الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط

د. ياسين جاسم المحيميد

فاتحة الكتاب

فاتحة الكتاب

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ} . إعراب البسملة {الرَّحْمَنِ} : فعلان من الرحمة، وأصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعدي، وأل فيه للغلبة، كهي في الصعق، فهو وصف لم يستعمل في غير الله، كما لم يستعمل اسمه في غيره. {الرَّحِيمِ} : فعيل محوّل من فاعل للمبالغة، وهو أحد الأمثلة الخمسة، وهي: فعال، وفعول، ومفعال، وفعيل، وفعل، وزاد بعضهم فعيلاً فيها: نحو سكير، ولها باب معقود في النحو، قيل: وجاء رحيم بمعنى مرحوم، قال العملس بن عقيل: فأما إذا عضت بك الأرض عضة فإنك معطوف عليك رحيم الباء في بسم الله للاستعانة، نحو كتبت بالقلم، وموضعها نصب، أي بدأت، وهو قول الكوفيين، وكذا كل فاعل بدىء في فعله بالتسمية كان مضمراً لأبدأ، وقدره الزمخشري فعلاً غير بدأت وجعله متأخراً، قال: تقديره بسم الله أقرأ أو أتلو، إذ الذي يجيء بعد التسمية مقروء، والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص، وليس كما زعم. قال سيبويه، وقد تكلم على ضربت زيداً ما نصه: وإذا قدمت الإسم فهو عربي جيد كما كان ذلك، يعني تأخيره عربياً جيداً وذلك قولك: زيداً ضربت. والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير، سواء مثله في: ضرب زيد عمراً، أو ضرب زيداً عمر، وانتهى، وقيل: موضع اسم رفع التقدير ابتدائي بأبت، أو مستقر باسم الله، وهو قول البصريين، وأي التقديرين أرجح يرجح الأول، لأن الأصل في العمل للفعل، أو الثاني لبقاء أحد جزأي الإسناد. والإسم هو اللفظ الدال بالو

وحذفت الألف من بسم هنا في الخط تخفيفاً لكثرة الاستعمال، فلو كتبت باسم القاهر أو باسم القادر. فقال الكسائي والأخفش: تحذف الألف. وقال الفراء: لا تحذف إلا مع {بسم الله الرحمن الرحيم} ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه، فأما في غيره من أسماء الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف. والرحمن صفة لله عند الجماعة. وذهب الأعلم وغيره إلى أنه بدل، وزعم أن الرحمن علم، وإن كان مشتقاً من الرحمة، لكنه ليس بمنزلة الرحيم ولا الراحم، بل هو مثل الديوان، وإن كان مشتقاً من دبر صيغ للعلمية، فجاء على بناء لا يكون في النعوت، قال: ويدل على علميته ووروده غير تابع لاسم قبله، قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) الرحمن علم القرآن} (الرحمن: 12) ، وإذا ثبتت العلمية امتنع النعت، فتعين البدل. قال أبو زيد السهيلي: البدل فيه عندي ممتنع، وكذلك عطف البيان، لأن الإسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، لأنه أعرف الأعلام كلها وأبينها، ألا تراهم قالوا: وما الرحمن، ولم يقولوا: وما الله، فهو وصف يراد به الثناء، وإن كان يجري مجرى الإعلام. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قيل: دلالتهما واحدة نحو ندمان ونديم، وقيل معناهما مختلف، فالرحمن أكثر مبالغة. وفي البسملة من ضروب البلاغة نوعان: أحدهما: الحذف، وهو ما يتعلق به الباء في بسم، وقد مر ذكره. النوع الثاني: التكرار في الوصف، ويكون إما لتعظيم الموصوف، أو للتأكيد، ليتقرر في النفس. إعراب الفاتحة {الْحَمْدُ} الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده، ونقيضه الذم، وليس مقلوب مدح، خلافاً لابن الأنباري، إذ هما في التصريفات متساويان. {لله} اللام: للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد، وللإنته

والأصل في الحمد لا يجمع، لأنه مصدر. وحكى ابن الأعرابي: جمعه على أحمد كأنه راعى فيه جامعه اختلاف الأنواع، قال: وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي وقراءة الرفع أمكن في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعة، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر لله تعالى، أي حمده وحمد غيره. ومعنى اللام في لله الاستحقاق، ومن نصب، فلا بد من عامل تقديره أحمد الله أو حمدت الله، فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله، وأشعر بالتجدد والحدوث، ويكون في حالة النصب من المصادر التي حذفت أفعالها، وأقيمت مقامها، وذلك في الأخبار، نحو: شكراً لا كفراً. وقدر بعضهم العامل للنصب فعلاً غير مشتق من الحمد، أي أقول الحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو: اللهم ضبعاً وذئباً، والأول هو الصحيح لدلالة اللفظ عليه. وفي قراءة النصب، اللام للتبيين، كما قال أعني لله، ولا تكون مقوية للتعدية، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر لامتناع عمله فيه. قالوا: سقياً لزيد، ولم يقولوا: سقياً زيداً، فيعملونه فيه، فدل على أنه ليس من معمول المصدر، بل صار على عامل آخر. قرأ زيد بن علي وطائفة: {رب العالمين} بالنصب على المدح، وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها. وضعفت إذ ذاك. على أن الأهوازي حكى في قراءة زيد بن علي أنه قرأ: {رب العالمين، الرحمن الرحيم} بنصب الثلاثة، فلا ضعف إذ ذاك، وإنما تضعف قراءة نصب رب، وخفص الصفات بعدها لأنهم نصوا أنه لا إتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلاً، ولا سيما على مذهب الأعلم، إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحسن ذلك على مذهب غيره، كونه وصفاً خاصاً، وكون البدل على نية تكرار العامل، فكأنه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب. وقول من زعم أنه نصب رب بف

{الرحمن الرحيم} تقدم الكلام عليهما في البسملة، وهما مع قوله {رب العالمين} صفات مدح، وخفض الرحمن الرحيم الجمهور، ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني، فالخفض على النعت، وقيل في الخفض: إنه بدل أو عطف بيان، وتقدم شيء من هذا. والنصب والرفع للقطع. {مَلِكِ} قرأ مالك على وزن فاعل بالخفض، عاصم، والكسائي، وخلف في اختياره، ويعقوب، وهي قراءة العشرة إلا طلحة، والزبير، وقراءة كثير من الصحابة. وقال الأخفش: يقال ملك من الملك، بضم الميم، ومالك من الملك، بكسر الميم وفتحها، وزعموا أن ضم الميم لغة في هذا المعنى. وروي عن بعض البغداديين: لي في هذا الوادي ملك وملك بمعنى واحد. {يَوْمِ} اليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. {الدِّينِ} الجزاء: دناهم كما دانوا، قاله قتادة، والحساب: {ذلك الدين القيم} (التوبة: 36) (يوسف: 40) (الروم: 30) ، قاله ابن عباس، والقضاء: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (النور: 2) . ومن قرأ بجر الكاف فعلى معنى الصفة، فإن كان بلفظ ملك على فعل بكسر العين أو إسكانها، أو مليك بمعناه فظاهر لأنه وصف معرفة بمعرفة، وإن كان بلفظ مالك أو ملاك أو مليك محولين من مالك للمبالغة بالمعرفة، ويدل عليه قراءة من قرأ: ملك يوم الدين فعلاً ماضياً، وإن كان بمعنى الاستقبال، وهو الظاهر لأن اليوم لم يوجد فهو مشكل، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة، لأن المعرفة لا توصف بالنكرة ولا بدل نكرة من معرفة، لأن البدل بالصفات ضعيف. وحل هذا الإشكال هو أن اسم الفاعل، إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال، جاز فيه وجهان: أحدهما ما قدمناه من أن

إِيَّاكَ} ، إيا تلحقه ياء المتكلم وكاف المخاطب وهاء الغائب وفروعها، فيكون ضمير نصب منفصلاً لا اسماً ظاهراً أضيف خلافاً لزاعمه، وهل الضمير هو مع لواحقه أو هو وحده؟ واللواحق حروف، أو هو واللواحق أسماء أضيف هو إليها، أو اللواحق وحدها، وإيا زائدة لتتصل بها الضمائر، أقوال ذكرت في النحو. وإضافة إيا لظاهر نادر نحو: وإيا الشواب، أو ضرورة نحو: دعني وإيا خالد، واستعماله تحذيراً معروف فيحتمل ضميراً مرفوعاً يجوز أن يتبع بالرفع نحو: إياك أنت نفسك. {نَعْبُدُ} ، العبادة: التذلل، قاله الجمهور، أو التجريد، قاله ابن السكيت، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف، نحو: عبدت الرجل ذللته، وعبدت الله ذللت له. {نَسْتَعِينُ} ، الاستعانة، طلب العون، والطلب أحد معاني استفعل، وهي اثنا عشر معنى، وهي: الطلب، والاتحاد، والتحول، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك، ومطاوعة افعل وموافقته، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد، والإغناء عنه وعن فعل مثل ذلك استطعم، واستعبده، واستنسر واستعظمه واستحسنه، وإن لم يكن كذلك، واستشلى مطاوع أشلى، واستبل موافق مطاوع أبل، واستكبر موافق تكبر، وأستعصم موافق اعتصم، واستغنى موافق غنى، واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد، واسترجع، واستعان حلق عانته، مغنيان عن فعل، فاستعان طلب العون، كاستغفر، واستعظم. وقال صاحب اللوامح: وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واواً، فلا أدري أذلك عن الفراء أم عن العرب، وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة، واستثقالاً للكسرة على الواو. وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع، وبكون استفعل أيضاً لموافقة تفاعل وفعل. حكى أبو الحسن بن سيده في المحكم: تماسكت ب

أأنت الهلالي الذي كنت مرة سمعنا به والأرحبي المغلب وإلى قول أبي كثير الهذلي: يا لهف نفسي كان جلدة خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر {اهْدِنَا} ، الهداية: الإرشاد والدلالة والتقدم ومنه الهوادي أو التبيين، {وأما ثمود فهديناهم} (فصلت: 17) ، أو الإلهام أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50) ، قال المفسرون: معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو الدعاء، ولكل قوم هاد أي داع والأصل في هدي أن يصل إلى ثاني معموله باللام يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء: 9) أو إلى لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى: 52) ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه، ومنه اهدنا الصراط} ، ونا ضمير المتكلم ومعه غيره أو معظم نفسه. ويكون في موضع رفع ونصب وجر. {الصِّرَاطَ} الطريق، وأصله بالسين من السرط، وهو اللقم، ومنه سمي الطريق لقماً، وبالسين على الأصل قرأ قبل ورويس، وإبدال سينه صاداً هي الفصحى، وهي لغة قريش، وبها قرأ الجمهور، وبها كتبت في الإمام. {الْمُسْتَقِيمَ} استقام: استفعل بمعنى الفعل المجرد من الزوائد، وهذا أحد معاني استفعل، وهو أن يكون بمعنى الفعل المجرد، وهو قام، والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج. {صِرَاطَ الَّذِينَ} اسم موصول، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة، وبعض العرب يجعله بالواو في حالة الرفع، واستعماله بحذف النون جائز، وخص بعضهم ذلك بالضرورة، إلا إن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها، وسمع حذف أل منه فقالوا: لذين، وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو، ويخص العقلاء بخلاف الذي، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره. {أَنْعَمْتَ} ، النعمة: لين العيش وخفضه، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها، وسميت النعامة للين سهمها: نعم إذا كان في نعمة، وأنعمت عينه أي سررتها، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه، أي والهمزة في أنعم بجعل

{عَلَيْهِمْ} ، على: حرف جر عند الأكثرين، إلا إذا جرت بمن، أو كانت في نحو هون عليك. ومذهب سيبويه أنها إذا جرت اسم ظرف، ولذلك لم يعدها في حروف الجر، ووافقه جماعة من متأخري أصحابنا ومعناها الاستعلاء حقيقة أو مجازاً، وزيد أن تكون بمعنى عن، وبمعنى الباء، وبمعنى في، وللمصاحبة، وللتعليل، وبمعنى من، وزائدة، مثل ذلك: {كل من عليها فان} (الرحمن: 26) فضلنا بعضهم على بعض} (البقرة: 253) ،} {وآتى المال على حبه} (البقرة: 177) ، {ولتكبروا الله على ما هداكم} (البقرة: 185) ، حافظون إلا على أزواجهم} (المؤمنون: 56) . أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاه تروق أي تروق كل أفنان العضاه. هم ضمير جمع غائب مذكر عاقل، ويكون في موضع رفع ونصب وجر. وحكى اللغويون في (عليهم) عشر لغات: ضم الهاء، وإسكان الميم، وهي قراة حمزة. وكسرها وإسكان الميم، وهي قراءة الجمهور. وكسر الهاء والميم وياء بعدها، وهي قراءة الحسن. وزاد ابن مجاهد أنها قراءة عمر بن فائد. وكذلك بغير ياء، وهي قراءة عمرو بن فائد. وكسر الهاء وضم الميم وواو بعدها، وهي قراءة ابن كثير، وقالون بخلاف عنه. وكسر الهاء وضم الميم بغير واو وضم الهاء والميم وواو بعدها، وهي قراءة الأعرج والخفاف عن أبي عمرو. وكذلك بدون واو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها. كذلك بغير ياء. وقرىء بهما، وتوضيح هذه القراءآت بالخط والشكل: عليهم، عليهم، عليهموا، عليهم، عليهمي، عليهم، عليهم، عليهمي، عليهم، عليهموا. وملخصها ضم الهاء مع سكون الميم، أو ضمها بإشباع، أو دونه، أو كسرها بإشباع، أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم، أو كسرها بإشباع، أو دونه، أو ضمها بإشباع، أو دونه، وتوجيه هذه القراءات ذكر في النحو. {اهْدِنَا} صورته صورة الأمر، ومعناه الطلب والرغبة، وقد ذكر الأصوليون لنحو هذه الصيغ

ومن غريب القول أن الصراط الثاني ليس الأول، بل هو غيره، وكأنه قرىء فيه حرف العطف، وفي تعيين ذلك اختلاف، وموضع عليهم نصب، وكذا كل حرف جر تعلق بفعل، أو ما جرى مجراه، غير مبني للمفعول. وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وتحصيلها، أي طلبنا منك الهداية، إذ سبق إنعامك، فمن إنعامك إجابة سؤالنا ورغبتنا، كمثل أن تسأل من شخص قضاء حاجة ونذكره بأن من عادته الإحسان بقضاء الحوائج، فيكون ذلك آكد في اقتضائها وأدعى إلى قضائها. وانقلاب الفاعل مع المضمر هي اللغة الشهيرة، ويجوز إقرارها معه على لغة، ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليهم، لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت له الهداية، لكن يسأل دوامها واستمرارها. {غَيْرِ} مفرد مذكر دائماً وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملاً على اللفظ، وتأنيثه حملاً على المعنى، ومدلوله المخالفة بوجه مّا، وأصله الوصف، ويستثنى به ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى، وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف، وإن أضيف إلى معرفة. ومذهب ابن السراج أنه إذا كان المغاير واحداً تعرف بإضافته إليه، وتقدم عن سيبويه أن كل ما إضافته غير محضة، قد يقصد بها التعريف، فتصير محضة، فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة، وتقرير هذا كله في كتب النحو. وزعم البيانيون أن غير أو مثلاً في باب الإسناد إليهما مما يكاد يلزم تقديمه، قالوا نحو قولك غيرك يخشى ظلمه، ومثلك يكون للمكرمات ونحو ذلك، مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه، ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الصفة كان من مقتضى القياس، وموجب العرف أن يفعل ما ذكر، وقوله: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع غرضه أنه ليس ممن ينخدع ويغتر، وهذا المعنى لا يستقيم فيهما

ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر ومن ذهب إلى الاستثناء جعل لا صلة، أي زائدة مثلها في قوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} (الأعراف: 12) } وقول الراجز: فما ألوم البيض أن لا تسخرا وقول الأحوص: ويلجئني في اللهو أن لا أحبه واللهو داع دائب غير غافل قال الطبري: أي أن تسخر وأن أحبه، وقال غيره: معناه إرادة أن لا أحبه، فلا فيه متمكنة، يعني في كونها نافية لا زائدة، واستدلوا أيضاً على زيادتها ببيت أنشده المفسرون، وهو: أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قائله وزعموا أن لا زائدة، والبخل مفعول بأبي، أي أبى جوده البخل، ولا دليل في ذلك، بل الأظهر أن لا مفعول بأبى، وأن لفظة لا لا تتعلق بها، وصار إسناداً لفظياً، ولذلك قال: واستعجلت به نعم، فجعل نعم فاعلة بقوله استعجلت، وهو إسناد لفظي، والبخل بدل من لا أو مفعول من أجله، وقيل: انتصب غير بإضمار أعني وعزي إلى الخليل، وهذا تقدير سهل، وعليهم في موضع رفع بالمغضوب على أنه مفعول لم يسم فاعله، وفي إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل، إذا حذف خلاف ذكر في النحو. ومن دقائق مسائله مسألة يغني فيها عن خبر المبتدأ ذكرت في النحو، ولا في قوله: {ولا الضالين} لتأكيد معنى النفي، لأن غير فيه النفي، كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين، وعين دخولها العطف على قوله المغضوب عليهم لمناسبة غير، ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين. وقرأ عمر وأبي وغير الضالين، وروي عنهما في الراء في الحرفين النصب والخفض، ويدل على أن المغضوب عليهم هم غير الضالين، والتأكيد فيها أبعد، والتأكيد في لا أقرب، ولتقارب معنى غير من معنى لا، أتى الزمخشري بمسألة ليبين بها تقاربهما فقال: وتقول أنا زيداً غير ضارب، مع امتناع قولك: أنا زيداً مثل ض

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت وقول الآخر: وللأرض إما سودها فتجلت بياضاً وإما بيضها فادهأمت وعلى ما قال أبو الفتح إنها لغة، ينبغي أن ينقاس ذلك، وجعل الإنعام في صلة الذين، والغضب في صلة أل، لأن صلة الذين تكون فعلاً فيتعين زمانه، وصلة أل تكون اسماً فينبهم زمانه، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك، وكذلك أتى بالفعل ماضياً وأتى بالإسم في صلة أن ليشمل سائر الأزمان، وبناه للمفعول، لأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام، وليكون المغضوب توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي.

سورة البقرة

سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأٌّخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . {الم} أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول: هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة، أسماء العدد، إذا عدّوا يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة. وقد اختلف الناس في المراد بها، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى. {ذلك} ، ذا: إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً، ثلاثي الأصل، لا أحادي الوضع، وألفه ليست زائدة، خلافاً للكوفيين والسهيلي، بل ألفه منقبلة عن ياء، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه: ذا وذائه وهو يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد، فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً، وقالوا: ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو. {لا} نافية، والنفي أحد أقسامها، وقد تقدمت. {ريب} ، الريب: الشك بتهمة راب حقق التهمة قال: ليس في الحق يا أمية ريب إنما الريب ما يقول الكذوب

{فيه} : في للوعاء حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللموافقة على، والباء مثل ذلك زيد في المسجد {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) ادخلوا في أمم} (الأعراف: 38) لمسكم فيما أفضتم} (النور: 14) ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (اليونس: 64) في جذوع النخل} (طه: 71) يذرؤكم فيه} (الشورى: 11) ، أي يكثركم به. الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتاب النحو. هدى} ، الهدى: مصدر هدي، وتقدم معنى الهداية، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدي حسنة، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية: الهدي لفظ مؤنث، وقال اللحياني: هو مذكر. انتهى كلامه. وهو على وزن فعلى أعني (هدى) ، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجىء من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة، وليس بصحيح، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت: لقيته لقى، وأنشدنا لبعض العرب: وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا

وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين، وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة، مثل ذلك: جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. {للمتقين} المتقي اسم فاعل من اتقى، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس، وافتعل هنا: للاتخاذ أي اتخذ وقاية، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل، وهو: الاتخاذ، والتسبب، وفعل الفاعل بنفسه، والتخير، والخطفة، ومطاوعة أفعل، وفعل، وموافقة تفاعل، وتفعل، واستفعل، والمجرد، والإغناء عنه، مثل ذلك: اطبخ، واعتمل واضطرب، وانتخب، واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع غممته، واجتور، وابتسم، واعتصم، واقتدر، واستلم الحجر. وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف. فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو: قال، والميم في نحو: ملك، وبعضهم يقول: إنها أسماء السور، قاله زيد بن أسلم.

وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا: لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم، هذا إذا جعلناها اسماً للسور، وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أو رُدت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف، ومنه ما لا يمنع الصرف، وتفصيل ذلك في علم النحو.

وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} . والذي نختاره منها أن قوله: {ذلك الكتاب} جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف، وأسوغها في لسان العرب. ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرىء القيس، وشعر الأعشى، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله من أفصح كلام، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه، هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه، فقالوا: يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً. وفي موضع خبر {الم} {ولا ريب} جملة تحتمل الاستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون في موضع خبر لذلك، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر، إذا كان الكتاب خبراً، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين، لأن الأول مفرد والثاني جملة، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا، فعملت عنده النصب والرفع، وتقرير هذا في كتب النحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب، والفتح هو قراءة الجمهور.

وقرأ أبو الشعثاء: {لا ريب فيه} بالرفع، وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع، والمراد أيضاً هنا الاستغراق، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، وصار نظير من قرأ: {فلا رفث ولا فسوق} (البقرة: 197) بالبناء والرفع، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم، ويحتمل نفي الوحدة، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا، أو يكون عملها إعمال ليس، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الإسم ونصبت الخبر، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الإسم خاصة، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الإسم معها، وذلك في مذهب سيبويه، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (البقرة: 197) ، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير، فيه: بضم الهاء، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبي إسحاق: فهو بضم الهاء ووصلها بواو، وجوزوا في قوله: أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش، وخبراً لها مع اسمها على مذهب سيبويه، أن يكون صفة والخبر محذوف، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعموله نحو: لا ضارباً زيداً عندنا، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} وبعضهم جعله على حذف مضاف، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره. وهذه التقادير لا يحتاج إليها. واختيار الزمخشري أن فيه خبر، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال: هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى: {لا فيها غول} (الصافات: 47) ؟ وأجاب: بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: {لا فيها غول} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحداً يفرق بين: ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا، قال علقمة بن عبدة: تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم

وأبعد من ذهب إلى أن قوله: لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى: {هدى للمتقين} أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ، وفيه في موضع الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك، وبقوله لا ريب فيه، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب، أو في موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة، أو الكتاب، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة. والأولى: جعل كل جملة مستقلة، فذلك الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض. فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل، كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين.

ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّمالذي قال فيه: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام: 38) ، فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزا حقيقة لا مجاز فيها، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك: زيد في البيت. الذين يؤمنون بالغيب} : الإيمان: التصديق، {وما أنت بمؤمن لنا} (يوسف: 17) ، وأصله من الأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صدقه، وأمن به: وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء واللام فما آمن لموسى} (يونس: 83) ، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب: مصدر غاب يغيب إذا توارى، وسمي المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب، وخفف نحو: لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في بنات الياء، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو، نحو: سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. ويقيمون الصلاة} والإقامة: التقويم، أقام العود قومه، أو الإدامة أقامت الغزالة سوق الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة: فعلة، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر

يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان في كل ورك عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاه وتحرك فسمي بذلك مصلياً. {وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} من حرف جر. وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة: بذلنا مارن الخطي فيهم وكل مهند ذكر حسام منا أن ذر قرن الشمس حتى أغاب شريدهم قتر الظلام وتأول ابن جني، رحمه الله، على أنه مصدر على فعل من منى يمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال: وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة في. مثل ذلك: سرت من البصرة إلى الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل، {يحلون فيها من أساور من ذهب} (الحج: 22) ، في آذانهم من الصواعق} (البقرة: 19) ، بالحياة الدنيا من الآخرة} (التوبة: 38) ، غدوت من أهلك} (آل عمران: 121) ، قربت منه، ونصرناه من القوم} (الأنبياء: 77) ، يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) ينظرون من طرف خفي} (الشورى: 45) ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40) . ما تكون موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة. مثل ذلك: ما عندكم ينفذ مال هذا الرسول} (الفرقان: 7) ، ما يفتح الله للناس من رحمة} (فاطر: 2) ، مررت بما معجب لك، لأمر ما جدع قصير أنفه، ما أحسن زيداً. رزقناهم} الرزق: العطاء، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته، {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} (النحل: 75) ، وقال: رزقت مالاً ولم ترزق منافعه إن الشقي هو المحروم ما رزقا} {يُنفِقُونَ} ، الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد، والهمزة للتعدية، يقال نفق الشيء نفذ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق، والنافقاء، ونفق..

{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين، أو البدل والنصب على المدح على القطع، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا، أو على موضع المتقين، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل، بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى، أي هدى كائن للمتقين، والرفع على القطع أي هم الذين، أو على الابتداء والخبر.

{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أولئك المتقدمة، وأولئك المتأخرة، والواو مقحمة، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع، إما للنصب، وإما للرفع، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور: يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي هذا عن عاصم، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل: يؤخركم، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الإسم، كمررت بزيد، فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، فيتعين في هذا الوجه المصدر، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل، قالوا: وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه: هذا خلق لله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم، أو على التخفيف من غيب كلين، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز التخفيف، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلاً من كلام العرب. {ويقيمون الصلاة} ، وقالوا: وقد يعبر بالإقامة عن الأداء، وهو فعلها في الوقت المحدود لها. {وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط، وكان حقها أن تكون منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخط، وهنا للتبعيض، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف.

وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد إشعاراً أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر، ومن شيء رزقناهمو لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يجعل ما موصولة لعمومها، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن، وأجاز الفراء زيادتها، مثل ذلك: سرت إلى الكوفة، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: 2) ، السجن أحب إلي} (يوسف: 33) ، والأمر إليك} (النمل: 33) ، والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر، وتكسر للمؤنث، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما، وربما فتحت للمؤنث، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو: ولست بسائل جارات بيتي أغياب رجالك أم شهود} {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو، ومدلول قبل متقدم، كما أن مدلول بعد متأخر. الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف {تلك الدار الآخرة} (القصص: 83) ، ولدار الآخرة} (يوسف: 109) .

وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل. وقرأ الجمهور: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} مبنياً للمفعول، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل. وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل، فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين. وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين. ويحتمل المغايرة في الوصف، فتكون الواو للجمع بين الصفات، ولا تغاير في الذوات بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل، نحو: أنزل المطر، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي، وأبي حيوة، ويزيد بن قطيب، فاعله مضمر، قيل: الله أو جبريل. قالوا: وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله: {ومما رزقناهم} ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، إذ لو جرى على الأول لجاء بما أنزلنا إليك، وما أنزلنا من قبلك، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة، فأقام الأكثر مقام الجميع، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقدم الإيمان بالمتأخر، لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان. وبالآخرة: تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي.

وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك: زيد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الإسم في الكلام بكونه مضمراً، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله: {هم يوقنون} ، ولم يذكر لفظة هم في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون. أولئك: اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم: هو للرتبة الوسطى، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه. وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك، وبني لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين، وبالكسر على أصل التقائهما. إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله: {على هدى} ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو كان مجروراً أو منصوباً، كان أولئك مبتدأ خبره {على هدى} ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به. وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم.

وقرأ ابن هرمز: من ربهم بضم الهاء، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعى فيها سبق كسر أو ياء، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقه أمر الدنيا، ومنها ما متعلقه أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتى بحرف العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أولئك هم الغافلون} (الأعراف: 179) بعد قوله: أولئك كالأنعام} (الأعراف: 179) كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خبراً عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره، والجملة من قوله: هم المفلحون في موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.

وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا} (النجم: 4344) ، وأنه هو أغنى وأقنى} (النجم: 44) ، وقوله: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى} (النجم: 45) ، وأنه أهلك عادا الأولى} (النجم: 50) ، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى: وأنه هو رب الشعرى} (النجم: 49) ، فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن، وذلك أنك إذا قلت: زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له: زيد المنطلق، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت: زيد هو المنطلق. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} .

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ} ، إن: حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد الخبري، فينصب المسند إليه، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور، ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضاً حرف جواب بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك. {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك، وأما سواء الواقع في الاستثناء في قولهم: قاموا سواك بمعنى قاموا غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ، مخالف في المعنى، فهو من باب المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء، وزيد وللاستفهام الصرف، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها، وقد يصحب الهمزة التقرير: {أأنت قلت للناس} (المائدة: 116) ؟ والتحقيق: ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية: سواء عليهم أأنذرتهم} ، والتوبيخ: {أذهبتم طيباتكم} (الأحقاف: 20) ، والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد، وتعاقب حرف القسم الله لأفعلن. الإنذار: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً وإخباراً، ويتعدى إلى اثنين: إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} (النبأ: 40) ، فقل أنذرتكم صاعقة} (فصلت: 13) ، والهمزة فيه للتعدية، يقال: نذر القوم إذا علموا بالعدو. وأم حرف عطف، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة، وإذا انخرم هذان الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة، وتقرير هذا في النحو، ولا تزاد خلافاً لأبي زيد. لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص بالمضارع، اللفظ الماضي معنى، فعمل فيه ما يخصه، وهو الجزم، وله أحكام ذكرت في النحو.

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} الختم: الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب: مصدر قلب، والقلب: اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر، وكني به في القرآن وغيره عن العقل، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه. السمع: مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكني به في بعض المواضع عن الأذن. البصر: نور العين، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة: الغطاء، غشاه أي غطاه، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء التأنيث، كما صححوا اشتقاقه، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون، الأول والثاني مبتدأ، فإنما هو في معنى من تمام صفة المتقين، وسواء وما بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لا موضع له من الإعراب، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر، بجعل سواء المبتدأ والجملة بعده الخبر أو العكس، والخبر قوله: لا يؤمنون، ويكون قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. والوجه الثاني: أن يكون له موضع من الإعراب، وهو أن يكون في موضع خبر إن، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبر بعد خبر على ذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد، ويحتمل أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه، كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} (المائدة: 9) ، أو يكون جملة دعائية وهو بعيد، وإذا كان لقوله تعالى: أأنذرتهم أم لم تنذرهم} موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن، والجملة في موضع رفع على الفاعلية، وقد اعتمد بكونه خبر الذين، والمعنى: إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا اسماً أو ما هو في تقديره، ومذهب هشام

وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة تكون فاعلة، وأجازوا: يعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، أي قيام أحدهما، ومذهب الفراء وجماعة: أنه إن كانت الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها، جاز أن تقع في موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا، ونسب هذا لسيبويه. قال أصحابنا: والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض، وتكون في موضع خبر إن، والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا سواء المبتدأ والجملة الخبر، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ في المعنى والتأويل، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة بالهمزة المعادلة بأم {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} (إبراهيم: 21) ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} (الأعراف: 193) ، وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، اصبروا أو لا تصبروا، سواء عليكم} (الطور: 16) أي أصبرتم أم لم تصبروا، وتأتي بعده الجملة الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء علي أي الرجال ضربت، قال زهير: سواء عليه أي حين أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال: سواء صحيحات العيون وعورها وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة، وإن لم تكن مصدرة بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق فيه اللفظ المعنى، نحو: قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام العرب، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو: علمت أقام زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على علمت، وإن كان ليس ما بعد علمت استفهاماً، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو: على حين عاتبت المشيب على الصبا

إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ المعنى، وهو المصدر، فصحت الإضافة. والمفعول الثاني لأنذر محذوف لدلالة المعنى عليه، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم أم لم تنذرهموه؟ وقرأ الجمهور: غشاوة بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية وإسناد الجملة الابتدائية، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد والحدوث، والإسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه، وتقديم المجرور الذي هو على أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، مع أن فيه مطابقة بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد، وهو منعهم من الإيمان، ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله: {وجعل على بصره غشاوة} ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة، أو إلى عطف أبصارهم على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر، أي بغشاوة، وهو ضعيف. ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، لأن معنى ختم غشي وستر، كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد، وتكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة. وقال أبو علي: وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب: متقلداً سيفاً ورمحاً وقول الآخر: علفتها تبناً وماء بارداً

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. انتهى كلام أبي علي، رحمه الله تعالى. ولا أدري ما معنى قوله: لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر، وكيف تحمل غشاوة المنصوب على ختم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن يكون قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} دعاء عليهم لا خبراً، فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله، ويكون غشاة في معنى المصدر المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب فعله في الدعاء، نحو قولك: رحم الله زيداً وسقياً له، وتكون إذ ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار والمجرور. وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل يقتصر فيه على مورد السماع. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} . من: موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة. يقول: القول: هو اللفظ الموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني، ويقولون في أنفسهم: {لولا يعذبنا الله} (المجادلة: 8) ، وتراكيبه الستة تدل على معنى الخفة والسرعة، وهو متعد لمفعول واحد، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول، وللقول فصل معقود في النحو. {إلا أنفسهم} إلا: حرف، وهو أصل لذوات الاستثناء، وقد يكون ما بعده وصفاً، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء. وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو.

{فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} ، المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، ومنه قيل: فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه. وقيل: المرض: الفساد، وقال أهل اللغة: المرض والألم والوجع نظائر. الزيادة: قبلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى، وقد تستعمل لازماً نحو: زاد المال. {أليم} : فعيل من الألم بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، أو للمبالغة وأصله ألم. كان: فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط، أو عليه وعلى الصيرورة، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً، بمعنى كفل أو غزل: كنت الصبي كفلت، وكنت الصوف غزلته، وهذا من غريب اللغات، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد، وأحكامها مستوفاة في النحو. ومن في قوله: {ومن الناس} للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد.

ومن: في قوله تعالى: {مَن يَقُولُ} نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر. {ويقول} : صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه. وكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله: {من المؤمنين رجال صدقوا} (الأحزاب: 23) قال: إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله: ومن الناس} ، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله: {ومنهم الذين يؤذون النبي} (التوبة: 61) . واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال، لأن الذي يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق يقول: وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره.

والذي نختار أن تكون من موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح. ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جداً، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلاً الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائماً، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكراً، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قال ابن عطية: من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد، لو قلت: ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجر، انتهى كلامه، وما ذكر من أنه لا يرجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ، بل نص النحويون على جواز الجملتين، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى، ثم يرجع إلى الحمل على اللفظ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر: لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي وفي بعض هذه المسائل تفصيل، كما أشرنا إليه. {ويقول} : أفرد فيه الضمير مذكراً على لفظ من، {وآمنا} : جملة هي المقولة، فهي في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعياً للمعنى. والباء في {بمؤمنين} زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء، وجاء القرآن على الأكثر، وجاء النصب في القرآن في قوله: {ما هذا بشراً} (يوسف: 31) وما هنّ أمّهاتهم} (المجادلة: 2) . وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضاً إلا قول الشاعر:

وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها} أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية، بل تزاد في لغة تميم خلافاً لمن منع ذلك، وإنما ادعينا أن قوله: {بمؤمنين} في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو. وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم، جاءت الجملة المنفية إسمية مصدرة بهم، وتسلط النفي على إسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان، إذ لو جاء اللفظ منسحباً على اللفظ المحكي الذي هو: آمناً، لكان: وما آمنوا، فكان يكون نفياً للإيمان الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يردّ الله تعالى عليهم قولهم: آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. وهم في قوله: {وما هم بمؤمنين} عائد على معنى من، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد على المعنى فجمع. وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا} (التوبة: 49) ، ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن} (التوبة: 75) الآية، ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً} (الأحزاب: 31) .

وقراءة الجمهور: يخادعون الله، مضارع خادع. وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع المجرد، ويحتمل قوله: {يخادعون الله} أن يكون مستأنفاً، كأن قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل: يخادعون، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله: يقول آمنا، ويكون ذلك بياناً، لأن قولهم: آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال، وذو الحال الضمير المستكن في يقول، أي: ومن الناس من يقول آمنا، مخادعين الله والذين آمنوا. وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو: بمؤمنين، وذو الحال: الضمير المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعراب خطأ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في لسان العرب: أحدهما: وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك، وليس معنى الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع، بل المعنى: نفي الإيمان عنهم مطلقاً. والطريق الثاني: وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك: أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع.

والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال: ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء. ومن قرأ: وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه، إما على التمييز على مذهب الكوفيين، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي: في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدي بإلى في قوله: {الرفث إلى نسائكم} (البقرة: 187) ، ولا يقال رفث إلى كذا، وكما ضمن هل لك إلى أن تزكى} (النازعات: 18) ، معنى أجذبك، ولا يقال: إلا هل لك في كذا. وفي قراءة: وما يخدعون، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو: قدر الله وقدر، وقد تقدم ذكر معاني فعل. وقراءة من قرأ: وما يخدعون، أصلها يختدعون فأدغم، ويكون افتعل فيه موافقاً لفعل نحو: اقتدر على زيد، وقدر عليه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وهي اثنا عشر معنى، وقد تقدم ذكرها. وما يشعرون} : جملة معطوفة على: وما يخادعون إلا أنفسهم، فلا موضع لها من الإعراب، ومفعول يشعرون محذوف تقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، روي ذلك عن ابن عباس، أو تقديره: هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم، روي ذلك عن زيد. ويحتمل أن يكون وما يشعرون: جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع

لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين. وجاء: يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة، نحو: زيد يدع اليتيم، وعمرو يقري الضيف. {فَزَادَهُمُ} ، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً، والثاني: أنه زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبة الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم مرضاً، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي، وهما: وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكملا بزاد وخاب طاب خاف معاً وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا يعني أنه قد استثنى حمزة، {وإذ زاغت الأبصار} ، في سورة الأحزاب} (الآية: 10) ، {وإذا زاغت عنهم الأبصار} ، في سورة ص،} (الآية: 63) ، فلم يملها. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} .

الأرض: مؤنثة، وتجمع على أرض وأراض، وبالواو والنون رفعاً وبالياء والنون نصباً وجراً شذوذاً، فتفتح العين، وبالألف والتاء، قالوا: أرضات، والأراضي جمع جمع كأواظب. إنما: ما: صلة لأن وتكفها عن العمل، فإن وليتها جملة فعلية كانت مهيئة، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل الأصول إنها للحصر، وكونها مركبة من ما النافية، دخل عليها إن التي للإثبات فأفادت الحصر، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيداً قائم، وإنما زيد قائم، وإذا فهم حصر، فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى: {إنما أنت منذر} (الرعد: 7) ، قل إنما أنا بشر} (الكهف: 110) ، إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: 45) . وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع من لسان العرب، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع.

{نحن} : ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو لمعظم نفسه، وفي اعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو. {ألا} : حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً، كقوله تعالى: {أليس ذلك بقادر} (القيامة: 40) ، ولكونها من المنصب في هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقال ذلك الزمخشري. والذي نختاره أن ألا التنبيهية حرف بسيط، لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لا النافية دلالة على تحقق ما بعدها، إلى آخره خطاً، لأن مواقع ألا تدلّ على أن لا ليست للنفي، فيتم ما ادعوه، ألا ترى أنك تقول: ألا إن زيداً منطلق، ليس أصله لا أن زيداً منطلق، إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى: أليس ذلك بقادر} (القيامة: 40) ، لصحة تركيب، ليس زيد بقادر، ولوجودها قبل رب وقبل ليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا نافية، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق، قام امرؤ القيس: ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل} وقال الآخر: ألا ليت شعري كيف حادت وصلها وكيف تراعي وصلة المتغيب وقال الآخر: ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي وقال الآخر: ألا يا قيس والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه. وأما قوله: لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح، برب، وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا، في قوله: ألا حبذا هند وأرض بها هند

ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامة ألا هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وتكون أيضاً حرف عرض فيليها الفعل، وإن وليها الاسم فعلى إضمار الفعل، وحرف جواب بقول القائل: ألم تقم فتقول: ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب كتاب «وصف المباني في حروف المعاني» قال: وهو قليل شاذ، وأما ألا التي للتمني في قولهم: إلا ماء، فذكرها النحاة في فصل لا الداخل عليها الهمزة. لكن: حرف استدراك، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز، أو خلافاً ففي الجواز خلاف، وفي التصحيح خلاف. وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس، وحكى ذلك غيره عن الأخفش، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} (آل عمران: 198) ، لكن الله يشهد} (النساء: 166) ، وفي كلام العرب: إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله لكن وقائعه في الحرب تنتظر} وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو. الكاف: حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر، وتكون زائدة وموافقة لعلى، ومن ذلك قولهم: كخبر في جواب من قال كيف أصبحت، ويحدث فيها معنى التعليل، وأحكامها مذكورة في النحو.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} جملة شرطية، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافاً ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم، ويحتمل أن يكون كلاماً، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة. وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، لأنها معطوفة على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم. وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءاً من الكلام، وهذا الوجه الذي أجازاه على أحد وجهي ما من قوله بما كانوا يكذبون خطأ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما، وقوله: وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما، فبطل أن يكون معطوفاً عليه، إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم بالذي كانوا، {إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} ، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد. وأما وجهها الآخر، وهو أن تكون ما مصدرية، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه. وأما على مذهب الجمهور، فهذا الإعراب شائع، ولم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفاً على يكذبون، أو على يقول، وزعما أن الأول وجه، وقد ذكرنا ما فيه، والذي نختاره الاحتمال الأول، وهو أن تكون الجملة مستأنفة، كما قررناه، إذ هذه الجملة والجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب. ألا ترى قولهم: {إنما نحن مصلحون} ، وقولهم: {أنؤمن كما آمن السفهاء} ، وقولهم عند لقاء المؤمنين {آمنا} كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملاً مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون

مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسماً، ومتممة لمعناه إن كان حرفاً. والجملة بعد إذا في موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في الآية منصوبة بقوله: {إنما نحن مصلحون} . والذي نختاره أن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملاً على متى منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجهور جواز: إذا قمت فعمر وقائم، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا الفجائية جواباً لإذا الشرطية، قال تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم} (يونس: 21) إذا لهم مكر في آياتنا، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القول هنا للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول، أو بعض المؤمنين، وكل من هذا قد قيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: لا تفسدوا في الأرض} ، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين.

وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى: حتى توارت بالحجاب سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له. وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجمة التي هي: لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم بل يوجد في الإسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر الت ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى: {الحمد لله.

وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: {إنما نحن مصلحون، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال: أحدها:} قول ابن عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهد وهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. والخامس:} أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا: {إنما نحن مصلحون باجتناب ما نهينا عنه. ويحتمل هم أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم وإن كان فصلاً، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبراً لأن، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره. والجملة خبر لأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله: {وأولئك هم المفلحون. قالوا: ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون، أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتقطع التوبة، والأولى الأول. والكلام على قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا، كالكلام على قوله تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من قوله: من يقول، أو عطفها على يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ كَمَآءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} ، السفه: الخفة. ومنه قيل للثوب الخفيف النسخ سفيه، وفي الناس خفة الحلم، قاله ابن كيسان، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم، قاله مؤرج، أو الظلم والجهل، قاله قطرب. والسفهاء جمع سفيه، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها، وهو القياس لأجل اسم الفاعل. قالوا: ونقيض السفه: الرشد، وقيل: الحكمة، يقال رجل حكيم، وفي ضده سفيه، ونظير السفه النزق والطيش.

والكاف من قوله: {كما آمن الناس} في موضع نصب، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم: آمنوا إيماناً كما آمن الناس، وكذلك يقولون: في سير عليه شديد، أو: سرت حثيثاً، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير: سير عليه سيراً شديداً، وسرت سيراً حثيثاً. ومذهب سيبويه، رحمه الله، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها. وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتب ومهندس، أو واقعة خبراً، نحو: زيد قائم، أو حالاً، نحو: مررت بزيد راكباً، أو وصفاً لظرف، نحو: جلست قريباً منك، أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: الأبطح والأبرق. وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف، ولا يكتفي عن الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع: ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز: ولو بارداً، لأنه حال، وتقرير هذا في كتب النحو. وما، من: {كما آمن الناس} ، مصدرية التقدير كإيمان الناس، فينسبك من ما، والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف، أو حال على القولين السابقين، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر: بما لستما أهل الخيانة والغدر ولا توصل بالجملة الإسمية خلافاً لقوم، منهم: أبو الحجاج الأعلم، مستدلين بقوله: وجدنا الحمر من شر المطايا كما الحبطات شر بني تميم

وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء في ما من قوله: كما آمن، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في: ربما قام زيد، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية، وقد أمكن ذلك في: كما آمن الناس، فلا ينبغي أن تجعل كافة. والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس، فكأنه قال: الكاملون في الإنسانية، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة، ومن عداهم صورته صورة الناس، وليس من الناس لعدم تمييزه، كما قال الشاعر: ليس من الناس ولكنه يحسبه الناس من الناس

ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، ويعني به رسول الله صلى الله عليه وسلّموأصحابه، قاله ابن عباس، أو عبد الله بن سلام، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله مقاتل، أو معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي. والأولى حملها على العهد، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان. والتشبيه في: {كما آمن الناس} إشارة إلى الإخلاص، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها. أنؤمن: معمول لقالوا، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء. ولما كان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم: {أنؤمن كما آمن السفهاء} ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في: {كما آمن الناس} . والألف واللام في السفهاء للعهد، فيعني به الصحابة، قاله ابن عباس؛ أو الصبيان والنساء، قاله الحسن، أو عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله مقاتل، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين، أو الكاملون في السفه، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم. وأبعد من ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو: العيوق والدبران، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، فصاروا إذا قيل: السفهاء، فهم منه ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص. ويحتمل قولهم: {كما آمن السفهاء} أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق، وهم كانوا في رئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به

السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفه عندهم. وفي قوله: {كما آمن السفهاء} إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلام ورجحان العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم. وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو: (السفهاء ألا) ، ففي ذلك أوجه: أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر. والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو: أواتي مضارع آتي، فاعل من أتيت، وجؤن تقول: أواتي وجون، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو عمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً. وأجاز قوم وجهاً خامساً: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو، وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف، والألف لا تقع بعد الضمة، والأعاريب الثلاثة التي جازت في: هم، في قوله: {هم المفسدون} ، جائزة في: هم، من قوله: {هم السفهاء} .

{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} اللقاء: استقبال الشخص قريباً منه، والفعل منه لقي يلقى، وقد يقال: لاقى، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرّد، وسمع للقى أربعة عشر مصدراً، قالوا: لقى، لقيا، ولقية، ولقاة، ولقاء، ولقاء، ولقى، ولقي، ولقياء، ولقياء، ولقيا، ولقيانا، ولقيانة، وتلقاء. الخلو: الانفراد، خلا به أي انفرد، أو المضي، {قد خلت من قبلكم سنن} (آل عمران: 137) . الشيطان، فيعال عند البصريين، فنونه أصلية من شطن، أي بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أمية: أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال} وقال رؤبة: وفي أخاديد السياط المتن شاف لبغي الكلب المشيطن ووزنه فعلان عند الكوفيين، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك، قال الشاعر: قد تظفر العير في مكنون قائلة وقد تشطو على أرماحنا البطل والشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة، قال الشاعر: هي البازل الكوماء لا شيء غيرها

وشيطانة قد جن منها جنونها وشياطين: جمع شيطان، نحو غراثين في جمع غرثان، وحكاه الغراء، وهذا على تقدير أن نونه زائدة تكون نحو: غرثان، مع اسم معناه الصحبة اللائقة بالمذكور، وتسكينها قبل حركة لغة ربيعة وغنم، قاله الكسائي. وإذا سكنت فالأصح أنها اسم، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف الوصل، فالفتح لغة عامّة العرب، والكسر لغة ربيعة، وتوجيه اللغتين في النحو، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبراً عن الجثة والأحداث، وإذا أفرد نوّن مفتوحاً، وهي ثلاثي الأصل من باب المقصور إذ ذاك لا من باب يد، خلافاً ليونس، وأكثر استعمال معاً حال، نحو: جميعاً، وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان نصاً، وجميع تحتمله. وقد سأل أحمد بن يحيى أحمد بن قادم عن الفرق بين: قام عبد الله وزيد معاً، وقام عبد الله وزيد جميعاً، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرق ابن يحيى: بأن جميعاً يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد، وأما إذا قلت: معاً، فيكون في وقت واحد. قرأ ابن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: وإذا لاقوا الذين، وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد معاني فاعل الخمسة، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو وقيل: بمعنى الباء، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وهذا ضعيف، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه، والخليل، وتقرير هذا في النحو. {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} يعمهون: جملة في موضع الحال، نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقاً بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم، قال: لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه.

وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو: لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد، كما ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل، أو معطوفاً، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة. قال بعضهم: إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل في ظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن الفعل الصادر من فاعل، أو الواقع بمفعول، يستحيل وقوعه في زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد، إلا إن كانا ضدين، أو نقيضين. فيجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكاً راكباً، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين. فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد، والعامل فيهما واحد. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .

الاشتراء والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياض منه، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد المعاني التي جاء لها افتعل. الربح: هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال. التجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف في المال لطلب النموّ والزيادة. المهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة، هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم. والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي، وقد وهم من زعم أنها تكون من اللازم، وأن ذلك قليل فيها، مستدلاً بقول الشاعر: حتى إذا اشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر لأن افتعل في البيت بمعنى، فعل. تقول: شال يشول، واشتال يشتال بمعنى واحد، ولا تتعقل المطاوعة، إلا بأن يكون المطاوع متعدياً. أولئك: اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السّفه للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار. وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح. ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين، نحو: {وأن لو استقاموا} (الجن: 16) ، ووجه الفتح إتباعها لحركة الفتح قبلها. وأمال حمزة والكسائي الهدى، وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. والاشتراء هنا مجاز كني به عن الاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشترى، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك، وهذا مفقود هنا.

وعطف: {فما ربحت} ، بالفاء، يدل على تعقب نفي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح. وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله: {فما ربحت تجارتهم} دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله {الذين ينفقون أموالهم} (البقرة: 274) ، وقع الجواب بالفاء في قوله: فلهم أجرهم} (البقرة: 274) ، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كما تدخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله: فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعلية معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: فلهم أجرهم} خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك. ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراً عنه. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافاً لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الإسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيداً تغليباً للخبر، لا للحال.

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} . لما: حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفاً بمعنى حين عند الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف وجوب لوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما، ولمجيء جوابها مصدراً بإذا الفجائية. الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة. وحوله: ظرف مكان لا ينصرف، ويقال: حوال بمعناه، ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تنصرف وتلزم الإضافة. والرجوع، إن لم يتعد، فهو بمعنى: العود، وإن تعدى فبمعنى: الإعادة. وبعض النحويين يقول: إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر. {مثلهم} : مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية: الخبر الكاف، وهي على هذا اسم، كما هي في قول الأعشى: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل انتهى. وهذا الذي اختاره ينبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز أن تكون الكاف اسماً في فصيح الكلام، وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذي اختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله: فصيروا مثل: {كعصف مأكول} (الفيل: 5) . وحمله على ذلك، والله أعلم، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى من في الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظاً وإن كان في المعنى نعتاً لما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد ناراً كأحد التأويلين في قوله: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

ولا يحمل على المفرد لفظاً ومعنى بجمع الضمير في {ذهب الله بنورهم} ، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به. ألا ترى جمعه في قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} (التوبة: 69) على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الذي قاموا بأطراف المسد

وأما قول الفارسي: إنها مثل مَن، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر أبداً وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} ، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما: أن الذي لكونه صلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تخطى العامل إلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال: والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعاً إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنياً التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً.

وقرأ ابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي: كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً تصبه على رغم عواقب ما صنع الثاني: أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن: وبالبدو منا أسرة يحفظوننا سراع إلى الداعي عظام كراكره أي كراكرهم. والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} (يوسف: 35) أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما:} أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر: ولو أن ما عالجت لين فؤادها فقسا استلين به للآن الجندل

يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنى، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى الواقعة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع. والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره أن استوقد فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله: {فما ربحت تجارتهم} ، فأغنى عن إعادته هنا.

وأضاءت: قيل متعد وقيل لازم ومتعد، قالوا: وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعدياً كانت الهمزة فيه للنقل، إذ يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بن عبد المطلب، في النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، وإذا كان لازماً فقالوا: إن الضمير في أضاءت للنار، وما زائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى، أي: فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في قولهم: ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذا أولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلساً حسناً، ولا قمت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنى محفوظ، كما ذكرناه، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى.

وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فلما ضاءت ثلاثياً فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة وإما موصوفة، كما تقدم، ولما جوابها: {ذهب الله بنورهم} ، وجمع الضمير في: بنورهم حملاً على معنى الذي، إذ قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفاً لفهم المعنى، كما حذفوه في قوله: {فلما ذهبوا به وأجمعوا} (يوسف: 15) ، الآية. قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه، انتهى. وقوله: لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة في قوله: فلما أضاءت ما حوله} ، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله: {فلما ذهبوا به} ، فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغاً لاستطالة الكلام. وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضاً غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون {ذهب الله بنورهم} هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئاً يبادر إلى الفهم وأضمرت شيئاً يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب {ذهب الله بنورهم} .

ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ، فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله: {ذهب الله بنورهم} بدلاً من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} ، فجعله {ذهب الله بنورهم} بدلاً من هذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية، فقد ذكروا جوازه. ذلك. أما أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك، والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها، ومن جعل الجواب محذوفاً جعل الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت: خرجت بزيد؛ فمعناه: أخرجت زيداً، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيداً، لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي، قال: تدخل الباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار، ودخلت به، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته. فلا

بد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت: قعدت به، ودخلت به. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها. والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر: ديار التي كانت ونحن على منى تحل بنا لولا نجاء الركائب أي تحلنا، ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالاً غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراماً، فتصير حلالاً بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، ولقوله تعالى: {تنبت بالدهن} (المؤمنون: 20) ، في قراءة من جعله رباعياً تخريج يذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى. ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة.

وقرأ الجمهور: {في ظلمات} بضم اللام، وقرأ الحسن، وأبو السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها. وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو: كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفاً نحو: درة، أو معتل العين نحو: سورة، أو وصفاً نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم: إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوازاً، وإليه في نحو: جفنة وجوباً. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات. وتكررت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون: في ظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، {ولا يبصرون} في موضع الحال أيضاً، إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور فيكون حالاً متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيداً منفرداً لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد،

إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار. فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرىء القيس: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكداً، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه. قرأ الجمهور: {صم بكم عمي} ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية، لكنها في موضع خبر واحد. وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صماً بكماً عمياً، بالنصب، وذكروا في نصبه وجوهاً: أحدها: أن يكون مفعولاً ثانياً لترك، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم، أو في موضع الحال، ولا يبصرون. حال. الثاني: أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما وقد أخذتهما. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: أعني. الرابع: أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر. الخامس: أن يكون منصوباً على الذم، صماً بكماً، فيكون كقول النابغة: أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع

وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله: {فلما أضاءت ما حوله} ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه: أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الإسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم. فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها. {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكفِرِينَ} .

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} . أو، لها خمسة معان: الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول: أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي: أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت للشك، فقد تكون في الخبر، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب. وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علماً بأن أو ليست معتمدة هنا. ووزن صيب فيعل عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم: صيقل بكسر القاف علم لامرأة، وليس وزنه فعيلاً، خلافاً للفراء. وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا.

{يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكفِرِينَ} . جعل: يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى لواحد، وبمعنى صير أو سمى فيتعدى لاثنين، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورة في بابها. الأصبع: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، وذكروا فيها تسع لغات وهي: الفتح للهمزة، وضمها، وكسرها مع كل من ذلك للباء. وحكوا عاشرة وهي: أصبوع، بضمها، وبعد الباء واو. وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام، فإن بعض بني أسد يقولون: هذا إبهام، والتأنيث أجود، وعليه العرب غير من ذكر. الأذن: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا: أذينة، ولا تلحق في العدد، قالوا: ثلاث آذان، قال أبو ثروان في أحجية له: ما ذو ثلاث آذان يسبق الخيل بالرديان يريد السهم وآذانه وقدده.

أو كصيب: معطوف على قوله: {كمثل الذي استوقد} (البقرة: 17) ، وحذف مضافان، إذ التقدير: أو: كمثل ذوي صيب، نحو قوله تعالى: كالذي يغشى عليه من الموت} (الأحزاب: 19) ، أي كدوران عين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وإن المعنى أيهما شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه، ولا إلى أن أو للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون هنا. ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمتخاطبين، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها للإبهام، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه. وهذه جملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنى بل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل. والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع. والجملة من قوله: {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك أيضاً صم بكم عمي} (البقرة: 18) إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين. فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد منع ذلك أبو علي، وردّ عليه بقول الشاعر: لعمرك والخطوب مغيرات وفي طول المعاشرة التقالي} لقد باليت مظعن أمّ أوفى ولكن أمّ أوفى لا تبالي ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض. {من السماء} متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون في موضع الصفة فتعلق بمحذوف، وتكون من إذ ذاك للتبعيض، ويكون على حذف مضاف التقدير، أو كمطر صيب من أمطار السماء.

و {ظلمات} : مرتفع بالجار والمجرور على الفاعلية، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله: {من السماء} ، إما تخصيص العمل، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب {من السماء} ، وأجازوا أن يكون {ظلمات} مرفوعاً بالابتداء، وفيه في موضع الخبر. والجملة في موضع الصفة، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن تكون من قبيل الجمل، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد. الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون، وقل: الجملة لها موضع من الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل: جاعلين، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف نابت الألف واللام عنه التقدير من صواعقه، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً، هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله: {من الصواعق} هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفاً لجاز، كقول الله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 207 و 265) وتثبيتاً من أنفسهم} (البقرة: 265) ، وقول الراجز: يركب كل عاقر جمهور مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الهبور وقالوا أيضاً: يجوز أن يكون مصدراً، أي يحذرون حذر الموت، وهو مضاف للمفعول. وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبي ليلى: حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا: وانتصابه على أنه مفعول له. وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين هما: {يجعلون أصابعهم} ، و {يكاد البرق} ، وهما من قصة واحدة.

{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَرَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} . يكاد: مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان: فعل كما ذكرنا، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون إناث ضموا الكاف فقالوا: كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر: وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي

وكيد خراش عند ذلك ييتم يريد، وكادت، وكاد، وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا: كاد، وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولها باب معقود في النحو، وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه «شرح جمل الزجاجي» وقال بعض المفسرين: يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، وقد أنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره، والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. كل: للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل: هو تنوين الصرف، وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش، والفارسي، وربما انتصب حالاً، والأصل فيها أن تتبع توكيداً كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً، وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه. وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العوامل اللفظية، وإذا ابتدىء بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائد أو معنى لا لفظاً، فالأصل، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة. وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بـ «التذكرة» ، وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيراً. {لو} : عبارة سيبويه، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع. وتكون لو أيضاً شرطاً في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم بها خلافاً لقوم، قال الشاعر: لا يلفك الراجوك إلا مظهراً خلق الكرام ولو تكون عديماً

وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم} (البقرة: 167) ، إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً لزاعم ذلك. شاء} : بمعنى أراد، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى، وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري: ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد، يعني حذف مفعوليهما، قال: لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله: فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} (الأنبياء: 17) ، ولو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى} (الزمر: 4) ، انتهى كلامه. قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله: فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً، كان الأحسن أن يذكر نحو: لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكراً فالحذف نحو: لو شئت قمت. وفي التنزيل: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} (الأنفال: 31) ، انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري. وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه، فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهما أكثر. فأحدهما} الحذف ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد، وهو الخبر في نحو: لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى. والثاني: أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو قوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} (الأنبياء: 17) ، وقول الشاعر:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف، نحو قوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} (المدثر: 37) . الجملة من قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} لا موضع لها من الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ، ويحتمل أن تكون في موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم، والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة في قوله: {فيه ظلمات ورعد وبرق} (البقرة: 19) ، فصار نظير: لقيت رجلاً فضربت الرجل، وقوله تعالى: أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) . وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيى بن زيد: يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد: وأظنه غلطاً واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة} (الصافات: 10) . وقال الزمخشري: الفتح، يعني في المضارع أفصح، انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر. قال ابن عطية، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود: يختطف. وقرأ أبي: يتخطف. وقرأ الحسن أيضاً: يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضاً، والجحدري، وابن أبي إسحاق: يخطف، بفتح الياء، والخاء وتشديد الطاء المكسورة، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضاً، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة: يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضاً الحسن، والأعمش: يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي: يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة من خطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة: يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير

حد التقائهما. فهذا الحرف قرىء عشر قراءات: السبعة يخطف، والشواذ: يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذاً، كما حذفها مع التاء قياساً. يخطف يخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها، فإما بحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر. وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألة إدغام اختصم به، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم التصريف. ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال: يكاد ذلك يصيبهم. ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال: المعنى يكاد ذلك يبهرهم. وكل: منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت: ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدّة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذر لله شارق، فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب. وما أضاء: في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضاً، معناه: كل وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا: جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله: مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق. وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل أظلم أن لا يتعدى، يقال: أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم فاعله. قال الزمخشري: أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي: هما أظلما حاليّ ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس بقول أبي تمام: هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدى بحرف جر. ألا ترى كيف عدي أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل: وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو: غضب زيد على عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول: غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك: وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب: من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولاً وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟ ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في: {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) ، هذا السياق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .

يا: حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها: أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادى بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادى. أي: استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافاً لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون: يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة. وعطف قوله: {والذين من قبلكم} على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.

وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي: {والذين من قبلكم} فتح ميم من، قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله: من النفر اللائي الذين أذاهم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذاهم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله: {من قبلكم} ، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم.

والموصول الثاني في قوله: {الذي جعل} يجوز رفعه ونصبه، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، فهو رفع على القطع، إذ هو صفة مدح، قالوا: أو على أنه مبتدأ خبره قوله: {فلا تجعلوا لله أنداداً} ، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أن صلة الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا يناسب دخول الفاء في الخبر. الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و {فلا تجعلوا لله أنداداً} جملة خبرية، والرابط لفظ الله من لله كأنه قيل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} ، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول: زيد قام أبو عمرو، إذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه على منع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم، وهو ربكم، قالوا: ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله: {الذي خلقكم} ، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت. والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول، نحو قولك: يا أيها الفارس ذو الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضاً نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر، لأن العطف أصله المغايرة. وجعل: بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض. وفراشاً، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال، على أن يكون جعل بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد.

والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به: والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي. ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري. {من الثمرات} من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو: {كم تركوا من جنات} (الدخان: 25) ، وثلاثة قروء} (البقرة: 228) ، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله: لنا الجفنات الغر يا معن في الضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما} بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج. و {لكم} : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديباً له، أي تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائناً لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً.

النهي متعلق بالأمر في قوله: {اعبدوا ربكم} ، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد. قال الزمخشري: متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطّلع في قوله: {لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطَّلع إلى إله موسى} (غافر: 36 37) ، في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهى كلامه. فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي، وهو لا يجوز على مذهب البصريين، إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي. فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين. ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تجعلوا له أنداداً. {وأنتم تعلمون} : جملة حالية، ومفعول تعلمون متروك. لا تنوب إنّ ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب مناب مفعوليها، ولذلك سر ذكر في علم العربية. {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ} .

{إن} : حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً، وهو أصل أدواته، وحرف نفي، وفي إعماله أعمال ما الحجازية خلاف، وزائداً مطرداً بعد ما النافية، وقبل مدة الإنكار، ولا تكون بمعنى إذ خلا لزاعمه، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد: لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان، وهو راجع لمعنى العبادة، وتقدم شرحها. الإتيان: المجيء، والأمر منه: ائت، كما جاء في لفظ القرآن، وشذ حذف فائه في الأمر قياساً واستعمالاً، قال الشاعر: ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها وقال آخر: فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم فتونا قفوا دونا إذن بالجرائم من مثله: المماثلة تقع بأدنى مشابهة، وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، أن: مررت برجل مثلك، يحتمل وجوهاً ثلاثة، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله: ومثلك من يملك الناس طراً على أنه ليس في الناس مثل ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين. وله في باب الصفة، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع، حكم ذكر في النحو. {دون} : ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية، ولا يتصرف فيه بغير من. قال سيبويه: وأما دونك فلا يرفع أبداً. قال افراء: وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على اختيار، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش: جواز تصرفه، خرج قوله تعالى، {ومنا دون ذلك} (الجن: 11) على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً، قال الشاعر: ألم ترني أني حميت حقيبتي وباشرت حد الموت والموت دونها}

وتجيء دون صفة بمعنى رديء، يقال: ثوب دون، أي رديء، حكاه سيبويه في أحد قوليه، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركاً. {لن} : حرف نفي ثنائي الوضع بسيط، لا مركب من لا إن خلافاً للخليل في أحد قوليه، ولا نونها بدل من ألف، فيكون أصلها لا خلافاً للفرّاء، ولا يقتضي النفي على التأييد خلافاً للزمخشري في أحد قوليه، ولا هي أقصر نفياً من لا إذ لن تنفي ما قرب، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافاً لزاعمه، ولا يكون دعاء خلافاً لزاعمه، وعملها النصب، وذكروا أن الجزم بها لغة، وأنشد ابن الطراوة: لن يخب الآن من رجائك من حرك دون بابك الحلقة ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو، ولما كانوا في ريب حقيقة، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها: إذاً، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكماً ليست لغيرها من الأفعال الماضية، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد، إما على إضمار يكن بعد إن نحو: {إن كان قميصه قدّ} (يوسف: 26) أي إن يكن كان قميصه، أو على أن المراد به التبيين، أي أن يتبين كون قميصه قدّ. فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضياً، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول. ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وما موصولة، أي من الذي نزلنا، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة.

و {نزلنا} لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا: مات المال، وموت المال، إذا كثر ذلك فيه، وأيضاً، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا، و {نزلنا} قبل التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير، وقد دخل على اللازم، بقي لازماً نحو: مات المال، وموّت المال. فمن: للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله. وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن، أو في غيوبه وصدقه، وأجازا على هذا الوجه أيضاً أن تكون زائدة. وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين. فمن متعلقة بقوله: فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وهي أيضاً لابتداء الغاية، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول، أي ابتداء كينونتها من مثله.

قال الزمخشري: لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولا يلزم ما قال الزمخشري، لأنه لو قيل: فإن لم تأتوا ولن تأتوا، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا. ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم، قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.

وفي قوله: {ولن تفعلوا} إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة. أحدهما: صحة كون المتحدى به معجزاً، الثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين عليه، فإذا لم ينقل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزة. وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما، فلم يقصدوا به المعارضة، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك، فأتوا من ذلك باللفظ الغث، والمعنى السخيف، واللغة المهجنة، والأسلوب الرذل، والفقرة غير المتمكنة، والمطلع المستقبح، والمقطع المستوهن، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير ما ادّعوا أنه وحي، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك: فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء، فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله: {ولن تفعلوا} جملة اعتراض، فلا موضع لها من الإعراب، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى، لأنه لما قال: فإن لم تفعلوا، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجاً ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه. واقتران الفعل بلن مميز لجملة الإعتراض من جملة الحال، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا، وإن كانتا أختين في نفي المستقبل، لأن في لن توكيداً وتشديداً، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً، كما تفعل في: أنا مقيم، وإنني مقيم، قاله الزمخشري، وما ذكره هنا مخالف لما حكى عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكي من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد النفي فيها، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.

