون: سيد المسلمين؟! " (¬2). وقال أبو محمد التميمي: " يقبح بكم أن تستفيدوا منا، ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا " (¬3). وحكي أن فتوى وردت من السلطان إلى أبي جعفر محمد بن جرير الطبري لم يكتب له الدعاء فيها (¬4)، فكتب الجواب في أسفلها: " لا يجوز "، أو كتب: " يجوز "، ولم يزد على ذلك، فلما عادت الرقعة إلى السلطان، ووقف عليها؛ علم أن ذلك كان من أبي جعفر الطبري للتقصير في الخطاب الذي خوطب به، فاعتذر إليه (¬5). ولما دخل ربيعة على الوليد بن يزيد -وهو خليفة- قال: " يا ربيعة! حدِّثنا "، قال: " ما أحدِّث شيئًا "، قال: فلما خرج من عنده قال: " ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كلما يقترح على المُغَنِّية: حدثنا يا ربيعة " (¬6). وقال جعفر بن أبي عثمان: كنا عند يحيى بن معين، فجاءه رجل مُستعجل فقال: " يا أبا زكريا، حدثني بشيء أذكُرْكَ به "، فقال يحيى: " اذكرني أنك سألتني أن أحدثك فلم أفعل " (¬7). ¬

_ (¬1) " السابق " (11/ 200). (¬2) " السابق " (14/ 27). (¬3) " رساله المسترشدين " ص (4). (¬4) فإن من أدب المستفتي أن يدعو بقوله: " ما تقول رضي الله عنك؟ "، أو: " رحمك الله "، أو: " وفقك الله " أو: " رحمك الله، ورحم والديك؟ ". (¬5) " الفقيه والمتفقه " (2/ 181). (¬6) " الجامع " للخطيب البغدادي (1/ 336). (¬7) " سير أعلام النبلاء " (11/ 87).

وجاء فتى إلى سفيان بن عيينة من خلفه فجذبه، وقال: " يا سفيان! حَدّثني! "، فالتفت سفيانُ إليه، وقال: " يا بُنيَّ! من جهل أقدار الرجال، فهو بنفسه أجهل " (¬1). ¬

_ (¬1) " آداب العشرة " لأبي البركات الغزي ص (55).

زجر الطالب الذى حاد عن الأدب

زجر الطالب الذى حاد عن الأدب ما أكثر المواقف التربوية التي مارس فيها العلماء بصفتهم مربين ومرشدين حق النصح والتأديب والزجر مع بعض المتعلمين الذين قصَّروا في الأدب إرشادًا لهم وتقويمًا وتهذيبًا وهاك طرفًا من هذه الوقائع: فعن أبي بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد اللِّه -يعني أحمد بن حنبل- فسئل عن إسحاق بن إسماعيل الذي كان يحدث في مدينة أبي جعفر , فقال: " ما أعلم إلا خيرا، إلا أنه " -ثم حمل عليه بكلمة ذكرها- وقال: " بلغني أنه يذكر عبد الرحمن ابن مهدي وفلانا، وما أعجب هذا! " ثم قال وهو مغتاظ: " مالك أنت ويلك!! -ونحو هذا- ولذكر الأئمة ") (¬1). وعن حمدان بن الأصبهاني، قال: كنت عند شريك، فأتاه بعض ولد المهدي، فاستند، فسأله عن حديث فلم يلتفت إليه، وأقبل علينا، ثم أعاد، فعاد بمثل ذلك، فقال: " كأنك تستخف بأولاد الخليفة؟ "، قال: " لا، ولكن العلم أزينُ عند أهله من أن تصْيِّعوه "، قال: فجثا على ركبتيه، ثم سأله، فقال شريك: " هكذا يطلب العلم " (¬2). وعن سعيد بن بشير: كان مالك إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة، زجره بهذه الآية: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام: 9]. وقال عبد الرزاق: (بينا نحن في المسجد الحرام؛ فقيل لنا: " هذا مالك "، فلقيناه داخلاً من باب بني هاشم وعليه رداء وقميص صنعاني، فطاف بالبيت، ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (6/ 335). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (8/ 207).

وخرج ناحية الصفا، فصلى ركعتين، ثم احتبى، فلما فرغ؛ احتوشناه كما يصنع أصحاب الحديث، فلما جلسنا؛ قام من بيننا كالمغضب، فجئنا مشائخنا، فقالوا: " أي شيء كتبتم عن مالك؟ "، فأخبرناهم بالذي فعل، فقالوا: " الذي فعلتم لا يحتمله مالك "، فلما كان من الغد جئنا واحدًا واحدًا، وعلينا السكون، محدَّثَنا، وقال: " الذي فعلتم أمسِ فعلُ السفهاء ") (¬1). وعن معاذ بن سعيد قال: (كنا عند عطاء بن أبي رباح، فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: " سبحان الله! ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الأخلاق؟! إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأريه أني لا أحسن منه شيئًا ") (¬2). وتراه يصغي للحديث بسمعه ... وبقلبه ولعله أدرى به ورأى الفضيل قومًا من أصحاب الحديث يمرحون ويضحكون، فناداهم: " مَهْلاً يا ورثة الأنبياء، مهلاً " ثلاثًا " إنكم أئمة يقتدى بكم " (¬3). وعن عبد الرحمن بن عمر قال: (ضحك رجل في مجلس عبد الرحمن بن مهدي، فقال: " من ضحك؟ "، فأشاروا إلى رجل، فقال: " تطلب العلم وأنت تضحك؟ لا حدثتكم شهرًا ") (¬4). وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: (ضحك رجل عند هشام الدستوائي، فقال له هشام: " يا فتى تطلب العلم وتضحك! "، قال: فقال: " أليس الله أضحك وأبكى؟! "، فقال هشام: " فابكِ إذَنْ ") (¬5). ¬

_ (¬1) " ترتيب المدارك " (1/ 157). (¬2) ونظير هذا الخلق ما قال سفيان الثوري رحمه الله: " إن الرجل ليحدثني بالحديث قد سمعته أنا قبل أن تلده أمه، فيحملني حسنُ الأدب أن أسمعه منه " كما في " سير أعلام النبلاء " (5/ 86). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (8/ 435). (¬4) " الجامع " للخطيب البغدادي (1/ 193). (¬5) " السابق " (1/ 157).

وعن أحمد بن سنان القطان قال: (كان عبد الرحمن بن مهدى لا يُتَحَدثُ في مجلسه , ولا يُبْرى فيه قلم , ولا يبتسْم أحد، فإن تحدث أو بَرَى قلمًا، صاح، ولبس نعليه، ودخل، وكذا يفعل ابن نمَيْر، وكان من أشد الناس في هذا، وكان وكيع أيضا في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئًا انتعل ودخل، وكان ابن نمير يغضب ويصيح، وكان إذا رأى من يبري قلمًا تغيَّر وجهه) (¬1). قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: " ويجب على الطالب ألا يقرأ حتى يأذن له المحدث " ثم ساق بسنده إلى محمد بن عبد الله بن المطلب الشيبانى، قال: (تقدمت إلى أبي بكر بن مجاهد لأقرأ عليه، فتقدم إليه رجل وافر اللحية، كبير الهامة، فابتدأ ليقرأ، فقال: ترفَّق يا خليلي، سمعت محمد بن الجهم السِمَّري يقول: سمعت الفراء يقول: " أدب النفس، ثم أدب الدرس ") (¬2). وهذا محدث: (أعنفوا عليه في دق الباب؛ فلم يحدثهم) (¬3). ودخل الحافظ ابن وارة الرازي (ت 270 هـ) -وكان فيه زَهْو وخيلاء - على الإمام الشاذَكوني، وهو أحد أئمة الحديث، فقعد يَتَقَعَّرُ في كلامه، قال الشاذكوني: فقلت له: " من أي بلد أنت؟ "، قال: " من أهل الري، ألم يأتك خبري؟ ألم تسمع بنبئي؟ أنا ذو الرحلتين ". قلت: من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن من الشعر حكمة " فقال: " حدثني بعض أصحابنا "، قلت: " من؟ " قال: " أبو نُعيم، وقَبيصة " (¬4)، قلت: " يا غلام، ائتني ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 193). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 303). (¬3) " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم (1/ 267). (¬4) هما الإمامان الجليلان.

بالدِّرَّة " (¬1) فأتاني بها، فأمرته، فضربه بها خمسين، وقلت: " أنت تخرج من عندي، وما آمن أن تقول: حدثني بعض غلماننا " (¬2). وإنما أنكر الإمام الشاذكوني رحمه الله تعالى على الحافظ ابن وارة قوله: " حدثني بعض أصحابنا " وكان ينبغي أن يقول: " حدثني بعض شيوخنا "، أو نحو ذلك. وقال الحافظ الذهبي: (قال زكريا الساجي: جاء ابن وارة إلى أبي كُريب، وكان في ابن وارة بَأوٌ -أي كبْر وتِيه- فقال لأبي كريب: " ألم يبلغك خبري؟ ألم يأتك نبئي؟ أنا ذو الرحلتين، أنا محمد بن مسلم بن وارة "، فقال: " وارة؟ وما وارة؟ وما أدراك ما وارة؟ قم، فوالله لا حدثتُك، ولا حدثت قومًا أنت فيهم ") (¬3). وذكر البرهان البقاعي أنه سأله بعض العجم أن يقرأ عليه، فأذن له، فجلس متربعًا، فامتنع من إقرائه، وقال له: " أنت أحوج إلى الأدب، منك إلى العلم الذي جئت تطلبه " (¬4). و (حُكي عن الشمس الجوهري أنه لما شرع في الاشتغال بالعلم طاف على أكابر علماء بلده، فلم يعجبه منهم أحد، لحدَّة فهمه، حتى إذا جاء إلى شيخ الإسلام يحيى المناوي، فجلس بين يديه -وفي ظنه أنه يلحقه بمن تقدم- فشرع في القراءة، فتأمل الشيخ، فوجد إصبعًا من أصابع رجله مكشوفة، فانتهره، وقال له: " بحال أنت قليل الأدب، لا يجيء منك في الطلب، غطِّ إصبعك، واستعمل الأدب! " (¬5) فحُمَّ لوقته، وزال عنه ما كان يجده من الاستخفاف ¬

_ (¬1) أي: العصا. (¬2) " نزهة الفضلاء " (936/ 2). (¬3) " نزهة الفضلاء " (2/ 936). (¬4) " فيض القدير " (1/ 225). (¬5) وقد ذكر بعض المصنفين ضمن آداب المتعلم أنه يجلس بين يدي أستاذه (متأدبًا بسكون، =

بالناس , ولزم دروسه حتى صار رأسًا عظيمًا في العلم) (¬1). وعن أبي عبد الرحمن الحَوْضي قال: (سأل رجل عفان بن مسلم عن حديث، فحدَّثه، فقال: " زدني في السماع، فان في سمعي ثقلاً "، فقال له عفان: " الثِّقلُ في كل شيء منك , ليس هو في سمعك بَسْ) (¬2). * * * ¬

_ = وإطراق رأس، وخضوع، وتواضع، وخشوع، وجلوس الافتراش أو التورك، ويحسن هنا الإقعاء المستحب على بطونها، ويتعاهد تغطية أقدامه، وإرخاء ثيابه، ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة، ولا يعطي الشيخ جنبه، ولا ظهره) اهـ. من " العميد في أدب المفيد والمستفيد " ص (137)، وانظر أيضًا: " تذكرة السامع والمتكلم " لا بن جماعة ص (97، 98). (¬1) " فيض القدير " (1/ 225). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 196).

الفصل الخامس آداب السؤال

الفصل الخامس آداب السؤال * ينبغي لطالب العلم أن يلاطفَ شيخه في المسألة، ويرفق به، ويخاطبَه بالسؤدَد والتفدية، ويديمَ الدعاء له، والتأدبَ معه، فإن ذلك خير سبيل إلى بلوغ أغراضه منه، قال المستظهر: " أدب السائل أنفع من الوسائل " (¬1). وعن وهب بن منبه وسليمان بن يسار أنهما قالا: " حُسن المسألة نصف العلم، والرفق نصف العيش " (¬2). * والأدب خير وسيلة لاستدرار علم الأستاذ: قال ابن جُرَيج: " لم أستخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به " (¬3). وقال الأصمعي (¬4): لم أرَ مثلَ الرفقِ في أمره ... أخرجَ للعذراءِمن خِدْرها من يستعن بالرفق في أمره ... قد يُخرجُ الحيةَ من جُحْرِها وقد قيل: " ليس من أخلاق المؤمن التملُّق ولا الحسد، إلا في طلب العلم " (¬5). ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (19/ 398). (¬2) " جامع بيان العلم " (1/ 382). (¬3) " السابق " (1/ 519). (¬4) " الجامع " لابن الخطيب (1/ 209). (¬5) " السابق " (1/ 211)، والمقصود بالحسد هنا: المشروع منه، وهو الغبطة، لا المذموم الذي هو تمني زوال النعمة عن الغير.

وعن محمد بن عبده الرحمن الطرائفي قال: (حضرتُ بدمشق عند ابن جَوصا، فجعلت أتملَّقه، دقلت: أيها الشيخ، مثلك مثل ما قال كثيِّرُ عَزة: وإذا الدُّرُّ زان حُسْن وجوهٍ ... كان للدرِّ حُسْنُ وجهكِ زَيْنا وتَزيدينَ أطيبَ الطيبِ طِيبًا ... إن لَمَسْتِيهِ أينَ مِثْلُكِ أينا فقال: " هَوِّن عليك، نا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: " لا يغُر المدحُ من عرف نفسه ") (¬1). وعن علي بن حرب قال: حدثني أبي قال: (كنا في مجلس سفيان بن عيينة، فضَجِرَ، فقام من مجلسه، فقام إليه رجل من أقصى المجلس، فقال: " يا أبا محمد، أنت غاية الناس وطِلْبتهُمْ، وإن الرجل ليريد الحج، وما ينشط إلا إلى لقائك، فجلس وأنشأ يقول: خَلَتِ الدِّيارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَؤَدِ ... ومِن الشقاءِ تفردي بالسّؤْدَدِ (¬2)). * فإذا حُرِم الرفق، فاته من العلم ما يتحسر عليه: قال الزهري رحمه الله: (كان أبو سلمة يسأل ابن عباس، قال: فكان يخزن (¬3) عنه، قال: وكان عبيد الله بن عبد الله يلاطفه (¬4)، فكان يَغِرّه غَراً) (¬5). ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 210). (¬2) " السابق " (1/ 210). (¬3) أي: يحبس عنه بعض الأحاديث، من خَزَنَ المال: إذا أحرزه وحبسه. (¬4) أي: يبره. (¬5) " الجامع " للخطيب (1/ 209)، ويقال: غَرّ! الطائرُ فَرْخَهُ غَرًّا، وغِرارا: أطعمه بمنقاره، وفي " طبقات الشافعية " أن الإمام الشافعي قال لتلميذه الربيع بن سليمان المرادي: " لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك " (2/ 134).

وقال الشعبي: " كان أبو سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علمًا كثيرًا " (¬1) وعن أبي سلمة قال: " لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علمًا كثيرًا " (¬2) * * * ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم " (1/ 521). (¬2) " السابق " (1/ 520).

مداراة العالم والصبر على جفوته

مداراة العالم والصبر على جفوته * ينبغي لطالب العلم (أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته، وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجِبَ إليه، ويجعل العتب عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته) (¬1). ومن لم يصبر على الأستاذ خسر، وضل سعيه في طلبه العلم، وبقي في جهل، يقول الأصمعي: " من لم يحتمل ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدًا " (¬2)، وعن بعض السلف قال: " من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عَماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة " (¬3)، وأنشد بعضهم: ¬

_ (¬1) انظر: " تذكرة السامع والمتكلم " ص (91). (¬2) " أدب الإملاء والاستملاء " ص (45). (¬3) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (91).

لا تنكرن لسوء خلق عالمًا ... واعذره في عذر احتمال أذاكا فالعلم أحرى بالدلال لأهله ... وأجل من أن يستميل هواكا (¬1) وقال بلال بن أبي بردة: " لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا " (¬2). وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أبي، قال: (سمعت أبا يوسف القاضي يقول: " خمسة يجب على الناس مُداراتهم: الملك المتسلط، والقاضي المتأوِّل، والمريض، والمرأة، والعالِمُ لِيقتبَسَ من علمه "، فاستحسنت ذلك منه) (¬3). وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: " لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل، ومن هرب مني ومن أمثالي .. لا يفلح " (¬4). إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا يَنصحان إذا هما لم يُكْرَما فاصبر لدائك إن جفوتَ طبيبه واقنع بجهلك إن جفوتَ معلِّما وعن مُعَافَى بن عمران قال: " مثل الذي يغضب على العالِم مثل الذي يغضب على أساطين -أي سواري- الجامع " (¬5). وقال الشافعي: قيل لسفيان بن عيينة: " إن قومًا يأتونك من أقطار الأرض، ¬

_ (¬1) " أدب الإملاء والاستملاء " ص (146). (¬2) " جامع بيان العلم " (1/ 529). (¬3) " الجامع " للخطيب (1/ 222). (¬4) " الفتح الرباني " ص (22). (¬5) " الجامع " للخطيب (223/ 1).

تغضب عليهم؟ يوشك أن يذهبوا ويتركوك "، قال: " هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خُلُقي " (¬1). وقال الشافعي: (كان يختلف إلى الأعمش رجلان، أحدهما كان الحديث من شأنه، والآخر لم يكن الحديث من شأنه، فغضب الأعمش يومًا على الذي من شأنه الحديث، فقال الآخر: " لو غضب عليَّ كما غضب عليك لم أعُدْ إليه "، فقال الأعمش: " إذن هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خُلُقي ") (¬2). وقال الخليل بن أحمد: اعمل بعلمي وإن قَصَّرتُ في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري (¬3) واستمعْ لمحمد بن هارون الدمشقي وهو ينشد: لَمَحبرَةٌ تُجالسني نهاري ... أحبُّ إليَّ من أُنْس الصديق ورِزْمَةُ كاغدٍ (¬4) في البيت عندي ... أحبُّ إليَّ من عِدْل الدقيق ولَطمةُ عالمٍ في الخَدِّ مِنِّي ... ألَذُّ لَدَيَّ من شرب الرحيق (¬5) * ينبغي لطالب العلم أن يتحين الوقت المناسب لزيارة شيخه، أو سؤاله، أو القراءة عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " وجدت عامة علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الحي من الأنصار، إن كنتُ لأقيل بباب أحدهم، ولو شئتُ أن يُؤْذَنَ لي عليه لأُذِنَ لي عليه، ولكن أبتغي بذاك طيب نفسه " (¬6). ¬

_ (¬1) " الجامع " للخطيب (1/ 223). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 223). (¬3) " جامع بيان العلم " (1/ 529). (¬4) الكاغد: القِرطاس. (¬5) " الجامع " للخطيب (1/ 106). (¬6) " الجامع " للخطيب (1/ 159).

وعن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: " ما دققت على مُحدِّثٍ بابه قط -وفي رواية: - ما أتيت عالمًا قط فاستأذنت عليه، ولكن صبرت حتى يخرج إليَّ، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] (¬1). وقال ابن جماعة رحمه الله: " ولا يقرأ عند شغل قلب الشيخ أو ملله، أو غمه، أو غضبه، أو جوعه، أو عطشه، أو نعاسه، أو استيفازه، أو تعبه " (¬2). وقال الشهرزوري: " ولا يسأله وهو قائم، أو مستوفز، وعلى حالة ضجر، أو هم به، أو غير ذلك مما يشغل القلب " (¬3). وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: (وإن رآه في هَمّ قد عرض له، أو أمر يحول بينه وبين لُبِّه، ويصده عن استيفاء ذِكره؛ أمسك عنه، حتى إذا زال ذلك العارض، وعاد إلى المألوف من سكون القلب، وطيب النفس، فحينئذ يسأله، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في قوله: " لا يقضِ رجل بين رجلين أو بين خصمين، وهو غضبان " (¬4) (¬5). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إن كنتُ لآتي الرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رأيته نائمًا لم أُوقظه، وإذا رأيته مغمومًا لم أسأله، وإذا رأيته مشغولاً لم أسأله " (¬6). ¬

_ (¬1) " طبقات المفسرين " (2/ 36)، و " الجامع " (1/ 158). (¬2) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (161). (¬3) " أدب المفتي والمستفتي " ص (169). (¬4) رواه بمعناه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا: " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان "، وانظر: " إرواء الغليل " (8/ 252). (¬5) " الفقيه والمتفقه " (2/ 179 - 180). (¬6) " الجامع " للخطيب (1/ 212).

وعن قتادة قال: (سألت أبا الطفيل عن مسألة، فقال: " إن لكل مقام مقالاً ") (¬1). ولقي رجل عالمًا في السوق يشتري، فأراد أن يسأله، فقال له: " إن عقلي مع دراهمي ". وعن عطاء بن السائب قال: " كان عبد الرحمن بن أبي ليلى يكره أن يُسأل وهو يمشي " (¬2) وقال ابن جماعة: " ولا تسال عن شيء في غير موضعه إلا لحاجة، أو علمٍ بإيثار الشيخ ذلك " (¬3). * وليحذر طالب العلم عند استفتاء العالم أن يتعنت عند طلب الدليل على فتواه (¬4)، بأن يخرج ذلك في صورة تستفزه، وتثير حفيظته، قال الخطيب ¬

_ (¬1) " الفقيه والمتفقه " (2/ 179). (¬2) " الجامع " للخطيب (1/ 212). (¬3) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (157). (¬4) مع أنه ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ابتداءً ما أمكنه ذلك، وألا يلقيه إلى المستفتي ساذَجًا مجردًا عن دليله، كما ذكر ذلك ابن القيم في " إعلام الموقعين " (4/ 161)، وقال فى موضع آخر: " ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري " اهـ. من " إعلام الموقعين " (4/ 170). وقال أيضًا رحمه الله: " عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله واجماع المسلمين عيبًا؟ وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز الفتوى؟ =

البغدادى رحمه الله تعالى: " وليس ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أجابه به، ولا يقول: لم؟ ¬

_ = وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم " اهـ. (4/ 259). إذا استحضرنا أن السائل لا يسأل عن رأي المفتي، وإنما يسأل عن حكم الله تعالى، الذي هو دين يدان به، فمن حق السائل أن يستوثق من ذلك، وأقل درجات الاستيثاق: طلب الدليل، فإن المفتي إذا قال للمستفتي: الدليل هو الحديث الشريف الذي نصه كذا وكذا، أو معناه كذا وكذا، سكن المستفتي واطمأن. أما إذا قال له المفتي: " إن الدليل هو رأيي واجتهادي " فإذا اطمأن المستفتي بذلك بناءً على أهلية المفتي للفتيا، وأن اجتهاده سائغ، ومظنة الصواب، فلا بأس، وأما إذا لم يطمئن قلبه إلى جواب المفتي المبني على محض رأي منه واجتهاد؛ فله أن يستفتي غيره. واعلم -وفقك الله- أن ذكر الدليل ليس شرطًا في صحة الفتوى ولا في قبولها -وان كان أمرًا مستحسنًا- وقد نقل غير واحد من الأصوليين الإجماع على أنه لم يزل أهل العلم يبادرون إلى إجابة أسئلة العامة من غير ذكر الدليل كلما في " الإحكام "، للآمدي (4/ 226)، و " المعتمد " (2/ 934)، بل قال الشاطبي رحمه الله في " الموافقات ": " إن فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع " اهـ. من " الموافقات " (4/ 292 - 293). وتوسط بعض العلماء فقال: يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به، كالأمور الجلية المجمع عليها، والتي ليست من مواضع التقليد ولا الاجتهاد، ولا يلزمه ذلك إن لم يكن مقطوعًا به لافتقاره إلى الاجتهاد من غامض الفقه الذي يتعسر القطع فيه بحكم معين ونسبته إلى الشرع، كما يقصر فهم العامي عنه لدقة مستدركه.

ولا: كيف؟ قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وفرق تبارك وتعالى بين العامة وبين أهل العلم فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك؛ سأل عنها في زمان آخر، ومجلس ثان، أو بعد قبول الفتوى من المفتي مجردة " (¬1) اهـ. * ومن أدب الطالب إذا حادث شيخه أو استفتاه أن يَكْنِيَ عما يُستقبح، إلا فيما لا بد منه، لمصلحة شرعية. * وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من طلب العلم ليُجاري به العلماءَ، أو ليُماريَ به السفهاء، أو يصرفَ به وجوه الناس إِليه، أدخله الله النار " (¬2). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليجاري به العلماء) أي يجري معهم في المناظرة والجدال؛ ليُظهر علمه رياءً وسمعة (¬3). أوصى عيسى بن دينار عبد الله بن حبيب في رحلته لطلب العلم، فقال: " إذا أصبت عالمًا، فلا تُظهِر له مع علمه علمًا، فيحرمك ما عنده " (¬4). * قال فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: " احذر ما يتسلى به المفلسون من العلم، يراجع مسألة أو مسألتين، فإن كان ¬

_ (¬1) " الفقيه والمتفقه " (2/ 180). (¬2) رواه الترمذي رقم (2654)، وهو في " صحيح الترمذي " برقم (2138). (¬3) وحق من فعل هذا أن يُعرض عنه، ولا يجاب إلا بالسكوت، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]، وهذا يريد الدنيا، والمغالبة، قال الإمام النووي رحمه الله: (السائل تعنتًا وتعجيزًا لا يستحق جوابًا) اهـ. من " المجموع " (1/ 39). (¬4) " ترتيب المدارك " (2/ 39).

في مجلسٍ فيه مَن يُشار إليه أثار البحث فيها، ليُظهر علمه، وكم في هذا من سوأةٍ أقلها: أن يعلم أن الناس يعلمون حقيقته " (¬1) اهـ. * وإن أشكل عليه شيء من كلام العالم فلا يبادر إلى الإنكار، والاعتراض، والنقد، والمراء، بل يتهم رأيه، ويتوثق قبل الإنكار، فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقد اعترض على ما رآه يوم الحديبية -بادي الرأي- شرًّا، مع أن الله سبحانه وتعالى جعله -في المآل والعاقبة- فتحًا مبينًا. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فوائد قصة الحديبية: (وفي الحديث .. أن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالبًا بكثرة التجربة، ولا سيما مع من هو مؤيد بالوحي) (¬2) اهـ. ولذلك ندم عمر على مراجعته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، وقال: " فعملت لذلك أعمالاً "، وقال أيضًا: " ما زلت أصوم، وأتصدق، وأصلي، وأعتق، من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرًا " (¬3). وقال سهل بن حنيف رضي الله عنه: " يا أيها الناس اتهموا رأيكم، فإنا كنا يومَ أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه " (¬4). وقال الإمام مالك: " سلِّموا للأئمة، ولا تجادلوهم " (¬5). وقال سفيان بن عيينة: " التسليم للفقهاء سلامة في الدين " (¬6). ¬

_ (¬1) " حلية طالب العلم " ص (57). (¬2) " فتح الباري " (5/ 352). (¬3) " المسند " للإمام أحمد (4/ 325). (¬4) رواه البخاري رقم (7308). (¬5) " الميزان " للشعراني (1/ 51). (¬6) " الجواهر المضيئة " للقرشي (1/ 166).

تنبيه

تنبيه: اعلم -وفقك الله- أن التسليم للعالم وترك الاعتراض عليه ليس على إطلاقه، لأنه ليس معصومًا، وإنما المقصود: التسليم له في موضع الاجتهاد والاحتمال، وكذا حيث لم يستوثق المعترض من خطإ الشيخ، وكذا في حالة الاعتراض لمجرد الاعتراض ولغرضٍ نفسي بحت كما يحصل أحيانًا ممن لا هَمَّ لهم سوى إثبات وجودهم، وتحقيق ذواتهم على حَدِّ قول قائلهم: " خالف تعرف ". * إياك أن تكون من " الصيادين " هواةِ حضور مجالس العلم لتتبع سِقط الكلام، وتصيد الأخطاء، والتشنيع بها، ونشرها في الآفاق: قال ابن حزم في " مداواة النفوس ": (إذا حضرت مجلس علم، فلا يكن حضورُك إلا حضورَ مستفيد، مستزيد علمًا وأجرًا، لا حضور مستغنٍ بما عندك، طالبًا عثرةً تُشَنِّعُها أو غريبة تشَيِّعُها، فهذه أفعال الأراذل الذين لا يُفلحون في العلم أبدًا) (¬1). وقال العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله: (إذا ظفرتَ بوهمٍ لعالم فلا تفرح به للحطِّ منه، ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط، وأوهام، لا سيما المكثرين منهم. وما يشغب بهذا، ويفرح به للتنقص إلا متعالم " يريد أن يُطحت زُكامًا، فيُحدِث به جذامًا "). نعم ينبه على خطأ، أو وهم وقع لإمام غُمِر في بحر علمه وفضله، لكن لا يثير الرهج عليه بالتنقص منه، والحط عليه، فيغتر به من هو مثله) (¬2). ¬

_ (¬1) " مجموع رسائل ابن حزم " ص (411). (¬2) " حلية طالب العلم " ص (58).

الأصل في النصيحة الإسرار بها

الأصل في النصيحة الإِسرار بها: فإن الناصح ليس غرضه إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها، فمهما أمكن النصيحةُ في السر، فلا ينبغي العدول عنها إلى المجاهرة بها في الملإ، قال الفضيل رحمه الله: " المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير "، وقال الإمام الشافعي -رحمه الله- في هذا المعنى: تعهدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعه فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه فإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تغضب إذا لم تُعْطَ طاعه (¬1) وحكى الأصمعي أن الخليفة هارون الرشيد قال له: " وقِّرنا في الملإ، وعلِّمنا في الخلاء " (¬2). وعن سفيان قال: (قلت لمسعر: " تحب أن يخبرك رجل بعيوبك؟ "، قال: " أما أن يجيء إنسان فيوبخني بها: فلا، وأما أن يجيء ناصح: فنعم "). وعن ابن المبارك قال: " كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره، أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيؤجر في ستره، ويؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحدٍ ما يكره استغضب أخاه، وهتك ستره ". و (قال الحسن بن عُلَيْل: حدثنا يحيى بن معين، قال: " أخطأ عفان في نَيِّفٍ وعشرين حديثًا، ما أعلمتُ بها أحدًا؛ وأعلمتُه سِرّاً، ولقد طلب إليَّ خلف بن ¬

_ (¬1) " الفرق بين النصيحة والتعيير " ص (28 - 29). (¬2) " تاريخ بغداد " (14/ 9).

سالم أن أخبره بها فما عرَّفته، وكان يحب أن يجد عليه). قال يحيى: " ما رأيت على رجل خطأً إلا سترتُه، وأحببتُ أن أُزَيِّن أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمرٍ يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك، وإلا تركته ") (¬1). وعن سفيان قال: (جاء طلحة إلى عبد الجبار بن وائل، وعنده قوم، فسارَّه بشيء، ثم انصرف، فقال: أتدرون ما قال لي؟ قال: " رأيتك التفتَّ أمسِ وأنت تصلي "). قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: (وإذا كان مراد الرادِّ على العالم إظهار عيبه، وتنقصه، وإظهار قصوره في العلم، ونحو ذلك؛ كان محرمًا، سواء كان رده ذلك في وجه من رد عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو في موته، وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه، وتوعَّد عليه من الهمز واللمز، وداخل أيضًا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر من آمن بلسانه، ولم يؤمن قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإِنه من يتبع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف بيته " (¬2). وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة، ومن تشبه بالعلماء وليس منهم، فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم .. والله أعلم. ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (11/ 83). (¬2) تقدم تخريجه ص (20).

ومن عرف منه أنه أراد برده على العلماء النصيحة لله ورسوله، فإنه يجب أن يعامل بالإكرام والاحترام والتعظيم، كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان، ومن عرف أنه أراد برده عليهم التنقيص والذم، وإظهار العيب، فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة. ويُعرف هذا القصد تارة بإقرار الرادّ واعترافه، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله ... ) (¬1). * وإن أخطأ العالم في الجواب، فلا يرد عليه في الحال، ولا يبادر بالتصحيح إلا حيث يتعين عليه ذلك كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. قال الإمام وهب -من أجَلّ أصحاب الإمام مالك-: (سمعت مالكًا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: " ليس ذلك على الناس " قال ابن وهب: فتركته حتى خَفَّ الناس -أي: انصرفوا- فقلت له: " عندنا في ذلك سنة "، فقال: " وما هي؟ " قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمر وابن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه "، قال مالك: " إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة "، ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع) (¬2). وقال العلامة ابن العربي في " أحكامه ": أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة؛ قال: (وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل ¬

_ (¬1) " الفرق بين النصيحة والتعيير " ص (25 - 26). (¬2) " تقدمة الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم ص (31).

الجوهري وحضرتُ كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلَّق، وظاهر, وآلى "، فلما خرج؛ تبعته حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعَرَّفَهم أمري؛ فإنه رأى إشارة الغربة، ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه. فلما انفضَّ عنه أكثرهم؛ قال لي: " أراك غريبًا، هل لك من كلام؟ " قلت: " نعم "، قال لجلسائه: " أفرجوا له عن كلامه "، فقاموا، وبقيت وحدي معه , فقلتُ له. حضرت المجلس اليوم متبركا بك، وسمعتُك تقول: " آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وصدقتَ، و " طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وصدقتَ، وقلت: " وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول، وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضمني إلى نفسه، وقبلَ رأسي، وقال لي: " أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلمٍ خيرًا ". ثم انقلبت عنه، وبكَرتُ إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيتُه قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلتُ من باب الجامع ورآني؛ نادى بأعلى صوته: " مرحبًا بمُعَلّمي، افسحوا لمعلِّمي "، فتطاولت الأعناق إليَّ، وحَدَّقت الأبصار نحوي، وتعرفُني يا أبا بكر " -يشير إلى عظيم حيائه؛ فإنه كان إذا سلم عليه أحدٌ أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحمرَّ حتى كان وجهه طُلِي بِجُلَّنار (¬1). قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني، حتى بلغت المنبر، وأنا لِعِظَمِ الحياء، لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاصٌ بأهله، وأسأل الحياءُ بدني عَرَقًا، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: " أنا معلمكم، وهذا معلمي، لمَّا كان بالأمس؛ قلتُ لكم: " آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الجُلَّنار: زهر الرمان.

وطلَّق، وظاهر، فما كان أحدٌ منكم فقه عني، ولا ردَّ عَلَيَّ، فاتَّبعني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا، وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجعٌ عنه إلى الحق، فمَن سمعه ممَّن حضر؛ فلا يُعَوّلْ عليه، ومَن غاب؛ فليبلغه مَن حضر، فجزاه الله خيرًا "، وجعل يحفل في الدعاء، والخلق يؤمِّنون. فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملإ، ومن رجل ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريبٍ مجهولِ العين، لا يُعرف مَن، ولا مِن أين، واقتدُوا به؛ ترشدوا) (¬1) انتهى. وقال التنوخي رحمه الله تعالى: (كان ابن الأنباري النحوي يُملي من حفظه، وما أملى من دفتر قط، حكى الدارقطني: أنه حضره يُصحّف في اسم، قال: فأعظمت له أن يُحْمَل عنه وَهْم، وهبتُه، فعرَّفت مستملِيَه، فلمَّا حضرت الجمعة الأخرى، قال ابن الأنباري: " إنَّا صَحَّفْنا الاسمَ الفلانيَّ، ونبهَنا عليه ذلك الشابُّ على الصواب ") (¬2). وحكى الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله عن شيخه عبيد الله بن الحسن العنبري أحد سادات البصرة وعلمائها، قال: (كنا في جنازة، فسألته عن مسألة، فغلِط فيها، فقلت له: أصلحك الله، القولُ فيها كذا وكذا "، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: " إذًا أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذَنَبًا في الحق ¬

_ (¬1) " أحكام القرآن " (1/ 182 - 183). (¬2) " تاريخ بغداد " (3/ 183)، وحُكي أنه نوقش بعضهم في مسألة أخطأ فيها، فلما تبين له خطؤه، رجع إلى الحق قائلاً: " ما بيني وبين الحق من عداوة "، انظر: " حاشية رسالة المسترشدين " ص (62).

أحب إلى من أن أكون رأسًا في الباطل ") (¬1). * وليحذر أن ينتقد العالم باسلوب ينال من هيبته عند صغار الطلبة أو العوام الذين يهدرون -بسبب ذلك- قدر العالم، ويجترئون على إطلاق اللسان فيه دون دراية منهم بالموازين الدقيقة التي تضبط التعامل بالعدل والإنصاف مع أهل العلم والفضل، فيحرمون بالتالي من علمه وفضله. * * * ¬

_ (¬1) " تهذيب التهذيب " (7/ 7).

مراحل تنبيه العالم على خطئه

مراحل تنبيه العالم على خطئه العالم -بحكم كونه بشرًا غير معصوم- قد يقع في خطإ غير مقصود، وحينئذ ينبغي للطالب أن يتلطف في تنبيهه لهذا الخطإ. قال الإمام ابن عقيل الحنبلي -رحمه الله تعالى- في " الواضح ": ( .. وإن كان أعلى فليتحرَّ، ويجتنب القول له: هذا خطأ، أو غلط، أو ليس كما تقول، بل يكون قوله له: أرأيت إن قال قائل: " يلزم على ما ذكرت كذا؟ وإن اعترض على ما ذكرت معترض بكذا؟ " فإن نفوس الكرام الرؤساء المقدمين تأبى خشونة الكلام، إذ لا عادة لهم بذلك، وإذا نفرت: عميت القلوب، وجمدت الخواطر، وانسدت أبواب الفوائد، فحرمت كل الفوائد، بسفه السفيه، وتقصير الجاهل في حقوق الصدور) (¬1) اهـ. وقال الإمام بدر الدين ابن جماعة -رحمه الله تعالى- في بيان أدب الطالب مع شيخه: (ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ: هذا خطأ، ولا هذا ليس برأي، بل يُحسن خطابه في الرد إلى الصواب، كقوله: " يظهر أن المصلحة في كذا "، ولا يقول: " الرأي عندي كذا "، وشبه ذلك) (¬2) اهـ. وقد ذكر بعض العلماء لتنبيه العالم على خطئه طرقًا (¬3): الطريقة الأولى: تنبيه الأستاذ إلى الخطإ، بتكرار اللفظ الذي يسبقه، ليراعيه الأستاذ عند ¬

_ (¬1) انظر: " شرح الكوكب المنير " ص (379). (¬2) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (112). (¬3) انظر: " آداب المتعلم " لأحمد محمد فلاتة ص (125 - 126).

الإعادة، يقول ابن جماعة: " وإذا ردَّ الشيخ عليه لفظه، وظن أن رَدَّه خلاف الصواب، أو علمه كرر اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ " (¬1). (أما من تجاسر بالإنكار على الأستاذ فقلما يفلح، عن بعض السلف (¬2) قال: " من قال لشيخه: لِم؟ لم يفلح " (¬3)، ولا يقول له: " لِم؟ " ولا: " لا نسلِّم "، ولا: " من نقل هذا؟ " ولا: " أين موضعه؟ ") (¬4). ¬

_ (¬1) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (124). (¬2) هو أبو عبد الرحمن: محمد بن الحسين السُّلَميُّ الصوفي. (¬3) وقد شاعت هذه العبارة، وذاعت على ألسنة الكثيرين من المنتسبين إلى العلم، وبخاصة الصوفية حتى غَلَوْا في الشيوخ واعتقدوا فيهم العصمة، ولذلك علَّق عليها الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قائلاً: (قلت: ينبغي للمريد أن لا يقولَ لأستاذه: " لِمَ؟ " إذا علمه معصومًا لا يجوز عليه الخطأ، أما إذا كان الشيخ غيرمعصوم، وكره قول: " لِمَ؟ " فإنه لا يفلح أبدًا، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [البلد: 2]، وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3]، وقال: {وتَوَاصَوا بِالمرحمة} [البلد: 17]، بلى هنا مريدون أثقال أنكاد، يعترضون ولا يقتدون، ويقولون ولا يعملون، فهؤلاء لا يملحون) اهـ. من " سير أعلام النبلاء " (17/ 251 - 252). وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: (رد المقالات الضعيفة، وتييين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه، ويمدحون فاعله، ويثنون عليه، فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية، فلو فرض أن أحدًا يكره إظهار خطئه الخالف للحق، فلا عبرة بكراهته لذلك، فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة، بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له؛ سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته، وهذا من النصيحة لله، ولكتابه، ورسوله، ودينه، وأئمة المسلمين وعامتهم، وذلك هو الدين كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما بيان خطإ من أخطأ من العلماء قبله -إذا تأدب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب- فلا حرج عليه، ولا لوم يتوجَّه إليه) اهـ. من " الفرق بين النصيحة والتعيير " ص (22 - 23). (¬4) " السابق " ص (101).

الطريقة الثانية

الطريقة الثانية: إذا لم ينتبه الأستاذ، وكرر الخطأ، أتى المتعلم بالصواب على سبيل الاستفهام، يقول ابن جماعة: (أو يأتي بلفظ الصواب على سبيل الاستفهام فربما وقع ذلك سهوًا، أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل: بل هي كذا، بل يتلطف في تنبيه الشيخ لها، فإن لم ينتبه قال: فهل يجوز فيها كذا) (¬1). الطريقة الثالثة: في حال إصرار الأستاذ على قوله، فعلى المتعلم أن يؤجل مناقشتها للدرس المقبل، وليتحقق هو منها لعل الصواب مع أستاذه، يقول ابن جماعة: (فإن رجع الشيخ إلى الصواب، فلا كلام وإلا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر بتلطف لاحتمال أن يكون الصواب مع الشيخ) (¬2). الطريقة الرابعة: إذا كان الخطأ في جواب مسألة لا تحتمل التأخير، أو يترتب عليها أضرار ومفاسد تَعَيَّن على المتعلم أن يصارح أستاذه، وإلا اعتُبِر خائنًا له، يقول ابن جماعة: (وكذلك إذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسألة لا يفوت تحقيقه، ولا يعسر تداركه، فإن كان كذلك كالكتابة في رقاع الاستفتاء، وكون السائل غريبًا، أو بعيد الدار، أو مُشَنِّعًا، تعين تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بإشارة، أو تصريح، فإنَّ ترك ذلك خيانة للشيخ، فيجب نصحه بتلفظه لذلك بما أمكن من تلطف أو غيره) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " السابق " ص (124). (¬2) " السابق " ص (125). (¬3) " السابق " ص (125)

ذم كثرة السؤال

ذم كثرة السؤال قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} [المائدة101: 102]. عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاءً، فيقول الرجل: " من أبي؟ " ويقول الرجل، تضل ناقته: " أين ناقتي؟ " فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا ..... } حتى فرغ من الآية كلها) (¬1). وعن الزهريّ قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر (¬2)، فلما سلّم قام إلى المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورًا عِظامًا، ثم قال: " من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله! لا تسألوني عن شيء إِلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا (¬3) " قال ¬

_ (¬1) رواه البخاري في " صحيحه " رقم (4622) (8/ 280 - فتح). (¬2) وروى البخاري (13/ 43 - فتح) عن قتادة: أن أنسًا حدثهم قال: (سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوْه بالمسألة، فصعد النبى - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المنبر، فقال: " لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم "، فجعلتُ انظر يمينًا وشمالاً، فإذا كلّ رجلٍ، رأسه في ثوبه يبكي)، وفي رواية الطبري (7/ 81): عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - (خرج وهو غضبان محمارٌّ وجهه حتى جلس على المنبر ... ) الحديث. (¬3) قال الشاطبي رحمه الله: (وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال: " سلوني " في معرض الغضب، تنكيلاً بهم في السؤال، حتى يروا عاقبة ذلك، ولأجل ذلك ورد في الآية قوله عز وجل: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} اهـ. من " الموافقات " (4/ 316).

أنس: فأكثر الأنصارُ البكاءَ، وأكثر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: " سلوني "، فقال أنس: فقام إليه رجل فقال: " أين مدخلي يا رسول الله؟! " قال: " النار "، فقام عبد الله بن حذافة فقال: " من أبي يا رسول الله؟! " قال: " أبوك حذافة "، قال: ثم أكثر أن يقول: " سلوني "، فبرك عمر على ركبتيه فقال: " رضينا بالله ربا ً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً ". قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده! لقد عُرِضتْ علي الجنة والنار آنفًا في عُرْض هذا الحائط وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر " (¬1). وعن أبي البختري عن عليّ رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، قالوا: " يا رسول الله! أفي كل عام؟ "، فسكت، فقالوا: " أفي كل عام؟ "، فسكت، قال: ثم قالوا: " أفي كل عام؟ "، فقال: " لا، ولو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم "، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا ..... } الآية) (¬2). قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": (والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل، إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت، عن الشيء، الذي لو لم يُسأل عنه لكان على الإباحة) (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (13/ 265) رقم (7294). (¬2) رواه الترمذي (4/ 8)، ورواه الإمام أحمد (1/ 255، 291) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (2/ 508) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) " فتح الباري " (8/ 282).

وقال الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين ": (لم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله، ومن ها هنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا "، لمّا سأله رفيقه عن مائه: " أطاهر أم لا؟ " (¬1) وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يُبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه، وستره، فلعلّه يسوؤه إن أُبدِي له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله، فإنه سبحانه يكره إبداءها، ولذلك سكت عنها) اهـ (¬2). قال القاسمي رحمه الله معقبًا على عبارة ابن القيم رحمه الله: (وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها، وأما المقصود أولاً وبالذات -كما يفيده تتمتها- فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي. ويدل له , ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِن أعظم المسلمين جرمًا، منْ سأل عن شيء لم يحرم فحرِّم من أجل مسألته " (¬3)، فإن مثل ذلك قد أُمِنَ وقوعُه) اهـ (¬4). ¬

_ (¬1) لم أقف على تخريجه , وفي " الموطإ " (1/ 23 - 24) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص رضي الله عنه حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: " يا صاحب الحوض هل ترد حوضَك السباع؟ " فقال عمر رضي الله عنه: " يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع، وترد علينا " رواه الدارقطني (1/ 32)، وابن أبي شيبة في " المصنف " (1/ 142)، وقال النووي في " المجموع ": (هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن لكنه مرسل منقطع .. إلا أن له شواهد تقويه) (1/ 173 - 174). (¬2) " إعلام الموقعين " (1/ 109 - 111). (¬3) رواه البخاري (13/ 287)، ومسلم (5/ 206). (¬4) " محاسن التأويل " (6/ 2171).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " ذرونى ما تركتم, فإِنما هلَكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم (¬1)، واختلافهم على أنبيائهم، فإِذا أمرتكم بشيء فأتُوا منه ما استطعتم، وإِذا نهيتكم عن شيء فدعوه " (¬2). وعن الحجاج بن عامر الثمالي رضي الله عنه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِياكم وكثرةَ السؤال " (¬3). ورُوي عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها " (¬4). وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء، قال: " الحلال ما أحلّ الله في كتابه، والحرام ما حرّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلّفوا " (¬5). وعن أنس رضي الله عنه قال: (نُهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، وكان ¬

_ (¬1) كما فعلوا مع موسى عليه السلام حين قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآيات (البقرة: 67)، فلما زادوا نبيهم عليه السلام أذىً وتعنتًا، زادهم الله عقوبة وتشديدًا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شدَّدوا، فشدد الله عليهم " رواه ابن جرير في " التفسير " (2/ 204)، رقم (1235). (¬2) رواه الإمام أحمد (2/ 482)، ومسلم (1337) (3/ 481)، والنسائي (5/ 110). (¬3) رواه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2/ 1059) رقم (2046)، وقال محققه أبو الأشبال: " حسن ". (¬4) رواه الدارقطني (4/ 184)، والحاكم (4/ 115)، لكنه منقطع بين مكحول وأبي ثعلبة رضي الله عنه، ويشهد له حديث سلمان الذي بعده. (¬5) رواه الترمذي رقم (1726) (4/ 220)، وقال: " حديث غريب "، وابن ماجه رقم (3366)، والحاكم (4/ 115)، وفيه سيف بن هارون، قال الذهبي: " ضعفه جماعة "، وحسنه الألباني في " صحيح الترمذي " رقم (1410).

يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل (¬1) من أهل البادية فيسأله، ونحن نسمع) (¬2). وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر: " فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المسائل وعابها " (¬3). وعن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: (أقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة بالمدينة , ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة كان أحدنا، إذا هاجر، لم يسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) (¬4). قال الحافظ ابن حجر: (ومراده: أنه قدم وافدًا، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرًا، فيمتنع عليه السؤال. وفيه إشارة إلى أن الخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودًا كانوا أو غيرهم) (¬5) اهـ. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا ..... } الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله - صلى الله عليه وسلم -، فأتينا أعرابيّاً فرشوناه برداءٍ، وقلنا: " سل النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬6). وعن البراء رضي الله عنه قال: (إن كان ليأتي عليَّ السَّنَةُ أريد أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -أي قدومهم- ¬

_ (¬1) قوله العاقل: لكونه أعرف بكيفية السؤال وآدابه والمهم منه، وحسن المراجعة، فإن هذه أسباب عظم الانتفاع بالجواب. (¬2) رواه مسلم رقم (12) (1/ 41). (¬3) رواه البخاري رقم (4745). (¬4) رواه مسلم رقم (2553) (4/ 1980). (¬5) " فتح الباري " (13/ 266). (¬6) انظر: " المسند " للإمام أحمد (5/ 266).

ليسألوا، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها) (¬1). وأمسك الصحابة رضي الله عنهم عن السؤال حتى جاء جبريل عليه السلام، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة، وأماراتها، ثم أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أنه جبريل، وقال: " هذا جبريل، أراد أن تعلموا؛ إِذ لم تسألوا " (¬2). قال القاسمي رحمه الله: (وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يُحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة: كالسؤال عن الذبح بالقصَب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن: كسؤالهم عن الكلاله، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك .. لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق، من جهة أن كثرة السؤال، لمّا كانت سببًا للتكليف بما يشق، فحقها أن تجتنب) اهـ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) عزاه الحافظ في " الفتح " (13/ 266) إلى أبي يعلى. (¬2) رواه مسلم (1/ 40) رقم (10)، وتضبط " تَعْلَمُوا "، و " تَعَلمُوا " أي: تتعلموا. (¬3) " محاسن التأويل " (6/ 2173 - 2174).

آثار السلفية في ذم كثرة السؤال

آثار السلفية في ذم كثرة السؤال عن عكرمة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " انطلق فأفتِ الناسَ، وأنا لك عَوْن "، قلت: " لو أن هذا الناسَ مثلُهم مرتين، لأفيتُهم "، قال: " انطلق فأفتهم، فمن جاء يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرحُ عنك ثلثي مُؤْنة الناس " (¬1). وكان رجل يسأل أبا الدرداء، فقال له: " كل ما تسأل عنه تَعمل به؟ "، قال: لا، قال " فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ " (¬2). وسأل رجل مالكًا عن مسألة، فلم يجبه، فقال له " لم لا تجيبني؟ " فقال: " لو سألت عما تنتفع به لأجبتك " (¬3). وقال إسحاق بن إبراهيم الطبري: (ربما قال لي -أي الفضيل بن عياض-: " لو أنك طلبت مني الدنانير كان أيسر عليَّ من أن تطلب مني الحديث "، فقلت: " لو حدثتني بأحاديث فوائد ليست عندي، كان أحبَّ إليَّ من أن تَهَبَ لي عددَها دنانير "، قال: " إنك مفتون، أما والله وعملتَ بما سمعت، لكان لك في ذلك شُغْل عما لم تسمع، سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله، فتأخذ اللقمة، فترمي بها خلف ظهرك متى تشبع؟ " (¬4). ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (5/ 14 - 15). (¬2) " الموافقات " (1/ 65). (¬3) " ترتيب المدارك " (1/ 164). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (8/ 428).

وعن عبدة بن أبي لبابة قال: " وددتُ أن أحظى من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم " (¬1). وقال ابن وهب: وقال لي مالك: " أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم "، قال ابن وهب: يريد المسائل (¬2). وقال مالك: " العلم والحكمة نور يهدي الله به من يشاء، وليس بكثرة المسائل " (¬3). (وكان إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله لا يقدم عليه في السؤال كثيرا، وكان أصحابه يهابون ذلك، قال أسد بن الفرات -وقد قدم على مالك-: " وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة، فإذا أجاب يقولون له: " قل له: فإن كان كذا؟ "، فأقول له، فضاق عليَّ يومًا، فقال لي: " هذه سُليسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق "، وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل، وكثرة تفريعهم في الرأي) (¬4) اهـ. * وقد وردت آثار عن السلف فيها النهي عن السؤال عما لم يقع حتى يقع: عن ابن عون قال: قال القاسم: " إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها، ¬

_ (¬1) " جامع بيان العلم " (2/ 1059). (¬2) " السابق " (2/ 1066). (¬3) " السابق " (1/ 757 - 758). (¬4) " الموافقات " (4/ 318).

وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها، وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حَلَّ أن نكتمكموها " (¬1) وعن زيد المنقري قال: (جاء رجل يومًا إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو؟ فقال له ابنُ عمر: " لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن ") (¬2). وعن الزهري قال: (بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: " أكان هذا؟ "، فإن قالوا: " نعم قد كان "، حدَّث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا: " لم يكن "، قال: " فذروه حتى يكون ") (¬3). وعن عامر قال: (سئل عمار بن ياسر عن مسألة، فقال: " هل كان هذا بعد؟ "، قالوا: " لا "، قال: " دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشمناها لكم ") (¬4). وعن طاوس قال: قال عمر على المنبر: " أحَرِّج بالله على رجل سأل عما لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن " (¬5). وعن عمر بن إسحاق قال: " لَمن أدركت من أصحاب رسول الله أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قومًا أيسر سيرة، ولا أقل تشديدًا منهم " (¬6). وعن رجاء بن أبي سلمة قال: سمعت عبادة بن نسي الكندي، وسُئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي؟ فقال: " أدركت أقوامًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم " (¬7). ¬

_ (¬1) " سنن الدارمي " (1/ 49). (¬2) " السابق " (1/ 50). (¬3) " السابق " (1/ 50). (¬4) " السابق " (1/ 50). (¬5) " السابق " (1/ 50). (¬6) " السابق " (1/ 51). (¬7) " السابق " (1/ 51).

وعن زبيد قال: " ما سألت إبراهيم عن شيء إلا عرفت الكراهية في وجهه " (¬1). (وقال أبو وائل: " لاتقاعد أصحاب: أرأيت " (¬2)، وقال الشعبي: " ما كلمة أبغض إليَّ مِن: أرأيت "، وقال أيضًا: إذا سألت عن مسألة فأُجِبْتَ فيها، فلا تُتبع مسألتك: " أرأيت "، فإن الله يقول في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]، حتى فرغ من الآية) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 52). (¬2) الأرأيتيون: الذين يكثرون من قول: " أرأيت " في غير موضعها كأن يسأل عن علة الحكم في أمر تعبدي، أو يكون السائل غير أهل لذلك، وكما يفعل المتنطعون الذين يعقبون جواب العالم بقولهم: " أرأيت " لأجل تفريع الأسئلة، والتوليد منها، والإيغال فيها، لمجرد المراء. (¬3) رواهن ابن عبد البر في " الجامع " (2/ 1076).

بيان ما يحمد من الأسئلة وما يذم

بيان ما يُحْمَدُ من الأسئلة وما يُذَمُّ قال الحافظُ ابن حجر رحمه الله تعالى: (قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك؛ أن البحث عما لا يوجد فيه نص، على قسمين: أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها؛ فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضًا على من تعين عليه من المجتهدين. ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلاً، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: " هلك المتنطعون ... "، قالها ثلاثًا (¬1)، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته. ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدًّا، فيصرف فيها زمانًا كان صرفه في غيرها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم رقم (2670)، وأبو داود في السنن رقم (4608)، وأحمد (1/ 386).

أولى، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه. وأشد من ذلك -في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس؛ كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدة هذه الأمة ... إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث. وأشد من ذلك ما يوقع كثرةُ البحث عنه في الشك والحيرة، قال بعضهم: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن -أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق: " هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ " فيجيبه بالجواز، فإن عاد فقال: " أخشى أن يكون من نهب أو غصب "، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حَرُم، وإن تردد كُرِه، أو كان خلاف الأَوْلى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز. وإذا تقرر ذلك، فمن يسدَّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقل فهمه وعلمه؛ ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها، ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف، ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظًا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه

ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرًا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمَن بعدهم) (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " فتح الباري " (13/ 267).

المواضع التى يكره فيها السؤال

المواضع التى يكره فيها السؤال قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى: (الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح .. ) إلى أن قال رحمه الله: (والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية، مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وُعِظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه، وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه، ويحفظوا منه العلم .. ). ثم قال: (ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع: أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: " من أبي؟ "، ورُوي في (التفسير) أنه عليه السلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقًا كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرًا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الآية، فأنما أجيب بما فيه من منافع الدين. وثانيها: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته؛ كما سأل الرجل عن الحج: " أكلَّ عام؟ " مع أن قوله تعالى: {ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: {اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. وثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا -والله أعلم-

ورابعها

خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: " ذروني ما تركتكم "، وقوله: " وسكت عن أشياء رحمةً بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها ". ورابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي عن الأغلوطات. وخامسها: أن يسأل عن علة الحكم -وهو من قبيل التعبدات، أو السائل ممّن لا يليق به ذلك السؤال - كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة (¬1). وسادسها: أن يبلغ بالسؤال إلى حدِّ التكلُّف والتعمُّق، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، ولما سئل الرجل: " يا صاحب الحوض! هل ترد حوضَك السباعُ؟ "، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " يا صاحبَ الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرِدُ على السباع، وترد علينا " (¬2). وسابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي (¬3) ولذلك ¬

_ (¬1) وفيه أن عائشة رضي الله عنها سُئلت عن قضاء الحائض الصومَ دون الصلاة؛ فقالت للسائلة: " أحرورية أنتِ؟ "، ثم قالت: " كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " أخرجه مسلم (1/ 265) رقم (335). (¬2) انظر ص (244) حاشية رقم (1). (¬3) مثل ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في امرأتين من هُذَيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجَر، فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، =

وثامنها

قال سعيد: أعراقي أنت؟ " (¬1). وقيل لمالك بن أنس: " الرجل يكون عالمًا بالسنة أيجادل عنها؟ " قال: " لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قُبِلَتْ منه، وإلا سكت " (¬2). وثامنها: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 7]. وعن عمر بن عبد العزيز: " من جعل دينه غرضًا للخصومات؛ أسرع التنقل " (¬3)، ومن ذلك: سؤال من سأل مالكًا عن الاستواء؟ فقال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة " (¬4). وتاسعها: السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صِفِّين؟ فقال: " تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب ¬

_ = فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى أن دِية ما في بطنها غُرَّةٌ عبدٌ أو أمة، فقال وليُّ المرأة التي غَرِمَتْ: " كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلَّ، ومثل ذلك يُطَلُّ؟ "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما هذا من إخوان الكهان " رواه البخاري برقم (5758)، ومسلم رقم (1681)، ومعنى (يطل): يُهدر، وفي بعض الروايات: (بطل) بالباء الموحدة والتخفيف، من البطلان. (¬1) فقد قال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع: " حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟ "، فقال سعيد: " أعراقي أنت؟ "، فقلت: " بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم "، فقال: " هي السنة يا ابن أخي "، وانظر: " معالم السنن " للخطابي (4/ 28)، و " فقه الإمام سعيد بن المسيب " (4/ 67). (¬2) رواه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (2/ 936) رقم (1784)، وانظر: " ترتيب المدارك " (170/ 1). (¬3) أخرجه الدارمي في " السنن " رقم (310)، والآجري في " الشريعة " (1/ 56، 57)، وغيرهما. (¬4) أخرجه الدارمي في " الرد على الجهمية " رقم (104)، وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 325)، وغيرهما، وجوَّد الحافظ إسناده في " الفتح " (13/ 406 - 407).

عاشرها

أن ألطِّخَ بها لساني " (¬1). عاشرها: سؤال التعنت (¬2) والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، وفي القرآن في ذم نحو هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]، وقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، وفى الحديث: " أبغض الرجال إِلى الله الألد الخصِم " (¬3). هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدًا، بل فيها ما تشتدّ كراهيته، ومنها ما يخفّ، ومنها ما يحرم , ومنها ما يكون محلَّ أجتهاد، وعلى جملةٍ منها يقع النهي عن الجدال في الدين؛ كلما جاء: " إِن المراء في القرآن كفر " (¬4) وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية، [الأنعام: 68]، وأشباه ذلك من الآي والأحاديث ... فالسؤال في مثل ذلك منهيٌ عنه، والجواب بحسبه) (¬5). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الخطابي في " العزلة " ص (136)، وابن عبد البر في " الجامع " (2/ 934) رقم (1778). (¬2) أي: يسأل ليُعَنِّت المسؤول ويقهره، لا ليعلم. (¬3) أخرجه البخاري رقم (4523)، ومسلم رقم (2668). (¬4) أخرجه الإمام أحمد (2/ 258)، وأبو داود رقم (4603)، والحاكم (2/ 223)، وابن حبان (59)، وغيرهم، وصححه الحاكم، وابن حبان، ووافقه الذهبي، وكذا صححه الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (2/ 10). (¬5) " الموافقات " (4/ 319 - 321).

بيان أن النهي في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} مقيد بما لا تدعو إليه حاجة

بيان أن النهي في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} مقيد بما لا تدعو إليه حاجة نقل القاسمي رحمه الله عن بعض المفسرين قوله: (لابد من تقييد النهي في هذه الآية بما لا تدعو إليه حاجة؛ لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وقال - صلى الله عليه وسلم -: " قاتلهم الله، ألا سألوا إِذ لم يعلموا، فإِنما شفاء العِيِّ السؤال ... ") انتهى. وليس العمى طول السؤال وإنما ... تمام العمى: طولُ السكوتِ على الجهل وعن علي رضي الله عنه: " العلم قُفْلٌ، ومفتاحه السؤال " (¬1). وقال ابن شهاب: " العلم خزانة، مفتاحها المسألة " (¬2). ثم قال القاسمي رحمه الله تعالى: (ولا يخفى أن الآية بقيدها -أعني: {إِنْ تُبْدَ ... } إلخ- غنية عن أن تقيّد بقيدٍ آخر كما ذكره البعض، لأن المراد بها: ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة، وما يفتضحون به -كما أسلفنا- مما هو خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه، وفيه خطر المفسدة، والشيء الذي لا يُحتاج إليه، ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه. وأمّا ما تدعو إليه الحاجة؛ فلا تشمله الآية -كما يتضح من نظمها الكريم- مع ¬

_ (¬1) " مفتاح السعادة " لطاش كبرى زاده (1/ 25). (¬2) " الجامع " لابن عبد البر رقم (524) ص (374).

ما بيّنته السنة في سبب النزول، وتَحرُجُ الصحابة عن المسائل المارّ بيانه -معلوم أنه فيما لا ضرورة إليها، وإلا فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة , مما بيّن أن هذه الآية في موضوع خاص. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكره فتح باب كثرة المسائل، خشية أن تفضي إلى حرج، أو مساءة، أو تعنّت. روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " (¬1). وروى أحمد وأبو داود: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات " (¬2) -وهي صعاب المسائل- والآثار في ذلك كثيرة) اهـ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: (أما كثرة السؤال، فلا أدري: أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل؟! فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فلا أدري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء؟) اهـ. من " الموافقات " (4/ 316). (¬2) يأتي تخريجه وبيان ضعفه ص (271). (¬3) " محاسن التأويل " (6/ 2181 - 2183).

الحذر من إبرام الشيخ وإضجاره

الحذر من إبرام الشيخ وإضجاره وليحذر طالب العلم الإثقال على الشيخ وإضجاره، وإلا لقي ما لا يسره: عن هُشيم قال: (كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خُلُقًا، فلم يزالوا به حتى ساء خُلُقُه) (¬1). وعن قُرَّة بن خالد قال: (سأل رجل محمد بن سيرين عن حديث -وقد أراد أن يقوم- فقال: " إنك إن كلَّفتني ما لم أُطِقْ؛ ساءك ما سرَّك مني مِن خُلُق ") (¬2). وعن سلمة بن شَبيب قال: (رأيت عبد الرزاق -وهو بمكة- فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: " بِشَر ما رأيتُ وجهك، فإنك مُبْرِم ") (¬3). وعن عمرو بن علي قال: (جاء رجل إلى يحيى بن سعيد يسأله عن أحاديث، وطول عليه، فقال له يحيى: " ما أراك إلا خيرًا مني، ولكنك ثقيل ") (¬4). وقال رَوَّاد: (سألت مالكًا عن أربعة أحاديث، فلما سألته عن الخامس؛ قال: " يا هذا! ما هذا بإنصاف ") (¬5). وعن إسماعيل بن موسى قال: (دخلنا إلى أنس بن مالك -ونحن جميعًا من ¬

_ (¬1) " الجامع " للخطيب (1/ 218). (¬2) " السابق " (1/ 215). (¬3) " السابق " (1/ 221). (¬4) " السابق " (1/ 221). (¬5) " السابق " (1/ 215).