وهذه الأقوال، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب: أقاويل المتأخرين، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال سيبويه، رحمه الله: ولن نفي لقوله: سيفعل، وقال: وتكون لا نفياً لقوله: تفعل، ولم تفعل، انتهى كلامه. ويعني بقوله: تفعل، ولم تفعل المستقبل، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال. فلن أخص، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً. ولذلك وقع الخلاف في لا: هل تختص بنفي المستقبل، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه، رحمه الله، هنا أنها لا تنفي الحال، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا، فهو للإنشاء، وإذا كان للإنشاء فهو حال، فيفيد كلام سيبويه في قوله: وتكون لا نفياً لقوله يفعل، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري: أولاً: من أن فيها توكيداً وتشديداً لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له، ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلاً، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون، فلهذا كله ترجح النفي بلن على النفي بلا. {فاتقوا النار} جواب للشرط.

والجملة من قوله: {أعدت للكافرين} في موضع الحال من النار، والعامل فيها: فاتقوا، قاله أبو البقاء، وفي ذلك نظر، لأن جعله الجملة حالاً يصير المعنى: فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين، وهي معدّة للكافرين، اتقوا النار أو لم يتقوها، فتكون إذ ذاك حالاً لازمة. والأصل في الحال التي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب، وكأنها سؤال جواب مقدّر كأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل: لمن أعدت؟ فقيل: أعدت للكافرين. {وَبَشِّرِ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} . تحت: ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من، نص على ذلك أبو الحسن. قال العرب: تقول تحتك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت. والجملة في قوله: وبشر معطوفة على ما قبلها، وليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال: الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين، انتهى كلامه. أن يكون وبشر في موضع الحال، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على ما قبلها، وإن لم تتفق معاني الجمل، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح، وقد استدل لذلك بقول الشاعر: تناغى غزالاً عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد وبقول امرىء القيس: وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معوّل

وأجاز سيبويه: جاءني زيد، ومن أخوك العاقلان، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء و {الصالحات} : جمع صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال الحطيئة: كيف الهجاء وما ينفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم، و {بشر} يتعدى لمفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله: {أن لهم جنات} هو في موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياساً مطرداً، واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي: أن موضعه جر، ومذهب سيبويه والفراء: أن موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو. والألف واللام في {الأنهار} للجنس، قال الزمخشري: أو يراد أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شيباً} (مريم: 4) ، وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضاً من الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى: مفتحة لهم الأبواب} (ص: 50) ، أي أبوابها. وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفاً، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللام عوضاً من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر: قطوب رحيب الجيب منها رقيقة بجس الندامى بضة المتجرد} ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة في سورة القتال.

والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب: نصب على تقدير كونه صفة للجنات، ورفع: على تقدير خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل هذا وجهين: إما أن يكون المبتدأ ضميراً عائداً على الجنات، أي هي {كلما رزقوا منها} ، أو عائداً على {الذين آمنوا} ، أي هم كلما رزقوا، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر بالمفرد، فهي مفتقرة إلى الموصوف، أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام. وأجاز أيضاً أن تكون حالاً من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري، فقربت من المعرفة، وتؤول أيضاً إلى الحال المقدرة. والأصل في الحال أن تكون مصاحبة، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء. ومن: في قوله: منها، هي لابتداء الغاية، وفي: {من مثمرة} كذلك، لأنه بدل من قوله: منها، أعيد معه حرف كقوله تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} (الحج: 22) ، على أحد الاحتمالين، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل، كما ذكرناه، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف، أو على طريقة البدل، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله: من ثمرة، ولم يفصح بالبدل، لكن تمثيله يدل على أنه مراده، وأجاز أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً، تريد أنت أسد، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك، ولو فرضنا مجيء من للبيان، لما صح تقديرها للبيان هنا، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة، إن كان قبلها معرفة، نحو: فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) ، أي الرجس

الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة، فهو يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أي هو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بياناً له، لا نكرة ولا معرفة، إلا إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما رزقوا منها رزقاً من ثمرة، فتكون من مبينة لرزقاً، أي: رزقاً هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداء الغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك. {قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} ، قالوا: هو العامل في كلما، وهذا الذي: مبتدأ معمول للقول. فالجملة في موضع مفعول. ومن متعلقة برزقاً، وهي لابتداء الغاية. وقيل: مقطوع عن الإضافة، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله: أي من قبل المرزوق. وقال بعض المفسرين: معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، فعلى هذا القول يكون المبتدأ، هو نفس الخبر، ولا يكون التقدير مثل. وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضاً مجاز، إلا أن هذا المجاز أكثر وأسوغ. ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام. وانتصب متشابهاً على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمه، لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا.

فقال تعالى: {ولهم فيها أزواج} والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة. كما اخترنا في قوله: {كلما رزقوا} لأن جعلها استئنافاً يكون في ذلك اعتناء بالجملة، إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل. وارتفاع أزواج على الابتداء، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه من الاستئناف أيضاً، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي: مطهرات، فجمع بالألف والتاء على طهرن. قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه بيت الحماسة: وإذا العذارى بالدخان تقنت واستعجلت نصب القدور فملت {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأٌّرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَتًا فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} .

أن: حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر، وعمله في المضارع النصب، إن كان معرباً، والجزم بها لغة لبني صباح، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف، وذكروا أنها توصل بالأمر، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء. وأجاز بعضهم الفصل بالظرف، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط. وأجازوا أيضاً إلغاءها وتسليط الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها، ومنعه الجمهور. وأحكام أن الموصولة كثيرة، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيراً، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} (البقرة: 125) ، إن شاء الله تعالى. وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد لما، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد، خلافاً لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدت قبله، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب، ولا تكون أن للمجازاة خلافاً للكوفيين، ولا بمعنى أن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافاً للفارسي، ولا للنفي، ولا بمعنى إذ، ولا بمعنى لئلا خلافاً لزاعمي ذلك. وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع، وسأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر، إن شاء الله تعالى.

والبعوضة: واحد البعوض، وهي طائر صغير جداً معروف، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع. أما: حرف، وفيه معنى الشرط، وبعضهم يعبر عنها بحرف تفصيل، وبعضهم بحرف إخبار، وأبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا: أيما. وقال سيبويه في تفسير أما: أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها، إلا إن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء، وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقاً لسيبويه وأبي عثمان، وخلافاً للمبرد وابن درستويه، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء. ومسألة أما علماً، فعالم يلزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو. ماذا: الأصل في ذا أنها اسم إشارة، فمتى أريد موضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات غير الذي ذكرناه أولاً: أحدها: أن تكون ما استفهاماً وذا موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح، وبدليل رفع البدل قال الشاعر: ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضي أم ضلال وباطل الثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه: إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً، ويدل على هذا الوصف وقوع الإسم جواباً لها منصوباً في الفصيح، وقول العرب: عماذا تسأل بإثبات ألف ما، وقول الشاعر: يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم لا يستفقن إلى الديرين تحتانا ولا يصح موصولية ذا هنا، الثالث: أن تكون ما مع ذا اسماً موصولاً، وهو قليل، قال الشاعر: دعي ماذا علمت سأتقيه

ولكن بالمغيب نبئيني فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا: وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إن كان مما يمكن أن يتسلط. وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه: دعي ماذا علمت. كيف: اسم، ودخول حرف الجر عليها شاذ، وأكثر ما تستعمل استفهاماً، والشرط بها قليل، والجزم بها غير مسموع من العرب، فلا نجيزه قياساً، خلافاً للكوفيين وقطرب، وقد ذكر خلاف فيها: أهي ظرف أم اسم غير ظرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ، ومنصوب إن كان ناسخاً. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب: يستحي بياء واحدة، وهي لغة بني تميم، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر: ألا تستحي منا ملوك وتتقي محارمنا لا يبوء الدم بالدم والماضي: استحى، قال الشاعر: إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بست في إناء من الورد واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل لام الكلمة، فالوزن يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع. وقيل المحذوف العين، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو العين.

وقد تكلمنا على هذه المسألة في «كتاب التكميل لشرح التسهيل» من تأليفنا، وليس هذا الحذف مختصاً بالماضي والمضارع، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات، كاسم الفاعل، واسم المفعول، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنه يكون متعدياً بنفسه، ويكون متعدياً بحرف جر، يقال: استحييته واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل {أن يضرب} أن يكون مفعولاً به على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى: {أن لهم جنات} (البقرة: 25) ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟. ويضرب: قيل معناه: يبين، وقيل: يذكر، وقيل: يضع، من ضربت عليهم الذلة، وضرب البعث على بني فلان، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد، وقيل يضرب: في معنى يجعل ويصير، كما تقول: ضربت الطين لبناً، وضربت الفضة خاتماً. فعلى هذا يتعدى لاثنين، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظن وأخواتها، فيتعدى إلى اثنين، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو. وما: إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثل تزيد الكرة شياعاً، كما تقول: ائتني برجلٍ ما، أي: أيّ رجل كان. وأجاز الفراء، وثعلب، والزجاج: أن تكون ما نكرة، وينتصب بدلاً من قوله: مثلاً. وقرأ الجمهور: بنصب بعوضة. واختلف في توجيه النصب على وجوه:

أحدها: أن تكون صفة لما، إذا جعلنا ما بدلاً من مثل، ومثلاً مفعول بيضرب، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهام ما، وهو قول الفراء. الثاني: أن تكون بعوضة عطف بيان، ومثلاً مفعول بيضرب. الثالث: أن تكون بدلاً من مثل. الرابع: أن تكون مفعولاً ليضرب، وانتصب مثلاً حالاً من النكرة مقدمة عليها. والخامس: أن تكون مفعولاً ليضرب ثانياً، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين. والسادس: أن تكون مفعولاً أول ليضرب، ومثلاً المفعول الثاني. والسابع: أن تكون منصوباً على تقدير إسقاط الجار، والمعنى {أن يضرب مثلاً} ما بين {بعوضة فما فوقها} ، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملاً، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين، ونسبه المهدوي للكوفيين، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء، ويكون: مثلاً مفعولاً بيضرب على هذا الوجه، وأنكر هذا النصب، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه، أبو العباس. وتحرير نقل هذا المذهب: أن الكوفيين يزعمون أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي، فينتصب ما بعدها، سواء كان نكرة أم غير نكرة، ويعطف عليه بالفاء فقط، وتلزم ولا يصلح مكانها الواو، ولا ثم، ولا أو، ولا لا، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف، وهو بين. فلما حذف بين، قام هذا مقامه في الإعراب. ويقدرون الفاء بإلى، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع. حكى الكسائي عن العرب: مطرنا مازبالة فالثعلبية، وما منصوبة بمطرنا. وحكى الكسائي والفراء عن العرب: هي أحسن الناس ما قرنا، وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير، وتقول: هي حسنة ما قرنها إلى قدمها. قال الفراء: أنشدنا أعرابي من بني سليم: يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل

وقال الكسائي: سمعت أعرابياً نظر إلى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، وحكى الفراء عن العرب: الشنق ما خما فعشرين. والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى كذا، وما في هذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقول: مطرنا زبالة فالثعلبية. وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا، والذي نختاره من هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح، وذلك الواحد هو مثلاً لقوله تعالى: ضرب مثل، ولأنه المقدم في التركيب، وصالح لأن ينتصب بيضرب. وما: صفة تزيد النكرة شياعاً، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس. وبعوضة: بدل لأن عطف البيان مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس. وقرأ الضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب: بعوضة بالرفع، واتفق المعربون على أنه خبر، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه خبراً، فقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة، وفي هذا وجهان: أحدهما: أن هذه الجملة صلة لما، وما موصولة بمعنى الذي، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة. وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك في غير أيّ من الموصولات، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذا التخريج شاذة، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلاً، التقدير: مثلاً الذي هو بعوضة. والوجه الثاني: أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق، وقيل: خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما، على أن تكون استفهامية.

والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام، وما من قوله: فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف، أو موصوفة وصفتها الظرف، والموصوفة أرجح. وإن رفعنا بعوضة، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً، فذلك من عطف الجمل، أو كانت البعوضة خبراً لهو محذوفة، وما زائدة، أو صفة فعطف على البعوضة، إما موصولة أو موصوفة.

وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما: أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبر عن ما. وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف، إذ فيه شروط جواز الحذف، والتقدير ما الذي أراده الله. والثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وتركيب ذا مع ما، وتكون مفعولاً بإرادة التقدير، أي شيء أراده الله، وهذان الوجهان فصيحان. قال ابن عطية: واختلف النحويون في ماذا فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل: ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. انتهى كلام ابن عطية، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب وليست مسألة خلاف عند النحويين، بل كل من شدا طرفاً من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا، وكذا كل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا. وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين، أي من مثل، وأجاز بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة، أي متمثلاً به، والعامل فيه اسم الإشارة، وهو كقولك لمن حمل سلاحاً رديئاً: ماذا أردت بهذا سلاحاً، فنصبه من وجهين: التمييز والحال من اسم الإشارة. وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من الله تعالى، أي متمثلاً. وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذا لم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع، وجعلوا من ذلك. وعالين قنوانا من البسر أحمرا

فأحمر عندهم من صفات البسر، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر، كذلك قالوا: ما أراد الله بهذا المثل. فلما لم يجر على إعراب هذا، انتصب مثلاً على القطع، وإذا قلت: عبد الله في الحمام عرياناً، ويجيء زيد راكباً، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي. وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو المنصوب على القطع، وما لا فمنصوب على الحال، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال، ولم يثبت البصريون النصب على القطع. والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحو، والمختار انتصاب مثل على التمييز، وجاء على معنى التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه. اختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى: {يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً} في موضع الصفة لمثل. {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَسِقِينَ} والفاسقين: مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً على الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره: وما يضل به أحداً إلا الفاسقين، وليس بممتنع، وذلك أن الاسم بعد إلا: إما أن يفرغ له العامل، فيكون على حسب العامل نحو: ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا زيداً، وما مررت إلا بزيد، إذا جعلت زيداً وبزيد معمولاً للعامل قبل لا، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ، فأما أن يكون العامل طالباً مرفوعاً، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا، وإضماره إن كان مما يضمر، أو منصوباً، أو مجروراً، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإثباته. فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً على الاستثناء فتقول: ما ضربت إلا زيداً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررت إلا عمراً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررت إلا عمراً، قال الشاعر: نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف، وإن أثبته، ولم يحذفه، فله أحكام مذكورة. فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل، ويكون من الاستثناء المفرغ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى. {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ} : يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين: إما على الاتباع، وإما على القطع، أي أذم الذين. والرفع من وجهين: إما على القطع، أي هم الذين، وإما على الابتداء، ويكون الخبر الجملة من قوله: {أولئك هم الخاسرون} . وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد، فالأولى من هذا الإعراب والأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع، ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية. وقيل: من زائدة وهو بعيد، والميثاق مفعول من الوثاقة، وهو الشدّ في العقد، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين. وليس المعنى هنا على ذلك، وإنما كني به عن الالتزام والقبول. قال أبو محمد بن عطية: هو اسم في موضع المصدر، كما قال عمرو ابن شييم: أكفراً بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

أراد بعد إعطائك، انتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة، كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدراً، والأصل في مفعال أن يكون وصفاً نحو: مطعام ومسقام ومذكار. وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج، وكلام أبي عبد الله بن مالك، وهما من أوعب الناس لأبنية المصادر، فلم يذكرا مفعالاً في أبنية المصادر. والضمير في ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه، وأجيز أن يكون عائداً على الله تعالى، أي من توثيقه عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلاف التأويلين في الميثاق. قال أبو البقاء: إن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن أعدتها إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر. {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} وما موصولة بمعنى الذي، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصاً هنا، إذ يصير المعنى: ويقطعون شيئاً أمر الله به أن يوصل. وأمر يتعدى إلى اثنين، والأول محذوف لفهم المعنى، أي ما أمر الله به، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله، أي ما أمرهم الله بوصله، نحو قال الشاعر: أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص فتقصر عنها حقبة وتبوص أي أمن ذكر سلمى نأيها.

وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلاً من ما، أي وصله، والتقدير: ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولاً من أجله، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها ضعيفة، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحاً. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام أفصح الكلام وهو كلام الله.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَتًا فَأَحْيَكُمْ} {كيف} : قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ، فخرج عن حقيقة الاستفهام. وقيل: صحبه الإنكار والتعجب، والواو في قوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} : واو الحال، نحو قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة} (يوسف: 45) ، ونادى نوح ابنه وكان في معزل} (هود: 42) . قال الزمخشري: فإن قلت فكيف صح أن يكون حالاً، وهو ماض؟ ولا يقال: جئت وقام الأسير، ولكن: وقد قام، إلا أن يضمر قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده، ولكن على جملة قوله: كنتم أمواتاً إلى ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء؟ ثم يميتكم} بعد هذه الحياة؟ {ثم يحييكم} بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه. ونحن نقول: إنه على إضمار قد، كما ذهب إليه أكثر الناس، أي وقد كنتم أمواتاً فأحياكم. والجملة الحالية عندنا فعلية. وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد، فلا نذهب إلى ذلك، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال، ولذلك قال: فإن قلت، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه. ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} .

{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً} ولكم: متعلق بخلق، واللام فيه، قيل: للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصاً، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل: للاختصاص، وهو أعم من التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولاً من أجله. وانتصب جميعاً على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام، ومعنى جميعاً العموم. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} وقد أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله، وهو إعراب صحيح، نحو: أخوك مررت به زيد، وأجازوا في سبع سموات أن يكون منصوباً على المفعول به، والتقدير: فسوى منهن سبع سموات، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام، وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن السموات كثيرة، فسوى منهن سبعاً، والأمر ليس كذلك، إذ المعلوم أن السموات سبع. وأجازوا أيضاً أن يكون مفعولاً ثانياً لسوى، ويكون معنى سوى: صير، وهذا ليس بجيد، لأن تعدي سوى لواحد هو المعلوم في اللغة، {فسواك فعدلك} (الانفطار: 7) ، قادرين على أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4) . وأما جعلها بمعنى صير، فغير معروف في اللغة. وأجازوا أيضاً النصب على الحال، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل باعتبارين، والمفعول به، ومفعول ثان، وحال، والمختار البدل باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق.

{بكل} متعلق بقوله: {عليم} ، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم، أو بنفسه. وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه من فعل متعد، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام ما ليس في فعلها ولا في اسم الفاعل، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي، إما أن يكون فعله متعدياً بنفسه، أو بحرف جر، فإن كان متعدياً بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو: زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا، لأن صبر يتعدى بعلى، وزهد يتعدى بفي، وإن كان متعدياً بنفسه. فإما أن يكون ما يفهم علماً وجهلاً، أو لا. إن كان مما يفهم علماً أو جهلاً تعدى المثال بالباء نحو: زيد عليم بكذا، وجهول بكذا، وخبير بذلك، وإن كان لا يفهم علماً ولا جهلاً فيتعدى باللام نحو قوله تعالى: {فعال لما يريد} (هود: 107) وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسه، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل حكمه هكذا.m قال تعالى: ربكم أعلم بكم (الإسراء: 54) ، وقال الشاعر: أعطى لفارهة حلو مراتعها وقال: أكر وأحمى للحقيقة منهم فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو قوله: تعالى {إن ربك هو أعلم من يضل} } (الأنعام: 117) ، وقول الشاعر: وأضرب منا بالسيوف القوانسا أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعل التفضيل.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} . إذ: اسم ثنائي الوضع مبني لشبهه بالحرف وضعاً أو افتقاراً، وهو ظرف زمان للماضي، وما بعده جملة اسمية أو فعلية، وإذا كانت فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة بالمضارع، وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضياً، وهو ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولاً به، ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، ولا زائدة، خلافاً لزاعمي ذلك، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وسبحان اسم وضع موضع المصدر، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من معناه لا يجوز إظهاره، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية، ويضاف ويفرد، فإذا أفرد كان منوناً، نحو قول الشاعر: سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد فقيل: صرفه ضرورة، وقيل: لجعله نكرة غير منون، نحو قول الشاعر: أقول لما جاءني فخبره سبحان من علقمة الفاخر جعله علماً فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعاً عن الإضافة، فعاد إليه التنوين، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد، وقد ردّ هذا القول في كتب النحو.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ} : واختلف المعربون في إذ، فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها، وهذا ليس بشيء، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو. وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد، التقدير: وقد قال ربك، وهذا ليس بشيء، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به بأذكر، أي واذكر: {إذ قال ربك} ، وهذا ليس بشيء، لأن فيه إخراجها عن بابها، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية، أو بإضافة ظرف زمان إليها. وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس قبلهما وبعدهما، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف. واختلفوا، فقال بعضهم: هي في موضع رفع، التقدير: ابتداء خلقكم. وقال بعضهم: في موضع نصب، التقدير: وابتداء خلقكم، إذ قال ربك. {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه، فلا لأنه لا يكون له ظرفاً. وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال بعدها، وليس بشيء، لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم، تقديره: {وهو الذي أحياكم} (الحج: 66) } ، {إذ قال ربك} ، وهذا ليس بشيء لأنه حذف بغير دليل، وفيه أن الإحياء ليس واقعاً في وقت قول الله للملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصلة. وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} (البقرة: 21) } {إذ قال ربك} ، فتكون الواو زائدة، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن تكون سوراً من القرآن، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.

فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزّه كتاب الله عنها. والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: {قالوا أتجعل} ، أي وقت قول الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض} ، {قالوا: أتجعل} ، كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك، أي وقت مجيئك أكرمتك، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا. فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به، وارتبكوا في دهياء وخبطوا خبط عشواء. واللام في للملائكة: للتبليغ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام، ومعمول القول إني جاعل، وكان ذلك مصدراً بأن، لأن المقصود تأكيد الجملة المخبر بها، وإن هذا واقع لا محالة وإن تكسر بعد القول، ولفتحها بعده عند أكثر العرب شروط ذكرت في النحو، وبنو سليم يفتحونها بعده من غير شرط، وقال شاعرهم: إذا قلت إني آيب أهل بلدة نزعت بها عنها الولية بالهجر جاعل: اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويجوز إضافته للمفعول إلا إذا فصل بينهما كهذا، فلا يجوز، وإذا جاز إعماله، فهو أحسن من الإضافة، نص على ذلك سيبويه، وقال الكسائي: هما سواء، والذي أختاره أن الإضافة أحسن، وقد ذكرنا وجه اختيارنا ذلك في بعض ما كتبناه في العربية. وفي الجعل هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فيتعدى إلى واحد، قاله أبو روق، وقريب منه ما روي عن الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل، ولم يذكر ابن عطية غير هذا. والثاني: أنه بمعنى التصيير، فيتعدى إلى اثنين. وقرأ ابن هرمز: ويسفك بنصب الكاف، فمن رفع الكاف عطف على يفسد، ومن نصب فقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام، وهو تخريج حسن وذلك أن المنصوب في جواب الاستفهام أو غيره بعد الواو بإضمار أن يكون المعنى على الجمع، ولذلك تقدر الواو بمعنى مع، فإذا قلت: أتأتينا وتحدثنا ونصبت، كأن المعنى على الجمع بين أن تأتينا وتحدثنا، أي ويكون منك إتيان مع حديث، وكذلك قوله: أبيت ريان الجفون من الكرى وأبيت منك بليلة الملسوع

معناه: أيكون منك مبيت ريان مع مبيتي منك بكذا، وكذلك هذا يكون منك جعل مفسد مع سفك الدماء. وقال أبو محمد بن عطية: النصب بواو الصرف قال: كأنه قال من يجمع أن يفسد وأن يسفك، انتهى كلامه. والنصب بواو الصرف ليس من مذاهب البصريين. ومعنى واو الصرف: أن الفعل كان يستحق وجهاً من الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى النصب كقوله تعالى: {ويعلم الذين يجادلون} (الشورى: 35) } ، في قراءة من نصب، وكذلك: {ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142) } . فقياس الأول الرفع، وقياس الثاني الجزم، فصرفت الواو الفعل إلى النصب، فسميت واو الصرف، وهذا عند البصريين منصوب بإضمار أن بعد الواو. والعجب من ابن عطية أنه ذكر هذا الوجه أولاً وثنى بقول المهدوي، ثم قال: والأول أحسن. وكيف يكون أحسن وهو شيء لا يقول به البصريون وفساده مذكور في علم النحو؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} : جملة حالية، {بِحَمْدِكَ} : في موضع الحال، والباء فيه للحال، أي نسبح ملتبسين بحمدك، كما تقول: جاء زيد بثيابه، وهي حال متداخلة لأنها حال في حال. وقيل: الباء للسبب، أي بسبب حمدك، والحمد مصدر مضاف إلى المفعول نحو قوله: من دعاء الخير، أي بحمدنا إياك. والفاعل عند البصريين محذوف في باب المصدر، وإن كان من قواعدهم أن الفاعل لا يحذف وليس ممنوع في المصدر، كما ذهب إليه بعضهم، لأن أسماء الأجناس لا يضمر فيها، لأنه لا يضمر إلا فيما جرى مجرى الفعل، إذ الإضمار أصل في الفعل، ومعنى التقديس كما ذكرنا التطهير، ومفعوله أنفسنا لك من الأدناس، قاله الضحاك وغيره.

واللام في لك زائدة، أي نقدّسك. وقيل: لام العلة متعلقة بنقدّس، قيل: أو بنسبّح وقيل: معدية للفعل، كهي في سجدت لله، وقيل: اللام للبيان كاللام بعد سقياً لك، فتتعلق إذ ذاك بمحذوف دلّ عليه ما قبله، أي تقديسنا لك. والأحسن أن تكون معدية للفعل، كهي في قوله: {يسبح لله} (الجمعة: 1) } ، و {سبح لله} (الحديد:1 الحشر: 1 الصف: 1) } . وقد أبعد من ذهب إلى أن هذه الجملة من قوله: {ونحن نسبح} استفهامية حذف منها أداة الاستفهام وأن التقدير، أو نحن نسبح بحمدك، أم نتغير، بحذف الهمزة من غير دليل، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول الهمزة عليها، وهي قوله: أم نتغير، وليس ذلك مثل قوله: لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً بسبع رمين الجمر أم بثمان يريد: أبسبع، لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده يدلان على حذف الهمزة. قال: {إني أعلم} ، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل: أو نكرة موصوفة، وقد تقدم: أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة. وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا اسماً بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب، لأن هذا الاسم لا ينصرف، وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل. والتقدير: أعلم منكم، وما منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم، أي علمت، وأعلم ما لا تعلمون.

وهذا القول فيه خروج عن الظاهر وادعاء حذفين: أحدهما: حذف المفضل عليه وهو منكم. والثاني: الفعل الناصب للموصول، وأما ما أجازه مكي فهو مبني على أمرين غير صحيحين. أحدهما: ادّعاءان أفعل تأتي بمعنى فاعل، وهذا قال به أبو عبيدة من المتقدمين، وخالفه النحويون وردوا عليه قوله، وقالوا: لا يخلو أفعل من التفضيل، وإن كان يوجد في كلام بعض المتأخرين أن أفعل قد يخلو من التفضيل، وبنوا على ذلك جواز مسألة يوسف أفضل إخوته، حتى أن بعضهم ذكر في جواز اقتياسه خلافاً، تسليماً منه أن ذلك مسموع من كلام العرب فقال: واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل، مؤولاً باسم فاعل أو صفة مشبهة، مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على السماع، انتهى كلامه. والأمر الثاني: أنه إذا سلم وجود أفعل عارياً من معنى التفضيل، فهو يعمل عمل اسم الفاعل أم لا. والقائلون بوجود ذلك لا يقولون بإعماله عمل اسم الفاعل إلا بعضهم، فأجاز ذلك، والصحيح ما ذهب إليه النحويون المتقدمون من كون أفعل لا يخلو من التفضيل، ولا مبالاة بخلاف أبي عبيدة لأنه كان يضعف في النحو، ولا بخلاف بعض المتأخرين لأنهم مسبوقون بما هو كالإجماع من المتقدمين، ولو سلمنا إسماع ذلك من العرب، فلا نسلم اقتياسه، لأن المواضع التي أوردت دليلاً على ذلك في غاية من القلة، مع أنها قد تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذلك، فلا نسلم كونه يعمل عمل اسم الفاعل. وكيف نثبت قانوناً كلياً ولم نسمع من العرب شيئاً من أفراد تركيباته لا يحفظ: هذا رجل أضرب عمراً، بمعنى ضارب عمراً، ولا هذه امرأة أقتل خالداً، بمعنى قاتلة خالداً، ولا مررت برجل أكسى زيداً جبة، بمعنى: كاس زيداً جبة. وهل هذا إلا إحداث تراكيب لم تنطق العرب بشيء من نظيرها؟ فلا يجوز ذلك. وكيف يعدل في كتاب الله عن الشيء الظاهر الواضح من كون أعلم فعلاً مضارعاً إلى هذا الذي هو؟ كما رأيت في علم النحو، وإنما طوّلت في هذه المسألة لأنهم يسلكون ذلك

في مواضع من القرآن سيأتي بيانها، إن شاء الله تعالى، فينبغي أن يتجنب ذلك. ولأن استعمال أفعل عارية من معنى التفضيل مشهور عند بعض المتأخرين، فنبهت على ما في ذلك، والمسألة مستوفاة الدلائل. تذكر في علم النحو. {وَعَلَّمَءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا} وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي: وعلم آدم مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد، فعدي به إلى اثنين. وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازماً أم كان متعدياً، نحو: علم المتعدية إلى واحد. وأما إن كان متعدياً إلى اثنين، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث. وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح «الملحة» له أن علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة، ولا يحفظ ذلك من كلامهم. وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف. قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في كتاب «التلخيص» من تأليفه: الظاهر من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم. وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات الأسماء، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. {فَقَالَ} : الفاء: للتعقيب.

{إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} شرط جوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبئوني السابق هو الجواب، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين، وخالف الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدّم في نحو هذه المسألة، هذا هو النقل المحقق، وقد وهم المهدوي، وتبعه ابن عطية، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند المبرد، التقدير: فأنبئوني، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس، فيحتمل. وكذلك وهم ابن عطية وغيره، فزعما أنّ مذهب سيبويه تقديم الجواب على الشرط، وأن قوله: أنبئوني المتقدم هو الجواب. أبعد من جعل إن بمعنى إذ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية. {قَالُواْ سُبْحَنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ} : أي تنزيهك عن الادعاء وعن الاعتراض. وقيل: معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك، ومعناه: تلبية بعد تلبية. وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحاً، وأنه لا يكون منصوباً بل مرفوعاً، وأنه لم تسقط النون للإضافة، وأنه التزم فتحها. والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه. وأجاز بعضهم أن يكون فاعلاً، لأن المعنى تنزهت. وقد ذكرنا، حين تكملنا على المفردات، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف. وزعم الكسائي أنه منادى مضاف، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه، ولو كان منادى لجاز دخول حرف النداء عليه.

وخبر: لا علم، في الجار والمجرور. وتقدم لنا الكلام في لا ريب فيه، ولا علم مثله، فأغنى عن إعادته. وما موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، والأولى أن تكون في موضع رفع على البدل. وحكى ابن عطية عن الزهراوي: أن موضع ما من قولهم: ما {علمتنا} ، نصب بعلمتنا، وهذا غير معقول. ألا ترى أن ما موصولة، وأن الصلة: علمتنا، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلف به وجه وهو أن يكون استثناء منقطعاً فيكون معنى إلا: لكن، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا، ويكون الجواب محذوفاً. و {أنت} : يحتمل أن يكون توكيداً للضمير، فيكون في موضع نصب، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع، والعليم خبره، أو فضلاً فلا يكون له موضع من الإعراب، على رأي البصريين، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده. {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} ؛ جواب فلما، وقد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب، أهي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه. وألم: أقل تقرير، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريراً نحو قوله تعالى: {ألست بربكم} (الأعراف: 172) } ؟ {ألم نشرح لك صدرك} (الشرح: 1) } ؟ {ألم نربِّك فينا وليداً} (الشعراء: 18) } ؟ ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو: ووضعنا، ولبثت، ولكم فيه. وقد تقدم أن اللام في نحو: قلت لك، أو لزيد، للتبليغ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها. والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوباً أو مجروراً جار هنا، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.

وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه: قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله: أعلم اسماً بمعنى التفضيل في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: وإذا قدر الأول اسماً، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب، تقديره: إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ. انتهى. وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم. والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه: {وأعلم ما تبدون} ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون ما جراً بالإضافة، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به، فيكون بمعنى حواج بيت الله، انتهى. فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب، وتكون أفعل اسماً إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل، وخفض ما بالإضافة ألبتة. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأًّدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَفِرِينَ} .

{إبليس} : اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة والعلمية، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، ووزنه على هذا، فعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، وردّنا: غريض، وإزميل، وإخريط، وإجفيل، وإعليط، وإصليت، وإحليل، وإكليل، وإحريض. وقد قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، وشبه العجمة، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقاً من الإبلاس فإنه لم يسم به أحد من العرب، فصار خاصاً بمن أطلقه الله عليه، فكأنه دليل في لسانهم، وهو علم مرتجل. وقد روي اشتقاقه من الإبلاس عن ابن عباس والسدي، وما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال الشاعر: وأما أن تقولوا قد أبينا فشرّ مواطن الحسب الإباء والفعل منه: أبى يأبى، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين وليس بقياس أحرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبى بكسر حرف المضارعة، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون بأبي على هذه اللغة قياساً، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة. وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبى يأتي بفتح العين لا خلاف فيه، وليس بصحيح، فقد حكى أبى بكسر العين صاحب «المحكم» . وقد جاء يفعل في أربعة عشر فعلاً وماضيها فعل، وليست عينه ولا لامه حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضاً فعل بكسر العين، وفي بعض مضارعها سمع أيضاً يفعل ويفعل بكسر العين وضمها، ذكرها التصريفيون. الاستكبار والتكبر: وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها استفعل، وهي مذكورة في شرح نستعين.

وإذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. وقيل: العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل: هي معطوفة على ما قبلها، يعني قوله: {وإذ قال ربك} (البقرة: 30) } ، ويضعف الأول بأن الأسماء لا تزاد، والثاني أنها لازم ظرفيتها، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ الأولى في إذ هذه. وقيل: العامل فيها أبى، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله: {فسجدوا} ، تقديره: انقادوا وأطاعوا. وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وسليمان بن مهران: بضم التاء {للملائكةُ} ، اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، وقال ابن جني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو: {وقالت اخرج} (يوسف: 31) } . وقال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم: {الحمد لله} ، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارىء بها ولا يغلط، والقارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضاً عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل. ألا تراهم قالوا: الملائك؟ وقيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها. {فَسَجَدُواْ} واللام في لآدم للتبيين، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح {الحمد لله} . {إلا إبليس} : هو مستنثى من الضمير في {فسجدوا} ، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب، وهو استثناء متصل عند الجمهور. وقيل: هو استثناء منقطع.

والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيداً، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم، وأن زيداً غير محكوم عليه بقيام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول، والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، ومفعول أبى محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال الشاعر: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله والتقدير: أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ الفعل المنفي، قال تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} (التوبة: 32) } ، ولا يجوز: ضربت إلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا تدخل في الواجب، وقال الشاعر: أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع {وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّلِمِينَ} . {رغداً} : أي واسعاً كثيراً لا عناء فيه، قال امرؤ القيس: بينما المرء تراه ناعماً يأمن الأحداث في عيش رغد

وتميم تسكن الغين. وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها، مثل: بحر وبحر، ونهر ونهر، فأطلق هذا الإطلاق، وليس كذلك، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكين نحو: السحر لا يقال فيه السحر، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلى أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين، لا أن أحدهما أصل للآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين، والاستدلال مذكور في كتب النحو. {حيث} : ظرف مكان مبهم لازم الظرفية، وجاء جره بمن كثيراً وبفي، وإضافة لدى إليه قليلاً، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام، ولا يكون ظرف زمان خلافاً للأخفش، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين، نحو: زيد حيث عمر، وخلافاً للكوفيين، ولا يجزم بها دون ما خلافاً للفراء، ولا تضاف إلى المفرد خلافاً للكسائي، وما جاء من ذلك حكمنا بشذوذه، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث، ويجوز: حوث، بالواو وبالحركات الثلاث. وحكى الكسائي أن إعرابها لغة بني فقعس.

و {أنت} : توكيد للضمير المستكن في أسكن، وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوباً. {وزوجك} : معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف، وما سوى ذلك ضرورة وشاذ. وقد روي: قم وزيد، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربين على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل، التقدير: ولتسكن زوجك، وحذف: ولتسكن، لدلالة اسكن عليه، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو: لا نخلفه نحن ولا أنت، ونحو: تقوم أنت وزيد، ونحو: ادخلوا أولكم وآخركم، وقوله: نطوف ما نطوف ثم يأوي ذوو الأموال منا والعديم إذا أعربناه بدلاً لا توكيداً، هو على إضمار فعل، فتقديره عنده، ولا تخلفه أنت، ويقوم زيد، وليدخل أولكم وآخركم، ويأوي ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه، كما ذهب إليه النحويون. قال سيبويه، رحمه الله: وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع، وذلك فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه، ثم قال: فإن نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد. وقال الله عز وجل: {اذهب أنت وربك فقاتلا} (المائدة: 24) واسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة: 35) (الأعراف: 19) ، انتهى. فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر، وقد أجمع النحويون على جواز: تقوم عائشة وزيد، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل، ولا نعلم خلافاً أن هذا من عطف المفردات. ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا.

والأصل في: كل أؤكل. الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل، والثانية هي فاء الكلمة، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ، فوليت همزة الوصل الكاف، وهي متحركة، وإنما اجتلبت للساكن، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي. قال ابن عطية وغيره: وحذفت النون من كلا للأمر، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير، فتقول: كلي، وكلا، وكلوا، وفي الإناث يبقى ساكناً نحو: كلن. وللمعتل حكم غير هذا، فإذا كان هكذا فقوله: وكلا، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب، وأن أصل: كل لتأكل، ثم عرض فيه من الحذف بالتدريج إلى أن صار: كل. فأصل كلا: لتأكلا، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون، إذ كان أصله: تأكلان، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية: إن النون من كلا حذفت للأمر. وانتصاب {رغداً} ، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا رغداً. وقال ابن كيسان: هو مصدر في موضع الحال، وفي كلا الإعرابين نظر. أما الأول: فإن مذهب سيبويه يخالفه، لأنه لا يرى ذلك، وما جاء من هذا النوع جعله منصوباً على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل. وأما الثاني: فإنه مقصور على السماع. وشاء في وزنه خلاف، فنقل عن سيبويه: أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت، واللام ساكنة للضمير، فالتقى ساكنان، فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء، كما صنعت في بعت.

{الشجرة} : نعت لإسم الإشارة، فتكونا منصوب جواب النهي، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء، وعند الجرمي بالفاء نفسه، وعند الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوماً عطفاً على تقربا، قاله الزجاج وغيره، نحو قوله: فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أعلى القطاة فتزلق والأول أظهر لظهور السببية، والعطف لا يدل عليها. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} . {بعض} : أصله مصدر بعض يبعض بعضاً، أي قطع، ويطلق على الجزء، ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام، قالوا: مررت ببعض قائماً، وبكل جالساً، وينوي فيهما الإضافة، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطؤا أبا القاسم الزجاجي في قوله: ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً. وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه. المستقر: مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما ذكر بصورة المفعول. الآية: العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

ووزنها عند الخليل وسيبويه: فعلة، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس. وعند الكسائي: فاعلة، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل، وعند الفراء: فعلة، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين: فعلة: استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف. {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا} : الهمزة: كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلاً بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية. وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول: أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البقاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول.

{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا} وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} (الزمر: 60) ، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً، خلافاً للفراء ومن وافقه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته: فوه إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذاً. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك. وقوله: لبعض متعلق بقوله عدوّ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد.

{وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} : مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز {في الأرض} أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع الحال من مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار نظير: قائماً زيد في الدار، أو قائماً في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع.

{وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ} ويتعلق إلى بمحذوف، أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو من باب الإعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول، لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكون من أعمال الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى. والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر بحرف مصدري مع الفعل، وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولاً، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو وله: لزيد معرفة بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء. فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده، لا برفع ولا بنصب، قالوا: فإذا قلت: يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد، وممكن أن زيداً يعرا منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بل تكون النية في الإخبار كالنية في: يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر. على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى.

فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً، وهو قولهم: يعجبني قيام زيد، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو: ما مثلنا به من قوله: له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً. ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولاً، كما مثلنا في قوله: له معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم: أنا أبو المنهال بعض الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر. وأما أن تعمل في الفاعل، أو المفعول به فلا. وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو أن المصدر إذا نون، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل، فانقطع عن أن يحدث إعراباً، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى: {مستقر ومتاع إلى حين} ، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم.

{جَمِيعاً} : حال من الضمير في {اهبطوا} ، وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، فجعله نعتاً لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال: أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً، فكيف يقدر ثانياً؟ كأنه قال: هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً. فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه. ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي فقلنا: إما يأتينكم.

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى} وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن: {فإما ترين} (مريم: 26) ، وإما ينزغنك} (الأعراف: 200) ، فإما نذهبن} (الزخرف: 41) . قال أبو العباس المهدوي: إن: هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو: والله لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما، انتهي كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري: فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً على رقة أحفى ولا أتنعل} وقال آخر: يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الإخوان من شيمي وقال آخر: زعمت تماضر أنني إما أمت تسددا بينوها الأصاغر خلتي والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر: إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلاً فالله يحفظ ما تبقى وما تذر فكما جاءت هنا زائدة بعد أن، فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى «بالتكميل لشرح التسهيل» .

{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} فمن تبع: الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله: {فإما يأتينكم} . وقال السجاوندي: الجواب محذوف تقديره فاتبعوه، انتهى. فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده: {فمن تبع هداي} . وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن: من، في قوله: فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا الشرط هو قوله: {فلا خوف} ، فتكون الآية فيها شرطان. وحكي عن الكسائي أن قوله: {فلا خوف} جواب للشرطين جميعاً، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في «كتاب التكميل» ، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه: {والذين كفروا وكذبوا} (البقرة: 39) ، فأتى به موصولاً، ويكون قوله: فلا خوف} جملة في موضع الخبر. وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا.

{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في {ولا هم يحزنون} ، فرفعوا للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها إعمال ليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين: أحدهما: أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً، ويمكن النزاع في صحته، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه. والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما. ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم، فينفي كل فرد فرد من مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر. وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه، إذا كان مرفوعاً منوناً، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام، فيكون التقدير: فلا الخوف عليهم، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب: سلام عليكم، بغير تنوين. قالوا: يريدون السلام عليكم، ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجز مجرى ليس، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو: وحلت سواد القلب لا أنا باغياً سواها ولا في حبها متراخياً وقد لحنوا أبا الطيب في قوله: فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً

{ِوَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} وبآياتنا متعلق بقوله: {وكذبوا} ، وهو من إعمال الثاني، إن قلنا: إن كفروا، يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا: لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتمل الوجهين. و {أولئك} مبتدأ، {وأصحاب} : خبر عنه، والجملة خبر عن قوله: {والذين كفروا} ، وجوزوا أن يكون أولئك بدلاً وعطف بيان، فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبراً عن الذين كفروا. {هم فيها خالدون} . ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء في مكان آخر: {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} (الأحقاف: 14) ، فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب. ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما انبهم في قوله: أولئك أصحاب النار} ، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب. ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي هو: أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما مفرد، والآخر جملة، وذلك على مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع رفع. {يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ * وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَآتُواْ الزَّكَوةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} .

ابن: محذوف اللام، وقيل: الياء خلاف، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل: فعل، وقيل: فعل. فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء. والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعل قولهم: البنوّة شاذ كالفتوّة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوّة دليلاً على ذلك، ولكون اللام المحذوفة واواً أكثر منها ياء. وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون، وهو جمع شاذ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا: ابنون، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير، فألحقت التاء في فعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير، قال النابغة: قالت بنو عامر خالو بني أسد يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً، قال يسدد: أبينوها الأصاغر خلتي وهو شاذ أيضاً. {إسرائيل} : اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا: وهو العبد، وإيل: اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني.

{أول} : عند سيبويه: أفعل، وفاؤه وعينه واوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا: ددن، وققس، وببن، وبابوس. وقيل: إن بابوساً أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. وقال بعض الناس: هو أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام. وهذان القولان ضعيفان، ويستعمل أول استعمالين: أحدهما: أن يجري مجرى الأسماء، فيكون مصروفاً، وتليه العوامل نحو: أفكل، وإن كان معناه معنى قديم، وعلى هذا قول العرب: ما تركت له أولاً ولا آخراً، أي ما تركت له قديماً ولا حديثاً. والاستعمال الثاني: أن يجري مجرى أفعل التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها، أو مقدرة، وبالألف واللام، وبالإضافة. وقالت العرب: ابدأ بهذا أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة، والتقدير: أول الأشياء، أم لشبه القطع عن الإضافة، والتقدير: أول من كذا. والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة، والخلاف إذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً، أو لا يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو.

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيداً يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئاً آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول: أضرب زيداً، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقد اختلف النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت: اضرب زيداً يغضب، ضمن اضرب معنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيداً، إن تضرب زيداً يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها. وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل. والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو. إياي: منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيداً، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين. ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان. وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة.

والفاء في قوله: فارهبون، دخلت في جواب أمر مقدّر، والتقدير: تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه: تقول: كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت: كل رجل صالح فاضرب، انتهى. قال ابن خروف: قوله كل رجل يأتيك فاضرب، بمنزلة زيداً فاضرب، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من: زيداً فاضرب، انتهى. ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف، والذي يدل على أن هذا التركيب، أعني: زيداً فاضرب، تركيب عربي صحيح، قوله تعالى: {بل الله فاعبد} (الزمر: 66) ، وقال الشاعر: ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا {وَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ} قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في: زيداً فاضرب، تنبه: فاضرب زيداً، ثم حذف تنبه فصار: فاضرب زيداً. فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه. وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير وإياي ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر، وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان: الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدّرت الفاء، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو: ضربتك إياك، وما في قوله: {بما أنزلت} موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة.

وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير: وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. {مصدّقاً} . وعلى القول الأول يكون {لما معكم} من تمام {مصدقاً} ، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى: {فعال لما يريد} (هود: 107) (البروج: 16) . وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله: لما معكم} . ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية، فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير: ضارب هنداً مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول. والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضاً. {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفرداً مذكراً، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كان مفرداً كان مفرداً، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعاً كان جمعاً، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانت صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر: أنشده الفراء: وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع فأفرد بقوله: طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأوّل، قال الفراء: تقديره من طعم، وقال غيره: يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال: فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس: يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت: أبوك أفضل عالم، فتقديره عندهم: أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو. {وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ} : الكلام عليه إعراباً، كالكلام على قوله: {وإيّاي فارهبون. {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ} . وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق، كقولك: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم، قال: كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.

{وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} : مجزوم عطفاً على تلبسوا، والمعنى: النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكور في علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه: النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهي عنه، فلذلك رجح الجزم. وقرأ عبد الله: {وتكتمون الحق} ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال، وقدره الزمخشري: كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره: وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً، وقال ابن عطية: وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى.

ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله: وتكتمون. والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار. {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَجِعُونَ} . والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيداً وإتمامه قليل، أو مر زيداً، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها. {بالصبر} صبر يصبر على فعل يفعل، وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر: فصبرت عارفة لذلك حرّة ترسو إذا نفس الجبان تطلع وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ. وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، خلافاً لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء. والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى: التهمة، فيتعدى إذ ذاك لواحد، قال الفراء: الظنّ يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا يعرفون ذلك. {وَتَنسَوْنَ} : معطوف على تأمرون. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجملة حالية.

{خَيْرٌ وَأَبْقَى} : مذهب سيبويه والنحويين: أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل {أو لم يسيروا} (الروم: 9) (فاطر: 44) (غافر: 21) أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل} . فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف. {إِلاَّ عَلَى الْخَشِعِينَ} : استثناء مفرغ. ويجوز في {الَّذِينَ} الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها. والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدّى إلى اثنين، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وإنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول: ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك خلاف. مذهب سيبويه: أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب. ومذهب أبي الحسن وأبي العباس: أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدّر، فإذا قلت: ظننت أن زيداً قائم، فتقديره: ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو.

{أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِمْ} ، الملاقاة: مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته. وقال المهدوي والماوردي وغيرهما: الملاقاة هنا، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن لقي يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفه من حيث أن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل، سواء كان مجرداً أو على فاعل، معناه واحد من حيث أن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد. وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد، وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن عطية: وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك. وقوله: بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب: عاقبت اللص، حيث أن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذه الإضافة غير محضة، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول، وإضافته إليه.

{يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذْ نَجَّيْنَكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} . {فَضَّلْتُكُمْ} وفعله فعّل يُفَعِّلُ، وأصله أن يتعدى بحرف الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قول الشاعر، وقد جمع بين الوجهين: وجدنا نهشلاً فضلت فقيما كفضل ابن المخاض على الفصيل وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال: فضل يفضل، كالذي قدمناه، وفضل يفضل، نحو: سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرها من الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها، والصواب الفتح. الآل: قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو. ولذلك قال يونس: في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصاً عن العرب، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في: هرقت، وهيا، وهرحت، وهياك. وقد خصوا آلا بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالباً، فلا يقال: آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر: نحن آل اللَّه في بلدتنا لم نزل آلا على عهد إرم

قال الأخفش: لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم، نحو: آل محمد صلى الله عليه وسلّم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا: آل المدينة، وآل البصرة. وقال الكسائي: لا يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال: من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وقال هدبة: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك الكسائي، وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً، كما جمع أهل فقالوا: آلون. {وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ} ثم عطف التفضيل على النعمة، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو من العطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر: أكر عليهم دعلجاً ولبانه إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما دعلج: هنا اسم فرس، ولبانه: صدره. {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} وانتصاب يوماً، إما على الظرف والمتقى محذوف تقديره: اتقوا العذاب يوماً، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم. وقيل معناه: جيئوا متقين، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب يوماً على الظرف.

قرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ، أي أغنى، وقيل جزا، وأجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً. وهذا اختيار أبي عليّ، وإيّاه نختار. قال المهدوي: والوجهان، يعني تقديره: لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقال الكسائي: لا يكون المحذوف إلا لهاء، قال: لا يجوز أن تقول: هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلاً أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه قوله: فما أدري أغيرهم تناء وطول العهد أم مال أصابوا يريد: أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أو الضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط، ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها ويوم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوماً يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة يوماً عليه، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات: 35) ، ونظير يوم لا تملك، لا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلاً، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر: رحم الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات}

في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد قالت العرب: يعجبني الإكرام عندك سعد، بنية: يعجبني الإكرام إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب: أطعمونا لحماً سميناً شاة ذبحوها، أي لحم شاة. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه، الدقيق عظمه، على تقديره: لو تعلمون علم الكبيرة سنه، فحذف الثاني اعتماداً على الأول، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في: يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب. ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب، فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحداً من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج، بل هم مجمعون على أن الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل المعطوفة على {لا تجزي} ، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط. وانتصاب شيئاً على أنه مفعول به، أي لا يقضي شيئاً، أي حقاً من الحقوق، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر، أي: ولا تجزي شيئاً من الجزاء، قاله الأخفش، وفيه إشارة إلى القلة، كقولك: ضربت شيئاً من الضرب.

{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ويحتمل رفع هذا الضمير وجهين من الإعراب. أحدهما: وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر. والوجه الثاني: وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل، كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في: أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع على الاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فعلية. والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً، ويقوي عود الضمير إلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى لكان مبنياً للفاعل، كقوله: لا تجزي. ومن المفسرين من جعل الضمير في ولا هم عائداً على النفسين معاً، قال: لأن التثنية جمع قالوا.

{وَإِذْ نَجَّيْنَكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ} : تقدم الكلام على إذ في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل} (البقرة: 30) . ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولاً به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها، فقياس قوله هناك إجازته هنا، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا أن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم، ووقت تنجيتكم. ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي: واتقوا يوماً} . وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولاً به بأذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه. {يَسُومُونَكُمْ} : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال: أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون. {وسوء العذاب} : أشقه وأصعبه وانتصابه، مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال: السوم: بمعنى التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاً ثانياً السام، أي يكلفونكم. وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون {سُوءَ الْعَذَابِ} مفعولاً على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس: ينتصب سوء العذاب نصب المصدر، ثم قدره سوماً شديداً. {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو قوله تعالى: {يلق أثاماً يضاعف له العذاب} (الفرقان: 68) ، وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا}

ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوته في إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف. وقال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون: في موضع الحال، من ضمير الرفع في: يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَكُمْ وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . {موسى} : اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب من مو: وهو الماء، وشاو: وهو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه، فقال مكيّ: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون: ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.

الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: ايتخذ كهمزة إيمان إذ أصله: إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذ هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا: إتمن، وأصله: إئتمن. وعلى هذا جاء: اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى: أخذ، قال: تعالى: {لتخذت عليه أجراً} (الكهف: 77) ، في قراء من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله: وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق} فعلى قوله: التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول: اتبع، مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا: تقى، واستدل على ذلك بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقى ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال: لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تقي، وأما يتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر: ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها تريد مباآت فسيحاً بناؤها وذكر المهدوي في «شرح الهداية» : أن الأصل واو مبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال: أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنها بدل من واو أصلية. الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى: {اتخذت بيتاً} (العنكبوت: 41) ، وتارة لاثنين نحو قوله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الفرقان: 43) : بمعنى صير. العجل} : معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد، فالتقدير: جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها. شكر يشكر شكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك. وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} : معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف. بكم: متعلق بفرّقنا، والباء معناها: السبب، أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبساً، كما قال: تدوس بنا الجماجم والتريبا أي ملتبسة بنا. {وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ} والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضاً بالتضعيف. {وأنتم تنظرون} : جملة حالية. {وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف مضاف التقدير تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله: فواعديه سر حتى مالك أو النقا بينهما أسهلا أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو: على أنني بعدما قد مضى ثلاثون للهجر حولاً كميلا وعشرين منها أصبعاً من ورائنا ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب: ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو: هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو.

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار} (الأعراف: 148) ، على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل علىها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلهاً، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً، والأرجح القول الأوّل، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: اتخذ قوم موسى} (الأعراف: 148) ، وفي: اتخذوه وكانوا ظالمين} (الأعراف: 148) ، وفي: إن الذين اتخذوا العجل} (الأعراف: 152) ، وفي قوله في هذه السورة أيضاً: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} (البقرة: 54) ، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. {وأنتم ظالمون} : جملة حالية. {وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ} أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّمحتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير: ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقول الشاعر: وزججن الحواجب والعيونا التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير: أطعمت زيداً خبزاً ولحماً، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . {خيرٌ} : هي أفعل التفضيل، حذفت همزتها شذوذاً في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي للتفضيل، وقال الأحوص: وزادني كلفاً بالحب أن منعت وحب شيء إلى الإنسان ما منعا وقد نطقوا بالهمزة في الشعر، قال الشاعر: بلال خير الناس وابن الأخير واسم المفعول، تقول: يرى وترى ونرى وأرى زيداً، وأريت زيداً، ورَزيداً، ومر زيداً، ومرى. وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى من كذا، وفي ما أرأاه وأرئه في التعجب. وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأى ما ذكرناه من الإبصار في يقظة أو نوم أو الاعتقاد، فإن كانت رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يرآه: أي أصاب رئته، نقله صاحب كتاب الأمر. ولغة تميم إثبات الهمزة فيما حذف منه غيرهم، فيقولون: يرأى وأرئي؟ وقال بعض العرب: فجمع بين حذف الهمزة والإثبات: ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر ومن يتمل العيش يرأى ويسمع

واللام في قوله: {لقومه} ، للتبليغ، و {يا قوم} : منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزىء بالكسرة عنها، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها، فتقول: يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفاً، فتقول: يا غلاماً. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها، فتقول: يا غلام، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا غلام، تريد: يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل {ربّ احكم بالحق} (الأنبياء: 112) ، قال ربّ السجن أحب إليّ} (يوسف: 33) ، هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلاً أو اسماً، إن كان فعلاً فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي، فلا يجيز في هذا يا ضارب. والباء في {باتخاذكم العجل} سببية. وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي عمرو: الاختلاس، روى ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر، وقال الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل وقال آخر: رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بداهنك من المئزر وقال آخر: أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب

وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب. قال الفارسي: أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمرو ما حكاه أبو زيد من قوله تعالى: {ورسلنا لديهم يكتبون} (الزخرف: 80) . وقراءة مسلمة ابن محارب: وبعولتهنّ أحقّ بردّهن في ذلك} (البقرة: 288) . وذكر أبو عمرو: أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه، ومثل تسكين بارئكم، قراءة حمزة، ومكر السيىء} (فاطر: 43) . وقرأ الزهريّ: باريكم، بكسر الياء من غير همز، وروي ذلك عن نافع. ولهذه القراءة تخريجان أحدهما:} أن الأصل الهمز، وأنه من برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين. والثاني: أن يكون الأصل باريكم، بالياء من غير همز، ويكون مأخوذاً من قولهم: بريت القلم، إذا أصلحته، أو من البري: وهو التراب، ثم حرك حرف العلة، وإن كان قياسه تقديراً لحركة في مثل هذا رفعاً وجراً، وقال الشاعر: خبث الثرى كأبي الأزيد وهذا كله تعليل شذوذ. والفاء في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} ، إن قلنا: إن التوبة هي نفس القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه الجملة بدلاً من قوله، فتوبوا، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية. وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء للتعقيب. {لكم} : متعلق بخير إن كان للتفضيل، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف، أي خير كائن لكم. والتخريجان يجريان في نصب قوله: {عند بارئكم} .

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} : ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم. وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو: إذ في قوله: {وإذ قال موسى لقومه} (البقرة: 67) . وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة، هي وحرف الشرط، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه. وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام الفصيح، نحو قوله: فطلقها فلست لها بكفؤ وإن لا يعل مفرقك الحسام} التقدير: وأن لا تطلقها يعل، فإن كان غير منفي بلا، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله: سقته الرواعد من صيف وإن من خريف فلن يعدما التقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذلك على أحد التخريجين في البيت، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة، نحو قوله: قالت بنات العمّ يا سلمى وإن كان عيياً معدماً قالت وإن التقدير: وإن كان عيياً معدماً أتزوجه. وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معاً، وإبقاء الجواب، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو. وظاهر قوله: {فتاب عليكم} أنه كما قلنا: إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: معناه على الباقين، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة، وتاب على الباقين وعفا عنهم، انتهى كلامه. {إنه هو التواب الرحيم} : تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم: {فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} (البقرة: 37) ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى} : هذه محاورة بني إسرائيل لموسى، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا. والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين، قاله ابن مسعود وقتادة، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي، إن شاء الله تعالى، في مكانها في الأعراف. وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله، قاله ابن زيد. وقيل: الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل. {حتى نرى الله جهرة} حتى: هنا حرف غاية، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناماً أو علماً بالقلب. والمعنى حتى نرى الله عياناً، وهو مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية، فانتصابها على حدّ قولهم: قعد القرفصاء، وفي نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوباً بالفعل السابق يعدى إلى النوع، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا. {وأنتم تنظرون} : جملة حالية. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} : مفعول على إسقاط حرف الجرّ، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرداء، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، بجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم: عدّلت زيداً، أي جعلته عدلاً، فكذلك هذا معناه: جعلنا الغمام عليكم ظلة، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما ورد في الحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله» ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهه مما يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني فعل.

{من طيبات} : من: للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى مختلف في إثباته، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك. وما في قوله: {ما رزقناكم} موصولة، والعائد محذوف، أي ما رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير، ويكون يطلق المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن. {وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) ، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} (البقرة: 13) ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون يدل عليه ما قبلها بوجه ما. وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) } ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.

ولم يذكره ابن مالك في «التسهيل» ولا فيما وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله: {أنفسهم} ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريًّا، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد، وذلك أنك تقول: ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافياً لما قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيداً ولكن عمراً، فلست مضطراً لذكر العامل. فلما كان معنى قوله: {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} في معنى: {ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطراً إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا ولكن أنفسهم، لكان كلاماً عربياً، ويكتفى بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَيَكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} .

خطايا: فجمع خطية مشددة عند الفراء، كهدية وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه: أصله خطائيّ، مثل: صحائف، وزنه، فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فصار: خطآء، فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا، كهدايا ومطايا. وعند الخليل أصله: خطايىء، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي، المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قول سيبويه. وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب «التكميل لشرح التسهيل» من تأليفنا. التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه، ويتعدّى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت ديناراً بدرهم: أي جعلت ديناراً عوض الدرهم، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول: بدلت زيداً ديناراً بدرهم: أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى: {فأولئك يبدّل الله سيئاتهم} (الفرقان: 70) ، أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل، والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد.

العصا: مؤنث، والألف منقلبة عن واو، قالوا: عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذاً، قالوا: أعص، أصله أعصوو، على فعول قياساً، قالوا: عصى، أصله عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر: ألا إن لا تكن إبل فمعزى كائن قرون جلتها العصى اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: أثن، ولا أثنة، ولامهما محذوفة، وهي ياء، لأنه من ثنيتا. أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول الشاعر: وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب: مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه: كسرت ودخل، أو أعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون. {مَّا سَأَلْتُمْ} سأل يسأل: على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. {سلهم أيّهم بذلك زعيم} ، قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجري مجرى العلم. النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنى مفعل، كسميع من أسمع، وجمع على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبيء، وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئاً. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل، كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل. وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع.

وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي، نحو: دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} (البقرة: 35) (الأعراف: 19) ، وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: ولا تقربا هذه} مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه. {وَادْخُلُواْ الْبَابَ} : الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية. {سُجَّدًا} : نصب على الحال من الضمير في ادخلوا. والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب سيبويه: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى. {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله: صبر جميل فكلانا مبتلي والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي: صبراً جميلاً فكلانا مبتلي بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر: إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة معتقة مما تجيء به التجر

روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو: قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقرى من الرجوع، وحطة ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي. أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكي به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى: {يقال له إبراهيم} (الأنبياء: 60) إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله: سمعت الناس ينتجعون غيثاً وجدنا في كتاب بني تميم أحق الخيل بالركض المعار} فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها. {وَقُولُواْ} وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) ، وذكرنا الخلاف في ذلك.

{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وهذه الجملة معطوفة على: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} ، وليست معطوفة على نغفر فتكون جواباً، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الأعراف في قوله {سنزيد} ؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً. والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله. {قولاً غير الذي قيل لهم} (الأعراف: 161) :} ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل على أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل، والمنصوب هو الحاصل. {بما كانوا} ، ما: مصدرية التقدير بكونهم مضى {يفسقون} . وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، وهو بعيد. فيفسقون يحتمل الحال، وإن كان قد وقع على ما مى من المخالفات التي فسقوا بها، فهو مضارع وقع موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} وقيل: مفعول استسقى محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله: {إذ استسقاه قومه} (الأعراف: 160) ، أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان يسمع من كلامهم: استسقى زيد ربه الماء، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقى منه ومرة إلى المستسقي، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب.

{فَانفَجَرَتْ} : الفاء للعطف على جملة محذوفة، التقدير: فضرب فأنفجرت، كقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق. وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود، قال تعالى: {فأرسلون يوسف أيّها الصّدّيق} (يوسف: 45) ، التقدير: فأرسلوه فقال: فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جاز حذفهما معاً، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف، بل هي جواب شرط محذوف، قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: فتاب عليكم} (البقرة: 54) ، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ، أه كلامه.

وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله: {فتاب عليكم، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر، فقد تاب عليكم، وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهاره قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى، نحو قوله: وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك، وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن يضرب، وإذا كان مترتباً على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضياً نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إليّ فق دأحسنت إليك، ويحتاج إلى تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني فغفر الله لك. وأيضاً فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا، وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه، وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ {منه} متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب.

{اثنتا عشرة} : التاء في اثنتا للتأنيث، وفي ثنتا للإلحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. وعشرة في موضع خفض بالإضافة، وهو مبني لوقوعه موقع النون، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعاً وانقلابها نصباً وجراً، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها، فلا يقال: اثنتا عشرتك. وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني، ولم يجعل الإنقلاب دليل الإعراب. {عيناً} : منصوب على التمييز، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب. {مِن رِّزْقِ اللَّهِ} ، من: لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض. {يُخْرِجْ لَنَا} : جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع، وقد مر نظيره في {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) . وقيل: ثم محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل: جزم يخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. مما تنبت الأرض} : مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضية: أي مأكولاً مما تنبت، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة، التقدير: ما تنبت، وما موصولة، والعائد محذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو البقاء: لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز، إذ المنبت هو الله تعالى، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها.

{مِن بَقْلِهَا} : هذا بدل من قوله: {مما تنبت الأرض} ، على إعادة حرف الجرّ، وهو فصيح في الكلام، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل. فمن على هذا التقدير تبعيضية، كهي في مما تنبت، ويتعلق بيخرج، إمّا الأولى، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل، هل هو العامل الأول، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني، وأجاز المهدويّ أيضاً، وابن عطية، وأبو البقاء أن تكون من في قوله: {من بقلها} لبيان الجنس، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص، ثم اختلفوا، فقال أبو البقاء: موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره: مما تنبته الأرض كائناً من بقلها، وقدّم ذكر هذا الوجه قال: ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما المهدوي، وابن عطية فزعما مع قولهما: إن من في {من بقلها} بدل من قوله: {مما تنبت} ، وذلك لأن من في قوله {مما تنبت} للتبعيض، ومن في قوله {من بقلها} على زعمهما لبيان الجنس. فقد اختلف مدلول الحرفين، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين، فلا يجوز البدل إلا إن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله: {مما تنبت الأرض} لبيان الجنس، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس. والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض، وأمّا أن تكون لبيان الجنس، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك.

{الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} ، والذي: مفعول أتستبدلون، وهو الحاصل، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل، كما قررناه في غير مكان. {هو أدنى} : صلة للذي، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين، إذ لا طول في الصلة، وأدنى: خبر عن هو، وهو: أفعل التفضيل، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره: أدنى من ذلك الطعام الواحد، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعد ذلك، وهو قوله: {بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} . {اهْبِطُواْ مِصْرًا} وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الإسم العلم. والمراد بقوله: {أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتاً} (يونس: 87) ، قالوا: وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الإسم لسكون وسطه، قاله الأخفش، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الإسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله: لم تتلفع بفضل ميزرها دعد ولم تسق دعد في العلب} وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه.

{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} : هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة. {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} : تقدم تفسير باء، فعلى من قال: باء: رجع، تكون الباء للحال، أي مصحوبين بغضب، ومن قال: استحق، فالباء صلة نحو: لا يقرأن بالسور: أي استحقوا غضباً، ومن قال: نزل وتمكن أو تساووا، والباء ظرفية، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق، وعلى الثالث بنفس باء. وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب، فعلى هذا تتعلق بباء، ويكون مفعول باء محذوفاً، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم. {مِّنَ اللَّهِ} يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤا إذا كان باء بمعنى رجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكون في موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن، ويبعد الوجه الأول. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} والإشارة إلى المباءة وهو مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم. {بِغَيْرِ الْحَقِّ} : متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل: ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد. {ذلِكَ بِمَا عَصَواْ} وما: في قوله {بِمَا عَصَواْ} مصدرية، أي ذلك بعصيانهم.

{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ * فَجَعَلْنَهَا نَكَلاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} . هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: ثاب، أو عن ياء والمضارع يهيد، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى: {إنا هدنا إليك} (الأعراف: 156) .