أهل الكوفة- فحدثنا بسبعة أحاديث، فاستزدناه، فقال: " من كان له ديِنٌ فلينصرف "، فانصرفت جماعة، وبقيت جماعة أنا فيهم، ثم قال: " من كان له حياء فلينصرف "، فانصرفت جماعة، وبقيت جماعة أنا فيهم، ثم قال: " من كانت له مُروءة فلينصرف "، فانصرفت جماعة، وبقيت جماعة أنا فيهم، فقال: " يا غلمان افقئوهم (¬1)، فإنه لا بُقْيا (¬2) على قوم لا دين لهم، ولا حياء، ولا مروءة " (¬3)). ومن الأسئلة التي تسيء إلى العلاقة القائمة بين المتعلم وأستاذه الأسئلة المعروفة والمكررة والمعادة لما يترتب عليها من ضياع الوقت، يقول ابن جماعة رحمه الله: (ولا ينبغي للطالب أن يكرر سؤال ما يعلمه ولا استفهام ما يفهمه, فإنه يضيع الزمان، وربما أضجر الشيخ، قال الزهري: " إعادة الحديث أشد من نقل الصخر ") (¬4). وقال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: (وليتق إعادة الاستفهام لما قد فهمه، وسؤال التكرار لما قد سمعه، وعَلِمه، فإن ذلك يؤدِّي إلى إضجار الشيوخ)، ثم ساق بسنده (إلى أبي عمر الحوضي قال: " رأيت شعبة بن الحجاج أقام عفانًا من مجلسه مرارًا من كثرة ما يكرر عليه ") (¬5). وقال وكيع: " من استفهم وهو يفهم؛ فهو طَرفٌ من الرياء " (¬6). ¬

_ (¬1) يعني أخرجوهم. (¬2) أي: لا بقاء. (¬3) " السابق " (1/ 215). (¬4) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (106). (¬5) " الجامع " (1/ 196). (¬6) " السابق " (1/ 197).

النصوص والآثار في ذم الجدل والمراء

النصوص والآثار في ذم الجدل والمراء عن أنس رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَض (¬1) الجنة لمن ترك الراء (¬2)، وإِن كان مُحِقًّا " (¬3). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ضَلَّ قوم بعد هدًى كانوا عليه إِلا أوتوا الجدل "، ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬4) [الزخرف: 58]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن أبغض الرجال إِلى الله تعالى الألَدُّ الخَصِم " (¬5). وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: " ومن خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى ينزع " (¬6). ¬

_ (¬1) مشبَّه بربض المدينة، وهو ما حولها من العمارة. (¬2) المراء في اللغة: الجدال، وتفسيره: استخراج غضب المجادل، من قولهم: " مريت الشاة "، إذا استخرجت لبنها، انظر: " الآداب الشرعية " لابن مفلح (1/ 18). (¬3) رواه أبو داود رقم (4800). (¬4) رواه الترمذي رقم (3250)، وقال: " حسن صحيح "، وابن ماجه رقم (48)، وأحمد (5/ 252). وانظر شرحه في: " فيض القدير " (5/ 453 - 454). (¬5) رواه البخاري رقم (4523)، رقم (7188)، ومسلم رقم (2668)، وغيرهما. (¬6) قطعة من حديث رواه أبو داود رقم (3597)، والحاكم (2/ 27)، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال المنذري في " الترغيب ": (إسناده جيد) (3/ 152).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم " (¬1). وعن علي رضي الله عنه قال: " إياكم والخصومة، فإنها تمحق الدين " (¬2). وعن الأحنف بن قيس قال: " كثرة الخصومة، تنبت النفاق في القلب " (¬3). وعن جعفر بن محمد قال: " إياكم والخصومةَ في الدين، فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق " (¬4) وعن معاوية بن قرة قال: " إياكم وهذه الخصوماتِ، فإنها تحبط الأعمال " (¬5). وعن الفضيل بن عياض قال: " لا تجادلوا أهل الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله " (¬6). وعن مسلم بن يسار قال: " إياكم والمِراء، فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زَلَّته " (¬7). وعن معروف الكَرخيِّ قال: " إذا أراد الله بعبدٍ شرًّا، أغلق عنه باب العمل , وفتح عليه باب الجدل " (¬8). ¬

_ (¬1) رواه مسلم رقم (2812)، وأحمد (3/ 313). (¬2) " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " للالكائي (2/ 127) رقم (211). (¬3) " السابق " (2/ 129) رقم (220). (¬4) " الحلية " (8/ 198). (¬5) " شرح أصول الاعتقاد " للالكائي (2/ 129) رقم (221). (¬6) " السابق " (2/ 129) رقم (223). (¬7) " سنن الدارمي " (1/ 120). (¬8) " نزهة الفضلاء " (2/ 714).

وقد قيل: " لا تمارِ حليمًا ولا سفيهًا، فإن الحليم يغلبك، والسفيه يؤذيك " (¬1). وعن ميمون قال: " لا تمار مَن هو أعلم منك، فإنك إن فعلت ذلك خزن عنك علمه، ولم يضره ما قلتَ شيئًا " (¬2). وعن خالد ابن الخليفة يزيد بن معاوية قال: " إذا كان الرجل لجوجًا، مماريًا، معجبًا برأيه، فقد تمت خسارته " (¬3). وعن مالك قال: " الجدال في الدين يُنشئ المِراء، ويذهبُ بنور العلم من القلب، ويقسِّي، ويُورث الضغن " (¬4). وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: " المراء في الدين يُقَسِّي القلب، ويُورت الضغائن " (¬5). وقال الحسن: " المؤمن لا يداري، ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قُبلت حَمِد الله، وإن رُدَّت حمد الله عز وجل وعلا " (¬6). وعن أبي الجوزاء أنه قال: " ما ماريتُ أحدًا قط " (¬7). ¬

_ (¬1) " بهجة المجالس " (2/ 429). (¬2) " جامع بيان العلم " (1/ 517). (¬3) " نزهة الفضلاء " (1/ 403). (¬4) " السابق " (2/ 623). (¬5) " السابق " (2/ 734). (¬6) " الشريعة " للآجري (1/ 208). (¬7) " نزهة الفضلاء " (1/ 400).

وقال عبد الكريم الجزري: " ما خاصم ورعٌ قَطُّ في الدين " (¬1). وسمع الحسن قومًا يتجادلون، فقال: " هؤلاء مَلُّوا العبادة، وخفَّ عليهم القول، وقل ورعُهم فتكلموا " (¬2). وعن معن بن عيسى؛ قال: (انصرف مالك بن أنس يومًا من المسجد؛ وهو متكئ على يدي؛ فلحقه رجل يقال له: أبو الجويرية؛ كان يُتَّهم بالإرجاء؛ فقال: " يا أبا عبد الله، اسمع مِني شيئاً أكلمك به؛ وأحاجك، وأخبرك برأيي "، قال: " فإن غلبتني؟ " قال: " إن غلبتك اتبعتني "، قال: " فان جاء رجل آخر؛ فكلمنا فغلبنا؟ "، قال: " نتبعه "، قال مالك رحمه الله: يا عبد الله! بعث الله عز وجل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد؛ وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: " من جعل دينه غرضًا للخصومات؛ أكثر التنقل ") (¬3). وعن الحسن أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد! إني أريد أن أخاصمك "، فقال الحسن: " إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه " (¬4). وقال الشافعي: (كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما أنا فإني على بينة من ديني، وأما أنت فشاكّ، اذهب إلى شاكّ مثلِك فخاصمه). وعن مهدي بن ميمون؛ قال: سمعت محمدًا -يعني ابن سيرين- وماراه رجل في شيء- فقال محمد: " إني أعلم ما تريد؛ وأنا أعلم بالمراء منك؛ ولكني لا أماريك " (¬5). ¬

_ (¬1) " الشريعة " (1/ 191). (¬2) انظر: " الحلية " (2/ 157). (¬3) " الشريعة " (1/ 189). (¬4) " شرح أصول الاعتقاد " (2/ 128) رقم (215). (¬5) " الشريعة " (196/ 1).

وعن الزجاج قال: كنا عند المبرِّد أبي العباس محمد، فوقف عليه رجل، فقال: " أسألك عن مسألة في النحو؟ "، قال: " لا "، فقال: " أخطأت "، فقال: " يا هذا! كيف أكون مخطئًا أو مصيبًا، ولم أُجِبْكَ عن المسألة بعدُ؟! "، فأقبل عليه أصحابه يُعَنِّفونه، فقال لهم: " خَلُّوا سبيله، ولا تَعَرَّضوا له، أنا أخبركم بقصته: هذا رجل يحب الخلاف، وقد خرج من بيته، وقصدني على أن يخالفني في كل شيء أقوله، ويخطئني فيه، فسبق لسانُه بما كان في ضميره " (¬1). * * * ¬

_ (¬1) " العزلة " للخطابي ص (166 - 167).

بيان انقسام الجدال إلى محمود ومذموم

بيان انقسام الجدال إلى محمود ومذموم قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: ( .. نظرنا في كتاب الله تعالى، وإذا فيه ما يدل على الجدال والحجاج، فمنِ ذلك: قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بالجدال، وعلَّمه منها جميع آدابه من الرفق، والبيان، والتزام الحق، والرجوع إلى ما أوجبته الحجة، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]، الآية. وكتابُ الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف، فتضمن الكتاب ذم الجدال والأمر به، فعلمنا علمًا يقينًا أن الذي ذمَّه غير الذي أمر به، وأن من الجدال ما هو محمود مأمور به، ومنه ما هو مذموم منهي عنه (¬1) , فطلبنا البيان لكل واحد من الأمرين، فوجدناه تعالى قد قال: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56]، وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35]، فبين الله تعالى في هاتين الآيتين الجدال المذموم، وأعلَمَنا أنه الجدال بغير حجة، والجدال في الباطل. فالجدال المذموم وجهان: أحدهما: الجدال بغير علم. ¬

_ (¬1) كالجدال في القرآن الكريم، وفي الله سبحانه وتعالى، وفي القدر.

والثاني

والثاني: الجدال بالشغْب والتمويه نصرة للباطل بعد ظهور الحق وبيانه، قال الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5]. وأما جدال المُحِقِّين فمن النصيحة في الدين، ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، وجوابه لهم: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]. وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم "، فأوجب المناظرة للمشركين، كما أوجب النفقة والجهاد في سبيل الله، وعلَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع السؤال في موضعه، وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر فيه محاجة آدم وموسى عليهما السلام) إلى أن قال رحمه الله: (وقد تحاج المهاجرون والأنصار، وحاجَّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الخوارج بأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما أنكر أحد من الصحابة قط الجدال في طلب الحق) (¬1) اهـ. ومتى ما مارى الطالب شيخه خرج المتعلم عن الوقار، وخزن الأستاذ علمه عنه، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (من حق العالم ألا تكثر عليه السؤال، ولا تعنته في الجواب، وأن لا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا ولا تطلبن عثرته، وإن زل فاقبل معذرته، ¬

_ (¬1) " الفقيه والمتفقه " (1/ 232 - 235) بتصرف.

فائدة

وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته) (¬1). وعن ميمون قال: " لا تمار عالمًا ولا جاهلاً، فإنك إذا ماريت عالمًا خزن عنك علمه، وإن ماريت جاهلاً خشن بصدرك " (¬2). فائدة: لا ينبغي لطالب العلم أن يسأل العالم بنية امتحانه، وتصنيفه كما يفعل " هواة التصنيف " في هذا الزمان -لا كثَّر الله سوادهم- كيف يشغبوا، ويثيروا الشر، ويُشَنِّعوا، وقال البخاري رحمه الله لمن فعل به هذا: " الامتحان بدعة " (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: " جامع بيان العلم " رقم (992)، و " آداب المتعلم " لأحمد فلاتة ص (119). (¬2) " السابق " رقم (835). (¬3) انظر: " هدي الساري مقدمة فتح الباري " ص (490) - ط. السلفية.

النهي عن الأغلوطات

النهي عن الأغلوطات ويجب على المتعلم أن يراعي في سؤاله طلب الفائدة لا تعنيت الأستاذ، وإحراجه أمام الآخرين، أو وضعه في مأزق ما. عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغَلوطات " (¬1). قال الأوزاعي: " الغلوطات: شداد المسائل وصعابها " (¬2). وقيل: " هي المسائل التي يغالَط بها العلماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة ". وعن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه- وقد ذكروا المسائل عنده- فقال: " أما تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن عُضَل المسائل؟ " (¬3). قال الخطابي في " معالم السنن ": (المعنى أنه نهى أن يُعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط، ليستنزلوا ويستسقط رأيهم فيها، وفيه كراهة التعمق والتكلف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسالة، ووجوب التوقف عما لا علم للمسؤول به، وقد روينا عن أبي بن كعب: أن رجلاً سأله عن مسألة فيها ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (5/ 435)، وأبو داود رقم (3656)، والطبراني في " الكبير " (19/ 380)، رقم (892)، وابن عبد البر في " الجامع " رقم (2037) بلفظ: " الأغلوطات "، وإسناده ضعيف. (¬2) " جامع بيان العلم " رقم (2038). (¬3) " السابق " رقم (2039)، وإسناده واهٍ، والمعضلة. هي الأمر المعيي الذي لا يُهتدى لوجهه.

غموض , فقال: " هل كان هذا بعد؟ " قال: " لا "، قال: " أمهلني إلى أن يكون ". وسأل رجل مالك بن أنس عن رجل شرب في الصلاة ناسيًا، فقال: " ولِم لَم يأكل؟ "، ثم قال: حدثنا الزهري عن علي بن حسين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِن من حسن إِسلام المرء تركَه ما لا يعنيه ") (¬1) اهـ. وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: سلوني؟ فسأله ابن الكواء، فقال: " ويلك سل تفقهًا، ولا تسل تعنتًا "، وفي موضع آخر قال علي رضي الله عنه لابن الكواء: " إنك لَذَهَّابٌ في التِّيه، سل عما ينفعك أو يعنيك "، قال: " إنما نسأل عما لا نعلم " (¬2). وقال الربيع بن خثيم: " يا عبد الله، ما علَّمك الله في كتابه من علم، فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم، فكِلْه إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] " (¬3). وقال يحيى بن أيوب: (بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون: " إذا أراد الله أن لا يعلِّم عبده أشغله بالأغاليط ") (¬4). وعن الأوزاعي قال: " إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم؛ ألقى على لسانه الأغاليط " (¬5). وعن الحسن البصري قال: " شرار عباد الله ينتقون شرار المسائل يعَمُّون بها عباد الله " (¬6) ¬

_ (¬1) " معالم السنن " (4/ 172). (¬2) انظر: " جامع بيان العلم " رقم (726). (¬3) " السابق " رقم (2011). (¬4) " جامع بيان العلم " رقم (2099). (¬5) " السابق " رقم (2083). (¬6) " السابق " رقم (2084).

وعن مالك بن أنس قال: جاء ابن عجلان إلى زيد بن أسلم، فسأله عن شيء، فخلط عليه، فقال له زيد: " اذهب فتعلم كيف تسأل، ثم تعالَ فَسَل " (¬1). كان ابن سيرين إذا سئل عن مسألة فيها أُغلوطة قال للسائل: (أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس) (¬2). وقال مالك: (قال رجل للشعبي: " إني خبأت لك مسائل "، قال: " اخبأها لإبليس حتى تلقاه، فتسأله عنها "). وسأل رجلٌ الشعبي عن المسح على اللحية، فقال: " خَلِّلها بأصابعك "، فقال: " أخاف أن لا تَبُلَّها "، قال الشعبي: " إن خِفتَ فانقعها من أول الليل " (¬3). وسأله آخر: " هل يجوز للمحرم أن يَحُكَّ بدنه؟ " قال: " نعم "، قال: " مقداركم؟ "، قال: " حتى يبدوَ العظم " (¬4). وعن سعيد بن بشير قال: (كان مالك إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم وأنه يريد المغالطة، زجره بهذه الآية: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. وسأل عمرو بن قيس مالك بن أنس عن مُحْرِم نزع نابَيْ ثعلب، فلم يرد عليه شيئًا (¬5). وعن عبد الرحمن بن أبي نُعم أن رجلاً سأل ابن عمر وأنا جالس عن دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال له: " ممن أنت؟ " قال: " من أهل العراق "، فقال ابن ¬

_ (¬1) " الجامع " للخطيب (1/ 213). (¬2) " العقد الفريد " (2/ 91). (¬3) " المُراح في المزاح " ص (39). (¬4) " المُراح في المزاح " ص (39). (¬5) " العقد الفريد " (2/ 91).

عمر: " ها انظروا إلى هذا! يسأل عن دم البعوض (¬1)، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!!، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إِن الحسن والحسين هما ريحانتي من الدنيا " (¬2). وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة يجدها الإنسان في ثوبه أو في خفه أو في جبهته من حصى المسجد، فقال: " ارم بها "، قال الرجل: " زعموا أنها تصيح حتى تُرَدَّ إلى المسجد "، فقال: " دعها تصيح حتى ينشقَّ حلقُها "، فقال الرجل: " سبحان الله! ولها حَلْق؟ " قال: " فمن أين تصيح؟ " (¬3). وعن أيوب قال: سمعت رجلاً قال لعكرمة: " فلان قذفني في النوم "، قال: " اضرِبْ ظلَهُ ثمانين " (¬4). وعن الأعمش قال: أتى رجل الشعبي، فقال: ما اسم امرأةِ إبليس؟ قال: " ذاك عُرْسٌ ما شهدته " (¬5). وجاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال له: " إذا نزعتُ ثيابي، ودخلتُ النهر أغتسل، فإلى القبلة أتوجَّه أم إلى غيرها؟ "، فقال له: " الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك لئلا تُسْرَق " (¬6). ¬

_ (¬1) البعوض: جمع بعوضة، وهو صغار البَقِّ. (¬2) رواه البخاري رقم (3753) (7/ 95 - فتح)، والترمذي رقم (3770) والسياق له، وقال: " حسن صحيح ". وفي بعض الروايات أنه سئل عن المحرم يقتل الذباب؟ فقال: " يا أهل العراق؛ تسألونا عن قتل الذباب، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الحديث، وفي رواية: " ما أسالهم عن صغيرة، وأجرأهم على كبيرة!! " الحديث. (¬3) " العقد الفريد " (2/ 92). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (5/ 19). (¬5) " السابق " (4/ 312). (¬6) " المراح في المزاح " ص (43).

* قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله: (ومن الأدب إذا روى المحدث حديثًا، فعرض للطالب في خلاله شيء أراد السؤال عنه، أن لا يسأل عنه في تلك الحال، بل يصبر حتى يُنهي الراوي حديثه، ثم يسأل عما عرض له). ثم روى بسنده إلى نافع: (أن تميمًا الداريَّ رضي الله عنه استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القصص، فقال: " إنه على مثل الريح "، قال: " إني أرجو العاقبة "، فأذِن له عمر، فجلس إليه عمر، فقال تميم في قوله: " اتقوا زلة العالم "، فكره عمر أن يسأله عنه، فيقطعَ على القوم، وحضر منه قيام، فقال لابن عباس: " إذا فرغ فاسأله: ما زلة العالم؟ "، ثم قام عمر، فجلس ابن عباس فغفل غفلة، وفرغ تميم، وقام يصلي، وكان يطيل الصلاة، فقال ابن عباس: لو رجعتُ فَقِلْتُ (¬1) ثم أتيته، فرجع، وطال على عمر، فأتى ابن عباس فسأله، فقال: " ما صنعتَ؟ "، فأعتذر إليه، فقال: " انطلق "، وأخذ بيده حتى أتى تميمًا الداريَّ، فقال له: " ما زلة العالم؟ "، قال: " العالم يزلُّ بالناس، فيؤخَذ به، فعسى أن يتوب منه العالم، والناس يأخذون به ") (¬2). وقال الحسين بن علي لابنه: " يا بني! إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرصَ منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحدٍ حديثًا -وإن طال- حتى يمسك " (¬3). ¬

_ (¬1) أي: نمتُ نوم القيلولة، وهو النوم وسط النهار. (¬2) " الجامع " (1/ 211 - 212). (¬3) " جامع بيان العلم وفضله " (1/ 521).

* وإذا سأله الأستاذ: هل فهم الدرس؟ فعلى المتعلم أن يُلزم نفسَه الصدق مع أستاذه , فإن لم يفهم طلب إفهامه، قال ابن شهاب: " العلم خزائن ومفتاحه المسألة ". وإذا قال الشيخ: " أفهمت؟ "، فلا يقل: " نعم " قبل أن يتضح له المقصود من المسألة إيضاحًا جليًّا لئلا يكذب، ولا يستحي من قوله: " لم أفهم "، لأن استثباته يحصل له مصالح " (¬1). وقال الخليل بن أحمد: (فإن سأله فلا يقل: " نعم "، حتى يتضح له المعنى اتضاحًا جليًّا كيلا يفوته الفهم، ويدركَه بكذبه الإثمُ " (¬2). وقال ابن جماعة: " وكما لا ينبغي للطالب أن يستحي من السؤال فكذلك لا يستحي من قوله: " لم أفهم " إذا سأله الشيخ، لأن ذلك يفوت عليه مصلحة العاجلة والآجلة، وأما العاجلة: فحفظ المسألة ومعرفتها، واعتقاد الشيخ فيه الصدق والورع والرغبة، والآجلة: سلامته من الكذب والنفاق، واعتياده التحقيق) (¬3). وأما إذا كان يعرف الدرس طلب المزيد، وعليه ألا يظهر استغناءً عن الأستاذ، يقول ابن جماعة: (فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له فلا يجيب " بنعم "، لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولايقل: " لا "، لما فيه من الكذب، بل يقول: " أحب أن أسمعه من الشيخ، أو أن أستفيده منه، أو بَعُدَ ¬

_ (¬1) " المعيد في أدب المفيد والمستفيد " للعلموي ص (141) (¬2) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (158). (¬3) " السابق " ص (157).

عهدي، أو هو من جهتكم أصح "، فإن علم من حال الشيخ أنه يؤثر العلم بحفظه له مسرة به، أو أشار إليه بإتمامه امتحانًا لضبطه وحفظه، أو لإظهار تحصيله، فلا بأس باتباع غرض الشيخ ابتغاء مرضاته، وازدياد الرغبة فيه) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) " السابق " ص (105).

الفصل السادس الأدب مع حامل القرآن الكريم

الفصل السادس الأدب مع حامل القرآن الكريم لقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإكرام أهل القرآن، فقال: " إِن من إجلال الله إِكرامَ ذي الشيبة المسلمِ، وحاملِ القرآنِ، غير الغالي فيه (¬1) والجافي عنه (¬2)، وإِكرام ذي السلطان المقسِط " (¬3). وسمَّاهم - صلى الله عليه وسلم - اسمًا ينبض بأعظم المعاني: سماهم " أهلَ الله وخاصته "، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إِن لله تعالى أهلين من الناس: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصَّتُه " (¬4). ولأن خير الكلام كلام الله تعالى؛ فإن خير الناس من اشتغل به مخلصًا لله عز وجل، عن أمير المؤمين عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خيركم من تعلم القرآن، وعلَّمه " (¬5). ¬

_ (¬1) الغلو فيه: المبالغة في التجويد، أو الإسراع في القراءة، بحيث يمنعه عن تدبر معانيه، وقيل: هو مجاوزة الحد فيه من حيث لفظه أو معناه بتأويل باطل. (¬2) الجفاء فيه: أن يتركه بعد علمه، وينساه بعد حفظه، وقيل: الجافي عنه: المتباعد عن العمل به، وإتقان معانيه، وانظر: " فيض القدير " للمناوي (2/ 529)، و " دليل الفالحين " (2/ 215). (¬3) " صحيح سنن أبي داود " (3/ 918) رقم (4053) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬4) " صحيح سنن ابن ماجه " (1/ 42) رقم (178) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر: " السلسلة الضعيقة " (4/ 84) رقم (1582). (¬5) رواه البخاري (9/ 74 - فتح).

ومن أجل هذا الحديث قعد أبو عبد الرحمن السلمي أربعين عامًا (¬1) يُقرئ الناس بجامع الكوفة مع جلالة قدره، وكثرة علمه. وسئل سفيان الثورى عن الجهاد وتعليم القرآن، فرجَّح الثاني، واستدلَّ بهذا الحديث (¬2). وعن أنس رضي الله عنه قال: بعثني الأشعري -يعني أبا موسى رضي الله عنه- إلى عمر، فقال لي: " كيف تركت الأشعريَّ؟ "، قلت: " تركته يُعَلِّم الناسَ القرآنَ "، فقال: " أما إنه كيِّسٌ! ولا تُسْمِعْها إياه " (¬3). وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن صاحب القرآن في غِبطَةٍ (¬4)، وأنه يحق له الاغتباط الشديد بما هو فيه، وأنه يستحب تغبيطه (¬5) بذلك، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا حسد إِلا في اثنتين: رجل علَّمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له، فقال: " يا ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل " ... ) الحديث (¬6). وآثر - صلى الله عليه وسلم - أهل القرآن الكريم بالأحقية في إمامة الصلاة؛ فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله، فإِن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنة ... " (¬7) الحديث. ¬

_ (¬1) " حلية الأولياء " (4/ 194)، وفي صحيح البخاري: (وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: " وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ") اهـ. من " الفتح " (9/ 74). (¬2) " النشر في القراءات العشر " لابن الجزري (1/ 552). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (2/ 390). (¬4) الغِبطة: حسن الحال والمسرة. (¬5) غبطه: إذا تمنى مثل ما هو فيه من النعمة. (¬6) رواه البخاري (9/ 73 - فتح)، وغيره. (¬7) رواه مسلم (1/ 465)، وأبو داود (1/ 390، 391)، والترمذي (1/ 458، 459)، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي (2/ 76، 77)، وابن ماجه (1/ 313,314).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإِمامة أقرؤهم " (¬1). وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: " أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحْدِ ... ) (¬2) الحديث. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان القراءُ أصحابَ مجالس عمر رضي الله عنه ومشاورتِه، كهولاً كانوا أو شُبَّانًا " (¬3). وعن عباد أبي محمد البصري قال: " تُوَسَّع المجالس لثلاثة: لحامل القرآن، ولحامل الحديث، ولذي الشيبة في الإسلام " (¬4). إن القرآن العظيم يُغني صاحبه عن كل حسب ونسب، والتشرف بحفظه والتفقه فيه فوق كل شرف، ألا ترى أنه لا يصد واحدًا من أهل القرآن والدين عن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1/ 464)، والنسائي (2/ 77)، والأظهر أن المقصود بـ " الأقرأ ": الأحفظ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وليؤمكم أكثركم قرآنًا " رواه البخاري (5/ 95) من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا " العصبة " قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا) رواه البخاري (1/ 170)، وأبو داود (1/ 395)، وانظر: " فتح الباري " (2/ 186). (¬2) أخرجه البخاري (3/ 209) - فتح، والنسائي (1/ 277)، والترمذي (2/ 147)، وصححه، وابن ماجه (1/ 461)، وغيرهم. (¬3) رواه البخاري (8/ 304) - فتح. (¬4) " الجامع " للخطيب (1/ 344).

إمامة الناس أن يكون أعرابيًا، أو عبدًا مملوكًا، أو ولد زنى (¬1)؟! استناب نافع بن عبد الحارث مولاه عبد الرحمن بن أبزى الخزاعيَّ رضي الله عنه على مكة حين تلقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عُسفان (¬2)، فقال له: " من استخلفتَ على أهل الوادي؟ " -يعني مكة- قال: " ابن أبزى "، قال: " ومن ابن أبزى؟ "، قال: " إنه عالم بالفرائض، قارئ لكتاب الله "، قال: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِن هذا القرآن يرفع الله به أقوامًا، ويضع به آخرين " (¬3). ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال " ابنُ أبزى ممن رفعه الله بالقرآن " (¬4). وممن رفعهم القرآن الكريم: كبار أئمة التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفي كل واحد منهم عيب: فعَبيدة أعور، ومسروق أحدب، وعلقمة أعرج، وشريح كوسج (¬5)، والحارث أعور، رفعهم حفظ القرآن وتعلمه وتعليمه (¬6). وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: " من تعلم القرآن عظمت قيمته " (¬7). عن يحيى بن معين قال: بلغني أن الأعمش قال: ¬

_ (¬1) انظر: " الشرح الكبير " (1/ 411)، و " البحر الرائق " (1/ 370). (¬2) عُسفان: موضع بين الجحفة ومكة، وهو على مرحلتين من مكة. (¬3) أخرجه مسلم (817)، وابن ماجه (218)، والدارمي (2/ 443). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (3/ 202). (¬5) الكَوْسَجُ: الذي لا شعر على عارضيه. (¬6) انظر: " سير أعلام النبلاء " (4/ 56). (¬7) " تهذيب سير أعلام النبلاء " (2/ 734).

" أنا ممن رفعه الله تعالى بالقرآن، لولا القرآن لكان على رقبتي دَنُّ (¬1) صحناء (¬2) أبيعه " (¬3)، وقال أيضًا: " لولا القرآن وهذا العلم عندي؛ لكنت من بقالي الكوفة " (¬4). وممن رفعه الله بالقرآن: أبو العالية رفيع بن مهران الإمام المقرئ الحافظ المسند، وكان مولى لامرأة، قال رحمه الله: (كان ابن عباس يرفعني على السرير (¬5)، وقريش أسفل من السرير، فتغامزت بي قريش، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: " هكذا العلم يزيد الشريف شرفًا، ويُجلسُ المملوكَ على الأسِرَّة! " (¬6). وكان المحدثون يعظمون أهل القرآن أيَّ تعظيم، فهذا الإمام شيخ الإسلام، وشيخ المقرئين والمحدثين سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله؛ مع أنه كان معروفًا بشدته على طُلاب الحديث، يقول: " كان يحيى بن وثَّاب من أحسن الناس قراءة رُبما اشتهيت أن أقَبِّلَ رأسه من حُسن قراءته، وكان إذا قرأ لا تسمع في المسجد حركة، كأن ليس في المسجد أحد " (¬7). وقال يعقوب الفسوى: سمعت أحمد بن يونس، وذكروا له حديثًا أنكروه من حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، فقال: كان الأعمش يضرب هؤلاء، ويشتمهم، ويطردهم، وكان يأخذ بيد أبي بكر، فيجلس معه في زاوية ¬

_ (¬1) الدن: وعاء ضخم. (¬2) الصحناء: السمك الصغار. (¬3) " الحث على حفظ العلم " للعسكري ص (18). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (6/ 229). (¬5) أي سرير دار الإمرة، حين تولاها ابن عباس لعلي رضي الله عنهم، كما في " السير " (208/ 4). (¬6) " سير أعلام النبلاء " (4/ 208). (¬7) " السابق " (4/ 381).

لحال القرآن (¬1) وقال الحسين بن فهم: (ما رأيت أنبل من " خلف بن هشام "، كان يبدأ بأهل القرآن، ثم يأذن لأصحابه الحديث) (¬2) وكان لا يرى استصغار حامل القرآن، بل لابد من توقيره، فإن معه أعظم وأفضل ما يُرفع به الناس، ولو كان حامل القرآن صغير السن بالنسبة لكبار القراء. فعن أحمد بن إبراهيم، وَرَّاق خلف بن هشام أنه سمع خلفًا يقول: (قدمتُ الكوفة، فصِرتُ إلى سُليم بن عيسى، فقال لي: " ما أقدمَك؟ "، قلت: " أقرأ على أبي بكر بن عياش "، فقال: " لا تريده؟ "، قلت: " بلى "، فدعا ابنه، وكتب معه إلى أبي بكر, ولم أدْرِ ما كتبَ، فأتينا منزل أبي بكر، قال ابن أبي حسان: وكان لخلف تسعَ عشرةَ سنة، فلما قرأ الورقة، قال: " أدخِل الرجل "، فدخلتُ، وسلَّمت، فصَعَّد فيَّ النظر، ثم قال: " أنت خلف؟ " قلت: " نعم "، قال: " أنت لم تُخَلِّفْ ببغدادَ أحدًا أقرأ مِنْكَ؟ "، فَسَكَتُّ، فقال لي: " اقعد , هاتِ اقرأ "، قلتُ: " أعليكَ؟ "، قال: " نعم "، قلت: " لا والله لا أقرأ على رجل يستصغر رجلاً من حَمَلَةِ القرآن "، ثم خرجتُ , فوجَّه إلى سُلَيمٍ يسأله أن يَرُدَّني , فأبيتُ، ثم إني نَدِمْتُ , واحتجت، فكتبتُ قراءة عاصمٍ عن يحيى بن آدم عن أبي بكر) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " السابق " (8/ 500). (¬2) " السابق " (10/ 579). (¬3) " السابق " (10/ 579 - 580).