لولا: للتحضيض بمنزلة هلا، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء، وبفعل محذوف عند الكسائي، وبالابتداء عند البصريين، والخبر محذوف عند جمهورهم، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في «منهج السالك» من تأليفنا، وليست جملة الجواب الخبر، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول: لولاني ولولاك ولولاه، إلى آخرها، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه، وفي موضع رفع عند الأخفش، استعير ضمير الجر للرفع، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم: ما أنا كانت، ولا أنت كانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية، وجعل من ذلك {فلولا كانت قرية آمنت} (يونس: 98) ، فبعيد قوله عن الصواب. خلف: ظرف مكان مبهم، وهو متوسط التصرف، ويكون أيضاً وصفاً، يقال رجل خلف: بمعنى رديء. {مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} ، من: مبتدأة، ويحتمل أن تكون شرطية، فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة، فالخبر قوله: {فلهم أجرهم} ، ودخلت الفاء في الخبر، لأن المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر، وقد تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله: {من آمن} في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ، وإن الرابط محذوف تقديره: من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني: الذي هو صلة الذين، والذي هو صلة من.

ومن أعرب من مبتدأ، فإنما جعلها شرطية. وقد ذكرنا جواز كونها موصولة، وأعربوا أيضاً من بدلاً، فتكون منصوبة موصولة. قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعده، ولا يتم ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، إذا كانت مبتدأة. والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن، فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول ضمن معنى الشرط، ولم يعتد بدخول إن على الموصول، وذلك جائز في كلام العرب، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك. ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله، وحذف منه حرف العطف، التقدير: ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب. {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم في موضع الخبر. وعند الأخفش والكوفيين: إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور. {عند ربهم} : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم، ويحتمل أن ينتصب على الحال، والعامل فيه محذوف تقديره: كائناً عند ربهم. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} والواو في قوله: ورفعنا، واو العطف: على تفسير ابن عباس، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور. وأما على تفسير أبي مسلم: فإنها واو الحال، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم، نحو قوله تعالى: {ونادى نوح ابنه وكان في معزل} (هود: 42) ، أي وقد كان في معزل. {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَكُم} وما موصول، والعائد عليه محذوف، أي: ما آتيناكموه. وقرأ ابن مسعود: تذكروا، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا.

{فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود، وما يشبهه مما يليق بالموضع. وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع الخبر. والتقدير: {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} موجودان، {لكنتم} : جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام، ولم يجىء في القرآن مثبتاً إلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: {وهمّ بها} (يوسف: 24) ، جواب: لولا قدم فإنه لا لام معه. وقد جاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر، قال الشاعر: لولا الحياء ولولا الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر: لولا الأمير ولولا حق طاعته لقد شربت دماً أحلى من العسل وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيد قد أكرمتك. {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ} اللام في لقد: هي لام توكيد، وتسمى: لام الابتداء في نحو: لزيد قائم. ومن أحكامها: أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو. وقد صنف بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن تكون جواباً لقسم محذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد. منكم: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف تقديره: كأثنين منكم، ومن للتبعيض. في السبت: متعلق باعتدوا، إما على إضمار يوم، أو حكم. {قِرَدَةً خَسِئِينَ} : كلاهما خبر كان.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِىَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأٌّرْضَ وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

بين: ظرف مكان متوسط التصرف، تقول: هو بعيد بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى: {هذا فراق بيني وبينك} (الكهف: 78) ، ودخولها إذا كانت ظرفاً: بين ما تمكن البينية فيه، والمال بين زيد وبين عمرو، مسموع من كلامهم، وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذ ذاك الجملة الإسمية والفعلية، وربما أضيفت بينا إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنه ألوان. الآن: ظرف زمان، حضر جميعه أو بعضه، والألف واللام فيه للحضور. وقيل: زائدة، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه منقول من الفعل، يقال: آن يئين أيناً: أي حان. و {أن تذبحوا} في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط الحرف، أي بأن تذبحوا. ولحذف الحرف هنا مسوّغان: أحدهما: أنه يجوز فيه، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر، أن يحذف الحرف، كما قال: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به والثاني: كونه مع إن، وهو يجوز معه حذف حرف الجر إذا لم يلبس. {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله: {أتتخذنا هزواً} ، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ، كقوله: درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزؤ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلاً، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء. {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِىَ} ، وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله: سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي، لأن التبيين يلزمه الإعلام.

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} : صفة لبقرة، والصفة إذا كانت منفية بلا، وجب تكرارها، كما قال: وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل فإن جاءت غير مكرّرة، فبابها الشعر، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل، فقدر مبتدأ محذوفاً، أي (لا هي فارض ولا بكر) ، فقد أبعد، لأن الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أن لا حذف. {بين ذلك} : يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد، فقيل: أشير بذلك إلى مفرد، فكأنه قيل: عوان بين ما ذكر، فصورته صورة المفرد، وهو في المعنى مثنى، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً حقيقة، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، قالوا: وقد أجري الضمير مجرى اسم الإشارة، قال رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو كأنهما، فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك، وقال لبيد: إن للخير وللشرّ مدى وكلا ذلك وجه وقبل قيل: أرادوا كلا ذينك، فأطلق المفرد وأراد به المثنى، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك، وهذا مجمل غير الأوّل. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا، وهو أن يكون ذلك مما حذف منه المعطوف، لدلالة المعنى عليه، التقدير: عوان بين ذلك وهذا، أي بين الفارض والبكر، فيكون نظير قول الشاعر: فما كان بين الخير لو جاء سالماً أبو حجر إلا ليال قلائل أي: فما كان بين الخير وباغيه، فحذف لفهم المعنى. {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي والبرد. وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون المصدر بمعنى المفعول، أي مأموركم، وفيه بعد. وفي جزم: {يبين} ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله، فأغنى عن ذكره.

{لَوْنُهَا} : ذكروا في إعرابه وجوهاً: أحدها: أنا فاعل مرفوع بفاقع، وفاقع صفة للبقرة. الثاني: أنه مبتدأ وخبره فاقع. والثالث: أنه مبتدأ، و {تسرّ الناظرين} خبر. وأنث على أحد معنيين: أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه. والثاني: أنه يراد به المؤنث، إذ هو الصفرة، فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين، فحمل على المعنى كقولهم: جاءته كتابي فاحتقرها، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل، لأن إعراب لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون، أو تسرّ الناظرين خبره، فيه تأنيث الخبر، ويحتاج إلى تأويل، كما قررناه. وكون لونها فاعلاً بفاقع جار على نظم الكلام، ولا يحتاج إلى تقديم، ولا تأخير، ولا تأويل، ولم يؤنث فاقعاً وإن كان صفة لمؤنث، لأنه رفع السبي، وهو مذكر فصار نحو: جاءتني امرأة حسن أبوها، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراء على سبيل التوكيد، لأنه يلزم المطابقة، إذ ذاك للمتبوع. ألا ترى أنك تقول أسود حالك، وسوداء حالكة، ولا يجوز سوداء حالك؟ فأمّا قوله: وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً كأن ذكي المسك فيها يفتق

فبابه الشعر، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة وهذه الجملة صفة للبقرة، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً، كقوله: لونها، وفيه تكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل، ولم يجيء باسم الفاعل، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد. ولما كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله، لأنه ناشىء عن الوصف قبله، أو كالناشىء، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً، دهشت فيه الأبصار، وعجبت من حسنه البصائر، وجاء بوصف الجمع في الناظرين، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها، متلذذة فيها بالنظر. فليست مما تعجب شخصاً دون شخص، ولذلك أدخل الألف واللام التي تدل على الاستغراق، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها، وإن كان النظر هنا من نظر القلب، وهو الفكر، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله، من تحسين لونها وتكميل خلقها. والضمير في تسرّ عائد على البقرة، على تقدير أن تسرّ صفة، وإن كان خبراً، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقد تقدّم توجيه التأنيث، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء، فهو عائد على اللون، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ، ويسر خبراً، ويكون فاقعاً صفة تابعة لصفراء، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو: وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً على قلة ذلك، ويحتمل أن يكون لونها فاعلاً بفاقع، ويسر إخبار مستأنف.

{إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا} وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت، بتشديد الشين مع كونه فعلاً ماضياً، وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنتا عشرة قراءة. وتوجيه هذه القراآت ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض الناس: لا وجه لها. وتبيين ما قاله: إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيه، والماضي لا يكون فيه تاآن، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصله أن البقرة اشابهت علينا، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل، أو اشابهت أصله: تشابهت، فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة، صار اللفظ: أن البقرة اشابهت، فظن السامع أن تاء البقرة هي تاء في الفعل، إذ النطق واحد، فتوهم أنه قرأ: تشابهت، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق، فإنه رأس في علم النحو، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو. وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم، كالفرزدق، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب، فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها، وأن البقر تعليل للسؤال، كما تقول: أكرم زيداً إنه عالم، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم. {وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} : وجواب هذا الشرط محذوف يدل عليه مضمون الجملة، أي إن شاء الله اهتدينا، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ومنفياً بلم، وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب، فكان الترتيب أن يقال في الكلام: إن زيداً لقائم إن شاء الله، أي: إن شاء الله فهو قائم، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها، ليحصل توافق رؤوس الآي.

{لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأٌّرْضَ وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ} لا ذلول؛ صفة للبقرة، على أنه من الوصف بالمفرد، ومن قال هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير: لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض: صفة لذلول، وهي صلة داخلة في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض، أي لا تثير فتذل، فهو من باب: على لاحب لا يهتدي بمناره {وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ} : نفي معادل لقوله: لا ذلول. والجملة صفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضاً. قال الزمخشري: لا ذلول، صفة لبقرة بمعنى: بقرة غير ذلول، يعني: لم تذلل للحرث وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث. ولا: الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. انتهى كلامه. ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب «المنتخب» ، وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: لا ذلول، صفة منفية بلا، وإذا كان الوصف قد نفي بلا، لم تكرار لا النافية، لما دخلت عليه، تقول: مررت برجل لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى: {ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب} (المرسلات: 30 31) وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم} (الواقعة: 43 44) لا فارض ولا بكر} ، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي، إلا إن ورد في ضرورة الشعر، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية، وعلى ما قدراه كان نظير: جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر، كما نبهنا عليه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه.

والجملة التي أشار إليها هي قوله: تثير الأرض، والنكرة هي قوله: لا ذلول، أو قوله: بقرة، فإن عنى بالنكرة بقرة، فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازاً حسناً، وإن عنى بالنكرة لا ذلول، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه، ولا أمعن النظر في كتابه، بل قد أجاز سيبويه في كتابه، في مواضع مجيء الحال من النكرة، وإن لم توصف، وإن كان الإتباع هو الوجه والأحسن، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة، وقد يجوز نصبه على نصب: هذا رجل منطلقاً، يريد على الحال من النكرة، ثم قال: وهو قول عيسى، ثم قال: وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالاً، ولم يجعله صفة، ومثل ذلك: مررت برجل قائماً، إذا جعلت المرور به في حال قيام، وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائماً، ومثل ذلك: عليه مائة بيضاء، والرفع الوجه، وعليه مائة ديناً، الرفع الوجه، وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررت بماء قعدة رجل، والوجه الجر، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال: راقود خلا وعليك نحى سمناً، وقال في باب نعم، فإذا قلت لي عسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين، فالوجه الرفع، لأنه صفة، والنصب يجوز كنصبه، عليه مائة بيضاء، فهذه نصوص سيبويه، ولو كان ذلك غير جائز، كما قال ابن عطية، لما قاسه سيبويه، لأن غير الجائز لا يقال به فضلاً عن أن يقاس، وإن كان الإتباع للنكرة أحسن، وإنما امتنعت في هذه المسألة، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.

وأجاز بعض المعربين أن يكون: تثير الأرض، في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره: لا تذل في حال إثارتها، والوجه ما بدأنا به أولاً، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذلول، بالفتح. قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك، أي حيث هي، وهو نفي لذلها، ولأن توصف به فيقال: هي ذلول، ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان، أي فيهم، أو حيث هم. انتهى كلامه. فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفاً، ويكون قوله: تثير الأرض، صفة لاسم لا، وهي منفية من حيث المعنى، ولذلك عطف عليها جملة منفية، وهو قوله: ولا تسقي الحرث، وإذا تقرر هذا، فلا يجوز أن يكون {تثير الأرض ولا تسقي الحرث} خبراً، لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله، لأن قوله: {قال إنها بقرة} يبقى كلاماً منفلتاً مما بعده، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف، ويكون محط الخبر هو قوله: {مسلمة لا شية فيها} ، لأنها صفة في اللفظ، وهي الخبر في المعنى، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافياً ذلة هذه البقر، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بني معها، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول، على قراءة السلمي، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر، لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا، ولا يتخيل أن قوله: {لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث} على تقدير أن تثير، وما بعده خبر يكون دالاً على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهم وإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة، لأنك قيدت الخبر بتقديرك حيث هي، فصلح هذا النفي، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص، وهو الأرض والحرث، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا

ساقية حيث تلك البقرة، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص، إما بالخبر المحذوف، وإما بتعلق الخبر المثبت. وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها، إذا جعلت تثير خبرأ لا يقال أن الرابط هنا هو العموم، إذ البقرة فرد من أفراد اسم الجنس، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو: زيد نعم الرجل، على خلاف في ذلك، ولعل الأصح خلافه. وباب نعم باب شاذ لا يقاس عليه، لو قلت زيد لا رجل في الدار، ومررت برجل لا عاقل في الدار، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار، انتفى زيد فيها، وإذا قلت: لا عاقل في الدار، انتفى العقل عن المرور به، لم يجز ذلك، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبراً للا ذلول، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي، من حيث المعنى، لا من حيث كون الجملتين صفة للبقرة. وأما تمثيل الزمخشري بذلك، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم، أو حيث هم، فتمثيل صحيح، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم، إنما الرابط هذا الضمير، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير، إذ قدره لا ذلول هناك، أي حيث هي، فهذا الضمير عائد على البقرة، وحصل به الربط كما حصل في تمثيله بقوله: فيهم، أو: حيث هم، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى: {لا ذلول} في قراءة السلمي يتخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير حذف خبر، والثاني: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة الجمهور أولى، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن، على أحد تخريجيها، تكون قد بدأت

بالوصف بالجملة وقدّمته على الوصف بالمفرد، وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحابنا، لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد، فقد قدّمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد، والمفعول الثاني لتسقي محذوف، لأن سقي يتعدى إلى اثنين. {مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} : قال أبو محمد بن عطية: ومسلمة، بناء مبالغة من السلامة، وقاله غيره، فقال: هي من صيغ المبالغة، لأن وزنها مفعلة من السلامة، وليس كما ذكر، لأن التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجل المبالغة، بل هو تضعيف النقل والتعدية، يقال: سلم كذا، ثم إذا عدّيته بالتضعيف، فالتضعيف هنا كهو في قوله: فرحت زيداً، إذ أصله: فرح زيد، وكذلك هذا أصله: سلم زيد، ثم يضعف فيصير يتعدّى. فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادف للبناء المتعدّي بالهمزة. {قَالُواْ الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} : وانتصاب الآن على الظرفية، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر، وهو قوله لهم: {إنها بقرة لا ذلول} إلى {لا شية فيها} ، والعامل فيه جئت. {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} : وكاد في الثبوت تدل على المقاربة. فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فمعناه مقاربة القيام، ولم يتلبس به. فإذا قلت: ما كاد زيد يقوم، فمعناه نفي المقاربة، فهي كغيرها من الأفعال وجوباً ونفياً. وقد ذهب بعض الناس إلى أنها إذا أثبتت، دلت على نفي الخبر، وإذا نفيت، دلت على إثبات الخبر، مستدلاً بهذه الآية، لأن قوله تعالى: {فذبحوها} يدل على ذلك، والصحيح القول الأول. {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} : معطوف على قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه} . {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} ، ما: منصوب باسم الفاعل، وهو موصول معهود. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} : جملة معطوفة على قوله: {قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} . والجملة من قوله تعالى: {واللَّه مخرج ما كنتم تكتمون} اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه.

{ويريكم آياته} : ظاهر هذا الكلام الاستئناف، ويجوز أن يكون معطوفاً على يحيي. {فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ} والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف وفاقاً لسيبويه وجمهور النحويين، خلافاً لمن ادعى أنها تكون اسماً في الكلام، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير: فهي كائنة كالحجارة، خلافاً لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس. {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو للإبهام، أو للشك، أو للتخيير، أو للتنويع، أقوال، وذكر المفسرون مثلاً لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير.

وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلا منهما ينتصب عنه التمييز، تقول: زيد كعمرو حلماً، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل، منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافاً إليه مقامه. تقول: زيد أحسن وجهاً من عمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجهاً وأقمت ما كان مضافاً مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجه مبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو، وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كان الأصل ذلك، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجه أصل هذا الرفع، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا هذا، لأن ذكر مجيء التمييز منقولاً من المبتدأ غريب، وأفرد أشدّ، وإن كانت خبراً عن جمع، لأن استعمالها عنا هو بمن، لكنها حذفت، وهو مكان حسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبراً عن المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب، ولا حاجة إلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون التقدير: أو هي أشدّ قسوة، فيصير من عطف الجمل. والثاني: أن يكون، التقدير: أو مثل أشدّ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك الموصوف بأشدّ المحذوف. ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش، بنصب الدال عطفاً على، كالحجارة، قاله الزمخشري. وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة. وأما على قراءة الرفع، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه، ولا إضمار فيه، فكان أرجح.

وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله: إنه معطوف على الكاف، فقال: هو على مذهب الأخفش، لا على مذهب سيبويه، لأنه لا يجيز أن يكون إسماً إلا في الشعر، ولا يجيز ذلك في الكلام، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون: أشدّ، خبر مبتدأ مضمر، أي وهي أشدّ. انتهى كلامه. وما ذهب إليه الزمخشري صحيح، ولا يريد بقوله: معطوف على الكاف، أن الكاف اسم، إنما يريد معطوفاً على الجار والمجرور، لأنه في موضع مرفوع، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور. وقوله: فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر، أي هي أشدّ، قد بينا أن الأولى غير هذا، لأنه تقدير لا حاجة إليه. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب، قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة، كأنه قيل: اشتدّت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. انتهى كلامه. ومعنى قوله: وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة، والنقص مثبت. وفي كونه من أفعل، أو من كون، أو من مبني للمفعول خلاف. وقرأ أبو حيوة: أو أشدّ قساوة، وهو مصدر لقسا أيضاً.

{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ} وقرأ الجمهور: وإنّ مشدّدة، وقرأ قتادة: وإن مخففة، وكذا في الموضعين بعد ذلك، وهي المخففة من الثقيلة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معملة، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه، التقدير: وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار، وكذلك ما فيها، كقوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164) ، أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} (النساء: 159) ، أي وما من أهل الكتاب أحد، وحذف هذا المبتدأ أحسن، دلالة المعنى عليه، إلا أنه يشكل معنى الحصر، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة، فمنها ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله. وإذا حصرت، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها، أي تتفجر منه الأنهار، ويتشقق منه الماء، ويهبط من خشية الله. ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية، إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع فيه، إذا أرد الله ذلك. فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير: أن يقرأ طلحة، وإن بالتخفيف. وأما إن صح عنه أنه يقرأون بالتشديد، فيعسر توجيه ذلك. وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية، فلا يصح قوله، ولا يثبت ذلك في لسان العرب. ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد، مع قراءة إن بالتشديد، بأن يكون اسم إن محذوفاً لفهم المعنى، كما حذف في قوله: ولكن زنجيّ عظيم المشافر وفي قوله: فليت دفعت الهم عني ساعة وتكون لما بمعنى حين، على مذهب الفارسي، أو حرف وجوب لوجوب، على مذهب سيبويه. والتقدير: وإن منها منقاداً، أو ليناً، وما أشبه هذا. فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وصاحبها، فحذف الاسم وحده أسهل.

{وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أن تكون ما تميمية، فدخلت الباء في خبر المبتدأ، وسوّغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول: زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه، بل القائلون قائلان، قائل: بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه، وتبعه الزمخشري. وقائل: بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح. وقال الفرزدق: لعمرك ما معن بتارك حقه وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيراً.

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواْءَامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} . التحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه يحدث، وأصله من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالث بالباء، فيقال: حدثت زيداً عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين، فيتعدى إلى ثلاثة، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير: أعلم، وأرى ونبأ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة: أو منعتم ما تسألون فمن حدثتموه له علينا العلاء

وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة، ويحتمل أن يكون التقدير: حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج سيبويه قوله: ونبئت عبد الله، أي عن عبد الله، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى: أعلمت، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على التضمين. وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك، إلا أن يثبت من لسان العرب. ويل: الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وأل مصنوع، ولم يجىء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا: ويل، وويح، وويس، وويب، ولا يثنى ولا يجمع. ويقال: ويله، ويجمع على ويلات. قال: فقالت لك الويلات إنك مرجلي وإذا أضيف ويل، فالأحسن فيه النصب، قال تعالى: {ويلكم لا تفتروا على الله كذباً} (طه: 61) . وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع، قال: فويل للذين} ، ويجوز النصب، قال: فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر الكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر، ومنه: {بلى من كسب سيئة} } (البقرة: 81) ، والفعل منه يجيء متعدياً إلى واحد، تقول: كسبت مالاً، وإلى اثنين تقول: كسبت زيداً مالاً. وقال ابن الأعرابي؛ يقال: كسب هو نفسه وأكسب غيره، وأنشد: فأكسبني مالاً وأكسبته حمداً بلى: حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى، ومعناها: ردّه، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام، أو لم يكن، وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكراً لمقاومة زيد له، لما كان معناه النفي، ومما وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم: بل سوف نبكيهم بكل مهند ونبكي نميراً بالرماح الخواطر وقعت جواباً للذي قال له، وهو الأخطل: ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر بقتلي أصيبت من نمير بن عامر

وبلى عندنا ثلاثي الوضع، وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافاً للكوفيين. {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} : والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها، والتقدير: أفتطعمون، فالفاء للعطف، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت عليها. والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف، ويقر الفاء على حالها، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها، وهو خلاف مذهب سيبويه، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها، نحو قوله: {أو من ينشأ في الحلية} (الزخرف: 18) ، أفمن يعلم أنما أنزل إليك} (الرعد: 19) ، أفمن هو قائم} (الرعد: 33) . أن يؤمنوا} معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر، التقدير: في أن يؤمنوا، فهو في موضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء، وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم. والواو في قوله: {وقد كان فريق} ، وفي قوله: {وهم يعلمون} ، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله: {أفتطمعون} ؟ ويحتمل أن يكون: {أن يؤمنوا} . وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: {وهم يعلمون} ، قوله: {عقلوه} ، والظاهر القول الأول، وهو قوله: {يحرفونه} . {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} . وقد جوّزوا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول.

{لِيُحَآجُّوكُم} : هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار، إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله: {أتحدثونهم} ، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنها للسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكي أكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لا: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: أن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به، فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً} (القصص: 8) . لم يلتقطوه لهذا الأمر، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوّز عند ربكم} معمول لقوله: {ليحاجوكم} . {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} : وقد تقدم لنا أن مثل {أفلا تعقلون} (البقرة: 44) ، أو لا يعلمون} (البقرة: 77) ، أن الفاء والواو فيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدّمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. وأن الله يعلم} : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد، ويجعل الثاني محذوفاً، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرّونه ويعلنونه.

{لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ} : جملة في موضع الصفة، والكتاب هو التوراة. {إِلاَّ أَمَانِىَّ} : استثناء منقطع، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيماً؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهي لغة أهل الحجاز. والوجه الثاني: الاتباع على البدل بشرط التأخر، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين. {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} إن هنا: هي النافية، بمعنى ما، وهم: مرفوع بالابتداء، وإلا يظنون: في موضع الخبر، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية، فدخلت على المبتدأ والخبر، لم يعمل عمل ما الحجازية، وقد أجاز ذلك بعضهم، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره، والصحيح أنه لا يجوز، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو: إن هو مستولياً على أحد إلا على أضعف المجانين وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما، وليس في كتابه نص على ذلك. {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ} وهو نكرة فيها معنى الدعاء، فلذلك جاز الابتداء بها، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً، وذكرناها في كتاب «منهج المسالك» من تأليفنا. {ثُمَّ يَقُولُونَ} ومعمول القول هذه الجملة التي هي: {هذا من عند الله ليشتروا} ، علة في القول، وهي لام كي، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق بيقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له. {به ثمناً قليلاً} ، به: متعلق بقوله: ليشتروا، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: {هذا من عند الله} .

{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا} وهمزة الوصل من اتخذ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال: قل اتخذتم، بفتح اللام، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله: ظرف منصوب باتخذتم، وهي هنا تتعدى لواحد، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين، فيكون الثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف. {فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} : هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، كقوله: أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري: {فلن يخلف} متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلف الله عهده، كأنه اختار القول الثاني من أن الشريط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية: {فلن يخلق الله عهده} ، اعتراض في أثناء الكلام، كأنه يريد أن قوله: {أم تقولون} معادل لقوله: {قل أتخذتم عند الله عهداً} ، فصارت هذه الجملة، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل، جملة اعتراضية، فلا يكون لها موضع من الإعراب. {بلى} : حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقاً في نفي قيام زيد. وإذا قلت: بلى، كان نقضاً لذلك النفي. {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولاً، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمه بالذين، وهو موصول.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَ بَنِى إِسْرءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَرِهِمْ تَظَهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَرَى تُفَدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .

{وَذِى الْقُرْبَى} ذو: بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي، ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوّة، من باب خوّة، وقوّة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوباً، إذا اقترنا وضعاً، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذو رعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعاً، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطرى: ذو عمرو، وذو قطرى، ويعنون به صاحب هذا الإسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر: وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما رجونا قدماً من ذويك الأفاضل وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة، ولها أحكام في النحو. {وَالْيَتَمَى} : فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفرده: يتيم، كنديم، وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام. الدم: معروف، وهو محذوف اللام، وهي ياء، لقوله: جرى الدميان بالخبر اليقين أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصوراً، قال: غفلت ثم أتت تطلبه فإذا هي بعظام ودما وقال: ولكن على أعقابنا يقطر الدما في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدّد الميم، قال الشاعر: أهان دمّك فرغاً بعد عزته يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفاً، ولا معتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً واحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدل نحو: رواو، وقالوا: في جمع طويل: طوال وطيال.

{الدُّنْيَا} : تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله: في سعي دنيا طالما قد مدّت والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} (يونس: 24) ، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج: في المقصور والممدود} له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو. وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً.

أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدراً، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدراً حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيداً، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً: المبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالاً مقارنة، وحالاً مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره يحفرها، ومن نظمها قوله: ألا أيهذا الزّاجري احضر الوغى

أصله: مره بأن يحفرها. وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه، فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو أصحابنا. وذهب جماعة من النوحيين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع.

وفي انتصاب {إحساناً} على وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على لا تعبدون، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، ويكون انتصاب إحساناً على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، فالعامل فيه الميثاق، لأنه به يتعلق الجار والمجرور، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني: أن يكون متعلقاً بإحساناً، ويكون إحساناً مصدراً موضوعاً موضع فعل الأمر، كأنه قال: وأحسنوا بالوالدين. قالوا: والباء ترادف إلى في هذا الفعل، تقول: أحسنت به وإليه بمعنى واحد، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف، أي وأحسنوا ببر الوالدين، المعنى: وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظاً به. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول، نحو: ضربا زيداً، وليس بشيء، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولاً بأن ينحل لحرف مصدري والفعل، أما إذا كان غير موصول، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول: ضربا زيداً، وزيداً ضربا، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل، لأن ذلك الفعل هو أمر، والمصدر النائب عنه أيضاً معناه الأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث: أن يكون العامل محذوفاً، ويقدر: وأحسنوا، أو ويحسنون بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف، فتقديره: وأحسنوا، مراعاة للمعنى، لأن معنى لا تعبدون: لا تعبدوا، أو تقديره: ويحسنون، مراعاة للفظ لا تعبدون، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: واستوصوا بالوالدين، وينتصب إحساناً

على أنه مفعول، قاله المهدوي: الوجه الخامس: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: ووصيناهم بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مفعول من أجله، أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً منا كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيه حذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه السادس: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذف أن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله: {ميثاق بني إسرائيل} . وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه السابع: أن تكون محكية بحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله: {وقولوا للناس حسناً} . الوجه الثامن: أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم: {لا تعبدون إلا الله} ، وهو نفي في معنى النهي أيضاً. قال الزمخشري: كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن. الوجه التاسع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل} معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر. الوجه العاشر: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء، فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب، ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب، ومع جعل الجملة مفسرة، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي، إذ تبعد حقيقة

الخبر فيه. { إِلاَّ اللَّهَ} : استثناء مفرّع، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله. والمختار، الوجه الثاني: لعدم الإضمار فيه، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر. {وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ} : معطوف على قوله: {وبالوالدين} . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر: حسناً بضمهما. وقرأ أبي وطلحة بن مصرّف: حسنى، على وزن فعل. وقرأ الجحدري: إحساناً. فأما قراءة الجمهور حسناً، فظاهره أنه مصدر، وأنه كان في الأصل قولاً حسناً، أما على حذف مضاف، أي ذا حسن، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه، وقيل: يكون أيضاً صفة، لا أن أصله مصدر، بل يكون كالحلو والمرّ، فيكون الحسن والحسن لغتين، كالحزن والحزن، والعرب والعرب. وقيل: انتصب على المصدر من المعنى، لأن المعنى: وليحسن قولكم حسناً. وأما من قرأ: حسناً بفتحتين، فهو صفة لمصدر محذوف، أي وقولوا للناس قولاً حسناً. وأما من قرأ بضمتين، فضمة السين إتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ: حسنى، فقال ابن عطية: رده سيبويه، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدراً، كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك، لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وليس على ما ذكر. أما أفعل فله استعمالات: أحدها: أن يكون بمن ظاهرة، أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال، بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث: أن يضاف إلى معرفة، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام، ويكون معرفة بهما. والثاني: بالإضافة إلى معرفة نحو: فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل، فقول ابن عطية: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا

معرفة، ليس بصحيح. وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً، وليس كذلك، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدراً إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة. فلا يجوز أن يعتقد في فعلى، التي مذكرها أفعل، أنها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى، وما أشبه ذلك، لا ينقاس جعل شيء منها مصدراً بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل، صارت بمعنى: كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل، كان أكبر بمعنى كبير، وأفضل بمعنى فاضل، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائداً إلى حسنى، لا إلى فعلى، ويكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدراً، كالعقبى. ومعنى قوله: وهو وجه القراءة بها، أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: المصدر، كالبشرى، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: رجع رجعى، وبشر بشرى، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدراً لا ينقاس. والوجه الثاني: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي وقولوا للناس كلمة حسنى، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان: أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر: وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوماً كرام سراة الناس فادعينا

فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجه الثاني: أن تكون ليست للتفضيل، فيكون معنى حسنى: حسنة، أي وقولوا للناس مقالة حسنة، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى: حسن إخوته. وأما من قرأ: إحساناً فيكون نعتاً لمصدر محذوف، أي قولاً إحساناً، وإحساناً مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي قولا ذا حسن، كما تقول: أعشبت الأرض إعشاباً، أي صارت ذات عشب. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} ونصب: قليلاً، على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضاً قوم، قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتلّ به من تسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضدّه، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤوّل بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك باباً في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22) . وقليل بها الأصوات إلا بغامها

وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} (النساء: 95) ، برفع غير، وجوّز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرّج على ذلك قول عمرو بن معدي كرب: وكلّ أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان} قال: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ: وكل خليل غيرها ضم نفسه لوصل خليل صارم أو معارز ومما أنشده النحويون: لدم ضائع نأت أقربوه عنه إلا الصبا وإلا الجنوب وأنشدوا أيضاً: وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النؤى والوتد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقال أيضاً: وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا: عطف البيان. وقال غيره: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس. وقال المبرد: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة، لم يذهب إليه نحوي. ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف، كأنه قال: امتنع قليل أن يكون توكيداً للمضمر المرفوع المستثنى منه. ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: إلا قليل منكم لم يتول، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو. {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} : جملة حالية، قالوا: مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ} : الكلام على: {تسفكون} ، كالكلام على: {لا تعبدون} إلا الله من حيث الإعراب.

{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختار أن أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبر، وتقتلون حال. وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائماً، وهاأنا ذا قائماً. وقالت أيضاً: هذا أنا قائماً، وها هو ذا قائماً، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ، وكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر، وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال، فيما قلناه من قولهم: ها أنت ذا قائماً ونحوه.

قال ابن عطية: وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد شيخنا، هؤلاء: رفع بالابتداء، وأنتم خبر مقدّم، وتقتلون حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود، فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول: هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا غرناظة، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد، مؤلف كتاب «الإقناع في القراآت» ، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على كتاب «الجمل والإيضاح» ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ، وهؤلاء الخبر، إلى عكس هذا. والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا: وهو حال منه، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا، فيطالع هناك، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء، ونقل جوازه عن الفراء، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره، جنوحاً إلى مذهب الفراء، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم. وفضل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة، من ذلك قول رجل من طيّىء: إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ، ويقتلون الخبر، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني. وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، أو معرّفاً بالألف واللام نحو: نحن العرب أقرى الناس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقد يكون علماً، كما أنشدوا: بنا تميماً يكشف الضباب. اهـ. وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضمير مخاطب، كقولهم: بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي، وهو خبر عن أنتم، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو.

{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وارتفاع هو على الابتداء، وهو إما ضمير الشأن، والجملة بعده خبر عنه، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً، وفيه ضمير عائد على الإخراج، إذ النية به التأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذا كان متحملاً ضميراً مرفوعاً. فلا يجيزون: قائم زيد، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله، وتبعهم على هذا المهدوي. ولا يجيز هذا الوجه البصريون، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو، وإخراجهم مرفوعاً به، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ، ليس ضمير الشأن، بل هو عائد على الإخراج، ومحرّم خبر عنه، وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل، ومنهم من منع. وأجازه الكسائي، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل، وقد تقدّم مع الخبر. والتقدير: وإخراجهم هو محرّم عليكم، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ، أقدم معه الفصل. قال الفراء: لأن الواو ها هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم: أحدهما: وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة، إذ التقدير: وإخراجهم هو محرّم، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة. الثاني: أن فيه تقديم الفصل، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر، أو بين ما هما أصله، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.

ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد، وهو أنه قال: قيل في هو إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرّم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو. انتهى ما نقله في هذا القول، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما: أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي. أما البصري، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة، وأما الكوفي، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى، نحو قولك: ظننته قائماً الزيدان. والثاني: أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر، وضمير الأمر لا يعطف عليه، ولا يبدل منه، ولا يؤكد. قال ابن عطية: وقيل هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفي، وليست هنا بالتي هي عماد، ومحرم على هذا ابتداء، وإخراجهم خبر. انتهى ما نقله في هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر على المبتدأ، فإعراب محرم عندهم خبر متقدم، وإخراجهم مبتدأ، وهو المناسب للقواعد، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة، ولا مسوغ لها، ويكون الخبر معرفة، بل المستقر في لسانهم عكس هذا، إلا إن كان يرد في شعر، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابن عطية: وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جداً، إذ لا موجب لتقدّم الضمير، ولا لبروزه بعد استتاره، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً، وإخراجهم مبتدأ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير، إلا إذا رفع الظاهر. ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً. قال ابن عطية: وقيل هو ضمير الإخراج، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم،

ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير. وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، منهم من أجاز ومنهم من منع. {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا} إلاّ خزي: استثناء مفرّغ، وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة، وتفصيل ذلك: أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ، فإما أن يكون هو الأوّل، أو منزلاً منزلته، أو وصفاً، إن كان الأول في المعنى، أو منزلاً منزلته، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس: إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس، قال: لا خلاف بين النحويين في قولك: ما زيد إلا أخوك، إنه لا يجوز إلا بالرفع. قال: فإن قلت ما أنت إلا لحيتك، فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا: ما أنت إلا عيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فتضمر ناصباً نحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} والذين: خبر عن أولئك، فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً، تقول: جاءني الذي قتل زيداً بالأمس، وسيقتل غداً أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بصلته خبراً. وفلا يخفف: خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلاً، كان فيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول، إنما هو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه. وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ، والذين مبتدأ ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين هم أولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلا بد من الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان، أو يكون زيد بدلاً من هذا، ومنطلق خبراً. وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانياً، ومنطلق خبراً عن زيد، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضاً فلو كان هنا رابط، لما جاز هذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً.

{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} : جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، على حدّ قوله: وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: {فلا يخفف} ، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل، لا اختصاصاً ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عاماً، فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله: {ولا هم ينصرون} يفيد ذلك، أعني العموم.

{وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَفِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَلِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الأٌّخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَدِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ

أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . بئس: فعل جعل للذّم، وأصله فعل، وله ولنعم باب معقود في النحو. {وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ} : تقدّم الكلام في هذه اللام، ويحتمل أن تكون للتأكيد، وأن تكون جواب قسم. والكتاب هنا: التوراة، في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي، وموسى هو الثاني عنده. {وَقَفَّيْنَا} : هذه الياء أصلها الواو، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء، كما تقول: غزيت من الغزو. والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين، لأن قفوت يتعدى إلى واحد. تقول: قفوت زيداً أي تبعته، فلو جاء على التعدية لكان: وقفيناه من بعده الرسل، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً. ألا ترى إلى قوله: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} (الحديد: 27) ، ولكنه ضمن معنى جئنا، كأنه قال: وجئنا من بعده بالرسل، يقفو بعضهم بعضاً، ومن في: من بعده} : لابتداء الغاية، والباء في بالرسل متعلقة بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد.

{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ} : الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى: {كلما رزقوا منها} (البقرة: 25) ، فأغنى عن إعادته. والناصب لها قوله: استكبرتم} . {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} : ظاهره أنه معطوف على قوله: استكبرتم، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون {ففريقاً كذبتم} معطوفاً على قوله: {وأيدناه} ، ويكون قوله: أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول، وهذا أيضاً محتمل، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي، وثم محذوف تقديره: ففريقاً منهم كذبتم. {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} : بل: للإضراب، وليس إضراباً عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه.

{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} : انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزماناً قليلاً يؤمنون، لقوله تعالى: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره} (آل عمران: 72) . وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدى إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعاً قليلاً يؤمنون، أي المؤمن منهم قليلاً. وما في قوله: {ما يؤمنون} ، زائدة مؤكدة، دخلت بين المعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم. ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى: فإيماناً قليلاً يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {فلا يؤمنون إلا قليلاً} (النساء: 46) . وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، وأنهم يريدون لا تنبت شيئاً، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلاً إنباتها، أي لا تنبت شيئاً، وليست ما زائدة، وقليلاً نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلاً، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلاً، لا يدل على نفي الإنبات رأساً، وكذلك لو قلنا: ضربت ضرباً قليلاً، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً. {مِنْ عِندِ اللَّهِ} : في موضع الصفة.

{مُصَدِّقٌ} : صفة ثانية، لا يقال: إنه يحتمل أن يكون {من عند الله} متعلقاً بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبيّ مصدقاً، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة. واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدره نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه.

{وَكَانُواْ} ، يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما. {مِن قَبْلُ} : أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة. وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: {فلما جاءهم} ، جواب لما الأولى، وكفروا، جواب لقوله: فلما جاءهم. وهو عنده نظير قوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف} (البقرة: 38) . قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: لما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم} كذبون.

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} : تقدّم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب. واختلف، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئاً شيء اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها رفع، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم. وعزي هذا القول، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة، إلى الكسائي. وقال الفراء والكسائي، فيما نقل عنهما: أن ما موصولة بمعنى الذي، واشتروا: صلة، وبذلك قال الفارسي، في

أحد قوليه، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال: فالتقدير على هذا القول: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، كقولك: بئس الرجل زيد، وما في هذا القول موصولة. انتهى كلامه، وهو وهم على سيبويه. وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع، على أن تكون مصدرية، التقدير: بئس اشتراؤهم. قال ابن عطية: وهذا معترض، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير. انتهى كلامه. وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أمر مرفوع ببئس، أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل بئس مضمراً والتمييز محذوفاً، لفهم المعنى. التقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف على مذهب الجمهور، إذ الأخفش يزعم أنها اسم. والكلام على هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في علم النحو. {أَن يَكْفُرُواْ} : تقدم أن موضعه رفع، إما، على أن يكون مخصوصاً بالذم عند من جعل ما قبله من قوله: {بئسما اشتروا به} غير تام، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم، إذا تأخر، أهو مبتدأ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلاً من الضمير في به، فيكون في موضع خبر. {بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا، أي كفرهم لأجل البغي. وقال الزمخشري: هو علة اشتروا، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا. وقيل: هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله، والتقدير: بغوا بغياً، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.

{أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ} : أن: مع الفعل بتأويل المصدر، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله، أي بغوا لتنزيل الله. وقيل: التقدير بغياً على أن ينزّل الله لأن معناه حسداً على أن ينزّل الله، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي، فحذفت على، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن، إذا حذف حرف الجر منهما، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟ وقيل: أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: {بما أنزل الله} ، أي بتنزيل الله، فيكون مثل قول الشاعر: أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص {مِن فَضْلِهِ} : من لابتداء الغاية، والفضل هنا الوحي والنبوة. وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش، فيكون في موضع المفعول، أي أن ينزل الله فضله. {عَلَى مَن يَشَآءُ} . على متعلقة بينزل، و {من} هنا موصولة، وقيل نكرة موصوفة. و {يشاء} على القول الأول: صلة، فلا موضع لها من الإعراب، وصفة على القول الثاني، فهي في موضع خفض، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه. {مِنْ عِبَادِهِ} : جار ومجرور في موضع الحال، تقديره كائناً من عباده. {وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} : الألف واللام في الكافرين للعهد. {وَيَكْفُرونَ} : جملة استؤنف بها الإخبار عنهم، أو جملة حالية، العامل فيها قالوا: أي وهم يكفرون. {فَلِمَ} : الفاء: جواب شرط مقدر، التقدير: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم {تقتلون أنبياء الله} وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قيل: إن نافية أي ما كنتم مؤمنين.

قيل: والأظهر أن إن شرطية، والجواب محذوف، التقدير: فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابه وهو: {فلم تقتلون} ؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه. وقال ابن عطية: و {إن كنتم} : شرط، والجواب متقدم. ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم. {وَأُشْرِبُواْ} : عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفاً على قالوا، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة، قلتم كذا وكذا وأشربتم، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل، أو الواو للحال، أي وقد أشربوا والعامل قالوا، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالاً، والقول الأول هو الظاهر. {بِكُفْرِهِمْ} : الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عباده العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوباً بكفرهم. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ} المخصوص بالذمّ محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة، فالتقدير: بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئاً شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئاً ما يأمركم، أي الذي يأمركم، فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامّة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية.

{خَالِصَةً} واختلفوا في إعراب خالصة، فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية، إذ قالا: ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال، وعند الله خبر كان. وقيل: انتصاب خالصة على أنه خبر كان، فيجوز في لكم أن يتعلق بكانت، لأن كان يتعلق بها حرف الجر، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبيين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم، أعني نحو قولهم: سقياً لك إذ تقديره: لك أدعو. وذكروا في ما من قوله: {بما قدمت} ، أنها تكون مصدرية، والظاهر أنها موصول، والعائد محذوف.

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ} : الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلّم ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين: أحدهما الضمير، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدّية إلى اثنين، كقوله تعالى: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} (الأعراف: 102) . وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين، هو قول من وقفنا على كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب، ويكون انتصاب أحرص على الحال، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة، وهو قول الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة، فلا يجوز عنده في أحرص} النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل، وهي مؤولة. بمعنى من، وقد أضيف إلى معرفة، فيجوز فيها الوجهان: أحدهما: أن يفرد مذكره، وإن كانت جارية على مفرد ومثنى ومجموع، ومذكر ومؤنث. والثاني: أن يطابق ما قبلها. فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة، لكان أحارص الناس، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله: أكابر مجرميها، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد، وليس بصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة، كهذين الموضعين، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل، وتأولوا ما ورد مما يشبهه، وشذ نحو قوله: يا رب موسى أظلمي وأظلمه يريد: أظلمنا حيث لم يضف أظلم إلى ما هو بعضه.

{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت أفعل التفضيل، فيكون ذلك من الحمل على المعنى، لأن معنى {أحرص الناس} : أحرص من الناس. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف، أي وأحرص من الذين أشركوا، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب، فكانوا أحب الناس في البعد منه، لأن من توقع شراً كان أنفر الناس عنه، فلما كانت الحياة سبباً في تباعد العقاب، كانوا أحرص الناس عليها. وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل، فلا بد من ذكر من، لأن أحرص الناس جرى على اليهود، فلو عطفت بغير من لكان معطوفاً على الناس، فيكون في المعنى: ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته، لأن اليهود ليسوا من المشركين، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا، لا إذا قلنا: إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أن قوله: {ومن الذين أشركوا} معطوفاً على الضمير في قوله: ولتجدنهم، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة. وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في: {ومن الذين أشركوا} لعطف مفرد على مفرد، وأما إذا كانت لعطف الجمل، فيكون إذ ذاك منقطعاً من الدخول تحت أفعل التفضيل، ويكون ابتداء، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضاً.

و {يود أحدهم} صفة لمبتدأ محذوف، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها، كقوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164) ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} (النساء: 159) ، وكقول العرب: منا ظعن ومنا أقام، وعلى أن تكون الواو في ومن الذين أشركوا} لعطف المفرد على المفرد، قالوا: ويكون قوله: {يود أحدهم} جملة في موضع الحال، أي وادًّا أحدهم، قالوا: ويكون حالاً من الذين، فيكون العامل أحرص المحذوف، أو من الضمير في أشركوا، فيكون العامل أشركوا. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب في {ولتجدنهم} ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادًّا أحدهم، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة. {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : مفعول الودادة محذوف تقديره: يود أحدهم طول العمر. وجواب لو محذوف تقديره: لو يعمر ألف سنة لسر بذلك، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه. هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان. وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن، فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود، كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة. فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف، وعلى القول الأول لا يكون لقوله: {لو يعمر ألف سنة} محل إعراب. وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول، كما ذكرنا، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو. ولا تحتاج لو، إذا كانت للتمني، إلى جملة جوابية، لأن معناها معنى: يا ليتني أعمر، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية. فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال: أن تكون حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن تكون مصدرية، وأن تكون للتمني محكية.

{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} : الضمير من قوله: وما هو عائد على أحدهم، وهو اسم ما، وبمزحزحه خبر ما، فهو في موضع نصب، وذلك على لغة أهل الحجاز. وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك، وأن يعمر فاعل بمزحزحه، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعميره. وجوّزوا أيضاً في هذا الوجه، أعني: أن يكون الضمير عائداً على أحدهم، أن يكون هو مبتدأ، وبمزحزحه خبر. وأن يعمر فاعل بمزحزحه، فتكون ما تميمية. وهذا الوجه، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية. وأجازوا أن يكون هو ضميراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله: {لو يعمر} ، وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ. وقيل: هو كناية عن التعمير، وأن يعمر بدل منه، ولا يعود هو على شيء قبله. والفرق بين هذا القول والذي قبله، أن مفسر الضمير هنا هو البدل، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر. وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق. فهذا يفسره ما قبله، وذاك يفسره ما بعده. وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن يكون هو مبهماً، وأن يعمر موضحه. يعني: أن يكون هو لا يعود على شيء قبله، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر. وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين، وهو أن مفسر ضمير الشأن، وهو المسمى عندهم بالمجهول، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو: ظننته قائماً زيد، وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم. وكان المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد، ولذلك أعربوا في: ظننته قائماً زيد، الهاء ضمير المجهول، وهي مفعول ظننت، وقائماً المفعول الثاني، وزيد فاعل بقائم. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر. قال

ابن عطية، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد. انتهى كلامه، ويحتاج إلى تفسير، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ، فإذا قلت: ما زيد هو القائم، جوّزوا أن تقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم، وما تعميره هو بمزحزحه. ثم قدم الخبر مع العماد، فجاء: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، أي تعميره، ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطاً. وتلخص في هذا الضمير: أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة، أظهرها الأول. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وما: في بما، موصولة، والعائد محذوف، أي يعملونه. وجوّزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم.

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَفِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَءَايَتٍ بَيِّنَتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ كِتَبَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَرُوتَ وَمَرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .

جبريل: اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف، للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي، ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً. وقال المهدوي: ومن قال: جبر، مثل: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزج، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة، فيلزم الصرف في الثاني، وإجراء الأول بوجوه الإعراب، أو لا يلحظ، فيركبه تركيب المزج. فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج. وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة. قالوا: جبريل: كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص. {سليمان} : اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية، والعجمة، ونظيره من الأعجمية، في أن في آخره ألفاً ونوناً: هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون: كعثمان، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية. ومعمول القول: الجملة بعد ومن هنا شرطية.

{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز. وقوله: {فإنه نزله على قلبك} ، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير. {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في {نزله} ، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً. والثاني: أن يكون حالاً من جبريل. وما: في لما الموصولة. {مَن كَانَ عَدُوًّا} ومن: في قوله: {من كان عدوًّا} شرطية. واختلف في الجواب فقيل: هو محذوف، تقديره: فهو كافر، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب: {فإن الله عدوّ للكافرين} . وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَسِقُونَ} والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، و {إلا الفاسقون} : استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيداً، على مراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون.

{أَوَكُلَّمَا عَهَدُواْ عَهْدًا} وقرأ الجمهور: أو كلما، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل: هي زائدة، قاله الأخفش. وقيل: هي أو الساكنة الواو، وحركت بالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل: واو العطف، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين: أن الأصل تقديم هذه الواو، والفاء، وثم، على همزة الاستفهام، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وأن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ {وكلما عاهدوا} . وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى «بالتكميل لشرح التسهيل» . وانتصاب {عهداً} على أنه مصدر على غير الصدر، أي معاهدة، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهداً. وقرىء: عهدوا، فيكون عهداً مصدراً. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، وهو الظاهر، فيكون أكثرهم مبتدأ، ولا يؤمنون خبر عنه، وقيل: يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق، أي نبذه فريق منهم، بل أكثرهم، ويكون قوله: {لا يؤمنون} ، جملة حالية، العامل فيها نبذه، وصاحب الحال هو أكثرهم. {وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ} وقرأ ابن أبي عبلة: مصدّقاً بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله: {من عند الله} . {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ} : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثانٍ لأوتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدّم القول في ذلك. {كِتَبَ اللَّهِ} : هو مفعول بنبذ. {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} : جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ.

{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ} : والجملة من قوله: واتبعوا، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله: ولما جاءهم إلى آخرها. وما موصولة، صلتها {تتلو} ، وهو مضارع في معنى الماضي، أي ما تلت. وقال الكوفيون: المعنى: ما كانت تتلو، لا يريدون أن صلة ما محذوفة، وهي كانت وتتلو، في موضع الخبر، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي، كما أنك إذا قلت: كان زيد يقوم، هو إخبار بقيام زيد، وهو ماض لدلالة كان عليه. {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} واستعمال لكن هنا حسن، لأنها بين نفي وإثبات. وقرىء: ولكنّ بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو. وقرىء: بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي. وإذا خففت، فهل يجوز إعمالها؟ مسألة خلاف الجمهور: على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها، ونقل ذلك غيره عن الأخفش، والصحيح المنع. وقال الكسائي والفراء: الاختيار، التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها. كبل: فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل، لأن بل لا تدخل عليها الواو، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة. وذهب يونس إلى أنها ليست من حروف العطف، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} (الأحزاب: 40) . وأما إذا جاءت بعدها الجملة، فتارة تكون بالواو، وتارة لا يكون معها الواو، كما قال زهير: إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره لكن وقائعه في الحرب تنتظر

وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما ضربت زيداً لكن عمراً، وما مررت بزيد لكن عمرو، فهو من تمثيلهم، لا أنه مسموع من العرب. ومن غريب ما قيل في لكن: إنها مركبة من كلم ثلاث: لا للنفي، والكاف للخطاب، وأن التي للإثبات والتحقيق، وأن الهمزة حذفت للاستثقال، وهذا قول فاسد، والصحيح أنها بسيطة. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه، فالظاهر أنه يعود على الشياطين، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم، وهو اختيار الزمخشري. وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا. قالوا: أو خبراً ثانياً. وقيل: حال من الشياطين. ورد بأن لكن لا تعمل في الحال، وقيل: بدل من كفروا، بدل الفعل من الفعل، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى. والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم. {وَمَآ أُنزِلَ} : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب، وأنه معطوف على قوله: {السحر} ، وظاهر العطف التغاير، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً. وقيل: هو معطوف على {ما تتلو الشياطين} ، أي {واتبعوا ما تتلو الشياطين} . وقيل: ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان. وقيل: ما حرف نفي، والجملة معطوفة على {وما كفر سليمان} . {هَرُوتَ وَمَرُوتَ} : قرأ الجمهور: بفتح التاء، وهما بدل من الملكين، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما. وقيل: بدل من الناس، فتكون الفتحة علامة للنصب، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين. وقيل: هما قبيلتان من الشياطين، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين، وتكون الفتحة علامة للنصب، على قراءة من نصب الشياطين. وأما من رفع الشياطين، فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين، كما قال الشاعر: أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع

وهذا على قراءة الملكين، بفتح اللام. وأما من قرأ بكسرها، فيكونان بدلاً من الملكين، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه. وقرأ الحسن والزهري: هاروت وماروت بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف، أي هما هاروت وماروت، أن كانا ملكين. وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين، الأول أو الثاني، على قراءة من رفعه، إن كانا شيطانين. وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت، وأنهما أعجميان. وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت، وهو الكسر، وقوله خطأ، بدليل منعهم الصرف لهما، ولو كانا، كما زعم، لانصرفا، كما انصرف جاموس إذا سميت به. واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً.

{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} : قرأ الجمهور: بالتشديد، من علم على بابها من التعليم. وقالت طائفة: هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف، والهمزة بمعنى واحد، فهو من باب الإعلام، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف. وما يعلمان: من أعلم قال: لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراءة أبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه، وفي الثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. {حَتَّى يَقُولاَ} : حتى هنا: حرف غاية، والمعنى انتفاء تعليمهما، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . وقال أبو البقاء: حتى هنا بمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في «التسهيل» وأنشد عليه في غيره: ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليل قال: يريد إلا أن تجود، وما في {إنما} كافة، لأن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء. وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما، نحو: إنما زيداً قائم.

{فَيَتَعَلَّمُونَ} : قال الفراء، واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفرّاء أيضاً: هو عطف على {يعلمون الناس السحر} ، فيتعلمون منهما. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو علي وغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم من الملكين خاصة، والضمير في منهما راجع إليهما، لأن قوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب {لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} (طه: 61) ، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية، ليس سبباً لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما} ، لأن قوله: {فيتعلمون منهما} إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدّم. وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملاً على المعنى، كما قال تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة: 47) . وهذا العطف، وإن كان على منفي، فذلك المنفي هو موجب في المعنى، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر} . وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضاً: الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكر يعلمان، بما

في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجود في النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخل عليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجوداً في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية. وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص. وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته، لأنه كان مولعاً بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلام المهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقديره: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية، أو معطوفاً على يعلمون الناس، أو معطوفاً على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى. فتلك أقوال ستة، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير. {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} : ما موصولة، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور. {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ} وبضارين: في موضع نصب على أن ما حجازية، أو في موضع رفع على أن ما تميمية. والضمير في به عائد على ما في قوله: {ما يفرقون} . وقرأ الجمهور: بإثبات النون في بضارين. وقرأ الأعمش: بحذفها، وخرّج ذلك على وجهين: أحدهما: أنها حذفت تخفيفاً، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام. والثاني: أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به، كما قال: هما أخوا في الحرب من لا أخا له وكما قال: كما حط الكتاب بكف يوماً يهودي

وهذا اختيار الزمخشري، ثم استشكل ذلك، لأن أحداً مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال: فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد، وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور. انتهى. وهذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه، لأنه مشغول بعامل جر، فهو المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعل حرف الجر جزءاً من المجرور، فهذا ليس بشيء، لأنه مؤثر فيه. وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأول، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها. فمن النثر قول العرب: قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، يريدون: ثنتان ومائتان. {مِنْ أَحَدٍ} ، من زائدة، وأحد: مفعول بضارين. ومن تزاد في المفعول، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربت من رجل، وما ضرب زيد من رجل. وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل، لأن المعنى: وما يضرون من أحد. {إلا بإذن الله} : مستثنى مفرغ من الأحوال، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله: {بضارين} ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو: {من أحد} ، ويحتمل أن يكون حالاً من به، أي السحر المفرق به، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرب المحذوف. {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} والظاهر أن {ولا ينفعهم} معطوف على {يضرهم} ، وكلا الفعلين صلة لما، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وجوز بعضهم أن يكون {لا ينفعهم} على إضمار هو، أي وهو لا ينفعهم، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، فتكون جملة حالية، وهذا ضعيف.

{وَلَقَدْ عَلِمُواْ} وعلم: هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين، وعلقت عن الجملة، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت. والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. واللام في: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق، وأجازوا حذفها، وهي باقية على منع العمل، وخرجوا على ذلك: إني وجدت ملاك الشيمة الأدب يريد لملاك الشيمة. ومن هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء. والجملة من قوله: {مَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} في موضع الخبر. واللام في لقد للقسم. هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين. وجملة {ولقد علموا} مقسم عليها التقدير: والله لقد علموا. والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها. وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما، وتكون من للشرط، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: اللام في {لمن اشتراه} هي التي يوطأ بها القسم مثل: {لئن لم تنته} (مريم: 46) (الشعراء: 166 167) ، ومن في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط وجواب القسم ما له في الآخرة من خلاق} . انتهى كلامه. فاشتراه في القول الأول صلة، وفي هذا القول خبر عن من، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم، لأنه اجتمع قسم وشرط، ولم يتقدّمهما ذو خبر، فكان الجواب للسابق، وهو القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ. هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه. وفي كلا القولين يكون: {لمن اشتراه} ، في موضع نصب: بيعلموا. وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط، وقال هذا ليس موضع شرط، ولم ينقل عنه توجيه، كونه ليس موضع شرط. وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى، لأن الاشتراء قد وقع، وجعله شرطاً لا يصح، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى. فلما كان كذلك، كان ليس موضع شرط.

{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} : تقدّم القول في بئس، وفي ما الواقعة بعدها، ومعناه: ذمّ ما باعوا به أنفسهم. والضمير في به عائد على السحر، أو الكفر. والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره: على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر، أو الكفر. وجواب لو محذوف تقديره: {لو كانوا يعلمون} . ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم. {وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتَّقَوْا} : وأنهم آمنوا، يتقدّر بمصدر كأنه قيل: ولو إيمانهم، وهو مرفوع. فقال سيبويه: هو مرفوع بالابتداء، أي ولو إيمانهم ثابت. وقال المبرد: هو مرفوع على الفاعلية، أي ولو ثبت إيمانهم. ففي كل من المذهبين حذف للمسند، وإبقاء المسند إليه. والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو. {لَمَثُوبَةٌ} : اللام لام الابتداء، لا الواقعة في جواب لو، وجواب لو محذوف لفهم المعنى، أي لا ثيبوا، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وترتبه عليهما، هذا قول الأخفش، أعني أن الجواب محذوف. وقيل: اللام هي الواقعة في جواب لو، والجواب: هو قوله: {لمثوبة} ، أي الجملة الإسمية. والأول اختيار الراغب، والثاني اختيار الزمخشري. قال: أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو، لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في: سلام عليكم لذلك، انتهى كلامه. ومختاره غير مختار، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه. ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، وليس مثل سلام عليكم، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب. ووجه من أجاز ذلك قوله: بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب «التكميل» من تأليفنا، بأشبع من هذا.

{مِنْ عِندِ اللَّهِ} : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة، أي كائنة من عند الله. وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة. {خير} خبر لقوله: {لمثوبة} ، وليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية. فهي كقوله: {أفمن يلقى في النار خير} (فصلت: 40) ، وخير مستقرّا} (الفرقان: 24) . فشركما لخيركما الفداء {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} : جواب لو محذوف: التقدير: لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَبَ كَذَلِكَ قَالَ

الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . {ذو} : يكون بمعنى صاحب، وتثنى، وتجمع، وتؤنث، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر. وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف، المشهور: المنع، ولا خلاف أنه مسموع، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة. وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع. فمن الأول قولهم: ذو يزن، وذو جدن، وذو رعين، وذو الكلاع. فتجب الإضافة إذ ذاك. ومن الثاني قولهم: في تبوك، وعمرو، وقطرى: ذو تبوك، وذو عمرو، وذو قطرى. والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو. وما جاء من إضافته لضمير العلم، أو لضمير مخاطب لا ينقاس، كقولهم: اللهم صل على محمد وعلى ذويه، وقول الشاعر: وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل ومذهب سيبويه: أن وزنه فعل، بفتح العين، ومذهب الخليل: أن وزنه فعل، بسكونها. واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال. قالوا: أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف، وفي الجر بالياء. وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء، فذلك على جهة الجوار. وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة، وذلك في لغة طيّئ، ولها أحكام، ولم تقع في القرآن. {تلك} : من أسماء الإشارة، يطلق على المؤنثة في حالة البعد، ويقال: تلك وتيلك وتالك، بفتح التاء وسكون اللام، وبكسرها وياء بعدها، وكسر اللام وبفتحها، وألف بعدها وكسر اللام، قال: إلى الجودي حتى صار حجراً وحان لتالك الغمر انحسارا

{هاتوا} : معناه أحضروا، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتي، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب، وللزوم الألف، إذ لو كانت همزة لظهرت، إذ أزال موجب إبدالها، وهو الهمزة قبلها، فليس وزنها أفعل، خلافاً لمن زعم ذلك، بل وزنها فاعل كرام. وهي فعل، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها. ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر، وهو الزمخشري، وهو أمر وفعله متصرف. تقول: هاتي يهاتي مهاتاة، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه، خلافاً لمن زعم ذلك. وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف، لأن الأصل أن لا حذف، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان. فمعنى هات أحضر، ومعنى ائت أحضر. وتقول: هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين، تصرفها كرامي. قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه: يهود فيها وجهان، أحدهما: أن تكون جمع يهودي، فتكون نكرة مصروفة. والثاني: أن تكون علماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعة الصرف. انتهى كلامه. وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا: اليهود، إذ لو كان علماً لما دخلته، وعلى الثاني قال الشاعر: أولئك أولى من يهود بمدحة إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب ليس: فعل ماض، خلافاً لأبي بكر بن شقير، وللفارسي في أحد قوليه، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما، ووزنها فعل بكسر العين. ومن قال: لست بضم اللام، فوزنها عنده فعل بضم العين، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين، لم يسمع منه إلا قولهم: هيؤ الرجل، فهو هيىء، إذا حسنت هيئته. وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو. {لاَ تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا} وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن محيصن: {راعنا} بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولاً راعناً، وهو على طريق النسب كلابن وتامر.

{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} ومن، في قوله: {من أهل الكتاب} ، تبعيضية، فتتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا، وبه قال الزمخشري، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان. {ولا المشركين} ، معطوف على: {من أهل الكتاب} . ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي، صاحب «التنبيه» ، كلاماً يرد فيه على الشيعة، ومن قال بمقالتهم: في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح، للعطف في قوله: {وأرجلكم} (المائدة: 6) ، على قوله: برؤوسكم} (المائدة: 6) ، خرج فيه أبو إسحاق قوله: وأرجلكم بالجر، على أنه من الخفض على الجوار، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار. وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك، وجعل منه قوله: ولا المشركين} ، في هذه الآية، منسوخة، بالإعلام بنسخها، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية. وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين. تقول: نسخ زيد الشيء، أي أزاله، وأنسخه إياه عمرو: أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء، أي يزيله. وقال ابن عطية: التقدير ما ننسخك من آية، أي ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً. وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلّم وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ. وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ. وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو: أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، أي ذلك فعلنا، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك، أو بمثله، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها

عائدين على الضمير في ننسأها. انتهى كلامه. وذهل عن القاعدة النحوية، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وما في قوله: {ما ننسخ} شرطية، وقوله: أو {ننسها} ، عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى، فهو نظير قولهم: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية. التقدير: أو ما ننسأ من آية، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء، لكن يبقى قوله: {ما ننسخ من آية} مفلتاً من الجواب، إذ لا رابط فيه منه له، وذلك لا يجوز، فبطل هذا المعنى. {من آية} ، من: هنا للتبعيض، وآية مفرد وقع موقع الجمع، ونظيره فارس في قولك: هذا أول فارس، التقدير: أول الفوارس. ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط، لأنه مخصص له، إذ في اسم الشرط عموم، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم. لو قلت: من يضرب أضرب، كان عاماً في مدلول من. فإذا قلت: من رجل، اختص جنس الرجال بذلك، ولم يدخل فيه النساء، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين جائز، تقول: ما تضرب زيداً أضرب مثله، التقدير: أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله، وقال الشاعر: نعب الغراب فقلت بين عاجل ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب وهذا فاسد، لأن ما إذا جعلتها للنسخ، عري الجواب من ضمير يعود عليها، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط. ألا ترى أنك لو قلت: أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين. والشرط ليس من قبيل غير الموجب، فلا يجوز: إن قام من رجل أقم معه، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين.

وقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} (البينة: 1) ، وأن الأصل هو الرفع، أي ولا المشركون، عطفاً على الذين كفروا، وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله: ولا المشركين} ، للتأكيد، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} لمعنى يذكر هناك، إن شاء الله تعالى. {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} : في موضع المفعول بيود، وبناؤه للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وللتصريح به في قوله: {من ربكم} . ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله: {من ربكم} . {من خير} ، من: زائدة، والتقدير: خير من ربكم، وحسن زيادتها هنا، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي، فليس نظير: ما يكرم من رجل، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى، لأنه إذا نفيت الودادة، كان كأنه نفى متعلقها، وهو الإنزال، وله نظائر في لسان العرب، من ذلك قوله تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر} (الأحقاف: 33) . فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء، وكذلك قول العرب: ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول، وإن لم يباشره حرف النفي، لأن المعنى: ما يقول ذلك أحد إلا زيد، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان، فيجوز زيادتها، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش: أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم، ويكون المعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.

{مِّن رَّبِّكُمْ} : من: لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض، المعنى من خير كائن من خيور ربكم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله: {ينزل} ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضاف، كما قدّرناه. {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً، أي ينفرد، أو متعدياً، أي يفرد، إذ الفعل يأتي كذلك. يقال: اختصّ زيد بكذا، واختصصته به، ولا يتعين هنا تعديه، كما ذكر بعضهم، إذ يصح، والله يفرد برحمته من يشاء، فيكون من فاعلة، وهو افتعل من: خصصت زيداً بكذا. فإذا كان لازماً، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو: اضطررت، وإذا كان متعدياً، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو: كسب زيد مالاً، واكتسب زيد مالاً. {مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ} وما من قوله: ما ننسخ، شرطية، وهي مفعول مقدم. وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة: ما ننسخ من الإنساخ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال: ليست لغة، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية، لأن المعنى يجيء: ما يكتب من آية، أي ما ينزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً. وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نجده منسوخاً، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً. قال أبو عليّ: وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءات في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ. انتهى كلامه. فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب. {نَأْتِ} : هو جواب الشرط، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء، وهو أن يكونا مضارعين. {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل.

وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل، وإنما هو خير من الخيور، كخير في قوله: {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} (البقرة: 105) ، فهو عندهم مصدر، ومن لابتداء الغاية. ومن: في {مِّن دُونِ اللَّهِ} متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم، وهو يتعلق بمحذوف، إذ هو في موضع الخبر، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية، ويجوز أن تكون حجازية على مذهب من يجيز تقدم خبرها، إذا كان ظرفاً أو مجروراً. أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية. {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} وأم: هنا منقطعة، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة، فالمعنى: بل أتريدون، فبل تفيد الإضراب عما قبله، ومعنى الإضراب هنا: هو الانتقال من جملة إلى جملة، لا على سبيل إبطال الأولى. وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول. وقد بينا ضعف ذلك. وقالت فرقة: أم استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون. وهذان القولان ضعيفان. والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة. فالمتصلة: شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام، وأن يكون بعدها مفرد، أو في تقدير المفرد. والمنفصلة: ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط، أو مرادفة لبل فقط، أو زائدة، فأقوال ضعيفة. {كما سئل} : الكاف في موضع نصب، فعلى رأي سيبويه: على الحال، وعلى المشهور من مذاهب المعربين: نعت لمصدر محذوف، فيقدر على قولهم: سؤالاً كما سئل، ويقدر على رأي سيبويه: أن تسألوه، أي السؤال كما سئل، وما مصدرية التقدير كسؤال. وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، التقدير: الذي سئله موسى.

{مُوسَى مِن قَبْلُ} : يتعلق هذا الجار بقوله: سئل، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف. فلذلك بنيت قبل على الضم، والتقدير: من قبل سؤالكم. {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} : هذا جواب الشرط. {لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا} : الكلام في لو هنا، كالكلام عليها في قوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} (البقرة: 96) . فمن قال: إنها مصدرية، قال: لو، والفعل في تأويل المصدر، وهو مفعول. ودّ: أي ودّ ردّكم، ومن جعلها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل الجواب محذوفاً، وجعل مفعول ودّ محذوفاً التقدير: ودّ ردّكم كفاراً، لو يردونكم كفاراً لسرّوا بذلك. وقال بعض الناس تقديره: لو يردونكم كفاراً لودوا ذلك. فودّ دالة على الجواب، ولا يجوز لودّ الأولى أن تكون هي الجواب، لأن شرط لو أن تكون متقدّمة على الجواب. انتهى. وهذا الذي قدره ليس بشيء، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله: لودوا ذلك، كان ذلك دالاً على أن الودادة لم تقع، لأنه جواب للو، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره، فامتنع وقوع الودادة، لامتناع وقوع الرد. والغرض أن الودادة قد وقعت. ويرد هنا بمعنى يصير، فيتعدّى إلى مفعولين: الأول هو ضمير الخطاب، والثاني كفاراً، وقد أعربه بعضهم حالاً، وهو ضعيف، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها، وهذا لا بد منه في هذا المكان. ومن متعلقة بيرد، وهي لابتداء الغاية، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع، ومن فسر كثيراً بواحد أو باثنين، فجعل الواو له أو لهما، ليس على الأصل.

{حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} : انتصاب حسداً على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه ودّ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد، وجوزوا فيه أن يكون مصدراً منصوباً على الحال، أي حاسدين، ولم يجمع لأنه مصدر، وهذا ضعيف، لأن جعل المصدر حالاً لا ينقاس. وجوزوا أيضاً أن يكون نصبه على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى، التقدير: حسدوكم حسداً. والأظهر القول الأول، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله. ويتعلق المجرور الذي هو: {من عند أنفسهم} ، إما بملفوظ به وهو ود، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق. ألا ترى إلى قوله تعالى: {من بعد ما تبين لهم الحق} (البقرة: 109) ؟ وإما بمقدر، فيكون في موضع الصفة، التقدير: حسداً كائناً من عند أنفسهم. وعلى كلا التقديرين يكون توكيداً. {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} والقول في إعراب ما ومن خير، كالقول في إعراب: {ما ننسخ من آية} ، من أنهم قالوا: يجوز أن تكون ما مفعولة، ومن خير: حال أو مصدر، ومن خير: مفعول، أو مفعولة، ومن خير: تمييز أو مفعولة، ومن خير، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه. لأنفسكم: متعلق بتقدموا، وهو على حذف مضاف.

{تجدوه} جواب الشرط، والهاء عائدة على ما، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية. ونفس ذلك المنقضي لا يوجد، فإنما ذلك على حذف مضاف، أي تجدوا ثوابه. فجعل وجوب ما ترتب على وجوداً له، وتجدوه متعد إلى واحد، لأنه بمعنى الإصابة. والعامل في قوله: {عند الله} ، إما نفس الفعل، أو محذوف، فيكون في معنى الحال من الضمير، أي تجدوه مدّخراً ومعدًّا عند الله. والظرفية هنا المكانية ممتنعة، وإنما هي مجاز بمعنى القبل، كما تقول لك: عندي يد، أي في قبلي، أو بمعنى في علم الله نحو: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة} (الحج: 47) ، أي في علمه وقضائه، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيماً كقوله: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} (الأعراف: 206) . {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَى} ومن فاعلة بيدخل، وهو من الاستثناء المفرّغ، والمعنى: لن يدخل الجنة أحد إلا من. ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلاً، أو يكون منصوباً على الاستثناء، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف، ويجعله هو الفاعل، ويحذفه، وهو لو كان ملفوظاً به لجاز البدل والنصب على الاستثناء، فكذلك إذا كان محذوفاً وحمل أولاً على لفظ من، فأفرد الضمير في كان، ثم حمل على المعنى، فجمع في خبر كان فقال: {هوداً أو نصارى} . وهود: جمع هائد، كعائد وعود. وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري. وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو: من كان قائمين الزيدون، ومن كان قائمين الزيدان. فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك. وذهب قوم إلى المنع، وإليه ذهب أبو العباس، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية، فإن هوداً في الأظهر جمع هائد، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء، وكقول الشاعر: وأيقظ من كان منكم نياماً

فنيام: جمع نائم، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء، وقدم هوداً على نصارى لتقدمها في الزمان. وقرأ أبي: إلا من كان يهودياً أو نصرانياً، فحمل الإسم والخبر معاً على اللفظ، وهو الإفراد والتذكير. {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم. وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث، فحمله الزمخشري على الجمع قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم. انتهى كلامه. وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول، فيبعد أن يشار إليها. وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف، وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبر. فقلب هو الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه. وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ، فلا يجوز تقديمه، مثل: زيد زهير، نص على ذلك النحويون. فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة، إذ جعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً كقولك: الأسد زيد شجاعة، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم: {لن يدخل الجنة} ، أي تلك المقالة أمانيهم، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول، وإنما ذلك على سبيل التمني. وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم، لكنها لما لم تكن عن برهان، كانت أماني، والتمني يقع بالجائز والممتنع. فهذا من الممتنع، ولذلك أتى بلفظ الأماني، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم، لأن الرجاء يتعلق بالجائز، تقول: ليتني طائر، ولا يجوز، لعلني طائر، وإنما أفرد المبتدأ لفظاً، لأنه كناية عن المقالة، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير،

فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين، ولذلك جمع الخير، فطابق من حيث المعنى في الجمعية. وقد تقدّم شرح الأماني في قوله: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} (البقرة: 78) ، فيحتمل أن يكون المعنى: تلك أكاذيبهم وأباطيلهم، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم، أو تلك تلاواتهم. {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : الكلام في: من، كالكلام في: من، من قوله: {من كسب سيئة} (البقرة: 81) ، والأظهر أنها مبتدأة، وجوّزوا أن تكون فاعلة، أي يدخلها من أسلم، وإذا كانت مبتدأة، فلا يتعين أن تكون شرطية. فالجملة بعدها هي الخبر، وجواب الشرط فله أجره} . وإذا كانت موصولة، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية، وإذا كانت من فاعلة فقوله: {فله أجره} جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} : جملة حالية، وهي مؤكدة من حيث المعنى. {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} : العامل في عند هو العامل في له. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ} وعلى شيء: في موضع خبر ليس، ويحتمل أن يكون المعنى: على شيء يعتد به في الدين، فيكون من باب حذف الصفة، نظير قوله: لقد وقعت على لحم أي لحم منيع، وأنه ليس من أهلك، أي من أهلك الناجين، لأنه معلوم أن كلاً منهم على شيء. {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَبَ} : جملة حالية.

{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره: قولاً مثل ذلك القول، {قال الذين لا يعلمون} ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال، التقدير: مثل ذلك القول قاله، أي قال القول الذين لا يعلمون، وهذا على رأي سيبويه. وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. وقيل: ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون. وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر، والعائد محذوف تقديره: مثل ذلك قاله الذين. ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول، لأن قال قد أخذ مفعوله، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف، أو على أنه مفعول ليعلمون، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى. قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى. انتهى ما قالوه في هذا الوجه، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسماً، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك، أعني أن تكون اسماً في الكلام، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه، وذلك نحو: زيد ضربته. نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر، وأنشدوا: وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا يحمد بالباطل أي: يحمده ساداتنا. وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو: هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَنِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ * وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .

{المشرق والمغرب} : مكان الشروق والغروب، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل، بكسر العين شذوذاً، والقياس الفتح، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه، فقياس صوغ المصدر منه، والزمان والمكان مفعل، بفتح العين. أين: من ظروف المكان، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه، وفي الشرط معنى حرفه، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله: أين تضرب بنا العداة تجدنا وزعم بعضهم أن أصل أين: السؤال عن الأمكنة. ثم: ظرف مكان يشار به للبعيد، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة، وهو لازم للظرفية، لم يتصرف فيه بغير من يقول: من ثم كان كذا. وقد وهم من أعربها مفعولاً به في قوله: {وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} (الإنسان: 20) . بل: مفعول رأيت محذوف. لولا} : حرف تحضيض، وجاء ذلك في القرآن كثيراً، وحكمها حكم هلا، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً، وتلك لا يليها إلا الاسم، على خلاف في إعرابه. الرضا: معروف، ويقابله الغضب، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر، ورضاء بالمد، ورضواناً، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى، قال: إذا رضيت عليّ بنو قشير وخرج على أن يكون على بمعنى عن، أو على تضمين رضي معنى عطف، فعدي بعلى كما تعدى عطف. ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء. و {أظلم} : أفعل تفضيل، وهو خبر عن من.

ومن في قوله: {ممن منع} ، موصولة بمعنى الذي. وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. {أن يذكر} : يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع، أو مفعولاً من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجروراً على رأي. {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} : إلا خائفين: نصب على الحال، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال. {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، هذا جواب الشرط، وهي جملة ابتدائية. {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} والجمهور على قراءة: وقالوا بالواو، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها. وقيل: هو عطف على قوله: {وسعى في خرابها} ، فيكون معطوفاً على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيد جداً، ينزه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما: قالوا بغير واو، ويكون على استئناف الكلام، أو ملحوظاً فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسي: وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام. تقدم أن اتخذ: افتعل من الأخذ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله: {اتخذت بيتاً} (العنكبوت: 41) ، قالوا: معناه صنعت وعملت، وإلى اثنين فتكون بمعنى: صير. وكلا الوجهين يحتمل هنا. وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير، كان أحد المفعولين محذوفاً، التقدير: وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد، قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} (مريم: 88) ، ما اتخذ الله من ولد} (المؤمنون: 91) ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} (مريم: 92) . {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} قال سيبويه: وأما ما، فإنها مبهمة تقع على كل شيء.

وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل، إلا إذا اختلط بمن يعقل، فيقع عليهما، كما ذكرناه، أو كان واقعاً على صفات من يعقل، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل، وقد يؤول، فيؤول قوله: سبحان ما سخركن، على أن سبحان غير مضاف، وأنه علم لمعنى التسبيح، فهو كقوله: سبحان من علقمة الفاخر وما: ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى. و {كُلٌّ لَّهُ} : مرفوع بالابتداء، والمضاف إليه محذوف. و {قَنِتُونَ} : خبر عن كل، وجمع حملاً على المعنى. وكلّ، إذا حذف ما تضاف إليه، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا، لأنها فاصلة رأس آية، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى: {وكلّ كانوا ظالمين} (الأنفال: 54) ، وكلّ أتوه داخرين} (النمل: 87) ، وكلّ في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) . وقد جاء إفراد الخبر كقوله: قل كلّ يعمل على شاكلته} (الإسراء: 84) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.

{بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول، وأصله الأول بديع سمواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه، فنصب السموات، ثم جر من نصب. وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت سمواته، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره. وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري، إلا أنه قال: وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهذا ليس عندنا. كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها. والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية. فإذا قلنا: زيد قائم أبوه، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له. إذا قلت: زيد ضارب أبوه عمراً، لا تقول: إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب، وإذا كان كذلك، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه. وقرأ المنصور: بديع بالنصب على المدح، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقال الزمخشري: كن فيكون، من كان التامة. وقرأ الجمهور: فيكون بالرفع، ووجه على أنه على الاستئناف، أي فهو يكون، وعزي إلى سيبويه. وقال غيره: فيكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرّره.

وقرأ ابن عامر: فيكون بالنصب، وفي آل عمران: {كن فيكون} (آل عمران: 47) ونعلمه، وفي النحل، وفي مريم، وفي يس، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس، ولم يختلف في كن فيكون الحق} في آل عمران} (59 60) . {وكن فيكون قوله الحق} في الأنعام} (73) أنه بالرفع، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن، لأنه جاء بلفظ الأمر، فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحو: ائتني فأكرمك، إذ المعنى: أن تأتني أكرمك. وهنا لا ينتظم ذلك، إذ يصير المعنى: إن يكن يكن، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء، إما بالنسبة إلى الفاعل، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه، أو في شيء من متعلقاته. وحكى ابن عطية، عن أحمد بن موسى، في قراءة ابن عامر: أنها لحن، وهذا قول خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة، فهي قراءة متواترة، ثم هي بعد قراءة ابن عامر، وهو رجل عربي، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض المواضع، وهو إمام الكوفيين في علم العربية، فالقول بأنها لحن، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى. {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ} : ومعمول القول، الجملة التخضيضية وهي: {لولا يكلمنا الله} . {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} : تقدم الكلام في إعراب كذلك، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله: {والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 21) . وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. {إِنَّا أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وبالحق في موضع الحال، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيراً ونذيراً على الحال من الكاف، ويحتمل أن يكون حالاً من الحق.

{وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ} : قراءة الجمهور: بضم التاء واللام. وقرأ أبي: وما تسأل. وقرأ ابن مسعود: ولن تسأل، وهذا كله خبر. فالقراءة الأولى، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، ويحتمل أن تكون في موضع الحال. وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف. وقرأ نافع ويعقوب: ولا تسأل، بفتح التاء وجزم اللام، وذلك على النهي. {وَلَن تَرْضَى} واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم لا على الشرط، إذ لو بني على الشرط لدخلت الفاء في قوله: {ما لك} .

و {الذين} : مبتدأ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى، صح أن يكون {يتلونه} خبراً عنه، وصح أن يكون حالاً مقدرة إما من ضمير المفعول، وإما من الكتاب، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له، ولا كان هو متلواً لهم، ويكون الخبر إذ ذاك في الجملة من قوله: {أولئك يؤمنون به} . وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبراً، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر. قال مثل قولهم: هذا حلو حامض، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم: هذا حلو حامض، أي مز، وفي ذلك خلاف. وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم، كان الخبر أولئك يؤمنون به، قالوا، ومنهم ابن عطية: ويتلونه حال لا يستغنى عنها، وفيها الفائدة، ولا يجوز أن يكون خبراً، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة. ونقول: ما لزم في الامتناع من جعلها خبراً، يلزم في الحال، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها. وانتصب {حق تلاوته} على المصدر، كما تقول: ضربت زيداً حق ضربه، وأصله تلاوة حقاً. ثم قدّم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير: ضربت شديد الضرب، إذ أصله: ضرباً شديداً. وجوزوا أن يكون وصفاً لمصدر محذوف، وأن يكون منصوباً على الحال من الفاعل، أي يتلونه محقين. وقال ابن عطية: وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرّف، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرّف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل واحد أمه، ونسيج وحده. انتهى كلامه. {وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ} وهم: محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلاً. وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد.

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ مَنْءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} .

الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسيّ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعليه من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسماً، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضاً، كخروبة. فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنية، أو

منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبة من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضاً، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فالأصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت. {الْمَصِيرُ} : مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعه فقياسه ما ذكرناه، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى. الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازماً. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعدياً، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه. وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيداً، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشري في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في «الكشاف» ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية.

{قَالَ إِنِّى جَعِلُكَ} : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً، كانت قال استئنافاً، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: {قال إني جاعلك للناس إماماً} . وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: ابتلى، وتفسيراً له. {للناس} : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماماً كائناً للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماماً. {قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى} ، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعد، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون {من ذريتي} متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والظاهر أن قوله: {وأمناً} ، معطوف على قوله: {مثابة} ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمناً، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل، وكان البيت محرّماً بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ: {واتخذوا} على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات. {أَن طَهِّرَا} يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيداً، ولا يعجبني أن أضرب زيداً، فتوصل بالأمر، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} : ذكروا أن العامل في إذ ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى. {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ} ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم، وهو البدل، إذ ذكر مرتين.

{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : قرأ الجمهور من السبعة: فأمتعه، مشدّداً على الخبر. وقرأ ابن عامر: فأمتعه، مخففاً على الخبر. وقرأ هؤلاء: ثم اضطره خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب: فأمتعه مخففاً، ثم أضطره بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن: ثم أضطره، بإدغام الضاد في الطاء خبراً. وقرأ يزيد بن أبي حبيب: ثم اضطره بضم الطاء، خبراً. وقرأ أبي بن كعب: فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: {فأمتعه قليلاً ثم أضطره} على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على الله تعالى، ومن: يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: قال الله وارزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء، إما موصولاً، وإما شرطاً، والفاء جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط، لا الفعل الواقع جزاء، ولا إذا كانت موصولة، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. وأما إذا كان أمراً، أعني الخبر نحو: زيداً فاضربه، فيجوز أن يفسر، ولا يجوز أن تقول: زيداً فتضربه على الاشتغال، ولجواز: زيداً فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون

من مبتدأ، وفأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفاً، وفأمتعه دليل عليه جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً. فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء، وقد جوّز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء، وإضمار الخبر، وإضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري: {ومن كفر} : عطف على {من آمن} ، كما عطف {ومن ذريتي} على الكاف في {جاعلك} . انتهى كلامه. وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في ومن كفر. وإذا قدرته أمراً، تنافى مع قوله: {فأمتعه} ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع

وإلجائهم إليه تعالى، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى، وذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي قال إبراهيم: وارزق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. فظاهر قوله والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، ومن كفر عائد على الله، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى، وهو يناقض ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن. وانتصاب {قليلاً} على أنه صفة لظرف محذوف، أي زماناً قليلاً، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعاً قليلاً، على تقدير الجمهور، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف، الدال عليه الفعل، وذلك على مذهب سيبويه. وقراءة يحيى بن وثاب: ثم إضطره بكسر الهمزة. قال ابن عطية، على لغة قريش، في قولهم: لا إخال، يعني بكسر الهمزة. وظاهر هذا النقل في أن ذلك، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر، وهو ما أوله همزة وصل. وفي نحو إخال، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، أو ذا ياء مزيدة في أوله، وذلك نحو: علم يعلم، وانطلق ينطلق، وتعلم يتعلم، إلا إن كان حرف المضارعة ياء، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء، بل يفتحها. وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل، مذاهب تذكر في علم النحو، وإنما المقصود هنا: أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً.

وقراءة ابن محيصن: ثم اطره، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري: هي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب، فالأوجه البيان، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل: مضرب، كما قيل: مصبر في مصطبر. قال سيبويه: وقد قال بعضهم: مطجع، في مضطجع ومضجع أكثر، وجاز مطجع، وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، وإلى قوله: ومضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت، ولم يفعل ذلك بالصاد، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجوار. وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى: {الأرض ذلولاً} (الملك: 15) ، رواه اليزيدي، عن أبي عمرو، وهو ضعيف. وفي الشين في قوله تعالى: لبعض شأنهم} (النور: 62) ، والأرض شيئاً} (النحل: 73) ، وهو ضعيف أيضاً. وأما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى: إلى ذي العرش سبيلاً} (الإسراء: 42) ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو، وهو رأس من رؤوس البصريين. وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي: إن نشأ نخسف بهم} (سبأ: 9) ، وهو إمام الكوفيين. وأما الراء، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها، ولا في النون. وأجاز ذلك في اللام: يعقوب، وأبو عمرو، والكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين، حكوه سماعاً عن العرب. وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها، وذكر الخلاف فيها، لئلا يتوهم من قول الزمخشري: لا تدغم فيما يجاورها، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين. فأوردت هذا

الخلاف فيها، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع، إذ إطلاقه يدل على المنع ألبتة. وقراءة ابن أبي حبيب: بضم الطاء، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء، وهو شاذ. وأما قراءة أبي بالنون فيهما، فهي مخالفة لرسم المصحف، فهي شاذة. وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد، أو ليكون ذلك جملتين، جملة بالدعاء لمن آمن، وجملة بالدعاء على من كفر، فلا يندرجان تحت معمول واحد، بل أفرد كلاً بقول. واضطره على هذه القراءة، هو بفتح الراء المشدّدة، كما تقول: عضه بالفتح، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك. ولو قرأ على لغة قومه، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله: ثم أضطره. ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره. ومفهوم الشرط هنا ملغي، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين. وبئس المصير} المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى، أي وبئس المصير النار، إن كان المصير اسم مكان، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير: وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ} : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. ويرفع في معنى رفع، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. والرفع حالة الخطاب قد وقع. وقال الزمخشري: هي حكاية حال ماضية، وفي ذلك نظر. {مِنَ الْبَيْتِ} : يحتمل أن يكون متعلقاً بيرفع، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنة من البيت. ولم تضف القواعد إلى البيت، فكان يكون الكلام قواعد البيت، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين. {وإسماعيل} : معطوف على إبراهيم.

ومن جعل الواو في {وإسماعيل} واو الحال، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر، التقدير: وإسماعيل يقول: {ربنا تقبل منا} ، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء، وإسماعيل مختصاً بالدعاء. ومن ذهب إلى العطف، جعل {ربنا تقبل منا} معمولاً لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معاً، في موضع نصب على الحال تقديره: وإذ يرفعان القواعد قائلين: {ربنا تقبل منا} . ويؤيد هذا التأويل أن العطف في {وإسماعيل} أظهر من أن تكون الواو واو الحال. وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ، فلا يكون في موضع الحال.

{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ} وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله: ومن ذريتنا، للتبيين، قال كقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم} (النور: 55) ، وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك. وتقدّم شرح الأمة، والمراد به هنا: الجماعة، أو الجيل، والمعنى: على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله: واجعل، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير، فالمعنى: واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله: واجعل من ذريتنا} بمعنى: أوجد وأخلق. وإن كان من جهة المعنى صحيحاً، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد. ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة، لأنه إن كان من باب عطف المفردات، فهو مشترك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد. وإن كان من باب عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق. والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد، فكذلك المحذوف. ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} (الأحزاب: 43) أن يكون التقدير: وملائكته يصلون، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة} ، و {من ذريتنا} حال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال، و {مسلمة} المفعول الثاني، وكان الأصل: اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك، قال: فالواو داخلة في الأصل على أمة، وقد فصل بينهما بقوله: من ذريتنا، وهو جائز، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف، وجعلوا قوله: يوماً تراها كشبه أردية العصب ويوماً أديمها نغلا من الضرورات، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، فصار نظير: ضربت الرجل، ومتجردة المرأة تريد: والمرأة متجردة، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة.

ومعنى {أرنا} : أي بصرنا. إن كانت من رأى البصرية. والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، نحو قوله: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول وقال الكميت: بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى ثلاثة، وليس هنا إلا اثنان، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين. وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب، وشرحها بقوله: عرف، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر، وعن طائفة أنها من رؤية القلب. قال ابن عطية: وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود: أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا

انتهى كلام ابن عطية وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى. إذا كانت قلبية، تعدت إلى اثنين، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة، وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة. وإذا كان كذلك، ثبت أن لرأى، إذا كانت قلبية، استعمالين: أحدهما: أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية، لا دليل فيه، بل الظاهر أنها بصرية، والمعنى على أبصريني جواداً. ألا ترى إلى قوله: مات هزلاً؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات رأى القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن مالك، وهو حاشد لغة، وحافظ نوادر: حين عدى ما يتعدى إلى اثنين، فقال في «التسهيل» ، ورأى لا لإبصار، ولا رأى، ولا ضرب، فلو كانت رأى بمعنى عرف، لنفى ذلك، كما نفى عن رأى المتعدية إلى اثنين، كونها لا تكون لإبصار، ولا رأى، ولا ضرب. {إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء. {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَتِكَ} جملة في موضع الصفة {لرسولاً} . وقيل: في موضع الحال منه. {إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} وأنت: يجوز فيها ما جاز في {أنت السميع العليم} . {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} : ومن: اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء.

{ومن سفه} : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في {يرغب} ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء، والرفع أجود على البدل، لأنه استثناء من غير موجب، ومن في من سفه موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، وانتصاب نفسه على أنه تمييز، على قول بعض الكوفيين، وهو الفراء، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم، أو مفعول به، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى، أي جهل، وهو قول الزجاج وابن جني، أو أهلك، وهو قول أبي عبيدة، أو على إسقاط حرف الجر، وهو قول بعض البصريين، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه، حكاه مكي. أما التمييز فلا يجيزه البصريون، لأنه معرفة، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة، وأما كونه مشبهاً بالمفعول، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة، ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه، ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه. وأما إسقاط حرف الجر، وأصله من سفه في نفسه، فلا ينقاس، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف. وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني: أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد، وأما التضمين فلا ينقاس، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه، فهو الذي نختاره، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى، كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة. قال الزمخشري: سفه نفسه: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه، الخفة، ومنه زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو: غبن رأيه، وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله: ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام وقيل: معناه سفه في نفسه فحذف لجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: «الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس» . انتهى كلامه. فأجاز نصبه على المفعول به، إلا أن قوله: ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:

ولا بفزارة الشعر الرقابا أجب الظهر ليس له سنام ليس بصحيح، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة. والشعر جمع أشعر، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة، وأجب أفعل اسم وليس بفعل. وقبل النصف الأول قوله: فما قومي بثعلبة بن سعدى وقبل الآخر قوله: ونأخذ بعده بذناب عيش فليس نحوه، لأن نفسه انتصب بعد فعل، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم، وهما من باب الصفة المشبهة. {وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ} وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم: هو على إضمار، أعني: فهو للتبيين، كلك بعد سقيا، وإنما لم يتعلق بالصالحين، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً، قال: لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة، بل معرفة، كهي في الرجل، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} والعامل في إذ: قال أسلمت. وقيل: ولقد اصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله: {في الدنيا} ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله: {ولقد اصطفيناه} ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه، وقيل: محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة، يبقى قوله: {قال أسلمت} ، لا ينتظم مع ما قبله، إلا إن قدر، يقال: فحذف حرف العطف، أو جعل جواباً لكلام مقدّر، أي ما كان جوابه؟ قال: أسلمت.

{وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَبَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَرَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُواْءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَبِدونَ * قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَدَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا

كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . و {يعقوب} عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفاً. {إسحاق} : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر أسحق، ولو سميت به لكان مصروفاً، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبة ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسارلة. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة وزناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضاً: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل. وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى.

قرأ الجمهور: {ويعقوب} بالرفع، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على إبراهيم، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه، أي ووصى بها نافلته يعقوب، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. {يا بني} : من قرأ {ويعقوب} بالنصب، كان يا بني من مقولات إبراهيم، ومن رفع على العطف فكذلك، أو على الابتداء، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم، فعند البصريين هو على إضمار القول، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوصية في معنى القول، فكأنه قال: قال إبراهيم لبنيه يا بني، ونحوه قول الراجز: رجلان من ضبة أخبرانا إنا رأينا رجلاً عريانا بكسر الهمزة على إضمار القول، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين. وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك: أن يا بني، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون. {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} وقيل: أم هنا بمعنى: بل، والمعنى بل كنتم.

وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه. ومنه: {أم يقولون افتراه} (يونس: 38) (هود: 13) (هود: 35) . انتهى، وهذا أيضاً قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال: المشهور أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. الثاني:} أنها للإضراب فقط، بمعنى بل. الثالث بمعنى همزة الاستفهام فقط. فالآية منافية لقولهم، فيكف يقال لهم: {أم كنتم شهداء} ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه: أنه جعل أم متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك، لا في شعر ولا غيره، فلا يجوز: أم زيد؟ وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد: أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف. إن الكلام في معنى: أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك: بلى وعمراً، جواباً لمن قال: ألم تضرب زيداً؟ ونحو قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} (البقرة: 60) ، أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو، نحو قوله: فهل لك أو من والد لك قبلنا أراد: فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله: فيا عجباً حتى كليب تسبني أي: يسبني الناس حتى كليب، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف، قال:

دعاني إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله: {تقيكم الحر} (النحل: 81) ، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت. {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} ، إذ: بدل من إذ في قوله: {إذ حضر} ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذ وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما. {مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى} ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل.

{قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ} : هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلاً، فهو من البدل التفصيلي، ولو قرىء فيه بالقطع، لكان ذلك جائزاً. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار، أعني: وأما قراءة أبيّ فظاهرة، وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه، أو عطف بيان. وقيل: هو جمع سقطت منه النون للإضافة، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً، وأبون رفعاً، حكى ذلك سيبويه، وقال الشاعر: فلما تبين أصواتنا بكين وفدّيننا بالأبينا وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير. {إِلَهًا وَاحِدًا} : يجوز أن يكون بدلاً، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة، ويجوز أن يكون حالاً، ويكون حالاً موطئة نحو: رأيتك رجلاً صالحاً. فالمقصود إنما هو الوصف، وجيء باسم الذات توطئة للوصف. وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً. وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام.

{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في {نعبد} ، والأول أبلغ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله: {نعبد} ، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون. والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة، نحو قوله: ماذا ولا عتب في المقدور رمت إما تخطيك بالنجح أو خسر وتضليل وقال: ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً والحق يدفع ترهات الباطل أو بين جزأي إسناد، نحو قوله: وقد أدركتني والحوادث جمة أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل أو بين فعل شرط وجزائه، أو بين قسم وجوابه، أو بين منعوت ونعته، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا. وهذه الجملة التي هي قوله: {ونحن له مسلمون} ليست من هذا الباب، لأن قبلها كلاماً مستقلاً، وبعدها كلام مستقل، وهو قوله: {تلك أمّة قد خلت} . لا يقال: إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب، حكاه الله عنهم، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين، يئكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله: {ونحن له مسلمون} ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية: {ونحن له مسلمون} ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل {نعبد} والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة، وهي قوله: كذلك كنا، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار، لأنه يصح عطفها على {نعبد إلهك} ، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، مع صحة المعنى، كان أولى من حمله على الإضمار.

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمّة. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم} : وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله: {ولكم ما كسبتم} . ويجوز أن تكون الجملة من قوله: {لها ما كسبت} استئنافاً، ويجوز أن تكون جملة خالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقراً ثابتاً، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله: {ولكم ما كسبتم} على قوله: {لها ما كسبت} . ولا يصح أن يكون {ولكم ما كسبتم} عطفاً على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان. {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ} قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. إما على المفعول، أي بل نتبع ملة، لأن معنى قوله: {كونوا هوداً أو نصارى} : اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وإما على أنه خبر كان، أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملة إبراهيم، كما قال عدي بن حاتم: إني من دين، أي من أهل دين، قاله الزجاج. وإما على أنه منصوب على الإعراء، أي الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد. وإما على أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي نقتدي ملة، أي بملة. وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: {بل ملة إبراهيم} ، برفع ملة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي بل الهدى ملة، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته، أي أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا.

{حَنِيفًا} : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم، أي في حال حنيفيته، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري: كقولك رأيت وجه هند قائمة، وأنه منصوب بإضمار فعل، حكاه ابن عطية. وقال: لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفاً، وأنه منصوب على القطع، حكاه السجاوندي، وهو تخريج كوفي، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه، واختلاف الفراء والكسائي، فكان التقدير: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما نكره، لم يمكن اتباعه إياه، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة، فنحن لا نجيزه، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه، أو كالجزء، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتاب «منهج المسالك» من تأليفنا. وأما النصب على القطع، فقد ردّ هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف، وذكر {حنيفاً} ولم يؤنث لتأنيث {ملة} ، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين، فكأنه قيل: نتبع دين إبراهيم حنيفاً. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال: قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة، وإن خالفها بالتذكير، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز: {ديناً قيماً ملة إبراهيم} (الأنعام: 161) ؟ فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة، فالناصب له هو الناصب للملة، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالاً لازمة، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً} حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية.

{وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى} : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان، وجوّزوا أن يكون: {وما أوتي موسى وعيسى} في موضع رفع بالابتداء، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي، فيكون في موضع رفع. والخبر في قوله {من ربهم} ، أو لا نفرق، أو يكون: {وما أوتي موسى وعيسى} معطوفاً على المجرور قبله، {وما أوتي النبيون} رفع على الابتداء، و {من ربهم} الخبر، أو لا نفرق هو الخبر. والظاهر أن من ربهم في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أوتي الأولى، وتكون الثانية توكيداً. ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله: {وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم} (84) ؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول، فتتعلق بمحذوف، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم. {بِمِثْلِ مَآءَامَنتُمْ بِهِ} وأما قراءة الجمهور، فخرجت الباء على الزيادة، والتقدير: إيماناً مثل إيمانكم، كما زيدت في قوله: {وهزّي إليك بجذع النخلة} (مريم: 25) . وسود المحاجر لا يقرأن بالسور {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195) ، وتكون ما مصدرية. وقيل: ليست بزائدة، وهي بمعنى على، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به، وكون الباء بمعنى على، قد قيل به، وممن قال به ابن مالك، قال ذلك في قوله تعالى: من إن تأمنه بقنطار} (آل عمران: 75) ، أي على قنطار. وقيل: هي للاستعانة، كقولك: عملت بالقدوم، وكتبت بالقلم، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم، وذلك فرار من زيادة الباء، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً. {وَنَحْنُ لَهُ} ، وهو الله تعالى. وقيل: يعود على ما، وتكون إذ ذاك موصولة. وأما مثل، فقيل: زائدة، والتقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به، قالوا: كهي في قوله: {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11) ، أي ليس كهو شيء، وكقوله: فصيروا مثل كعصف مأكول وكقوله: يا عاذلي دعني من عذلكا مثلي لا يقبل من مثلكها وقيل: ليست بزائدة.

وجواب الشرط قوله: {فقد اهتدوا} ، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل} (فاطر: 4) . {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} وقرأ الجمهور: صبغة الله بالنصب، ومن قرأ برفع ملة، قرأ برفع صبغة، قاله الطبري. وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب، فوجه على أوجه، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: {قولوا آمنا بالله} . وقيل: عن قوله: {ونحن له مسلمون. وقيل: عن قوله: فقد اهتدوا وقيل: هو نصب على الإغراء، أي الزموا صبغة الله. وقيل: بدل من قوله: ملة إبراهيم، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله: ونحن له عابدون، إلا إن قدر هناك قول، وهو إضمار، لا حاجة تدعو إليه، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل، فهو بعيد، وقد طال بين المبدل ومنه والبدل بجمل، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: قولوا آمنا. ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل: 88) ، إذ قبله: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} (النمل: 88) ، معناه: صنع الله ذلك صنعه، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة، كما تقول لرجل يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، يريد رجلاً يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع، فذلك خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك الإيمان صبغة الله. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} : وانتصاب صبغة هنا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ، والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين، لا بين الصابغين.

{وَنَحْنُ لَهُ عَبِدونَ} : متصل بقوله: {آمنا بالله} ، ومعطوف عليه. قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة، أو نصب على الإغراء، بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه. وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدر مؤكد، هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد، لأن الإغراء، إذا كان بالظرف والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله. {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} جملة حالية. {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى} : قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: أم تقولون بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. فأما قراءة التاء، فيحتمل أم فيه وجهين. أحدهما: أن تكون فيه أم متصلة، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجة في الله، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه، أنهم كانوا يهوداً ونصارى، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ، لأن كلاً من المستفهم عنه ليس بصحيح. الوجه الثاني: أن تكون أم فيه منقطعة، فتقدّر ببل والهمزة، التقدير: بل أتقولون، فأضرب عن الجملة السابقة، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة، على سبيل الإنكار أيضاً. وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء، لا تكون إلا منقطعة. انتهى. والأحسن أن تكون أم في القراءتين معاً منقطعة. والقول في أو في قوله: {هوداً أو نصارى} ، قد تقدّم في قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} (البقرة: 111) . وقوله: كونوا هوداً أو نصارى} (البقرة: 135) ، وأنها للتفضيل، أي قالت اليهود: هم يهود، وقالت النصارى: هم نصارى.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَدَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ} : من الله: يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم، ويكون على حذف مضاف، أي كتم من عباد الله شهادة عنده. ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف، إذ الظرف في موضع الصفة، والتقدير: شهادة كائنة عنده من الله. وهو قوله {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه} (آل عمران: 187) الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه: فمن على هذا متعلقة بعنده، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز. ومن في قوله: شهادة من الله، مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان، إذا شهدت له، ومثله: {براءة من الله ورسوله} (التوبة: 1) . انتهى. فظاهر كلامه: أن من الله في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه ثالث في العامل في من. والفرق بينه وبين ما قبله: أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد، وفي هذا الوجه اثنان، وكان جعل من معمولاً للعامل في الظرف، أو في موضع الصفة لشهادة، أحسن من تعلق من بكتم.

{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأٌّمَوَالِ وَالأٌّنفُسِ وَالثَّمَرَتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

أما وسط، بسكون السين، فهو ظرف المكان، وله أحكام مذكورة في النحو. وأضاع الرجل الشيء: أهمله ولم يحفظه، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً، وضاع المسك يضوع: فاح. الانقلاب: الانصراف والارتجاع، وهو للمطاوعة، قلبته فانقلب. عقب الرجل: معروف، والعقب: النسل، ويقال: عقب، بسكون القاف. الرأفة والرحمة: متقاربان في المعنى. وقيل: الرأفة أشد الرحمة، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول، كضروب، وجاء على فعل، كحذر، وجاء على فعل، كندس، وجاء على فعل، كصعب. التقلب: التردّد، وهو للمطاوعة، قلبته فتقلب. الشطر: النصف، والجزء من الشيء والجهة. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال قوم، منهم المازني والمبرد والفارسي: إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً، إذ هو اسم غير مصدر. قال سيبويه: ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة. وذهب قوم، منهم المازني، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه. قال، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر، وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً، منبهة على الأصل المتروك في المصادر. والذي سوّغ عندي إقرار الواو، وإن كان مصدراً، أنه مصدر ليس بجار على فعله، إذ لا يحفظ وجه يجه، فيكون المصدر جهة. قالوا: وعد يعد عدة، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر. ولما فقد يجه، ولم يسمع، لم يحذف من وجهة، وإن كان مصدراً، لأنه ليس مصدراً ليجه، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد، لأن الفعل منه: توجه واتجه. فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول. {يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدي بإلى.

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} : الكاف: للتشبيه، وذلك: اسم إشارة، والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف، وإما لكونه حالاً. والمعنى: وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى. {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} تكون على بمعنى اللام، كقوله: {وما ذبح على النصب} (المائدة: 3) ، أي للنصب. وقيل: معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أي محتجاً بالتبليغ. واللام في قوله: {لتكونوا} هي، لام كي، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً، أو عدولاً ظاهراً. وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً، فظاهر أيضاً، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التامّ لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليهم. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله: {على الناس} ، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول. وأما في قوله: {عليكم شهيداً} فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله: عليكم، فكان قوله: شهيداً، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على: لاختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم، فهو مبني على مذهبه: أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان.

{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} : جعل هنا: بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين: أحدهما {القبلة} ، والآخر {التي كنت عليها} . والمعنى: وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم صار يصلي إلى الكعبة. وتكون {القبلة} : هو المفعول الثاني، {التي كنت عليها} : هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً؟ والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن {التي كنت عليها} : هو المفعول الثاني لجعل، قال: التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفاً لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، انتهى ما ذكره.

وقد أوضحنا أن {التي كنت عليها} : هو المفعول الأول. وقيل: هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة. والمعنى: وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم، فيكون ذلك على معنى: أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ. وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله: {التي كنت عليها} ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين. وقيل: التي كنت عليها صفة للقبلة، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني، فقيل: تقديره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم. وقيل: التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم. وقيل: ذلك على حذف مضاف، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله: لنعلم، كما تقول: ضرب زيد للتأديب، أي كائن وموجود للتأديب، أي بسبب التأديب. وعلى كون التي صفة، يحتمل أن يراد بالقبلة: الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه. وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، وكنت بمعنى: أنت، كقوله تعالى: {كنتم خير أمّة} (آل عمران: 110) } بمعنى: أنتم. انتهى. وهذا من ابن عباس، إن صح تفسير معنى، لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد. وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير، ما نقله النحويون، أن كان تكون بمعنى صار، ومن صار إلى شيء واتصف به، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه. فإذا قلت: صرت عالماً، صح أن تقول: أنت عالم، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه. فتفسير ابن عباس: كنت بأنت، هو من هذا القبيل، فهو تفسير معنى، لا تفسير إعراب. وكذلك من صار خير أمّة، صح أن يقال فيه: أنتم خير أمّة.

{إِلاَّ لِنَعْلَمَ} : استثناء مفرّغ من المفعول له، وفيه حصر السبب، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا. أو نعلم هنا متعدّ إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس: نعلم هنا متعلقة، كما تقول: علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول بنعلم. وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله: {ممن ينقلب} ، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله: {يتبع} ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم، كقولك: علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوي أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري: ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير: ليعلم الرسول والمؤمنون. {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله: {وما جعلنا القبلة} ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش. وقيل: يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس.

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} : تقدّم حديث البراء، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية. وقوله: {سيقول السفهاء} : أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد، في بعض المواضع، ومنه: {قد يعلم ما أنتم عليه} (النور: 64) } ، {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك} (الحجر: 97) } ، {قد يعلم الله المعوقين منكم} (الأحزاب: 18) } . وقال الشاعر: لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر قال الزمخشري: قد نرى: ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله: قد أترك القرن مصفراً أنامله انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضادّ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره. ثم قال: ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادّعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه: قلب بصره في السماء، وإنما يقال: قلب إذا ردّد. فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو: قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير. {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال: إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال: بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال: أنف وجهك، ولا خد وجهك. {في السماء} : متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها.

{فلنولينك قبلة ترضاها:} هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها. {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان، أيّ في موضع كنتم، وهو شرط وجزاء، والفاء جواب الشرط، وكنتم في موضع جزم. وحيث: هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية، الخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط، لأن الشرط مبهم. فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط، وجوزي بها، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال. وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها، وخلاف الفراء في ذلك. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} {من ربهم} : جار ومجرور في موضع الحال، أي ثابتاً من ربهم.

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} واللام في: ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم وهو قوله: {ما تبعوا} ، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى: أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون} (الروم: 51) } ، التقدير: ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماضٍ من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً، وجب مضي فعل الشرط لفظاً، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعاً. وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جواباً لإن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدراً بما، بل لا بد من الفاء. تقول: إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز: ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم. وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو. واستعمال إن بمعنى لو قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها. وقال ابن عطية: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي

والوقوع، وإن تطلب الاستقبال، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم. فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه. انتهى كلامه. وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن، وقوله بعد: فالجواب إنما هو للقسم، يدل على أن الجواب ليس لإن، والتعليل بعد بقوله، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، لا يصلح أن يعلل به قوله: فالجواب إنما هو للقسم، بل يصح أن يكون تعليلاً، لأن الجواب لإن، وأجريت في ذلك مجرى لو. وأما قوله: هذا قول سيبويه، فليس في كتاب سيبويه، إلا أن ما تبعوا جواب القسم، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل. قال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وقال أيضاً. وقال تعالى: {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} (فاطر: 41) } : أي ما يمسكهما. وقال بعض الناس: كل واحدة من: لئن ولو، تقوم مقام الأخرى، ويجاب بما يجاب به، ومنه: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا} (الروم: 51) } ، لأن معناه: ولو أرسلنا ريحاً. وكذلك لو يجاب جواب لئن، كقولك: لو أحسنت إليّ أحسن إليك، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج. وقال سيبويه: لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقديره: لا يتبعون، وليظلن. انتهى كلامه. وتلخص من هذا كله أن في قوله: {ما تبعوا} قولين: أحدهما: أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه. والثاني: أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج. {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} . هذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله: {بتابع} ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم.

وقرأ بعض القراء: {بتابع قبلتهم} على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس. {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ} : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أذنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال: إنه يكون جواباً لهما، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى. أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً. ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدّم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم يتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي: فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة. وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في كتاب «التكميل» من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسبباً عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك.

وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو: إن تأتني إذن آتك، ووالله إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: أزورك فتقول: إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو: أنا إذاً أكرمك، وتأخرها. وإذا تقرر هذا، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم. {يَعْرِفُونَهُ} : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو {الذين آتيناهم} ، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من {الذين أوتوا الكتاب} في الآية التي قبلها، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوباً على إضمار، أعني: وعلى هذه الأعاريب يكون قوله: {يعرفونه} ، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر.

{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} ، الكاف: في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم. {أبناءهم} : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير: يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وهم يعلمون} : جملة حالية، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة.

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} : قرأ الجمهور: برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبراً بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى: أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب: الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم، فيكون التقدير: يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده: {فلا تكونن من الممترين} .

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} : قرأ الجمهور: ولكل: منوناً، وجهة: مرفوعاً، هو موليها: بكسر اللام اسم فاعل. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، بفتح اللام اسم مفعول وهي، قراءة ابن عباس. وقرأ قوم شاذاً: ولكل وجهة، بخفض اللام من كل من غير تنوين، وجهة: بالخفض منوناً على الإضافة، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى، أي هو موليها وجهه أو نفسه، قاله ابن عباس وعطاء والربيع، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ: هو مولاها. وقيل: هو عائد على الله تعالى، قاله الأخفش والزجاج، أي الله موليها إياه، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها. فمعنى هو موليها على هذا التقدير: شارعها ومكلفهم بها. والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة. وأما قراءة من قرأ: ولكل وجهة على الإضافة، فقال محمد بن جرير: هي خطأ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر، أحد القراء السبعة، وقد وجهت هذه القراءة. قال الزمخشري: المعنى: ولكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدّم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى كلامه، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام. لا يجوز أن يقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه. وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة. كان قوياً، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا: سراقة للقرآن يدرسه

وليس نظير ما مثل به من قوله: لزيد ضربت، أي زيداً ضربت، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد، ولا يجوز أن يقدر عامل في {لكل وجهة} يفسره قوله {موليها} ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه، أي اضرب زيداً أنا ضاربه، فتكون المسألة من باب الاشتغال، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر. تقول: زيداً مررت به، أي لابست زيداً، ولا يجوز: بزيد مررت به، فيكون التقدير: مررت بزيد مررت به، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر، بل إذا أردت الاشتغال نصبته، هكذا جرى كلام العرب. قال تعالى: {والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً} (الإنسان: 31) } . وقال الشاعر: أثعلبة الفوارس أم رباحا عدلت به طهية والخشابا

وأما تمثيله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي. فإن قلت: لم لا تتوجه هذه القراءة على أن {لكل وجهة} في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ، وهو الهاء، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف، وأنث على معنى الطوائف، وقد تقدم ذكرهم، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولى الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب: أنه منع من هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله، إذا تقدّم. أما ما يتعدى إلى اثنين، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم، ولا إذا تأخر. وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة. ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين، فلذلك لا يجوز هذا التقدير. وقال ابن عطية، في توجيه هذه القراءة: أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله: {لكل وجهة} على الأمر في قوله: {فاستبقوا الخيرات} ، للاهتمام بالوجهة، كما تقدم المفعول. انتهى كلام ابن عطية، وهو توجيه لا بأس به.

{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَتِ} : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة: الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد: معناه: سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى: تسابق، فهو يدل على الاشتراك. {إنا ذهبنا نستبق} (يوسف: 17) } ، أي نتسابق، كما تقول: تضاربوا. واستبق لا يتعدى، لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي، إذا بنيت من لفظ، معناه: تفاعل للاشتراك، صار لازماً، تقول: ضربت زيداً، ثم تقول: تضاربنا، فلذلك قيل: إن إلى هنا محذوفة، التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي: ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل سواكم فإني مهتد غير مائل يريد ومن يمل إلى سواكم. {لِئَلاَّ يَكُونَ} : هذه لام كي، وأن بعدها لا النافية، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم: أن لا تفعل أفعل. وكتبت في المصحف: لا ما بعدها ياء، بعدها لام ألف، فجعلوا صورة للهمزة الياء، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء. وقرأ الجمهور بالتحقيق: وهذه أن واجبة الإظهار هنا، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع، فإذا أثبتوها، فهو الأصل، وهو الأقل في كلامهم، وإذا حذفوها، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.

واللام في لئلا لام الجر، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر، أي لانتفاء الحجة عليكم. وتتعلق هذه اللام، قيل: بمحذوف، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة في ذلك {لئلا يكون} . وقيل: تتعلق بولوا، والقراءة بالياء، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين، فسهل التذكير جداً، وخبر كان قوله: {للناس} ، و {عليكم} : في موضع نصب على الحال، وهو في الأصل صفة للحجة، فلما تقدم عليها انتصب على الحال، والعامل فيها محذوف، ولا جائز أن يتعلق بحجة، لأنه في معنى الاحتجاج، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل لا يتقدم على عامله. وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة، هكذا نقلوا، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر، وللناس متعلق بلفظ يكون، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.

{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ، قرأ الجمهور: إلا جعلوها أداة استثناء، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد: ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب {الذين ظلموا} مبتدأ، والجملة من قوله: {فلا تخشوهم واخشوني} في موضع الخبر، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل. المعنى: كأنه قيل: من يظلم من الناس، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم. و {اخشوني} : فلا تخالفوا أمري، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال، أي لا تخشوا الذين ظلموا، لا تخشوهم، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء. ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين، جعلها حرف جر، وتأوّلها بمعنى مع. وأما على قراءة الجمهور، فالاستثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً، كان أولى من غيره. وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة، يضعونها موضع الحجة، وليست بحجة. ومثار الخلاف هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول، فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني، فهو استثناء متصل.

وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم، ويكون التقدير: لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون، بتولية وجوهكم إلى القبلة. ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ: إلا على الذين ظلموا، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر، كقوله: {للذين استضعفوا لمن آمن منهم} (الأعراف: 75) } ، وهذا ضعيف، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، ولا يجوز ذلك إلى على مذهب الأخفش. وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو، وجعل من ذلك قوله: ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا وقوله: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان التقدير: عنده والذين ظلموا، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وقال الزجاج: هذا خطأ عند حذاق النحويين، وأضعف من هذا زعم من زعم أن إلا بمعنى بعد، أي بعد الذين ظلموا، وجعل من ذلك {إلا ما قد سلف} (النساء: 22) } ، أي بعد ما قد سلف، {وإلا الموتة الأولى} (الدخان: 56) } ، أي بعد الموتة الأولى.

{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} : الكاف هنا للتشبيه، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف. واختلف في تقديره، فقيل التقدير: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول فيكم. ومتعلق الإتمامين مختلف، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا. أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله: {ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك} (البقرة: 128) } ، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} (البقرة: 129) } ، وقيل: التقدير: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا وثبوته. وقيل: متعلق بقوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} ، أي جعلاً مثل ما أرسلنا، وهو قول أبي مسلم، وهذا بعيد جدًّا، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من {نعمتي} ، أي: {ولأتمّ نعمتي عليكم} مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً، أي مشبهة نعمة الإرسال، فيكون على حذف مضاف. وقيل: الكاف منقطعة من الكلام قبلها، ومتعلقة بالكلام بعدها، والتقدير: قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسول، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فائته بكرمك، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم.

{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} وما: في كما، مصدرية، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، ورسولاً بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله، ومع الكلام الذي بعده، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر، لولايتها الجمل الإسمية، نحو قول الشاعر: لعمرك إنني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم

وقول من قال إن: {كما أرسلنا} ، متعلق بما بعده، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب، قال: لأن الأمر إذا كان له جواب، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه، قال: لو قلت: كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني، لأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر، أو بمضمر، وكذلك: {فاذكروني أذكركم} ، هو أمر له جواب، فلا تتعلق كما به، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، وهو قولك: إذا أتاك فلان فائته ترضه، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو: {لأتم نعمتي عليكم} ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتاً لمصدر محذوف، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك: أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك: أكرمني لإكرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضاً ليس

مترتباً على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله: فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام. {وَاشْكُرُواْ لِي} تقدّم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) } ، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر، وتارة تتعدّى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي: هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا: إذا قلت: شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية: واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه: نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت: شكرتك، فالمعنى: شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معاً، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول: شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه. {وَلاَ تَكْفُرُونِ} : وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان: ولا تكفرون، أو: ولا تكفروا بي. وعنده يكون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل.

{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجاً تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله: {ولكن لا تشعرون} ، لأن معناه: أن حياتهم لا شعور لكم بها. {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأٌّمَوَالِ} بشيء: متعلق بقوله: {ولنبلونكم} ، والباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل، إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك: بأشياء، فلا يكون حذف فيما بعدها، فيكون من في موضع الصفة، بخلاف قراءة الجمهور: بشيء، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص. وعطف ونقص على قوله: بشيء، أي: ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص، ويحسن العطف تنكيرها، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره: وشيء من نقص. و {من الأموال} : متعلق بنقص، لأنه مصدر نقص، وهو يتعدّى إلى واحد، وقد حذف، أي: ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف، أي ونقص شيء من الأموال، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا: يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات.

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَلِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاخْتِلَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأٌّسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً

فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ} . {الَّذِينَ إِذَآ أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ} : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوباً على المدح، فيكون مقطوعاً، أو مرفوعاً على إضمار هم على وجهين: إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي: من الصابرون؟ قيل: هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. {مصيبة} : اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. و {أصابتهم مصيبة} : من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً، ومنه: {أزفت الآزفة} (النجم: 57) } ، {إذا وقعت الواقعة} (الواقعة: 1) } . {قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ} : قالوا: جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا: أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا: إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله: معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور. {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، أولئك مبتدأ، وصلوات: ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور، أي: أولئك مستقرة عليهم صلوات، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ، والجار والمجرور في موضع خبره. والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة.

ويحتمل أن تكون من تبعيضية، فيكون ثم حذف مضاف، أي صلوات من صلوات ربهم. وأتى بلفظ الرب، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به. وإن كان أريد بالرحمة الصلوات، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة، لأنها قد تقيدت. وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات، فيقدر: ورحمة منه، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم. ويحتمل أن يكون: {من ربهم} ، متعلقاً بقوله: {عليهم} ، فلا يكون صفة، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات، وترتب على مقام الصبر. ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل. وتارة بالجمع: {جميع لدينا محضرون} (يس: 32 (يس: 53) } ، وينتصب حالاً: جاء زيد وعمرو جميعاً، ويؤكد به بمعنى كلهم: جاء القوم جميعهم، أي كلهم، ولا يدل على الاجتماع في الزمان، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} : ومن شرطية. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وفيه الخلاف السابق، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون: {أن يطوّف} ، في موضع رفع، على أن يكون خبراً أيضاً، قال التقدير: فلا جناح الطواف بهما، وأن يكون في موضع نصب على الحال، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما، قال: والعامل في الحال العامل في الجر، وهي حال من الهاء في {عليه} . وهذان القولان ساقطان، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.

{ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} : فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون شرطية. وقرأ حمزة، والكسائي: يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر، أي بخير، وهي قراءة ابن مسعود، قرأ: يتطوّع بخير. ويطوّع أصله: يتطوّع كقراءة عبد الله، فأدغم. وأجازوا جعل {خيراً} نعتاً لمصدر محذوف، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً. {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} : هذه الجملة جواب الشرط. وإذا كانت من موصولة في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً، فهي جملة في موضع خبر المتبدأ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى} : أمر محمد صلى الله عليه وسلّمونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى. {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} : الضمير المنصوب في {بيناه} عائد على الموصول الذي هو {ما أنزلنا} ، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور: {بيناه} مطابقة لقوله: {أنزلنا} . وقرأ طلحة بن مصرف: بينه: جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب. {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ} : هذه الجملة خبر إن. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: {إن الذين يكتمون} . {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} : هذا استثناء متصل.

{إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} : والجملة من قوله: {وهم كفار} ، جملة حالية، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً، وهو الفراء، وتبعه الزمخشري، وبيان ذلك في علم النحو. والجملة من قوله: {عليهم لعنة الله} خبر إن، و {لعنة الله} مبتدأ، خبره {عليهم} . والجملة من قوله: {عليهم لعنة الله} خبر عن أولئك. والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله، لأنه قد اعتمد خبراً بكونه لذي خبر، فيرفع ما بعده على الفاعلية، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد، بخلاف الإعراب الأول، فإنك أخبرت عنه بجملة.

وقرأ الجمهور: {وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، بالجر عطفاً على اسم الله. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه: أن لعنهم الله، أو: أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى: أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك: {ألا لعنة الله على الظالمين} (هود: 18) } ، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم: له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم: هذا ضارب زيد غداً وعمراً، على إضمار فعل: أي ويضرب عمراً، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت: هذا ضارب زيداً وتنون؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمراً. والفراء يقول: لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم

من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل، لأن والفعل، فيكون عاملاً. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: وتلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا ضارب زيد وعمراً: أنه على إضمار فعل: ويضرب عمراً. الثاني: أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو: {واسئل القرية} (يوسف: 82) } . الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم. {خَلِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} إلا أن الجملة من قوله: {لا يخفف} هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم. ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله: {لا يخفف} ، حال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب. {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وإله: خبر عن إلهكم، وواحد: صفته، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، ومنع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً.

وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله: {لا ريب فيه} (البقرة: 2) } ، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبراً. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبنى الإسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضاً، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلاً على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيداً، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافاً.

فإن {لا إله} في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: {لا إله} ، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إليه. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر كوناً مطلقاً، كان معلوماً، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا إن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه. ويجوز ارتفاع {الرحمن} على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: {وإلهكم} ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، و {لا إله إلا هو} خبر ثان، و {الرحمن الرحيم} خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكساني أنه يجيز وصف الضمير الغائب.

{وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ} وجعل الصفة موصولاً، صلته تجري: فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. والألف واللام فيه للجنس، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. {بما ينفع الناس} : يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما، فتكون الباء للسبب. واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان. {وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ} : أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله الله من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله: {من السماء} ، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق بأنزل. ولا يقال: كيف تتعلق بأنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. {فأحيا به الأرض بعد موتها} : عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، وهي له قبر.

{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره: وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجروراً بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصوراً، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعيناً للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: {وبث فيها} ، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله: {فأحيا به الأرض} عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، وكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. انتهى كلامه، ولا طائل تحته. وكيفما قدّرت من تقديرية، لزم أن يكون في قوله: {وبث فيها من كل دابة} ضمير يعود على الموصول، سواء أعطفته على أنزل، أو على فأحيا، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول. والذي يتخرّج على الآية، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله: {وما أنزل} ، التقدير: وما بث فيها من كل دابة، فيكون ذلك أعظم في الآيات، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها، وما أودع في كل شكل، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة، وذلك من الفيل إلى الذرة، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر. فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي، غير أن

عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب، وإن كان البصريون لا يقيسونه، فقد قاسه غيرهم، قال بعض طيّي: ما الذي دأبه احتياط وحزم وهواه أطاع مستويان أي: والذي أطاع، وقال حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء أي: ومن يمدحه، وقال آخر: فوالله ما نلتم وما نيل منكم بمعتدل وفق ولا متقارب يريد: ما الذي نلتم وما نيل منكم، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} (العنكبوت: 46) } ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى: {والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} (النساء: 136) } . وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه، وقد جاء ذلك في أشعارهم، قال: وإن لساني شهدة يشتفى بها وهو على من صبه الله علقم يريد: من صبه الله عليه، وقال: لعلّ الذي أصعدتني أن تردني إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر يريد: أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون {من كل دابة} في موضع المفعول، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش، يجوز أن تكون زائدة، وكل دابة هو نفس المفعول، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً، أي: وبثه، وتكون من حالية، أي: كائناً من كل دابة، فهي تبعيضية، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَحِ} ومن قرأ بالتوحيد، فإنه يريد الجنس، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل، أي وتصريف الرياح، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول، أي وتصريف الله الرياح.

{بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} : انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائناً بين، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر. {لآيات لقوم يعقلون} : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد: إن واللام. و {لقوم} : في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} : ومن: مبتدأ موصول، أو نكرة موصوفة، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هنا بمعنى غير، وأصلها أن يكون ظرف مكان، وهي نادرة التصرف إذ ذاك. قال ابن عطية: ومن دون: لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير دون بسوى، أو بغير، لا يطرد. انتهى. تقول: فعلت هذا من دونك، أي وأنت غائب. وتقول: اتخذت منك صديقاً، واتخذت من دونك صديقاً. فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً. وتقول: قام القوم دون زيد. فالذي يفهم من هذا: أن المعنى أن زيداً لم يقم، فدلالتها دلالة غير في هذا. والذي ذكر النحويون، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان، وأنها قليلة التصرف نادرته. وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء، تقول: هذا ثوب دون أي رديء، فإذا كانت ظرفاً، دلت على انحطاط المكان، فتقول: قعد زيد دونك، فالمعنى: قعد زيد مكاناً دون مكانك، أي منحطاً عن مكانك. وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول: زيد دون عمرو في الشرف، تريد المكانة لا المكان. ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء، ونحن نوضحه فنقول: إذا قلت: اتخذت من دونك صديقاً، فأصله: اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازي. وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه، لزم أن يكون غيراً، لأنه ليس إياه، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك. وانتصب {أنداداً} هنا على المفعول بيتخذ، وهي هنا متعدية إلى واحد، نحو قولك: اتخذت منك صديقاً، وهي افتعل من الأخذ.

وجاء الضمير في {يحبونهم} ضمير من يعقل. وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد: المجموع من الأوثان والرؤساء، وتكون الآية عامة. وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في: {يحبونهم} ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم. والجملة من يحبونهم صفة للأنداد، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ، ويجوز أن تكون صفة لمن، إذا جعلتها نكرة موصوفة. وجاز ذلك، لأن في يحبونهم ضمير أنداد، أو ضمير من، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ، إذ أفرد الضمير، وقد وقع الفصل بين الجملتين، وهو شرط على مذهب الكوفيين.

{كَحُبِّ اللَّهِ} ، الكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف، على رأي سيبويه، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، على رأي جمهور المعربين، التقدير: على الأول يحبونهموه، أي الحب مشبهاً حب الله، وعلى الثاني تقديره: حباً مثل حب الله، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب، والفاعل محذوف، التقدير: كحبهم الله، أو كحب المؤمنين الله، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين، حب الأنداد وحب الله. وقال ابن عطية: حب: مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر، تقديره: كحبكم الله، أو كحبهم، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة. انتهى كلامه. فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره، أو يعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذف إضماراً. وإنما قلت ذلك، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف، وإنما يكون مضمراً في المصدر. وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس، كالزيت والقمح، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها. وقال الزمخشري: كحب الله: كتعظيم الله والخضوع له، أي كما يحب الله، على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه، لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت: 65) } . انتهى كلامه. واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي مسألة خلاف. أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز: عجبت من ضرب زيد، على أنه مفعول لم يسم فاعله، ثم يضاف إليه، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو: عجبت من جنون بالعلم زيد، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله، أو

من فعل يجوز أن يبنى للفاعل، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول، ويمتنع في الثاني، وأصحها المنع مطلقاً. وتقرير هذا كله في النحو. وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين، أو ضميرهم، وهو مروي عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والمبرد، وقال: ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد: {والذين آمنوا أشد حباً لله} ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله، لأنهم أشركوها مع الله تعالى، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها. وقرأ أبو رجاء العطاردي: يحبونهم، بفتح الياء، وهي لغة، وفي المثل السائر: من حب طبّ، وجاء مضارعه على يحب، بكسر العين شذوذاً، لأنه مضاعف متعد، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو: مده يمده، وجر يجره.

{وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} : وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد. وأنت لو قلت: ما أحب زيداً، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل. لا تقول: ما أضرب زيداً، على أن زيداً حل به الضرب. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز زيد أحب لعمرو، لأنه يكون المعنى: أن زيداً هو المحبوب لعمرو. فلما لم يجز ذلك، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك، فتقول: ما أشد حب زيد لعمرو، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر. على أنهم قد شذوا فقالوا: ما أحبه إليّ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس، ويعدل على الصحيح الفصيح. وانتصاب حباً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره: حبهم لله أشد من حب أولئك لله، أو لأندادهم على اختلاف القولين.

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} : وأيضاً فقدر جواب لو، وهو غير مترتب على ما يلي لو، لأن رؤية السامع، أو النبي صلى الله عليه وسلّمالظالمين في وقت رؤيتهم، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً. وصار نظير قولك: يا زيد لو ترى عمراً في وقت شربه، لأقر أن الله قادر عليه، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. وعلى من قرأ: ولو يرى، بالياء من أسفل وفتح، أن يكون تقدير الجواب: لعلموا أن القوة لله جميعاً، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو، أي السامع، كان التقدير: لعلم أن القوة لله جميعاً. ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله {وأن الله شديد العذاب} ، وهو قول أبي الحسن الأخفش، وأبي العباس المبرد، وتقديره: على قراءة ولو ترى بالخطاب، لاستعظمت ما حل بهم، وعلى قراءة ولو يرى للغائب، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير: لاستعظم ذلك، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل، كان التقدير: لاستعظموا ما حل بهم. وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام، وكانت أن مفتوحة، فتوجيه فتحها على تقديرين: أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً. وأما من قرأ بالتاء، فتكون أن مفعولاً من أجله، أي لأن القوة لله جميعاً، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى، وقدر الجواب آخر الكلام، فهي، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة، دالة على التعليل، تقول: لا تهن زيداً إنه عالم، ولا تكرم عمراً إنه جاهل، فهي على معنى المتفوحة من التعليل، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف. وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو، أي لقالوا إن القوة، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف، أي لاستعظموا ذلك،

ومفعول: ترى محذوف، أي ولو رأى الظالمون حالهم. وترى في قوله: ولو ترى، يحتمل أن تكون بصرية، وهو قول أبي علي، ويحتمل أن تكون عرفانية. وإذا جعلت أن معمولة ليرى، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين، سدت أن مسدهما، على مذهب سيبويه. والذين ظلموا، إشارة إلى متخذي الأنداد، ونبه على العلية، أو يكون عاماً، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار. لكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد. وقراءة ابن عامر: إذ يرون، مبنياً للمفعول، هو من أريت المنقولة من رأيت، بمعنى أبصرت. ودخلت إذ، وهي للظرف الماضي، في أثناء هذه المستقبلات، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، كما يقع الماضي المستقبل في قوله: {ونادى أصحاب النار} (الأعراف: 50) } ، وكما جاء: بقيت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت أضيافي بوجه عبوس لأنه علق ذلك على مستقبل، وهو قوله: إن لم أشن على ابن هند غارة لم تخل يوماً من نهاب نفوس وحذف جواب لو، لفهم المعنى، كثير في القرآن، وفي لسان العرب. قال تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} (سبأ: 51) } ، {ولو ترى إذ وقفوا على النار} (الأنعام: 27) } ، {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} (الرعد: 31) } ، وقال امرؤ القيس: وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب. وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور. والقوة هنا مصدر أريد به الجنس، التقدير: أن القوى مستقرة لله جميعاً، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة، لأن العامل في القوة أن، وأن لا تعمل في الأحوال. وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت: إن الله قوي، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف. وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأٌّسْبَابُ} : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم، معتقدين أنهم سبب نجاتهم، لم تغن شيئاً، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم، تبرؤا منهم. وإذ: بدل من: إذ يرون العذاب. وقيل: معمولة لقوله شديد العذاب. وقيل: لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي؛ أو عام في كل متبوع، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ. وقراءة الجمهور: اتبعوا الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل.

وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء، وأنها إذا سقطت الفاء، انجزم الفعل في هذا الموضع، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء. والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني، ليس أصلها، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت. والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء، إنما هو لتضمنها معنى الشرط، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها، على اختلاف القولين، فصارت لو فرع فرع، فضعف ذلك فيها.g والكاف في كما: في موضع نصب، إما نعتاً لمصدر محذوف، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين، في غير ما موضع من هذا الكتاب. وما في كما: مصدرية، التقدير: تبرؤا مثل تبرئهم، أو فنتبرأه، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم. وقال ابن عطية: الكاف من قوله: كما في موضع نصب على النعت، إما لمصدر، أو لحال، تقديرها: متبرئين. كما انتهى كلامه. أما قوله على النعت، إما لمصدر، فهو كلام واضح، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا. وأما قوله: أو لحال، تقديرها: متبرئين كما، فغير واضح، لأنا لو صرحنا بهذه الحال، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل، لا من صفات الفاعل. وإذا كان كذلك، لم ينتصب على النعت للحال، لأن الحال هنا من صفات الفاعل، ولا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها. أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة، فلا حاجة إلى ذلك. وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً. فلو صرح بهذه الحال، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها، مثال ذلك: هم محسنون إليّ كما أحسنوا

إلى زيد. فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين، إنما هو من صفات الإحسان، التقدير: على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَتٍ عَلَيْهِمْ} : الكاف عند بعضهم في موضع رفع، وقدروه الأمر كذلك، أو حشرهم كذلك، وهو ضعيف، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل. والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال، {يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله: كذلك، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الآراءة بالآراءة، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة، فتكون حسرات منصوباً على الحال، وأن تكون قلبية، فتكون مفعولاً ثالثاً، قالوا: ويكون ثم حذف مضاف، أي على تفريطهم. وتحسر: يتعدى بعلى، تقول: تحسرت على كذا، فعلى هنا متعلقة بقوله: حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة، فالعامل محذوف، أي حسرات كائنة عليهم. {وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ} : وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري: هم بمنزلته في قوله: هم يفرشون اللبد كل طمرّه في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص.

{يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأٌّرْضِ حَلَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَبِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . ألفى: وجد، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف، ومن منع جعل الثاني حالاً، والأصح كونه مفعولاً لمجيئه معرفة، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل.

{مما في الأرض} ، من: تبعيضية، وما: موصولة، ومن: في موضع المفعول، نحو: أكلت من الرغيف، و {حلالاً} : حال من الضمير المستقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه. وقال مكي بن أبي طالب: حلالاً: نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً، قال ابن عطية: وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده، وبعده أنه مما حذف الموصوف، وصفته غير خاصة، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب {حلالاً} على أنه مفعول بكلوا، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا، أو متعلقة بمحذوف، فيكون حالاً، والتقدير: كلوا حلالاً مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالاً، فتعلقت بمحذوف، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية: مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا، تأمل. انتهى. {طيباً} : انتصب صفة لقوله: {حلالاً} ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل: انتصب {طيباً} على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلاً طيباً، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره: مستطيبين، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير، لأن الضمير جمع، وطيب مفرد، وليس طيب بمصدر، فيقال: لا يلزم المطابقة.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَآ} وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع، وأظهر ذلك غيره. وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة، التقدير: لا نتبع ما أنزل الله، {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} . ولا يجوز أن يعطف على قوله: {اتبعوا ما أنزل الله} . وعليه متعلق بقوله: ألفينا، وليست هنا متعدية إلى اثنين، لأنها بمعنى وجد، التي بمعنى أصاب.

{أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم، وأما الواو بعد الهمزة، فقال الزمخشري: الواو للحال، ومعناه: أيتبعونهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب؟ وقال ابن عطية: الواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزام هذا، أي هذه حال آبائهم. انتهى كلامه. وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف، لأن واو الحال ليست للعطف. والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق، هي جملة شرطية. فإذا قال: اضرب زيداً ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن، وكذلك: اعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ ردّوا السائل ولو بشق تمرة، المعنى فيها: وإن. وتجيء لو هنا تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل. ولذلك لا يجوز: اضرب زيداً ولو أساء إليك، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجاً، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار. فإذا تقرر هذا، فالواو في ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة، والعطف على الحال حال، فصح أن يقال: إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة. والجملة المعطوفة على الحال حال، وصح أن يقال: إنها للعطف من حيث ذلك العطف، والمعنى: والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كلّ حال، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية. ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو، إذا كانت تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها. وإن كانت الجملة الواقعة حالاً فيها ضمير يعود على ذي الحال، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن

بتقييد الجملة السابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال. فهما معنيان مختلفان، والفرق ظاهر بين: أكرم زيداً لو جفاك، أي إن جفاك، وبين أكرم زيداً ولو جفاك. وانتصاب شيئاً على وجهين: أحدهما: على المفعول به فعم جميع المعقولات، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء. والثاني: أن يكون منصوباً على المصدر، أي شيئاً من العقل، وإذا انتفى، انتفى سائر العقول، وقدم نفي العقل، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات، وأخر نفي الهداية، لأن ذلك مترتب على نفي العقل، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل، وعدم العقل عدم لها. { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما، وهو المنعوق به. وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره: بما لا يسمع منه، وليس فيه شروط جواز الحذف، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره. واختلف ما يتعلقان به، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق، والثاني من تعلق بيسمع. وقد جاء في كلامهم مثل هذا.

وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، وقيل: هو تفسير إعراب، وهو أن في الكلام حذفين: حذف من الأول، وهو حذف داعيهم، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذف من الثاني، وهو حذف المنعوق به، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً، ولا يعرفون ما وراءها. وفي هذا الوجه حذف كثير، إذ فيه حذف معطوفين، إذ التقدير الصناعي: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به. وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول: ومثل الذين مبتدأ، خبره {كمثل} ، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلا بد من الكاف التي تعطي التشبيه. بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس. {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} : هذا استثناء مفرّغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير: بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي، رحمه الله، إلى ذلك في قوله: حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة. {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وإيا هنا مفعول مقدم، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه، لأنه عائد على الله تعالى، كما في قولك: {وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) } ، وهذا من المواضع التي يجب فيها انفصال الضمير، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر، لم ينفصل إلا في ضرورة، قال: إليك حتى بلغت إياكا

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : تقدم الكلام على إنما في قوله: {إنما نحن مصلحون} (البقرة: 11) } . وقرأ الجمهور: حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية. وقرأ ابن أبي عبلة: برفع الميتة وما بعدها، فتكون ما موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف، أي إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبران. وقرأ أبو جعفر: حرم، مشدداً مبنياً للمفعول، فاحتملت ما وجهين: أحدهما: أن تكون موصولة اسم إن، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران. والوجه الثاني: أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إنما حرم، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً، والميتة وما بعدها مرفوع. ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل، والميتة فاعل يحرم، إن كانت ما مهيئة، وخبر إن، إن كانت ما موصولة. {وأهلّ} : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله. والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله: به، والضمير في به عائد على ما، إذ هي موصولة بمعنى الذي. وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله: اضطر، وقدره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل، لا في الاضطرار. {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} : أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة. {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ} : هذا الخبر الثاني عن أولئك. {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} : هذا هو الخبر الثالث. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : هذا هو الخبر الرابع لأولئك.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى} ، أولئك: اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به. {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} : اختلف في ما، فالأظهر أنها تعجبية، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء: {قتل الإنسان ما أكفره} (عبس: 17) } ، {أسمع بهم وأبصر} (مريم: 38) } . وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور، والثاني قول الفراء وابن درستويه، والثالث والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟. وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم. {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ} واختلف في إعراب {ذلك} فقيل: هو منصوب بفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك، وتكون الباء في {بأن الله} متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل: مرفوع، واختلفوا، أهو فاعل، والتقدير: وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا، أم مبتدأ، والخبر قوله: {بأن الله نزل} ؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور، وهو العذاب، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه، وأقام السبب مقام المسبب.

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَبِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّنثَى بِالاٍّنْثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يأُولِي الأَلْبَبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَالأٌّقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قبل: ظرف مكان، تقول: زيد قبلك.

أولو: من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجرّ والنصب بالياء. ومعنى أولوا: أصحاب، ومفرده من غير لفظه، وهو ذو بمعنى: صاحب. وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ، ومؤنثه أولات بمعنى: صاحبات، وإعرابها كإعرابها، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف، ولو سميت باولو، زدت نوناً فقلت: جاء من أولون، ورأيت أولين، ومررت بأولين، نص على ذلك سيبويه، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل لإضافة. كما تقول: ضاربو زيد، وضاربين زيداً. {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس، وأن تولوا في موضع الاسم، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي، وهذه القراءة من وجه أولى، وهو أن جعل فيها اسم ليس: أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللأم، وقراءة الجمهور أولى، من وجه، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيهاً لها بما.. أراد الحكم عليها بأنها حرف، كما لا يجوز توسيط خبر ما، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبورود ذلك في كلام العرب. قال الشاعر: سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم وليس سواء عالم وجهول وقال الآخر: أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّةٌ وليس علينا في الخطوب معوَّلُ وقرأه: بأن تولوا، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان أن وصلتها. قال الشاعر: أليسَ عجيباً بأن الفتى يصابُ ببعض الذي في يديه أدخل الباء على اسم ليس، وإنما موضعها الخبر، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة، وصار معنى الكلام: أعجب بأن الفتى، ولو قلت: أليس قائماً بزيد لم يجز.

و {البرّ} اسم جامع للخير، وتقدم الكلام فيه، وانتصابُ {قبل} على الظرف وناصبه {تولوا} . {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ} وإمّا أن يكون على حذف من الأول، أي: ولكنّ ذا البر، قاله الزجاج. أو من الثاني أي: برُّ من آمن، قاله قطرب، وعلى هذا خرَّجه سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: {ولكنّ البرَّ من آمن} وإنما هو: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله. انتهى. وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: ليس الكرم أن تبذل درهماً، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف، فلا يناسب: ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله: ليس الكريم بباذل درهم. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل، تقول: بررت أبرّ، فأنا برّ وبارّ، قيل: فبني تارة على فعل، نحو: كهل، وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ، ومثله: سرٌّ، وقرّ، ورَبٌّ، أي: سارّ، وقار، وبارّ، ورابُّ. وقال الفراء: {من آمن} ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل، كأنه قال: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد الفراء: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندب جعل نبات اللحية خبراً للفتى، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى، وقرأ نافع، وابن عامر: {ولكن} بسكون النون خفيفة، ورفع البرّ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ، والإعراب واضح، وقد تقدّم نظير القراءتين في {ولكن الشياطين كفروا} (البقرة: 102) } .

{عَلَى حُبِّهِ} متعلق بـ {آتى} وهو حال، والمعنى: أنه يعطي المال محباً له، أي: في حال محبته للمال واختياره وإيثاره، وهذا وصف عظيم، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله، كما جاء: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، والظاهر أن الضمير في {حبه} عائد على المال لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلاَّ بدليل، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتى، كما فسرناه، وقيل: الفاعل المؤتون، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم، وإلى الأول ذهب ابن عباس، أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره، فقول ابن الفضل: إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى، أي: على حب الإيتاء، بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها، وقال زهير: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله وقول من أعاده على الله تعالى أبعد، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل، وهو أيضاً بعيد. قال ابن عطية: ويجيء قوله {على حبه} اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه. فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك، لأن شرط ذلك أن تكون جملة، وأن لا يكون لها محل من الإعراب، وهذه ليست بجملة، ولها محل من الإعراب. وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح، لكن فيه إلباس، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول. {ذَوِى الْقُرْبَى} وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور، {المال} هو المفعول الثاني.

ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى. وأما على مذهب السهيلي فإن {المال} عنده هو المفعول الأول، و {ذوي القربى} وما بعده هو المفعول الثاني، فأتى التقديم على أصله عنده. و {اليتامى} معطوف على {ذوي القربى} حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى. {وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ} : على صلة من وصلة من، آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي: آمن. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُواْ} : والموفون معطوف على من آمن، وقيل: رفعه على إضمار، وهم الموفون، والعامل في: إذا. {وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} : انتصب: والصابرين على المدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو. وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: والصابرون، عطفاً على: الموفون، وقال الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من موضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الإختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة. انتهى كلامه.

قال الراغب: وإنما لم يقل: ووفى، كما قال: وأقام، لأمرين: أحدهما: اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلاَّ منها، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر الوفاء بالعهد، وهو مما تقضي به العقود المجردة، صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعاً للفضائل، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ، غيرَّ إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد. انتهى كلامه. {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وتنوع هنا الخبر عن أولئك، فأخبر عن أولئك الأول: بالذين صدقوا، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر، وأخبر عن أولئك الثاني: بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة. وقيل: يأتي كتب بمعنى جعل، ومنه {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة: 22) } {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156) } وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب، و {في القتلى} في هنا للسببية، أي: بسبب القتلى، مثل: «دخلت امرأة النار في هرة» . {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّنثَى بِالاٍّنْثَى} فالألف واللام تدل على الحصر، كأنه قيل: لا يؤخذ الحرّ إلاَّ بالحر، ولا يؤخذ العبد إلاَّ بالعبد، ولا تؤخذ الأنثى إلاَّ بالأنثى.

وأعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر، وهي ذوات ابتدىء بها، والجار والمجرور أخبار عنها، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية، فليس ذلك على حدّ قولهم: زيد بالبصرة، وإنما هي للسبب، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه، إذ الكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى، فالتقدير: الحر مقتول بالحر، أي: بقتله الحر، فالباء للسبب على هذا التقدير، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً، ولو قلت: الحر كائن بالحر، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيجوز، والتقدير: قتل الحر كائن بالحر، أي: بقتل الحر، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير: يقتل الحر بقتله الحر، إذ في قوله: {القصاص في القتلى} دلالة على هذا الفعل. {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ} وارتفاع: مَنْ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة، والظاهر أن: من، هو القاتل والضمير في {له} و {من أخيه} عائد عليه، و {شيء} : هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو معنى المصدر، وبني (عفا) ، للمفعول، وإن كان لازماً، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} (الحاقة: 13) } . وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية، تقول: عفوت عن زيد، وعفوت عن ذنب زيد، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام، وإلى الذنب بعن، تقول: عفوت لزيد عن ذنبه.

وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محا فلا يبعد حمل الآية عليه، ويكون إسناد عفي لمرفوعه إسناداً حقيقياً لأنه إذ ذاك مفعول به صريح، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده إليه مجازاً وتشبيهاً للمصدر بالمفعول به، فقد يتعادل الوجهان أعني: كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات، وعفا المتعدي لمعنى محا لتعلقه بمرفوعه تعلقاً حقيقياً. وقد جوز ابن عطية أن يكون عفى بمعنى: ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال: والأول أجود بمعنى أن يكون عفى لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع بشيء، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري: أن عفى بمعنى: ترك لم يثبت. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ} . ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم، أو الواجب كذا قدره ابن عطية، وقدره الزمخشري: فالأمر اتباع، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره: فليكن اتباع، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره، فاتباع بالمعروف عليه. قال ابن عطية بعد تقديره: فالحكم أو الواجب اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله {فإمساك بمعروف} (البقرة: 229) } وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله: {فضرب الرقاب} (محمد: 4) } انتهى.

ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلاَّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: {قالوا سلاماً قال سلام} (الذاريات: 25) } فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا. وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري: فليكن، فهو ضعيف إذ: كان، لا تضمر غالباً إلاَّ بعد أن الشرطية، أو: لو، حيث يدل على إضمارها الدليل، و {بالمعروف} متعلق بقوله: فاتباع، وارتفاع: {وأداء} لكونه معطوفاً على اتباع، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في: {فاتباع} ، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله: وأداء، وجوزوا أن يكون: وأداء، مبتدأ، وبإحسان، هو الخبر، وفيه بعد، والفاء في قوله: فاتباع، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال الزمخشري: ويحتمل: مَن في قوله: {فمن اعتدى} أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جواب الشرط، أو خبر عن الموصول. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ولا ضرورة تدعو إلى أن: كتب، أصله: العطف على. {كتب عليكم القصاص في القتلى} {وكتب عليكم} وإن الواو حذفت للطول، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت.

وبني {كتب} للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وللاختصار، إذ معلوم أنه الله تعالى، ومرفوعُ: كتب الظاهر أنه الوصية، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل، لا سيما هنا، إذ طال بالمجرور والشرطين، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي، وبمعنى الإيصاء. وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه، ولا يجوز أن يكون من معنى: كتب، لمضي كتب واستقبال الشرطين. ولكن يكون المعنى: كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص. ودل على هذا الجواب سياق الكلام. والمعنى: ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف، فيكون المحذوف دل على محذوف، والشرط الثاني شرط في الأول، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود، وإن كان متأخراً لفظاً. واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في كتاب «التكميل» من تأليفنا، فيؤخذ منه. وقيل: جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى (كتب عليكم الوصية) ويتجوز بلفظ: كتب، عن لفظ: يتوجه إيجاب الوصية عليكم. حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب، لأن مستقبل، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً، فيكون إذ ذاك العامل فيها: كتب، على هذا التقدير، ويكون جواب: {إن ترك خيراً} محذوفاً يدل عليه: كتب، على هذا التقدير، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً، وهو عنده المصدر، والألف واللام في نحو: الضارب والمضروب، وهذا الشرط موجود هنا، وإلى هذا ذهب في قوله: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس فعلق: بالرحى، بلفظ: المتقاعس.

وقال أبو محمد بن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون: كتب، هو العامل في: إذا، والمعنى: توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجيه الإيجاب: بكتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين: إذا، وإن، مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله: {كتب عليكم} كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال: العامل في إذا: كتب، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً، ثم قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلاَّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه، ويفرع على أن الجواب هو العامل في: إذا. ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب. والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه، قال في تفسيره: والوصية فاعل كتب، وذكر فعلها للفاصل، ولأنها بمعنى: أن يوصي، ولذلك ذكر الراجع في قوله فمن بدّله بعدما سمعه. اهـ. ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء، على تقدير الفاء، والخبر إمّا محذوف، أي: فعليه الوصية. وإمّا منطوق به، وهو قوله: {للوالدين والأقربين} أي: فالوصية للوالدين والأقربين، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم، والمفعول الذي لم يسم فاعله: بكتب، مضمر. أي: الإيصاء يفسره ما بعده.

قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد، هو العامل في إذا، وترتفع الوصية بالابتداء، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله: من يفعل الحسنات الله يحفظه ويكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين. اهـ. كلامه. وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر، ثم قال: إن الوصية فيه جواب الشرطين، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضا، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً وفي إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في: إذا، لفظ الإيصاء بحذف، أو ضمير الإيصاء: لا، جائز أن يقدره لفظ الأيصاء حذف، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، وابن عطية قدر لفظ: الأيصاء، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل، وأما قوله: وفيه جواب الشرطين، فليس بصحيح، فإنا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حذفه، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه: من يفعل الحسنات الله يحفظه وهو تحريف على سيبويه، وإنما سيبويه أيده في كتابه: من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان وأما قوله: بتقدير فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلاَّ في ضرورة الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.

قال سيبويه: وسألته، يعنى الخليل، عن قوله: إن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلاَّ أن يضطر شاعر من قِبَل: إن أنا كريم، يكون كلاماً مبتداً، والفاء، وإذ لا يكونان إلاَّ معلقتين بما قبلها، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء، وقد قاله الشاعر مضطراً، وأنشد البيت السابق: من يفعل الحسنات وذكر عن الأخفش: أن ذلك على إضمار الفاء، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلاَّ في اضطرار، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو: عليكم، وهو قول لا بأس به على ما نقرره، فنقول: لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو، فتكون الوصية مبتدأ، أو خبراً المبتدأ على هذا التقدير، ويكون جواباً السؤال مقدر، كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة، أو: المكتوب الوصية للوالدين والأقربين، ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد، فيكون هذا جواب بالسؤال مقدر، كأنه قال: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} (البقرة: 83) } . {وَالأٌّقْرَبِينَ} جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل.

{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} انتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقاً، قاله ابن عطية، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله: {على المتقين} إذن يتعلق على بحقاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو، وأما جعله صفة: لحقاً أي: حقاً كائناً على المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذ ذاك يتخصص بالصفة، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، إمّا لمصدر من: كتب عليكم، أي: كتباً حقاً، وإما لمصدر من الوصية أي إيصاءً حقاً، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب: بالمتقين، وأن التقدير: على المتقين حقاً، كقوله: {أولئك هم المؤمنون حقاً} (الأنفال: 4) } لأنه غير المتبادر إلى الذهن، ولتقدمه على عامله الموصول، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى: كتب، لأن معنى: كتبت الوصية، أي: وجبت وحقت، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر، كقولهم: قعدت جلوساً. {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء، أي: فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول: هند خرجت. والشمس طلعت، ولا يجوز طلع إلاَّ في الشعر، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم، ومنه: كخرعوبة البانة المنفطر ذهب إلى المعنى: القضيب، كأنه قال: كقضيب البانة، ومنه في العكس: جاءته كتابي، فاحتقرها على معنى الصحيفة.

والضمير في {سمعه} عائد على الإيصاء كما شرحناه، وقيل: يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية. وقيل: الهاء، في: {فمن بدّله} عائدة إلى الفرض، والحكم، والتقدير: فمن بدل الأمر المقدم ذكره، ومَنْ: الظاهر أنها شرطية، والجواب: {فإنما إثمه} وتكون: مَنْ، عامة في كل مبدل: مَنْ رضي بغير الوصية في كتابة، أو قسمة حقوق، أو شاهد بغير شهادة، أو يكتمها، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه، وقيل: المراد بِمَنْ: متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء، وقيل: المراد: بِمَنْ: هو الموصي، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب، فأمروا بصرفها إلى الأقربين. ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله: {فمن بدّله} وفي قوله: {بعدما سمعه} عائداً على أمر الله تعالى في الآية، وفي قوله: {بعدما سمعه} دليل على أن الإثم لا يترتب إلاَّ بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. {فإنما إثمه} : الضمير عائد على الإيصاء المبدل، أو على المصدر المفهوم من بدّله، أي: فإنما إثم التبديل على المبدل. {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ومَنْ: شرطية، والجواب: فلا إثم عليه، {ومن موص} متعلق، بخاف، أو بمحذوف تقديره: كائناً من موصٍ، وتكون حالاً، إذ لو تأخر لكان صفة، كقوله: {جنفاً أو إثماً} فلما تقدم صار حالاً، ويكون الخائف في هذين التقديرين، ليس الموصي، ويجوز أن يكون: مَنْ، لتبيين جنس الخائف، فيكون الخائف بعض الموصين على حد: مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه، أي: مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل، والخائف هنا موصٍ.

{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} : الضمير عائد على الموصي والورثة، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدل على ذلك لفظ: الموصي، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، كما قيل في قوله: {وآداء إليه} أي: إلى العافي، لدلالة من عفى له، ومنه ما أنشده الفراء رحمه الله تعالى: وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني فقال: أيهما، فأعاد الضمير على الخير والشر، وإن لم يتقدم ذكر الشر، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر.

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ

إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} . وبناء {كُتب} للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبنى الفعل للفاعل، كما قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (الأنعام: 54) } {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} (المجادلة: 21) } {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة: 22) } وهذا من لطيف علم البيان. أما بناء الفعل للفاعل في قوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (المائدة: 45) } فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين. والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق. وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو فعل الواوي العين، الصحيح الآخر، وإلبناءآن هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفؤور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور. {كَمَا كُتِبَ} الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتباً مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبها ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبهاً الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم.

وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوماً كما، وهذا فيه بُعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلاَّ على تأويل بعيد. وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلاَّ النكرات، فهي بمنزلة: {كتب عليكم الصيام} انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس: 37) } ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى: الذي.

{أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ} وانتصاب قوله: {أياماً} على إضمار فعل يدل عليه ما قبله، وتقديره: صوموا أياماً معدودات، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله: الصيام، وهو اختيار الزمخشري، إذ لم يذكره غيره، قال: وانتصاب أياماً بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة ـ انتهى كلامه ـ وهو خطأ، لأن معمول المصدر من صلته، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله: {كما كتب} فكما كتب ليس لمعمول المصدر، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف، أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير: أن تعريف الصيام جنس، فيوصف بالنكرة، لم يجز أيضاً، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وضعَّفناه قبل، فيكون التقدير: صوماً كما كتب، جاز أن يعمل في {أياماً الصيام} ، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس لمعمول للمصدر، وأجازوا أيضاً انتصاب أياماً على الظرف، والعامل فيه كتب، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً، والعامل فيه كتب، وإلى هذا ذهب الفراء، والحوفي، وكلا القولين خطأ. أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني، لأن، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب، وقد بينا أن ذلك خطأ.

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وموضع أو على السفر، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه. {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة.

وقرىء: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظيره في الحذف: {أن أضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: 63) } أي: فضرب فانفلق. ونكر {عدة} ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة المعدود، فكان التنكير أخصر و {من أيام} في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة. فمن الأول: {إلا أياماً معدودة} (البقرة: 80) } ومن الثاني: {إلا أياماً معدودات} (آل عمران: 24) } فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله {فعدة} ، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً، بخلاف: {أخر} فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة، مقابلة الأخر المقابل للأول، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكماً ومدلولاً. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة، وأما اختلاف المدلول: فلأن مدلول أخرى، التي جمعها أخر التي لا تنصرف، مدلول: غير، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول: متأخرة، وهي قابلة الأولى. قال تعالى: {قالت أولاهم لأخراهم} (الأعراف: 39) } فهي بمعنى: الآخرة، كما قال تعالى: {وإن لنا للآخرة والأولى} (الليل: 13) } وأخر الذي مؤنثه: أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى: غير، لا

يجوز أن يكون ما اتصل به إلاَّ مِن جنس ما قبله، تقول: مررت بك وبرجل آخر، ولا يجوز: اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر، لأن الحمار ليس من جنس الفرس، فأما قوله: صلى على عزة الرحمان وابنتها ليلى، وصلى على جاراتها الأخر فإنه جعل: ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا «التكميل» . {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قرأ الجمهور: يطيقونه مضارع أطاق، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق، كقولهم أطول في أطال، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء، والمسموع منه: أجود، وأعول، وأطول. وأغيمت السماء، وأخيلت، وأغيلت المرأة وأطيب، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين، إلاَّ أبا زيد الأنصاري فإنه يرى التصحيح في ذلك مقيساً إعتباراً بهذه الالفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس. وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه: يطوّقونه، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع. وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي «المنتخب» أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاماً ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.

أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً، فلا تقول: في مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة إفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره: لقد كان في حول ثواء ثويته تقضي لبانات ويسأم سائم

وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس، فلو كان هذا التركيب: كتب عليكم شهر رمضان صيامه، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً. وعكس: ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره: صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة، وهو بعيد، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات، على قراءة عبد الله، فإنه قرأ: أيامٌ معدودات، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب «البديع» له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قراء ذلك على إضمار فعل تقديره: صوموا شهر رمضان، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله: {أياماً معدودات} قاله الأخفش، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان، قاله أبو عبيدة والحوفي، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله: {وأن تصوموا} حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال: وقرىء بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من: {أياماً معدودات} ، أو على أنه مفعول، وأن تصوموا. انتهى كلامه؛ وهذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير، لأن تصوموا في موضع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، ولو قلت: أن يضرب زيداً شديد، وأن تضرب شديد زيداً، لم يجز. وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية: وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم، نحو: هذا ثوب بكر، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين، ولا على ما اختاروه، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه.

{الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} : تقدّم إعرابه، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن. {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ} انتصاب: هدىً، على الحال وهو مصدر وضع موضع إسم الفاعل، أي: هادياً للناس، فيكون: للناس، متعلقاً بلفظ. هدىً، لما وقع موقع هادٍ، وذو الحال القرآن، والعامل: أنزل، وهي حال لازمة، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له، وعطف قوله: وبينات، على: هدىً، فهو حال أيضاً. {مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هذا في موضع الصفة لقوله: هدى وبينات، أي: أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته.

وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني: أنه أتى به منكراً أولاً، ثم أتى به معرفاً ثانياً، فدل على أنه الأول كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) } فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه، ومن ذلك قولهم: لقيت رجلاً فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني، فيصح المعنى، لأنه لو أتى فعصاه فرعون، أو: لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا، لأنه ذكر هو والمعربون: أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال، وعطف عليه وبينات، فلا يخلو قوله: من الهدى، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله: هدى، أو لقوله: وبينات، أو لهما، أو متعلق بلفظ بينات، لا جائز أن يكون صفة لهدى، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً. كلاً بالنسبة لماهيته، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط، لأن وبينات معطوف على هدى، وهدى حال، والمعطوف على الحال حال، والحال وصف في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى، خصصها به، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محال، ولا جائز أن يتعلق بلفظ: وبينات، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به، فهو كالوصف، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف. وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: وبينات منه أي: من ذلك الهدى، لم يصح، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما.

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الألف واللام في الشهر للعهد، ويعني به شهر رمضان، ولذلك ينوب عنه الضمير، ولو جاء: فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية. ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف، والمعنى: أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم، إذ الأمر يقتضي الوجوب، وهو قوله: فليصمه، وقالوا على انتصاب الشهر: أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد. وقيل: انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم. وقال الزمخشري: الشهر منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في: فليصمه، ولا يكون مفعولاً به، كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه. وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره: فمن شهد منكم دخول الشهر، أي: من حضر. وقيل: التقدير هلال الشهر، وهذا ضعيف، لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك. و {منكم} ، في موضع الحال، ومن الضمير المستكن في شهد، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم. وقال أبو البقاء: منكم، حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، فتناقض، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً، فتناقض. ومَنْ، من قوله {فمن شهد} ، الظاهر أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد مر نظائره.

وقرأ الجمهور بسكون اللام في: فليصمه، أجروا ذلك مجرى: فعل، فخففوا، وأصلها الكسر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وأبو حيوة، وعيسى الثقفي، وكذلك قرؤا لام الأمر في جميع القرآن نحو: {فليكتب وليملل} (البقرة: 282) } بالكسر، وكسر لام الأمر، وهو مشهور لغة العرب، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب «التسهيل» أن فتح لام الأمر لغة، وعن ابنه أن تلك لغة بني سليم. وقال: حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة، ونقل صاحب كتاب «الإعراب» ، وهو: أبو الحكم بن عذرة الخضراوي، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، قال: فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو: لينبذن، ولتكرم زيداً، وليكرم عمراً وخالداً، وقوموا فلأصل لكم. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائماً، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية. {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} : قرأ أبو بكر، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وروي: مشدد الميم مفتوح الكاف، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف، وفي اللام أقوال. الأول: قال ابن عطية: هي اللام الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكلموا العدة، هذا قول البصريين، ونحوه، قول أبي صخر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تخيل لي ليلى بكل طريق

انتهى كلامه. وهو كما جوّزه الزمخشري. قال: كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد لتكملوا، لقوله: {يريدون ليطفئوا} (الصف: 8) } وفي كلامه أنه معطوف على اليسر، وملخص هذا القول: أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل، وهو مما نصوا على أنه قليل، أو ضرورة، لكن يحسن ذلك هنا، بعده عن الفعل بالفصل، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله، وهو: اليسر، وفصل بينهما بجملة وهي: ولا يريد بكم العسر، بعد الفعل عن اقتضائه، فقوي باللام، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت، لأنه بالتقدم وتأخر العامل ضعف العامل عن الوصول إليه، فقوي باللام، اذ أصل العامل أن يتقدم، وأصل المعمول أن يتأخر عنه، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة، وفيه بعد. وفي كلام ابن عطية تتبع، وهو في قوله: وهي، يعني باللام مع الفعل، يعني تكملوا مقدرة بأن، وليس كذلك، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر، ويبين ذلك أنه قال: كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا العدة، فأظهر أن بعد اللام، فتصحيح لفظه أن تقول: وهي مع الفعل مقدران بعدها، وقوله: هذا قول البصريين ونحوه، قول أبي صخر: أريد لأنسى ذكرها..... ليس كما ذكر، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم} (النساء: 26) } {يريدون ليطفئوا} (الصف: 8) } و {أن يطفئوا} (التوبة: 32) } {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} (الأحزاب: 33) } . وقال الشاعر: أريد لأنسى ذكرها..... وقال تعالى: {وأمرنا لنسلم} (الأنعام: 71) } {وأن أسلم} (غافر: 66) } وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر، كأنه قال: الإرداة للتبيين، وإرادتي لهذا، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب «التكميل في شرح التسهيل» فتطالع هناك.

وتلخص مما ذكرناه أن ما قال: من أنه قول البصريين ليس كما قال: إنما يتمشى قوله: وهي، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال: هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. ثم قال: وهي الفعل مقدرة بأن، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل، فهي جزء له، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له، فتناقض. وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: اليسر، فلا يمكن إلاَّ بزيادة اللام وإضمار: أن بعدها، أو يجعل اللام لمعنى: أن، فلا تكون أن مضمرة بعدها، وكلاهما ضعيف. القول الثاني: أن تكون اللام في {ولتكملوا العدة} لام الأمر قال ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام. انتهى كلامه. ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا: أمر الفاعل المخاطب فيه التفات، قالوا: أحدهما لغة رديئة قليلة، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأرم قبلها، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة، وهو، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام، فلو كانت لام الأمر لكانت كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر، وقول ابن عطية: والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام، يعني: أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل، وإذا كانت كاللام في: ضربت لزيد، كانت من قبل عطف المفردات.

القول الثالث: أن تكون اللام للتعليل، واختلف قائلو هذا القول على أقوال. أحدها: أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة، التقدير: لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول: إرادة اليسر. الثاني: أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل، التقدير: وفعل هذا لتكملوا العدة، قاله الفراء. الثالث: أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها، التقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا، قاله الزجاج. الرابع: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، قال ابن عطية: وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس: أن الواو زائدة، التقدير: يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة، وهذا قول ضعيف. السادس: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله؛ {ولعلكم تشكرون} وتقديره: شرع ذلك. قاله الزمخشري، قال ما نصه: شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا، علة الأمر بمراعاة العدة، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، ولعلكم تشكرون، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلاَّ النقاد المحذق من علماء البيان انتهى كلامه. والألف واللام في قوله: {ولتكملوا العدة} الظاهر أنها للعهد، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله: {فعدة من أيام أخر} أي: وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها، وقيل: عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه. {وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} معطوف على: ولتكملوا العدة، والكلام في اللام كالكلام في لام: ولتكملوا.

إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن: على، متعلقاً، بتكبروا المضمنة معنى الحمد، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها، والتقدير الإعرابي هو، أن تقول: كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم، كما قدّر الناس في قولهم: قتل الله زياداً عني أي: صرف الله زياداً عني بالقتل، وفي قول الشاعر: ويركب يوم الروع فينا فوارس بصيرون في طعن الأباهر والكلى أي: تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر، والظاهر في: ما، أنها مصدرية أي: على هدايتكم، وجوّزوا أن تكون: ما، بمعنى الذي، وفيه بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما: حذف العائد على: ما، أي: على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} والكاف في: سألك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله {الذي أنزل فيه القرآن} أي على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفكأنه قيل: أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف. والفاء في قوله: فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب لأنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب. {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أجيب: إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في: فإني، فلذلك جاء أجيب، ولم يراع الخبر فيجيء: يجيب، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب: أشهرهما: مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا، وكقولهم: {بل أنتم قوم تفتنون} (النمل: 47) } {بل أنتم قوم تجهلون} (النمل: 55) } . وكقول الشاعر: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة

والطريق الثاني: مراعاة الخبر كقولك: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ يريد الخير، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم بـ «منهج السالك» والعامل في: إذا، قوله أجيب. {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} وقرأ الجمهور: أحل، مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وقرىء، أحل مبنياً للفاعل، ونصب: الرفث به، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله، وأما أن يكون من باب الالتفات، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} ولكم، متعلق بأحل، وهو التفات، لأن قبله ضمير غائب، وانتصاب: ليلة، على الظرف، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس، قالوا: والناصب لهذا الظرف: أحل، وليس بشيء، لأن: ليلة، ليس بظرف لأحل، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا، فلا يتقدّم معموله، لكن يقدّر له ناصب، وتقديره: الرفث ليلة الصيام، فحذف، وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله: وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان أن تقديره: إذعان للذلة إذعان، وكما خرّجوا قوله: {إني لكما لمن الناصحين} (الأعراف: 21) } {وإني لعملكم من القالين} (الشعراء: 168) } أي ناصح لكما، وقال: لعملكم، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر، وأضيفت: الليلة، إلى الصيام على سبيل الاتساع، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة.

{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل هي مستأنفة. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} : إن كانت: عَلِم، معداة تعدية عرف، فسدت أن مسد المفعول، أو التعدية التي هي لها في الأصل، فسدّت مسدّ المفعولين، على مذهب سيبويه. {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن الأولى، هي لابتداء الغاية، قيل: وهي مع ما بعدها في موضع نصب، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود، كما يقال: بانت اليد من زندها، أي فارقته، ومن، الثانية للتبعيض، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله، ويتعلق أيضاً بيتبين، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى، فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية، ومِنْ الثانية هي للتبعيض. ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً، على قول الزجاج، لأن الفجر عنده فجران، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد، بل يكون جنساً. قيل: ويجوز أن يكون {من الفجر} حالاً من الضمير في الأبيض، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: كائناً من الفجر.

{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} والناصب للظرف: تأكلوا، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص، ثم بين المعاني. وفي قوله: بينكم، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك، وقيل: انتصاب: بينكم، على الحال من: أموالكم، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بينكم، وهو ضعيف، والباء في: بالباطل، للسبب وهي تتعلق: بتأكلوا، وجوزوا أن تكون بالباطل، حالاً من الأموال، وأن تكون حالاً من الفاعل. {وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ} هو مجزوم بالعطف على النهي، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام، وكذا هي في مصحف أبيّ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية. والظاهر، أن الضمير في: بها، عائد على الأموال، فنهوا عن أمرين: أحدهما: أخذ المال بالباطل، والثاني: صرفه لأخذه بالباطل، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوباً على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري، وحكى ابن عطية أنه قيل: تدلوا، في موضع نصب على الظرف، قال: وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى. ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي، وتجويز الزمخشري ذلك هنا، فتلك مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالنصب.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَقَتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَنَ إِلاَّ عَلَى الظَّلِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ

وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة، وإن كان من سأل اثنين، كما روي، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلاَّ من واحد منهم أو اثنين، وهذا كثير في كلامهم، قيل: أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز. والكاف: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم و: يسألونك، خبر، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال. و: عن، متعلقة بقوله: يسألونك، يقال: سأل به وعنه، بمعنى واحد. {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والحج: معطوف على قوله: للناس، قالوا: التقدير ومواقيت للحج، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل. {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} والباء في: بأن تأتوا زائدة في خبر ليس، وبأن تأتوا، خبر ليس، ويتقدّر بمصدر، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى، وبالأعرف عما دونه في التعريف، لأن: أن وصلتها، عندهم بمنزلة الضمير. و: مِنْ، متعلقة: بتأتوا، وهي لابتداء الغاية، والضمير في: أبوابها، عائد على البيوت. وعاد كضمير المؤنث الواحدة، لأن البيوت جمع كثرة، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير، والأفصح في كثيره أن يفرد. كهو في ضمير المؤنث الواحدة، ويجوز العكس. وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره، والأفصح أن يجمع الضمير. ولذلك جاء في القرآن: {هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ} (البقرة: 187) } ونحوه، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح.

وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيف: ولكنّ، ورفع: البرّ، والباقون بالتشديد والنصب. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ضمير المفعول عائد على: الذين يقاتلونكم. {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} و: مِنْ حيثُ، متعلق بقوله: وأخرجوهم، وقد تصرف في: حيث، بدخول حرف الجر عليها: كمن، والباء، وفي، وبإضافة لدى إليها. وضمير النصب في: أخرجوكم، عائد على المأمورين بالقتل، والإخراج، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم، جعل إخراج بعضهم، وهو أجلهم قدراً رسول الله صلى الله عليه وسلّموالمهاجرون، إخراجاً لكلهم. {وَلاَ تُقَتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَتِلُوكُمْ فِيهِ} و: حتى، هنا للغاية، وفيه متعلق بيقاتلوكم، والضمير عائد على عند، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إليه إلى: في، هذا، ولم يتسع فتعدى، الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح، لا يقال: إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع، لان ظاهره لا يجوز فيه ذلك، بل الاتساع جائز إذ ذاك. ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك؟ فكذلك يخالفه في الاتساع. فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر. {كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ} الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين. {وَقَتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة، والفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المشركين، أمروا بقتالهم حتى لا يعبد غير الله، ولا يسن بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع، والسدي. أعني: أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى، وقيل: الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان. و: حتى، هنا للغاية، أو للتعليل.

{فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَنَ إِلاَّ عَلَى الظَّلِمِينَ} متعلق الانتهاء محذوف، التقدير: عن الشرك بالدخول في الاسلام، أو عن القتال. ألا ترى قوله: فوضع قوله: إلاَّ على الظالمين، موضع: على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل وما أكرم إلاَّ العالم؟ وإلاَّ على الظالمين، استثناء مفرغ من الأخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا، على مذهب الأخفش، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع: لا عدوان، على مذهب سيبويه. وقد تقدّم التنبيه على ذلك، وجاء: بعلى، تنبيهاً على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه. ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي: إلاَّ على الظالمين منهم، أو بالاندراج في عموم الظالمين، فكان الربط بالعموم. {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَتُ قِصَاصٌ} والشهرُ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبراً، فلا بد من حذف التقدير: انتهاك حرمة الشهر الحرام، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام؛ والألف واللام في الشهر، في اللفظ هي للعهد. والألف واللام للعهد في الحرمات. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقيل: الباء زائدة، أي: مثل اعتدائه، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: اعتداءً مماثلاً لاعتدائه. {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} إلاَّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس، وقيل: مفعول ألقى محذوف، التقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وتتعلق الباء بتلقوا، أو تكون الباء للسبب، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك.

والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو: بأيديكم، لكنه ضمن: ألقى، معنى ما يتعدى بالباء، فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أي: طرحت جنبي على الأرض، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي، لأن بها الحركة والبطش والامتناع، فكأنه يقول: إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك، ولا يهمل ما وضع له، ويفضي به إلى الهلاك. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} وما، من قوله: {فما استيسر} موصولة، وهي مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر، قاله الأخفش، أو: في موضع نصب: فليهدِ، قاله أحمد بن يحيى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب له استيسر، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد، أي: يسر، بمعنى: استغنى وغني، واستصعب وصعب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل. ومن، هنا تبعيضية، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما، فيتعلق بمحذوف التقدير: كائناً من الهدي، ومن أجاز أن يكون: من، لبيان الجنس، أجاز ذلك هنا. والألف واللام في: الهدي، للعموم. وأما المجاز ففي المفعول، فالتقدير: شعر رؤوسكم، فهو على حذف مضاف.

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ومنكم، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال، لأنه قبل تقدّمه كان صفة: لمريضاً، فلما تقدّم انتصب على الحال. ومِنْ، هنا للتبعيض. وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً: بمريضاً، وهو لا يكاد يعقل، و: أو به أذى من رأسه، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات، فتكون معطوفاً على قوله: مريضاً، ويرتفع: أذى، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به، التقدير: أو كائناً به أذىً من رأسه، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد، فيكون تلك الجملة معطوفة على قوله: مريضاً، وهي في موضع مفرد، لأن المعطوف على المفرد مفرد، في التقدير: إذا كان جملة، ويرتفع، أذى، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر، فهو: في موضع رفع، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار: كان، لدلالة: كان، الأولى، عليها. التقدير: أو كان به أذى من رأسه، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على: من؛ وبه أذى، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان، وإما: أذى وبه، في موضع خبر كان، وأجاز أبو البقاء أن يكون، أو به أذى من رأسه، معطوفاً على كان، وأذى، رفع بالابتداء، وبه، الخبر متعلق بالاستقرار، والهاء في. به، عائدة على: من، وكان قد قدم أبو البقاء أن: من، شرطية، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية، والمعطوف على الشرط شرط، فيجب فيه ما يجب في الشرط، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون: من، موصولة. لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية، والباء في: به، للإلصاق، ويجوز أن تكون ظرفية، ومن رأسه، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به: به، وأن يكون في موضع الصفة لـ: أذىً، وعلى التقديرين يكون: مِنْ، لابتداء الغاية.

{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ارتفاع: فدية، على الابتداء، التقدير: فعليه فدية، أو على الخبر، أي: فالواجب فدية. وذكر بعض المفسرين أنه قرىء بالنصب على إضمار فعل التقدير: فليفد فدية. و {من صيام} ، في موضع الصفة، وأو، هنا للتخيير، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء. {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} والفاء في: فاذا أمنتم، للعطف وفي: فمن تمتع، جواب الشرط، وفي: فما، جواب للشرط الثاني. ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو: إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} مفعول: يجد، محذوف لفهم المعنى، التقدير: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه. {فصيام ثلاثة أيام} : ارتفع صيام على الإبتداء، أي: فعليه، أو على الخبر، أي: فواجب. وقرىء: فصيامَ، بالنصب أي: فليصم صيام ثلاثة أيام، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة.

{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قرأ زيد بن علي، وابن أبي عبدة: وسبعة، بالنصب. قال الزمخشري: عطفاً على محل ثلاثة أيام، كأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام كقولك: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} (البلد: 14 15) } انتهى. وخرجه الحوفي، وابن عطية على إضمار فعل، أي: فليصوموا، أو: فصوموا سبعة، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز، ومجيء: وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به، كما قيل: وسبعة أيام، فحذف لدلالة ما قبله عليه، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً، وعليه جاء: ثم اتبعه بست من شوال، وحكى الكسائي: صمنا من الشهر خمساً، والعامل في: إذا، هو صيام ثلاثة أيام، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين، كما تقول: أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة. وإذا، هنا محض ظرف، ولا شرط فيها، وفي: رجعتم، التفات، وحمل على معنى: من، أما الالتفات. فإن قوله: {فمن تمتع} {فمن لم يجد} اسم غائب، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع، ولو راعى اللفظ لأفرد، ولفظ الرجوع مبهم، وقد جاء تبيينه في السنة. {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقال الزجاج: جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام: أو، ومنه {مثنى وثلاث ورباع} (النساء: 3) (فاطر: 1) } فأزال احتمال التخيير، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين، لأن الواو لا تكون بمعنى: أو.

وقال الزمخشري: الواو، قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن، وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأنه لا تتوهم الإباحة هنا، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير، لأن التخيير قد يكون في الواجبات. وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة. {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف، ثم ذكر، من هي له حقيقة، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الأَلْبَبِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأٌّخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة، وقيل: تنوين صرف، واعتذر عن كونه منصرفاً مع التأنيث والعلمية، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، وإن كان بالتقدير: كسعاد، فلا يصح تقديرها في عرفات، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث، فأنث تقديرها. انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر، ويجوز حذفه حالة التسمية، وحكى الكوفيون، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة، وأنشدوا بيت امرىء القيس: تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي بالفتح. {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ} والحج أشهر، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف، إذ الأشهر ليست الحج، وذلك الحذف إما في المبتدأ، فالتقدير: أشهر الحج، أو وقت الحج، أو: في الخبر، أي: الحج حج أشهر، أو يكون: الأصل في أشهر، فاتسع فيه، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب، ولا يمتنع في العربية. قال ابن عطية: ومن قدر الكلام: في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد. انتهى كلامه. ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر، كما ذكر ابن عطية: لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر، فإنه يجوز عندهم الرفع والنصب، وسواء كان الحدث مستغرقاً للزمان أو غير مستغرق، وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل، وهو: أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان، فيرفع، ولا يجوز فيه النصب، أو غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب في الرفع، فيقول: ميعادك يوم، وثلاثة أيام، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر، لأن: أشهراً، نكرة غير محصورة. وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه، فيمكن أن يكون له القولان، قول البصريين، وقول هشام، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله {إن عدة الشهور} (التوبة: 36) فإنه جاء على: فعول، وهو جمع الكثرة. {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} و: مَنْ، شرطية أو موصولة، و: فيهن، متعلق بفرض، والضمير عائد على: أشهر، ولم يقل: فيها، لأن أشهراً جمع قلة، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجري مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً، وقال قوم: هما سواء في الاستعمال.

{فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} و: الفاء، في: فلا رفث، هي الداخلة في جواب الشرط، إن قدر: من، شرطاً، وهو الأظهر، أو في الخبر إن قدر: من، موصولاً. وقرأ ابن مسعود والأعمش: رفوث، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران. وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وهو طريق المفضل عن عاصم، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة. وقرأ الكوفيون، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين؛ وقرأ ابن كثير، وأبو عمر برفع: فلا رفث ولا فسوق، والتنوين، وفتح: ولا جدال، من غير تنوين. فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل: لا، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء، والخبر عن الجميع هو قوله: في الحج، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول، وحذف خبر الثاني. والثالث للدلالة، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني للدلالة، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل. قيل: ويجوز أن تكون: لا، عاملة عمل ليس فيكون: في الحج، في موضع نصب، وهذا الوجه جزم به ابن عطية، فقال: و: لا، في معنى ليس في قراءة الرفع، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف، لأن إعمال: لا، إعمال: ليس، قليل جداً، لم يجىء منه في لسان العرب إلاَّ ما لا بال له، والذي يحفظ من ذلك قوله: تعزّ فلا شيء على الأرض باقياً ولا وزرٌ مما قضى الله واقياً أنشده ابن مالك، ولا أعرف هذا البيت إلاَّ من جهته، وقال النابغة الجعدي: وحلت سواد القلب لا أنا باغياً سواها ولا في حبها متراخياً وقال آخر: أنكرتها بعد أعوام مضين لها لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر: من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح وهذا كله يحتمل التأويل، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهي من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح. وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر، والعامل فيها أفعال من لفظها، التقدير: فلا يرفث رفثاً، ولا يفسق فسوقاً، ولا يجادل جدالاً. و: في الحج، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع. وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين، فالخلاف في الحركة، أهي حركة إعراب أو حركة بناء؟ الثاني قول الجمهور، والدلائل مذكورة في النحو، وإذا بني معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبني معها في موضع رفع على الابتداء؟ وإن كانت: لا، عاملة في الاسم النصب على الموضع، ولا خبر لها، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ؟ بل. لا، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع، وما بعدها خبر: لا، إذا أجريت مجرى. إن، في نصب الاسم ورفع الخبر، قولان للنحويين، الأول: قول سيبويه، والثاني: الأخفش، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب: في الحج، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه، وفي موضع خبر: لا، على مذهب الأخفش. وأما قراءة من رفع ونون: فلا رفث ولا فسوق، وفتح من غير تنوين: ولا جدال، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء، وعلى مذهب سيبويه: إن المفتوح مع: لا، في موضع رفع على الابتداء، يكون: في الحج، خبراً عن الجميع، لأنه ليس فيه، إلاَّ العطف، عطف مبتدأ على مبتدأ. وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون: في الحج، إلاَّ خبراً للمبتدأين، أو: لا، أو خبر للا، لاختلاف المعرب في الحج، يطلبه المبتدأ أو تطلبه لا فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما.

وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه: و: لا، بمعنى ليس في قراءة الرفع، وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، و: في الحج، خبر: لا جدال، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك بل: في الحج، هو خبر الكل، إذ هو في موضع رفع في الوجهين، لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما يليها، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر، وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر انتهى كلامه. وفيه مناقشات. الأولى: قوله و: لا، بمعنى: ليس، وقد قدّمنا أن كون: لا، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد، وبينا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الابتداء. الثانية: قوله: وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها: ليس، لا يجوز حذفه لا اختصاراً، ولا اقتصاراً، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله: يرجو جوارك حين ليس مجير على طريق الضرورة أو الندور، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه. الثالثة: قوله بل: في الحج، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين، يعني بالوجهين: كونها بمعنى: ليس، وكونها مبنية مع: لا، وهذا لا يصح، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الابتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه، على ما قدمناه من الخلاف، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون: في الحج، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين.

الرابعة: قوله: لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما تليها، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء، هذا تعليل لكون: في الحج، خبراً للكل، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب إليه، وقد بينا أن ذلك لا يجوز، لأنها إذا كانت بمعنى: ليس، كان خبرها في موضع نصب، ولا يناسب هذا التعليل إلاَّ كونها تعمل عمل إن فقط، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخفش، لأنه على مذهب الأخفش يكون: في الحج، في موضع رفع بلا، و: لا، هي العاملة الرفع، فاختلف المعرب على مذهبه، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء، وقراءة الفتح في: ولا جدال، هي على عمل: لا، عمل إن. الخامسة: قوله: وظنّ أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر وليس كذلك، هذا الظنّ صحيح، وهو كما ظنّ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن: لا، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا، فأجازه أبو علي، مثل هذا في القرآن لا ينبغي. السادسة: قوله: بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى: ليس، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى: ليس، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً، لأنه ليس لنا إلاَّ صورة: لا رجل قائم، ولا امرأة. فرجل هنا مبتدأ، وقائم خبر عنه، وهي غير عاملة، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس، وارتفاع الإسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء، وإلاَّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ، والمرفوع بعده خبره.

وقال الزمخشري: وقرأ أبو عمرو، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج. والتفرقة في قراءة ابن كثير، وابن عمر، وبأن الأوّلين في معنى النهي، والثالث خبر، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت: مَنْ، شرطية، وفي موضع الخبر، إن كانت: مَنْ، موصولة. وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط، إذا كان الشرط بالإسم، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى، ولا رابط هنا ملفوظ به، فوجب أن يكون مقدراً. ويحتمل وجهين. أحدهما: أن يقدر: منه، بعد: ولا جدال، ويكون: منه، في موضع الصفة، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه، ومنه صفة للمنوين. والثاني: أن يقدر بعد الحج، وتقديره: في الحج منه أوله، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط. وللكوفيين تخريج في مثل هذا، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله: في الحج، في حجه، فنابت الألف واللام عن الضمير، وحصل بها الربط. قال بعضهم: وكرر في الحج، فقال: في الحج، ولم يقل: فيه، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء انتهى كلامه، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول، ولمجيئه في جملة غير الجملة الأولى، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على: من، لا على: الحج، أي: في فارض الحج. {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} هذه جملة شرطية، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله: {ما ننسخ من آية} (البقرة: 106) . وجواب الشرط وهو: يعلمه الله، والضمير في: يعلمه، عائد على: ما، من قوله: وما تفعلوا، و: من، في موضع نصب، ويتعلق بمحذوف.

وقد خبط بعض المعربين فقال: إن: من خير، متعلق: بتفعلوا، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره: وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه الله، جزم بجواب الشرط، والهاء في: يعلمه الله، يعود إلى خير انتهى قوله. ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن: من خير، متعلق: بتفعلوا، ثم قال: وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر. فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً، فيناقض هذا القول كون: من، يتعلق: بتفعلوا، لأن: من، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوفاً وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم، فالهاء عائدة على الاسم، أعني: اسم الشرط، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على إسم الشرط، وذلك لا يجوز، لو قلت: من يأتني يخرج خالد، ولا يقدر ضميراً يعود على إسم الشرط، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو: إن تأتني يخرج خالد. {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أو يكون مفعول: تزودوا، محذوفاً تقديره، وتزودوا التقوى، أو: من التقوى، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر، ولو لم يحذف المفعول لأتى به مضمراً عائداً على المفعول، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى، وتعظيماً لشأنها. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} وتقدم إعراب مثل: أن تبتغوا، في قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف فيهما} (البقرة: 158) و: من ربكم، متعلق: بتبتغوا، و: من، لابتداء الغاية، أو بمحذوف، وتكون صفة لفضل. فتكون: من، لابتداء الغاية أيضاً، أو للتبعيض، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي: من فضول.

{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَتٍ} و: من، في قوله: من عرفات، لابتداء الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم. وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه، ويقتضي ذلك جواز الوقوف، بأي نواحيها وقف، والجمهور على أن عرنة من عرفات. وحكى الباجي، عن ابن حبيب: أن عرنة في الحل، وعرنة في الحرم، وقيل: الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة، ومن قال: بطن عرنة من عرفات، فلو وقف بها فروي عن ابن عباس، والقاسم، وسالم أنه: من أفاض من عرنة لا حج له، وذكره ابن المنذر عن الشافعي، وأبو المصعب عن مالك، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام. ويهريق دماً، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضاً. وروي: عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء، فهي كظاهر الآية. وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيراً جميلاً، ولا يطؤوا ضعيفاً، ولا يؤذوا ماشياً، إذ كان صلى الله عليه وسلّمإذا دفع من عرفات أعنق، وإذا وجد فرجة نص. والعنق: سير سريع مع رفق، والنص: سير شديد فوق العنق، قاله الأصمعي، والنضر بن شميل. ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس. {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الفاء جواب إذا. {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} والكاف في: كما، للتشبيه، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف، وإما على الحال. وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع.

ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف، فيكون التقدير: كما هداكم، أي: اذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم، وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، أي: لأنه لا يعلم، وثبت لها هذا المعنى الأخفش، وابن برهان. وما، في: كما، مصدرية أي: كهدايته إياكم، وجوّز الزمخشري، وابن عطية أن تكون: ما، كافة للكاف عن العمل، والفرق بينهما أن: ما، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكافة لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة، والأوْلى حملها على أن: ما، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد، وعلي بن مسعود بن الفرّحال صاحب «المستوفي» واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر: لعمرك إنني وأبا حميدٍ كما النشوان والرجل الحليم أريد هجاءه وأخاف ربي وأعلم أنه عبد لئيم {وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية. واللام في: لمن، وما أشبهه فيها خلاف: أهي لام الابتداء لزمت للفرق؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق؟ ومذهب الفراء. في نحو هذا هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلاّ، وذهب الكسائي إلى أنّ: بمعنى: قد، إذا دخل على الجملة الفعلية، وتكون اللام زائدة، وبمعنى: ما، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية، واللام بمعنى إلاّ، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو. فعلى قول البصريين: تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها، وعلى مذهب الفراء: مثبتة إثباتاً محصوراً، وعلى مذهب الكسائي: مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين.

و {من قبله} ، يتعلق بمحذوف، ويبينه قوله: {لمن الضالين} ، التقدير: وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله: من الضالين، وقد تقدّم نظير هذا. {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وقد جوّز بعض النحويين أن: ثم، تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب. و: مِنْ حيث، متعلق: بأفيضوا، و: مِنْ، لابتداء الغاية، و: حيث، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان. {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم. قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول: الناسِ، كالقاضِ والهادِ، قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما كون جوازه مقروءاً به فلا أحفظه. انتهى كلامه. فقوله: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقاً، ولم يجزه سيبويه إلاّ في الشعر، وأجازه الفرّاء في الكلام. وأما قوله: وأما جوازه مقروءاً به فلا أحفظه، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره. قال أبو العباس المهدوي: أفاض الناسي بسعيد بن جبير، وعنه أيضاً: الناسِ بالكسر من غير ياء. انتهى قول أبي العباس المهدوي. {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} و: استغفر، يتعدى لاثنين، الثاني منهما بحرف الجر، وهو من: فعول، استغفرت الله من الذنب، وهو الأصل، ويجوز أن تحذف: من، كما قال الشاعر: أستغفر الله ذنباً لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل تقديره: من ذنب، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن: استغفر، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين، وأن قولهم: استغفر الله من الذنب، إنما جاء على سبيل التضمين، كأنه قال: تبت إلى الله من الذنب، وهو محجوج بقول سيبويه، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به، ولم يجىء في القرآن مثبتاً، لا مجروراً بمن، ولا منصوباً، بخلاف: غفر، فإنه تارة جاء في القرآن مذكوراً مفعوله، كقوله: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} (آل عمران: 135) وتارة محذوفاً. كقوله تعالى: يغفر لمن يشاء} (المائدة: 18) وجاء: استغفر، أيضاً معدّى باللام، كما قال تعالى: فاستغفروا لذنوبهم} (آل عمران: 135) واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وكأن هذه اللام، والله أعلم، لام العلة، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله، واستفعل هنا للطلب، كاستوهب واستطعم واستعان، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل، وقد ذكرنا ذلك في قوله: وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) . {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} فاذكروا الله: هذا جواب: إذ. ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ: كذكركم آباؤكم، برفع الآباء، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ: أباكم، على الإفراد، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر، والمصدر مضاف إلى المفعول، التقدير: كما يذكركم آباؤكم. والمعنى: ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه. ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد، بل آباء.

و: أو، هنا قيل: للتخيير، وقيل: للإباحة، وقيل: بمعنى بل أشدّ، جوزوا في إعرابه وجوهاً اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكراً بعد أشدّ تمييزاً بعد أفعل التفضيل، فلا يمكن إقراره تمييزاً إلاَّ بهذه التقادير التي قدّروها، ووجه إشكال كونه تمييزاً أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله، تقول: زيد أحسن وجهاً، لأن الوجه ليس زيداً فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو: زيد أفضل رجلٍ. فعلى هذا يكون التركيب في مثل: أضرب زيداً كضرب عمرو خالداً أو أشدّ ضرب، بالجر لا بالنصب، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه. أحدها: أن يكون معطوفاً على موضع الكاف في: ذكركم، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف، أي: ذكراً كذكركم آباءكم أو أشد، وجعلوا الذكر ذكراً على جهة المجاز، كما قالوا: شاعر شعر، قاله أبو علي وابن جني. الثاني: أن يكون معطوفاً على آبائكم، قاله الزمخشري، قال: بمعنى أو أشد ذكراً من آبائكم، على أن ذكراً من فعل المذكور انتهى. وهو كلام قلق، ومعناه: أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير: أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم، فكان القوم مذكورين، والذكر الذي هو تمييز بعد أشدّ هو من فعلهم، أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي: من ذكركم لآبائكم. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون. والكلام محمول على المعنى. التقدير: أو كونوا أشد ذكراً له منكم لآبائكم. ودل عليه أن معنى: فاذكروا الله؛ كونوا ذاكريه. قال أبو البقاء: قال: وهذا أسهل من حمله على المجاز، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني. وجوزوا الجر في أشد على وجهين. أحدهما: إن يكون معطوفاً على: ذكركم، قاله الزجاج، وابن عطية، وغيرهما. فيكون التقدير: أو كذكر أشدّ ذكراً، فيكون إذ ذاك قد جُعل للذكر ذكر.

الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المجرور بالمصدر في: كذكركم، قاله الزمخشري. قال ما نصه: أو أشدّ ذكراً في موضع جر، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: كذكركم، كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكراً، وفي قول الزمخشري: العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكراً يماثل ذكر آبائهم أو أشدّ، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون: أشدّ، منصوباً على الحال، وهو نعت لقوله: ذكراً لو تأخر، فلما تقدّم انتصب على الحال، كقولهم: Y لمية موحشاً طلل فلو تأخر لكان: لمية طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان: أو ذكراً أشدّ، يعنى: من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك: أو ذكراً أشدّ، معطوفاً على محل الكاف من: كذكركم، ويجوز أن يكون ذكراً مصدراً، لقوله: فاذكروا كذكركم، في موضع الحال، لأنه في التقدير: نعت نكرة تقدّم عليهما فانتصب على الحال، ويكون: أو أشدّ، معطوفاً على محل الكاف حالاً معطوفة على حال، ويصير كقوله: أضرب مثل ضرب فلان ضرباً، التقدير ضرباً مثل ضرب فلان، فلما تقدّم انتصب على الحال، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع. ولو تقدّم لكان: فاذكروا ذكراً كذكركم، فكان اللفظ يتكرر، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ، فلهذا المعنى، ولحسن القطع، تأخر.

لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو: أو، وبين المعطوف الذي هو: ذكراً، بالحال الذي هو: أشدّ، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسماً أو ظرفاً أو مجروراً، وأن يكون حرف العطف على أزيد من حرف، وقد وجد هذا الشرط الآخر، وهو كون الحرف على أزيد من حرف، وفقد الشرط الأول، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور، بل هو حال، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى، فهي شبيهة بالحرف، فيجوز فيها ما جاز في الظرف. وهذا أولى من جعل: ذكراً، تمييزاً لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى، فيكون: للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف، أو يجره عطفاً على ذكر المجرور بالكاف، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي: كونوا أشدّ، أو للذاكر الذكر، وبأن ينصبه عطفاً على: آباءكم، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفاً على المضاف إليه الذكر، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف، فينبغي أن ينزه القرآن عنها. {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا} هذا وجعل في زائدة، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط، وكذلك جعل في بمعنى: من، حتى يكون في موضع المفعول، وحذف مفعولي آتى، وأحدهما جائز اختصاراً واقتصاراً، لأن هذا باب: أعطى، وذلك جائز فيه.

{وَفِي الأٌّخِرَةِ حَسَنَةً} : الواو فيها لعطف شيئين على شيئين، فعطفت في الآخرة حسنة، على: الدنيا حسنة، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، تقول: أعلمت زيداً أخاك منطلقاً وعمراً أباه مقيماً، إلاَّ إن ناب عن عاملين ففيه خلاف، وفي الجواز تفصيل. وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم، فأجاز ذلك مستدلاً به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر، لأن الآية ليست من هذا الباب، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو: ضربت زيداً وفي الدار عمراً، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} (الطلاق: 12) وبقوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (النساء: 58) وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو. وقال القيثري: واللام في النار لام الجنس. {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} و: من، في قوله: مما كسبوا، يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا، ويحتمل أن يكون للسبب، و: ما، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي: من كسبهم، وقيل: أولئك، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط، ولم يذكر ابن عطية غيره. وذكره الزمخشري بإزائه.

{وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأٌّرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَئِكَةُ وَقُضِىَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * سَلْ بَنِى إِسْرَءِيلَ كَمْ آتَيْنَهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

وهذا كله يدل على زيادة النون في: جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: هي أعجمية وأصلها كهنام، فعربت بإبدال من الكاف جيماً. وبإسقاط الألف، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية. حسب: بمعنى: كافٍ، تقول أحسبني الشيء: كفاني، فوقع حسب موقع: محسب، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء زائدة، وإذا استعمل خبراً لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة، تقول: مررت برجل حسبك، ويجيء معه التمييز نحو: برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة مَنْ، فهي صلة، وجوزوا أن تكون حالاً معطوفة على: ويشهد إذا كانت حالاً، أو حالاً من الضمير المستكن في: ويشهد. وإذا كان الخصام جمعاً، كان ألدّ من إضافة بعض إلى كل، وإذا كان مصدراً فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه، وإن تأولت أفعل على غير بابها، فألدّ من باب إضافة الصفة المشبهة. يعني أن: أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي إضافة على معنى: في، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلاَّ لما هي بعض له، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في، وهو قول مرجوح في النحو. {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأٌّرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} وقرأ الجمهور: ويهلك، من أهلك. عطفاً على: ليفسد، وقرأ أبي: وليهلك، بإظهار لام العلة، وقرأ قوم: ويهلك، من أهلك، وبرفع الكاف. وخرج على أن يكون عطفاً على قوله: يعجبك، أو على: سعى، لأنه في معنى: يسعى، وأما على الاستئناف، أو على إضمار مبتدأ، أي: وهو يهلك.

وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن محيصن: ويهلك من هلك، وبرفع الكاف، والحرث والنسل على الفاعلية، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن ابن كثير، وعبد الوراث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير، إنما هو: ويهلك من أهلك، وبضم الكاف، الحرث بالنصب. وقرأ قوم: ويهلك من هلك، وبفتح اللام، ورفع الكاف ورفع الحرث، وهي لغة شاذة نحو: ركن يركن، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري. قال الزمخشري: وروي عنه، يعني عن الحسن، ويهلك مبنياً للمفعول، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت: ويهلك وليهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة منصوب، لأن في الفعل ضمير الفاعل، ويهلك ويهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة، وتم الكلام عند قوله: وهو ألدّ الخصام، وإما معطوفة على صلة مَنْ أو صفتها، من قوله: ويعجبك. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} تحتمل أيضاً هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} (البقرة: 11) و: ما، الذي أقيم مقام الفاعل، فأغنى عن ذكره هنا. فالباء، على كلامه للتعدية، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم، نحو: {لذهب بسمعهم وأبصارهم} (البقرة: 20) أي: لأذهب سمعهم، وندرت التعدية بالباء في المتعدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي أصككت الحجر الحجر، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة، أي: أخذته مصحوباً بالإثم، أو مصحوبة بالإثم، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل، ويحتمل أن تكون سببية، والمعنى: أن إثمه السابق كان سبباً لأخذ العزة له، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى، فتكون الباء هنا: كمن، في قول الشاعر: أخذته عزة من جهله

فتولى مغضباً فعل الضَّجر} وعلى أن تكون: الباء، سببية فسره الحسن، قال. أي من أجل الإثم الذي في قلبه، يعني الكفر. {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} أي: كافيه جزاءً وإذلالاً جهنم، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل: بحسبه، لأنه جعله اسم فعل، إما بمعنى الفعل الماضي، أي: كفاه جهنم، أو: بمعنى فعل الأمر، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم، وهو الغاية في الذل، ولما كان قوله: اتق الله، حل به ما أمر أن يتقيه، وهو: عذاب الله، وفي قوله: فحسبه جهنم، استعظام لما حل به من العذاب، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به. {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} تقدّم الكلام في: بئس، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو، لكن التفريع على مذهب البصريين في أن: بئس ونعم، فعلان جامدان، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما، وأن المخصوص بالذّم، إن تقدم، فهو مبتدأ، وإن تأخر فكذلك، هذا مذهب سيبويه. وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدّم، والتقدير: ولبئس المهاد جهنم. أو: هي، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذمّ إذا تأخر كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها، إذ ليس لها موضع من الإعراب، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها، فصارت مرتبطة غير مرتبطة، وذلك لا يجوز.

وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدّم، وأنت لا ترى فرقاً بين قولك: زيد نعم الرجل، ونعم الرجل زيد، كما لا تجد فرقاً بين: زيد قام أبوه، وبين: قام أبوه زيد، وحسن حذف المخصوص بالذمّ هنا كون المهاد وقع فاصلة، وكثيراً ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله: {فنعم المولى ونعم النصير} (الحج: 78) ولبئس مثوى المتكبرين} (النحل: 29) . {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} وانتصاب: ابتغاء، على أنه مفعول من أجله، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم، إنما هو طلب رضى الله تعالى، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت، وهذه الإضافة، أعني: إضافة المفعول من أجله، هي محضة، خلافاً للجرمي، والرياشي، والمبرّد، وبعض المتأخرين، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة، وهذا مذكور في كتب النحو. {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} ولذلك جاء بقوله {كافة} وانتصاب {كافة} على الحال من الفاعل في: ادخلوا، والمعنى ادخلوا في السلم جميعاً، وهي حال تؤكد معنى العموم، فتفيد معنى: كل، فإذا قلت: قام الناس كافة، فالمعنى قاموا كلهم، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالاً من السلم، أي في شرائع الإسلام كلها، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون: كافة، حالاً من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال الشاعر: السلم يكون تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرع

وتعليله جواز أن يكون: كافة، حالاً من السلم بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، ليس بشيء، لأن التاء في: كافة، وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالاً للتأنيث، بل صار هذا نقلاً محضاً إلى معنى: جميع وكل، كما صار: قاطبة، وعامة، إذا كان حالاً نقلاً محضاً إلى معنى: كل وجميع. فإذا قلت: قام الناس كافة، أو قاطبة، أو عامة، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث، كما لا يدل عليه: كل، ولا جميع. وقوله: فيكون الحال من شيئين، يعني: من الفاعل في ادخلوا، ومن السلم، وهذا الذي ذكره محتمل، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل، وذلك جائز، يعني: مجيء الحال الواحدة من شيئين، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو. وقوله: نحو قوله: {فأتت به قومها تحمله} (مريم: 27) يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت، ومن الضمير المجرور بالباء، هذا المثال ليس بمطابق للحال من شيئين، لأن لفظ: تحمله، لا يحتمل شيئين، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين، والإخبار بتلك الحال عنهما، فمتى صح ذلك صحت الحال، ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قوله: وعلقت سلمى وهي ذات موصد ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم} فصغيرين: حال من الضمير في علقت، ومن سلمى، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم، ومثله: خرجت بها نمشي تجرّ وراءنا فنمشي حال من التاء في: خرجت، ومن الضمير المجرور في بها، ويصلح أن تقول: أنا وهي نمشي، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبراً عنهما، لو قلت: هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبراً، نحو قوله: هند وزيد تكرمه، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أنّ يقدر إلاّ بمفرد، فيمتنع أن يكون حالاً من ذوي حال، ولذلك أعرب المعربون في: خرجت بها نمشي تجر وراءنا

نمشي: حالاً منهما، وتجر حالاً من ضمير المؤنث خاصة، لأنه لو قيل: أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبراً عنها، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد، أي حاملة وجارة، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالاً منهما. و {كافة} لدلالته على معنى: جميع، يصلح أن يكون حالاً من الفاعل في: ادخلوا، ومن السلم، بمعنى شرائع الإسلام، لأنك لو قلت: الرجال والنساء جميع في كذا، صح أن يكون خبراً. لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبراً، لا تقول: الزيدون والعمرون كافة، في كذا، فلا يجوز أن يقع حالاً على ما قررت، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة: كافة، إذ لم يتصرف فيها، بل التزم نصبها على الحال، لكن مرادفها يصح فيه ذلك، وقوله: والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها، يعني: أن هذا في أصل الوضع، ثم صار الاستعمال لها لمعنى: جميعاً، كما قال هو وغيره، وكافة: معناه جميعاً. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَئِكَةُ} ؟ هل: هنا للنفي، المعنى: ما ينظرون، ولذلك دخلت إلاَّ، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها: إلاَّ، كثير الاستعمال في القرآن، وفي كلام العرب، قال تعالى: {وهل نجازي إلاَّ الكفور} (سبأ: 17) فهل يهلك إلا القوم الظالمون} (الأنعام: 47) وقال الشاعر: وهل أنا إلاَّ من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد} و: ينظرون، هنا معناه: ينتظرون، تقول العرب: نظرت فلاناً انتظره، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلاَّ بحرف جر. قال امرؤ القيس: فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعي لدى أم جندب ومفعول: ينظرون، هو ما بعد إلاَّ، أي: ما ينتظرون إلاَّ إتيان الله، وهو استثناء مفرع، قيل: وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى، وكان مضافاً إلى الوجه، وإنما هو من الانتظار. انتهى.

وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال: هو من النظر، وهو تردد العين. وهو معدى بإلى، لكنها محذوفة، والتقدير: هل ينظرون إلاَّ إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد، ولا لبس هنا، فحذفت: إلى، وقوله: وكان مضافاً إلى الوجه يشير إلى قوله: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} (القيامة: 23) فكذلك ليس بلازم، قد نسب النظر إلى الذوات كثيراً كقوله: أفلا ينظرون إلى الإبل} (الغاشية: 17) أرني أنظر إليك} (الأعراف: 143) والضمير في: ينظرون، عائد على الذالين، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. و: في ظلل، متعلق بيأتيهم، وجوّزوا أن يكون حالاً فيتعلق بمحذوف، و: من الغمام، في موضع الصفة لظلل، وجوّزوا أن يتعلق بيأتيهم، أي من ناحية الغمام، فتكون: مِن، لابتداء الغاية، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو جعفر: والملائكةِ، بالجر عطفاً على: في ظلل، أو عطفاً على الغمام، فيختلف تقدير حرف الجر، إذ على الأول التقدير: وفي الملائكة، وعلى الثاني التقدير: ومن الملائكة. وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على: الله، وقيل: في هذا الكلام تقديم وتأخير، فالإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة، والتقدير: إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإتيان فقط، ويؤيد هذا قراءة عبد الله، إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل. {وَقُضِىَ الأَمْرُ} معطوف على قوله: يأتيهم، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع، والتقدير: ويقضي الأمر، ويحتمل أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى، أي: فرغ من أمرهم بما سبق في القدر، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر.

وقرأ معاذ بن جبل: وقضاء الأمر، قال: قال الزمخشري: على المصدر المرفوع عطفاً على الملائكة، وقال غيره بالمدّ والخفض عطفاً على الملائكة، وقيل: ويكون: في، على هذا بمعنى الباء، أي: بظلل من الغمام، وبالملائكة، وبقضاء الأمر. وقرأ يحيى بن معمر: وقضي الأمور، بالجمع، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، ولأنه لو أبرز وبني الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} وإذا كان الفعل مبنياً للمفعول فالفاعل المحذوف، إما الله تعالى، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة، أو ذوو الأمور، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون، كانوا رادّين أمورهم إلى خالقها، قيل: أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم: فلان معجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى أين يُذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. انتهى. وملخصه: إنه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل، وهذا خطأ، إذ لا بد للفعل من تصوّر فاعل، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحداً، ولا الفاعل للإعجاب، بل الفاعل غيره، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه، واعتقاده بجمال نفسه، فالمعنى أنه أعجبه رأيه، وذهب به رأيه، فكأنه قيل: أعجبه رأيه بنفسه، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك؟ ثم حذف الفاعل، وبني الفعل للمفعول.

{سَلْ بَنِى إِسْرَءِيلَ كَمْ آتَيْنَهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} {وكم} في موضع نصب على أنها مفعول ثان {لآتيناهم} على مذهب الجمهور، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده، وجعل ذلك من باب الإشتغال، قال: وكم، في موضع نصب إمّا بفعل مضمر بعدها، لأن لها صدر الكلام تقديره: كم آتيناهم، أو بإتيانهم. انتهى. وهذا غير جائز إن كان قوله: من آية تمييزاً لكم، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الإشتغال. ونظير ما أجاز أن يقول: زيداً ضربت، فتعرب زيداً مفعولاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، التقدير: زيداً ضربت ضربت، وكذلك: الدرهم أعطيت زيداً، ولا نعلم أحداً ذهب إلى ما ذهب إليه، بل نصوص النحويين، سيبويه فمن دونه، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده، وإن كان تمييز: كم، محذوفاً.

وأطلقت: كم، على القوم أو الجماعة، فكان التقدير: كم من جماعة آتيناهم، فيجوز ذلك، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على: كم، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون: كم، في موضع رفع بالابتداء، والجملة من قوله: آتيناهم، في موضع الخبر، والعائد محذوف، التقدير: آتيناهموه، أو آتيناهموها، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في الشعر، أو في شاذ من القرآن، كقراءة من قرأ {أفحكم الجاهلية يبغون} (المائدة: 50) برفع الحكم، وقال ابن مالك: لو كان المبتدأ غير: كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلاَّ في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفاً انتهى. فإذا كان لا يجوز إلاَّ في الاضطرار، أو ضعيفاً، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك؟ ورجحانه. وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه. وكم، هنا استفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الاستفهام، وقد يخرج الاستفهام عن حقيقته إذا تقدّمه ما يخرجه، نحو قولك: سواء عليك أقام زيد أم قعد، و: ما أبالي أقام زيد أم قعد، وقد عملت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد، فكل هذا صورته صورة الاستفهام، وهو على التركيب الاستفهامي وأحكامه، وليس على حقيقة الاستفهام. وهذه الجملة من قوله: {كم آتيناهم} في موضع المفعول الثاني: لسل، لأن سأل يتعدى لإثنين؛ أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف جر، إما عن، وإما الباء. وقد جمع بينهما في الضرورة نحو: فأصبحن لا يسألنه عن بما به و: سأل، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية، فهي عاملة في المعنى، غير عاملة في اللفظ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلاَّ الجار، قالوا: وإنما علقت: سل، وإن لم تكن من أفعال القلوب، لأن السؤال سبب للعلم، فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك، وقال تعالى: {سلهم أيهم بذلك زعيم} (القلم: 40) وقال الشاعر: سائل بني أسد ما هذه الصوت وقال:

واسأل بمصقلة البكري ما فعلا وأجاز الزمخشري أن تكون: كم، هنا خبرية، قال: فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟ قلت: يحتمل الأمرين، ومعنى الاستفهام فيها التقدير. انتهى كلامه. وهو ليس بجيد، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى: سل بني إسرائيل، وما ذكر المسؤول عنه، ثم قال: كثيراً من الآيات آتيناهم، فيصير هذا الكلام مفلتاً مما قبله، لأنه جملة: كم آتيناهم، صار خبراً صرفاً لا يتعلق به: سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلاَّ في الإستفهامية، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف، وهو المفعول الثاني: لسل، ويكون المعنى: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم أخبر تعالى أن كثيراً من الآيات آتيناهم. {مِنْءَايَةٍ} تمييز لـ: كَمْ، ويجوز دخول: من، على تمييز الاستفهامية والخبرية، سواء وليها أم فصل بينهما، والفصل بينهما بجملة، وبظرف، ومجرور، جائز على ما قررنا في النحو، وأجاز ابن عطية أن يكون: من آية، مفعولاً ثانياً: لآتيناهم، وذلك على التقدير الذي قدّره قبل من جواز نصب: كم، بفعل محذوف يفسره: آتيناهم، وعلى التقدير الذي قررناه من أن: كم، تكون كناية عن قوم أو جماعة، وحذف تمييزها لفهم المعنى، فإذا كان كذلك، فإن كانت: كم، خبرية فلا يجوز أن تكون: من آية، مفعولاً ثانياً، لأن زيادة: من، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش، وإن كانت استفهامية فيمكن أن يقال: يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله، وفيه بعد، لأن متعلق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: كم من درهم أعطيته من رجل، على زيادة: من، في قولك: من رجل، لكان فيه نظر، وقد أمعنا الكلام على زيادة: من، في «منهج السالك» من تأليفنا. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} وأتى بلفظ: من، إشعاراً بابتداء الغاية.

{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقرىء: ومن يبدل بالتخفيف، و. يبدلَ، يحتاج لمفعولين: مبدل ومبدل له، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، وتقدم الكلام على هذا في قوله: {فبدل الذين ظلموا} (البقرة: 59) وإذا تقرر هذا، فالمفعول الواحد هنا محذوف، وهو البدل، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} (إبراهيم: 28) : فكفراً هو البدل، ونعمة الله، هو المبدل، وهو الذي أصله: أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر، فالتقدير إذن: ومن يبدل نعمة الله كفراً، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك، لأنه لا يترتب على تقدير: أن يكون النعمة هي البدل، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله: فإن الله شديد العقاب} خبر يتضمن الوعيد، ومن حذف حرف الجر لدلالة المعنى قوله: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) أي: بسيئاتهم، ولا يصح أن يكون التقدير: سيئاتهم بحسنات، فتكون السيئات هي البدل، والحسنات هي المبدل، لأن ذلك لا يترتب على قوله: إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً} (مريم: 60) فإن الله شديد العقاب} خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط، تقديره: فإن الله شديد العقاب له، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين، فيغني عن الربط لقيامها مقام الضمير، والأَوْلى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، التقدير: يعاقبه.

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا} وقراءة الجمهور: زين، على بناء الفعل للمفعول، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث، وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهر، لأن المسند إليه الفعل مؤنث، وحذف الفاعل لفهم المعنى، وهو: الله تعالى، يؤيد ذلك قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبي حيوة: زين، على البناء للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله: {فإن الله شديد العقاب} . {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ} وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله: زين، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا، فليس أمراً متجدّداً، وصدرت الثانية بالمضارع، لأنها حالة تتجدّد كل وقت وقيل: هو على الاستئناف أي: الفعل المضارع، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمار هم التقدير: وهم يسخرون، فيكون خبر مبتدأ محذوف، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية. {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ} فوق: ظرف مكان، فقيل: هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة. وانتصاب: يوم القيامة، على الظرف، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبراً، أي: كائنون هم يوم القيامة، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه، وبين من تضاف هي إليه، كقولك: زيد فوق عمرو في المنزل، حتى كأنه قيل: زيد أعلى من عمرو في المنزلة، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه، قال ابن عطية: وهذا كله من التحميلات، حفظ لمذهب سيبويه، والخليل، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك. إنتهى كلامه.

وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل، فالبصريون يمنعون: زيد أحسن أخوته، والكوفيون يجيزونه، وأما أن ذلك في: فوق، فلا نعلمه، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى، وأعلى أفعل تفضيل، نقل الخلاف إليها، والذي نقوله: إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلوّ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية، وإنما هي تدل على مطلقها، ولا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن، كقوله: الركب أسفل منكم، كما أن أعلى كذلك. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ومفعول يشاء محذوف، التقدير: من يشاء أن يرزقه، دل عليه ما قبله، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها: الفعل، والفاعل، والمفعول الأول وهو: من، فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر، وإن كان للفاعل فهو من صفاته، أو للمفعول فهو من صفاته، فإذا كان للفعل كان المعنى: يرزق من يشاء رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: العد، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته، أو يعني به المحاسبة في الآخرة، أي: رزقاً لا يقع عليه حساب في الآخرة، وتكون على هذا الباء زائدة. وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال: المعنى يرزق الله غير محاسب عليه، أي متفضلاً في إعطائه لا يحاسب عليه، أو غير عادٍ عليه ما يعطيه، ويكون ذلك مجازاً عن التقتير والتضييق، فيكون: حساب مصدراً عبر به عن اسم الفاعل من: حاسب، أو عن اسم الفاعل من: حسب، وتكون الباء زائدة في الحال، وقد قيل: إن الباء زيدت في الحال المنفية، وهذه الحال لم يتقدمها نفي، ومما قيل: إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر: فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيب منتهاهاأي: فما رجعت خائبة، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدراً عبر به عن اسم المفعول، أي: غير محاسب على ما يعطي تعالى، أي: لا أحد يحاسب الله تعالى على ما منح، فعطاؤه غمراً لا نهاية له. وإذا كان: لمن، وهو المفعول الأول ليرزق، فالمعنى: إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى، فيكون أيضاً حالاً منه، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب، أو المفعول من حسب، أي: غير معدود عليه ما رزق، أو على حذف مضاف أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: المحاسبة أو العد، والباء زائدة في هذه الحال أيضاً. ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى: أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظن، ولا يقدر أن يأتيه الرزق، كما قال: {ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 3) فيكون حالاً أيضاً أي: غير محتسب، وهذه الأوجه كلها متكلفة، وفيها زيادة الباء. والأولى أن تكون الباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بباء الحال، وعلى هذا يصلح أن تكون: للمصدر، وللفاعل، وللمفعول، ويكون الحساب مراداً به المحاسبة، أو العد، أي: يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق، أو: ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق.

وكون الباء لها معنى أَوْلى من كونها زائدة، وكون المصدر باقياً على المصدرية أولى من كونه مجازاً عن اسم فاعل أو إسم مفعول وكونه مضافاً لغير أولى من جعله مضافاً لذي محذوفة، ولا تعارض بين قوله: {جزاء من ربك عطاء حساباً} (النبأ: 36) أي: محسباً أي: كافياً من: أحسبني كذا، إذا كفاك، وبغير حساب معناه العد، أو المحاسبة، أو لاختلاف متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة، فبغير حساب في التفضل المحض، وعطاءً حساباً في الجزاء المقابل للعمل، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما: فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه، وفي الآخرة يحاسب، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه، أي: يرزق ولا يحاسب عليه، أو ولا يعد عليه، وحساباً صفة للعطاء، فقد اختلف من جهة من قاما به، وزال بذلك التعارض.

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ * يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَلِدَيْنِ وَالأٌّقْرَبِينَ وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ

فِيهَا خَلِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . حسب: بكسر السين: يحسب، بفتحها في المضارع وكسرها، من أخوات: ظن، في طلبها إسمين: هما في مشهور قول النحاة: مبتدأ وخبر، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه، وقد يأتي في المتيقن قليلاً، نحو قوله: حسبت التقى والجود خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً ومصدرها: الحسبان، ويأتي: حسب أيضاً بمعنى: احمرّ تقول: حسب الرجل يحسب، وهو أحسب، كما تقول: شقر فهو أشقر، ولحسب أحكام ذكرت في النحو. لما: الجازمة حرف، زعموا أنه مركب من: لم وما، ولها أحكام تخالف فيها: لم، منها: أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى، وذلك في فصيح الكلام، ومنها: أنه يجب اتصال نفيها بالحال، ومنها: أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء. زلزل: قلقل وحرّك، وهو رباعي عند المصريين: كدحرج، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو. ماذا: إذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت: ما يراد بها الاستفهام، وذا: للإشارة، وإن دخل التجوّز فتكون: ذا، موصولة، لمعنى: الذي، والتي، وفروعها، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام، فتفتقر: ذا، إذ ذاك إلى صلة، وتكون مركبة مع: ما، الاستفهامية، فيصير دلالة مجموعهما دلالة: ما، الاستفهامية لو انفردت، ولهذا قالت العرب: عن ماذا تسأل؟ بإثبات ألف: ما، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع: ما، الموصولة، أو: ما، النكرة الموصوفة، فتكون دلالة مجموعهما دلالة: ما الموصولة، أو الموصوفة، لو انفردت دون: ذا، والوجه الآخر هو عن الفارسي.

عسى: من أفعال المقاربة، وهي فعل، خلافاً لمن قال: هي حرف ولا تتصرف، ووزنها: فعل، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع، أو نون أناث، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو: عسيا وعسوا، خلافاً للرماني، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي، ولا يخص حذف: إن، من المضارع بالشعر خلافاً لزاعم ذلك، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو، وهي: في الرجاء تقع كثيراً، وفي الإشفاق قليلاً قال الراغب. زال: من أخوات كان، وهي التي مضارعها: يزال، وهي من ذوات الياء، ووزنها فعل بكسر العين، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها، وهو: يزيل، ولا تستعمل إلاَّ منفية بحرف نفي، أو بليس، أو بغير أو: لا، لنهي أو دعاء. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وانتصاب: مبشرين ومنذرين، على الحال المقارنة. {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ} معهم حال من الكتاب: وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم، لكنه انتهى إليهم. والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة. قاله الطبري، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع، وقد قيل به. ويحتمل: بالحق، أن يكون متعلقاً: بأنزل، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل، لأنه يراد به المكتوب، أو بمحذوف، فيكون في موضع الحال من الكتاب، أي مصحوباً بالحق، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها، وهذه الجملة معطوفة على قوله: {فبعث الله} .

{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} اللام لام العلة، ويتعلق بأنزل، والضمير في: ليحكم، عائد على الله في قوله: فبعث الله، وهو المضمر في: أنزل، وهذا هو الظاهر، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس، وقيل: عائد على الكتاب أي: ليحكم الكتاب بين الناس، ونسبة الحكم إليه مجاز، كما أسند النطق إليه في قوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} (الجاثية: 29) وكما قال: ضربت عليك العنكبوت نسيجها وقضى عليك به الكتاب المنزل} ولأن الكتاب هو أصل الحكم، فأسند إليه رداً للأصل، وهذا قول الجمهور، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل: النبي، قال: ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أنه يحتمل ما قاله، فيعود على أفراد الجمع، أي: ليحكم كل نبي بكتابه، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم، بالنون، وهو متعين عوده على الله تعالى، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في: أنزل، إلى ضمير المتكلم، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال: ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه، وهي: ليحكم، على بناء الفعل للمفعول، ونقل مكي لنحكم بالنون. وفي القراءة التي نقل الناس من قوله: وليحكم، حذف الفاعل للعلم به، والأولى أن يكون الله تعالى. قالوا: ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون. وهي ظرف مكان، وهو هنا مجاز، وانتصابه بقوله: ليحكم، وفيما، متعلق به أيضاً، و: فيه، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق. قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد، صلى الله عليه وسلّم أو دينه، أو: هما، أو: كتابه.

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} الضمير من قوله: وما اختلف فيه، يعود على، ما عاد عليه في: فيه، الأولى، وقد تقدّم أنها عائدة على: ما، وشرح ما المعنى: بما، أهو الدين، أو محمد صلى الله عليه وسلّم أم دينه؟ أم هما؟ أم كتابه؟ والضمير في: أوتوه، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في: فيه، وقيل: الضمير في: فيه، عائد على الكتاب، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب، التقدير: وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه، أي: أوتوا الكتاب. وقال الزجاج: الضمير في: فيه، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلّم أي: وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلّمإلاَّ الذين أوتوه، أي: أوتوا علم نبوّته، فعلوا ذلك للبغي، وعلى هذا يكون الكتاب: التوراة، والذين أوتوه اليهود. وقيل: الضمير في: فيه، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما، وقيل: يعود الضمير في: فيه، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه. وقال مقاتل: الضمير عائد على الدين، أي: وما اختلف في الدين. انتهى. والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في: أوتوه وفيه الأولى والثانية، يعود على: ما، الموصولة في قوله: فما اختلفوا فيه، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله، بينه بما نزل في الكتاب، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله: {ليحكم} . وانتصاب: بغياً، على أنه مفعول من أجله، و: بينهم، في موضع الصفة له، فتعلق بمحذوف، أي: كائناً بينهم، وأبعد من قال: إنه مصدر في موضع الحال، أي: باغين.

{إلاَّ الذين أوتوه} ، استثناء مفرغ، وهو فاعل اختلف، و: {من بعد ما جاءتهم} ، متعلق باختلف، وبغياً منصوب باختلف، هذا قول بعضهم، قال: ولا يمنع إلاَّ من ذلك، كما تقول: ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة. انتهى كلامه. وهذا فيه نظر، وذلك أن المعنى على الاستثناء، والمفرغ في الفاعل، وفي المجرور، وفي المفعول من أجله، إذ المعنى: وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم. فكل واحد من الثلاثة محصور. وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها، شيئان دون الأول من غير عطف، وهو لا يجوز، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلاَّ، فصارت كالملفوظ بها، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل، ولذلك تأولوا قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} (النحل: 43 44) على إضمار فعل التقدير: أرسلناهم بالبينات والزبر، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله: وما أرسلنا، لئلا يكون: إلاَّ، قد استثنى بها شيئان: أحدهما رجالاً، والآخر: بالبينات، من غير عطف. وقد منع أبو الحسن وأبو علي: ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً، وما: ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً. واختلفا في تصحيحها، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها، فيقول: ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً، فيكون: زيد، بدلاً من أحد، ويكون: إلاَّ، قد استثني بها شيء واحد، وهو الدرهم. ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف، ويصير المعنى: ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً. وتصحيحها عند أبي علي بأن يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول: ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهماً. و: ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع، والمنصوب بدلاً من المنصوب، هكذا خرجه بعضهم.

قال ابن السراح: أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد، فإن قلت: ما أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً دانقاً، على الاستثناء، لم يجز، أو على البدل جاز، فتبدل عمراً من الناس، ودانقاً من درهم، كأنك قلت: ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً. ويعني: أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين. قال بعض أصحابنا: ما قاله ابن السراح فيه ضعف، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ، فأشبه المعطوف بحرف، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان. انتهى كلامه. وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف، والصحيح أنه لا يجوز، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها، فهي: كواو مع وكالهمزة: التي جعلت للتعدية في بنية الفعل، فكما أنه لا تعدّى: واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف، فكذلك إلاَّ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق: من بعد ما جاءهم البينات، وينتصب: بغياً، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله، وتقديره: اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغياً بينهم. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} الذين آمنوا: هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم والضمير: فيما اختلفوا، عائد على الذين أوتوه، أي لما اختلف فيه من اختلف، ومن الحق تبيين المختلف فيه، و: من، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من: ما، فتكون للتبعيض، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك، التقدير: لما اختلفوا فيه الذي هو الحق. والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام، ويدل عليه قراءة عبد الله: لما اختلفوا فيه من الإسلام.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} و: أم، هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة فتتضمن إضراباً، وهو انتقال من كلام إلى كلام، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية: بأن أم قد تجيء ابتداء كلام، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة، ألف استفهام. فقوله: قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر، لأنها تتقدّر، ببل والهمزة، فكما أن: بل، لا بد أن يتقدّمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل، فكذلك ما تضمن معناه. وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الاستفهام، ويبتدأ بها، فهذا يقتضي أن يكون التقدير: أحسبتم؟ وقال الزجاج: بمعنى بل، قال: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها، أم أنت في العين أملح؟ ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة، فتقدير الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، فصبروا على استهزاء قومهم بهم، أفتسلكون سبيلهم؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟ فتلخص في أم هنا أربعة أقوال: الانقطاع على أنها بمعنى بل والهمزة، والاتصال: على إضمار جملة قبلها، والاستفهام بمعنى الهمزة، والإضراب بمعنى بل؛ والصحيح هو القول الأوّل. ومفعولا: حسبتم، سدّت أن مسدّهما على مذهب سيبويه، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأوّل، والمفعول الثاني محذوف، وقد تقدم هذا المعنى في قوله: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} (البقرة: 46) . {ِوَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} الجملة حال، التقدير: غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم. و: لما، أبلغ في النفي من: لم، لأنها تدل على نفي الفعل متصلاً بزمان الحال، فهي لنفي التوقع.

والمثل: الشبه، إلاَّ أنه مستعار لحال غريبة، أو قضية عجيبة لها شأن، وهو على حذف مضاف، التقدير: مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره: المؤمنين. والذين خلوا من قبلكم، متعلق بخلوا، وهو كأنه توكيد، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم. {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ} هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له، فليس لها موضع من الإعراب، وكأن قائلاً قال: ما ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء والضراء. والمسّ هنا معناه: الإصابة، وهو حقيقة في المسّ باليد، فهو هنا مجاز. وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم: مستهم، في موضع الحال على إضمار قد، وفيه بعد، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في: خلوا. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} وقرأ الجمهور: حتى، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية، وإما على التعليل، أي: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، أو: وزلزلوا كي يقول الرسول، والمعنى الأول أظهر، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين. وقرأ نافع برفع، يقول: بعد حتى، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالاً في حين الإخبار، نحو: مرض حتى لا يرجونه، وإما أن يكون حالاً قد مضت، فيحكيها على ما وقعت، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين، والمراد به هنا المضي، فيكون حالاً محكية، إذ المعنى: وزلزلوا فقال الرسول، وقد تكلمنا على مسائل: حتى، في كتاب «التكميل» وأشبعنا الكلام عليها هناك، وتقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب. {وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ} يحتمل معه أن يكون منصوباً بيقول، ويحتمل أن يكون منصوباً بآمنوا.

{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} والضمير المرفوع في: يسألونك، للمؤمنين، والكاف لخطاب النبي صلى الله عليه وسلّم و: ماذا، يحتمل هنا النصب والرفع، فالنصب على أن: ماذا، كلها استفهام، كأنه قال: أي شيء ينفقون؟ فماذا منصوب بينفقون، والرفع على أن: ما. وحدها هي الاستفهام، وذا موصولة بمعنى الذي، وينفقون صلة لذا، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي ينفقون به؟ فتكون: ما، مرفوعة بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبره، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق، فهو عامل في المعنى دون اللفظ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك، ونظيره ما تقدم من قوله: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} (البقرة: 211) على ما شرحناه هناك. و: ماذا، سؤال عن المنفق، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفاً تقديره: ولمن يعطونه؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق. قول الشاعر: ألا تسألان المرء ماذا يحاول إلاَّ أن: ماذا، هنا مبتدأ، وخبر، ولا يجوز أن يكون مفعولاً بيحاول، لأن بعده: أنحبُ فيُقضى، أم ضلال وباطل ويضعف أن يكون: ماذا كله مبتدأ، و: يحاول، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة، فإن حذفه منها فصيح، وذكر ابن عطية: أن: ماذا، إذا كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب، إلاَّ ما جاء من قول الشاعر: وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق فإن عسى لا تعمل في: ماذا، في موضع رفع، وهو مركب إذ لا صلة لذا. انتهى. وإنما لم يكن: لذا، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسماً مركبة فهي في موضع نصب، إلاَّ، في ذلك البيت لا نعرفه، بل يجوز أن نقول: ماذا محبوب لك؟ و: من ذا قائم؟ على تقدير التركيب، فكأنك قلت: ما محبوب؟ ومن قائم؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه؟ على تقديره: من تضربه؟ وجعل: من، مبتدأ.

{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} ما: في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها، ويجوز أن تكون: ما، من قوله: {قل ما أنفقتم} موصولاً، وأنفقتم، صلة، و: للوالدين، خبر، فالجار والمجرور في موضع المفرد، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبراً، أو هو معمول لمفرد، أو لجملة. وإذا كانت: ما، في: ما أنفقتم، شرطية، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو أو فمصرفه للوالدين. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وقرأ الجمهور: كتب، مبنياً للمفعول على النمط الذي تقدّم قبل هذا من لفظ: كتب، وقرأ قوم: كتب مبنياً للفاعل، وينصب القتال، والفاعل ضمير في كتب يعود على اسم الله تعالى. {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} والظاهر عود: هو، على القتال، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من: كتب، أي: وكتبه وفرضه شاق عليكم، والجملة حال، أي: وهو مكروه لكم بالطبيعة، أو مكروه قبل ورود الأمر. {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . عسى هنا للإشفاق لا للترجي، ومجيئها للإشفاق قليل، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا} (محمد: 22) فقوله: أن تكرهوا، في موضع رفع بعسى، وزعم الحوفي في أنه في موضع نصب، ولا يمكن إلاَّ بتكلف بعيد، واندرج في قوله: شيئاً القتال، لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر والقتل، وإفناء الأبدان، وإتلاف الأموال. والخير الذي فيه هو الظفر. والغنيمة بالاستيلاء على النفوس، والأموال أسراً وقتلاً ونهباً وفتحاً، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله مراراً.

والجملة من قوله: وهو خير لكم، حال من قوله: شيئاً، وهو نكرة، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة، وجوّزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة، قالوا: وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها، إذ كانت حالاً. انتهى. وهو ضعيف، لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو: مررت برجل عالم وكريم، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه، ودعوى زيادة الواو بعيدة، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة. {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} عسى هنا للترجي، ومجيئها له هو الكثير في لسان العرب، وقالوا: كل عسى في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع إلاَّ قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً} (التحريم: 5) . {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} وضمير الفاعل في يسألونك، قيل: يعود على المشركين، سألوا تعييباً لهتك حرمة الشهداء، وقصداً للفتك، وقيل: يعود على المؤمنين، سألوا استعظاماً لما صدر من ابن جحش واستيضاحاً للحكم. وقرأ الجمهور: قتال فيه، بالكسر وهو بدل من الشهر، بدل اشتمال. وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: مخفوض بعن مضمرة، ولا يجعل هذا خلافاً كما يجعله بعضهم، لأن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي، والفراء. لا فرق بين هذه الأقوال، هي كلها ترجع لمعنى واحد.

وقال أبو عبيدة: قتال فيه، خفض على الجوار، قال ابن عطية: هذا خطأ. إنتهى. فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة، فهو كما قال ابن عطية: وجه الخطاً فيه هو أن يكون تابعاً لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعاً من حيث المعنى، وهنا لم يتقدّم لا مرفوع، ولا منصوب، فيكون: قتال، تابعاً له، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض، فخفضه بكونه جاور مخفوضاً أي: صار تابعاً له، ولا نعني به المصطلح عليه، جاز ذلك ولم يكن خطأ، وكان موافقاً لقول الجمهور، إلاَّ أنه أغمض في العبارة، وألبس في المصطلح. وقرأ ابن عباس، والربيع، والأعمش: عن قتال فيه، بإظهار: عن، وهكذا هو في مصحف عبد الله. وقرىء شاذاً: قتال فيه، بالرفع، وقرأ عكرمة: قتل فيه قل قتل فيه، بغير ألف فيهما. ووجه الرفع في قراءة: قتال فيه، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ، وسوغ جواز الإبتداء فيه، وهو نكرة، لنية همزة الاستفهام، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من: الشهر الحرام، لأن: سأل، قد أخذ مفعوليه، فلا يكون في موضع المفعول، وإن كانت هي محط السؤال، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره: أجائز قتال فيه؟ قيل: ونظير هذا، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام، إنما سألوا: أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.

{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هذه الجملة مبتدأ وخبر، و: قتال، نكرة، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور، وهكذا قالوا، ويجوز أن يكون: فيه، معمولاً لقتال، فلا يكون في موضع الصفة، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضاً لجواز الابتداء بالنكرة، وحدّ الاسم إذا تقدّم نكرة، وكان إياها، أن يعود معرفاً بالألف واللام، تقول: لقيت رجلاً فضربت الرجل، كما قال تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) قيل: وإنما لم يعد بالألف واللام هنا لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسؤول عنه. حتى يعاد بالألف واللام، بل المراد تعظيم: أي قتال كان في الشهر الحرام، فعلى هذا: قتال الثاني، غير الأوّل انتهى. وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم، إذ كانت النكرة السابقة، بل هي فيه للعهد السابق، وقيل: في «المنتخب» : إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى. {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} هذه جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى: {فيه كبير} ، وكلا الجملتين مقولة، أي: قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير، وقل لهم: صدّ عن كذا إلى آخره، أكبر من القتال، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من القول، بل إخبار مجرد عن أن الصدّ عن سبيل الله، وكذا وكذا، أكبر. وتقدّم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ: صدّ، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور، فساغ الابتداء، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما، أي: وصدّكم المسلمين عن سبيل الله. و: {كفر به} ، معطوف على: وصدّ، وهو أيضاً مصدر لازم حذف فاعله، تقديره: وكفركم به، والضمير في: به، يعود على السبيل لأنه هو المحدّث عنه بأنه صدّ عنه.

وقرىء شاذاً {والمسجدُ الحرام} بالرفع، ووجهه أنه عطفه على قوله: {وكفر به} ، ويكون على حذف مضاف، أي: وكفر بالمسجد الحرام، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها، فنقول: اختلفوا فيما عطف عليه {والمسجد} ، فقال ابن عطية، والزمخشري، وتبعا في ذلك المبرد: هو معطوف على: سبيل الله، قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفاً على: سبيل الله، كان متعلقاً بقوله: وصدّ إذ التقدير: وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فهو من تمام عمل المصدر، وقد فصل بينهما بقوله: وكفر به، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول، وقيل: معطوف على الشهر الحرام، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام، إذ لم يشكوا في تعظيمه، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك، انتهى. ويحتمل أن يكون: وصد، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر: قتال، عليه، التقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به كبير، كما تقول: زيد قائم وعمرو، أي: وعمرو قائم، وأجيبوا بأن: القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه، وكونه معطوفاً على الشهر الحرام متكلف جداً، ويبعد عنه نظم القرآن، والتركيب الفصيح، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر، تقديره: ويصدون عن المسجد الحرام، كما قال تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} (الفتح: 25) قال بعضهم: وهذا هو الجيد، يعنى من التخاريج التي يخرج عليه، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر، وهو لا يجوز في مثل هذا إلاَّ في الضرورة، نحو قوله: أشارت كليب بالأكف الأصابع

أي: إلى كليب، وقيل: هو معطوف على الضمير في قوله: وكفر به، أي: وبالمسجد الحرام، قاله الفراء، ورد بأن هذا لا يجوز إلاَّ بإعادة الجار، وذلك على مذهب البصريين. والذي نختاره أنه يجوز ذلك في الكلام مطلقاً، لأن السماع يعضده، والقياس يقويه. أما السماع فما روي من قول العرب: ما فيها غيره وفرسه، بجر الفرس عطفاً على الضمير في غيره، والتقدير: ما فيها غيره وغير فرسه، والقراءة الثانية في السبعة: {تساءلون به والأرحام} (النساء: 1) أي: وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير، مما يخرج الكلام عن الفصاحة، فلا يلتفت إلى التأويل. قرأها كذلك ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وأبي رزين، وحمزة. ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة، فمنه قول الشاعر: نعلق في مثل السواري سيوفنا فما بينها والأرض غوط نفانف وقال آخر: هلا سألت بذي الجماجم عنهم وأبي نعيم ذي اللواء المحرق وقال آخر: بنا أبداً لا غيرنا يدرك المنى وتكشف غماء الخطوب الفوادح وقال آخر: إذا أوقدوا ناراً لحرب عدوهم فقد خاب من يصلى بها وسعيرها وقال آخر: لو كان لي وزهير ثالث وردت من الحمام عدانا شر مورود وقال رجل من طيّئ: إذا بنا، بل أنيسان، اتّقت فئة ظلت مؤمنة ممن تعاديها وقال العباس بن مرادس: أكر على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها وأنشد سيبويه رحمه الله: فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب وقال آخر: أبك آية بي أو مصدّر

من حمر الجلة جأب جسور فأنت ترى هذا السماع وكثرته، وتصرّف العرب في حرف العطف، فتارة عطفت بالواو، وتارة بأو، وتارة ببل، وتارة بأم، وتارة بلا، وكل هذا التصرف يدل على الجواز، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله تعالى: {وعليها وعلى الفلك تحملون} (المؤمنون: 12) فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً} (فصلت: 11) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب} (الأنعام: 164) وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله: ومن لستم له برازقين} (الحجر: 20) عطفاً على قوله: لكم فيها معايش} (الأعراف: 10) (الحجر: 20) أي: ولمن. وقوله: وما يتلى عليكم} عطفاً على الضمير في قوله: فيهنّ، أي: وفيما يتلى عليكم. وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة من غير إعادة جار، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلاَّ مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه، وإذا تقرّر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها، كأن يخرج عطف: والمسجد الحرام، على الضمير في: به، أرجح، بل هو متعين، لأن وصف الكلام، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك.

{وإخراج أهله} ، معطوف على المصدر قبله، وهو مصدر مضاف للمفعول، التقدير: وإخراجكم أهله، والضمير في: أهله، عائد على: المسجد الحرام، وجعل، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة، ولم يجعل المقيمين من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول، كما قال تعالى: {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاَّ المتقون} (الأنفال: 34) و: منه، متعلق بإخراج، والضمير في: منه، عائد على المسجد الحرام، وقيل: عائد على: سبيل الله، وهو الإسلام، والأول أظهر. و: أكبر، خبر عن المبتدأ الذي هو: وصد، وما عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبراً عن المجموع، ويحتمل أن يكون خبراً عنها باعتبار كل واحد واحد، كما تقول: زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وهذا الظاهر لا المجموع، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل: بمن، الداخلة على المفضول في التقدير، وتقديره: أكبر من القتال في الشهر الحرام، فحذف للعلم به. وقيل: وصد مبتدأ. و: كفر، معطوف عليه، وخبرهما محذوف لدلالة خبر: وإخراج، عليه. والتقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر، ولا يجتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون: أكبر، خبراً عن الثلاثة. و {عند الله} ، منصوب بأكبر، ولا يراد: بعند، المكان بل ذلك مجاز. وذكر ابن عطية، والسجاوندي عن الفراء أنه قال: وصد عطف على كبير، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: وكفر به، عطف أيضاً على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بيِّن فساده. انتهى كلام ابن عطية، وليس كما ذكر، ولا يتعين ما قاله من أن: وكفر به، عطف على كبير، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله: وصد عن سبيل الله، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين. أحدهما: أنه كبير، والثاني: أنه صد عن سبيل الله.

{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} الضمير في: يزالون، للكفار، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله: يسألونك، هو الكفار، والضمير المنصوب في: يقاتلونكم، خوطب به المؤمنون. و: {حتى يردوكم} ، يحتمل الغاية، ويحتمل التعليل، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين: بيقاتلونكم، وقال ابن عطية: ويردوكم، نصب بحتى لأنها غاية مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى. وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين، وهو: المقاتلة، ذكر لها علة توجيهاً، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل، وذلك بخلاف الغاية، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه، فزمان وجوده مقيد بغايته، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية. و: {عن دينكم} ، متعلق: بيردوكم، والدين هنا الإسلام، و: إن استطاعوا، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله، التقدير: إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم، ومن جوّز تقديم جواب الشرط، قال: ولا يزالون، هو الجواب. وقال الزمخشري: إن استطاعوا، استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبقِ عليّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. انتهى قوله: ولا بأس به. {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ} ارتد: افتعل من الرد، وهو الرجوع، كما قال تعالى: {فارتدا على آثارهما قصصاً} (الكهف: 64) وقد عدّها بعضهم فيما يتعدّى إلى اثنين، إذا كانت عنده، بمعنى: صير وجعل، من ذلك قوله: فارتد بصيراً} (يوسف: 96) أي: صار بصيراً.k

و: منكم، في موضع الحال من الضمير المستكن في: يرتدد، العائد على: من، و: من، للتبعيض، و: عن دينه، متعلق بيرتدد. والجملة من قوله: وهو كافر، في موضع الحال من الضمير المستكن في: فيمت، وكأنها حال مؤكدة، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد. وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد، إذ تكرر الضمير فيها مرتين، بخلاف المفرد، فإنه فيه ضمير واحد. {وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} تقدّم تفسير هذه الجملة، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتداء إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية، ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله: {فأولئك حبطت أعمالهم} فتكون داخلة في الجزاء، لأن المعطوف على الجزاء جزاء، وهذا الوجه أولى، لأن القرب مرجح، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال. {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد. وأتى خبر: أن، جملة مصدرية.

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَمَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأًّنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . أنى: اسم ويستعمل شرطاً ظرف مكان، ويأتي ظرف زمان بمعنى: متى واستفهاماً بمعنى: كيف، وهي مبنية لتضمن معنى حرف الشرط، وحرف الاستفهام، وهو في موضع نصب لا يتصرف فيه بغير ذلك البتة.

{وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وقرأ الجمهور: العفو، بالنصب وهو منصوب بفعل مضمر تقديره: قل ينفقون العفو، وعلى هذا الأولى في قوله: ماذا ينفقون؟ أن يكون ماذا في موضع نصب ينفقون، ويكون كلها استفهامية، التقدير: أي شيء ينفقون؟ فاجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهي خبره، ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقاً للسؤال من حيث اللفظ، بل من حيث المعنى، ويكون العائد على الموصول محذوفاً لوجود شرط الحذف فيه، تقديره: ما الذي ينفقونه؟. وقرأ أبو عمرو: قل العفو، بالرفع، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: قل المنفق العفو، وأن يكون: ما، في موضع رفع بالابتداء، و: ذا، موصول، كما قررناه ليطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاماً منصوباً بينفقون، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ، واختلف عن ابن كثير في العفو، فروي عنه النصب كالجمهور، والرفع كأبي عمرو. وقال ابن عطية، وقد ذكر القراءتين في العفو ما نصّه: وهذا متركب على: ما، فمن جعل ما ابتداء، وذا خبره بمعنى الذي، وقدّر الضمير في ينفقونه عائداً قرأ العفو بالرفع لتصح مناسبة الحمل، ورفعه على الابتداء تقديره: العفو إنفاقكم، أو الذي ينفقون العفو، ومن جعل ماذا إسماً واحداً مفعولاً: ينفقون، قرأ العفو بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع العفو مع نصب: ما، جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها. انتهى كلامه. وتقديره: العفو إنفاقكم، ليس بجيد، لأنه أتى بالمصدر، وليس السؤال عن المصدر، وقوله: جائز، ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر، بل هو جائز، وليس بضعيف.

{كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَمَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ} الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه، أي: تبييناً مثل ذلك يبين، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه، أي: يبين التبيين مماثلاً لذلك التبيين، واسم الاشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق، قاله ابن الأنباري، وقال الزمخشري: ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة. أو حكم الخمر والميسر، والإنفاق القريب أي: مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل. وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلّم أو للسامع أو للقبيل، فلذلك أفرد أو للجماعة المؤمنين فيكون بمعنى: كذلكم، وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد، وذلك في إسم الإشارة، ويؤيد هذا هنا قوله: {يبين لكم} فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع. {لكم} متعلق: بيبين، واللام فيها للتبليغ، كقولك: قلت لك، ويبعد فيها التعليل. {فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ} وجوّزوا أن يكون، في الدنيا، متعلقاً بقوله: يبين لكم الآيات، لا: بتتفكرون، ويتعلق بلفظ: يبين، أي: يبين الله في الدنيا والآخرة. وروي هذا عن الحسن. ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا، فيكون التقدير في أمر الدنيا والآخرة، وإن كان يقع فيهما، فلا يحتاج إلى تأويل، لأن الآيات، وهي: العلامات يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة.

وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير، إذ تقديره عنده: كذلك يبيّن الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلّكم تتفكرون. وقال: ويمكن الحمل على ظاهر الكلام لتعلق: في الدنيا والآخرة، بتتفكرون، ففرض التقديم والتأخير، على ما قاله الحسن، يكون عدولاً عن الظاهر لا الدليل، وإنه لا يجوز، وليس هذا من باب التقديم والتأخير، لأن: لعل، هنا جارية مجرى التعليل، فهي كالمتعلقة: بيبين، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب: يبين، وتقدّم أحد المطلوبين، وتأخر الآخر، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير. ويحتمل أن تكون: لعلكم تتفكرون، جملة اعتراضية، فلا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لأن شرط جملة الإعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين. قال ابن عطية، وقال مكي: معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة، يدل عليهما وعلى منزلتهما، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات. قال ابن عطية: فقوله: في الدنيا، متعلق على هذا التأويل: بالآيات، انتهى كلامه. وشرح مكي الآية بأن جعل الآيات منكرة، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات، والمعنى عنده: آيات كائنة في الدنيا والآخرة، وهو شرح معنى لا شرح إعراب، وما ذكره ابن عطية من أنه متعلق على هذا التأويل بالآيات؛ إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد، لأن الآيات لا يتعلق بها جار ومجرور، ولا تعمل في شيء البتة، وإن عنى أنه يكون الظرف من تمام الآيات، وذلك لا يتأتى إلاَّ باعتقاد أن تكون في موضع الحال، أي: كائنة في الدنيا والآخرة، ولذلك فسره مكي بما يقتضي أن تكون صفة، إذ قدّر الآيات منكرة، والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين، فعلى هذا تكون: في الدنيا، متعلقاً بمحذوف لا بالآيات، وعلى رأي الكوفيين، تكون الآيات موصولاً وصل بالظرف؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا.

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَمَى} : والظاهر أن السائل جمع الإثنين بواو الجمع وهي للجمع به وقيل به. {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} وإصلاح: مبتدأ وهو نكرة، ومسوغ جواز الإبتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو: لهم، فإما أن يكون على سبيل الوصف، أو على سبيل المعمول للمصدر، و: خير، خبر عن إصلاح، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله، فيكون: خير، شاملاً للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول، فتكون الخيرية للجانبين معاً، أي إن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح والمصلح، فيتناول حال اليتيم، والكفيل، وقيل: خير للولي، والمعنى: إصلاحه من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجراً، وقيل: خير، عائد لليتيم، أي: إصلاح الولي لليتيم، ومخالطته له، خير لليتيم من إعراض الولي عنه، وتفرده عنه، ولفظ: خير، مطلق فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح، والحمل على الإطلاق أحسن. {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ} وجواب الشرط فإخوانكم، وهو خبر مبتدأ محذوف أي: فهم إخوانكم، وقرأ أبو مجلز: فإخوانكم على إضمار فعل التقدير: فتخالطون إخوانكم، وجاء جواب السؤال بجملتين: إحداهما: منعقدة من مبتدأ وخبر؛ والثانية: من شرط وجزاء. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ومن، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدّى بمن، كأن المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح. وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد، أي: المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب.

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} ومفعول: شاء، محذوف لدلالة الجواب عليه، التقدير: ولو شاء الله إعناتكم، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه، وقرأ الجمهور لأعنتكم بتخفيف الهمزة، وهو الأصل، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة «بتليين الهمزة» وقرىء بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام كقراءة من قرأ: فلا ثم عليه، بطرح الهمزة. {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} وأمة: مبتدأ، ومسوّغ جواز الابتداء الوصف، و: خير، خبر. وقد استدل بقوله: خير، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك، ويكون النهي أوّلاً على سبيل الكراهة، قالوا: والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين، ولا حجة في ذلك، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد. لا على سبيل الوجود، ومنه: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} (الفرقان: 24) و: العسل أحلى من الخل؛ وقال عمر، في رسالته لأبي موسى: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد اشترك النفعان في مطلق النفع أصلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع، ولا يقتضي ذلك الإباحة، وما من شيء محرم إلاَّ يكاد يكون فيه نفع مّا. وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب سيبويه والبصريين في أن لفظة: أفعل، التي للتفضيل، لا تصح حيث لا اشتراك، كقولك: الثلج أبرد من النار، والنور أضوء من الظلمة؛ وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: يصح حيث الاشتراك، وحيث لا يكون اشتراك؛ وقال ابراهيم بن عرفة: لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجاباً باللأوّل، ونفياً عن الثاني، فعلى قول هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في الأمة المؤمنة.

{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} لو: هذه بمعنى إن الشرطية، نحو: «ردّوا السائل ولو بظلف شاة محرق» . والواو في: ولو، للعطف على حال محذوفة، التقدير: خير من مشركة على كل حال، ولو في هذه الحال، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال، وأن ما بعد لو هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه مّا، فالإعجاب منافٍ لحكم الخيرية. {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ} القراءة بضم التاء إجماع من القراء، والخطاب للأولياء، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ولا تنكحوا المشركين المؤمنات. {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} و: إلى، متعلق بيدعون كقوله: {والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) ويتعدى أيضاً باللام، كقوله: دعوت لما نابني مسوراً ومفعول يدعون محذوف: إما اقتصاراً إذ المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى النار من غير ملاحظة مفعول خاص، وإما اختصاراً، فالمعنى: أولئك يدعونكم إلى النار. {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} وقرأ الجمهور: والمغفرة، بالخفض عطفاً على الجنة. وقرأ الحسن: والمغفرة، بالرفع على الابتداء، والخبر: قوله: {بإذنه} أي: والمغفرة حاصلة بتيسيره وتسويفه، وتقدم الإذن، وعلى قراآت الجمهور يكون بإذنه متعلقاً بقوله: يدعو. و: للناس، متعلق: بيبين، و: اللام، معناها الوصول والتبليغ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة. {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} والضمير في: ويسألونك، ضمير جمع، فالظاهر أن السائل عن ذلك هو ما يصدق عليه الجمع، لا اثنان ولا واحد، وجاء: ويسألونك، هنا وقبله في {ويسألونك عن اليتامى} وقبله {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} بالواو العاطفة على {يسألونك عن الخمر والميسر} قيل: لأن السؤال عن الثلاثة في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا وكذا.

وقيل هذه سؤالات ثلاثة بغير واو {يسألونك عن الأهلة} (البقرة: 189) يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم} (البقرة: 215) يسألونك عن الشهر الحرام} (البقرة: 217) وثلاثة: يسألونك عن الخمر} قيل إنها جاءت بغير واو العطف لأن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أوقات متباينة متفرّقة، فلم يؤت فيها بحرف العطف، لأن كلاًّ منها سؤال مبتدأ. انتهى. والخطاب في: ويسألونك، وفي: قل للنبي صلى الله عليه وسلّم والضمير في: هو، عائد على المحيض. {من حيث أمركم الله} حيث: ظرف مكان. {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ونساؤكم: مبتدأ، وحرث لكم: خبر، إما على حذف أداة التشبيه، أي: كحرث لكم ويكون نساؤكم على حذف مضاف، أي: وطء نسائكم كالحرث لكم، شبه الجماع بالحرث، إذ النطفة كالبذر، والرحم كالأرض، والولد كالنبات، وقيل: هو على حذف مضاف أي: موضع حرث لكم، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن، قالوا: وهو مثل قوله تعالى: {يأكل الطعام} (الفرقان: 7) ومثل قوله: وأرضاً لم تطؤوها} (الأحزاب: 27) على قول من فسره بالنساء، ويحتمل أن يكون: حرث لكم، بمعنى: محروثه لكم، فيكون من باب إطلاق المصدر، ويراد به اسم المفعول. {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وأنى بمعنى متى؟ قاله الضحاك، فيكون إذ ذاك ظرف زمان. وقد فسر الناس أنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبويه بكيف، ومن أين باجتماعهما؟ وقال النحويون: أنَّى، لتعميم الأحوال، وقد تأتي: أنى، بمعنى: متى، وبمعنى: أين، وتكون استفهاماً وشرطاً، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط.

قالوا والعامل في أنَّى فأتوا، وهذا الذي قالوه لا يصح، لأنا قد ذكرنا أنها تكون استفهاماً أو شرطاً، لا جائز أن تكون هنا شرطاً، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان، فيكون ذلك مبيحاً لإتيان النساء في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله، لأنه معمول لفعل الشرط، كما أن فعل الشرط معمول له، ولا جائز أن يكون استفهاماً، لأنها إذا كانت استفهاماً اكتفت بما بعدها من فعل كقوله {أنَّى يكون لي ولد} (آل عمران: 47) ومن اسم كقوله: أنَّى لك هذا} (آل عمران: 37) ولا يفتقر إلى غير ذلك، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها. وعلى تقدير أن يكون استفهاماً لا يعمل فيها ما قبلها، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها، فتبين على وجهي: أنَّى، أنها لا تكون معمولة لما قبلها، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر. والذي يظهر، والله أعلم، أنها تكون شرطاً لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، وتكون قد جعلت فيها الأحوال. كجعل الظروف المكانية، وأجريت مجراها تشبيهاً للحال بالظرف المكاني، وقد جاء نظير ذلك في لفظ: كيف، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم: كيف تكون أكون، وقال تعالى: {بل يداه مبسوطتاه ينفق كيف يشاء} (المائدة: 64) فلا يجوز أن تكون هنا استفهاماً، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف، ويدل عليه ما قبله، تقديره: أنى شئتم فأتوه، وكيف يشاء ينفق، كما حذف جواب الشرط في قولك: أضرب زيداً أنى لقتيه، التقدير أنى لقيته فاضربه. فإن قلت: قد أخرجت: أنَّى، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل: كيف، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط، فهل الفعل الماضي الذي هو: شئتم، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفاً؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد: كيف، في قولهم: كيف تصنع أصنع؟.

فالجواب أنه يحتمل الأمرين، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفاً صريحاً، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف، وبينهما علاقة واضحة، إذ كل منهما على معنى: في، بخلاف: كيف، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها، فإنما قاله بالقياس، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها، حيث يقتضي جملة أخرى. {وَقَدِّمُواْ لأًّنفُسِكُمْ} مفعول قدّموا محذوف، فقيل: التقدير ذكر الله عند القربان، أو: طلب الولد والإفراط شفعاء، قاله ابن عباس، أو: الخير، قاله السدي، أو: قدم صدق، قاله ابن كيسان، أو: الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به، قاله ابن عطية، أو: ذكر الله على الجماع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره» . أو التسمية على الوطء، حكاه الزمخشري. أو: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وهو خلاف ما نهيتكم عنه، قاله الزمخشري، وهو قول مركب من قول: من قبله. والذي يظهر أن المعنى: وقدّموا لأنفسكم طاعة الله، وامتثاله ما أمر، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدّم أمر ونهي، وهو الخير الذي ذكره في قوله: {وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} ولذلك جاء بعده {واتقوا الله} أي: اتقو الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وهو تحذير لهم من المخالفة، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده، وهو العمل الصالح.

{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَقُوهُ} الظاهر أن الضمير المجرور في: ملاقوه، عائد على الله تعالى، وتكون على حذف مضاف، أي: ملاقو جزائه على أفعالكم، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله: وقدّموا، أي: واعلموا أنكم ملاقو ما قدّمتم من الخير والطاعة، وهو على حذف مضاف أيضاً، أي: ملاقوا جزائه، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدّموا، أو على الجزاء.

{وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأًّيْمَنِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ * الطَّلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ} وتستعمل: اليمين، للجهة التي تكون للعضو المسمى باليمين، فتنصب على الظرف، تقول: زيد يمين عمرو. {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأًّيْمَنِكُمْ} {لأيمانكم} تحتمل اللام أن تكون متعلقة، بعرضة، فتكون كالمقوية للتعدي، أو معداً ومرصداً لأيمانكم، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله: {ولا تجعلوا فتكون للتعليل، أي: لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم.

{أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} قال الزجاج، وتبعه التبريزي: أن تبروا، في موضع رفع بالابتداء، وقدر التبريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف، لأن فيه اقتطاع: أن تبروا، مما قبله، والظلم هو اتصاله به، ولأن فيه حذفاً لا دليل عليه وقال الزمخشري: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، عطف بيان لأيمانكم، أي للأمور المحلوف عليها التي هي: البر والتقوى والإصلاح بين الناس. إنتهى كلامه وهو ضعيف، لأن فيه مخالفة للظاهر، لأن الظاهر من الأيمان هي الأقسام، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها، فهما متباينان، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان، لكنه لما تأول الأيمان على أنها المحلوف عليها، ساغ له ذلك، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان بالأشياء المحلوف عليها، وعلى مذهبه تكون: أن تبروا، في موضع جر، ولو ادعى أن يكون: أن تبروا، وما بعده بدلاً من: أيمانكم، لكان أولى، لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام. وذهب الجمهور إلى أن قوله: أن تبروا، مفعول من أجله، ثم اختلفوا في التقدير، فقيل: كراهة أن تبروا، قاله المهدوي، أو لترك أن تبروا، قاله المبرد، وقيل: لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا، قال أبو عبيدة، والطبري كقوله: فخالف فلا والله تهبط تلعة أي: لا تهبط، وقيل: إرادة أن تبروا، والتقادير الأول متلاقية حيث المعنى.

وقال الزمخشري: ويتعلق: أن تبروا، بالفعل و: بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. إنتهى. ولا يصح هذا التقدير، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي، لأنه علق: لأيمانكم، بتجعلوا، وعلق: لأن تبروا بعرضة، فقد فصل بين: عرضة، وبين: لأن تبروا بقوله: لأيمانكم، وهو أجنبي منهما، لأنه معمول عنده لتجعلوا، وذلك لا يجوز، ونظير ما أجازه أن تقول: أمرر وأضرب بزيد هنداً، فهذا لا يجوز، ونصوا على أنه لا يجوز: جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق، لما فيه من الفصل بالأجنبي. والذي يظهر لي أن تبروا، في موضع نصب على إسقاط الخافض، والعمل فيه قوله: لأيمانكم، التقدير: لأقسامكم على أن تبروا، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى، وجعله معرضاً لأقسامهم على البر والتقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة، لما نخاف في ذلك من الحنث، فكيف إذا كانت أقساماً على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به، فصار في موضع: أن تبروا، ثلاثة أقوال: الرفع على الابتداء، والخلاف في تقدير الجر، والجر على وجهين: عطف البيان، والبدل والنصب على وجهين: إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره، وإما على أن يكون معمولاً: لأيمانكم، على إسقاط الخافض. {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ} باللغو: متعلق: بيؤاخذكم، والباء سببية، مثلها في {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} (النحل: 61) فكلا أخذنا بذنبه} (العنكبوت: 40) : وفي أيمانكم، متعلق بالفعل، أو بالمصدر، أو بمحذوف، أي: كائناً في أيمانكم، فيكون حالاً، ويقربه أنك لو جعلته في صلة: الذي، ووصفت به اللغو لاستقام.

وفي قوله: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} محذوف تقديره: ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه، و: ما، في قوله: بما، موصولة، والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون مصدرية، ويحسنه مقابلته بالمصدر، وهو قوله: باللغو، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة. {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} و: من، يتعلق بقوله: يؤلون، وآلى لا يتعدّى بمن، فقيل: من، بمعنى: على، وقيل: بمعنى في، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي: على ترك وطء نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم. وقيل: من، زائدة والتقدير: يؤلون أن يعتزلوا نسائهم. وقيل: يتعلق بمحذوف، والتقدير: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف، قاله الزمخشري، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه، وإنما يتعلق بيؤلون على أحد وجهين: إما أن يكون: من، للسبب أي: يحلفون بسبب نسائهم، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع، فيعدى بمن، فكأنه قيل: للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم، و: من نسائهم، عام في الزوجات من حرة وأمّة وكتابية ومدخول بها وغيرها. {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل، لكنه اتسع فيه فصير مفعولاً به، ولذلك صحت الإضافة إليه، وكان الأصل: تربصهم أربعة أشهر، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع، فتكون الإضافة على تقدير: في، خلافاً لمن ذهب إلى ذلك. {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَقَ} وانتصاب الطلاق: إما على إسقاط حرف الجر، وهو على، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال: عزمت على إقامة ذي صباح وأما إن تضمن: عزم، معنى: نوى، فيتعدى إلى مفعول به. فليوقعوه، أي: الطلاق، ويظهر أن جواب الشرط محذوف، تقديره:

{وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} {والمطلقات} مبتدأ و {يتربصنّ} خبر عن المبتدأ، وصورته صورة الخبر، وهو أمر من حيث المعنى، وقيل: هو أمر لفظاً ومعنىً على إضمار اللام أي: ليتربصن، وهذا على رأي الكوفيين، وقيل: والمطلقات على حذف مضاف، أي: وحكم المطلقات ويتربصن على حذف: أن، حتى يصح خبراً عن ذلك المضاف المحذوف، التقدير: وحكم المطلقات أن يتربصن، وهذا بعيد جداً. وقال الزمخشري، بعد أن قال: هو خبر في معنى الأمر، قال: فإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد الأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه، موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمه الله، أخرج في صورة الخبر عن الله ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاد فضل تأكيد، ولو قيل: ويتربصن المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. انتهى. وهو كلام حسن، وإنما كانت الجملة الابتدائية فيها زيادة توكيد على جملة الفعل والفاعل لتكرار الاسم فيها مرتين: إحداهما بظهوره، والأخرى بإضماره، وجملة الفعل والفاعل يذكر فيها الإسم مرة واحدة.

و: بأنفسهن، متعلق: بتربص، وظاهر الباء مع تربص أنها للسبب، أي: من أجل أنفسهن، ولا بد أن ذلك من ذكر الأنفس، لأنه لو قيل في الكلام: يتربص بهن لم يجز، لأنه فيه تعدية الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل إلى الضمير المجرور، نحو: هند تمر بها، وهو غير جائز، ويجوز هنا أن يكون زائدة للتوكيد، والمعنى: يتربصن أنفسهن، كما تقول: جاء زيد بنفسه، وجاء زيد بعينه، أي: نفسه وعينه، لا يقال: إن التوكيد هنا لا يجوز، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل، وهو النون التي هي ضمير الإناث في: تربصن، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل، وكان يكون التركيب: يتربصن هن بأنفسهن، لأن هذا التوكيد، لما جرّ بالباء، خرج عن التبعية، وفقدت فيه العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل، حتى يؤكد بمنفصل، إذا أريد التوكيد للنفس والعين، ونظير جواز هذا: أحسن بزيد وأجمل، التقدير: وأجمل به، فحذف وإن كان فاعلاً، هذا مذهب البصريين، ولأنه لما جرّ بالباء خرج في الصورة عن الفاعل، وصار كالفضلة، فجاز حذفه: هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل جواز: قاموا أنفسهم، من غير توكيد، وفائدة التأكيد هنا: أنهنّ يباشرن التربص، وزوال احتمال أن غيرهنّ تباشر ذلك بهنّ، بل هنّ أنفسهنّ هنّ المأمورات بالتربص، إذ ذاك أدعى لوقوع الفعل منهنّ، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهنّ من الطموح إلى الرجال والتزويج، فمتى أكد الكلام دل على شدة المطلوبة. وانتصاب: ثلاثة، على أنه ظرف، إذ قدرنا: تربص، قد أخذ مفعوله، والمعنى: مدة ثلاثة قروء، وقيل: انتصابه على أنه مفعول، أي: ينتظرن معنى ثلاثة قروء، وكلا الإعرابين منقول.

{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ} و: لهنّ، متعلق: بيحل، واللام للتبليغ، و: ما، في: ما خلق، الأظهر أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة، والعائد محذوف أيضاً التقدير: خلقه. و: في أرحامهنّ، متعلق، بخلقه، وجوّز أن تكون في أرحامهنّ حالاً من المحذوف، قيل: وهي حال مقدرة، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه. وقرأ مبشر بن عبيد: في أرحامهنّ وبردّهنّ، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل، وإنما كسرت لكسرة ما قبلها. {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} . هذا شرط جوابه محذوف على الأصح من المذاهب، حذف لدلالة ما قبله عليه، ويقدر هنا من لفظه، أي: إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر، فلا يحل لهنّ ذلك والمعنى: أن من اتصف بالإيمان لا يقدم على ارتكاب ما لا يحل له، وعلق ذلك على بهذا الشرط، وإن كان الإيمان حاصلاً لهنّ إيعاداً وتعظيماً للكتم، وهذا كقولهم: إن كنت مؤمناً فلا تظلم، وإن كنت حراً فانتصر. يجعل ما كان موجوداً كالمعدوم، ويعلق عليه، وإن كان موجوداً في نفس الأمر. والمعنى: إن كنّ مؤمنات فلا يحل لهنّ الكتم، وأنت مؤمن فلا تظلم، وأنت حر فانتصر، وقيل: في الكلام محذوف: أي، إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر حق الإيمان. وقيل: إن، بمعنى: إذ، وهو ضعيف. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وقرأ أبي: بردتهِنَّ بالتاء بعد الدال، وتتعلق: الباء، وفي، بقوله: أحق، وقيل: تتعلق: في، بردهنّ؛ وأشار بقوله: في ذلك، إلى الأجل الذي أمرت أن تتربص فيه، وهو زمان العدة وقيل: في الحمل المكتوم، والضمير في: بعولتهن، عائد على المطلقات، وهو مخصوص بالرجعيات. {إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَحاً} هذا شرط آخر حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه.

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومثل، مبتدأ، و: لهنّ، هو في موضع الخبر، و: بالمعروف، يتعلق به: لهنّ، أي: ومثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ كائن لهنّ على أزواجهنّ، وقيل: بالمعروف، هو في موضع الصفة: لمثل، فهو في موضع رفع، وتتعلق إذ ذاك بمحذوف. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} و: درجة، مبتدأ، و: للرجال، خبره، وهو خبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، و: عليهن، متعلق بما تعلق به الخبر من الكينونة والاستقرار، وجوّزوا أن يكون: عليهنّ، في موضع نصب على الحال، لجواز أنه لو تأخر لكان وصفاً للنكرة، فلما تقدّم انتصب على الحال، فتعلق إذ ذاك بمحذوف وهو غير العامل في الخبر، ونظيره: في الدار قائماً رجل، كان أصله: رجل قائم، ولا يجوز أن يكون: عليهن، الخبر، و: للرجال، في موضع الحال، لأن العامل في الحال إذ ذاك معنوي، وقد تقدّمت على جزأي الجملة، ولا يجوز ذلك، ونظيره: قائماً في الدار زيد. وهو ممنوع لا ضعيف كما زعم بعضهم، فلو توسطت الحال وتأخر الخبر، نحو: زيد قائماً في الدار، فهذه مسألة الخلاف بيننا وبين أبي الحسن، أبو الحسن يجيزها، وغيره يمنعها. فعلى هذا الألف واللام في الطلاق للعهد في الطلاق السابق.

{الطَّلَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ} والطلاق مصدر طلقت المرأة طلاقاً، ويكون بمعنى التطليق. كالسلام بمعنى التسليم، وهو مبتدأ، ومرتان خبره، وهو على حذف مضاف، أي: عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة، أو الطلاق الشرعي المسنون مرتان، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف حتى يكون الخبر هو المبتدأ، و: مرتان، تثنية حقيقة، لأن الطلاق الرجعي أو المسنون، على اختلاف القولين، عدده هو مرتان على التفريق، وقد بينا كونه يكون على التفريق. وقال الزمخشري: ولم يرد بالمرتين التثنية والتكرار كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} (الملك: 4) أي: كرة بعد كرة، لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التتالي التي يراد بها التكرير، قولهم: لبيك، وسعديك، وحنانيك، وهذا ذيك، ودواليك. انتهى كلامه. وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك، ومخالف لما في نفس الأمر. والذي يدل عليه ظاهر اللفظ: أن: الطلاق، الألف واللام فيه للعهد. وقال في «المنتخب» ما ملخص منه: الطلاق مرتان، قال قوم هو مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع دفعة واحدة، وهذا تفسير من قال: الجمع بين الثلاث حرام، وهو مذهب أبيّ، وجماعة من الصحابة. والألف واللام للاستغراق، والتقدير: كل الطلاق مرتان، ومرة ثالثة، وهذا يفيد التفرق لأن المرّات لا تكون إلاَّ بعد تفرق الاجتماع، ولفظه خبر، ومعناه الأمر.

وارتفاع قوله: {فإمساك} على الابتداء والخبر محذوف قدره ابن عطية متأخراً تقديره: أمثل وأحسن، وقدره غيره متقدماً أي: فعليكم إمساك بمعروف، وجوّز فيه ابن عطية أن يكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فالواجب إمساك، و: بمعروف، وبإحسان، يتعلق كل منهما بما يليه من المصدر، و: الباء، للإلصاق، وجوز أن يكون المجرور صفة لما قبله، فيتعلق بمحذوف، وقالوا: يجوز في العربية ولم يقرأ به نصب إمساك، أو تسريح، على المصدر أي: فأمسكوهنّ إمساكاً بمعروف، أو سرّحوهنّ تسريحاً بإحسان. {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} {وشيئاً} نكرة في سياق النهي فتعم، و: مما، متعلق بقوله: تأخذوا، أو بمحذوف فيكون في موضع نصب على الحال من قوله: شيئاً، لأنه لو تأخر لكان نعتاً له.

{إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الألف واللام في يخافا ويقيما عائد على صنفي الزوجين، وهو من باب الالتفات، لأنه إذا اجتمع مخاطب وغائب، وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب، فتقول: أنت وزيد تخرجان، ولا يجوز يخرجان، وكذلك مع التكلم نحو: أنا وزيد نخرج، ولما كان الاستثناء بعد مضي الجملة للخطاب جاز الالتفات، ولو جرى على النسق الأول لكان: إلاَّ أن تخافوا أن لا تقيموا، ويكون الضمير إذ ذاك عائداً على المخاطبين وعلى أزواجهم، والمعنى: إلاَّ أن يخافا أي: صنفا الزوجين، ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق الزوجية، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها حتى تكون شدة البغض سبباً لمواقعة الكفر، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت، {وأن يخافا} قيل: في موضع نصب على الحال، التقدير: إلاَّ خائفين، فيكون استثناء من الأحوال، فكأنه قيل: فلا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً في كل حال إلاَّ في حال الخوف أن لا يقيما حدود الله، وذلك أنّ: أن، مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر في موضع اسم الفاعل فهو منصوب على الحال، وهذا في إجازته نظر، لأن وقوع المصدر حالاً لا ينقاس، فأحرى ما وقع موقعه، وهو: أن الفعل، ويكثر المجاز فإن الحال إذ ذاك يكون: أن والفعل، الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل.

وقد منع سيبويه وقوع: أن والفعل، حالاً، نص على ذلك في آخر: هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات، والذي يظهر أنه استثناء من المفعول له، كأنه قيل: ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلاَّ بسبب خوف عدم إقامة حدود الله، فذلك هو المبيح لكم الأخذ، ويكون حرف العلة قد حذف مع: أن، وهو جائز فصيحاً كثيراً، ولا يجيء هنا، خلاف الخليل وسيبويه، أنه إذا حذف حرف الجر من: أن، هل ذلك في موضع نصب أو في موضع جر؟ بل هذا في موضع نصب، لأنه مقدر بالمصدر لو صرح به كان منصوباً، واصلاً إليه العامل بنفسه، فكذلك هذا المقدر به، وهذا الذي ذكرناه من أنَّ: أن والفعل، إذا كانا في موضع المفعول من أجله، فالموضع نصب لا غير، منصوص عليه من النحويين، ووجهه ظاهر. وقرأ عبد الله: إلاَّ أن يخافوا أن لا يقيموا حقوق، أي إلاَّ أن يخاف الأزواج والزوجات، وهو من باب الالتفات إذ لو جرى عليه النسق الأول لكان بالتاء، وروي عن عبد الله أنه قرأ أيضاً: إلاَّ أن تخافوا بالتاء. وقرأ حمزة، ويعقوب، ويزيد بن القعقاع؛ إلاَّ أن يُخافوا، بضم الياء، مبنياً للمفعول، والفاعل المحذوف: الولاة. وأن لا يقيما، في موضع رفع بدل من الضمير أي: إلاَّ أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله، وهو بدل اشتمال، كما تقول: الزيدان أعجباني حسنهما، والأصل: إلاَّ أن يخافوا، أنها: الولاة، عدم إقامتهما حدود الله.

وقال ابن عطية: في قراءة يخافا بالضم، أنها تعدت خاف إلى مفعولين: أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر بتقدير حرف جر بمحذوف، فموضع أن خفض الجار المقدر عند سيبويه، والكسائي، ونصب عند غيرهما، لأنه لما حذف الجار المقدر وصل الفعل إلى المفعول الثاني، مثل: استغفر لله ذنباً، وأمرتك الخير. إنتهى كلامه. وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله من كتابه، إلا التنظير باستغفر، وليس بصحيح تنظير ابن عطية خاف باستغفر، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين، كاستغفر الله، ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل أحدهما بحرف الجر، بل إذا جاء: خفت زيداً ضربه عمراً، كان ذلك بدلاً، إذ: من ضربه عمراً كان مفعولاً من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان، وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه، والذي نقله أبو علي وغيره أن مذهب سيبويه أن الموضع بعد الحذف نصب، وبه قال الفراء، وأن مذهب الخليل أنه جر، وبه قال الكسائي. وقدَّر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف: على، فقال: والتقدير إلاَّ أن يخافا على أن يقيما، فعلى هذا يمكن أن يصح قول أبي علي وفيه بعد. وقد طعن في هذه القراءة من لا يحسن توجيه كلام العرب، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى، ويؤيدها قوله بعد: فإن خفتم، فدل على أن الخوف المتوقع هو من غير الأزواج، وقد اختار هذه القراءة أبو عبيد.

قال أبو جعفر الصفار: ما علمت في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، أما الإعراب فإن يحتج له بقراءة عبد الله بن مسعود: إلاَّ أن يخافوا أن لا يقيموا، فهو في العربية إذ ذاك لما لم يسم فاعله، فكان ينبغي أن لو قيل إلاَّ أن يخافا أن لا يقيما؟ وقد احتج الفراء لحمزة، وقال: إنه اعتبر قراءة عبد الله: إلاَّ أن يخافوا، وخطأه أبو علي، وقال: لم يصب، لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على: أن؛ وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة، وأما اللفظ فإن كان صحيحاً فالواجب أن يقال: فإن خيفا، وإن كان على لفظ: فإن، وجب أن يقال إلاَّ أن يخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيمتوهنّ شيئاً إلاَّ أن يخاف غيركم، ولم يقل جل وعزّ: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان، وقد صح عن عمر وعثمان أنهما أجازا الخلع بغير سلطان. إنتهى كلام الصفار، وما ذكره لا يلزم، وتوجيه قراءة الضم ظاهر، لأنه لما قال: ولا يحل لكم وجب على الحكام منه من أراد أن يأخذ شيئاً من ذلك، ثم قال: إلاَّ أن يخافا، فالضمير للزوجين، والخائف محذوف وهم: الولاة والحكام والتقدير: إلاَّ أن يخاف الأولياء الزوجين أن لا يقيما حدود الله، فيجوز الافتداء، وتقدم تفسير الخوف هنا.

وأما قوله: فوجب أن يقال: فإن خيفا فلا يلزم، لأن هذا من باب الالتفات، وهو في القرآن كثير، وهو من محاسن العربية، ويلزم من فتح الياء أيضاً على قول الصفار أن يقرأ: فإن خافا، وإنما هو في القراءتين على الالتفات، وأما تخطئة الفراء فليست صحيحة، لأن قراءة عبد الله: إلاَّ أن يخافوا، دلالة على ذلك، لأن التقدير: إلاَّ أن يخافوهما أن لا يقيما، والخوف واقع في قراءة حمزة على أن، لأنها في موضع رفع على البدل من ضميرهما، وهو بدل الاشتمال كما قررناه قبل، فليس على ما تخيله أبو علي، وذلك كما تقول: خيف زيد شره، وأما قوله: يبعد من جهة المعنى، فقد تقدّم الجواب عنه، وهو أن لهما المنع من ذلك، فمتى ظنوا أو أيقنوا ترك إقامة حدود الله، فليس لهم المنع من ذلك، وقد اختار أبو عبيدة قراءة الضم، لقوله تعالى: فإن خفتم، فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا. وقد قيل: إن قوله: {ولا يحل لكم} إلى آخره، جملة معترضة بين قوله: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وبين قوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} . {فإن خفتم} : الضمير للأولياء أو السلطان، فإن لم يكونوا فلصلحاء المسلمين، وقيل: عائد على المجموع من قام به أجزأ. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} هذا جواب الشرط. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} و: تلك، مبتدأ، و: حدود الله، الخبر. {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ} و: من، شرطية، والفاء في: فأولئك، جواب الشرط، و: حمل، يتعدّ على اللفظ، فأفرد، و: أولئك، على المعنى. فجمع وأكد بقوله: هم، وأتى في قوله: الظالمون، بالألف واللام التي تفيد الحصر، أو المبالغة في الوصف، ويحتمل: هم، أن تكون فصلاً مبتدأ وبدلاً.

{فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . {فَإِن طَلَّقَهَا} قيل: الضمير عائد على: زوج، النكرة، وهو الثاني، وأتى بلفظ: إن، دون إذا تنبيهاً على أن طلاقه يجب أن يكون على ما يخطر له دون الشرط. انتهى. {أَن يَتَرَاجَعَآ} أي: في أن يتراجعا، والضمير في: عليهما، وفي: أن يتراجعا، على ما فسروه، عائد على الزوج الأوّل والزوجة التي طلقها الزوج الثاني. و: {إن ظنا} ، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. قال الزمخشري: ومن فسر العلم هنا بالظن فقد وهم من طريق اللفظ، والمعنى: لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم زيد، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظناً. انتهى كلامه. وما ذكره من: أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد، قد قاله غيره، قالوا: إن أن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعلا تحقيق، نحو: العلم واليقين والتحقيق، وإنما يعمل في أن المشددة، قال أبو علي الفارسي في «الإيضاح» : ولو قلت علمت أن يقوم زيد، فنصبت الفعل: بأن، لم يجز، لأن هذا من مواضع: أن، لأنها مما قد ثبت واستقر، كما أنه لا يحسن: أرجو أنك تقوم، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول: ما علمت إلاَّ أن يقوم زيد، فأعمل: علمت، في: أن. قال بعض أصحابنا: ووجه الجمع بينهما أن: علمت، قد تستعمل ويراد بها العلم القطعي، فلا يجوز وقوع: أن، بعدها كما ذكره الفارسي، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي، فيجوز أن يعمل في: أن، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله: {فإن علمتموهنّ مؤمنات} (الممتحنة: 10) فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي، لأن القطع بإيمانهنّ غير متوصل إليه وقول الشاعر: وأعلم علم حق غير ظن

وتقوى الله من خير المعاد} فقوله: علم حق، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذلك قوله: غير ظن، يدل عليه أنه يقال: علمت وهو ظان، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن: علمت، قد يعمل في: أن، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير: نرضى عن الله أن الناس قد علموا أن لا يدانينا من خلقه بشرفأتى بأن، الناصبة للفعل بعد علمت. انتهى كلامه. وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن: علم، تدخل على أن الناصبة، فليس بوهم، كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ. والفاء في: فلا تحل، جواب الشرط، وله، ومن بعد، وحتى، ثلاثتها تتعلق بتحل، واللام معناها التبليغ، ومن ابتداء الغاية، وحتى للتعليل. وبُني لقطعه عن الإضافة، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث، و {زوجاً} أتى به للتوطئة، أو للتقييد أظهرهما الثاني؛ فإن كان للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن الإنسان أكثر ما يتزوج الحرائر، ويصير لفظ الزوج كالملغى، فيكون في ذلك دلالة على أن الأمة إذا بتّ طلاقها ووطئها سيدها حلّ للأول نكاحها، إذ لفظ الزوج ليس بقيد؛ وإن كان للتقييد، وهو الظاهر، فلا يحللها وطء سيدها. والفاء في: {فلا جناح} ، جواب الشرط قبله، و {عليهما} ، في موضع الخبر، أما المجموع: جناح، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه، وإما على أنه خبر: لا، على مذهب أبي الحسن، و: أن يتراجعا، أي: في أن يتراجعا، والخلاف بعد حذف: في، أبقى: أن، مع ما بعدها في موضع نصب، أم في موضع جر، تقدم لنا ذكره، و: أن يقيما، في موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب سيبويه، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن، وأبي العباس.

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} تلك: مبتدأ، و: حدود خبر، و: يبينها يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي مبينة، والعامل فيها اسم الإشارة، وذو الحال: حدود الله، كقوله تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية} (النمل: 52) و: لقوم، متعلق: بيبينها، و: تلك، إشارة إلى ما تقدم من الأحكام، وقرىء: نبينها، بالنون على طريق الالتفات، وهي قراءة تروى عن عاصم.

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَبِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَجَهُنَّ إِذَا تَرَضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ ذلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَلِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وانتصب: ضراراً، على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: مضارين لتعتدوا، أي: لتظلموهن، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء.

واللام: لام كي، فإن كان ضراراً حالاً تعلقت اللام به، أو: بلا تمسكوهن، وإن كان مفعولاً من أجله تعلقت اللام به، وكان علة للعلة، تقول: ضربت ابني تأديباً لينتفع، ولا يجوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلاَّ بالعطف، أو على البدل، ولا يمكن هنا البدل لأجل اختلاف الإعراب، ومن جعل اللام للعاقبة جوّز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما مختلفان. وانتصب: هزؤاً، على أنه مفعول ثانٍ: لتتخذوا، وتقول: هزأ به هزؤاً استخف. {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَبِ وَالْحِكْمَةِ} هذا أمر معطوف على أمر في المعنى، وهو: ولا تتخذوا آيات لله هزواً، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة، ولكنها بني عليها المصدر، ويريد: النعم الظاهرة والباطنة، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوّة محمد علية الصلاة والسلام. و: {ما أنزل عليكم} ، معطوف على نعمة، وهو تخصيص بعد تعميم. فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون: عليكم، في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة عليكم، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون: عليكم، متعلقاً بلفظ النعمة، ويكون إذ ذاك مصدراً من: أنعم، على غير قياس، كنبات من أنبت. وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، و: من، في موضع الحال، أي: كائناً من الكتاب، ويكون حالاً من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول المحذوف، إذ تقديره: وما أنزل عليكم. ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا، كأنه قيل: وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة.

{يَعِظُكُم بِهِ} يذكركم به، والضمير عائد على: ما، من قوله: وما أنزل، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في: أنزل، والعامل فيها: أنزل، وجوزوا في: ما، من قوله: وما أنزل، أن يكون مبتدأ. و: يعظكم، جملة في موضع الخبر، كأنه قيل: والمنزله الله من الكتاب والحكمة يعظكم به، وعطفه على النعمة أظهر. {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَجَهُنَّ} هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال، أو على أن أصله من أن ينكحن، وينكحن مضارع نكح الثلاثي. {إِذَا تَرَضَوْاْ} : الضمير عائد على الخطاب والنساء، وغلب المذكر، فجاء الضمير بالواو، ومن جعل للأولياء ذكراً في الآية قالوا: احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج. والعامل في: إذا، ينكحن. {بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} الضمير في: بينهم، ظرف مجازي ناصبه: تراضوا، بالمعروف: ظاهره أنه متعلق بتراضوا، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط، وقيل: مهر المثل، وقيل: المهر والإشهاد. ويجوز أن يتعلق: بالمعروف، بينكحن، لا: بتراضوا، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي، بل هو من الفصل الفصيح، لأنه فصل بمعمول الفعل، وهو قوله: {إذا تراضوا} فإذا منصوب بقوله: {أن ينكحن} و: بالمعروف، متعلق به، فكلاهما معمول للفعل. {ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} و: ذلك، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب، وهو: هذا، وإن كان الحكم قريباً ذكره في الآية، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء، ومعنى: يوعظ به أي يذكر به، ويخوّف. و: منكم، متعلق بكان، أو: بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في: يؤمن. {وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} {يرضعن أولادهنّ} صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبراً، أي: في حكم الله تعالى الذي شرعه.

ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله: {والمطلقات يتربصن} (البقرة: 228) . {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} واللام في: لمن، قيل: متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، وتكون اللام على هذا للتعليل أي: لأجله، فتكون: مَنْ واقعة على الأب، كأنه قيل: لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء، وقيل: اللام للتبيين، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم: سقياً لك: وفي قوله تعالى: {هيت لك} (يوسف: 23) فاللام لتبيين المدعو له بالسقي، وللمهيت به، وذلك أنه لما قدم قوله: يرضعن أولادهن حولين كاملين} بين أن هذا الحكم إنما هو: لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات، فتكون: من، واقعة على الأم، كأنه قيل: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} من الوالدات. أو تكون، مَنْ، واقعة على الوالدات والمولود له، كل ذلك يحتمله اللفظ. وقرأ الجمهور: أن يتم الرضاعة بالياء من: أتم، ونصب الرضاعة. وقرأ مجاهد، والحسن، وحميد، وابن محيصن، وأبو رجاء: تتم، بالتاء من تم، ورفع الرضاعة. وقرأ أبو حنيفة، وابن أبي عبلة، والجارود بن أبي سبرة كذلك، إلاَّ أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة: كالحضارة والحضارة، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء، والكوفيون يعكسون ذلك، وروي عن مجاهد أنه قرأ: الرضعة، على وزن القصعة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ: أن يكمل الرضاعة، بضم الياء، وقرىء: أن يتم، برفع الميم، ونسبها النحويون إلى مجاهد، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر. أنشد الفراء رحمه الله تعالى: أن تهبطين بلاد قو م يرتعون من الطلاح وقال الآخر: أن تقرآن على أسماء، ويحكما مني السلام، وأن لا تُبْلِغَا أحدا وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع، وترك إعمالها حملاً على: ما، أختها في كون كل منهما مصدرية، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة، وشذ وقوعها موقع الناصبة، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير:

ترضى عن الله أن الناس قد علموا أن لا يدانينا من خلقه بشروالذي يظهر أن إثبات النون في المضارع المذكور مع: أن، مخصوص بضرورة الشعر، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلاَّ في هذا الشعر، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد، وما سبيله هذا، لا تُبني عليه قاعدة. {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} المولود جنس، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و: أل، كمن، و: ما، يعود الضمير على اللفظ مفرداً مذكراً، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث، وهنا عاد الضمير على اللفظ، فجاء له. ويجوز في العربية أن يعود على المعنى، فكان يكون: لهم، إلاَّ أنه لم يقرأ به، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور، وحذف الفاعل، وهو: الوالدات، و: المفعول به وهو: الأولاد، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل، وهذا على مذهب البصريين، أعني: أن يقام الجار مقام الفاعل إذا حذف نحو: مرّ بزيد. وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلاَّ فيما حرف الجر فيه زائد، نحو: ما ضرب من أحدٍ، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم.

واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع، كما أن: يقوم من؟ زيد يقوم. في موضع رفع، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل، وإبهامه من حيث إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر، والتقدير: سير هو، يريد: أي سير السير، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل، وهذا سائغ عند بعض البصريين، وممنوع عند محققي البصريين، والنظر في الدلائل هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في عالم النحو. وقد وهم بعض كبرائنا، فذكر في كتابه المسمى بـ «الشرح لجمل الزجاجي» أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلاَّ السهيلي، فإنه منع ذلك، وليس كما ذكر، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء، والكسائي، وهشام. والتفصيل في المجرور. وممن تبع السهيلي على قوله: تلميذه أبو علي الزيدي شارح «الجمل» . {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} وقراءة الجمهور: {لا تُكلف نفسٌ} مبني للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، وحذف للعلم به. وقرأ أبو رجاء: لا تكلف، بفتح التاء، أي: لا تتكلف، وارتفع نفس على الفاعلية، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين، و: تكلف تفعل، مطاوع فعل نحو: كسرته فتكسر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل. وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ: لا نكلف نفساً بالنون، مسنداً الفعل إلى ضمير الله تعالى، و: نفساً، بالنصب مفعول.

{لاَ تُضَآرَّ وَلِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبان، عن عاصم: لا تضارّ، بالرفع أي: برفع الراء المشددة، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله: {لا تُكلف نفس إلاَّ وسعها} لاشتراك الجملتين في الرفع، وإن اختلف معناهما، لأن الأولى خبرية لفظاً ومعنى، وهذه خبرية لفظاً نهيية في المعنى. وقرأ باقي السبعة: لا تضار، بفتح الراء، جعلوه نهياً، فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وسكنت الراء الأولى للإدغام، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء، لتجانس الألف والفتحة، ألا تراهم حين رخموا: أسحارّاً، وهم اسم نبات، إذا سمي به حذفوا الراء الأخيرة، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة، لأجل الألف قبلها، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين، فراعوا الألف وفتحوا، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل؟ وقرأ: لا يضارِّ بكسر الراء المشددة على النهي. وقرأ أبو جعفر الصفار: لا تضار، بالسكون مع التشديد، أجرى الوصل مجرى الوقف، وروي عنه: لا تضار، بإسكان الراء وتخفيفها، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف. وقال الزمخشري: اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً. انتهى. وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم، ولا نذهب إلى ذلك. ووجَّه هذه القراءة بعضهم بأن قال: حذف الراء الثانية فراراً من التشديد في الحرف المكرر، وهو الراء، وجاز أن يجمع بين الساكنين: إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ولأنَ مدة الألف تجري مجرى الحركة. انتهى. وروي عن ابن عباس: لا تضارر، بفك الإدغام وكسر الراء الأولى وسكون الثانية. وقرأ ابن مسعود: لا تضارر، بفك الإدغام أيضاً وفتح الراء الأولى وسكون الثانية، قيل: ورواها أبان عن عاصم.

والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز، فأما من قرأ بتشديد الراء، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة، فيحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل، ويحتمل أن يكون مبنياً للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس، وفي قراءة ابن مسعود؛ ويكون ارتفاع: والدة ومولود، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنياً للفاعل، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنياً للمفعول، فإذا قدرناه مبنياً للفاعل، فالمفعول محذوف تقديره: لا تضارر والدةُ زوجَها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر، ولا يضارر مولودٌ له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه، وغير ذلك من وجوه الضرر. والباء في: بولدها، وفي: بولده، باء السبب. ويعني بقوله: أن تكون الباء من صلته، يعني متعلقة بتضار، ويكون ضار بمعنى أضر، فاعل بمعنى أفعل، نحو: باعدته وأبعدته، وضاعفته وأضعفته، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل، تقول: أضرّ بفلان الجوع، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى، فلا يكون المفعول محذوفاً، بخلاف التوجيه الأول، وهو أن تكون الباء للسبب، فيكون المفعول محذوفاً كما قدرناه. والظاهر أن الباء للسبب، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارَرْ، براءين، الأولى مفتوحة، وهي قراءة عمر بن الخطاب. وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول، فإذا كان الفعل مبنياً للمفعول تعين كون الباء للسبب، وامتنع توجيه الزمخشري أن: ضارٌ به في معنى: أضرَّ به، والتوجيه الآخر أن: ضارٌ به بمعنى: ضره، وتكون الباء زائدة، ولا تنقاس زيادتها في المفعول، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى، وإن كان كل واحد منهما مرفوعاً والآخر منصوباً.

{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} هذا معطوف على قوله: {وعلى المولود له} والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله: بالمعروف، اعتراض بهما بين المتعاطفين. فعلى هذه الأقوال تكون: الألف واللام في قوله: {وعلى الوارث} كأنها نابت عن الضمير العائد على: المولود له، كأنه قيل: وعلى وارث المولود له. {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الضمير في: أرادا، عائد على الوالدة والمولود له. وقرىء: فإن أراد، ويتعلق عن تراض، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله: {فصالاً} ، أي: فصالاً كائنا، وقدّره الزمخشري صادراً. و: عن، للمجاوزة مجازاً، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم. {فلا جناح عليهما} هذا جواب الشرط، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى، التقدير: ففصلاه، أو ففعلا ذلك، والمعنى: فلا جناح عليهما في الفصال. {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} و: استرضع، فيه خلاف، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر، قولان.

فالأول: قول الزمخشري، قال: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. إنتهى كلامه. وهو نقلٌ من نقلٍ، الأصل رضع الولد، ثم تقول: أرضعت المرأة الولد، ثم تقول استرضعت المرأة الولد، واستفعل هنا للطلب أي: طلبت من المرأة إرضاع الولد، كما تقول استسقيت زيداً الماء، واستطعمت عمراً الخبز، أي: طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض، كذلك: أولادكم، منصوب لا على إسقاط الخافض. والثاني: قول الجمهور، وهو أن يتعدى إلى اثنين، الثاني بحرف جر، وحذف من قوله: أولادكم، والتقدير: لأولادكم، وقد جاء استفعل أيضاً للطلب معدى بحرف الجر في الثاني، وإن كان في: أفعل، معدى إلى اثنين. تقول: أفهمني زيد المسألة، واستفهمت زيداً عن المسألة، فلم يجىء: استطعمت، ويصير نظير: استغفرت الله من الذنب، ويجوز حذف: من، فتقول: الذنب، وليس في قولهم: كان فلان مسترضعاً في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه، أو بحرف جر. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} هذا جواب الشرط، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى، التقدير: فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع {إذا سلمتم ما آتيتم} و {إِذَا سَلَّمْتُم} شرط، قالوا: وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه، وذلك المعنى هو العامل في: إذا، وهو متعلق بما تعلق به: عليكم. إنتهى.

وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولاً المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه، ثم قال ثانياً إن إذا تتعلق بما تعلق به: عليكم، وهذا يناقض ما قبله، ولعلّ قوله: وهو متعلق، سقطت منه ألف، وكان: أو هو متعلق، فيصح إذ ذاك المعنى، ولا تكون إذ ذاك شرطاً، بل تتمحض للظرفية. و: ما، في الوجهين موصولة بمعنى الذي، والعائد عليها محذوف، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان، لأنها تتعدى لاثنين أحدهما ضمير: ما، والآخر، الذي هو فاعل من حيث المعنى، والمعنى في: ما آتيتم، أي: ما أردتم إتيانه أو إيتاءه. وأجاز أبو علي: في: ما آتيتم، أن تكون: ما، مصدرية أي: إذا سلمتم الإتيان، والمعنى مع القصر، وكون: ما، بمعنى الذي، أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير، وروى شيبان عن عاصم: ما أوتيتم مبيناً للمفعول أي: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوها، قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} (الحديد: 7) ويتعلق: بالمعروف، ب: سلمتم، أي: بالقول الجميل الذي تطيب النفس به، ويعين على تحسين نشأة الصبي. وقيل: تتعلق: بآتيتم.

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَبُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . يذر: معناه يترك، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ. وقرأ الجمهور: يتوفون، بضم الياء مبنياً للمفعول، وقرأ علي، والمفضل، عن عاصم: بفتح الياء مبنياً للفاعل، ومعنى هذه القراءة أنهم: يستوفون آجالهم.

وإعراب: الذين، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن: بالذين، لأن الحديث معهن في الاعتداد بالأشهر، فجاء الخبر عما هو المقصود. وتحرير مذهب الفراء أن العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها، فيها معنى الخبر، أنها تترك الإخبار عن الإسم الأول ويكون الخبر عن المضاف، مثاله: إن زيداً وأخته منطلقة، لأن المعنى: إن أخت زيد منطلقة؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب، وإنما أوردوا مما يشبه هذا الضرب قول الشاعر: فمن يك سائلاً عني فإني وجروة لا ترود ولا تعار والرد على الفراء، وتأويل الأبيات والآية، مذكور في النحو. وذهب الجمهور إلى أن له خبراً، واختلفوا، فقيل: هو ملفوظ به، وهو: يتربصن، ولا حذف يصحح معنى الخبر، لأنه ربط من جهة المعنى، لأن النون في: يتربصن، عائد، فقيل: على الأزواج الذين يتوفون، فلو صرح بذلك فقيل: يتربصن أزواجهم، لم يحتج إلى حذف، وكان إخباراً صحيحاً، فكذلك ما هو بمعناه، وهو قول الزجاج. وقيل: ثَمَّ حذف يصحح معنى الخبرية، واختلفوا في محل الحذف، فقيل: من المبتدأ، والتقدير: وأزواج الذين، ودل على المحذوف قوله: {ويذرون أزواجاً} وقيل: من الخبر، وتقديره: يتربصن بعدهم، أو: بعد موتهم، قاله الأخفش. وقيل: من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن، تقديره: أزواجهم يتربصن، ودل عليه المظهر، قاله المبرد. وقيل: الخبر بجملته محذوف مقدّر قبل المبتدأ تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً. وقوله: {يتربصن بأنفسهنّ} بيان للحكم المتلو، وهي جملة لا موضع لها من الإعراب، قالوا: وهذا قول سيبويه.

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} فعلى هذا القول، والقول الذي قبله، ينتصب، سراً، على الحال، أي: مستسرين. وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول، وإذا انتصب على الحال كان مفعول: فواعدوهن محذوفاً، تقديره: النكاح، وقيل: انتصب على أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: مواعدة سراً. وقيل التقدير في: وانتصب انتصاب الظرف. {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} . هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت: سراً، من قوله: {ولكن لا تواعدوهن سراً} على أي تفسير فسرته. فإن قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهنّ، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة، أو: لا تواعدوهنّ إلاَّ بأن تقولوا، أي: لا تواعدوهنّ إلاَّ بالتعريض، ولا يجوز أن يكون استثناءً من سراً، لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلاَّ التعريض، إنتهى كلام الزمخشري. ويحتاج إلى توضيح، وذلك أنه جعله استثناءً متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ، وجعل ذلك على وجهين. أحدهما: أن يكون استثناء من المصدر المحذوف، وهو الوجه الأول الذي ذكره، وقدّره: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة، فكأن المعنى: لا تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلاَّ قولاً معروفاً، فصار هذا نظير: لا تضرب زيداً ضرباً شديداً. والثاني: أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف، وهو الوجه الثاني الذي ذكره، وقدره: إلاَّ بأن تقولوا، ثم أوضحه بقوله: إلاَّ بالتعريض، فكان المعنى: لا تواعدوهنّ سراً، أي نكاحاً بقول من الأقوال، إلاَّ بقول معروف، وهو التعريض. فحذف: من أن، حرف الجر، فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في نظائره. والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو: الباء، التي للسبب.

قوله: ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من: سراً لأدائه إلى قوله: لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض، والتعريض ليس مواعداً، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل، وهذا عنده على أن يكون منقطعاً نظير: ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً. لكن هذا يصح فيه: ما رأيت إلاَّ حماراً، وذلك لا يصح فيه، لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض، لأن التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح، فانتصاب: سراً، على أنه مفعول، فكذلك ينبغي أن يكون: أن تقولوا، مفعولاً، ولا يصح ذلك فيه، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعاً. هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً. وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين: أحدهما: ما ذكره الزمخشري، وهو: أن يتسلط العامل على ما بعد؛ إلاَّ، كما مثلنا به في قولك: ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً. و: ما في الدار أحد إلاَّ حماراً. وهذا النوع فيه خلاف عن العرب، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلاَّ، فتقول: ما رأيت إلاَّ حماراً، وما في الدار إلاَّ حمار. ويصح في الكلام: {ما لهم به من علم إلاَّ اتباع الظن} (النساء: 157) . والقسم الثاني: من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلاَّ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة، ومن ذلك: ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضر. فما بعد إلاَّ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص، بل يقدّر المعنى: ما زاد، لكن النقص حصل له، وما نفع لكن الضرر حصل، فاشترك هذا القسم مع الأوّل في تقدير إلاَّ بلكن، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه، وهذا لا يمكن.

وإذا تقرر هذا فيكون قوله: {إلاَّ أن تقولوا} استثناء منقطعاً من هذا القسم الثاني، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل، والتقدير: لكنّ التعريض سائغ لكم، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلاَّ، فلذلك منعه، والله أعلم. {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَبُ أَجَلَهُ} وانتصاب: عقدة، على المفعول به لتضمين: تعزموا، معنى ما يتعدّى بنفسه، فضمن معنى: تنووا، أو معنى: تصححوا، أو معنى: توجبوا، أو معنى: تباشروا، أو معنى: تقطعوا، أي: تبتوا. وقيل: انتصب عقدة على المصدر، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن، وقال الشاعر: ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريمَ المأكلِ الأصل وأظل عليه، فحذف: على، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى، قال الشاعر: عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسوّد من يسود {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} و: ما، في قوله: {ما لم تمسوهنّ} الظاهر أنها ظرفية مصدرية، التقدير: زمان عدم المسيس كقول الشاعر: إني بحبلك واصل حبلي وبريش نبلك رائش نبلي ما لم أجدك على هدى أثر يقرو مقصك قائف قبلي وهذه ما، الظرفية المصدرية، شبيهة بالشرط، وتقتضي التعميم نحو: أصحبك ما دمت لي محسناً، فالمعنى: كل وقت دوام إحسان. وقال بعضهم: ما، شرطية، ثم قدرها بأن، وأراد بذلك، والله أعلم، تفسير المعنى، و: ما إذا كانت شرطاً تكون إسماً غير ظرف زمان ولا مكان، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطاً بهذا المعنى.

وزعم ابن مالك أن: ما، تكون شرطاً ظرف زمان؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين محمد في بعض تعاليقه، وتأول ما استدل به والده، وتأولنا نحن بعض ذلك، بخلاف تأويل ابنه، وذلك كله ذكرناه في كتاب «التكميل» من تأليفنا. على أن ابن مالك ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على زعمه. وزعم بعضهم أن: ما، في قوله {ما لم تمسوهنّ} إسما موصولاً والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ، فلا يكون لفظ. ما، شرطاً، وهذا ضعيف، لأن: ما، إذ ذاك تكون وصفاً للنساء، إذ قدرها بمعنى اللاتي، و: ما، من الموصولات التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي. و: أو، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين، أو لأشياء، والفعل بعدها معطوف على: تمسوهنّ، فهو مجزوم، أو معطوف على مصدر متوهم، فهو منصوب على إضمار أن بعد أو، بمعنى إلاَّ. التقدير: ما لم تمسوهنّ إلاَّ أن تفرضوا لهنّ فريضة، أو معطوف على جملة محذوفة التقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، أو بمعنى الواو والفعل مجزوم معطوف على: تمسوهنّ. وفي هذا القول الثالث حذف جملة، وهي قوله: فرضتم، وإضمار: لم، بعد: أو، وهذا لا يجوز إلاَّ إذا عطف على مجزوم، نحو: لم أقم وأركب، على مذهب من يجعل العامل في المعطوف مقدراً بعد حرف العطف. والضمير الفاعل في {ومتعوهنّ} للمطلقين، والضمير المنصوب ضمير المطلقات قبل المسيس، وقبل الفرض، فيجب لهنّ المتعة. {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} وقرىء: قدره، بفتح الراء، وجوّزوا في نصبه وجهين: أحدهما: أنه انتصب على المعنى، لأن معنى: {متعوهنّ} ليؤد كل منكم قدر وسعه. والثاني: على إضمار فعل، التقدير: وأوجبوا على الموسع قدره.

وفي السجاوندي: وقرأ ابن أبي عبلة: قدره، أي قدره الله. إنتهى. وهذا يظهر أنه قرأ بفتح الدال والراء، فتكون، إذ ذاك فعلاً ماضياً، وجعل فيه ضميراً مستكناً يعود على الله، وجعل الضمير المنصوب عائداً على الإمتاع الذي يدل عليه قوله: {ومتعوهنّ} . والمعنى: أن الله قدّر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر. وفي الجملة ضمير محذوف تقديره: على الموسع منكم، وقد يقال إن الألف واللام نابت عن الضمير، أي: على موسعكم وعلى مقتركم، وهذه الجملة تحتمل أن تكون مستأنفة بينت حال المطلق في المتعة بالنسبة إلى إيساره وإقتاره، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على الحال، وذو الحال هو الضمير المرفوع وفي قوله: {ومتعوهنّ} والرابط هو ذلك الضمير المحذوف الذي قدرناه: منكم. {مَتَعاً بِالْمَعْرُوفِ} قالوا: انتصب متاعاً على المصدر، وتحريره أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسم له، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز، والعامل فيه {ومتعوهنّ} ولو جاء على أصل مصدر {ومتعوهنّ} لكان تمتيعاً، وكذا قدّره الزمخشري، وجوّزوا فيه أن يكون منصوباً على الحال، والعامل فيها ما يتعلق به الجار والمجرور، وصاحب الحال الضمير المستكنّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرّ عليه في حال كونه متاعاً، وبالمعروف يتعلق بقوله: ومتعوهنّ، أو: بمحذوف، فيكون صفة لقوله: متاعاً، أي ملتبساً بالمعروف، والمعروف هو المألوف شرعاً ومروءة، وهو ما لا حمل له فيه على المطلق ولا تكلف. وانتصاب حقاً على أنه صفة لمتاعاً أي: متاعاً بالمعروف واجباً على المحسنين، أو بإضمار فعل تقديره: حق ذلك حقاً، أو حالاً مما كان حالاً منه متاعاً، أو من قوله: بالمعروف، أي: بالذي عرف في حال كونه على المحسنين. {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} والجملة من قوله: {وقد فرضتم} في موضع الحال.

وجواب الشرط {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، وارتفاع نصف على الابتداء وقدَّر الخبر: فعليكم نصف ما فرضتم، أو: فلهن نصف ما فرضتم، ويجوز أن يقدر مؤخراً، ويجوز أن يكون خبراً، أي: فالواجب نصف ما فرضتم. {إَّلا أَن يَعْفُونَ} نص ابن عطية وغيره على أن هذا استثناء منقطع، قاله ابن عطية، لأن عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهن، والمعنى إلاَّ أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. إنتهى. وقيل: وليس على ما ذهبوا إليه، بل هو استثناء متصل، لكنه من الأحوال، لأن قوله: فنصف ما فرضتم، معناه: عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلاَّ في حال عفوهن عنكم، فلا يجب، وإن كان التقدير: فلهن نصف فالواجب ما فرضتم، فكذلك أيضاً وكونه استثناء من الأحوال ظاهر، ونظيره: {لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} (يوسف: 66) إلاَّ أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالاً، فعلى قول سيبويه يكون: إلاَّ أن يعفون} استثناءً منقطعاً. وفرق الزمخشري بين قولك: الرجال يعفون، والنساء يعفون، بأن الواو في الأول ضمير، والنون علامة الرفع، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل. إنتهى. فرقه، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة في هذا العلم، ونقصه أن يبين أن لام الفعل في الرجال: يعفون، حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وأن يذكر خلافاً في نحو النساء يعفون، فذهب ابن درستويه من المتقدّمين، والسهيلي من المتأخرين، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب لا مبني، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه. والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو. {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ويحتمل أن يكون قوله: {بيده عقدة النكاح} على حذف مضاف أي: بيده حل عقدة النكاح، كما قالوا في قوله: {ولا تعزموا عقدة النكاح} (البقرة: 235) أي: على عقدة النكاح.

وقرأ الحسن: أو يعفو، بتسكين الواو، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها، فإذا وقف أثبتها، وفعل ذلك استثقالاً للفتحة في حرف العلة، فتقدر الفتحة فيها كما تقدّر في الألف في نحو: لن يخشى، وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو: لن يرمي ولن يغزو، وحتى أن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة، وقال: فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب قال ابن عطية: والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب، وقد قال الخليل، رحمه الله: لم يجىء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلاَّ في قولهم: عفوة، وهو جمع: عفو، وهو ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو مفتوحة، فإنها ثقيلة. إنتهى كلامه. وقوله: لقلة مجيئها في كلام العرب، يعني مفتوحة مفتوحاً ما قبلها، هذا الذي ذكر فيه تفصيل، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، إن كانت ضمة فإما أن يكون ذلك في فعل أو اسم، إن كان في فعل فليس ذلك بقليل، بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب، أو لحقه نون التوكيد، على ما أحكم في بابه، ظهرت الفتحة فيه نحو: لن يغزو، وهل يغزون، والأمر نحو: اغزون، وكذلك الماضي على فعل نحو: سَرَوَ الرجل، حتى ما بني من ذوات الباء على فعل تقول فيه: لقضوَ الرجل، ولرَموَتِ اليد، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه؛ وإن كان في اسم فإما أن يكون مبنياً على هاء التأنيث، أو لا. إن كان مبنياً على هاء التأنيث فجاء كثيراً نحو: عرقوة، وترقوه، وقمحدوة، وعنصوة، وتبنى عليه المسائل في علم التصريف، وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل، كما ذكره الخليل، وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء، نحو الغازي، والغازية، والعريقية، وشذ من ذلك: أقروَه جمع قرو، وهي ميلغة الكلب، و: سواسوة وهم: المستوون في الشر، و: مقاتوة جمع مقتو، وهو السايس الخادم.

والألف واللام في النكاح للعهد أي عقدة لها، قال المغربي: وهذا على طريقة البصريين، وقال غيره: الألف واللام بدل الإضافة أي: نكاحه، قال الشاعر: لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الناس والأحلام عير عوازب أي: وأحلامهم، وهذا على طريقة الكوفيين. {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} و: أقرب، يتعدّى بالَّلام كهذه، ويتعدّى بإلى كقوله: {ونحن أقرب إليه} (ق: 16) (الواقعة: 85) ولا يقال: إن اللام بمعنى إلى، ولا إن اللام للتعليل، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية، وقد قيل: بأن اللام بمعنى إلى، فيكون ذلك من تضمين الحروف، ولا يقول به البصريون. وقيل أيضاً: إن اللام للتعليل، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه، والمفضل عليه في القرب محذوف، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبراً للمبتدأ، والتقدير: والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو. {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوَتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى} والألف واللام فيها للعهد، وهي: الصلوات الخمس. {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوَتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} وقرأ عبد الله، وعلي: {الصلاة الوسطى} بإعادة الجار على سبيل التوكيد، وقرأت عائشة: والصلاة، بالنصب، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص، ويحتمل أن يراعى موضع: على الصلاة، لأنه نصب كما تقول: مررت بزيد وعمراً، وروي عن قالون أنه قرأ: الوسطى، بالصاد أبدلت السين صاداً لمجاورة الطاء، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله: الصراط.

{فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} و: رجالاً، منصوب على الحال، والعامل محذوف، قالوا تقديره: فصلوا رجالاً، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول، أي: فحافظوا عليها رجالاً، ورجالاً جمع راجل، كقائم وقيام، قال تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً} (الحج: 27) وقال الشاعر: وبنو غدانة شاخص أبصارهم يمشون تحت بطونهنّ رجالاً} {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم} و: ما، مصدرية، و: الكاف، للتشبيه. وقد تكون الكاف للتعليل، أي: فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي: يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم. {ما لم تكونوا تعلمون} ما: مفعول ثان لعلمكم. {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل: {ما لم تكونوا} بدل من: ما، التي في قوله: كما، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية. انتهى. وهو تخريج يمكن، وأحسن منه أن يكون بدلاً من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما، إذ التقدير علمكموه، أي: علمكم ما لم تكونوا تعلمون. وقد أجاز النحويون: جاءني الذي ضربت أخاك، أي ضربته أخاك، على البدل من الضمير المحذوف. {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم مَّتَعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَتِ مَتَعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .

وقرأ الحرميان، والكسائي، وأبو بكر: وصية بالرفع، وباقي السبعة، بالنصب وارتفاع: والذين، على الابتداء. ووصية بالرفع على الابتداء وهي نكرة موصوفة في المعنى، التقدير: وصية منهم أو من الله، على اختلاف القولين في الوصية، أهي على بالإيجاب من الله؟ أو على الندب للأزواج؟ وخبر هذا المبتدأ هو قوله: لأزواجهم، والجملة: من وصية لأزواجهم، في موضع الخبر عن: الذين، وأجازوا أن يكون: وصية، مبتدأ و: لأزواجهم، صفة. والخبر محذوف تقديره: فعليهم وصية لأزواجهم. وحكي عن بعض النحاة أن: وصية، مرفوع بفعل محذوف تقديره: كتب عليهم وصية، قيل: وكذلك هي في قراءة عبد الله، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل. وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير: ووصية الذين يتوفون، أو: وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم، فيكون ذلك مبتدأ على مضاف، وأجاز أيضاً أن يكون التقدير: والذين يتوفون أهل وصية، فجعل المحذوف من الخبر، ولا ضرورة تدعو بنا إلى الادّعاء بهذا الحذف، وانتصاب وصية على إضمار فعل، التقدير: والذين يتوفون، فيكون: والذين، مبتدأ و: يوصون المحذوف، هو الخبر، وقدره ابن عطية: ليوصوا، وأجاز الزمخشري ارتفاع: والذين، على أنه مفعول لم يسم فاعله على إضمار فعل، وانتصاب وصية على أنه مفعول ثان، التقدير: وألزم الذين يتوفون منكم وصية، وهذا ضعيف، إذ ليس من مواضع إضمار الفعل، ومثله في الضعف من رفع: والذين، على إضمار: وليوص، الذين يتوفون، وبنصب وصية على المصدر، وفي حرف ابن مسعود: الوصية لأزواجهم، وهو مرفوع بالابتداء و: لأزواجهم الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف أي: عليهم الوصية. وانتصب متاعاً إما على إضمار فعل من لفظه أي: متعوهنّ متاعاً، أو من غير لفظه أي: جعل الله لهنّ متاعاً، أو بقوله: وصية أهو مصدر منوّن يعمل، كقوله: فلولا رجاء النصر منك ورهبة

عقابك قد كانوا لنا كالموارد ويكون الأصل: بمتاع، ثم حذف حرف الجر؟ فإن نصبت: وصية فيجوز أن ينتصب متاعاً بالفعل الناصب لقوله: وصية، ويكون انتصابه على المصدر، لأن معنى: يوصي به يمتع بكذا، وأجازوا أن يكون متاعاً صفة لوصية، وبدلاً وحالاً من الموصين، أي: ممتعين، أو ذوي متاع، ويجوز أن ينتصب حالاً من أزواجهم، أي: ممتعات أو ذوات متاع، ويكون حالاً مقدّرة إن كانت الوصية من الأزواج. وقرأ أبيّ: متاع لأزواجهم متاعاً إلى الحول، وروي عنه: فمتاع، ودخول الفاء في خبر: والذين، لأنه موصول ضمن معنى الشرط، فكأنه قيل: ومن يتوف، وينتصب: متاعاً إلى الحول، بهذا المصدر، إذ معناه التمتيع، كقولك: أعجبني ضرب لك زيداً ضرباً شديداً. وانتصب: غير إخراج، صفة لمتاعاً، أو بدلاً من متاع أو حالاً من الأزواج أي: غير مخرجات، أو: من الموصين أي: غير مخرجين، أو مصدراً مؤكداً، أي: لا إخراجاً، قاله الأخفش. {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} ويتعلق: فيما فعلن، بما يتعلق به، عليكم أي: فلا جناح يستقر عليكم فيما فعلن. وما، موصولة، والعائد محذوف، أي: فعلنه، و: من معروف، في موضع الحال من الضمير المحذوف في: فعلن، فيتعلق بمحذوف أي فعلنه كائناً من معروف. وجاء هنا: من معروف، نكرة مجرورة بمن، وفي الآية الناسخة لها على قول الجمهور، جاء: بالمعروف، معرفاً مجروراً بالباء. والألف واللام فيه نظيرتها في قولك: لقيت رجلاً، ثم تقول: الرجل من وصفه كذا وكذا، وكذلك: إن الآية السابقة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل، وهذه بعكسها، ونظير ذلك {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم} على ظاهر ما نقل مع قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة: 144) . {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وإعراب: حقاً، هنا كإعراب: {حقاً على المحسنين} (البقرة: 236) .

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * وَقَتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإًّ مِن بَنِى إِسْرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَرِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} . وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام تقريراً، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلاَّ من هذه الآية، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء، والرؤية هنا علمية، وضمنت معنى ما يتعدّى بإلى، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين، وكأنه قيل: ألم ينته علمك إلى كذا.

وقال الراغب: رأيت، يتعدّى بنفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم: ألم تر المعنى: ألم تنظر، عدّي تعديته، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير، ما يقال: رأيت إلى كذا. إنتهى. {حَذَرَ الْمَوْتِ} وهو مفعول من أجله، وشروط المفعول له موجودة فيه من كونه مصدراً متحد الفاعل والزمان. {ثُمَّ أَحْيَهُمْ} العطف بثم يدل على تراخي الإحياء عن الإماتة، قال قتادة: أحياهم ليستوفوا آجالهم. {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} و: مَنْ، استفهامية في موضع رفع على الابتداء، وخبره: ذا، و: الذي، نعت: لذا، أو: بدل منه، ومنع أبو البقاء أن تكون: من، وذا، بمنزلة اسم واحد، كما كانت: ما، مع: ذا، قال: لأن: ما، أشد إبهاماً من: مَنْ، إذا كانت: من، لمن يعقل. وأصحابنا يجيزون تركيب: من، مع: ذا، في الاستفهام وتصيرهما كاسم واحد، كما يجيزون ذلك في: ما، و: ذا، فيجيزون في: من ذا عندك، أن يكون: من وذا، بمنزلة اسم الاستفهام. وانتصب لفظ الجلالة: بيقرض، وهو على حذف مضاف أي: عباد الله المحاويج، أسند الاستقراض إلى الله وهو المنزه عن الحاجات، ترغيباً في الصدقة، كما أضاف الإحسان إلى المريض والجائع والعطشان إلى نفسه تعالى في قوله، جل وعلا: «يا إبن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني» . الحديث خرجه مسلم، والبخاري. وانتصب: قرضاً، على المصدر الجاري على غير الصدر، فكأنه قيل: إقراضاً، أو على أنه مفعول به، فيكون بمعنى: مقروض، أي: قطعة من المال، كالخلق بمعنى المخلوق.

وانتصب: حسناً، على أن يكون صفة لقوله: قرضاً، وهو الظاهر، أو على أن يكون نعتاً لمصدر محذوف إذا أعربنا قرضاً مفعولاً به، أي: إقراضاً حسناً، ووصفه بالحسن لكونه طيب النية خالصاً لله، قاله ابن المبارك. أو: لكونه يحتسب عند الله ثوابه، أو: لكونه جيداً كثيراً، أو: لكونه بلا منّ ولا أذىً، قاله عمرو بن عثمان، أو: لكونه لا يطلب به عوضاً، قاله سهيل بن عبد الله القشيري التستري. وقرأ ابن عامر، وعاصم، بنصب الفاء، والباقون بالرفع على العطف على صلة الذي، وهو قوله: يقرض، أو على الاستئناف، أي: فهو يضاعفه، والأول أحسن، لأنه لا حذف فيه، والنصب على أن يكون جواباً للاستفهام على المعنى، لأن الاستفهام، وإن كان عن المقرض، فهو عن الإقراض في المعنى فكأنه قيل: أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ وقال أبو علي: الرفع أحسن، وذهب بعض النحويين إلى أنه: إذا كان الاستفهام عن المسند إليه الحكم، لا عن الحكم، فلا يجوز النصب بإضمار أن بعد الفاء في الجواب، فهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وقد جاء في الحديث: «من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له» . وكذلك سائر أدوات الاستفهام الإسمية والحرفية. وانتصب: أضعافاً، على الحال من الهاء في: يضاعفه، قيل: ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به، تضمن معنى فيضاعفه: فيصيره. ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف، وهو المضاعف أو المضعف، بمعنى المضاعفة أو التضعيف، كما أطلق العطاء وهو اسم المعطى بمعنى الإعطاء، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص، وهذه المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة. {مِن بَنِى إِسْرءِيلَ} في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف أي: كائنين من بني إسرائيل، وعلى مذهب الكوفيين هو صلة للملأ، لأن الاسم المعرف بالألف واللام يجوز عندهم أن يكون موصولاً، كما زعموا ذلك في قوله: لعمري لأنت البيت أكرم أهله

فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب، كذلك: من بني إسرائيل، العامل فيه لا موضع له من الإعراب. {مِن بَعْدِ مُوسَى} متعلق بما تعلق به: {من بني إسرائيل} هو كائنين، وتعدّى إلى حرفي جر من لفظ واحد لاختلاف المعنى فمن، الأولى تبعيضية و: من، الثانية لابتداء الغاية، إذ العامل في هذا الظرف، قالوا: تر، وقالوا: هو بدل من: بعد، لأنهما زمانان لبني إسرائيل، وكلاهما لا يصح. أما الأول: فإن ألم تر تقرير، والمعنى: قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا، وليس انتهاء علمه إليهم، ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم لنبي لهم: {ابعث لنا ملكاً} وإذا لم يكن ظرفاً للانتهاء، ولا للنظر، فكيف يكون معمولاً لهما، أو لأحدهما؟ هذا ما لا يصح. وأما الثاني: فبعيد جداً، لأنه لو كان بدلاً من: بعد، لكان على تقدير العامل، وهو لا يصح دخوله عليه، أعني: من، الداخلة على: بعد، لا تدخل على: إذ، لا تقول: من إذ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها: من، كوقت وحين، لم يصح المعنى أيضاً، لأن: من، بعد: موسى، حال، كما قرّرناه. إذ العامل فيه: كائنين، ولو قلت: كائنين من حين قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكاً، لما صح هذا المعنى، وإذا بطل هذان الوجهان، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى، وقد وجدناه، وهو: أن يكون ثَمَّ محذوف به يصح المعنى، وهو العامل، وذلك المحذوف تقديره: ألم تر إلى قصة الملأ، أو: حديث الملأ، وما في معناه. لأن الذوات لا يتعجب منها، وانما يتعجب مما جرى لهم، فصار المعنى: ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، إذ قالوا؟ فالعامل في: إذ، هو ذلك المحذوف.

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَتِلُواْ} وقد تقدّم الكلام على: عسى، قال أبو علي: الأكثر فتح السين، وهو المشهور، ووجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل: حر وشج، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم، أن يقال: عسي زيد، مثل: رضي، فإن قيل: فهو القياس وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى، كما فعل ذلك بغيره. إنتهى. والمحظوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلاَّ مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث، نحو: عسيتُ، وعسينَ، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب، ويفتح فيما سوى ذلك على سبيل الوجوب، ولا يسوغ الكسر نحو: عسى زيد والزيدان عسيا، والزيدون عسوا، والهندان عسيا، وعساك، وعساني، وعساه. وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره: إن أهل الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة، وإذا قيل: عسى زيد فليس إلاَّ الفتح، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه. وقال أبو عبيد: لو كان عسيتم بكسر السين لقرىء: عسي ربكم وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة، ودخول: هل، على: عسيتم، دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج، فهي نظيرة لعل، ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول، لا يجوز أن تقول: جاءني الذي عسى أن يحسن إليّ وقد خالف في هذه المسألة هشام فأجاز وصل الموصول بها، ووقوعها خبراً لأن، دليل على أنها فعل خبري، وهو جائز. قال الراجز: لا تلحني إني عسيت صائماً إلاَّ إن قيل: إن ذلك على إضمار القول، كما قيل في قوله: إن الذين قتلتم أمس سيدهم لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما لأن: إن وأخواتها لا يجوز أن تقع خبراً لها من الجمل، إلاَّ الجمل الخبرية، وهي التي تحتمل الصدق والكذب، هذا على الصحيح، وفي ذلك خلاف ضعيف.

وجواب الشرط الذي هو: إن كتب عليكم القتال، محذوف للدلالة عليه، وتوسط الشرط بين أجزاء الدليل على حذفه، كما توسط في قوله: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} (البقرة: 70) وخبر عسيتم: أن لا تقاتلوا، هذا على المشهور أنها تدخل على المبتدأ والخبر، فيكون: أن، زيدت في الخبر، إذ: عسى للتراخي، ومن ذهب إلى أن: عسى، يتعدّى إلى مفعول، جعل: أن لا تقاتلوا، هو المفعول، و: أن، مصدرية، والواو في: وما لنا، لربط هذا الكلام بما قبله، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعاً عنه، وهو استفهام في اللفظ، وإنكار في المعنى، و: أن لا نقاتل، أي: في ترك القتال، حذف الجر المتعلق بما تعلق به: لنا، الواقع خبراً لما الاستفهامية إذ هي مبتدأ، و: أن لا نقاتل، في مضوع نصب، أو: في موضع جر على الخلاف الذي بين سيبويه والخليل و: ذهب أبو الحسن إلى أنَّ: أن، زائدة، وعملت النصب كما عمل باء الجر الزائد الجر، والجملة حال، أي: وما لنا غير مقاتلين، فيكون مثل قوله تعالى: ما لك لا تأمنا على يوسف} (يوسف: 11) ما لكم لا ترجون لله وقاراً} (نوح: 13) وما لكم لا تؤمنون بالله} (الحديد: 8) وكقول العرب: ما لك قائماً؟ وقال تعالى: فما لهم عن التذكرة معرضين} (المدثر: 49) وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من: أن لا نقاتل، والتقدير: وما لنا ولأن لا نقاتل؟ قال: كما تقول: إياك أن تتكلم، بمعنى إياك وأن تتكلم، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء، لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل، ولا نذهب إليهما إلاَّ لضرورة، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف، وأما: إياك أن تتكلم، فليس على حذف حرف العطف، بل: إياك، مضمن معنى إحذر. فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل: احذر التكلم، وقد أخرجنا جملة حالية: أنكروا ترك القتال، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم، والقائل هذا لم يخرج، لكنه أخرج مثله، فكان ذلك إخراجاً له، ويمكن حمله على الظاهر، لأن

كثيراً منهم استُولي على بلادهم، وأسر أبناؤهم، فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشأهم بها، كما مر في قصتهم. وقرأ عبيد بن عمير: وقد أخرجنا، أي العدو، والمعنى. في: وأبنائنا، أي: من بين أبنائنا، وقيل: هو على القلب أي: وأخرج منا أبناؤنا، ويحتمل أن يكون الفاعل: بأخرجنا، على قراءة عبيد المذكور ضميراً يعود على الله، أي: وقد أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا، فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا، ويجمع بيننا وبين أبنائنا، كما تقول: ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على معصيته؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني، قال القشيري: أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذباً عن أموالهم ومنازلهم حيث {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} فلذلك لم يتم قصدهم، لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم، ولو أنهم قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله، لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} وانتصب: قليلاً، على الاستثناء المتصل، ولا يجوز أن يكون المستثنى منهما، لو قلت: ضربت القوم إلاَّ رجالاً، لم يصح، وصح هذا لاختصاصه بأنه في نفسه صفة لموصوف، ولتقييده بقوله: منهم، ولم يبين هنا عدة هذا القليل، وبينته السنة، صح أن النبي صلى الله عليه وسلّملما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدّة قوم طالوت» ، وهؤلاء القليل ثبتوا على نياتهم السابقة، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم.

وقرأ أبيّ: تولوا إلا أن يكون قليل منهم، وهو استثناء منقطع، لأن الكون معنى من المعاني، والمستثنى منهم جثث. وتقول العرب: قام القوم إلاَّ أن يكون زيد، وزيداً، بالرفع والنصب، فالرفع على أن يكون تامة، والنصب على أنها ناقصة، واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله، التقدير: إلاَّ أن يكون هو، أي: بعضهم زيداً، والمعنى قام القوم إلاَّ كون زيد في القائمين، ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائماً، فلا فرق من حيث المعنى بين قام القوم إلاَّ زيداً، وبين قام القوم إلاَّ أن يكون زيدٌ أو زيداً. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} وانتصب: ملكاً على الحال. {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} و: أنَّى، هنا بمعنى: كيف؟ وهو منصوب على الحال، و: يكون، الظاهر أنها ناقصة، و: له، في موضع الخبر، فيتعلق بمحذوف وهو العامل في: أنى، و: علينا، متعلق: بالملك، على معنى الاستعلاء، تقول: فلان ملك على بني فلان، وقيل: علينا، حال من: الملك.

ويجوز أن تكون تامة و: له، متعلق، بيكون، أي: كيف يقع؟ أو: يحدث له الملك علينا ونحن أحق؟ جملة حالية اسمية عطف عليها جملة فعلية، وهي {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} والمعطوف على الحال حال، والمعنى: أن من اجتمع فيه هذان الوصفان، وجود من هو أحق منه، وفقره، لا يصلح للملك. ويعلق: بالملك، و: منه، بأحق، وتعلق: من المال، بيؤت، وفتحت سين السعة لفتحها في المضارع، إذ هو محمول عليه، وقياسها الكسر، لأنه كان أصله، يوسع، كوثق يثق، وإنما فتح عين المضارع لكون لامه حرف حلق، فهذه فتحة أصلها الكسر، ولذلك حذفت الواو، لوقوعها في يسع بين ياء وكسرة، لكن فتح لما ذكرناه، ولو كان أصلها الفتح لم يجز حذف الواو، ألا ترى ثبوتها في يوجل؟ لأنها لم تقع بين كسرة وياء، فالمصدر والأمر في الحذف محمولان على المضارع، كما حملوا: عدة وعد على يعد.

{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَرُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّبِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَلَمِينَ * تِلْكَ آيَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . هارون: أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة. جالوت: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية. داود: اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة.

وقرأ أبو السماك: سكينة، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة، بقوله: فيه، وهو في موضع الحال، أي: كائناً فيه سكينة. و: من، لابتداء الغاية، أي: كائنة من ربكم، فهو في موضع الصفة، أو متعلقاً بما تعلق به قوله: فيه، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف، أي: من سكينات ربكم. {مِّمَّا تَرَكَ} في موضع الصفة لبقية، و: من، للتبعيض. {تَحْمِلُهُ الْمَلَئِكَةُ} وقرأ مجاهد: يحمله، بالياء من أسفل، والضمير يعود على التابوت، وهذه الجملة حال من التابوت، أي حاملاً له الملائكة، ويحتمل الاستئناف، كأنه قيل: ومن يأتي به وقد فقد؟ فقال: {تحمله الملائكة} استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة. {إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} هذا استثناء من الجملة الأولى، وهي قوله: {فمن شرب منه فليس مني} . ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن: من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه، والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها أن: من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن: من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتاً، ومن الإثبات نفياً، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة. وفي الاستثناء محذوف تقديره: إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشرِبَها، أو للشرب. ويتعلق: بيده، بقوله: اغتراف. قيل: ويجوز أن يكون نعتاً لغرفة.

ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد: إلاَّ، وجهان: أحدهما: النصب على الاستثناء وهو الأفصح: والثاني: أن يكون ما بعد: إلاَّ، تابعاً لإعراب المستثنى منه، إن رفعاً فرفع، أو نصباً فنصب، أو جراً فجر، فتقول: قام القوم إلاَّ زيد، ورأيت القوم إلاَّ زيداً، ومررت بالقوم إلاَّ زيد: وسواء كان ما قبل: إلاَّ، مظهراً أو مضمراً. واختلفوا في إعرابه، فقيل: هو تابع على أنه نعت لما قبله، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة. وقال: ينعت بما بعد: إلاَّ، الظاهر والمضمر، ومنهم من قال: لا ينعت به إلاَّ النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإن كان معرفة بالإضافة نحو: قام إخوتك، أو بالألف واللام للعهد، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس، فلا يجوز الاتباع، ويلزم النصب على الاستثناء. ومنهم من قال: إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان، ومن الاتباع بعد الموجب قوله: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلاَّ الفرقدان وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ} و: هو، توكيد للضمير المستكن في جاوزه، و: الذين، يحتمل أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه، والأظهر أن يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف، ولا يستحسن، إلاَّ إن كانت الهاء مختلسة لا إمالة لها. {قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ويتعلق: لنا، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر، ولا يجوز أن يتعلق: بطاقة، لأنه كان يكون طاقة مطولاً، فيلزم تنوين، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت: متعلق به. وأجاز بعضهم أن يكون: بجالوت، في موضع الخبر، وليس المعنى على ذلك.