الفصل السابع الأدب مع الأكابر

الفصل السابع الأدب مع الأكابر قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]، وقال تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا (¬1) فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78]، فمِن ثَمَّ قال بعض العلماء: " الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقًّا يُتَوَسَّلُ به، كما توسلوا بكبر يعقوب، وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ " (¬2) اهـ (¬3). ¬

_ (¬1) لأنه لما تَعيَّن أخذ بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، وِإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، راحوا يعطفونه عليهم، بأن له أبًا شيخًا كبيرًا يحبه حبًّا شديدًا يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقًا عندك. (¬2) يشير إلى ما رواه البيهقي (3/ 345) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: " مهلاً عن الله مهلاً، فإِنه لولا شباب خُشَّع، وبهائم رُتَّع، وشيوخ رُكَّع، وأطفا رُضَّع؛ لصبَّ عليكم العذاب صبًّا "، قال البيهقي: " فيه إبراهيم بن خثيم غير قوي، وله شاهد بإسناد آخر غير قوي " اهـ. ومما استدل به على استحباب إخراج الشيوخ للاستسقاء بهم وبالضعفاء والصبيان والعجائز وغير ذوات الهيئات من النساء قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أبغوني الضعفاء، فإِنما تُرزقون، وتنصرون بضعفائكم " أخرجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أبو داود رقم (2594)، والترمذي رقم (1702)، وقال: " حسن صحيح "، والنسائي (6/ 45)، والحاكم (2/ 106، 145)، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم (1620)، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإِخلاصهم " رواه النسائي (6/ 45)، وأبو نعيم في " الحلية " (5/ 26). (¬3) " محاسن التأويل " للقاسمي (9/ 3576 - 3577).

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ...... فأعط كل ذي حقّ حقَّه " (¬1). وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - حَدَّ الكِبْر فقال: " الكِبرُ: بَطَرُ الحق، وَغمطُ الناس " (¬2). إن من محاسن هذه الشريعة الإلهية أنها فرضت للأكابر حقوقًا يجب أن تُعطى لهم كاملة غير منقوصة، وأن تُبذل لهم -تعبدًا، وتأدبًا- عن قناعة، بل عن طيب خاطر، وسماحة نفس كخفض الصوت بحضرتهم، وإعداد المحاريب لإمامتهم، والانتفاع بخبرتهم، والالتقاط من جواهر علومهم، وإفساح المجالس لهم , وتهيئة الموضع اللائق بشيبتهم في صدورها، كما توضع الدرر الكبار في العقد المنضود. وقد خاطب بعض الشيوخ النشء معلمًا ومؤدبًا، فقال ضمن وصية جامعة نافعة: " اعرف الكبير قدره وحقه، فإذا ماشيته فقدمه عليك في الدخول والخروج , وإذا التقيت به فأعطه حقه من السلام والاحترام، وإذا اشتركت معه في حديث فمكنه من الكلام قبلك، واستمع إليه بإصغاء وإجلال، وإذا كان في الحديث ما يدعو للمناقشة فناقشه بأدبٍ وسكينة ولُطف , وغُضَّ من صوتك في حديثك إليه، وإذا خاطبته أو ناديته فلا تنس تكريمه في الخطاب والنداء " (¬3). ¬

_ (¬1) عجز حديث رواه البخاري (4/ 170 - 171)، والترمذي (3/ 290)، وغيرهما من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم رقم (91)، والترمذي رقم (1999) , والبطر: التكبر، فالمعنى هنا: أنه يطغى ويتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، والبطر معناه أيضًا الباطل، والحيرة، أما الغمط، فيقال: غمطت حق فلان: إذا احتقرته، ولم تره شيئًا. (¬3) " من أدب الإسلام " ص (190) ملحق بتحقيق رسالة المسترشدين للمحاسبي.

لقد شَمَّر السلف ومن تبعهم من الخلف عن سُوق الدأب في سوق الأدب، فخلفوا لنا تراثًا حافلاً يشهد بعظمة هذا الدين، وسمو تعاليمه، وشموله كل ما يصلح الأمم والأفراد في كل مناحي الحياة، وما كان ذلك إلا بفضل التربية النبوية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس، فدونك بعض حلقاتها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا، فليس منا " (¬1). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق -وفي لفظ: ويوقر- كبيرنا فليس منا " (¬2)، وفي رواية: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويَعْرفْ شرف كبيرنا " (¬3). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرفْ لعالمنا حقَّه " (¬4). وقال بكر بن عبد الله المزني رحمه الله: (إذا رأيت من هو أكبر منك، فقل: " هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك، فقل: " سبقته إلى الذنوب والمعاصي، فهو خير مني ") (¬5). ¬

_ (¬1) " صحيح الأدب المفرد " رقم (271). (¬2) رواه البخاري في " الأدب المفرد "، وهو في " صحيح الأدب " رقم (272)، ورواه أبو داود رقم (4943)، والترمذي بنحوه رقم (2002). (¬3) انظر: " صحيح الجامع " (5/ 103). (¬4) رواه الإمام أحمد (5/ 323)، والحاكم (1/ 122)، وحسَّنه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (5319). (¬5) " صفة الصفوة " (248/ 3).

وجعل - صلى الله عليه وسلم - إكرام من شاب شعره، ونفد عمره في الإسلام والإيمان، بتعظيمه , وتقديمه، والرفق به، والشفقة عليه، من كمال تعظيم الله عز وجل وتبجيله , لشدة حرمته عند الله تبارك وتعالى: فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال - صلى الله عليه وسلم -: " إِن من إِجلال الله إِكرام ذي الشيية المسلم، وحامل القرآن؛ غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإِكرام ذى السلطان المقسط " (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البركة مع أكابركم " (¬2) قال المناوي رحمه الله في شرحه: (البركة مع أكابركم المجربين للأمور، المحافظين على تكثير الأجور، فجالسوهم لتقتدوا برأيهم، وتهتدوا بهديهم (¬3)، أو المراد: من له منصب العلم , وإن صغر سنه، فيجب إجلالهم حفظًا لحرمة ما منحهم الحق سبحانه، وقال شارح الشهاب: هذا حث على طلب البركة في الأمور، والتبحبح في الحاجات بمراجعة الأكابر، لما خصُّوا به من سبق الوجود، وتجربة الأمور، وسالف عبادة المعبود، قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} [يوسف: 80]، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (357)، وهو في " صحيح الأدب المفرد " برقم (274)، ورواه أبو داود رقم (4843)، وسكت عليه، وحسنَّه النووي والعراقي وابن حجر. (¬2) رواه ابن حبان (الإحسان- رقم 559)، وأبو نعيم في " الحلية " (8/ 171 - 172)، والحاكم (1/ 62) , والخطيب في " التاريخ " (11/ 165)، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، ثم الألباني في " الصحيحة " رقم (1778). (¬3) ولمزيد بيان للمراد من التبرك المشروع بمجالسة الصالحين، وكذا التبرك الممنوع بهم يراجع كتاب " التبرك أنواعه وأحكامه " للدكتور ناصر بن عبد الرحمن الجديع ص (269 - 278)، (0 38 - 418) - طبعة مكتبة الرشد بالرياض 1411 هـ، فإنه كتاب مبارك، ونفيس في بابه، فاظفر به.

وكان في يد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سواك فأراد أن يعطيه بعض من حضر، فقال جبريل: " كبِّر كبِّر "، فأعطاه الاكبر، وقد يكون الكبير في العلم أو الدين، فيقدم على من هو أسن منه) (¬1) اهـ. وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شبَبَة متقاربون -أي شباب متقاربون في السن-، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا؟ فأخبرناه، فقال: " ارجعوا إِلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم، فإِذا حضرت الصلاة؛ فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم " (¬2). وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، فإِن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإِن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنًا ... " (¬3) الحديث. ¬

_ (¬1) " فيض القدير " (3/ 220). (¬2) أخرجه البخاري (1/ 155)، ومسلم (1/ 465، 466)، واللفظ له. تنبيه: يقدم الأكبر سنًّا في الإمامة على من ليس بأقرأ ولا أفقه، ولا أقدم هجرة، ولا أقدم إسلامًا على الترتيب، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإِن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإِن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سِلْمًا- وفي رواية: سِنًّا ... " الحديث. وإنما جعل - صلى الله عليه وسلم - الإمامة -في حديث مالك بن الحويرث- للأكبر سنًّا، لأنه رضي الله عنه وأصحابه كانوا متساوين في الهجرة، والإقامة، وغرضهم بها، ومع ما في الشباب غالبًا من الفهم، وهذا دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين، وانظر: " فتح الباري " (2/ 170). (¬3) رواه مسلم (1/ 465).

قال ابن علان رحمه الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليؤمهم أكبرهم سنًّا ": " لأنه أقرب إلى التوجه إلى المولى، وأكثر عروضًا عن الدنيا، وتوجهًا إلى الدار الآخرة " اهـ (¬1). وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: " استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ") (¬2). وقد ترجم الإمام النووي رحمه الله لهذا الحديث وغيره: (باب توقير العلماء (¬3) والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم (¬4)، ورفع مجالسهم (¬5)، وإظهار مرتبتهم) (¬6) أي أداءً لحق ذي الحق، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - ": " ... فأعط كل ذي حق حقه " (¬7). وقال ابن علان رحمه الله: " وفيه -كما قال المصنف- تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام، لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون ¬

_ (¬1) " دليل الفالحين " (2/ 208). (¬2) رواه مسلم رقم (432)، والنسائي (2/ 90)، وأبو داود رقم (674). (¬3) التوقير: التبجيل، أي تعظيم العلماء، أي: بالعلوم الشرعية وآلاتها المطلوبة، وإن لم يكونوا من ذوي السن، لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، والمراد: علماء السنة والجماعة، لما ورد من الوعيد في تعظيم ذي البدعة. (¬4) قال ابن علان: " وظاهر تعبيره أنهم عند اجتماعهم يرتبون بترتيبهم في الذكر، فيقدم ذو العلم على ذي السن، وهو على من بعده " اهـ. من " الدليل " (2/ 205). (¬5) قال ابن علان رحمه الله: (وإن كانوا هم ينبغي لهم أن لا يطلبوا رفعها تواضعًا، واتباعًا لحديث " كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس حيث ينتهي به المجلس ") اهـ. من " دليل الفالحين " (2/ 205). (¬6) " رياض الصالحين " مع " دليل الفالحين " (2/ 205). (¬7) تقدم ص 286.

هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو ما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة، ويحفظوها، ويتعلموها، ويعلموها الناس، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنة تقديم أهل الفضل في كل مجمع إلى إمام، وكبير المجلس، كمجالس العلم والقضاء والذكر والتدريس والإفتاء واستماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاية في ذلك الباب، والأحاديث متعاضدة على هذا " (¬1) اهـ. عن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه، فقال: " اتقوا الله، وسوِّدوا أكبركم، فإن القوم إذا سوَّدوا أكبرهم خَلَفوا أباهم (¬2)، وإذا سودوا أصغرهم أزرى بهم (¬3) ذلك في أكفائهم " (¬4). قال أبو الحسن المدايني: (خطب زيادٌ ذات يوم على منبر الكوفة، فقال: " أيها الناس إني بتُّ ليلتي هذه مُهْتمًا بخلالٍ ثلاث، رأيت أن أتقدم إليكم فيهن بالنصيحة: رأيتُ إعظام ذوي الشرف، وإجلال ذوي العلم، وتوقير ذوي الأسنان، والله لا أوتى برجلٍ رَدَّ على ذي علمٍ ليضع بذلك منه إلا عاقبته، ولا أوتى برجل رد على ذي شرف ليضع بذلك من شرفه إلا عاقبته، ولا أوتى برجل ردَّ على ذي شيبة ليضعه بذلك إلا عاقبته، إنما الناس بأعلامهم، وعلمائهم، وذوي أسنانهم ") (¬5) اهـ. ¬

_ (¬1) " دليل الفالحين " (2/ 209). (¬2) أي: قاموا مقامه في حسن الفعال. (¬3) أي: عيب، واحتقر. (¬4) " صحيح الأدب المفرد " ص (145). (¬5) " جامع بيان العلم " (1/ 234).

إن الأمور إذا الأحداث دبَّرها ... دون الشيوخ ترى في سيرها الخللا وقال القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي: متى يصل العِطاش إلى ارتواءٍ ... إذا استقت البحارُ من الركايا ومن يَثني الأصاغر عن مرادٍ ... وقد جلس الأكابر في الزوايا وإنّ تَرَفُّعَ الوضعاء يومًا ... على الرفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا (¬1) عن سهل بن أبي حَثْمة الأنصاري رضي الله عنه قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومُحَيِّصَةُ بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صُلْحٌ، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحَّطُ في دمه قتيلاً، فدفنه، ثم قَدِم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحُوَيِّصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " كَبِّرْ، كَبِّر "، وهو أحدث القوم، فسكت فتكلَّما ... ) (¬2) الحديث، وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن: " كبِّر الكُبْرَ "، والكُبْر: جمع أكبر، أي قدِّم للكلام من هو أكبر سنًّا منك، وفي رواية " الكُبْرَ الكُبْرَ " بالنصب على الإغراء. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أخبروني بشجرة مَثلها مَثَلُ المسلم، تؤتي أكلَها كلَّ حين بإِذن ربها، لا تَحُتُّ ورقها "، فوقع في نفسي النخلة، فكرهت أن أتكلم، وثَمَّ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما لم يتكلما، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هي النخلة "، فلما خرجتُ مع أبي قلت: " يا أبت! ¬

_ (¬1) " وفيات الأعيان " (3/ 221). (¬2) متفق عليه.

وقع في نفسي النخلة "، قال:، ما منعك أن تقولها؟ لو كنت قلتها كان أحبَّ إلي من كذا وكذا "، قال: " ما منعني إلا لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما، فكرهتُ " (¬1). وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: " لقد كنت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامًا، فكنتُ أحفظ عنه، فما يمنعني من القول؛ إلا أن ههنا رجالاً هم أسنُّ مني " (¬2). وسئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة، فقال: " إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا " (¬3). وقال يحيى بن معين: " إذا حَدَّثْتُ في بلدة فيها مثلُ أبي مُسْهِر؛ فيجب لحيتي أن تُحلَق " (¬4). وعن الحسن بن علي الخلال: " كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: حدِّثْنا، فقال: إنا لا نتكلم عند كبرائنا " (¬5). وعن عاصم قال: " كان أبو وائل عثمانيًّا، وكان زِرُّ بن حُبيش علويًّا، وما رأيتُ واحدًا منهما قط تكلم في صاحبه حتى ماتا، وكان زِرٌّ أكبرَ من أبي وائل، فكانا إذا جلسا جميعًا، لم يُحدث أبو وائل مع زِرٍ -يعني يتأدب معه لسنِّه " (¬6). ¬

_ (¬1) متفق عليهما. (¬2) متفق عليهما. (¬3) " سير أعلام النبلاء " (8/ 420). (¬4) " السابق " (10/ 231). (¬5) " الجامع " (1/ 321). (¬6) " سير أعلام النبلاء " (168/ 4).

قال أبو عبد الله المُعَيطي: رأيتُ أبا بكر بن عياش بمكة، جاءه سفيان بن عيينة، فبرك بين يديه، فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال: " لا تسألني عن حديثٍ ما دام هذا الشيخ قاعدًا "، فجعل أبو بكر يقول: " يا سفيان، كيف أنت؟ وكيف عائلة أبيك؟ " (¬1). وقال سفيان الثوري: " إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ، وإن كان قد بلغ من العلم مبلغًا، فآيس من خيره، فإنه قليل الحياء " (¬2). وعن عقبة بن علقمة قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: " كنا إذا رأينا الحدث يتكلم مع الكبار أيسنا من خلافه، ومن كل خير عنده " (¬3). وذكر يحيى أن الإمام مالكًا كان إذا رأى ازدحامهم في مجلسه؛ قال: " توقروا، فإنه عون لكم، وليعرف صغيركم حقَّ كبيركم " (¬4). وعن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: (كنا نجلس إلى ربيعة وغيره، فإذا أتى ذو السن والفضل قالوا له: " ها هنا "، حتى يجلس قريبًا منهم، قال: وكان رييعة ربما أتاه الرجل ليس له ذلك السن، فيقول له: " ها هنا "، فلا يرضى ربيعة حتى يجلسه إلى جانبه، كأنه يفعل ذلك لفضله عنده) (¬5). قال عبد الله: (رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم، فيكونوا هم يتقدمونه، ثم ¬

_ (¬1) " السابق " (8/ 499)، وكان أبو بكر يكبر سفيان بعشر سنين. (¬2) " المدخل للبيهقي " ص (388). (¬3) " حلية الأولياء " (8/ 29). (¬4) " ترتيب المدارك " (1/ 154). (¬5) " الجامع " (1/ 345).

يخرج من بعدهم. وقال المروذي: " رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى إليه مخدة وأكرمه، وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه، يأخذ المخدة من تحته، فيلقيها له ". وقال المروذي: " كان أبو عبد الله من أشد الناس إعظامًا لإخوانه ومن هم أسن منه، لقد جاءه أبو همام راكبًا على حمار، فأخذ له أبو عبد الله بالركاب، ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ (¬1) "). وعن سلمة بن كهيل قال: " كان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء لسِنِّه " (¬2). وانتهى أبو منصور وإبراهيم إلى زقاق، فقال له إبراهيم: " تقدم "، فأبى أن يتقدم، فتقدم إبراهيم، ثم قال: " لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم؛ ما تقدمتك ". وعن مالك بن مِغْوَل قال: (كنت أمشي مع طلحة بن مُصَرِّفٍ، فصرنا إلى مضيق، فتقدمني، ثم قال لي: " لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم؛ ما تقدَّمتك " (¬3). وعن الفضل بن موسى قال: (انتهيت أنا وعبد الله بن المبارك إلى قنطرة، فقلت له: " تقدَّمْ "، وقال لي: " تقدم "، فحاسبته، فإذا أنا أكبر منه بسنتين) (¬4). وعن حماد بن أبي حنيفة قال: (رأيت الحسن بن عمارة وأبي انتهيا إلى قنطرة، فقال له أبي: " تقدم "، فقال: " أتقدم؟! تقدمْ أنت، فإنك أفقهنا، وأعلمنا، وأفضلنا " (¬5). ¬

_ (¬1) " الآداب الشرعية، والمنح المرعية " (1/ 416). (¬2) " الجامع " (1/ 320). (¬3) " الجامع " (1/ 170 - 171). (¬4) " السابق " (1/ 171). (¬5) " السابق " (1/ 171).

وعن يعقوب بن سفيان قال: (بلغني أن الحسن، وعليًّا، ابنيْ صالحٍ كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي فلم يُرَ قَطُّ الحسنُ مع علي في مجلس إلا جلس عليٌّ دُونَه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس) (¬1). قال الخطيب البغدادي رحمه الله: " وإن قدم الأكبر على نفسه من كان أعلمَ منه جاز ذلك، وكان حَسَنًا " ثم روى بإسناده إلى الحسين بن منصور قال: (كنت مع يحيى بن يحيى وإسحق -يعني ابن راهُوَيهْ- يومًا نعود مريضًا، فلما حاذينا الباب، تأخَّر إسحاق، وقال ليحيى: " تقدم "، فقال يحيى لإسحق: " تقدم أنت "، قال: " يا أبا زكريا أنت أكبر مني "، قال: " نعم، أنا أكبر منك، وأنت أعلم مني "، فتقدم إسحاق) (¬2). وعن جرير رضي الله عنه قال: (لما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أتيته، فقال: " يا جرير لأي شيء جئت "؟ قال: " جئت لأسلِمَ على يديك يا رسول الله " قال: فألقى إليَّ كساءه، ثم أقبل على أصحابه، وقال: " إِذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه ") (¬3). ويُروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُنْزِل الناسَ منازَلهم " (¬4). ورُوي عن أبي عمران الجَوْني قال: " كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ¬

_ (¬1) " السابق " (1/ 171). (¬2) " السابق " (1/ 171). (¬3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (2/ 304)، والخطيب في " تاريخ بغداد " (1/ 188)، وغيرهم , وقواه السخاوي في " المقاصد " بطرقه، وإن كانت مفرداتها ضعيفة، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (1205). (¬4) أخرجه مسلم في مقدمة " صحيحه " تعليقًا بصيغة التمريض، فقال: " ويُذكر عن عائشة .. "، وأبو داود رقم (4842) بنحوه، وحسنَّه السخاوي في " المقاصد الحسنة "، وانظر: " السلسلة الضعيفة " رقم (1894)، و " ضعيف أبي داود " رقم (1032)، و " دليل الفالحين " (2/ 218).

إلى أبي موسى الأشعري: أنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرِم وجوه الناس " (¬1). واستأذن رجلان على معاوية رضي الله عنه، فأذِن لأحدهما، وكان أشرف منزلة من الآخر، ثم أذن للآخر، فدخل عليه فجلس فوق صاحبه، فقال معاوية رضي الله عنه: " إن الله قد ألزمنا تأديبكم كما ألزمنا رعايتكم، وإنا لم نأذن له قبلك إلا ونحن نريد أن يكون مجلسُه دوَنك (¬2)، فقم لا أقام الله لك وزنًا " (¬3). وقيل: كان زياد معظمًا للأحنف، فلما وُلِّي بعده ابنهُ عبيد الله تغيَّر أمر الأحنف، وَقَّدم عليه من هو دونه، ثم وفَد على معاوية في الأشراف، فقال لعبيد الله: " أدخِلهم عَلَيَّ على قدر مراتبهم "، فأخَّر الأحنف، فلما رآه معاوية أكرمه لمكان سيادته، وقال: " إليَّ يا أبا بحر "، وأجلسه معه، وأعرض عنهم، فأخذوا في شكر عبيد الله بن زياد، وسكت الأحنف، فقال له: " لم لا تتكلم؟ "، قال: " إن تكلمتُ خالفتُهم "، قال: " اشهدوا أني قد عزلت عبيد الله "، فلما خرجوا كان فيهم من يرومُ الإمارة، ثم أتوا معاوية بعد ثلاث، وذكر كل واحدٍ شخصًا، وتنازعوا، فقال معاوية. " ما تقول يا أبا بحر؟ "، قال: " إن ولَّيتَ أحدًا من أهل بيتك لم تجد مِثْلَ عُبيد الله "، فقال: " قد أعدتُه "، قال: فخلا معاوية بعبيد الله، وقال: " كيف ضيَّعتَ مثل هذا الرجل الذي عزلك، وأعادك، وهو ساكت!؟ "، فلما رجع عبيد الله جعل الأحنف صاحب سره (¬4). وقال ابن شهاب: (خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ومعنا ¬

_ (¬1) " الجامع " للخطيب (1/ 348). (¬2) كذا بالأصل! ولعله: " أن يكون مجلسُك دونَه ". (¬3) " صفوة الأخبار " ص (264). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (4/ 95).

أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فأتوا على مخاضةٍ وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها الخاضة، فقال أبو عبيدة: " يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفيك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها الخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك "، فقال عمر: " أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتُه نكالاً لأمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -! " (¬1). إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما تطلب العز بغير ما أعزنا الله به؟ أذلنا الله) (¬2). وعن أبي وائل: أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً قد أسبل، فقال: " ارفع إزارك "، فقال: " وأنت يا ابن مسعود ارفع إزارك "، فقال له عبد الله: " إني لست مثلك إن بساقي حموشة -دقة- وأنا أؤم الناس "، فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل، ويقول: " أترد على ابن مسعود؟! " (¬3). وعن يحيى بن معين قال: سمعت قبيصة بن عقبة يقول: " شهدتُ عند شريك، فامتحنني في شهادتي، فذكرتُ ذلك لسفيان، فأنكر على شريك، وقال: " لم يكن له أن يمتحنه " (¬4). ¬

_ (¬1) وهذا هو الشاهد على مراعاة عمر رضي الله عنه أقدار الرجال، وإنزالهم منازلهم. (¬2) رواه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ثم الألباني، وفي رواية: " يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ " فقال عمر: " إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العز بغيره ". (¬3) رواه ابن عساكر كما في " الكنز " (7/ 55). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (10/ 132)، وإنما أنكر سفيان ذلك، لأن قبيصة كان كما قال الذهبي " قد قفز القنطرة ".

وقال السمعاني: (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله: قلت لأبي: " ما لك لم تسمع من إبراهيم بن سعد، وقد نزل بغداد في جوارك؟ " فقال: اعلم يا بني أنه جلس مجلسًا واحدًا، وأملى علينا، فلما كان بعد ذلك خرج، وقد اجتمع الناس، فرأى الشباب تقدموا بين يدي المشائخ، فقال: " ما أسوأ أدبكم! تتقدمون بين يدي المشائخ؟! لا أحدثكم سنة "، فمات، ولم يحدث) (¬1). وحضر سفيان الثوري مجلس شاب من أهل العلم، وهو يترأس ويتكبَّر بالعلم على من هو أكبر منه، فغضب سفيان، وقال: " لم يكن السلف هكذا، كان أحدهم لا يدَّعي الإمامة، ولا يجلس في الصدر حتى يطلب هذا العلم ثلاثين سنة، وأنت تتكبر على مَن هو أسنُّ منك؟! قم عني، ولا أراك تدنو من مجلسي " (¬2). يا عائبًا للشيوخ مِن أشَرٍ ... داخَلَه في الصِّبا ومِن بَذَخ اذكر إذا شئتَ أن تُعَيّرَهم ... جَدَّكَ واذكر أباك يا ابنَ أخِ واعلم بأن الشبابَ منسلخٌ ... عنك وما وزره بمنسلخِ من لا يعز الشيوخ لا بَلَغتْ ... يومًا به سِنُّه إلى الشَّيخِ * * * ¬

_ (¬1) " أدب الإملاء والاستملاء " للسمعاني ص (120). (¬2) " المدخل " للبيهقي ص (388).

الباب الثالث

الباب الثالث

الفصل الأول حرمة العلماء بين أخلاق السلف, وواقع الخلف

الفصل الأول حرمة العلماء بين أخلاق السلف, وواقع الخلف العلم أثمن دُرَّة في تاج الشرع المطهر، ولا يصل إليه إلا المتحلِّي بآدابه، المتخلي عن آفاته، وقد طالعنا فيما سلف أحوال السلف الصالح الذين تأدبوا بآداب الشرع الشريف، فإذا أطللنا إطلالة على واقع بعض طلبة العلم في زماننا، تمثلنا قول الإمام ابن المبارك رحمه الله: لا تعرِضَنَّ بذكرهم مع ذكرنا ... ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقْعَدِ إذ نرى أناسًا انسلخوا من أخلاق السلف كما تنسلخ الحية من جحرها، لا يُراعون لشيخٍ حرمة، ولا يوجبون لطالبٍ ذمة، يتوجع أحد الدعاة من أمثال هؤلاء فيصفهم بأنهم: (أناس فضوليون؛ يكثر لغطهم، ويقل عملهم، وتنصبغ مجالسهم بصبغة الغيبة وخشونة الألفاظ، حتى تكون تهورات اللسان أمرًا مستساغًا، وتُغتال فضائل المجالس الإيمانية اغتيالاً، ويصبح الداعية المشارك فيها قليل الاحترام لعناصر الرعيل الأول، كثير الجرأة عليها ..... وليس ذلك عرف المؤمنين أبدًا، ولا سَمتهم الذي ورثناه، إنما ورثنا الحياء، وعفاف اللسان، واحترام الكبير، وتبجيل السابق، والتأول الحسن، وترجيح العذر، وجمال اللفظ، والاستغفار للذين سبقونا بالإيمان، وتكرار الدعاء

وهاك صورا من عدوانهم وتطاولهم

للمربي والحادي) (¬1) اهـ. ويتضجر آخر من مسلكهم قائلاً: ( .. حتى إن المتحدث منا في أي مسألة من مسائل العلم لا يَعْدَم مخالفًا له، أو ناقدًا، أو ناقمًا، أو واضعًا اسم المتحدث في " ملفٍ " صنَّف فيه الناس أصنافًا، ووصم كل واحد منهم بوصمةِ تجريحٍ وتشريح) (¬2) اهـ. وهاك صورًا من عدوانهم وتطاولهم: - فهذا أحدهم يُعَبِّر العلماء بأنهم " فقهاء الحيض والنفاس ". - وآخر يخاطبهم قائلاً: " متى تخرجون من فقه المراحيض ودورات المياه؟ ". - وثالث يصف لجنة الفتوى في السعودية بأنها " فاتيكان المسلمين "، ويتكلم على أساس أن " تكفير " العلامة ابن باز من البديهيات التي لا تحتاج إلى نقاش (¬3). - ورابع ينكر في أحد المؤتمرات على من يصفهم بأنهم: " العلماء من عينة المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع ". - وخامس يضع نفسه في صف الحافظ ابن حجر العسقلاني ويقول متهكمًا: " هو ابن حجر، وأنا ابن زلط ". - وسادس يمارس التكفير المُقَنَّع؛ باتهام هذا العالم بأنه " ماسوني "، وذاك الداعية بأنه " عميل " لكذا، أو جاسوس لكذا مما يرجفون. أجل إنهم يصنعون بفتنتهم " توابيت " تُقبر فيها أنفاس الدعاة، وتوأد نفائس ¬

_ (¬1) " فضائح الفتن " بتصرف ص (17). (¬2) " صفحات في أدب الرأي " ص (5). (¬3) انظر: " الرد الوافر " للحافظ ناصر الدين الدمشقي ص (11 - 13).

دعوتهم، ويرجف المرجفون بالشائعات المغرضة، وهم يعلمون أن أئمة الهدى منها برآء، والمرجفون في قرارة أنفسهم على أنفسهم شهداء {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]، وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وقال سبحانه: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين4: 6]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]. وما بالقوم غيرة على الحق، وإنما هو الجهل العريض الذي يبدو لهم علمًا واسعًا، وإنما هو الكبر، والتيه، وبطر الحق، وغمط الناس منازلهم: أضاع الفريضة والسُّنَّهْ ... فتاه على الإنس والجِنَّهْ كأن النارَ من دونه ... وأفرده الله بالجَنَّه إن منهج " هلك الناس " (¬1) الذي ينتهجه بعض الطَّغام ما هو إلا نَفَسٌ خارجي حروري وعيدي، وإن تدثر بدثار المغيرة على الحق والانتصار له. عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس المؤمن بطعَّان، ولا لعَّان، ولا فاحش، ولا بذيء " (¬2). وعن رجاء بن حيوة رحمه الله تعالى: أنه قال لرجل: " حَدِّثنا، ولا تحدثنا ¬

_ (¬1) الإشارة إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: " إِذا قال الرجل: هلك الناس؛ فهو أهلكهم " بضم الكاف وبفتحها، رواه مسلم -واللفظ له- والإمام أحمد، والبخاري في " الأدب المفرد "، وأبو داود، وانظر شرحه في " فيض القدير " (1/ 378). (¬2) رواه الترمذي رقم (1978)، والإمام أحمد في " المسند " (3839)، وابن حبان رقم (48 - موارد)، والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (312)، والحاكم في " المستدرك " (1/ 12 - 13)، وصححه، ووافقه الذهبي.

عن متماوت ولا طعَّان ". * وهذا أحدهم قد طوَّعت له نفسه أن يُطلق لسانه بشتم بعض العلماء، والإزراء بهم، فلا يراهم إلا من خلال منظار أسود قاتم لا يرى حسنة إلا وقد اصطبغت بالسواد، وكأنه لم يبق عالم يملأ عينيه، أو يحترمه، مع أنه يتعسف ويتهور في إطلاق التهم، ويجازف في توزيع الأحكام بالبدعة والضلال، ويندفع في تعميم أحكامه بصورة لا تشم رائحة الانضباط العلمي الدقيق، وهو يحسب أن انتصاره للحق ودفاعه عن عقيدة السلف يسوغان له الجفاء والتهور، وهاك بعضَ مقولاته: * فمن ذلك: لَمْزُه الإمامَ الأعظم أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، فقد نقل في أحد كتبه تحت عنوان: " الكلام في أهل الرأي " عن البرذعي قوله: (سمعت أبا زرعة يقول: " كان أبو حنيفة جهميًّا، وكان محمد بن الحسن جهميًّا ") ثم نقل بعد كلامٍ قول الإمام أبي زرعة رحمه الله: (من يقول: " القرآن مخلوق " فهو كافر، يُعْنَى بما أسند الكفار؟! أي قوم هؤلاء؟!) (¬1). فتراه حكى القول بتكفير أبي حنيفة، ولم ينكره، وكان عليه أن يحقق المسألة قبل المجازفة. فعن محمد بن سابق قال: (سألت أبا يوسف، فقلت: أكان أبو حنيفة يقول: " القرآن مخلوق "؟ قال: " معاذ الله، ولا أنا أقوله "، فقلت: " أكان يرى رأي جهم؟ "، فقال: " معاذ الله، ولا أنا أقوله ") (¬2). وعن أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي قال: (سمعت أبا يوسف ¬

_ (¬1) " عقيدة الإمامين أبي حاتم وأبي زرعة " ص (118). (¬2) رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " رقم (550)، وقال: " رواته ثقات " (1/ 611).

القاضي يقول: كلَّمت أبا حنيفة رحمه الله تعالى سنة جرداء في أن القرآن مخلوق أم لا؟ فاتفق رأيه ورأيي على أن من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر) (¬1) قال البيهقي: قال أبو عبد الله -يعني الحاكم-: " رواة هذا كلهم ثقات ". وقال علي بن الحسن الكراعي: قال أبو يوسف: (ناظرت أبا حنيفة ستة أشهر، فاتفق رأينا على أن من قال: " القرآن مخلوق "، فهو كافر) (¬2). وروى الخطيب عن الإمام أحمد أنه قال: " لم يصح عندنا أن أبا حنيفة كان يقول: القرآن مخلوق) (¬3). وعن سعيد بن منصور قال: (سمعت ابن المبارك يقول: (والله ما مات أبو حنيفة وهو يقول بخلق القرآن، ولا يدين الله به) (¬4). وعن محمد بن مقاتل قال: (سمعت ابن المبارك يقول: ذكر جهم في مجلس أبي حنيفة، فقال: ما يقول؟ قالوا: يقول: " القرآن مخلوق "، فقال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] (¬5). ¬

_ (¬1) " السابق " رقم (551)، وقال محققه: " إسناده ضعيف " (1/ 611). (¬2) " مختصر العلو للذهبي " رقم (159) ص (155)، وقال الألباني: " وهذا سند جيد ". (¬3) " تحقيق مختصر العلو " ص (156)، وعلق الألباني على هذا النص عن الإمام أحمد رحمه الله فقال: (وهذا هو الظن بالإمام أبي حنيفة رحمه الله وعلمه، فإن صح عنه خلافه، فلعل ذلك كان قبل أن يناظره أبو يوسف .. وهذا في الواقع من الأدلة الكثيرة على فضل أبي حنيفة؛ فإنه لم تأخذه العزة، ولم يستكبر عن متابعة تلميذه أبي يوسف حين تبين له أن الحق معه، فرحمه الله تعالى ورضي عنه) اهـ. (¬4) " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " (2/ 269) رقم (471). (¬5) " السابق " (2/ 270) رقم (472).

* ومن ذلك: أنه نقل عن السلف تكفير الجهمية (¬1)، ثم عقَّب ذلك بالتنبيه على أن الأشاعرة من الجهمية، فينتج أن الأشاعرة كفار. * وما أدق ما عبر به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين قال في سياق كلامه عن الأشعرية: (وأما في الصفات: فليسوا جهمية محضة، بل فيهم نوع من التجهم .. ) (¬2) اهـ. وقال رحمه الله أيضاً: (وأما الأشعرية فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث، وهم بالجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث .. ) (¬3) اهـ. وقال شيخ الإسلام أيضًا في معرض ذكره لذم السلفِ أهلَ الكلام من الأشاعرة وغيرهم: (وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة ¬

_ (¬1) ومقصود السلف: تكفير الجهمية المحضة (النفاة)، الذين ينفون الأسماء والصفات؛ لأنه يلزم من قولهم العدم، وهؤلاء هم الذين قال فيهم ابن القيم رحمه الله: " مشركو العرب خير من الجهمية ". وفيهم قيل: ألا إن جهمًا كافر بان كفره ... ومن قال يومًا قول جهم فقد كفر لقد ضل جهم حين سمَّى إلهه ... سميعًا بلا سمع بصيرًا بلا بصر والمعتزلة ليسوا جهمية محضة؛ لأنهم أثبتوا الأسماء، ونفوا الصفات، فهم في نفي الصفات فرع عن الجهمية، ويخالفونهم في إثبات الأسماء، وإذا سمَّي الأشاعرة والماتريدية جهمية فهذا الوصف نسبي بالنسبة إلى التحريف والتأويل. (¬2) " مجموع الفتاوى " (6/ 55). (¬3) " مجموع الفتاوى " (6/ 55).

والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة (¬1) في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة (¬2) ونحوهم) (¬3) اهـ. ودافع عنهم شيخ الإسلام، وقال في حق أبي إسماعيل الأنصاري صاحب " ذم الكلام ": (ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة) (¬4) اهـ. وقال أيضًا في شأنهم: إنهم (ليسوا كفارا باتفاق المسلمين) (¬5). وقال في معرض رده على أبي الحسين البصري المعتزلي: (وأيضًا فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل ما لا يخفى على منصف) (¬6). وقال شيخ الإسلام في معرض الكلام عن الأشاعرة وتحذير العلماء منهم: (ثم إنه ما من هؤلاء إلا مَن له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدف وعدل ¬

_ (¬1) يعني نسبيًا، كما هو واضح من سياق كلام شيخ الإسلام، وإلا فهم فرقة منحرفة عن منهج السلف أهلِ السنة والجماعة، وانظر رسالة د. سفر الحوالي " منهج الأشاعرة في العقيدة ". (¬2) ولذلك مدح شيخُ الإسلام صلاحَ الدين الأيويي رحمه الله مع أنه كان يتبنى عقيدة الأشاعرة، فقال عن مصر: (ثم فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة) اهـ. " مجموع الفتاوى " (3/ 281). (¬3) " نقض التأسيس " (2/ 87). (¬4) " مجموع الفتاوى " (8/ 230). (¬5) " السابق " (35/ 101). (¬6) " درء التعارض " (5/ 42)

وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً من المعتزلة -وهم فضلاء عقلاء- احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخير الأمور أوساطها. وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] (¬1) اهـ. وقال أيضًا في حقهم: (ولهم حسنات وفضائل وسعي مشكور، وخطؤهم بعد الاجتهاد مغفور) اهـ (¬2). وإذا راجعنا المواقف العملية لشيخ الإسلام ابن تيمية مع مخالفيه من أهل القبلة ندرك كيف جمع رحمه الله بين تعظيم الحق، ورحمة الخلق: فقد كان شيخ الإسلام رحمه الله كثيرًا ما يثني على الإمام تقي الدين السبكي، قال ابنه رحمهما الله: (وكان -أي ابن تيمية- لا يعظم أحدًا من أهل العصر كتعظيمه له) (¬3)، وذكر في ترجمة علاء الدين الباجي علي بن محمد بن عبد الرحمن -وكان أشعريًّا - أنه: (لما رآه ابن تيمية عظمه، ولم يجر بين يديه ¬

_ (¬1) " درء التعارض " (2/ 102 - 103)، وانظره أيضًا (8/ 275)، و " مجموع الفتاوى " (4/ 12 - 13)، (557/ 5 - 558)، (99/ 13). (¬2) انظر: " النبوات " ص (220). (¬3) " طبقات الشافعية " (10/ 194).

بلفظة، فأخذ الشيخ علاء الدين يقول: " تكلم نبحث معك "، وابن تيمية يقول: " مثلي لا يتكلم بين يديك، أنا وظيفتي الاستفادة منك ") (¬1). * ومن ذلك إنكاره على من يزعم أنه سني ثم يترحم على بعض المبتدعة، مع أن الترحم على المسلم جائز في الأصل ولو كان مبتدعًا (¬2) أو فاسقًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل مسلم لم يُعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه، وإن كان فيه بدعة أو فسوق) (¬3). وقال رحمه الله: (المسلمون المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن، وإما منافق، فمن عُلم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يُعلم ذلك منه صُلِّي عليه، وإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل عليه، وصلى عليه من لا يعلم نفاقه ... ) (¬4). وقال رحمه الله في المبتدعة: (وإذا لم يكونوا كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم، ويُترحم عليهم، وإذا قال المؤمن: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبًا؛ فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم (¬5) , وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحق عصاة المؤمنين) (¬6) اهـ. ¬

_ (¬1) " السابق " (10/ 342). (¬2) وقد ترحم الإمام أحمد على ولاة الأمور الذين كانوا يقولون بقول الجهمية، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم تأولوا فأخطأوا، وقلَّدوا من قال لهم ذلك، أفاده شيخ الإسلام في " مجموع الفتاوى " (23/ 348 - 349)، وانظره: (12/ 488 - 501). (¬3) " منهاج السنة " (235/ 5 - 237). (¬4) " منهاج السنة " (235/ 5 - 237). (¬5) كما يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات، كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة " رواه الطبراني في " الكبير " عن عبادة رضي الله عنه، وحسنه الألباني. (¬6) " منهاج السنة " (5/ 240 - 241).

* ومن ذلك قوله: (قال ابن حجر دي شرح البخاري -يسر الله من أهل السنة من يشرحه-: قوله: " ينزل ربنا " أنكر ذلك الجمهور، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى عن ذلك!! وقال قوم بتأويلها، وبه أقول) (¬1) اهـ. وقد أوهم بذلك أن القائل: " وبه أقول " هو الحافظ ابن حجر، والذي في " الفتح ": أن الحافظ أورد قول السلف، ثم قول الخلف، ثم نقل عن القاضي ابن العربي رحمه الله تعالى قوله: (وقال قوم بتأويلها، وبه أقول) (¬2)، ومصدر هذا النقل هو كتابه " عارضة الأحوذي " (2/ 234) لكن عبارته: (ومنهم من تأوله وفسره، وبه أقول). ثم ما إخالك أخي القارئ إلا وقد زلزلتك وصدمتك تلك الاعتراضية الاستفزازية المثيرة للمشاعر، أعني قوله " يسَّر الله من أهل السنة من يشرحه " التي تنضح بالجحود والكفران والتنكر لجهد دؤوب امتد ثنتين وثلاثين سنة كان ثمرته " فتح الباري بشرح صحيح البخاري " الذي هو " قاموس السنة " بحق، والذي أدى به الحافظ دينًا كان في عنق الأمة، فإذا بهذا الإنسان يجحد هذا الجميل، ويتنكر لهذا المعروف، فيلغيه بجرة قلم، فأين هو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يشكر الناس، لم يشكر الله " (¬3)، وهل ثمَّ هجرة بعد " الفتح "؟! ¬

_ (¬1) " عقيدة أبي حاتم " ص (131). (¬2) فتأمل رحمك الله هذا التقصير، وقارنه بدقة فضيلة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان -أيده الله وزاده توفيقًا- في كتابه (الردود والتعقبات على ما وقع للإمام النووي في " شرح صحيح مسلم " من التأويل في الصفات وغيرها من المسائل المهمات) ص (105). (¬3) رواه الإمام أحمد (2/ 258)، (3/ 32)، والترمذي، رقم (1955)، وغيرهما عن أبي سعيد , وانظر: " الصحيحة " رقم (417).

* ومن ذلك: عموم قوله: ( .. ولا يجوز قراءة كتب أهل البدع والمعاصي ولا شراؤها ولا بيعها، وإن أحرقها أحد فهي هدر -كما جزم كثير من أهل العلم فيما ذكره ابن القيم وغيره في أحكام السياسة الشرعية) (¬1) اهـ. ففهم بعض من يلوذون بهذا المنهاج من عموم هذا الكلام ما دفعهم إلى إحراق " فتح الباري "؛ لأنه " هدر " بزعمهم لما فيه من تأويل ونحوه. وهذا الكلام إنما يصح في كتب الضلال كالسحر والكهانة والتنجيم، والعقائد الشركية الفاسدة، والأفكار الصوفية المنحرفة، أما الكتب النافعة التي غلب عليها الخير والفائدة بما فيها من العلم والتحقيق فلا حرج من الانتفاع بها، وإن تلبس مصنفوها ببعض المآخذ التي يمكن الاحتراز منها والتنبيه عليها، وبخاصة إذا كان قارئها طالب علم متمكنًا، عنده من الوعي والفهم ما يقيه هذه المآخذ. ومن أمثلة ذلك: " فتح الباري "، وسائر كتب الحافظ ابن حجر رحمه الله، وكذا مصنفات الإمام النووي رحمه الله " كالمجموع شرح المهذب "، و " شرح صحيح مسلم "، وغيرها من كتبه المباركة، وكذا " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي، وغيرها من دواوين العلوم الخادمة والمخدومة على حدٍ سواء، ولو عُمِّمَ أسلوبُ هذا الإنسان، وهُجِرَ العالِمُ ومصنفاتُه لمثل هذا لما كاد يبقى معنا أحد، ولصرنا كدودة القز تطوي على نفسها بنفسها حتى تموت. من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط؟! قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (من قواعد الشرع ¬

_ (¬1) " عقيدة أبي حاتم " ص (111).

والحكمة أيضًا: أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يُحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث) (¬1) اهـ. * ومن ذلك ما في كتبه من لمز العلماء، بل الدعاء على بعضهم، فلا يقتصر على أداء واجب بيان الحق وإبطال الباطل، بل يزيد على ذلك أن يسلقهم بألسنة حداد: فقد قال في حق الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله: (وفي عقيدته بلايا، الأصل والشرح كلاهما) (¬2)، ويتهكم من العلامة الألباني؛ لأنه خرج أحاديث " شرح الطحاوية " قائلاً: (وما أدري ما هذا! أفرغت عقائد أهل السنة حتى يكون هذا؟!). ولم يسلم من جرأته حتى شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد نقل عنه رحمه الله قوله: " إن الإرجاء بدعة لفظية "، ثم قال: " وهذا تهوين من شأنها، وليس بصواب، بل هي بدعة حقيقية لفظًا ومعنى ". والجواب عن ذلك: أن سياق كلام شيخ الإسلام يبين أنه رحمه الله لم يقصد بذلك كل المرجئة، وإنما فرقة واحدة منهم وهم " مرجئة الفقهاء "، فإن الخلاف معهم لفظي من حيث اتفاقُ الجميع على أن أهل الكبائر متوعدون بالنار (¬3)، أما الزعم بأن العمل ليس من الإيمان؛ فهو خطأ بين , بل بدعة (لا سيما وقد صار ¬

_ (¬1) " مفتاح دار السعادة " (1/ 176). (¬2) " من هي الطائفة المنصورة " مخطوط ص (4). (¬3) " الإيمان " بتحقيق الألباني ص (281 - 282).

ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطإٍ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء) (¬1) اهـ. ويعلق على قول الزركشي: (والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -يعني أنها واجبة- في العمر مرة ... ) إلخ قائلاً: (هذا من الجفاء، قبَّح الله من قال به .. ) (¬2). ويدعو عليه قائلاً: (لا جزاه الله خيرًا) (¬3)، ويقول في سياق الكلام على من ينكر صفة العلو: (ومن قال بخلاف ذلك فهو جهمي أضل من الحمار كائنًا من كان) (¬4)، فهل الحق محتاج إلى هذه الأساليب في نصرته؟! ومع الإقرار بوجود مؤاخذات على كتاب " جند الله ثقافة وأخلاقًا " بل على منهج مؤلفه -سامحه الله- بصفة عامة، إلا أنْ المُومَى إليه غلا حين انتقد عليه أنه نصح بقراءة " الإحياء "، و " ختصر فقهي على مذهب "، فعلق قائلاً: " ولا أكون قد غاليت إذا قلت: إن من تثقف بهذه الكتب كان من جند الشيطان " (¬5)، و " الإحياء " كتاب مشحون بالضلالات والبدع التي يجب التحذير منها، ولكن حنانيك! " ما هكذا تورَدُ يا سعدُ الإبل ". ويعلق على قول الذهبي في شأن ابن الجوزي: (إذا رضي الله عنه فلا اعتبار بهم) فيقول: (قلت: هذه مجازفة قبيحة من الذهبي) (¬6) اهـ. وعلق على قول العلامة الألباني حفظه الله: " شبابنا يبدعون العلماء " قائلاً: ¬

_ (¬1) " السابق " ص (377)، وانظر: " مجموع الفتاوى " (12/ 485)، (3/ 357). (¬2) حاشيته على " الأزهية فى أحكام الأدعية " ص (143)، (8)، (75)، (48) على التوالي. (¬3) حاشيته على " الأزهية فى أحكام الأدعية " ص (143)، (8)، (75)، (48) على التوالي. (¬4) حاشيته على " الأزهية فى أحكام الأدعية " ص (143)، (8)، (75)، (48) على التوالي. (¬5) حاشيته على " الأزهية فى أحكام الأدعية " ص (143)، (8)، (75)، (48) على التوالي. (¬6) مقدمة " المقتنى العاطر من صيد الخاطر " ص (هـ).

" وهذا كذب صريح " (¬1). وقال في سياق آخر: (وهذا الادعاء صرح به الألباني وغيره مرارًا، وفضحت أمره في " النصيحة " في أمر هجر المبتدعة ... ) (¬2) اهـ. فأين أنت يا أمير المؤمنين عمر (¬3)، ما أحوجنا إليك وإلى دِرتك! ¬

_ (¬1) " من هم المبتدعة؟ " ص (38). (¬2) " من هي الطائفة المنصورة؟ " ص (3). (¬3) راجع ص (291 - 292).

إنما نحترمك ما احترمت الأئمة

إِنما نحترمك ما احترمت الأئمة قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: (قال الحافظ ابن عساكر: كان العبدري أحفظ شيخ لقيته، وكان فقيهًا داوديًّا .. وسمعته وقد ذُكر مالكٌ فقال: " جِلف جاف؛ ضرب هشام ابن عمّار بالدرة "، وقرأت عليه " الأموال " لأبي عبيد فقال -وقد مر قول لأبي عبيد-: " ما كان إلا حمارًا مغفلاً لا يعرف الفقه "، وقيل لي عنه: إنه قال في إبراهيم النَّخَعَي: " أعورُ سوء "، فاجتمعنا يومًا عند ابن السمرقندي في قراءة كتاب " الكامل " فجاء فيه: " وقال السعدي كذا "، فقال: " يكذب ابن عَديّ، إنما ذا قولُ إبراهيم الجوزجاني "، فقلت له: " فهو السعديُ، فإلى كم نحتمل منك سوء الأدب؟ تقول في إبراهيم كذا وكذا، وتقول في مالك: جاف، وتقول في أبي عبيد؟! " فغضب، وأخذته الرعدة، وقال: " كان ابن الخاضبة والبَردانيّ وغيرهما يخافونني فآل الأمر إلى أن تقول فيَّ هذا؟! " فقال له ابن السمرقنديّ: " هذا بذاك "، فقلت: " إنّما نحترمك ما احترمت الأئمة .. " (¬1). * * * ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (19/ 581).

الفصل الثاني خطر الطعن علي العلماء وشؤم الحط من أقدارهم

الفصل الثاني خطر الطعن علي العلماء وشؤم الحط من أقدارهم * الجناية على العلماء خرق في الدين، فمن ثَمَّ قال الطحاوي في " عقيدته ": " وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين -أهلِ الخير والأثر، وأهلِ الفقه والنظر- لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء، فهو على غير السبيل " (¬1). قال ابن المبارك: " من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته " (¬2). وقال أبو سنان الأسدي: " إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس؛ متى يفلح؟! " (¬3). وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: " الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب " (¬4). وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: " كفى بالمرء شرًّا أن لا يكون صالحًا، وهو يقع في الصالحين " (¬5). ¬

_ (¬1) " شرح العقيدة الطحاوية " تحقيق الأرناؤوط (2/ 740). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (8/ 408). (¬3) " ترتيب المدارك " (2/ 14 - 15). (¬4) " الرد الوافر " ص (197). (¬5) " شعب الإيمان " للبيهقي (5/ 316).

* والطاعنون في العلماء لا يضرون إلا أنفسهم، وهم يستجلبون لها بفعلتهم الشنيعة أخبث الأوصاف {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وهم من شرار عباد الله؛ بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن عبد الرحمن بن غَنْم يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خيار عباد الله الذين إِذا رُؤوا ذُكر الله، وشرار عباد الله المشَّاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبَّة، الباغون للبرآء العنت " (¬1). - وهم مفسدون في الأرض، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]. - وهم عرضة لحرب الله تعالى، القائل في الحديث القدسي: " من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب " (¬2). - وهم متعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، فدعوة المظلوم -ولو كان فاسقًا- ليس بينها وبين الله حجاب، فكيف بدعوة ولي الله الذي قال فيه: " ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " (¬3)؟! قال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: " ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة " (¬4). ولما أنكر السلطان على الوزير نظام الملك صرف الأموال الكثيرة في جهة ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في " مسنده " (4/ 227)، وهو محتمل للتحسين، انظر: " غاية المرام " للألباني رقم (434)، و " الضعيفة " رقم (1861). (¬2) رواه البخاري في " صحيحه " (7/ 190) وابن ماجه رقم (3989). (¬3) رواه البخاري في " صحيحه " (7/ 190) وابن ماجه رقم (3989). (¬4) " سير أعلام النبلاء " (14/ 159).

طلبة العلم، أجابه: " أقمت لك بها جُندًا لا تُرَدُ سهامهم بالأسحار "، فاستصوب فعله، وساعده ليه (¬1). وقيل: إن أولاد يحيى -أي ابن خالد البرمكي- قالوا له وهم في القيود مسجونين: " يا أبة صرنا بعد العز إلى هذا؟! " قال: " يا بَنِيَّ دعوة مظلوم غَفلنا عنها، لم يغفُل الله عنها " (¬2). وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من ذنب أجدرَ أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يَدَّخِر له في الآخرة: مثلُ البغي، وقطيعة الرحم " (¬3). يا صاحب البغي إن البغي مَصْرَعَةٌ ... فاعدل فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يومًا على جبل ... لاندكَّ منه أعاليه وأسفله (¬4) * وبما أن الجزاء من جنس العمل؛ فليبشر الطاعن في العلماء المستهزئ بهم؛ بعاقبةٍ من جنس فعله: فعن إبراهيم رحمه الله قال: " إني أجد نفسي تُحدِّثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبْتَلَى به ". وقال عمرو بن شرحبيل: " لو رأيت رجلاً يرضع عنزًا فضحكت منه؛ ¬

_ (¬1) انظر: " تحفة الطالبين " ص (115 - 117)، و " المنهاج السوي " ص (74 - 76). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (9/ 90). (¬3) رواه أبو داود رقم (4902)، والترمذي رقم (2513)، وصححه. (¬4) " فيض القدير " (5/ 314).

لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع ". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " البلاء موكَّل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أُحَوَّل كلبًا ". وقد حكي أن رجلاً كان يجرئ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم، وذات يوم تكلم بكلام لم يرق أحد تلامذته، فقام إليه فصفعه على رؤوس الأشهاد {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51]، قال خالد بن زهير الهذلي: فلا تَجزعَنْ مِن سنة أنت سِرتَها ... فأولُ راضٍ سنةً مَن يَسيرُها * وَليُعْلَم أنه يُخشى على من تلذذ بغيبة العلماء والقدح فيهم أن يُبتلى بسوء الخاتمة عياذًا بالله منها، فهذا القاضي الفقيه الشافعي محمد بن عبد الله الزبيدي (ولد سنة عشر وسبعمائة) (شرح التنبيه في أريعة وعشرين مجلدًا، درَّس وأفتى، وكثرت طلابه ببلاد اليمن، واشتهر ذكره، وبعد صيته، قال الجمال المصري: " إنه شاهده عند وفاته وقد إندلع (¬1) لسانه واسودَّ، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الشيخ محيي الدين النووي رحمهم الله جميعًا " (¬2). إن السعيد لَمن له من غيره عظةٌ ... وفي التجارب تحكيمٌ ومُعتبَرُ ثم الخائض في أعراض العلماء ظلمًا وعَدْوًا إن حُمل عنه ذلك، واقتُدي به فيه، فقد شنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والدال ¬

_ (¬1) اندلع اللسان: خرج من الفم واسترخى، وسقط على العنفقة، وهي الشعيرات بين الشفة السفلى والذقن. (¬2) " الدرر الكامنة " (4/ 106).

على الشر كفاعله، والسعيد من إذا مات ماتت معه سيئاته، قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. وما من كاتب إلا سيلقى ... غداة الحشر ما كتبت يداهُ فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراهُ وروي عن الإمام أحمد أنه قال: " لحوم العلماء مسمومة، من شمَّها مرض، ومن أكلها مات " (¬1). وعن مخلد قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: ذكرت يوما عند الحسن بن ذكوان رجلاً بشيء، فقال: " مَهْ! إلا تذكر العلماء بشيء، فيميت الله قلبك ". لحوم أهل العلم مسمومة ... ومن يعاديهم سريع الهلاك فكن لأهل العلم عونًا، وإن ... عاديتهم يومًا فخذ ما أتاك قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: (واعلم يا أخي -وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- أن لحوم العلماء -رحمة الله عليهم- مسمومة، وعادة الله في هَتْك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمر عظيم، والتناولُ لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لِنَعش العلم خلق ذميم) (¬2). وقال أيضًا رحمه الله: ( .. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلْب؛ ابتلاه الله تعالى ¬

_ (¬1) " المعيد في أدب المفيد والمستفيد " ص (71). (¬2) " تبيين كذب المفتري " ص (28).

ومن مخاطر الطعن في العلماء

قبلِ موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63] (¬1). * ومن مخاطر الطعن في العلماء: التسببُ إلى تعطيل الانتفاع بعلمهم: وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ الدِّيك؛ لأنه يدعو إلى الصلاة (¬2) فكيف يستبيح قوم إطلاق ألسنتهم في ورثة الأنبياء الداعين إلى الله عز وجل؟! {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: " ما نحن لولا كلمات الفقهاء؟! ". وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: " الدنيا كلها ظلمة، إلا مجالسَ العلماء " (¬3). وقال الإمام السخاوي رحمه الله: " إنما الناس بشيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ فمع مَن العيش؟! " (¬4). * ومن شؤم الطعن في العلماء: أن القدح بالحامل يفضي إلى القدح بما يحمله من الشرع والدين، ولهذا ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنًا وظاهرًا {أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدنيا، بقتل أو حَدٍ أو حبسٍ، أو نحو ذلك). (¬2) رواه الإمام أحمد (5/ 193)، وأبو داود بلفظ: " لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة "، وهو في " صحيح أبي داود " برقم (4254). (¬3) " جامع بيان العلم " رقم (264) ص (236). (¬4) " فتح المغيث " (2/ 320).

أطبق العلماء على أن من أسباب الإلحاد: " القدحَ في العلماء ". لما استهزأ رجل من المنافقين بالصحابة رضي الله عنهم، قائلاً: " ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء " أنزل الله عز وجل: ({وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65: 66] (¬1). ويقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى: " بادرة ملعونة .. وهي تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني، أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جُرح شهود الشرع جُرح المشهودُ به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون " (¬2). * ومن شؤم تلويث الجو الدعوي بالطعن في العلماء، وتجريح الأخيار: التسبب في انزواء بعض هؤلاء الأخيار، وابتعادهم عن ساحة التربية والتعليم والدعوة، صيانة لأعراضهم، وحفظًا لحياة قلوبهم، لأن القلوب الحرة يؤذيها التعكير: (إن الحساسية تبلغ مداها لدى الداعية السوي، ونفسه تعاف كل جو خانق غير نقي، إن روحه لا تطيق الأجواء المغبرة وانعدام الأوكسجين، ومؤلمة هي ¬

_ (¬1) انظر " تفسير الطبري " (14/ 333 - 335). (¬2) " تصنيف الناس بين الظن واليقين " ص (94).

لفحات التراب ..... أسلوب في القتل هو الخنق، ونمط في الإرهاب الطائش هو العصف) (¬1). ( .. وإذا لم نتقيد بالضوابط في الممارسات الدعوية، فإن الأذواق ستفسد، ويكثر الصخب الذي يرهق الثقة المؤهل للتقدم، فينزوي حفاظًا على عِرضه وسمعته، ولئلا يقسو قلبه عبر قيل وقال) (¬2). فأقبح به من تعويق، وتثبيط، وتزهيد حذَّرنا منه العلامة الشيخ طاهر الجزائري (ت 1338 هـ) وهو على فراش الموت بكلماتٍ حقها أن تكتب بماء العيون لا بماء الذهب؛ إذ قال رحمه الله: (عُدُّوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زَلاَّتهم، وعَضُّوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تُنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم) (¬3). * فإذا خلت الساحة من أهل العلم والتقى، اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، يفتونهم بغير علم، وإذا أفتوهم بغير علم فلا تسأل عن الحرمات التي تستباح، والدم المعصوم الذي يهراق، والعرض الذي ينتهك، والمال الذي يُهدر، ونظرة واحدة الى الواقع الأليم في بعض بلاد المسلمين وما يقع فيها من مجازر ومذابح بأيدي الأدعياء الذين استبدوا برأيهم، وتأولوا باهوائهم، وركبوا رؤوسهم، ولم يصغوا إلى نصائح العلماء؛ تنبئك عن مخاطر تغييب العلماء، وقطع الصلة بينهم وبين الشباب. إن العلماء هم " عقول الأمة "، والأمة التي لا تحترم عقولها غير جديرة بالبقاء. * * * ¬

_ (¬1) " فضائح الفتن " ص (10). (¬2) " السابق " ص (18). (¬3) انظر: " التعالم " ص (91).

ومن الوقيعة ما قتل!

ومن الوقيعة ما قتل! لا ينحصر شؤم الوقيعة في العلماء في ولائم السوء التي تشيع فيها الغيبة والنميمة، لكنه يتعداها إلى آثار خطيرة في واقع الأمة، فالشر مبدؤه شرارة، " ومعظم النار من مستصغر الشرر ". - وكثير من الفتن تُبْذَر بذرتها في مجالس الغيبة والوقيعة، ولا يتوقع أصحابها أن تبلغ ما بلغت، ثم تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، وإذا بها تشتعل وتضطرم رويدًا رويدًا حتى يستعصي إطفاؤها حتى على الذين أوقدوا شرارتها، فهؤلاء الغيابون أكلة لحوم البشر هم من الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " إِن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر، وإِن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه " (¬1). - وهاك هذه الشواهدَ التاريخيةَ التي تدل على أنه " رُبَّ قولٍ يسيلُ منه دمٌ " (¬2). قال أبو معبد عبد الله بن عكيم الجهني -تابعي جليل- في خطبة له: " لا أُعين على دم خليفة أبدًا بعد عثمان "، فقال رجل متعجبًا: " يا أبا معبد ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه رقم (237)، وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (297)، وحسنه الألباني بطرقه في " الصحيحة " رقم (1332). (¬2) انظر: " المنهج المسلوك في سياسة الملوك " ص (447).

أو أعنتَ على دمه؟ "، فقال أبو معبد: " إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عونًا على دمه " (¬1) (¬2). ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن العبد ليتكلمُ بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم " (¬3). فهؤلاء الساعون بالوشاية والنميمة، أحْصَوْا اجتهادات أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وصوروها بحسب ما تتخيل عقولهم الضعيفة، وقلوبهم المريضة، فاتخذوا ذلك سُلَّمًا إلى الفتنة (¬4). حين علم حذيفة رضي الله عنه بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: " اللهم العن قَتَلَتَهُ وشُتَّامَه، اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، فاتخذوا ذلك سُلَّمًا إلى الفتنة، اللهم لا تُمِتْهم إلا بالسيوف " (¬5). قال عبد الواحد بن زيد للحسن البصري -وكلاهما من التابعين-: " يا أبا سعيد أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة (¬6) إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه "، فقال الحسن: " يا ابن أخي كم يد عقرت الناقة؟ "، قلت: " يد واحدة "، قال: " أليس قد هلك القوم جميعًا برضاهم وتماليهم؟ " (¬7). ¬

_ (¬1) أو عونًا على سجنه وتشريده، وشلله عن دعوته. (¬2) " الطبقات " لابن سعد (3/ 85). (¬3) رواه -من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- البخاري رقم (6478)، ومسلم رقم (2988). (¬4) وقد جمعها الإمام ابن العربي، وفنَّدها في كتابه المبارك " العواصم من القواصم " فانظره ص (76 - 150) ط، دار الكتب السلفية 1405 هـ. (¬5) " الكامل " لابن الأثير (3/ 51). (¬6) وكان قد انشق عن الدولة الإسلامية معتمدًا على وجاهة أبيه، وكان أبوه رحمه الله مبيدًا للخوارج. (¬7) " الزهد " للإمام أحمد ص (289).

ولعل النزعة الخارجية التي تطل برأسها من وقت إلى آخر لتبعث الحياة في فكر الخوارج الأولين وسلوكهم هي المسئولة عن كثير من التعديات على الحرمات، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في شأن الخوارج: " يقتلون أهل الإِسلام، ويَدَعون أهل الأوثان " (¬1) وهذه العلامة هي التي جعلت أحد العلماء، وقد وقع مرة في يد بعض الخوارج، فسألوه عن هويته، فقال: " مشرك مستجير، يريد أن يسمع كلام الله "، وهنا قالوا له: " حق علينا أن نجيرك، ونبلغك مأمنك "، وتلوا قول الله تعالىِ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، بهذه الكلمات نجا " مشرك مستجير "، ولو قال لهم: " مسلم " لقطعوا رأسه (¬2). وفي عصرٍ آخرَ اتّهِمَ القاضي عياضٌ بأنه " يهودي "؛ لأنه كان يلزم بيته للتأليف نهار السبت، وهذا الشيخ علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله -مع أنه كان شيخ زمانه- كان يمشي متأبطًا وثيقة من أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره مخافة أن يصادفه أفاك في مجلس. وفي القصة التالية معتبر ومزدجر وتذكرة بأن " من الغيبة ما قتل ": عن رشيد الخباز قال: (خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: " يا أبا عبد الله! قَدِم اليوم حسنٌ وعليٌ ابنا صالح "، قال: " وأين هما؟ "، قال: " في الطواف " قال: " إذا مَرَّا، فأرنيهما "، فمرَّ أحدهما، فقلت: " هذا عليٌ "، ومر الآخر، فقلت: " هذا حسن "، فقال: " أما الأول فصاحِب آخِرة، وأما الآخَر فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء "، قال: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (3/ 68) والبخاري رقم (7432) (13/ 415)، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. (¬2) وانظر صورًا مماثلة من تهور الخوارج وانتهاكهم حرمات المسلمين مع تورعهم مع الكافرين في " تلبيس إبليس " لابن الجوزي ص (128 - 129).

فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليًّا، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يُسلم عليه، فقال له علي: " يا أبا عبد الله! ما حملك على أن ذكرتَ أخي أمسِ بما ذكرته؟ ما يُؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟ "، قال: فنظرت إلى سفيان وهو يقول: " أستغفر الله "، وجادتا عيناه) (¬1). - وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: (كنا مع رجاء بن حَيْوَة، فتذاكرنا شكر النعم، فقال: " ما أحد يقوم بشكر نعمة "؛ وخَلْفَنا رجل على رأسه كساء، فقال: " ولا أمير المؤمنين؟ "، فقلنا: " وما ذِكْر أمير المؤمنين هنا! وانما هو رجل من الناس "، قال: فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: " أُتيتم من صاحب الكساء، فإنْ دُعيتم فاستُحْلِفتم فاحلفوا "؛ قال: فما علمنا إلا بحَرَسِي قد أقبل عليه (¬2)، قال: " هِيه يا رجاء، يُذكَر أمير المؤمنين، فلا تحتج له؟! "، قال: فقلت: " وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ "، قال: " ذكرتم شكر النعم، فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين؟، فقلتَ: أمير المؤمنين رجل من الناس! "، فقلت: " لم يكن ذلك "؛ قال: " آللهِ؟ "، قلت: " آلله "، قال: فأمر بذلك الرجل الساعي، فضُرب سبعين سوطًا، فخرجت وهو متلوِّث بدمه، فقال: " هذا وأنت رجاء بن حيوة؟ "، قلت: " سبعين سوطًا في ظهرك خير من دم مؤمن "، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس يقول ويتلفَّت: " احذروا صاحب الكساء ") (¬3). * * * ¬

_ (¬1) " سير أعلام النبلاء " (7/ 366). (¬2) يبدو أن في هذا الموضع سقطًا، ولعله: " فاصطحبه، وأدخله على أمير المؤمنين ". (¬3) " سير أعلام النبلاء " (4/ 561).

هدم القمم طريق مختصر لهدم الإسلام

هدمُ القِمَم طريق مختصر لهدم الإسلام احذر أخي المسلم الوقيعة في أهل العلم، وإلا حشرت نفسك في خندق واحد تُظاهر أعداء الإسلام الذين يحاولون تحطيم قمم الإسلام باعتبار ذلك أقصر طريق لطعن الإسلام نفسه، فلا تكونن ظهيرًا للمجرمين، واستحضر قول موسى الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]. إن محاولة " هدم القمم " للتوصل بذلك إلى هدم الدين وإطفاء نوره هي سياسة قديمة قِدَم الكائدين لهذا الدين: - فمن محاولاتها الأولى: ما جرى من حديث الإفك في حق الصِّديقة بنت الصِّديق، الطاهرة البتول، المبرأة من فوق سبع سموات أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد كان الإفك طعنة موجهة في المقام الأول إلى صاحب صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -، ثم للرجل الثاني في الإسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم لعائشة الصديقة التي حُمل عنها ربع الشريعة. - ومن هذه المحاولات: اجتهاد أعداء السنة والتوحيد من المستشرقين وأذنابهم من الذين نافقوا في الطعن في راوية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أكثر الصحابة رواية عن رسول الله، فإذا هُدم أبو هريرة رضي الله عنه؛ انهدم قسم عظيم من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- وهذا عين ما يقال في المحاولات الخائبة للطعن في صحيح البخاري باعتباره أصح كتاب بعد القرآن الكريم، وقد صرح بعض الدجاجلة الطاعنين في البخاري بهذا الهدف جهارًا نهارًا، فقال في جرأة يحسد عليها في سياق التعليل لاختياره " صحيح البخاري " بالذات للتشكيك في أحاديثه: (هي أن يكون الرجوع بأحاديث غيره إلى القرآن أولى وأهم باعتبار أنه عمدة المراجع لأصح الأحاديث) (¬1). - ومن ذلك ما يدأب فيه الرافضة -قَبَّحهم الله، ونكَّس راياتهم- من الطعن في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتصويرهم -إلا خمسة منهم- في أشنع صورة وأقبحها، وكلما عظم بلاء الصحابي في رفع راية الإسلام ونصرته بالعلم والعمل والجهاد، عظم حظه من تطاولهم وأحقادهم، كالخلفاء الثلاثة الراشدين، والمجاهدين الفاتحين الذين أطفأوا نار المجوسية، وكسروا ظهر الكسروية، ليتوسلوا بذلك الى الطعن في هاديهم ومعلمهم ومربيهم - صلى الله عليه وسلم -. ولقد فقه السلف هذه الحقيقة، وتنبهوا لمراميها البعيدة، فكشفوا عوارها، وهتكوا سترها: فعن مصعب بن عبد الله قال: (حدثني أبي عبدُ الله بن مصعب الزبيري قال: قال لي أمير المؤمنين المهدي: " يا أبا بكر، ما تقول فيمن تنقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ". قال: قلت: " زنادقة "، قال: " ما سمعت أحدًا قال هذا قبلك! "، قال: قلت: " هم قوم أرادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنقص، فلم يجدوا أحدًا من الأمة يتابعهم ¬

_ (¬1) " الأضواء القرآنية لاكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها " لسيد صالح أبو بكر ص (1).

على ذلك، فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء، فكأنهم قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصحبه صحابة السوء، وما أقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء! "، فقال: " ما أراه إلا كما قلت " (¬1). وقال الإمام أحمد رحمه الله: " إذا رأيت أحدًا يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوء؛ فاتهمه على الإسلام ". وقال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدَّى إلينا ذلك كله الصحابةُ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقة) (¬2). فكل من أراد طعن الإسلام طعن في رموزه وحَمَلة شريعته، والذابين عن حوزته: قال الإمام يحيى بن معين رحمه الله: " إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة، وعكرمة مولى ابن عباس؛ فاتهمه على الإسلام ". وقال الإمام أحمد رحمه الله: " إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام؛ فإنه كان شديدًا على المبتدعة ". وقال أسود بن سالم: " كان ابن المبارك إمامًا يقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة؛ إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك؛ فاتهمه على الإسلام ". ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (10/ 174). (¬2) " فتح المغيث " (3/ 101).

وقال سفيان بن وكيع: " أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد فهو عندنا فاسق "، وقيل: " أحمد محنة به يُعرف المسلم من الزنديق ". وقال الدورقي: " من سمعته يذكر أحمد بن حنبل بسوء؛ فاتهمه على الإسلام ". أضحى ابن حنبل محنة مأمونة ... وبحب أحمد يُعرف المتنسكُ وإذا رأيت لأحمد متنقصًا ... فاعلم بأن ستوره ستُهتكُ - ومن ذلك: حرص الأبواق المنافقة على الطعن في المجددين الذين بعثوا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذبوا عن دعوة التوحيد كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من المجددين إلى يومنا هذا. فمن وافق القوم في تطاولهم على رموز الإسلام، فقد أعانهم من حيث يدري أو من حيث لا يدري على تحقيق غاياتهم الخبيثة، وشمَّت بنا أعداء الدين، و: كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الأعداء وقال هارون لأخيه موسى عليه السلام: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150]، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتعوذ باللهِ تعالى من " شماتة الأعداء " (¬1). وعن أيوب قال: مرض أبو قلابة بالشام، فعاده عمر بن عبد العزيز، وقال: " يا أبا قلابة! تشدَّد لا يشمت بنا المنافقون " (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري رقم (6616) (11/ 513). (¬2) " تذكرة الحفاظ " (1/ 94).

الفصل الثالث أسباب ظاهرة التطاول على العلماء

الفصل الثالث أسباب ظاهرة التطاول على العلماء جماعها: الانحراف عن هدي السلف الصالح في التربية والتأديب، والتعليم والتهذيب، أما بيانها، فدونكه: السبب الأول: تشييخ الصحف، وافتقاد القدوة: فقد كان السلف يمنعون من كانت وسيلته إلى الفقه الكتب من الفتوى ومن التدريس، كما يمنعون من تَلقى القرآن من المصحف من الإقراء. قال أبو زرعة: " لا يُفتي الناسَ صُحُفيٌّ ولا يقرئهم مُصْحَفيّ " (¬1). وفي " تاريخ ابن خلكان ": (المجذوب: هو من لا شيخ له) (¬2). وقد قيل: " من كان شيخه كتابه، فخطؤه أكثر من صوابه "، وقال بعضهم: " من أعظم البلية: تشييخ الصحيفة ". وقال الإمام الشافعي رحمه الله: " من تفقه من بطون الكتب ضيَّع الأحكام ". من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة ... يكن من الزيغ والتحريف في حَرَمِ ومن كان أخذه للعلم عن كتب ... فعلمه عند أهل العلم كالعدمِ ¬

_ (¬1) " الفقيه والمتفقه " (2/ 97). (¬2) نقله عنه في " التعالم وأثره " ص (67).

التلقي عن المشايخ قارب رئيس من قوارب النجاة

وقال الإمام ابن جماعة رحمه الله: ( .. وليجتهد على أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الاطلاع، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ عن بطون الأوراق، ولم يعرف بصحبة المشائخ الحذاق) (¬1) اهـ. وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: ( ..... اعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مربٍ ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته، ويجعل مكانها خلقًا حسنًا، ومعنى التربية يشبه فعل الفلاَّح الذي يقلع الشوك، ويُخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته، ويكمل ريعه، ولابد للسالك من شيخ يربيه ويرشده إلى سبيل الله تعالى) (¬2) اهـ. ومما ينسب إلى إمام الحرمين قوله: أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ ذكاءٍ، وحرصٍ، وافتقارٍ، وغربةٍ ... وتلقينِ أستاذٍ، وطول زمانِ * التلقي عن المشايخ قارب رئيس من قوارب النجاة * يقول الشيخ محمد عوامة حفظه الله: و (بالتلقي عن الأستاذ يحصل الطالب على خيرين: يحصل على العلم الصافي المحقَّق، ويحصل على الأدب مع العلماء والشيوخ، لأنه سيلتزم الأدب مع معلِّمه، ومنه يتعرف على قدر العلماء، وكيف يترقى في الأدب معهم، وإذا التزم الأدب مع شيوخه، فهو مع شيوخهم ومَن قبلهم أشد التزامًا؛ فمنهم يرث العلم والأدب. ¬

_ (¬1) " تذكرة السامع والمتكلم " ص (87). (¬2) " أيها الولد " ص (128).

إن شيوخ طالب العلم هم آباؤه وأجداده (¬1)، ومن لم يكن له شيوخ يتلقى عنهم العلم، ثم ادَّعى العلم، وتكلم فيه: فهو دَعيٌ فيه، مجهولُ الهُويَّة والنسب .. ولم يكونوا يلتفتون إلى مَن لم يكن له شيوخ في العلم، ولا يقيمون له وزنًا ولا اعتبارًا، ولا يرون فيه أهلية التكلم معه؛ لأنه محل الخَطَل والغلط. قال القاضي عياض رحمه الله في " ترتيب المدارك " (4/ 623) في ترجمة أبي جعفر الداودي الأسدي المتوفى سنة (402): " بلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سُكناهم في مملكة بني عُبيد، وبقاءَهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك، فأجابوه: اسكت لا شيخ لك! أي: لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل إلى ما وصل بإدراكه، ويُشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه؛ لعلم أن بقاءهم مع مَن هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان ". وأصل هذا الجواب قديم، قائم في نفوس العلماء سلفًا وخلفًا، وممن روي عنه من الأئمة المتقدمين: أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فقد أسند الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (2/ 83): قيل لأبي حنيفة: " في المسجد حَلْقة ينظرون في الفقه "، فقال: " لهم رأس؟ " قالوا: لا، قال: " لا يفقه هؤلاء أبدًا " (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم بيان هذا ص (198 - 199)، فجدِّد به عهدًا. (¬2) " الفقيه والمتفقه " (2/ 83).

أحدهما

وفي " إسعاف المبطإ " ص (180) للسيوطي رحمه الله: " قال إسحاق بن محمد الفَرْوي: سئل مالك: " أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ فقالى: لا، فقيل: أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة، غير أنه لا يحفظ ولا يفهم؟ فقال: لا يُكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الناس، وعرف وعمل، ويكون معه ورع ". فإذا ما اكتمل هلاله بدرًا، أذن له شيوخه بالتعليم والإفادة، والكتابة والإفتاء، ونحو ذلك، ولا يزال هو يزداد إقبالاً عليهم، وانتهالاً من مواردهم مهما تقدم به العلم والعمر، وهذا هو المراد بـ " طول الزمان ": طول زمن الصحبة، وطول زمن الطلب، وعدم الفترة فيهما أو الانقطاع. أما مجرد طلب العلم وتلقيه عن شيخ سنة أو سنتين، ثم الاستقلال بالعلم، والفهم، والتلقي من الصحف وما شاكل حال أهل زماننا: فلا، ولن) اهـ (¬1). وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى: (وإذا ثبت أنه لا بد من أخذِ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان: أحدهما: المشافهة، وهي أنفعُ الطريقين وأسْلَمهما؛ لوجهين (¬2): الأول: خاصيَّة جعلها الله تعالى بين المعلِّم والمتعلم، يشهدها كلّ من زاول العلمَ والعلماء؛ فكم من مسألة يقرؤها المتعلِّم في كتاب، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلِّم فهمها بَغتةً، وحصل له العلمُ بها بالحضرة؟ وهذا الفهم يحصلُ إما بأمرٍ عاديّ من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكالٍ لم ¬

_ (¬1) " صفحات في أدب الرأي " ص (108 - 111) بتصرف. (¬2) لم يذكر إلا وجهًا واحدًا؛ فتأمل.

الطريق الثاني

يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمرٍ غير معتاد، ولكن بأمر يَهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلِّم، ظاهر الفقر باديَ الحاجة إلى ما يُلقى إليه. وهذا ليس يُنكر؛ فقد نبه عليه الحديثُ الذي جاء: " إنَّ الصحابةَ أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1)، وحديثُ حنظلةَ الأسيدي حين شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حال يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لو أنكم تكونون كما تكونون عندي، لأظلَّتكم الملائكة بأجنحتها " (¬2). وقد قال عُمرُ بن الخطَّاب: " وافقتُ ربي في ثلاث " (¬3)، وهي من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يُفتح للمتعلّم بين أيديهم ما لا يُفتح له دونهم، ويبقى ذلك النورُ لهم بمقدار ما بَقُوا في متابعة معلِّمهم، وتأدبهم معه، واقتدائهم به؛ فهذا الطريقُ نافعٌ على كل تقدير. وقد كان المتقدمون لا يكتبُ منهم إلا القليلُ، وكانوا يكرهون ذلك، وقد كرهه مالك؛ فقيل له. فما نصنع؟ قال: " تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبُكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة "، وحكي عن عمرَ بن الخطَّاب كراهية الكتابة، وإنما ترخَّص الناسُ في ذلك عندما حدث النسيانُ، وخِيفَ على الشريعة الاندراس. الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنِّفين ومدوني الدواوين، وهو أيضًا نافعٌ في بابه؛ بشرطين: الأول: أنْ يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة ¬

_ (¬1) انظر: " صحيح البخاري " رقم (1242)، و " جامع بيان العلم " رقم (2387). (¬2) أخرجه مسلم رقم (2750)، وأحمد في " مسنده " (4/ 346)، وغيرهما. (¬3) أخرجه البخاري رقم (402)، ورقم (4483)، ومسلم رقم (2399) وغيرهما.

اصطلاحات أهله؛ ما يتمُ له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، وهو معنى قولِ مَنْ قال: " كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال "، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئًا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد. والشرط الآخر: أن يتحرى كتبَ المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربةُ والخَبَر. أما التجربة (¬1) فهو أمرٌ مشاهدٌ في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علمٍ ما يبلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري؛ فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقّقُ الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سِيَرهم، وأقوالهم، وحكاياتِهم؛ أبصر العجب في هذا المعنى. وأما الخبر؛ ففي الحديث: " خيرُ القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " (¬2)، وفي هذا إشارةٌ إلى أن كل قرنٍ مع ما بعده كذلك، ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أوَّل دينكم نبوة ورحمة، ثم مُلك ورحمة، ثم ذلك ¬

_ (¬1) قال حقق " الموافقات " الشيخ مشهور حسن سلمان: خاطب الشاطبي بعض مستفتيه؛ فقال في " فتاويه " (120 - 122): " ... ما ذكرتُ لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة؛ فلم يكن ذلك مني -بحمد الله- محض رأيي، ولكن اعتمدتُ بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب ومن بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنةٍ في السمع، لكنها محض النصيحة ". (¬2) رواه البخاري رقم (3651)، ومسلم رقم (2533)، بلفظ: " خير الناس قرني ".

وجَبْرية، ثم مُلك عَضُوض " (¬1) ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئًا بعد شيء (¬2)، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق. وعن ابن مسعود؛ أنه قال: " ليس عامٌ إلا الذي بعده شرٌ منه، لا أقول عام أمطرُ من عام، ولا عام أخصبُ من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدثُ قوم يقيسون الأمور برأيهم (¬3)؛ فيُهدَم الإسلام ويُثلم (¬4). ومعناه موجود في " الصحيح " في قوله: " ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم؛ فيبقى ناسٌ جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويُضلون " (¬5). وقال عليه السلام: " إِن الإِسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: من الغرباء؟ قال: النُّزَّاعُ من القبائل ". وفي رواية: " قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ " قال: " الذين يَصلحون عند فساد الناس " (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في " السنن " (2/ 114)، والطيالسي رقم (228)، وغيرهما، وانظر: " الصحيحة " رقم (5)، و " عضوض؛ أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعصفون عضًا، والعضوض من أبنية المبالغة، وفي رواية: " ملوك عضوض "، وهو جمع عِض بالكسر، وهو الخبيث الشرس، أي: سيئ الخلق، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: " وسترون بعدي ملكًا عضوضًا " اهـ. (¬2) وانظر في ترجيح فعل السلف المتقدمين على غيرهم: " مجموع فتاوى ابن تيمية " (4/ 9، 10، 23، 157، و 5/ 1 - 11، و11/ 366 - 373). (¬3) المقصود بالقياس هنا: القياس الفاسد، الذي لا تتحقق فيه شروط الصحة. (¬4) رواه الدارمي (1/ 65)، والطبراني في " الكبير " (9/ 109) وغيرهما. (¬5) رواه البخاري رقم (100)، ومسلم رقم (2673). (¬6) أصله في " مسلم " رقم (415)، وانظر: " تحقيق الموافقات " (1/ 151).

وعن أبي إدريس الخَوْلانيِّ: " إن للإسلام عُرى يتعلق الناس بها، وإنها تُمتلخ عروةً عروةً ". وعن بعضهم: " تذهب السنَّةُ سنَّةَ سنَّةً، كما يذهب الحبل قوَّة قوة ". وتلى أبو هريرة قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]. ثم قال: " والذي نفسي بيده؛ ليخرجُن من دين الله أفواجًا، كما دخلوا فيه أفواجًا ". وعن عبد الله؛ قال: " أتدرون كيف يُنقص الإسلام؟ ". قالوا: نعم، كما يُنقصَ صبْغُ الثوب، وكما يُنقص سِمَنُ الدابة. فقال عبد الله: " ذلك منه ". ولما نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، بكى عمر؛ فقال عليه السلام [له]،: " ما يبكيك؟ ". قال: " يا رسول الله! إنا كلنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كَمُلَ؛ فلم يكمل شيء قط إلا نقص "، فقال عليه السلام: " صدقت " (¬1). والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم؛ فهو إذًا في نقص بلا شك. فلذلك صارت كتبُ المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوَزَرُ (¬2) الأحمى، وبالله تعالي التوفيق) (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (8/ 140)، وابن جرير في " التفسير " (6/ 52)، وهو منقطع. (¬2) الوَزَر: الجبل المنيع، والملجأ والمعتصم. (¬3) " الموافقات " (1/ 145 - 154).

وفصَّل العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله أهمية التلقي عن الأشياخ، فقال: (الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ، والمثافنة للأشياخ، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب، والأول من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق وهو المعلم، أما الثاني عن الكتاب فهو جماد فأنى له اتصال النسب. وقد قيل: " من دخل في العلم وحده خرج وحده " (¬1) أي من دخل في طلب العلم بلا شيخ خرج منه بلا علم، إذ العلم صنعة، وكل صنعة تحتاج إلى صانع، فلا بد إذًا لتعلمها من معلمها الحاذق. وهذا يكاد يكون محل إجماع كلمةٍ من أهل العلم إلا من شذ مثل: علي بن رضوان المصري الطبيب " م سنة 453 هـ "، وقد رد عليه علماء عصره ومن بعدهم، قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته له (¬2): " ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين وهذا غلط " اهـ. وقد بسط الصفدي في " الوافي " الرد عليه وعنه الزبيدي في " شرح الإحياء " عن عدد من العلماء مُعللين له بعدة علل، منها ما قاله ابن بطلان في الرد عليه: " السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم وهي معدومة عند المعلم، وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط ¬

_ (¬1) " الجواهر والدرر " للسخاوي (1/ 58). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (18/ 105).

بروغان البصر، وقلة الخبرة بالإعراب , أو فساد الموجود منه، وإصلاح الكتاب وكتابة ما لا يقرأ وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة، وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة كالنورس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح المتعلم من تكلفها عند قراءته على المعلم. وإذا كان الأمر على هذه الصورة فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه وهو ما أردنا بيانه ... قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي ولا من مصحفي، يعني لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف ... " اهـ. والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان: أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف، مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ ومستقل من ذلك ومستكثر، وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف كما في " العزاب " من " الإسفار " لراقمه. وكان أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي " م سنة 745 هـ " (¬1) إذا ذكر عنده ابن مالك، يقول: أين شيوخه؟ (وقال الوليد (¬2): كان الأوزاعي يقول: " كان هذا العلم كريمًا يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله "، وروى مثلها ابن المبارك عن الأوزاعي. ¬

_ (¬1) مقدمة التحقيق لكتاب " الغنية " للقاضي عياض ص (16 - 17). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (7/ 114).

ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر؛ حيث لم يكن بَعْدُ نقط ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر. ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا كما في " المقدمة " (¬1) له ولبعضهم: من لم يشافه عالماً بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون وكان أبو حيان كثيرًا ما ينشد: يظن الغَمْر (¬2) أن الكُتْبَ تَهْدي ... أخَا فَهْمٍ لإدراك العلوم وما يدري الجهولُ بأن فيها ... غوامضَ حَيَّرَتْ عقلَ الفهيم إذا رُمْتَ العلومَ بغيرِ شيخٍ ... ضللتَ عن الصراط المستقيم وتلتبس الأمورُ عليك حتى ... تصيرَ أضلَّ من " توما الحكيم ") (¬3) اهـ. وقال الدكتور ناصر العقل حفظه الله في سياق بيان خطورة تلقي العلم من الوسائل دون المشايخ: " إن بعض الناس بمجرد أن تتوفر لديه الأشرطة والكتب، ينقطع عن حلق الذكر، وعن دروس المشايخ ويقول: أنا بحمد الله أتلقى العلم بالشريط بالسيارة أو البيت، وأتلقى العلم عن الإذاعة وعن طريق الجرائد، والمجلات التي فيها شيء ¬

_ (¬1) " المقدمة " (4/ 1245). (¬2) الغمر: الذي لم يجرب الأمور. (¬3) " حلية طالب العلم " ص (22 - 24).

السبب الثاني: استعجال التصدر قبل تحصيل الحد الأدنى من العلم الشرعي بحجة الدعوة

من العلم الشرعي ... إلخ ... وليس هناك حاجة لأن أتكبد المشاق، وأجلس على ركب العلماء. وهذا قول خطير، بل إذا استمر الناس على هذا فسيخرج جيل، عنده علم ولا عنده فقه، بل لا يفقه من الدين إلا ما تهواه نفسه، وقد استغنى كثير من المثقفين والشباب بهذه الوسائل عن المشايخ، فصارت نظرتهم للمشايخ قاصرة، يتهمون المشايخ بالقصور والتقصير ويتهمونهم بعدم إدراك الواقع، ويتهمون المشايخ بأنهم يجاملون إلخ ... من الأمور التي هي من سمات أهل الأهواء " (¬1) اهـ. السبب الثاني: استعجال التصدر قبل تحصيل الحد الأدنى من العلم الشرعي بحجة الدعوة: يقول: الدكتور ناصر العقل حفظه الله: (ومن الأخطاء التي ينبغي التنبيه عليها في مسألة الفقه، فصل الدعوة عن العلم، وهذه توجد في الشباب أكثر من غيرهم، يقولون (مثلاً): الدعوة شيء، والفقه في الدِّين شيءآخر؛ فلذلك نجد أن بعض الشباب يهتم بالدعوة عمليًّا، ويبذل فيها جهده ووقته، لكن تحصيله للفقه والعلم الشرعي قليل جدًّا، مع أن العكس هو الصحيح ينبغي أن يتعلم، وأن يتفقه، وأن يأخذ العلوم الشرعية ثم يدعو، ولا مانع أن يؤجل الدعوة سنة، أو سنتين، أو خمسًا حتى يشتد عوده، ويكون عنده من العلم الشرعي ما يدعو به، أما أن يبدأ بعض الشباب بالدعوة لله -سبحانه وتعالى- بمجرد العاطفة وعلم قليل، ثم ينقطع عن العلم وعن المشايخ، فهذه على المدى البعيد سيكون لها أثرها الخطير في الأمة، سيخرج دعاة بلا علماء، كما حصل في البلاد الإسلامية الأخرى) (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) " الفقه في الدين " ص (57). (¬2) " السابق " ص (58)، وانظر: " العلاقة بين الفقه والدعوة " للشيخ مفيد خالد عيد، نشر مكتبة " دار البيان " و " دار ابن حزم " ط. أولى 1416 هـ.

ولقد صدق ونصح حفظه الله؛ إذ إن تصدر هؤلاء للدعوة على جهل سيعرضهم حتمًا للكلام باسم الإسلام، والإفتاء باسم شريعته، والقول على الله تعالى بغير علم، والاحتجاج " بالمصلحة " في غير موضعها، وتقديم الأهواء على الوحيين الشريفين. قال عمر رضي الله عنه: " تفقهوا قبل أن تُسَوَّدوا " (¬1). وقال الشافعي رحمه الله: " إذا تصدر الحَدَثُ؛ فاته علم كثير " (¬2). وهذا من توسيد الأمر لغير أهله، ومن منازعة الأمر أهله، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " قتلوه قتلهم الله؛ إِن شفاء العي السؤال " (¬3). وعن مالك قال: (أخبرني رجل دخل على رييعة بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يُبكيك؟ وارتاع لبكائه -فقال له: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: " لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وَلبعضُ من يُفتي ها هنا أحق بالسَّجن من السُّرَّاق " (¬4). قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ( .. السائل لا يصح أن يسأل من لا يُعتبر في الشريعة جوابُه؛ لأنه إسنادُ أمرٍ إلى غيرِ أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع، لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: " أخبرني عما لا تدري! وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء "، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء؛ إذ لو قال له: " دُلَّني في هذه المفازة على ¬

_ (¬1) " فتح الباري " (1/ 166). (¬2) " فتح الباري " (1/ 166). (¬3) " الفقيه والمتفقه " (2/ 68). (¬4) " جامع بيان العلم " رقم (2410) ص (1225).

السبب الثالث: التعالم وتصدر الأحداث

الطريق إلى الموضع الفلاني "، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواءٌ لعُدَّ من زمرة المجانين، فالطريق الشرعي أولى؛ لأنه هلاك أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة) (¬1) اهـ. السبب الثالث: التعالم وتصدر الأحداث: فترى " أبتثيًّا " (¬2) صريع الجهل، متشبعًا بما لم يعط، ينصب نفسه مرجعًا للفتيا، ويتملكه العجب فيلمز أكابر العلماء، ويفري أعراضهم، ويسفه أقوالهم، فيصد الناس عن سبيل ربهم، بصدهم عن الأدِلاء عليه. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفَّه الصغير الكبير " (¬3). وقال معاوية رضي الله عنه: " إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن فلا يفقه فيه، فيعلمه الصبي والعبد والمرأة فيجادلون به أهل العلم " (¬4). قال أبو وهب المروزي: (سألت ابن المبارك: " ما الكِبْرُ؟ " قال: " أن تزدري الناس "، فسألته عن العجب؟ قال: " أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئًا شرًّا من العُجْب "). ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكمًا بهذا الضرب من الطلبة-: يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: " أنا من أهل الحديث ". ¬

_ (¬1) " الموافقات " (4/ 192 - 193). (¬2) الذي يعرف حروف الهجاء أب ت ث .. إلخ. (¬3) " جامع بيان العلم " رقم (1059) ص (617). (¬4) " السابق " رقم (5) 236 ص (1203).

السبب الرابع: الاغترار بكلام العلماء بعضهم في بعض

وفي هؤلاء يقول أبو الحسن القالي رحمه الله: لما تبدلت المجالس أوجهًا ... غير الذي عَهِدَتْهُ من علمائها ورأيتها محفوفة بسوى الأُلَى ... كانوا ولاة صدورها وفنائها أنشدتُ بيتًا سائرًا متقدمًا ... والعين قد شرقت بجاري مائها أما الخيامُ فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها ويقول أيضًا: تصدر للتدريس كلُّ مُهَوسٍ بليدٍ تسمَّى بالفقيه المدرسِ فحُقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديمٍ شاع في كل مجلس لقد هَزُلَت حتى بدا من هُزالها ... كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ السبب الرابع: الاغترار بكلام العلماء بعضهم في بعض: فيحاول بعضهم اعتبار ذلك موضع أسوة وقدوة، غافلاً عن القاعدة الجليلة التي أصَّلها العلماء في ذلك، وهي أن " كلام الأقران في بعضهم البعض يُطوى، ولا يُحكَى ". إما لأنه ناشئ عن اجتهاد أو تأويل، وإما لأنه ناشئ عن تنافس ومعاصرة ومنافرة مذهبية، مما لا يكاد يسلم منه بشر، وما يُنقل من ذلك إما لا يصح عنهم، وإما يصح فيجب أن نغض الطرف عنه، ونحمله ما أمكن على أحسن الوجوه، وإلا فيجب طيه وكتمانه، والاشتغال بالاستغفار لهم كما رغبنا القرآن الكريم في ذلك. وقد كان الخليفة العباسي أبو العباس السفاح إذا علم بين اثنين تعاديًا، لم

يقبل شهادة ذا على ذا، ويقول: " العداوة تزيل العدالة ". وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: " كلام الأقران بعضهم، في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنَّه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أنَّ عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردتُ من ذلك كراريس! " (¬1). وقال الإمام أحمد بن حنبل: " كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه " (¬2). وقال الإمام الطبري: " لو كان كل من ادُعِيَ عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك: للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرْغَب به عنه " (¬3). وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: " والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته؛ وبانت ثقته، وعنايته بالعلم؛ لم يُلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة، تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها، من المشاهدة والمعاينة لذلك، بما يوجب قوله عن جهة الفقه والنظر " (¬4). وقال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله: " .. فكثيرًا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره، واستن ¬

_ (¬1) " ميزان الاعتدال " (1/ 111). (¬2) " تهذيب التهذيب " (7/ 273). (¬3) " هدي الساري مقدمة فتح الباري " (ص 428). (¬4) " جامع بيان العلم " (2/ 1093).

فائدة: من يقضي بين العلماء؟

بسنته، مع أن المؤلف لم يُرِدْ ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان الرجل ثقة ومشهودًا له بالإيمان والاستقامة فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعُوِّدَ منه، ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله " (¬1) اهـ. وقال أيضًا رحمه الله: " ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فَدُونَك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم، فإنك لم تُخْلَق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك، ولا يزال طالبُ العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضي لبعضهم على بعض. فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي، أو بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وهلُمَّ جرًّا إلى زمان الشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين ابن الصلاح، فإنك إن اشتغلت بذلك خشيتُ عليك الهلاك، فالقومُ أئمةٌ أعلام، ولأقوالهم مَحامِلُ ربما لم يُفهم بعضُها، فليس لنا إلا الترضي عنهم، والسكوتُ عما جرى بينهم، كما يُفعل ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم " (¬2) اهـ. فائدة: من يقضي بين العلماء؟ (¬3). سئل يومًا العلامة أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الأبياني عن ¬

_ (¬1) " قاعدة في الجرح والتعديل " ص (53). (¬2) " طبقات الشافعية " (2/ 39). (¬3) انظر: " الرد الوافر " ص (14 - 20).

السبب الخامس: الاغترار بمسلك الإمام ابن حزم رحمه الله في شدته على الأئمة

فقيهين من أصحابه وتلاميذه وهما: أبو القاسم بن زيد، وسعيد بن ميمون، فقيل له: " أيهما أفقه "، فقال: " إنما يفصل بين عالمين من هو أعلم منهما " (¬1). إذا تلاقى الفحولُ في لجَبٍ ... فكيف حالُ الغصيصِ في الوسط السبب الخامس: الاغترار بمسلك الإِمام ابن حزم رحمه الله في شدته على الأئمة: فيحسب طالب العلم أن هذه الشدة من المغيرة المحمودة على الحق، ومن نصرة الدين، وينسى أنه " لا أسوة في الشر ". قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة ابن حزم: " .. وصنَّف في ذلك كتبًا كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجَّج العبارة، وسبَّ وجدعَّ، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفَّروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفَتَّشوها انتقادًا واستفادة، وأخذًا ومؤاخذة، ورأوا فيها الدُّر الثمين ممزوجًا في الرَّصف بالخرز الثمين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤون، وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويُترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2) اهـ. وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في " الموافقات " بعد أن بيَّن أن من علامات العالم المتحقق أن يكون قد تلقى العلم عن الشيوخ ولازمهم: ( .. وبهذا وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون، كالأئمة الأربعة ¬

_ (¬1) " ترتيب المدارك " (2/ 350). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (18/ 186 - 187).

السبب السادس: جهل المنتقدين بأقدار من ينتقدونهم من العلماء

وأشباههم) (¬1) اهـ. السبب السادس: جهل المنتقدين بأقدار من ينتقدونهم من العلماء: وبالتالي لا ينزلونهم منازلهم، ويبخسونهم مكانتهم التي يستحقونها، ولعل أنجع علاج لذلك التعامل المباشر مع العالم، ولحظ سلوكه وسمته وهديه، أو مطالعة ترجمته ومصنفاته إن فاتت لقياه، ومعاشرة تلامذته، وهاك هذه الواقعة. قال ابن المبارك: (قدمتُ الشام على الأوزاعي، فرأيته ببيروت، فقال لي: " يا خراسانيُ من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة يُكنى أبا حنيفة؟ " فرجعت إلى بيتي، فأقبلت على كتب أبي حنيفة، فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل، وبقيتُ في ذلك ثلاثة أيام، فجئت يوم الثالث، وهو -أي الأوزاعي- مؤذنُ مسجدهم وإمامُهم، والكتابُ في يدي، فقال: " أيُ شيء هذا الكتاب؟ "، فناولتُه، فنظر في مسألة منها وقَّعْتُ عليها: قاله النعمان، فما زال قائمًا بعد ما أذن حتى قرأ صدرًا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كُمِّه، ثم أقام وصلَّى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها، فقال لي: " يا خراساني، من النعمان بن ثابت هذا؟ " قلتُ: " شيخ لقيتُه بالعراق "، فقال: " هذا نبيل من المشايخ، اذهب فاستكثر منه "، قلت: " هذا أبو حنيفة الذي نَهَيْتَ عنه ". ثم لما اجتمع -الأوزاعي- بأبي حنيفة بمكة جاراه في تلك المسائل، فكشفها له بأكثر مما كتبها ابن المبارك عنه، فلما افترقا قال الأوزاعي لابن المبارك: " غَبَطتُ الرجل بكثرة علمه ووفور عقله، وأستغفر الله تعالى، لقد كنتُ في غلط ظاهر، الزمِ الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه ") (¬2). ¬

_ (¬1) " الموافقات " (1/ 144). (¬2) رواه الخطيب في " تاريخه " (13/ 338)، وانظر: " أوجز المسالك إلى شرح موطأ الإمام مالك " للكاندهلوي (1/ 88 - 89).

ومما يبين أهمية مخالطة العالم ومعرفة سيرته وتأثير ذلك في حفظ حرمته، قول بعض من ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن أفاض في الثناء عليه: " .. ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه ". ومثله قول الحافظ ابن حجر رحمه الله: " إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر فادح -سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا- في حق المستور، فينبغي أن لا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة (¬1)؛ ولذلك يحتاج السلم أن يكون عارفًا بمقادير النادر وبأحوالهم ومنازلهم فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع " (¬2) اهـ. وقال الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه: " .. واحفظ لكُلٍ منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحق، فإِن المعرفةَ بالناس بها يصابُ العَدْلُ ". ألا ما أكثر المواقف العدائية التي بنيت على أساس مبدإ: " سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته "، فترى الرجل منحرفًا عن أهل الفضل بسبب الغواية في الرواية. فلا تلمهم على إنكار ما نكروا ... فإنما خُلقوا أعداء ما جهِلوا ¬

_ (¬1) ولهذا قال جمهور العلماء: " لا يثبت الجرح إلا مفسرًا مبيَّن السبب، لئلا يجرح بما يتوهمه جارحًا، وليس جارحًا ". (¬2) " ذيل التبر المسبوك " للسخاوي ص (4).

السبب السابع: التأثر بفوضوية الغربيين ونعراتهم

فإذا قيَّض الله له من الأسباب ما يطلعه على الحقيقة؛ انقشعت سحب الأباطيل، وأسفرت شمس الحقيقة. السبب السابع: التأثر بفوضوية الغربيين ونعراتهم: ويتضح هذا في سلوك بعض الشباب الذين يبتلون بالإقامة في ديار الغرب، فيتشربون منهم بعض القيم، وبخاصة سلوكهم إزاء أكابرهم وعظمائهم، بحجة حرية الرأي والتعبير، واعتزازًا بما يدينون به من " الفوضوية " التي يسمونها " ديمقراطية "، دون أن يتفطن هؤلاء الشباب إلى الفروق بين القيم الإسلامية وبين القيم الغربية. فمن مظاهر " الديمقراطية " تحكيم " رجل الشارع " في قضايا الأمة المصيرية (¬1)، في حين أن الإسلام يجعل الحكم في ذلك إلى أولي الأمر، أهل الحل والعقد المؤهلين للنظر في هذه القضايا دون غيرهم، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي رجل الشارع هذا بالرويبضة، ويجعل إقحامه في القضايا العامة المصيرية من أشراط الساعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصَدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة "، قيل: وما الرويبضة؟ قال: " الرجل التافه؛ يتكلم في أمر العامة " (¬2). ¬

_ (¬1) حتى لو كان ساقط العدالة، أو غارقًا في الجهالة يحتاج ليتعرف على مرشحه أن يوضع له " الرمز الانتخابي " كالساعة والسيارة والنخلة!! (¬2) أخرجه ابن ماجه (4042)، والحاكم (4/ 465، 512)، والإمام أحمد (2/ 291)، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (1887).

السبب الثامن: التعصب الحزبي، والبغي، وعقد الولاء على غير الكتاب والسنة

وقال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله: " متى الساعة؟ ": " فإِذا ضيعت الأمانة؛ فانتظر الساعة "، قال: " كيف إضاعتها؟ " قال: " إِذا وُسِّد الأمر إِلى غير أهله، فانتظر الساعة " (¬1). وتأمل موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يتحدث في موسم الحج عن يوم السقيفة، قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: " لا تفعل! فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قُربك حين تقومُ في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يُطيرُها عنك كل مُطير، وألا يعوها وألا يضعوها على موضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلُص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلتَ متمكنًا فيعي أهلُ العلم مقالتك، ويضعونها على موضعها " (¬2). يقول الأستاذ محمد الراشد حفظه الله: " إن الغوغائية التي صنعتها الديمقراطية الحديثة في الشعوب يمكن أن تظهر بصورة أخرى في أوساط دعاة الإسلام إذا أسرفنا في الشورى، ونحن -قبل الداعية المشاكس- نعيب الاستبداد والفردية، ولكن الشيء إذا تجاوز حده آذى " (¬3). السبب الثامن: التعصب الحزبي، والبغي، وعقد الولاء على غير الكتاب والسنة: فبعض الناس يربون أتباعهم على الولاء لأشخاصهم والانتماء لذواتهم، أو جماعاتهم، ويوالون في ذلك ويعادون، دون اعتبار لمبدإ الحب في الله، والبغض في الله، وفي هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1/ 142 - فتح). (¬2) رواه البخاري في " صحيحه " (8/ 209) ط. الشعب. (¬3) " فضائح الفتن " ص (18).

" وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدَّم الله ورسوله عليه، ويفضل من فضَّله الله ورسوله " (¬1) اهـ. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: (ومن نصب شخصًا كائنًا من كان؛ فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 32]، وإذا تفقه الرجل، وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم " (¬2) اهـ. وقال أيضا رحمه الله تعالى: " وليس للمعلمين أن يُحزبوا الناس ويفعلوا ما يُلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى .. وإذا وقع بين معلِّم ومعلم، أو تلميذ وتلميذ، أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة؛ لم يجز لأحد أن يُعين أحدهما حتى يعلم الحق، فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر؛ فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره، فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله، واتباع الحق والقيام بالقسط، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ ¬

_ (¬1) " مجموع الفتاوى " (11/ 512). (¬2) " السابق " (20/ 8 - 9).

السبب التاسع: التحاسد والتنافس على العلو والرياسة

تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. ومن مال مع صاحبه -سواء كان الحق له أو عليه- فقد حكم بحكم الجاهلية، وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يدًا واحدة مع المحق على المبطل، فيكون المعظَّم عندهم مَنْ عظَّمه الله ورسولُه، والمقدَّمُ عندهم من قدمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبَّه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء، فإنَّ من يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنَّه لا يضر إلا نفسه " (¬1) اهـ. وقد بلغت الحزبية الجاهلية في بعض الجماعات المعاصرة أوْجَها، وأثمرت من مظاهر البغي ما تقف له الشعور، وإن تعجب فعجب زعمهم أن " مصلحة الدعوة " تبيح لهم مسالك البغي والافتراء والتجني على الأبرياء، جريًا منهم على القاعدة الميكافيلية المشئومة " الغاية تسوغ الوسيلة "، ولقد غلا البعض في سوء استغلال هذه المصلحة المزعومة حتى قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله منكرًا عليهم: (إن كلمة " مصلحة الدعوة " يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلَّة ومدخل للشيطان يأتيهم به حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص، ولقد تتحول مصلحة الدعوة إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة، وينسون معه منهج الدعوة الأصيل) (¬2) اهـ. السبب التاسع: التحاسد والتنافس على العلو والرياسة: عن يوسف بن أسباط: سمعت سفيان يقول: " ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة، حامى عليها وعادى ". ¬

_ (¬1) " السابق " (28/ 15 - 17). (¬2) " منهج الدعوة في ظلال القرآن " جمع أحمد فائز (1/ 178).

لطيفة: إذا كنت خاملا، فتعلق بعظيم!

وقال الفضيل بن عياض: " ما من أحدٍ أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير ". وقال سفيان الثوري: " ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب، ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يَذكُر الناسُ أحدًا عنده بخير ". وما عبَّر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضلِ وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى ... يَدَ النقصِ عنه بانتقاص الأفاضل وقال الأوزاعي رحمه الله لبقية بن الوليد: " .. يا بقية لا تذكر أحدًا من أصحاب محمد نبيك - صلى الله عليه وسلم - إلا بخير، ولا أحدًا من أمتك، وإذا سمعت أحدًا يقع في غيره؛ فاعلم أنه إنما يقول: أنا خير منه ". لطيفة: إِذا كنت خاملاً، فتعلق بعظيم! (كان أحمد بن عبد الدائم بن يوسف بن ساهل شاعرًا مشهورًا مولعًا بالهجاء، حتى إنه لما دخل دمشق، قدم لقاضيها شهاب الدين الخوئي قصيدة هجو، فردَّها إليه، وقال: " كأنك ذاهل "، قال: " بل لست بذاهل، بل صنعت ذلك عمدًا لأشتهر، لأني رأيت الناس اجتمعوا على الثناء عليك، فرأيت أن أخالفهم، فإني لو مدحتك فأعطيتني لم يشعر بي أحد، فإذا هجوتك وعزَّرتني؛ يقال: " ما هذا؟ "، فيقال: " هذا غريم القاضي "، فأشتهر " (¬1). السبب العاشر: عدم التثبت في النقل: (فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة ¬

_ (¬1) " الدرر الكامنة " (1/ 171).

السبب الحادي عشر: الفراغ

قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله) (¬1) اهـ. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: " إن الذي يتصدى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال، يلزمه التحري في النقل، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالقول الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمرٌ فادح، سواء كان قولاً أو فعلاً أو موقفًا في حق المستور، فينبغي أن لا يبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة؛ لئلا يكون وقعت منه فلتة؛ ولذلك يحتاج المسلم أن يكون عارفًا بمقادير الناس وأحوالهم ومنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع " (¬2) اهـ. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: " من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبني عليه السامع حبًّا وبغضًا ومدحًا وذمًا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصًا من عرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله " (¬3) اهـ. السبب الحادي عشر: الفراغ: فإن الاشتغال بلغو القول وتجريح الآخرين وسائر آفات اللسان إنما هو ثمرة ¬

_ (¬1) " المقدمة " لابن خلدون (35 - 36). (¬2) " ذيل التبر المسبوك " للسخاوي ص (4). (¬3) " الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة " (272 - 273).

السبب الثاني عشر: الجحود وعدم الإنصاف

الفراغ الذي لم يبادر صاحبه إلى ملئه بالعمل الصالح. قال - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ " (¬1). وقال الحسن البصري: " نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ شغلتك بالباطل ". فالطاعن في أهل الحق فارغ، وأهل الحق مشغولون بحقهم، ويقول المثل العربي: " ويل للشجي من الخلي، وويل للعالم من الجاهل "، والشجي هو المشغول، والخلي هو الفارغ. (وكم موسوعة كان يمكن أن يؤلفها فضول القول الذي قيل أثناء الفتن والمجادلات والخلافات، وكم ساعة عمل ضائعة هدرها الوقت المستهلك في استنباط الظنون؟!) (¬2). السبب الثاني عشر: الجحود وعدم الإِنصاف: ومن مظاهره: تنكر الطالب لشيخه الذي طالما أفاده، وعلَّمه، وأحسن إليه لأجل زلة زلَّها، أو غضبة غضبها، فيجحد كل ما مضى من إحسانه إليه، ويقول كما تقول كافرات العشير: " ما رأيت منك خيرًا قط "، ويطلق لسانه في ذم شيخه والتشنيع عليه، ويقول الشاعر في مثل هذا: فيا عجبًا لمن رَبيْتُ طفلاً ... أُلَقِّمُه بأطرافِ البنانِ أعلِّمُه الرمايةَ كلَّ يومٍ ... فلما استد ساعدُه رماني أعلمه الفتوةَ كل حينٍ ... فلما طرَّ شاربه جفاني أعلمه الرواية كل وقتٍ ... فلما صار شاعِرَها هجاني ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (1/ 344)، والبخاري (11/ 229)، والترمذي رقم (2304). (¬2) انظر: " فضائح الفتن " ص (8).

قال الشافعي رحمه الله: " الحر مَن راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة ". صحبةُ يومٍ نسبٌ قريب ... وذِمّة يعرفها اللبيب وكان محمد بن واسع يقول: " لا يبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة "، وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري، ويقول: " قد كان لها معنا صحبة ". وكان الأولى بالجاحد الكفور أن يتمثل ما قاله الضيف الكريم لمضيفه الذي أحسن إليه؛ فقد (كان الرجل شجرةُ عنب كثيرة الثمر، فكان غارسها إذا مَرَّ به صديق له؛ اقتطف عنقودًا ودعاه، فيأكله، وينصرف شاكرًا. فلما كان اليوم العاشر؛ قالت امرأة صاحب الشجرة لزوجها: " ما هذا من أدب الضيافة، ولكن أرى إن دعوتَ أخاك، فأكل النصف، مددتَ يدك معه مشاركًا، إيناسًا له، وتبسطًا، وإكرامًا "، فقال: " لأفعلن ذلك غدًا ". فلما كان الغد؛ وانتصف الضيف في أكله؛ مدَّ الرجل يده وتناول حَبَّة، فوجدها حامضة لا تساغ، وتفلها، وقطب حاجبيه، وأبدى عجبه من صبر ضيفه على أكل أمثالها، فقال الضيف: " قد أكلتُ من يدك من قبلُ على مَرِّ الأيام حُلوًا كثيرًا، ولم أحبَّ أن أريك من نفسي كراهة لهذا، تشوب في نفسك عطاءك السالف " (¬1). ومن مظاهر الجحود: الرجوع عن التعديل والتزكية إلى التجريح والذم لمحض الهوى وشهوات الأنفس، قال الزعفراني. (حجَّ بشر المريسي، فلما قدم قال: ¬

_ (¬1) انظر: " الإمتاع والمؤانسة " لأبي حيان التوحيدي (2/ 121).

السبب الثالث عشر: استثمار المغرضين لزلات العلماء

" رأيت بالحجاز رجلاً ما رأيت مثله سائلاً ولا مجيبًا -يقصد الإمام الشافعي رحمه الله- قال: فقدم علينا، فاجتمع إليه الناس، وخَفّوا عن بشر، فجئت إلى بشر، فقلت: " هذا الشافعي الذي كنت تزعم قد قدِم "، قال: " إنه قد تغيَّر عما كان عليه "، قال: " فما كان مَثَلُ بشر إلا مثل اليهود في شأن عبد الله بن سلام ") (¬1). رصاصُ مَن أحببته ذهبٌ ... وذهب مَن لم ترض عنه رصاصُ - ومن مظاهر الجحود: الانكباب على مصنفات العالم والنهل من فيض علمه سرًّا، مع إظهار الاستغناء عنه، وذم كتبه في الملإ (¬2). - ومن مظاهره: تنكر منتسبي الدعوة للجيل السابق الذي عاصر مراحل التأسيس، وعانى ما اكتنفها من جهد وآلام، وليتهم إذ جحدوا كفُّوا ألسنتهم عن الأذى، إذًا لحُمِدوا أبلغ الحمد في زمن يصدق عليه قول القائل: إنا لفي زمنِ تركُ القبيح به ... مِن أكثر الناس: إحسانٌ وإجمالُ وقول الآخر: عَدّنا في زماننا ... عن حديث المكارم من كفى الناسَ شرَّه ... فهو في جُود حاتِم السبب الثالث عشر: استثمار المغرضين لزلات العلماء: ولأهمية هذا السبب نفرده بالفصل التالي: ¬

_ (¬1) " تاريخ بغداد " (2/ 65)، وانظر قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه في " البخاري " (4/ 102)، (148/ 5). (¬2) وأكثر ما يقع هذا في زماننا مع العلامة الألباني الذي هو حقيق بقول القائل: عتا في عِرضه قوم سلاطُ ... لهم من نثر جوهره التقاطُ همو حسدوه، لما لم ينالوا ... مناقبه فقد فسقوا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كسالى ... ولكن في أذاه لهم نشاط

الفصل الرابع ذلة العالم

الفصل الرابع ذلة العالم الحكم على زلة العالم هو من وظائف المجتهدين؛ فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم؛ فلا تتميز لهم في هذا المقام (¬1). (فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟ فالجواب: إن له ضابطًا تقريبيًّا، وهو أن ما كان معدودًا في الأقوال غلطًا وزللاً قليل جدًّا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحبُ قول عن عامة الأمة؛ فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين، لا من المقلدين) (¬2) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: " الموافقات " (5/ 139). (¬2) " السابق " (5/ 140).

التحذير من زلات العلماء وبيان آثارها

التحذير من زلات العلماء وبيان آثارها شبَّه العلماء زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير (¬1). وقيل: زلة العالم مضروب بها الطبل. وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ثلاثٌ يَهْدِمْنَ الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن (¬2)، وأئمة مُضِلُّون " (¬3). وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: " كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم، فإن اهتدى؛ فلا تقلدوه دينكم، تقولون: نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ؛ فلا تقطعوا إياسكم منه، فتُعينوا عليه الشيطان " الحديث (¬4). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " ويل للأتباع من عثرات العالم "، قيل: كيف ذلك؟ قال: " يقول العالم شيئًا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه؟ فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: " جامع بيان العلم " (2/ 982). (¬2) نظر: " الموافقات " (4/ 90 - 91). (¬3) رواه الدارمي في " سننه " (1/ 71). (¬4) " جامع بيان العلم " رقم (1873). (¬5) رواه البيهقي في " المدخل " رقما (835، 836)، وابن عبد البر في " الجامع " رقم (1877).

وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في خطبته كثيرًا: " وإياكم وزيغةَ الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقول المنافق الحقَّ، فتلقَّوا الحق عمن جاء به؛ فإن على الحق نورًا "، قالوا: " وكيف زيغة الحكيم؟ "، قال: " هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تَصُدَّنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء، وأن يُراجع الحقَّ " (¬1). وقال الحسين بن فضل: " لكل عالم هفوة " (¬2). وقال علي بن الحسين رحمه الله ورضي عن أبيه: " ليس ما لا يُعرف من العلم، إنما العلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن " (¬3). وقال إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: " من حمل شاذ العلم حمل شرًّا كثيرًا " (¬4). قال مالك: (شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس " (¬5). وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: " لا يكون إمامًا في الحديث من تَتَبَّع شواذَّ الحديث، أو حدث بكل ما يسمع، أو حدَّث عن كل أحد " (¬6). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في " سننه " رقم (4611)، والدارمي (1/ 67). وقال البيهقي رحمه الله: " فأخبر معاذ بن جبل أن زيغة الحكيم لا توجب الإعراض عنه، ولكن يُترك من قوله ما ليس عليه نور، فإن على الحق نورًا -يعني والله أعلم- دلالة من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس على بعض هذا " اهـ. (¬2) " أسباب النزول " للواحدي ص (18). (¬3) " سير أعلام النبلاء " (3/ 391). (¬4) " السابق " (6/ 324). (¬5) " ترتيب المدارك " (1/ 184). (¬6) " جامع بيان العلم " رقم (1535).

الموقف المذموم من زلة العالم

الموقف المذموم من زلة العالم وله صورتان: الأولى: موقف من يتتبعون عثرات العلماء، ويتصيدون زلاتهم، ويفرحون بها، ويستثمرونها في تأثيمهم، والتشهير بهم، والتشنيع عليهم، لإهدار قدرهم، وإسقاط منزلتهم، وإحباط محاسنهم، وجحود فضائلهم، بدافع من التعصب الأعمى، أو التحزب الجاهلي، أو التآمر لتحطيم قمم الإسلام، ورموز نهضته. والمؤمن الصادق ينصح لوجه الله، لإحقاق الحق، وهداية الناس، لا للتجريح والتشهير والعدوان، وإذكاء نار الفتن التي تأكل الأوقات، وتستنفد الطاقات. وقد شكا العلماء قديمًا وحديثًا من هذا الصنف المتربص الجاحد الظالم: قال داود بن يزيد: سمعت الشعبي يقول: " والله لو أصبت تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة؛ لأعَدّوا عليَّ تلك الواحدة " (¬1). وفي هؤلاء قال الشاعر: إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحًا ... مني وما يسمعوا من صالح دفنوا آخر: إن يسمعوا الخير يُخفوه وإن يسمعوا ... شرًّا أذاعوا، وإن لم يسمعوا أفكوا وقال محمد بن سيرين: " ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم ¬

_

الصورة الثانية

خيره " (¬1). الصورة الثانية: موقف من يغالون في أئمتهم وعلمائهم ومشائخهم غلوًّا يقطعهم عن رؤية زلتهم، فضلاً عن الحذر منها، وكأنهم اقتبسوا شعلة من نور العصمة التي لا تنبغي إلا لنبي، وقد قيل: " حبك الشيء يعمي ويصم "، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر " (¬2). وقال الإمام أحمد رحمه الله: " لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا ". وهاك صورًا من الغلو في العلماء: فمن ذلك قول بعضهم: " نظرة عندنا من أحمد -أي: ابن حنبل- تعدل عبادة سنة ". وقول آخر: " عندنا بخراسان يظنون أن أحمد بن حنبل لا يشبه البشر، يظنون أنه من الملائكة ". وقال شيخ السلمي له: " من قال لأستاذه: لم؟ لم يفلح أبدًا " (¬3). وحكى الشيخ سليمان بن يوسف بن مفلح أحد أعلام الشافعية رحمه الله عن نفسه، فقال: (كنت إذا سمعت شخصًا يقول: " أخطأ النووي "، أعتقد أنه كفر) (¬4). ¬

_ (¬1) " البداية والنهاية " (9/ 275). (¬2) " جامع بيان العلم " رقم (1882) ص (988). (¬3) انظر هامش رقم (3) ص (240). (¬4) " الدر الكامنة " (2/ 261).

فأين هؤلاء من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله ". قال الإمام ابن القيم: " اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يُلتفت الى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد إنقراض القرون الفاضلة " اهـ (¬1). وقال ابن المبارك رحمه الله لمناظريه في الكوفة في النبيذ المختلف فيه لما احتجوا بأسماء بعض أهل العلم: " فقلت لهم: دعُوا عند إلاحتجاج تسمية الرجال؛ فَرُبَّ رجلٍ في الإسلام مناقبُه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحدٍ أن يحتج بها؟ " (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: " إعلام الموقعين " (2/ 191، 214، 221). (¬2) " السنن الكبرى " للبيهقي (1/ 298 - 299).

ضوابط الموقف الصحيح من زلة العالم

ضوابط الموقف الصحيح من زلة العالم أولاً: أن يُعلم أن الخطأ من مقتضى الطبيعة البشرية لا يسلم منه إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وأن الخطأ لا يستلزم الإثم؛ بل المجتهد المخطئ مأجور. وقال أبو هلال العسكري رحمه الله: (ولا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كانت على سبيل السهو والإغفال؛ فإنه لم يعر من الخطأ إلا من عصم الله جل ذكره، وقد قالت الحكماء: " الفاضل مَن عُدَّت سقطاته "، وليتنا أدركنا بعض صوابهم أو كنا ممن يُميِّز خطاهم) (¬1) اهـ. تريد مهذبًا لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخان آخر: فإن يكن الفعل الذي ساء واحدًا ... فأفعاله اللائي سررن ألوف وقال الإمام ابن الأثير -رحمه الله-: (وإنما السيد من عُدَّت سقطاته، وأُخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل بها شيء، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " حق على الله ألا يرفع شيئًا من الدنيا إِلا وضعه ") (¬2). من ذا الذي تُرْضَى سجاياه كلُّها ... كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبُه قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فأمَّا الصديقون والشهداء ¬

_ (¬1) " شرح ما يقع فيه التصحيف " ص (6). (¬2) " اللباب في تهذيب الأنساب " (1/ 9).

والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحضة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطإ. وأهل العلم والإيمان: لا يَعْصِمون ولا يؤثمون) (¬1). وقال أيضًا رحمه الله: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا، كما قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال الله: " قد فعلت " (¬2). وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقًا في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية [الحشر: 10]. وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور، ونعظِّم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لا سيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظَّم حرماتِ الله، وأحسن إلى عباد الله، كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم) (¬3). ¬

_ (¬1) " مجموع الفتاوى " (35/ 69). (¬2) رواه مسلم رقم (126). (¬3) " مجموع الفتاوى " (32/ 239) , وانظره: (4/ 195) , و " اقتضاء الصراط المستقيم " (2/ 580).

ثانيا

ثانيًا: أن يعلم أن زلة العالم ليست من الشرع في شيء، فلا تنسب إليه، ولا هي من الخلاف السائغ، ولا يجوز الاقتداء به فيها، بل يتعين تبرئة الشريعة منها. قال الإمام الشاطبي في " الموافقات ": (إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليدًا له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عُدت زلة، وإلا فلو كانت معتدًّا بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نُسب إلى صاحبها الزلل فيها ... ما أنه لا ينبغي أن يُشَنعَ عليه بها، ولا يُنتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتًا؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) اهـ (¬1). وقال الإمام الشاطبي أيضاً: (إنه لا يصح اعتمادها -أي زلة العالم- خلافًا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد؛ فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوالُ الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل: " إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها) اهـ (¬2). وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ¬

_ (¬1) " الموافقات " (5/ 136 - 137). (¬2) " السابق " (5/ 139).

ثالثا

ورسوله -وهو مما يختص به العلماء- ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيانُ دلالتهما على ما يخالف الأهواءَ كلها، وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زَلات العلماء، وبيانُ دلالة الكتاب والسنة على ردِّها) (¬1) هـ. ومع أهمية التنبيه إلى زلة العالم، فإن هذا لا يستلزم هجره وإطراح ما عدا ذلك من علومه النافعة، كما يفعل الغلاة من المنتسبين إلى طلب العلم، وفي هذا يقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى: (فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سببًا في الحرمان من علوم هؤلاء الأجلة، بل ما زالت مناراتٍ يُهتدى بها في أيدي أهل الإسلام، وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطإ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم، ولو سلكوا مسلك الهجر لهُدِّمت أصول وأركان، ولتقلص ظل العلم في الإسلام، وأصبح الاختلال واضحًا للعيان، والله المستعان) (¬2) اهـ. ثالثًا: أن يَلتمس العذر للعالم، ويُحسِن الظن به، ويقيله عثرته: قال الإمام السبكي -رحمه الله-: (فإذا كان الرجل ثقة مشهودًا له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعُوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله) (¬3). وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، وبريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إِليه، ¬

_ (¬1) " جامع العلوم والحكم " (1/ 223 - 224) ط. مؤسسة الرسالة. (¬2) " تصنيف الناس بين الظن واليقين " ص (91). (¬3) " قاعدة في الجرح والتعديل " ص (93).

ويناظر عنه) (¬1) اهـ. وأسند البخاري في كتاب الشروط من " صحيحه " قصة الحديبية ومسيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وفيها: (وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلتُه، فقال الناس: " حَلْ حَلْ " (¬2)، فألَحَّت (¬3)، فقالوا: " خلأت (¬4) القصواء "، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل " إلخ الحديث. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فقه هذا الحديث: (جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مِثلُها، لا يُنسب إليها، ويُرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحًا، ولم يعاتبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لعذرهم في ظنهم) (¬5) اهـ. قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (فقد أعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - غير المكلَّف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالمًا عاملاً، ثم وقعت منه هِنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نِسبته إليها والتشنيع عليه بها- استصحابًا للأصل، وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنِّف قاطعًا للطريق رِدءًا للنفس اللوامة، وسببًا في حرمان العالَم من علمه، وقد نُهينا أن يكون أحدُنا عونًا للشيطان على أخيه) (¬6) اهـ. ¬

_ (¬1) " مدارج السالكين " (3/ 521). (¬2) حل حل: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير، يقال: " حلحلت فلانًا ": إذا أزحته عن موضعه. (¬3) ألَّحت: تمادت على عدم القيام، وهو من الإلحاح. (¬4) الخلاء للإبل، والحران للخيل، والقصواء: اسم ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) " فتح الباري " (5/ 335). (¬6) " تصنيف الناس " ص (80 - 81).

ثم نقل قول الصنعاني رحمه الله تعالى: (وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب) اهـ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أقال مسلمًا أقال الله عثرته " (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إِلا الحدود " (¬2). قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: (ذوو الهيئات الذين يُقالون عثراتهم الذين ليسوا يُعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة) (¬3). وقال الإمام العز بن عبد السلام -رحمه الله-: (لو رُفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى من أقيلت عثرته، وسُترت زلته) (¬4). وقال الإمام المحقق ابن القيم -رحمه الله-: (الظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان مستورًا مشهورًا بالخير حتى كبا به جواده، ونبا غضب صبره، وأُديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود رقم (3460)، وابن ماجه رقم (2199)، والبيهقي (6/ 27)، وصححه ابن حبان (1103)، والحاكم (2/ 45)، وابن حزم، وابن دقيق العيد. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (6/ 181)، والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (465)، وأبو داود رقم (3475)، وابن حبان في " صحيحه " (1520)، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (638). (¬3) أخرجه البيهقي في " السنن " (8/ 334). (¬4) " قواعد الأحكام " (1/ 150).

رابعا

عثرته ما لم يكن حدًّا من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع) (¬1) اهـ. رابعًا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه: قال الذهبي في ترجمة القفال الشاشي: (قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: " قدَّسه من وجه، ودنَّسه من وجه "، أي دنسه من جهة نصره للاعتزال، قلت: قد مرَّ موته، والكمال عزيز- وإنمَّا يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (¬2) اهـ. واستدرك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله بعض ألفاظ الشيخ أبي إسماعيل الهروي، وقال: " في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسنُ حال صاحبه وصدقُه، وتعظيمُه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له " (¬3). وقال أيضاً: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكنَّ الحق أحبُ إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: " عملُه خير من عِلمه "، وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع، لا يُشقُ له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نُصرة الله ورسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى .. ) (¬4) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " بدائع الفوائد " (3/ 139). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (16/ 285). (¬3) " مدارج السالكين " (3/ 150). (¬4) " السابق " (3/ 521)، وانظره: (1/ 198)، (1/ 227، 263)، (2/ 37)، (2/ 52).

كل مجتهد استفرغ وسعه للوصول إلى الحق استحق الثواب وإن أخطأ سواء في ذلك المسائل العلمية والعملية

كل مجتهد استفرغ وسعه للوصول إِلى الحق استحق الثواب وإِن أخطأ سواء في ذلك المسائل العلمية والعملية قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما بسط في غير هذا الموضع، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرى، لقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يدلان بطريق العموم، وكلما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يُرى، وفسروا قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة22: 23] بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل ذلك عن مجاهد وأبي صالح. أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح، لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منزه عن الجهل. أو اعتقد أن عليًّا أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطير (¬1) ... أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن؛ لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظًا من القرآن ...... ¬

_ (¬1) انظره في " منهاج السنة النبوية " (4/ 76، 77، 99، 100).

وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها، حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام .. وكالذي قال لأهله: " إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين " (¬1). وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5]، وفي قول الحواريين: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]، وكالصحابة الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل نرى ربنا يوم القيامة؟ "، فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه، وكثير من الناس لا يعلم ذلك، إما لأنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط) (¬2) اهـ. بتصرف واختصار. وقال شيخ الإسلام رحمه الله أيضًا: (وقوع الغلط في مثل هذا -يعني: علو الله على خلقه- يوجب ما نقوله دائمًا: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإنَّ الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر، كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنه فوق العرش، وإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإن التكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي يُكَفَّر تاركها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 514)، (11/ 312)، (13/ 464)، ومسلم رقم (2757). (¬2) " مجموع الفتاوى " (20/ 33 - 36)، وانظره (19/ 206 - 207)، (19/ 123).

كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في (الرجل الذي قال: " إِذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذرُّوني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين "، فقال الله له: " ما حملك على ما فعلت؟ "، قال: " خشيتك "، فغفر له). فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل واحد من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف عن عقابه، فغفر الله له لخشيته. فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص عُلم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم) (¬1) اهـ. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية، أو غيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قُدِّر أنه يُكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) وانظر: " مجموع الفتاوى " (3/ 231)، (11/ 409 - 410). (¬2) " السابق " (35/ 201).

وفي كتاب " الإنصاف سبيل للائتلاف " لجامعه عبيد بن أبي نفيع الشعبي: (ومن كُفِّر ببدعة وإن جلَّت، ليس هو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وصام، وصلى، وحج، وزكَّى، وإن ارتكب العظائم، وضلَّ وابتدع، كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها) (¬1) اهـ. وقال الحاكم: سمعت محمد بن صالح بن هانئ، سمعت ابن خزيمة يقول: " من لم يقر أن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سمواته؛ فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا ". علق الذهبي رحمه الله تعالى على عبارة إمام الأئمة ابن خزيمة قائلاً: (قلت: من أقر بذلك تصديقًا لكتاب الله، ولأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآمن به مفوِّضًا معناه إلى الله ورسوله؛ ولم يخُض في التأويل ولا عمَّق؛ فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك، فلم يدرِ بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مُقصِّر، والله يعفو عنه، إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظَ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم، وقفا غير سبيل السلف الصالح، وتمعقل على النص، فأمره إلى الله، نعوذ بالله من الضلال والهوى. وكلام ابن خزيمة هذا -وإن كان حقًّا- فهو فجٌ، لا تحتمله نفوسُ كثير من متأخري العلماء) (¬2) اهـ. وقال أيضًا رحمه الله: (وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته ¬

_ (¬1) " الإنصاف سبيل للائتلاف " ص (173). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (14/ 373 - 374).

رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يؤمن به فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة، وأعلام النبوة؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي، فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والواجبات تنقسم إلى أركان وواجبات ليست أركانًا: فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل: إما أن يُلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم، مع أنها أيضًا من أصول الإيمان. فإن الايمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه. وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين: فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله ورسوله؛ أشد شبهًا منه بالمشركين وأهل الكتاب، فوجب أن يلحق بهم، وعلى هذا مضى عمل الأمة قديمًا وحديثًا، في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجري عليهم أحكام الإسلام التي تجري على غيرهم، هذا مع العلم بأن كثيرًا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر ... ) (¬1) اهـ. وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد؛ لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه، فقصدهم حسن، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة، وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها ¬

_ (¬1) " السابق " (12/ 496 - 497).

نفسه يدل ظاهرها على مشابهة صفة الخلق، فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدًا منهم لتنزيه الله، وأوَّلوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم، فهم كما قال الشافعي رحمه الله: رام نفعًا فضرَّ من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5] (¬1). وقال الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع وفقه الله تعالى: (وفي الأشعرية علماء لهم قدم في خدمة الشريعة، أمثال: الحافظين أبي بكر البيهقي، وأبي القاسم بن عساكر، والإمام العز بن عبد السلام، وغيرهم من فضلاء الأشعرية، نذكرهم بما لهم من المحاسن، غير أننا ننبه على ما وقعوا فيه من البدعة، فإن الحق لا محاباة فيه، ولا تمنعنا بدعتهم من الانتفاع بعلومهم في السنن والفقه والتفسير والتاريخ وغير ذلك، مع الحذر. ولنا أسوة بالسلف والأئمة؛ فإنهم رَوَوْا السنن عن الكثير من المبتدعة لعلمهم بصدقهم (¬2). ¬

_ (¬1) " أضواء البيان " (7/ 448 - 449). (¬2) قال الزركشي في " البحر المحيط ": (قال الحافظ ابن عدي: قلت للربيع: " ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه أنه كان قدريًّا؟ " فقال: كان الشافعي يقول: " لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب ") اهـ. (4/ 270).

ونجتنب التكفير والتضليل والتفسيق للمعيَّن من هذا الصنف من العلماء، فإن هذا ليس من منهج السلف، وإنما نكتفي ببيان بدعته وردِّها إذا تعرضنا لها. وهذا كله في حق العالم إذا لم تغلب عليه البدع والأهواء، وعلمنا منه حرصه على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتحرِّي الحق من الكتاب والسنة إلا أنه لم يصبه لشبهة ما أو غير ذلك- شأن الكثير من متقدمي الأشعرية خلافًا لأكثر متأخريهم؛ فإن لكثير من متقدميهم اجتهادًا في طلب الحق، أما إذا غلبت عليه الأهواء ومخالفة صريح الشريعة، ولم يكن متحريًا للحق من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فليس له توقير ولا حرمة ولا كرامة) (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " العقيدة السلفية في كلام رب البرية "، ص (431)، ففي مقام التحذير والنصيحة ينبغي الاقتصار على ذكر الجرح دون المحاسن، وكذا إذا كان الجرح غالبًا، والله تعالى أعلم.

بين الرجل والمنهج

بين الرجل والمنهج قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (لابد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر: - وهو النصيحة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وكتابه ودينه، وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بَعَث الله به رسوله من الهدى والبينات. والثاني: معرفةُ فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا بمبلغ علمهم, والحق في خلافها: لا يوجب اطِّراحَ أقوالهم جملةً، وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثِّم ولا نَعْصِم .. بل نسلُكُ مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة ... ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: " جاهلٍ بمقدار الأئمة وفضلهم، أو: جاهلٍ بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَمٌ صالحة وآثار حسنة -وهو من الإسلام وأهله بمكان- قد تكون منه الهفوة والزلة فيما هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتَّبع فيها , ولا

يجوز أن تُهدر مكانتُه وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين) (¬1) اهـ. وقال أيضًا -رحمه الله تعالى-: (والفرق بين تجريد متابعة المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وإهدار أقوال العلماء وإلغائها: أن تجريد المتابعة ألا تُقَدِّم على ما جاء به قولَ أحدٍ ولا رأيه كائنًا من كان، بل تنظر في صحة الحديث أولاً، فإذا صح لك؛ نظرت في معناه ثانيًا، فإذا تبين لك لم تعدل عنه، ولو خالفك مَن بين المشرق والمغرب، ومعاذَ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها، بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به، ولو لم تعلمه، فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة على الله ورسوله، بل اذهب إلى النص ولا تضعف، واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا، ولكن لم يصل إليك، هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة) (¬2). وقد أفاد وأجاد في الموازنة بين حق " الرجل " وحق " المنهج " الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يعقب على الدروس المستفادة من غزوة أحد فقال رحمه الله: ( ... وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة، التي صاحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله، وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة اسلامية بعون الله. إن منهج الله ثابت وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا ¬

_ (¬1) " إعلام الموقعين " (3/ 294). (¬2) " الروح " (356 - 357).

المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد التطبيق والسلوك، ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبًا على المنهج، ولا مغيرًا لقيمه وموازينه الثابتة. وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك فإنه يصفهم بالخطأ، وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف، ولا يتغاضى عن خطئهم -مهما تكن منازلهم وأقدارهم- ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم. ونتعلم نحن من هذا، أن تبرئه الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج، وأنه من الخير للأمة الإسلامية أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون المنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه -أيًّا كانوا- وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدًا بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه، فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف ... فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص، والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم، وإنما هو كل وضع وكل فعل صنعوه موافقًا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة .. وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام وعلى تاريخ الإسلام، إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام ... إن تاريخ الإسلام ليس هو تاريخ المسلمين؛ ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان، إن تاريخ الإسلام هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم، ونظام مجتمعاتهم، فالإسلام محور ثابت تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت، فإذا هم خرجوا من هذا الإطار، أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتًا، فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم تحسب على الإسلام؟ بل ما

لهم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام وأبوا تطبيقه في حياتهم (¬1)؟ وهم إنما كانوا مسلمين؛ لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون. وهذا ما أراد الله سبحانه أن يعلمه للأمة الإسلامية، وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة، ويسجل عليها النقص والضعف، ثم يرحمها بعد ذلك، ويعفو عنها، ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء ... ) (¬2) اهـ. وعلَّق بعض المعاصرين قائلاً: (إن الإسلام لا يعطي العصمة لأحد بعد رسول الله، ولكننا معشر المسلمين في الواقع نعطي هذه العصمة للرجال، ويصعب علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نجلها تخطئ وتصيب، كما يصعب علينا أن نقول: " هذا الرأي من قوله خطأ، وهذا صواب ". كما أننا -عمليًّا- لا يمكن أن نتعامل مع الشخصيات الإسلامية الكبيرة إلا على أساس التسليم لهم بكل شيء، أو رفض كل شيء. وتحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر يتحدى القواعد النظرية الإسلامية التي يحفظها كل الناس، مثل ما نحفظ عن الإمام مالك قوله: " يؤخذ من قول كل أحد، ويُرَدُّ عليه إلا صاحب هذا القبر "، ويشير إلى حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول مثل القول الذي يكرره سيد رحمه الله بأسلوب هذا العصر في الكلام الذي ¬

_ (¬1) هناك ضوابط دقيقة للحكم بخروج المسلم من الملة، قد حسمها العلماء منذ قرون فـ " لا جديد في أحكام الكفر والإيمان "، وتطبيق هذه الضوابط وظيفة القضاء الشرعي في المقام الأول. (¬2) " في ظلال القرآن " (4/ 533).

سبق، ولكن تطبيقه عمليًّا دونه خرط القتاد. وفي الواقع إن تذوق العلم وحده، هو الذي يستطيع أن يعودنا الاحترام الصحيح لأهل العلم، بحيث نصل معه إلى درجة نقدر فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه دون أن يصير خطؤهم غُلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه، ونتجنب ما أخطأوا فيه دون أن نجعل خطأهم تحقيرًا لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة لهم، فهذا الموقف هو الذي ينزه احترام أهل العلم من التحول إلى نوع من الأوثان ضرره أكثر من نفعه، وبهذا لا يتحول الأحبار والرهبان إلى أرباب) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) " حتى يغيروا ما بأنفسهم " ص (172 - 173) بتصرف.

الفصل الخامس ذم التعالم والتحذير من القول على الله بغير علم

الفصل الخامس ذم التعالم والتحذير من القول على الله بغير علم قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإِذا لم يُبِق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جُهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " (¬1). إن التعالم الكاذب هو عتبة الدخول على جريمة القول على الله بغير علم، المحرمة لذاتها تحريمًا أبديًّا في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حَذَّرَناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير. فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يظهر الإِسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرأون القرآن، يقولون: " من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ " ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " هل في أولئك من خير؟ " قالوا: " الله ورسوله أعلم " , قال: " أولئك منكم من هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار " (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (341). (¬2) قال المنذري: (رواه الطبراني في " الأوسط "، والبزار بإسناد لا بأس به) كما في " الترغيب " =

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنه قام ليلة بمكة من الليل، فقال: " اللهم هل بَلَّغت؟ " ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه- وكان أوَّاهًا (¬1) - فقال: " اللهم نعم، وحَرَّضتَ، وجَهَدْتَ، ونصحتَ "، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ليَظهرنَّ الإِيمان حتى يُرَدَّ الكفر إِلى مواطنه، ولَتُخَاضَنَّ البحار بالإِسلام، ولَيأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن، يتعلمونه ويقرءونه، ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟ " قالوا: " يا رسول الله , من أولئك؟ " قال: " أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار ") (¬2). وعن عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال - صلى الله عليه وسلم -: " إِن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرْفَع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج " (¬3) الحديث. وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل " (¬4). قال بعض الفضلاء: " وجدت جميع العلوم في ازدياد إلا علم الدين، ¬

_ = (1/ 129 - 130)، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب " (1/ 58). (¬1) الأواه: المتأوه المتضرع، وقيل: الكثير البكاء، وقيل: الكثير الدعاء. (¬2) قال المنذري: (رواه الطبراني في " الكبير " وإسناده حسن إن شاء الله تعالى) اهـ (1/ 130)، وحسن الألباني في " صحيح الترغيب " (1/ 58). (¬3) رواه البخاري (13/ 13 - سلفية). (¬4) رواه البخاري (1/ 178 - سلفية).

فعلمت أنه المقصود في الحديث ". وصدق رحمه الله: فها هو العلم في زماننا قد استدبر. وها هو البغاث بأرضنا قد استنسر (¬1). قد أعْوَزَ الماءُ الطهُور وما بقي ... غيرُ التيممِ لو يَطيب صعيدُ ذكر أبو عمر عن مالك قال: (أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: " ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ "، وارتاع لبكائه، فقال: " لا، ولكن اسُتفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم "، قال ربيعة: " ولَبعض من يفتي ها هنا أحق بالحبس من السُرَّاق ") (¬2). وأفضح ما يكون للمرء: دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديمًا وحديثًا: قال الإمام ابن حزم رحمه الله: " لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدُخَلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون، ويقدرون أنهم يُصلحون ". وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (" يلزم ولي الأمر منعهم -أي من الفتيا- كما فعل بنو أمية " إلى أن قال: " وإذا تعيَّن على ولي الأمر منعُ من لم يُحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في ¬

_ (¬1) البُغاث: طائر أغبر، واستنسر: صار عزيزًا كالنسر بعد أن كان من ضعاف الطير. (¬2) تقدم ص (347).

الدين؟! ") (¬1). وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: " ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتواعده بالعقوبة إن عاد " (¬2). وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: " من أقرهم من ولاة الأمور؛ فهو آثم " (¬3). وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، وقال: " يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟! " (¬4). وقال الإمام الماوردي رحمه الله: " وإذا وجد -المحتسب- من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ، ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف أنكر عليه التصدي لما هو ليس من أهله، وأظهر أمره لئلا يُغترَّ به " (¬5) اهـ. فينبغي لمن تصدى للتعليم والإفتاء أن يكون أهلاً لذلك، وإلا فهو خائن للأمانة، ينطبق عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذا ضيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة "، قيل: " كيف إضاعتها؟ " قال: " إِذا أُسند الأمر إِلى غير أهله فانتظر الساعة " (¬6). ¬

_ (¬1) " إعلام الموقعين " (4/ 276). (¬2) " المجموع شرح المهذب " (1/ 73). (¬3) " إعلام الموقعين " (4/ 276). (¬4) " السابق " (4/ 277). (¬5) " الأحكام السلطانية " ص (248). (¬6) رواه -من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- البخاري رقم (6496) (11/ 333 - فتح)، وغيره.

قال ابن الحاج رحمه الله في كتابه " المدخل " بعد أن حكى من حال بعض المنتسبين إلى العلم ما لا يليق بهم: (ولهذا المعنى كان سيدي أبو محمد -ابنُ أبي جمرة -رحمه الله إذا ذُكِر له واحد من علماء وقته ممن يُنسَب إلى طَرَف مما ذُكِر، ويُثْنَى عليه إذ ذاك بفضيلة العلم، يقول: " ناقل، ناقل " خوفا منه -رحمه الله- على منصب العلم أن يُنسب إلى غير أهله، وخوفًا من أن يكون ذلك كذبا أيضًا، لأن الناقل ليس بعالم في الحقيقة، وإنما هو صانع من الصناع، كالخياط والحداد والقصار ... ) (¬1) اهـ. وعن معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي قال: (كان زائدة لا يحدِّث أحدًا حتى يمتحنه، فإن كان غريبًا قال له: " من أين أنت؟ "، فإن كان من أهل البلد، قال: " أين مصلاك؟ "، ويسأل كما يسألُ القاضي عن البينة. فإذا قال له، سأل عنه، فإن كان صاحب بدعة، قال: " لا تعودنَّ إلى هذا المجلس "، فإن بلغه عنه خير أدناه وحدثه، فقيل له: " يا أبا الصلت، لم تفعل هذا؟ " قال: " أكره أن يكون العلم عنده، فيصيروا أئمة يُحتاج إليهم، فيبدِّلوا كيف شاءوا ") (¬2). وقال مغيرة: " إني لأحتسب في منعي الحديث، كما يحتسبون في بذله ". * * * ¬

_ (¬1) " المدخل " (1/ 17). (¬2) " المحدث الفاصل " للرامهرمزي ص (803).

من العالم؟

من العالم؟ العالم هو: من يخشى الله عز وجل، ويعمل بمقتضى علمه. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " ليس العلم عن كثرة الحديث، إنما العلم خشية الله " (¬1)، وعنه رضي الله عنه قال: " كونوا للعلم رُعاةً، ولا تكونوا له رواة؛ فإنه قد يرْعَوي ولا يَروي، وقد يروي ولا يرعوي " (¬2). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: " لا تكون تقيًا حتى تكون عالمًا، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً " (¬3). وعن الحسن قال: " العالم: الذي وافق علمَه عملُه، ومن خالف علمَه عملُه فذلك راويةُ حديث، سمع شيئاً فقاله " (¬4). وعنه -رحمه الله- قال: " الذي يفوق الناسَ في العلم جدير أن يفوقهم في العمل " (¬5)، وعنه في قوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91] قال: " عُلِّمتم فعلِمْتُم ولم تعملوا، فوالله ما ذالكم بعلم " (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في " الزهد " (185)، وأبو داود في " الزهد " رقم (182)، والطبراني في " الكبير " رقم (8534). (¬2) رواه ابن عيد البر في " الجامع " (1238). (¬3) رواه الدارمي في " السنن " (1/ 88). (¬4) رواه ابن عبد البر في " الجامع " رقم (1241) (¬5) " السابق " رقم (1270). (¬6) " السابق " رقم (1273).

ويعرف العالم

وعن سفيان الثوري قال: " العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه؛ وإلا ارتحل " (¬1)، وعنه رحمه الله قال: " العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شُغلوا فُقدوا، فإذا فُقدوا طلبوا، فإذا طُلبوا هربوا " (¬2). وقد ختم الله كثيرًا من الآيات الداعية إلى الفضائل بقوله تعالى: (إِن كنتُمْ تَعْلَمُون)، (لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُون) إشارة إلى أن العلم باعث على العمل بها، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا " الحديث (¬3). ويُعرف العالم: * بجده في طلب العلم، واجتهاده في التفقه في الدين، والتلقي عن المشايخ وملازمتهم زمنًا طويلاً معتبرًا، قال إبراهيم بن الأشعث: " إذا وجدتم الرجل معروفًا بشدة الطلب، ومجالسة الرجال؛ فاكتبوا عنه " (¬4). * بشيوخه؛ من هم، وكيف هم؟ ثم بشهادتهم له، أو إجازتهم إياه. قال الإمام مالك رحمه الله: (لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت) (¬5)، وقال أيضًا: (ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للتحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، وأهل ¬

_ (¬1) " السابق " رقم (1274). (¬2) " السابق " رقم (1249). (¬3) رواه البخاري (8/ 210 - 211)، ومسلم رقم (2359). (¬4) " الرحلة في طلب الحديث " ص (91). (¬5) انظر: " حلية الأولياء " (6/ 316)، و " الفقيه والمتفقه " (2/ 154).

الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلاً لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك) (¬1) اهـ. * باستقامته على منهج أهل السنة والجماعة، وهدي السلف الصالح، وبراءته من البدع الضالة. * بآثاره من الإنتاج العلمي والتصنيف، والدروس والفتاوى، وكذا تلاميذه. * بتميزه بالعبادة والتنسك والتورع والخشوع، والمروءة ومحاسن الأخلاق. * برسوخ قدمه في مواطن الشبهات حين تضل الأفهام، وتتزلزل الأقدام، قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (إن الراسخ في العلم لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر؛ ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكًا، لأنه قد رسخ في العلم فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردَّها حرسُ العلم مغلولة مغلوبة) (¬2) اهـ. * بمواقفه العلمية والعملية، وثباته في الفتن والابتلاءات، وأخذه بحظ وافر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعايشته لأحوال مصره، وتفاعله مع أحداث عصره، فهؤلاء العلماء المحتسبون الذين وصفهم الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله بأنهم: (لم يتخلفوا في كهوف " القَعَدة " الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: " هذا مغتسل بارد وشراب "، وكأنما عناهم -أي القعدة- شوقي بقوله: ¬

_ (¬1) " الديباج المذهَّب في علماء المذهب " لابن فرحون ص (21). (¬2) " مفتاح دار السعادة " (1/ 140).

وقد يموت كثير لا تُحِسَّهُم ... كأنهم من هوان الخطب ما وُجدوا بل نزلوا ميدان الكفاح، وساحة التبصير بالدين) اهـ. * بأن يوضع له القبول في الأرض: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِن الله إِذا أحب عبدًا دعا جبريل، فقال: " إِني أحب فلانًا فأحِبَّه "، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: " إِن الله يحب فلانًا فأحبوه "، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبولُ في الأرض " (¬1) الحديث. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (مَروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وجبت "، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: " وجبت "، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما وجبت؟ قال: " هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " (¬2)، وفي رواية: " المؤمنون شهداء الله في الأرض " (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( .. ومن له في الأمة لسانُ صدق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (13/ 461) في التوحيد، ومسلم رقم (2637)، والترمذي رقم (3160)، وزاد: " فذلك قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. (¬2) رواه البخاري (3/ 181)، ومسلم رقم (949)، وأحمد (3/ 179)، والترمذي رقم (1058)، والنسائي (4/ 49 - 50). (¬3) رواه البخاري (5/ 185).

عام بحيث يُثْنَى عليه، ويُحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى) (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) " مجموع الفتاوى " (11/ 43).

حتى لا يشتبه العلماء بغيرهم

حتى لا يشتبه العلماء بغيرهم لقد أفرز الواقع الأليم -الذي أطلَّت فيه الفتن برأسها، وشهرت العالمانية سيفها، وغُيِّب فيه كثير من العلماء الربانيين، وحيل بينهم وبين الشباب- ظاهرة جديرة بالحذر، وهي بروز طائفة من الشباب المتحمسين للذبِّ عن دينهم، ونشر سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وتأدية فرض الكفاية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحياء الدعوة إلى الله، وتجديد شباب الإسلام. وقد أثمرت جهودهم بالفعل ثمارًا مباركة لا ينكرها إلا جاحد، منها: - التصدي لشبهات الزنادقة والمنافقين وسائر أعداء الدين. - انتعاش مهمة " البلاغ العام " بدعوة عموم المسلمين من خلال الخطابة، والمحاضرات وغيرها. - تذكير الفاسقين بالله، وحثهم على التوبة إليه عز وجل، وضمهم إلى صفوف المستقيمين. - إحياء العلم الشرعي , وازدهار حلق العلم، وتنشيط الحركة العلمية الإسلامية. - الرد على أهل البدع المنحرفين عن منهج السلف الصالح. - تناول القضايا الواقعية التي تمس واقع الحياة من حولهم بطريقة مباشرة من خلال المنظور الإسلامي.

إن من الظلم البين أن يوصف هؤلاء الدعاة بالتمرد والعقوق لأهل العلم، لأنهم سدوا ثغرات كثير من الفروض الكفائية، ورفعوا كثيرًا من الحرج عن سائر الأمة: أقلوا عليهم -لا أبا لأبيكم- ... من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدُّوا وكثير منهم نشأ في مواقع نضب فيها العلم، وغاب العلماء، لا أنهم وجدوا العلماء فزهدوا في الجثو بين أيديهم، والنَّهَل من علمهم، فلسان حالهم يخاطب العلماء: لا تظنوا بنا العقوق ولكن ... أرشدونا إن ضللنا الرشادا فكان من الطبيعي والمتوقع أن يتلبسوا -خلال الممارسة الدعوية- بأخطاء نتيجة عدم تدرجهم في سُلَّم التعلم والتفقه، بل التأدب بكثير مما مرّ ذكره، فظهرت نتوءات شاذة في فكر وسلوك بعضهم تحتاج إلى أن يعالجها العلماء بالتهذيب والإصلاح، من أخطرها: - انتزاع حقوق ليست لهم في الحقيقة كحق الفُتْيا، بل الاستبداد بها في بعض الأحيان، بل محاكمة العلماء والجرأة عليهم كما مرّ ذكره، والاستغناء عن الاستهداء باجتهادهم في قضايا محورية. وزاد الطين بلة أنهم خُدعوا بالتفاف الجماهير حولهم، فتصرفوا " كمراكز قوى " تضغط على العلماء، وتستمد مصداقيتها من الواقع المفروض لا من المؤهلات الشرعية المعتبرة. وهذا الواقع هو الذي يُحْوِجنا الآن إلى ضبط الأمور، وإعادة ترتيبها، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه , وذلك:

- بدعوة الجميع إلى ضرورة التفريق بين " العالم " الحقيقي، وبين كل من: طالب العلم، والناقل، والداعية، والواعظ، والعابد، والخطيب، والقارئ، والمثقف، والمفكر، والمجاهد ... إلخ. فلكلٍ وجهة هو موليها، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات)، دون أن يتسوَّر غير العالم على العلم، ودون أن ينازع الأمر أهله، ودون أن يحقر من فُتح عليه في باب من أبواب البر مَن فُتح عليه في غيره، على أن يبقى " العلم " هو الحَكَم، فيكون أسعد المذكورين حظًّا أشدهم التحامًا بالعلم والعلماء، وبذلك نوفِّي حاجة الأمة إلى تجارب الشيوخ وعلومهم، وطاقة الشباب وجهودهم. (قال الحافظ ابن عبد البَر في " التمهيد ": هذا كتبته من حفظي، وغاب عني أصلى: إن عبد البر العُمري العابد كتب إلى مالك يحضُّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: " إن الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجلٍ فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخَرُ فُتح له في الصدقة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خيرٍ وبِرٍ ") (*). * * * ¬

_ (*) نقله الذهبي في " السير " (8/ 114).

الخاتمة

الخاتمة نسأل الله حُسْنَها, إذا بلغت الروح المنتهى وبعد: فقد أتيت على ما عمدت إلى جمعه في هذا الكتاب راغبًا إلى الله سبحانه في صالح العمل، ونجاح الأمل، فبه القوة والحول، وله المنة والطول، وهو حسبي ونعم الوكيل. فيا أيها الناظر فيه، المتأمل لمعانيه: هذه حال السلف، وتلك آثارهم، فشمِّر مثلَهم عن ساق الدأَب في سوق الأدب: فليس لدى المجدِ والمَكْرُمات ... إذا جِئتها حاجبٌ يحجبكْ وإياك أن يكون حظَّك منها أن تهز رأسك طربًا قائلاً: " هذه أخبارٌ تكتب بماء الذهب "، فعن نجيد الترمذي قال: (كنت عند مالك، وعنده محمد والمأمون يسمعان منه الحديث، فلما فرغا؛ قال أحدهما -إما المأمون وإما محمد-: " يا أبا عبد الله! أتأمرني أن أكتبه بماء الذهب؟ "، قال: " لا تكتبه بماء الذهب، ولكن اعمل بما فيه ") (¬1). وإني مُذَكِّرٌ نفسي وسائرَ العصاة المذنبين بقول الله جل وعلا: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) " المدونة " ص (12).

أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17]. فيا محيي القلوب الميتة بالإيمان، خذ بأيدينا من مهواة الهلكة، وطهِّرنا من درن الخطايا، واعصمنا من زلل اللسان. وأعيذ نفسي وكلَّ ناصح أن يكون ممن قال فيهم الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: " مَثَلُ الذي يُعَلِّم الناسَ الخيرَ، وينسى نفسَه، مثل الفتيلةِ، تُضيءُ للناس، وتحرِقُ نفسَها " (¬1)، وإلا فما أحراه بقول الإمام الواعظ الفاضل أبي المظفر محمد بن عليِّ بن البَلِّ الدُّوريِّ رحمه الله تعالى (¬2): يتوب على يَدِي قومٌ عصاةٌ ... أخافَتْهم من الباري ذنوب وقلبي مُظلم من طول ما قد ... جنى فأنا على يد مَن أتوب؟ كأني شمعةٌ ما بين قومٍ ... تضيء لهم وَيحْرِقها اللهيب كأني مِخْيَطٌ يكسو أناسًا ... وجسمي من ملابِسه سليب فنستغفر الله تعالى من كل ما زلت به القدم، أو طغى به القلم، ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا، ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي برزة وضي الله عنه الخطيب في " اقتضاء العلم العمل " رقم (71)، والطبراني في " الكبير " (2/ 166) من حديث جندب رضي الله عنه بلفظ: " مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السِّراج يضيء للناس، ويُحرق نفسه "، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (5/ 198). (¬2) " سير أعلام النبلاء " (22/ 76).

الكريم ثم خالطه غيره، ونستغفره من كل وعد وعدنا به من أنفسنا ثم قصَّرنا في الوفاء به، ونستغفره من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته، ونستغفره من كل تصريح وتعريض بنقصان ناقص، وتقصير مقصِّر كنا متصفين به، ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف تزينَّا للناس به (¬1). وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الإسكندرية في الأربعاء20 جمادى الآخرة 1418 هـ الموافق 22 أكتوبر 1997 م. ¬

_ (¬1) انظر: " الإحياء " (1/ 578).

§1/1