{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} وقرأ أبيّ: وكأين، وهي مرادفة: لكم، في التكثير، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوباً بمن، ولو حذفت: من، لانجرّ تمييز: كم، الخبرية بالإضافة، وقيل بإضمار: من، ويجوز نصبه حملاً على: كم، الاستفامية، وانتصب تمييز: كأين، فتقول كأين رجلاً جاءك. قال الشاعر: أطرد اليأس بالرجا فكأين أملاً حمّ يسره بعد عسر و: كم؛ في موضع رفع على الابتداء، و: من فئة، قيل زائدة، وليس من مواضع زيادتها، وقيل: في موضع الصفة لكم، و: فئة، هنا مفرد في معنى الجمع، كأنه قيل: كثير من فئات قليلة غلبت. وقرأ الأعشى فيه بإبدال الهمزة ياء، نحو: ميرة في: مئرة، وهو إبدال نفيس، وخبر: كم، قوله: غلبت، ومعنى: بإذن الله، بتمكينه وتسويفه الغلبة. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} والمصدر الذي هو: دفع، أو: دفاع، مضاف إلى الفاعل، وبعضهم بدل من الناس، وهو بدل بعض من كل، والباء في: ببعض، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدي إلى ثان بالباء، وأصل التعدية بالباء، أن يكون ذلك في الفعل اللازم: نحو: {لذهب بسمعهم} (البقرة: 20) فإذا كان متعدياً فقياسه أن يعدى بالهمزة، تقول: طعم زيد اللحم، ثم تقول: أطعمت زيداً اللحم، ولا يجوز أن تقول: طعمت زيداً باللحم، وإنما جاء ذلك قليلاً بحيث لا ينقاس، من ذلك: دفع، وصك، تقول: صك الحجر الحجر، وتقول: صككت الحجر بالحجر، أي جعلته يصكه. وكذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير: دفع الله الناس بعضهم ببعض} فالباء للتعدية كالهمزة.

قال سيبويه، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف ما نصه: وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، على حد قولك: ألزمت، كأنك قلت في التمثيل: أدفعت، كما أنك تقول: أذهبت به، وأذهبته من عندنا، وأخرجته، وخرجت به معك، ثم قال سيبويه: صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك: اصطك الحجران أحدهما بالآخر، ومثل ذلك: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض. إنتهى كلام سيبويه. ولا يبعد في قولك: دفعت بعض الناس ببعض، أن تكون الباء للآلة، فلا يكون المجرور بها مفعولاً به في المعنى، بل الذي يكون مفعولاً به هو المنصوب، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولاً به في اللفظ فاعلاً من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز، كما أنك تقول في: كتبت بالقلم، كتبت القلم.

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَعَةٌ وَالْكَفِرُونَ هُمُ الظَّلِمُونَ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأٌّرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأٌّرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ * لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} .

و: تلك، مبتدأ وخبره: الرسل، و: فضلنا، جملة حالية، وذو الحال: الرسل، والعامل فيه إسم الإشارة. ويجوز أن يكون: الرسل، صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي صلى الله عليه وسلّم قيل: الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله: {وإنك لمن المرسلين} (البقرة: 252) ولا يلزم من ذلك علمه بأعيانهم، بل أخبر أنه من جملة المرسلين، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض، وأتى: بتلك، التي للواحدة المؤنثة، وإن كان المشار إليه جمعاً، لأنه جمع تكسير، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف، وفي عود الضمير، وفي غير ذلك، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ، ولإزالة قلق التكرار، لأنه لو جاء: أولئك المرسلون فضلنا، كان اللفظ فيه طول، وكان فيه التكرار. والالتفات في: نتلوها، وفي: فضلنا، لأنه خروج إلى متكلم من غائب، إذ قبله ذكر لفظ: الله، وهو لفظ غائب. والتضعيف في: فضلنا، للتعدية، و: على بعض، متعلق بفضلنا، قيل: والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع، أو بالخصائص كالكلام. {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة، والعائد على: من، محذوف تقديره من كلمه. وقرىء بنصب الجلالة والفاعل مستتر في: كلم، يعود على: من، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه.

{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَتٍ} وانتصاب: درجاتٍ، قيل على المصدر، لأن الدرجة بمعنى الرفعة، أو على المصدر الذي في موضع الحال، أو على الحال على حذف مضاف، أي: ذوي درجات، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعن: بلغ، أو على إسقاط حرف الجر، فوصل الفعل وحرف الجر، إما: على، أو: في، أو: إلى. ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، أي: ورفع درجات بعضهم، والمعنى على درجات بعض. {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَكُم} و: مما رزقناكم، متعلق بقوله: أنفقوا، و: ما، موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: رزقناكموه، وقيل: ما مصدرية أي: من رزقنا إياكم، و: من قبل، متعلق: بأنفقوا، أيضاً، واختلف في مدلول: مِنْ: فالأولى: للتبعيض، والثانية: لابتداء الغاية، وزعم بعضهم أنها تتعلق: برزقناكم. {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَعَةٌ} والجملة من قوله: لا بيع، في موضع الصفة، ويحتاج إلى إضمار التقدير: ولا شفاعة فيه، فحذف لدلالة: فيه، الأولى عليه. {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو: الله، أو على أنه خبر بعد خبر، أو على أنه بدل من: هو، أو من: الله تعالى، أو: على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، أو: على أنه مبتدأ والخبر: لا تأخذه، وأجودها الوصف، ويدل عليه قراءة من قرأ: الحيَّ القيومَ بالنصب، فقطع على إضمار: أمدح، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع، ولا يقال: في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر، لأن ذلك جائز حسن، تقول: زيد قائم العاقل.

وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله: الحي، على أن يكون: الحي، مبتدأ، ويجوز أن يكون خبراً عن الله، فيكون قد أخبره بعده إخباراً، على مذهب من يجيز ذلك، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم، أي: قيوم بأمر الخلق غير غافل. {له ما في السموات وما في الأرض} يصح أن يكون خبراً بعد خبر، ويصح أن يكون استئناف خبر، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها. و: ما، للعموم تشمل كل موجود، و: اللام، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى، وكرر: ما، للتوكيد. وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات: كالشمس، والقمر، والشعرى؛ والأشخاص الأرضية: كالأصنام، وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله تعالى، مربوب مخلوق. {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} و: من، رفع على الابتداء، وهو استفهام في معنى النفي، ولذلك دخلت: إلاَّ، في قوله: إلا بإذنه، وخبر المبتدأ قالوا: ذا، ويكون الذي نعتاً لذا، أو بدلاً منه، وعلى هذا الذي قالوا يكون: ذا، اسم إشارة، وفي ذلك بعد، لأن: ذا، إذا كان اسم إشارة وكان خبراً عن: من، استقلت بهما الجملة، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها.

والذي يظهر أن: من، الاستفهامية ركب معها: ذا، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن: ذا، لغو، فيكون: من ذا، كله في موضع رفع بالابتداء، والموصول بعدهما هو الخبر، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية، و: عنده، معمول: ليشفع، وقيل: يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع، فيكون التقدير: يشفع مستقراً عنده، وضعف بأن المعنى على يشفع إليه. وقيل: الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه، فشفاعة غيره أبعد، و: بإذنه، متعلق: بيشفع، والباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بالحال، أي: لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير يعود على: ما، وهم الخلق، وغلب من يعقل، وقيل: الضميران في: أيديهم وخلفهم، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: {له ما في السموات وما في الأرض} قاله ابن عطية، وجوّز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه: من ذا، من الملائكة والأنبياء. وقيل: على الملائكة، قاله مقاتل، و: ما بين أيديهم، أمر الآخرة، و: ما خلفهم، أمر الدنيا. قاله ابن عباس، وقتادة، أو العكس قاله مجاهد، وابن جريج، والحم بن عتبة، والسدّي وأشياخه. {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} و: بشيء، وبما شاء، متعلقان: بيحيطون، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل، نحو قولك: لا أمر بأحد إلاَّ بزيد، والأولى أن تقدّر مفعول شاء أن يحيطوا به، لدلالة قوله: ولا يحيطون على ذلك. {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} والهاء تعود على الله تعالى، وقيل: تعود على الكرسي، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وجواب الشرط: فقد استمسك، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه، وإن كان مستقبلاً في المعنى لأنه جواب الشرط، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه، و: بالعروة، متعلق باستمسك. {لاَ انفِصَامَ لَهَا} وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة، وقيل: من الضمير المستكن في الوثقى، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة، و: لها، في موضع الخبر، فتتعلق بمحذوف أي: كائن لها. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَتِ} وجوّزوا أن يكون: يخرجهم، حالاً والعامل فيه: ولي، وأن يكون خبراً ثانياً، وجوّزوا أن يكون: يخرجونهم، حالاً والعامل فيه معنى الطاغوت. وهو نظير ما قاله أبو عليّ: من نصب: نزّاعة، على الحال، والعامل فيها: لظى، وسنذكره في موضعه إن شاء الله و: من، و: إلى، متعلقان بيخرج.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . في: ربه، يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم، وأن يعود على النمروذ، والظاهر الأول.

{أَنْ آتَهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الظاهر أن الضمير في: آتاه، عائد على: الذي حاج، وهو قول الجمهور، و: أن آتاه، مفعول من أجله على معنيين: أحدهما: أن الحامل له على المحاجة هو إيتاؤه الملك، أبطره وأورثه الكبر، والعتوّ، فحاج لذلك. والثاني: أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر لله تعالى على إيتائه الملك، كما تقول: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ومنه: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} (الواقعة: 82) وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير: حاج وقت أن آتاه الله الملك، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف، فيمكن ذلك على أن فيه بعداً من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك. إلاَّ أن يجوز في الوقت، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء إيتاء الله الملك له، ألا ترى أن إيتاء الله الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن: أن والفعل، وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان؟ كقولك: جئت خفوق النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك؟ فلا يجوز ذلك، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز: أجيء أن يصيح الديك، ولا جئت أن صاح الديك. وقال المهدوي: يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم: أي آتاه ملك النبوّة. قال ابن عطية: وهذا تحامل من التأويل. إنتهى. والعامل في إذ حاجّ، وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من: أن آتاه، إذاً جعل بمعنى الوقت، وقد ذكرنا ضعف ذلك، وأيضاً فالظرفان مختلفان إذ وقت إيتاء الملك ليس وقت قوله: {ربي الذي يحي ويميت} وفي قول إبراهيم: {ربي الذي يحي ويميت} تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله: في ربه، عائد على إبراهيم.

و {رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ} ، مبتدأ وخبر، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته، كأنه قال: ربي الذي يحي ويميت هو متصرّف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظيمين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء، وفيه إشارة أيضاً إلى المبدأ والمعاد وفي قوله: {الذي يحي ويميت} دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر، إذا كان بمثل هذا، دل على الاختصاص، فتقول: زيد الذي يصنع كذا، أي: المختص بالصنع. {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ومجيء الفاء في: فإن، يدل على جملة محذوفة قبلها، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل الفاء، وكأن التركيب قال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس، وتقدير الجملة، والله أعلم؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك، فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، و: الباء، في بالشمس للتعدية، تقول: أتت الشمس، وأتى بها الله، أي أحياها، و: من، لابتداء الغاية. {أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} وقرأ أبو سفيان بن حسين: أوَ كالذي، بفتح الواو، وهي حرف عطف دخل عليها ألف التقرير، والتقدير: وأرأيت مثل الذي؛ ومن قرأ: أو، بحرف العطف فجمهور المفسرين أنه معطوف على قوله: {ألم تر إلى الذي حاج} على المعنى، إذ معنى: ألم تر إلى الذي؟ أرأيت كالذي حاجّ؟ فعطف قوله: أو كالذي مر، على هذا المعنى، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب قال الشاعر: تقي نقي لم يكثر غنيمة بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد المعنى في قوله: لم يكثر: ليس بمكثر: ولذلك راعى هذا المعنى فعطف عليه قوله: ولا بحقلد. وقال آخر: أجدّك لن ترى بثعيلبات أو لا ببيداء ناجية ذمولا ولا متدارك والليل طفل

ببعض نواشع الوادي حمولا المعنى: أجدّك لست برآء، ولما راعى هذا المعنى عطف عليه قوله: ولا متدارك، والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس. وقال الزمخشري، أو كالذي: معناه: أورأيت مثل الذي؟ فحذف لدلالة: ألم تر؟ عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب. انتهى. وهو تخريج حسن، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى، وقد جوّز الزمخشري الوجه الأول. وقيل: الكاف زائدة، فيكون: الذي، قد عطف على: الذي، التقدير: ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم؟ أو الذي مرّ على قرية؟ قيل: كما زيدت في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى: 11) وفي قول الراجز. فصيروا مثل كعصف مأكول ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل، ولا على العطف على المعنى، ولا على زيادة الكاف، بل تكون الكاف اسماً على ما يذهب إليه أبو الحسن، فتكون الكاف في موضع جر، معطوفة على الذي، التقدير: {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم} أو إلى مثل {كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} ؟ ومجيء الكاف اسماً فاعلة، ومبتداً ومجرورة بحرف الجر ثابت في لسان العرب، وتأويلها بعيد، فالأولى هذا الوجه الأخير، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف، حملاً على مشهور مذهب البصريين، والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن، ألا ترى في الفاعلية لمثل في قول الشاعر: وإنك لم يُفخر عليك كفاخر ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب؟ والكلام على الكاف يذكر في علم النحو.

{وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهذه الجملة في موضع الحال من الفاعل الذي في: مر، أو: من قرية، والحال من النكرة إذا تأخرت تقل، وقيل: الجملة في موضع الصفة للقرية، ويبعد هذا القول الواو، و: على، متعلقة بمحذوف إذا كان المعنى: خاوية من أهلها، أي: مستقرة على عروشها، أو: بخاوية إذا كان المعنى ساقطة. وقيل: على عروشها بدل من قوله: قرية، أي: مر على عروشها، وقيل: في موضع الصفة لقرية، أي: مر على قرية كائنة على عروشها وهي خاوية. {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} و: كم، ظرف أي: كم مدّة لبثت؟ أي: لبثت ميتاً وهو سؤال على سبيل التقرير. {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} وقرأ عبد الله: وهذا شرابك لم يتسنه، والضمير في: يتسنه مفرد، فيحتمل أن يكون عائداً على الشراب خاصة، ويكون قد حذف مثل هذه الجملة الحالية من الطعام لدلالة ما بعده عليه، ويحتمل أن يكون الطعام والشراب أفرد ضميرهما لكونهما متلازمين، فعوملا معاملة المفرد، أو لكونهما في معنى الغذاء، فكأنه قيل: وانظر إلى غذائك لم يتسنه. وقال الشاعر في المتلازمين: وكأن في العينين حب قرنفل أو سنبلاً كحلت به فانهلّت والجملة من قوله: لم يتسنه، في موضع الحال، وهي منفية: بلم، وزعم بعض أصحابنا أن إثبات الواو في الجملة المنفية بلم هو المختار، كما قال الشاعر: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سُلَّت وزعم بعضهم أنه إذا كان منفياً فالأولى أن ينفى: بلما، نحو: جاء زيد ولما يضحك، قال: وقد تكون منفية: بلم وما، نحو: قام زيد ولم يضحك، أو: ما يضحك، وذلك قليل جداً. انتهى كلامه. وليس إثبات: الواو، مع: لم، أحسن من عدمها، بل يجوز إثباتها وحذفها فصيحاً، وقد جاء ذلك في القرآن في مواضع، قال تعالى: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} (آل عمران: 174) وقال تعالى: أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء} (الأنعام: 93) ومن قال: إن النفي بلم قليل جدّاً فغير مصيب، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في باب: الحال، في منهج السالك على شرح ألفية ابن مالك} من تأليفنا. {وَلِنَجْعَلَكَءَايَةً لِلنَّاسِ} قيل: الواو، مقحمة أي: لنجعلك آية، وقيل: تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي: أريناك ذلك لتعلم قدرتنا، ولنجعلك آية للناس. وقيل: بفعل محذوف مقدر تأخيره، أي: ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. والألف واللام في: للناس، للعهد إن غني به مَن بقي مِن قومه، أو مَن كان في عصره. أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} والأظهر أن يراد عظام الحمار، والتقدير: إلى العظام منه، أو، على رأي الكوفيين، أن الألف واللام عوض من الضمير، أي: إلى عظامه، لأنه قد أخبر أنه بعثه، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتاً، ثم أعقب الأمر بالنظر بالفاء، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر.

و: كيف، منصوبة بننشزها نصب الأحوال، وذو الحال مفعول ننشزها، ولا يجوز أن يعمل فيها: انظر، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وأعربوا: كيف ننشزها، حالاً من العظام، تقديره: وانظر إلى العظام محياة، وهذا ليس بشيء، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالاً، وإنما تقع حالاً: كيف، وحدها نحو: كيف ضربت زيداً؟ ولذلك تقول: قائماً أم قاعداً؟ فتبدل منها الحال. والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة في موضع البدل من العظام، وذلك أن: انظر، البصرية تتعدى بإلى، ويجوز فيها التعليق، فتقول: انظر كيف يصنع زيد، قال تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} (الإسراء: 21) فتكون هذه الجملة في موضع نصب على المفعول: بانظر، لأن ما يتعدّى بحرف الجر، إذا علق، صار يتعدى لمفعول، تقول: فكرت في أمر زيد، ثم تقول: فكرت هل يجيء زيد؟ فيكون: هل يجيء زيد، في موضع نصب على المفعول بفكرت، فكيف، ننشزها بدل من العظام على الموضع، لأن موضعه نصب، وهو على حذف مضاف أي: فانظر إلى حال العظام كيف ننشزها، ونظير ذلك قول العرب: عرفت زيداً أبو من هو: على أحد الأوجه. فالجملة من قولك: أبو من هو في موضع البدل من قوله زيداً مفعول عرفت، وهو على حذف مضاف، التقدير: عرفت قصة زيد أبو من. وليس الاستفهام في باب التعليق مراداً به معناه، بل هذا من المواضع التي جرت في لسان العرب مغلباً عليها أحكام اللفظ دون المعنى، ونظير ذلك: أيّ، في باب الاختصاص. في نحو قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، غلب عليها أكثر أحكام النداء وليس المعنى على النداء، وقد تقدّم من قولنا، إن كلام العرب على ثلاثة أقسام: قسم يكون فيه اللفظ مطابقاً للمعنى، وهو أكثر كلام العرب. وقسم يغلب فيه أحكام اللفظ كهذا الاستفهام الواقع في التعليق، والواقع في التسوية. وقسم يغلب فيه أحكام المعنى نحو: أقائم الزيدان. وقد أمعنا الكلام على مسألة الاستفهام الواقع في التعليق في كتابنا

الكبير المسمى بالتذكرة} وهي إحدى المسائل التي سألني عنها قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري، عرف بابن دقيق العيد؛ وسألني أن أكتب له فيها، وكان سؤاله في قوله عليه السلام: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» . {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرأ الجمهور: تبين، مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس: تبين له، مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقرأ ابن السميفع: بين له، بغير تاء مبنياً لما لم يسم فاعله، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى، وقدره الزمخشري: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعني أمر إحياء الموتى، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى؛ وتفسير الإعراب أن يقدر مضمراً يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت. وقال الطبري: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل إعادته. قال ابن عطية: وهذا خطأ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه، وفسر على القول الشاذ، والاحتمال الضعيف ما حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء، ولذلك ضرب له المثل في نفسه. إنتهى.

وقال الزمخشري وبدأ به ما نصه: وفاعل تبين مضمر تقديره: فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً. إنتهى كلامه. فجعل ذلك من باب الإعمال، وهذا ليس من باب الإعمال، لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا، وأدّى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبراً، ويكون العامل الثاني معمولاً للأول، وذلك نحو قولك: جاءني يضحك زيد. فجعل في جاءني ضميراً أو في يضحك، حتى لا يكونه هذا الفعل فاصلاً، ولا يرد على هذا جعلهم {آتوني أفرغ عليه قطراً} (الكهف: 96) ولا هاؤم اقرؤا كتابيه} (الحاقة: 19) ولا تعالوا يستغفر لكم رسول الله} (المنافقون: 5) ولا يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} (النساء: 176) من الإعمال لأن هذه العوامل مشتركة بوجه مّا من وجوه الاشتراك، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو. فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشركاً بينه وبين: تبين، الذي هو العامل الأول بحرف عطف، ولا بغيره، ولا هو معمول: لتبين، بل هو معمول: لقال، وقال جواب، لما أن قلنا: إنها حرف وعاملة في، لما أن قلنا إنها ظرف، و: تبين، على هذا القول في موضع خفض بالظرف، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب: لو جاء قتلت زيداً، ولا: متى جاء قتلت زيداً، ولا: إذا جاء ضربت خالداً. ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول: أكرمت أهنت زيداً.

وقد ناقض الزمخشري في قوله: فإنه قال: وفاعل تبين مضمر، ثم قدره، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم. إلى آخره، قال: فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً، والحذف ينافي الإضمار للفاعل، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلاً، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الكسائي من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر، بل يحذف عنده الفاعل، والسماع يرد عليه. قال الشاعر: هويتني وهويت الخرد العربا أزمان كنت منوطاً بي هوى وصبا وأما على قراءة ابن عباس فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما في قراءة ابن السميفع فهو مضمر: أي: بين له هو، أي: كيفية الإحياء. وقرأ الجمهور: قال، مبنياً للفاعل، على قراءة جمهور السبعة: أعلم، مضارعاً ضميره يعود على المارّ، وقال ذلك على سبيل الاعتبار، كما أن الانسان إذا رأى شيئاً غريباً قال: لا إله إلا الله. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته، يعني يعلم عياناً ما كان يعلمه غيباً. وأما على قراءة أبي رجاء، وحمزة، والكسائي إعلم، فعل أمر من علم، فالفاعل ضمير يعود على الله تعالى، أو على الملك القائل له عن الله، ويناسب هذا الوجه الأوامر السابقة من قوله: وانظر، فقال له: إعلم، ويؤيده قراءة عبد الله والأعمش: قيل، اعلم، فبنى: قيل، لما لم يسم فاعله، والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير القول لا الجملة، وقد تقدّم الكلام على ذلك أول هذه السورة مشبعاً فأغنى عن إعادته هنا. وجوّزوا أن يكون الفاعل ضمير المار، ويكون نزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي، كأنه قال لنفسه: إعلم، ومنه: ودّع هريرة، وألم تغتمض عيناك، وتطاول ليلك، وإنما يخاطب نفسه، نزلها منزلة الأجنبي.

وروى الجعبي عن أبي بكر قال: أعلم، أمراً من أعلم، فالفاعل بقال يظهر أنه ضمير يعود على الله، أمره أن يعلم غيره بما شاهد من قدرة الله، وعلى ما جوّزوا في: اعلم الأمر، من علم يجوز أن يكون الفاعل ضمير المار. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى} والعامل في: إذ، على ما قالوا محذوف، تقديره: واذكر إذ قال، وقيل: العامل مذكور وهو: ألم تر، المعنى: ألم تر إذ قال، وهو مفعول: بتر. والذي يظهر أن العامل في: إذ، قوله {قال أو لم تؤمن} كما قررنا ذلك في قوله {وإذ قال ربك للملائكة} (البقرة: 30) وفي افتتاح السؤال بقوله: رب، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال، وليناسب قوله لنمروذ ربي الذي يحيي ويميت} لأن الرب هو الناظر في حاله، والمصلح لأمره، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء، بالكسرة، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم، وحذف حرف النداء للدّلالة عليه. و: أرني، سؤال رغبة، وهو معمول: لقال، والرؤية هنا بصرية، دخلت على رأى همزة النقل، فتعدّت لاثنين: أحدهما ياء المتكلم، والآخر الجملة الاستفهامية. فقول {كيف تحي الموت} في موضع نصب، وتعلق العرب رأى البصرية من كلامهم، أما ترى، أيّ برق هاهنا. كما علقت: نظر، البصرية. وقد تقرر. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} والواو: واو حال، دخلت عليها ألف التقرير. انتهى كلامه. وكون الواو هنا للحال غير واضح، لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب، وإذ ذاك لا بد لها من عامل، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال، ويصير التقدير: أسألت ولم تؤمن؟ أي: أسألت في هذه الحال؟.

والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية، وأن: الواو، للعطف، كما قال: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} (العنكبوت: 67) ونحوه. واعتنى بهمزة الاستفهام، فقدّمت. وقد تقدّم لنا الكلام في هذا، ولذلك كان الجواب: ببلى، في قوله قال: بلى} وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت، وإن كان بصورة النفي، تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض، فتجيبه على صورة النفي، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات، وهذا مما قررناه، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى، ولذلك علة ذكرت في علم النحو، وعلى ما قاله ابن عطية من أن: الواو، للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله: بلى، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه، فالجواب إنما يكون في التصديق: بنعم، وفي غير التصديق: بلا، أما أن يجاب: ببلى، فلا يجوز، وهذا على ما تقرر في علم النحو. {قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} واللام في قوله: ليطمئن، متعلقة بمحذوف بعد لكن، التقدير: ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل لكن حتى يصح الاستدراك، التقدير: قال: بلى أي آمنت، وما سألت عن غير إيمان، ولكن سألت ليطمئن قلبي. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} و: اجعل، هنا يحتمل أن تكون بمعنى: ألق، فيتعدى لواحد، ويتعلق على كل جبل. باجعل، ويحتمل أن يكون بمعنى: صير، فيتعدى إلى اثنين، ويكون الثاني على كل جبل، فيتعلق بمحذوف.

{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} وانتصاب: سعياً، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور، أي: ساعيات، وروي عن الخليل: أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعياً. فعلى هذا يكون مصدر الفعل محذوف، هو في موضع الحال من الكاف، وكان المعنى: يأتينك وأنت ساع إليهنّ، أي يكون منهنّ إتيان إليك، ومنك سعي إليهنّ، فتلتقي بهنّ. والوجه الأول أظهر، وقيل: انتصب: سعياً، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان.

{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَلِيمٌ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُم بِالْمَنِّ وَالأٌّذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .

و {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} في موضع الصفة: لسنابل، فتكون في موضع جر، أو: لسبع، فيكون في موضع نصب، وترتفع على التقديرين: مائة، على الفاعل لأن الجار قد اعتمد بكونه صفة، وهو أحسن من أن يرتفع على الابتداء، و: في كل، خبره، والجملة صفة، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولا بد من تقدير محذوف، أي: في كل سنبلة منها، أي: من السنابل. وقرىء شاذاً: مائة حبة، بالنصب، وقدر بأخرجت، وقدره ابن عطية بأنبتت، والضمير عائد على الحبة، وجوز أن ينتصب على البدل من: {سبع سنابل} وفيه نظر، لأنه لا يصح أن يكون بدل كل من كل، لأن {مائة حبة} ليس نفس {سبع سنابل} ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل، لأنه لا ضمير في البدل يعود على المبدل منه، وليس: {مائة حبة} بعضاً من {سبع سنابل} لأن المظروف ليس بعضاً من الظرف، والسنبلة ظرف للحب. ألا ترى إلى قوله {في كل سنبلة مائة حبة} ولا يصح أن يكون بدل اشتمال لعدم عود الضمير من البدل على المبدل منه، ولأن المشتمل على مائة حبة هو سنبلة من سبع سنابل، إلاَّ إن قيل: المشتمل على المشتمل على الشيء هو مشتمل على ذلك الشيء، والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل، فالسبع مشتملة على حب السنبلة، فإن قدرت في الكلام محذوفاً. وهو: أنبتت حب سبع سنابل، جاز أن يكون: {مائة حبة} بدل بعض من كل على حذف: حب، وإقامة سبع مقامه.

و {الَّذِينَ يُنفِقُونَ} مبتدأ والجملة من قوله: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} خبر، ولم يضمن المبتدأ معنى اسم الشرط، فلم تدخل الفاء في الخبر، وكان عدم التضمين هنا لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها، والجملة التي قبلها أخرجت مخرج الشيء الثابت المفروغ منه، وهو نسبة إنفاقهم بالحبة الموصوفة، وهي كناية عن حصول الأجر الكثير، فجاءت هذه الجملة، كذلك أخرج المبتدأ والخبر فيهما مخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع ما قبله، بخلاف ما إذا دخلت الفاء فإنها مشعرة بترتب الخبر على المبتدأ، واستحقاقه به. وقيل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين ينفقون {ولهم أجرهم} في موضع الحال، وهذا ضعيف، أعني: جعل لهم أجرهم في موضع الحال، بل الأولى إذا أعرب: الذين، خبر مبتدأ محذوف أن يكون: لهم أجرهم، مستأنفاً وكأنه جواب لمن قال: هل لهم أجر؟ وعند من أجرهم؟ فقيل {لهم أجرهم عند ربهم} وعطف: بثم، التي تقتضي المهلة، لأن من أنفق في سبيل الله ظاهراً لا يحصل منه غالباً المنّ والأذى، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى، لا يمنّ ولا يؤذي على الفور، فلذلك دخلت: ثم، مراعاة للغالب. وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق، والمقارنين له حكم المتأخرين. {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} وارتفاع: قول، على أنه مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها، ومغفرة معطوف على المبتدأ، فهو مبتدأ ومسوغ جواز الابتداء به وصف محذوف أي: ومغفرة من المسؤول، أو: من السائل. أو: من الله، على اختلاف الأقوال. و: خير، خبر عنهما.

وقال المهدوي وغيره: هما جملتان، وخبر: قول، محذوف، التقدير: قول معروف أولى ومغفرة خير. قال ابن عطية: وفي هذا ذهاب ترويق المعنى، وإنما يكون المقدّر كالظاهر. إنتهى. وما قاله حسن، وجوز أن يكون: قول معروف، خبر مبتدأ محذوف تقديره: المأمور به قول معروف، ولم يحتج إلى ذكر المن في قوله: يتبعها، لأن الأذى يشمل المن وغيره كما قلنا. {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُم بِالْمَنِّ وَالأٌّذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} وانتصاب رئاء على أنه مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} هذا تشبيه ثان، واختلف في الضمير في قوله: {فمثله} فاظاهر أنه عائد على {الذي ينفق ماله رائاء الناس} لقربه منه، ولإفراده ضرب الله لهذا المنافق المرائي، أو الكافر المباهي. {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} اختلف في الضمير في: يقدرون، فقيل: هو عائد على المخاطبين في قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم} ويكون من باب الالتفات. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} وجوّزوا في: ابتغاء أن يكون مصدراً في موضع الحال. أي: مبتغين، وأن يكون مفعولاً من أجله، وكذلك: وتثبيتاً. قال ابن عطية: ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولاً من أجله، لعطف، وتثبيتاً عليه، ولا يصح في: وتثبيتاً أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. وقال مكي في «المشكل» : كلاهما مفعول من أجله، وهو مردود بما بيناه. إنتهى كلامه.

وتثبيت، مصدر: ثبت، وهو متعد، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره الثواب من الله تعالى، أي: وتثبيتاً وتحصيلاً من أنفسهم الثواب على تلك النفقة، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملاً على الإنفاق في سبيل الله. ومن قدر المفعول غير ذلك أي: وتثبيتاً من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، وجعله من أنفسهم على أن تكون: من، بمعنى: اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: فعلت ذلك كسراً من شهوتي، أي: لشهوتي، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له. قال الشعبي، وقتادة، والسدي، وأبو صالح، وابن زيد: معناه وتيقناً، أي: إن نفوسهم لها بصائر متأكدة، فهي تثبتهم على الإنفاق. ويؤكده قراءة من قرأ: أو تبييناً من أنفسهم، وقال قتادة أيضاً: واحتساباً من أنفسهم. وقال الشعبي أيضاً والضحاك، والكلبي: وتصديقاً، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم. وقال ابن جبير، وأبو مالك: تحقيقاً في دينهم. وقال إبن كيسان: إخلاصاً وتوطيداً لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم. وقال الزجاج: ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها. وقال الشعبي أيضاً: عزماً. وقال يمان أيضاً: بصيرة. وقال مجاهد، والحسن: معناه أنهم يثبتون، أي يضعون صدقاتهم. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه، وإن خالطه شك أمسك. وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله: وتثبيتاً. بمعنى: تثبتاً، فيكون لازماً. قال: والمصادر قد تختلف، ويقع بعضها موقع بعض، ومنه قوله: {وتبتل إليه تبتيلاً} (المزمل: 8) أي تبتلاً وردّ هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدّم على المصدر نحو الآية، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل، تقول: إن ثبت فعل لازم معناه: تمكن، ورسخ، وتحقق. وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه: مكن، وحقق. قال ابن رواحة يخاطب رسول الله: فثبَّت الله ما آتاك من حسن

تثبيت عيسى ونصراً كالذي نصروا} وإذا كان التثبيت مسنداً إليهم كانت: من، في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في: هزّ من عطفه، و: حرك من نشاطه، وإن كان التثبيت مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت: من، في موضع نصب أيضاً صفة للمصدر تقديره: كائناً من أنفسهم. قال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها {وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} (الصف: 11) إنتهى. وقرأ عاصم الجحدري {كمثل حبة} بالحاء والباء في: بربوة، ظرفية، وهي في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. {أَصَابَهَا وَابِلٌ} جملة في موضع الصفة لجنة، وبدىء بالوصف بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة، وهذا الأكثر في لسان العرب، وبدىء بالوصف الثابت، وهو: كونها بربوة، ثم بالوصف العارض، وهو {أصابها وابل} وجاء في وصف صفوان قوله: عليه تراب، ثم عطف عليه بالفاء، وهنا لم يعطف، بل أخرج صفة، وينظر ما الفرق بين الموضعين، وجوَّز أن يكون: {أصابها وابل} حالاً من جنة، لأنها نكرة، وقد وصفت حالاً من الضمير في الجار والمجرور. {فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} آتت بمعنى: أعطت، والمفعول الأول محذوف، التقدير: فآتت صاحبها، أو: أهلها أكلها. كما حذف في قوله {كمثل جنة} أي: صاحب أو: غارس جنة، ولأن المقصود ذكر ما يثمر لا لمن تثمر، إذ هو معلوم، ونصب: ضعفين، على الحال، ومن زعم أن: ضعفين، مفعول ثان: لآتت، فهو ساه، وليس المعنى عليه، وكذلك قول من زعم أن آتت بمعنى أخرجت، وأنها تتعدى لواحد، إذ لا يعلم ذلك في لسان العرب، ونسبة الإيتاء إليها مجاز، والأكل بضم الهمزة الشيء المأكول، وأريد هنا الثمر، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الدابة، إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة.

{فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} وقوله: فطل، جواب للشرط، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، أي: فطل يصيبها، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط. وذكر بعضهم أن هذا من مسوّغات جواز الابتداء بالنكرة، ومثله ما جاء في المثل: إن ذهب عير فعير في الرباط. وقدره غير المبرد: خبر مبتدأ محذوف. أي: فالذي يصيبها، أو: فمصيبها طلٌ، وقدره بعضهم فاعلاً، أي فيصيبها طل، وكل هذه التقادير سائغة. والآخر يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جواباً، وإبقاء معمول لبعضها، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ، كقوله تعالى {ومن عاد فينتقم الله منه} (المائدة: 95) أي فهو ينتقم، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلاَّ إلى حذف أحد جزئي الجملة، ونظير ما في الآية قوله: ألا إن لا تكن إبل فمغزى كأن قرون جلتها العصيّ} {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ الزهري، بالياء، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين، ويحتمل أن يكون عاماً فلا يختص بالمنافقين، بل يعود على الناس أجمعين. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} والهمزة للاستفهام، والمعنى على التبعيد والنفي، أي: ما يود أحد ذلك؟ و: أحد، هنا ليس المختص بالنفي وشبهه، وإنما المعنى: أيود واحد منكم؟ على طريق البدلية.

{لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ} وهذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر، فعلى مذهب الأخفش: من، زائدة، التقدير: له فيها كل الثمرات، على إرادة التكثير بلفظ العموم، لا أن العموم مراد، ولا يجوز أن تكون زائدة على مذهب الكوفيين، لأنهم شرطوا في زيادتها أن يكون بعدها نكرة، نحو: قد كان من مطر، وأما على مذهب جمهور البصريين، فلا يجوز زيادتها، لأنهم شرطوا أن يكون قبلها غير موجب، وبعدها نكرة، ويحتاج هذا إلى تقييد، قد ذكرناه في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا. ويتخرج مذهب جمهور البصريين على حذف المبتدأ المحذوف تقديره، له فيها رزق، أو: ثمرات من كل الثمرات. ونظيره في الحذف قول الشاعر: كأنك من جمال بني أقيش تقعقع خلف رجليه بشن التقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش، حذف: جمل، لدلالة: من جمال، عليه، كما حذف ثمرات لدلالة: من كل الثمرات، عليه، وكذلك قوله تعالى {وما منا إلاَّ له مقام معلوم} (الصافات: 165) أي: وما أحد منا، فأحد مبتدأ محذوف، و: منا، صفة، وما بعد إلاَّ جملة خبر عن المبتدأ. {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} الظاهر أن الواو للحال، وقد مقدرة أي وقد أصابه الكبر، كقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} (البقرة: 28) وقعدوا لو أطاعونا} (آل عمران: 168) أي: وقد كنتم، و: قد قعدوا، وقيل: معناه. ويصيبه، فعطف الماضي على المضارع لوضعه موضعه وقال الفراء: يجوز ذلك في: يود، لأنه يتلقى مرة بأن، ومرة بأو، فجاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر. قال الزمخشري: وقيل، يقال: وددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة، وأصابه الكبر؟ انتهى.

وظاهر كلامه أن يكون: وأصابه، معطوفاً على متعلق: أيود، وهو: أن تكون، لأنه في معنى: لو كانت، إذ يقال: أيود أحدكم لو كانت؟ وهذا ليس بشيء، لأنه ممتنع من حيث: أن يكون، معطوفاً على: كانت، التي قبلها لو، لأنه متعلق الود، وأما: وأصابه الكبر، فلا يمكن أن يكون متعلق الود، لأن إصابة الكبر لا يوده أحد، ولا يتمناه، لكن يحمل قول الزمخشري على أنه: لما كان: أيود، استفهاماً، معناه الإنكار، جعل متعلق الودادة الجمع بين الشيئين، وهما كون جنة له، وإصابة الكبر إياه، لا أن كل واحد منهما يكون مودوداً على انفراده، وإنما أنكر وداده الجمع بينهما، وفي لفظ الإصابة معنى التأثير، وهو أبلغ من: وكبر، وكذلك: بربوة أصابها وابل، وعليه تراب فأصابه وابل، ولم يأت: وبلت، ولا توبل.

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأٌّرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ * وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأٌّرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} . و: من، للتبعيض، وهي في موضع المفعول، و: ما، في {ما كسبتم} موصولة والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية، فيحتاج أن يكون المصدر مؤولاً بالمفعول، تقديره: من طيبات كسبكم، أي: مكسوبكم.

{وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} و: منه متعلق بقوله: تنفقون، والضمير في: منه، عائد على الخبيث. و: تنفقون، حال من الفاعل في: تيمموا، قيل: وهي حال مقدرة، لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، لأن في الكلام ضميراً يعود عليه، وأجاز قوم أن يكون الكلام في قوله: الخبيث، ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث، فقال: تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلاَّ إذا أغمضتم، أي تساهلتم. {وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ} . وقيل: هذه الجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: الواو للحال، فالجملة في موضع نصب. والهاء في: بآخذيه، عائدة على الخبيث، وهي مجرورة بالإضافة، وإن كانت من حيث المعنى مفعولة. قال بعض المعربين: والهاء في موضع نصب: بآخذين، والهاء والنون لا يجتمعان، لأن النون زائدة، وهاء الضمير زائدة ومتصلة كاتصال النون، فهي لا تجتمع مع المضمر المتصل. إنتهى كلامه. وهو قول الأخفش: أن التنوين والنون قد تسقطان للطافة الضمير لا للإضافة، وذلك في نحو: ضاربك، فالكاف ضمير نصب، ومذهب الجمهور أنه لا يسقط شيء منها للطافة الضمير، وهذا مذكور في النحو. وقد أجاز هشام: ضاربنك، بالتنوين، ونصب الضمير، وقياسه جواز إثبات النون مع الضمير، ويمكن أن يستدل له بقوله: هم الفاعلون الخير والآمرونه وقوله: ولم يرتفق والناس محتضرونه

{إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} موضع أن نصب أو خفض عند من قدره إلاَّ بأن تغمضوا، فحذف الحرف، إذ حذفه جائز مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وهو موضع الحال، وقد قدمنا قبل، أن سيبويه لا يجيز انتصاب أن والفعل مقدراً بالمصدر في موضع الحال، وقال الفراء: المعنى معنى الشرط والجزاء، لأن معناه إن أغمضتم أخذتم، ولكن إلاَّ وقعت على أن ففتحتها، ومثله: إلا أن يخافه و {إلا أن يعفون} (البقرة: 237) هذا كله جزاء، وأنكر أبو العباس وغيره قول الفراء، وقالوا: أن، هذه لم تكن مكسورة قط، وهي التي تتقدّر، هي وما بعدها، بالمصدر، وهي مفتوحة على كل حال، والمعنى: إلاَّ بإغماضكم. وقرأ الجمهور: تغمضوا، من أغمض، وجعلوه مما حذف مفعوله، أي: تغمضوا أبصاركم أو بصائركم، وجوزوا أن يكون لازماً مثل: أغضى عن كذا. {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} قرأ الجمهور مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهو ضمير: من، وهو المفعول الأول: ليؤت. وقرأ يعقوب: ومن يؤت، بكسر التاء مبنياً للفاعل. قال الزمخشري: بمعنى ومن يؤته الله. انتهى. فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك، ليس في يؤت ضمير نصب حذف، بل مفعوله مقدّم بفعل الشرط، كما تقول: أياً تعط درهماً أعطه درهماً. وقرأ الأعمش: ومن يؤته الحكمة، بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول: ليؤت، والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في: يؤت، عائد على الله تعالى. وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى، وللاعتناء بها، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها.

{فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} هذا جواب الشرط، والفعل الماضي المصحوب: بقد، الواقع جواباً للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ، مستقبل المعنى. كهذا. فهو الجواب حقيقة، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى، كقوله تعالى {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} (فاطر: 4) فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط، لأن الشرط مستقبل، وما ترتب على المستقبل مستقبل، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف، ودل هذا عليه، التقدير: وإن يكذبوك فتسلّ، فقد كذبت رسل من قبلك، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم. وأيضاً ففي تقديره: خيراً كثيراً أي كثير، حذف أي الصفة وإقامة المضاف إليه مقامها، وقد حذف الموصوف به، أي: فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل. {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَتِ} وقيل الألف واللام للعهد، فتصرف إلى المفروضة.

{فَنِعِمَّا هِىَ} الفاء جواب الشرط، و: نعم، فعل لا يتصرف، فاحتيج في الجواب إلى الفاء والفاعل بنعم مضمر مفسر بنكرة لا بتكون مفردة في الوجود نحو: شمس وقمر. و: لا، متوغلة في الإبهام نحو غير. ولا أفعل التفضيل نحو أفضل منك، وذلك نحو: نعم رجلاً كزيد، والمضمر مفرد وإن كان تمييزه مثنى أو مجموعاً، وقد أعربوا: ما، هنا تمييزاً لذلك المضمر الذي في نعم، وقدروه بشيئاً: فما، نكرة تامة ليست موصوفة ولا موصولة، وقد تقدّم الكلام على: ما، اللاحقة لهذين الفعلين، أعني: نعم وبئس، عند قوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا} (البقرة: 90) وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وهي: ضمير عائد على الصدقات، وهو على حذف مضاف أي: فنعما، إبداؤها، ويجوز أن لا يكون على حذف مضاف، بل يعود على الصدقات بقيد وصف الإبداء، والتقدير في: فنعما هي، فنعما الصدقات المبدأة وهي مبتدأ على أحسن الوجوه، وجملة المدح خبر عنه، والرابط هو العموم الذي في المضمر المستكن في: نعم. {وَإِن تُخْفُوهَا} الضمير المنصوب في: تخفوها، عائد على الصدقات، لفظاً ومعنى، بأي تفسير فسرت الصدقات، وقيل: الصدقات المبداة هي الفريضة، والمخفاة هي التطوّع، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظاً لا معنى، فيصير نظير: عندي درهم ونصفه، أي: نصف درهم آخر، كذلك: وإن تخفوها، تقديره: وإن تخفوا الصدقات غير الأولى، وهي صدقة التطوّع، وهذا خلاف الظاهر، والأكثر في لسان العرب، وإنما احتجنا في: عندي درِهم ونصفه، إلى أن نقول: إن الضمير عائد على الدرهم لفظاً لا معنى لاضطرار المعنى إلى ذلك، لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهماً ونصف هذا الدرهم الذي عنده. وكذل قول الشاعر: كأن ثياب راكبه بريح خريق وهي ساكنة الهبوب يريد: ريحاً أخرى ساكنة الهبوب. {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ} فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء.

{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} الفاء جواب الشرط، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله: {وَإِن تُخْفُوهَا} التقدير: فالإخفاء خير لكم، ويحتمل أن يكون: خير، هنا أريد به خير من الخيور، و: لكم، في موضع الصفة، فيتعلق بمحذوف. {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} قرأ بالواو الجمهور في: ويكفر، وبإسقاطها وبالياء والتاء والنون، وبكسر الفاء وفتحها، وبرفع الراء وجزمها ونصبها، فإسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء، ووجهه أنه بدل على الموضع من قوله: فهو خير لكم لأنه في موضع جزم، وكأن المعنى: يكن لكم الإخفاء خيراً من الإبداء، أو على إضمار حرف العطف: أي ويكفر. وبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله وكذلك قرأ عكرمة إلا أنه فتح الفاء. وقرأ ابن هرمز، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة، وشهر ابن حوشب: بالتاء ونصب الراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون والجزم، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء. فالأظهر أن الفعل مسند إلى الله تعالى، كقراءة من قرأ: ونكفر، بالنون فإنه ضمير لله تعالى بلا شك، وقيل: يعود على الصرف، أي صرف الصدقات، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي: ويكفر إخفاء الصدقات ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز لأنه سبب التكفير، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف، أي: ونحن نكفر، أي: وهو يكفر، أي: الله. أو الإخفاء أي: وهي تكفر أي: الصدقة.

ويحتمل أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام، ويحتمل أن يكون معطوفاً على محل ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعاً، كقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} (المائدة: 95) ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء، إذ هي في موضع جزم، كقوله: من يضلل الله فلا هادي} (الأعراف: 186) . ونذرهم، في قراءة من جزم، ونذرتم، ومن نصب الراء فبإضمار: أن، وهو عطف على مصدر متوهم، ونظيره قراءة من قرأ {يحاسبكم به الله فيغفر} (البقرة: 284) بنصب الراء، إلاَّ أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله: فهو خير لكم، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله: يحاسبكم، فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران. وقال الزمخشري: ومعناه: وإن تخفوها يكن خيراً لكم، وأن نكفر عنكم. إنتهى. وظاهر كلامه هذا أن تقديره؛ وأن نكفر، يكون مقدّراً بمصدر، ويكون معطوفاً على: خيراً، خبر يكن التي قدرها كأنه قال: يكن الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً، فيكون: أن يكفر في موضع نصب. والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع، تقديره من المعنى، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدّثنا، فالتقدير: ما يكون منك إتيان فحديث، وكذلك إن تجيء وتحسن إلي أحسن إليك، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك. وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط. كالتقدير الذي قدّرناه في: {يحاسبكم به الله} } (البقرة: 284) ، في قراءة من نصب، فيغفر، فعلى هذ يكون التقدير: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير. وقال المهدوي: في نصب الراء: هو مشبه بالنصب في جواب الإستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام.

ونقول: إن الرفع أبلغ وأعم، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني، والرفع بدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات، أبديت أو أخفيت، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله، ولا يختص التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصصه به، ولا يمكن أن يقال: إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته، فقد صار التكفير شاملاً للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها، وإن كان الإخفاء خيراً من الإبداء. و: من، في قوله: من سيئآتكم، للتبعيض، لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات. وحكى الطبري عن فرقة قالت: من، زائدة في هذا الموضع. قال ابن عطية: وذلك منهم خطأ، وقول من جعلها سببية وقدر: من أجل ذنوبكم، ضعيف. {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} وانتصاب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال تقديره: مبتغين. {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} جملة حالية، العامل فيها يوفَّ. {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} و: للفقراء، في موضع الخبر لمبتدأ محذوف، وكأنه جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها؟ فقيل: للفقراء، أي: هي للفقراء. فبين مصرف النفقة. وقيل: تتعلق اللام بفعل محذوف، تقديره: أعجبوا للفقراء، أو اعمدوا للفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء، وأبعد القفال في تقدير: إن تبدوا الصدقات للفقراء، وكذلك من علقه بقوله: {وما تنفقوا من خير} وكذلك من جعل: للفقراء، بدلاً من قوله: فلأنفسكم، لكثرة الفواصل المانعة من ذلك. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأٌّرْضِ} وهذه الجملة المنفية في موضع الحال، أي: أحصروا عاجزين عن التصرف. ويجوز أن تكون مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب.

{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} . قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بفتح السين حيث وقع، وهو القياس، لأن ماضيه على فَعِلَ بكسر العين. وقرأ باقي السبعة بكسرها، وهو مسموع في ألفاظ، منها: عمد يعمد ويعمد، وقد ذكرها النحويون، والفتح في السين لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، والمعنى: أنهم لفرط انقباضهم، وترك المسألة، واعتماد التوكل على الله تعالى، يحسبهم من جَهِلَ أحوالهم أغنياء، و: من، سببية، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف، ولا يسأل، ويتعلق، بيحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل، لأن فاعل يحسب هو: الجاهل، وفاعل التعفف هو: الفقراء. وهذا الشرط هو على الأصح، ولو لم يكن هذا الشرط منخرماً لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا المفعول له، لأنه معرف بالألف واللام، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب، وإن كان يجوز نصبه، لكنه قليل كما أنشدوا: لا أقعد الجبن عن الهيجاء

أي: للجبن، وإنما عرف المفعول له، هنا لأنه سبق منهم التعفف مراراً، فصار معهوداً منهم. وقيل: من، لابتداء الغاية، أي من تعففهم ابتدأت محسبته، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء مال، فمحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، وكونها للسبب أظهر، ولا يجوز أن تتعلق: من، بأغنياء، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أن المعنى: حالهم يخفى على الجاهل به، فيظن أنهم أغنياء، وعلى تعليق: من، بأغنياء يصير المعنى: أن الجاهل يظن أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغني بالتعفف فقير من المال، وأجاز ابن عطية أن تكون: من، لبيان الجنس، قال: يكون التعفف داخلاً في المحسبة، أي: أنهم لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل. وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة. فمن، لبيان الجنس على هذا التأويل. إنتهى. وليس ما قاله من أن: من، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس، لأن لها اعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدّر بموصول، وما دخلت عليه يحصل خبر مبتدأ محذوف، نحو: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) التقدير: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. ولو قلت هنا: يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف، لم يصح هذا التقدير، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف، لا غنى بالمال. فتسمى: من، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية، لكنها تتعلق: بأغنياء، لا: بيحسبهم، ويحتمل أن يكون: يحسبهم، جملة حالية، ويحتمل أن يكون مستأنفة. {تَعْرِفُهُم بِسِيمَهُمْ} والباء متعلقة: بتعرفهم، وهي للسبب، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها، من الحالية، ومن الاستئناف.

{لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً، وأن تكون مستأنفة. ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال لذي حالٍ، وهي مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو. وجوزوا في إعراب: إلحافاً أن يكون مفعولاً من أجله، وأن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه: يسألون، فكأنه قال: لا يلحفون. وأن يكون مصدراً في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين. {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . والباء في: بالليل، ظرفية، وانتصاب: سراً وعلانية، على أنهما مصدران في موضع الحال أي: مسرين ومعلنين، أو: على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه، أو: نعتان لمصدر محذوف أي: إنفاقاً سراً، على مشهور الإعراب في: قمت طويلاً، أي قياماً طويلاً. {فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدّم تفسير بهذا فلا نعيده، ودخلت: الفاء في فلهم، لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه. قال ابن عطية: وإنما يوجد الشبه، يعني بين الموصول واسم الشرط، إذا كان: الذي، موصولاً بفعل، وإذا لم يدخل على: الذي، عامل يغير معناه. إنتهى. فحصر الشبه فيما إذا كان: الذي، موصولاً بفعل، وهذا كلام غير محرر، إذ ما ذكر له قيود. أولها: أن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.

الثاني: قوله موصولاً بفعل، فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يكون قابلاً لأداة الشرط، فلو قلت: الذي يأتيني، أو: لما يأتيني، أو: ما يأتيني، أو: ليس يأتيني، فله درهم، لم يجز لأداة الشرط، لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك، وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك، بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك، فمتى كانت الصلة واحداً منهما جاز دخول الفاء. وقوله: وإذا لم يدخل على: الذي، عامل يغير عبارة غير مخلصة، لأن العامل الداخل عليه كائناً ما كان لا يغير معنى الموصول، إنما ينبغي أن يقول: معنى جملة الابتداء في الموصول، وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من: تمن، أو تشبيه، أو ظن، أو غير ذلك. لو قلت: الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز، وكان ينبغي أيضاً لابن عطية أن يذكر أن شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقاً بالصلة، نحو ما جاء في الآية، لأن ترتب الأجر إنما هو على الإنفاق. ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ يستدعي كلاماً طويلاً، وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل، قد ذكرنا ذلك في كتاب «لتذكرة» من تأليفنا. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} .

و: لا يقومون، خبر عن: الذين، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة حالية، وهو بعيد جداً، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه إلاَّ كما يقوم الكاف في موضع الحال، أو نعتاً لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبويه وغيره، وتقدم في مواضع. و: ما، فيها وجهان {الأول} : أنها مصدرية، أي: كقيام الذي، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلاَّ كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان. قيل: معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهراً لبطن، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره. والوجه الثاني: أن: ما، بعد: إلاَّ، لا يتعلق بما قبلها، إلاَّ إن كان في حيز الاستثناء، وهذا ليس في حيّز الاستثناء، ولذلك منعوا أن يتعلق {بالبينات والزبر} (آل عمران: 184) بقوله: وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً} (يوسف: 109) وأن التقدير: ما أرسلنا بالبينات والزبر إلاَّ رجالاً. {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} وقيل: الضمير يعود على: ما سلف، أي في العفو عنه، وإسقاط التبعة فيه، وقيل: يعود على ذي الربا، أي: في أن يثبته على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية. قاله ابن جبير، ومقاتل، وقيل: يعود على الربا أي في إمرار تحريمه، أو غير ذلك، وقيل: في عفو الله من شاء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي.

{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . فهذا كما ذكر إلاَّ أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع، فله أن يقول: لما لم يكن ذلك لازماً في النصب والجر، لم يكن ناقضاً لما ذكروا، ونقول: إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للإتباع، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة يغزو. فيظهر منه أن الباء في: {بحرب} ظرفية. أي: فأذنوا في حرب، كما تقول: أذن في كذا، ومعناه أنه سوغه ومكن منه. {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} قرأ الجمهور الأول مبنياً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول، أي: لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال، وقيل: بالمطل. وقرأ أبان، والمفضل، عن عاصم الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله: وإن تبتم، في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله. والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة، وقيل: الجملة حال من المجرور في: لكم، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل، قاله الأخفش.

{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وقرأ الجمهور: ذو عسرة، على أن: كان، تامة، وهو قول سيبويه، وأبي علي، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون: كان، ناقصة هنا. وقدّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر، وقدر أيضاً: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق، وحذف خبر كان لا يجوز عند اضحابنا، لا اقتصاراً ولا اختصاراً لعلة ذكروها في النحو. {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وقرأ يعقوب، وأبو عمرو: ترجعون، مبنياً للفاعل، وخبر عباس عن أبي عمرو، وقرأ باقي السبعة مبنياً للمفعول وقرأ الحسن: يرجعون، على معنى يرجع جميع الناس، وهو من باب الالتفات.

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاٍّخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْئَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَدَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَنَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَوتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن

يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} . وقرىء شاذاً بإسكان هاء: هو، وإن كان قد سبقها ما ينفصل، إجراء للمنفصل مجرى المتصل بالواو والفاء واللام، نحو: وهو، فهو، لهو. وهذا أشذ من قراءة من قرأ: ثم هو يوم القيامة، لأن ثم شاركت في كونه للعطف، وأنها لا يوقف عليها فيتم المعنى. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} . الضمير في وليه عائد على أحد هؤلاء الثلاثة، وهو الذي عليه الحق، وتقدّم تفسير ابن عطية للولي. وقال الزمخشري: الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يملّ عنه. وهو يصدّقه. وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه يعود على الحق، فيكون الولي هو الذي له الحقّ. وروي ذلك عن ابن عباس والربيع. و: بالعدل، متعلق بقوله: فليملل، ويحتمل أن تكون الباء للحال. {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} الضمير عائد على الشهيدين أي: فإن لم يكن الشهيدان رجلين.

وهذا لا يتم إلاَّ على اعتقاد أن الضمير في: يكونا، عائد على: شهيدين، بوصف الرجولية، وتكون: كان، تامّة، ويكون: رجلين، منصوباً على الحال المؤكد، كقوله: {فإن كانتا اثنتين} (النساء: 176) على أحسن الوجهين. {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالشاهد، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: فرجل وامرأتان يشهدون، أو: فاعل، أي فليشهد رجل، أو: مفعول لم يسم فاعله، أي فليستشهد، وقيل: المحذوف فليكن، وجوّز أن تكون تامّة، فيكون رجل فاعلاً، وأن تكون ناقصة، ويكون خبرها محذوفاً وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصاراً ولا اختصاراً. وقرىء شاذاً: وامرأتان، بهمزة ساكنة، وهو على غير قياس، ويمكن أن سكنها تخفيفاً لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر: يقولون جهلاً ليس للشيخ عيّل لعمري لقد أعيَلتُ وأن رقوبُ {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} قيل: هذا في موضع الصفة لقوله: {فرجل وامرأتان} وقيل: هو بدل من قوله: رجالكم، على تكرير العامل، وهما ضعيفان، لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين، فعري عنه: رجل وامرأتان، والذي يظهر أنه متعلق بقوله: واستشهدوا. {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاٍّخْرَى} قرأ الأعمش، وحمزة: إن تضل بكسر الهمزة، جعلها حرف شرط، فتذكر، بالتشديد ورفع الراء وجعله جواب الشرط.

والجملة الشرطية من قوله {أن تضل إحداهما فتذكر} على قراءة الأعمش وحمزة قال ابن عطية: في موضع رفع بكونه صفة للمذكر، وهما المرأتان. انتهى. كان قد قدم أن قوله {ممن ترضون من الشهداء} في موضع الصفة لقوله {فرجل وامرأتان} فصار نظير: جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان، وفي جواز مثل هذا التركيب نظر، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم حبليان على عقلاء، وأما على قول من أعرب: ممن ترضون، بدلاً من: رجالكم، وعلى ما اخترناه من تعلقه بقوله: واستشهدوا، فلا يجوز أن تكون جملة الشرط صفة لقوله: وامرأتان، للفصل بين الموصوف والصفة بأجنبي، وأما: أن تضل، بفتح الهمزة، فهو في موضع المفعول من أجله، أي لأن تضل على تنزيل السبب، وهو الإضلال منزلة المسبب عنه، وهو الإذكار، كما ينزل المسبب منزلة السبب لالتباسهما واتصالهما، فهو كلام محمول على المعنى، أي: لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يطرق العدو فأدفعه، ليس إعداد الخشبة لأجل الميل إنما إعدادها لإدعام الحائط إذا مال، ولا يجوز أن يكون التقدير: مخالفة أن تضل، لأجل عطف فتذكر عليه.

ولما أبهم الفاعل في: أن تضل، بقوله: إحداهما، أبهم الفاعل في: فتذكر، بقوله: إحداهما، إذ كل من المرأتين يجوز عليها الضلال، والإذكار، فلم يرد: بإحداهما، معيَّنة. والمعنى: إن ضلت هذه أذكرتها هذه، وإن ضلت هذه أذكرتها هذه، فدخل الكلام معنى العموم، وكأنه قيل: من ضل منهما أذكرتها الأخرى، ولو لم يذكر بعد: فتذكر، الفاعل مظهراً للزم أن يكون أضمر المفعول ليكون عائداً على إحداهما الفاعل بتضل، ويتعين أن يكون: الأخرى، هو الفاعل، فكان يكون التركيب: فتذكرها الأخرى. وأما على التركيب القرآني فالمتبادر إلى الذهن أن: إحداهما، فاعل تذكر، والأخرى هو المفعول، ويراد به الضالة، لأن كلاًّ من الإسمين مقصور، فالسابق هو الفاعل، ويجوز أن يكون: إحداهما، مفعولاً، والفاعل هو الأخرى لزوال اللبس، إذ معلوم أن المذكرة ليست الناسية، فجاز أن يتقدّم المفعول ويتأخر الفاعل، فيكون نحو: كسر العصا موسى، وعلى هذا الوجه يكون قد وضع الظاهر موضع المضمر المفعول، فيتعين إذ ذاك أن يكون الفاعل هو: الأخرى، ومن قرأ: أن، بفتح الهمزة و: فتذكر، بالرفع على الاستئناف، قيل: وقال: إن تضل إحداهما، المعنى: أن النسيان غالب على طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان عن المرأة الواحدة، فأقيمت المرأتان مقام الرجل، حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى، وفيه دلالة على تفضيل الرجل على المرأة. و: تذكر، يتعدّى لمفعولين، والثاني محذوف، أي: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة.

{وَلاَ تَسْئَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} وانتصاب: صغيراً أو كبيراً، على الحال من الهاء في: أن تكتبوه، وأجاز السجاوندي نصب: صغيراً، على أن يكون خبراً لكان مضمرة، أي: كان صغيراً، وليس موضع إضمار كان، ويتعلق: إلى أجله، بمحذوف لا تكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين، إذ ينقضي في زمن يسير، فليس نظير: سرت إلى الكوفة، والتقدير: أن تكتبوه مستقراً في الذمة إلى أجل حلوله. لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل بني من أفعل، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال، لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب يكون من: فعل وفعل وفعل وأفعل، فظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبنى من أفعل، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبنى منه أفعل التفضيل، فما انقاس في التعجب: انقاس في التفضيل، وما شذ فيه شذ فيه. وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب على ثلاثة مذاهب: الجواز، والمنع، والتفضيل. بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يبنى منه أفعل للتعجب، أو لا تكون للنقل، فيبنى منه. وزعم أن هذا مذهب سيبويه، وتؤول قوله: وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل، ومن منع ذلك مطلقاً ضبط قول سيبويه. وأفعل على أنه على صيغة الأمر، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل، وبناؤه من: فعل وفعل وفعل وعلى أفعل وحجج هذه المذاهب مستوفاة في كتب النحو. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَدَةِ} وعد بعض النحويين في التعجب ما أقومه في الشذوذ، وجعله مبنياً من استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول: زيد أضرب لعمرو من خالد، ولا يجوز حذف هذه اللام والنصب إلاَّ في الشعر كما قال الشاعر: وأضرب منا بالسيوف القوانسا وقد تؤول على إضمار فعل أي: تضرب القوانس ومعنى: أقوم للشهادة، أثبت وأصح.

{وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أي أقرب لانتفاء الريبة. وقرأ السلمي: أن لا يرتابوا بالياء، والمفضل عليه محذوف، وحسن حذفه كونه أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً للمبتدأ، وتقديره: الكتب أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب، وقدّر: أدنى، لأن: لا ترتابوا، وإلى أن لا ترتابوا، و: من أن لا ترتابوا. ثم حذف حرف الجر فبقي منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي سبق. {إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} وهذا الاستثناء في قوله: إلاَّ أن تكون، منقطع لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة. وقيل: هو استثناء متصل، وهو راجع إلى قوله {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلاَّ أن يكون الأجل قريباً. وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة وخبرها الجملة من قوله: تديرونها بينكم. {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارّا أحداً بأن يزيد الكاتب في الكتابة، أو يحرف. وبأن يكتم الشاهد الشهادة، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها. واحتمل أن يكون مبنياً للمفعول، فنهى أن يضارّهما أحد بأن يعنتا، ويشق عليهما في ترك أشغالهما، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضاً ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، والضحاك، والسدي. {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ظاهره أن مفعول: تفعلوا، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: ولا يضار، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه، أي الضرار، فسوق بكم أي: ملتبس بكم، أو تكون الباء ظرفية، أي: فيكم، وهذا أبلغ، إذ جعلوا محلاً للفسق. والخطاب في: تفعلوا، عائد على الكاتب والشاهد، إذ كان قوله: ولا يضار، قد قدر مبنياً للفاعل، وأما إذا قدر مبنياً للمفعول فالخطاب للمشهود لهم. وقيل: هو راجع إلى ما وقع النهي عنه.

وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في: واتقوا، تقديره: واتقوا الله مضموناً لكم التعليم والهداية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالاً مقدرة. انتهى. وهذا القول، أعني: الحال، ضعيف جداً، لأن المضارع الواقع حالاً، لا يدخل عليه واو الحال إلاَّ فيما شذ من نحو: قمت وأصك عينه. ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ. {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَنٌ مَّقْبُوضَةٌ} ويحتمل قوله: ولم تجدوا، أن يكون معطوفاً على فعل الشرط، فتكون الجملة في موضع جزم، ويحتمل أن تكون الواو للحال، فتكون الجملة في موضع نصب. ويحتمل أن يكون معطوفاً على خبر كان، فتكون الجملة في موضع نصب، لأن المعطوف على الخبر خبر، وارتفاع: فرهان، على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فالوثيقة رهان مقبوضة. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَنَتَهُ} وقرأ أبيّ: فإن أومن، رباعياً مبنياً للمفعول، أي: آمنه الناس. والضمير في: أمانته، يحتمل أن يعود إلى رب الدين، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن. {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ} وقراءة الجمهور: آثم، اسم فاعل من: أثم قلبه، و: قلبه، مرفوع به على الفاعلية، و: آثم، خبر: إن، وجوّز الزمخشري أن يكون: آثم، خبراً مقدّماً، و: قلبه، مبتدأ. والجملة في موضع خبر: إن، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون.

وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني: آثم ابتداء وقلبه فاعل يسدّ مسدّ الخبر، والجملة خبر إن. انتهى. وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين، لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام، نحو: أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ وما قائم الزيدان؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن، إذ يجيز: قائم الزيدان؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون: قلبه، بدلاً على بدل بعض من كل، يعني: أن يكون بدلاً من الضمير المرفوع المستكن في: آثم، والإعراب الأول هو الوجه. وقرأ قوم: قلبَه، بالنصب، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة. وقال: قال مكي: هو على التفسير يعنى التمييز، ثم ضعف من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة. وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به، نحو قولهم: مررت برجل حسن وجهه، ومثله ما أنشد الكسائي رحمه الله تعالى: أنعتها إني من نعاتها مدارة الأخفاف مجمراتها غلب الدفار وعفر يناتها كوم الذرى وادقة سراتها وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز، وعلى مذهب المبرد ممنوع، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر، لأن ذلك جائز. وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف، نحو: زيد منطلق العاقل، نص عليه سيبويه، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد، فأحرى في البدل، لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه. ونقل الزمخشري وغيره: أن ابن أبي عبلة قرأ: أثم قلبه، بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء، جعله فعلاً ماضياً. وقلبه بفتح الباء نصباً على المفعول بأثم، أي: جعله آثماً.

{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} والآية خبر، والنسخ لا يدخل الأخبار، وانجزم: يحاسبكم، على أنه جواب الشرط. {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} وقرأ ابن عامر، وعاصم، ويزيد، ويعقوب، وسهل: فيغفر لمن يشاء ويعذب، بالرفع فيهما على القطع، ويجوز على وجهين: أحدهما: أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف. والآخر: أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدّم. وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفاً على الجواب. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار: أن، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب، تقديره: يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر: فان يهلك أبو قابوس يهلك ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سناميروى بجزم: ونأخذ، ورفعه ونصبه. وقال الزمخشري: ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، لأن التفصيل أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل، أو بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيداً رأسه. وأحب زيداً عقله، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. انتهى كلامه. وفيه بعض مناقشة. أولاً: فلقوله: ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، وليس الغفران والعذاب تفصيلاً لجملة الحساب، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها، بحيث لا يشذ شيء منها، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب.

وأما الثانية: فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض والكل، وبدل الاشتمال: هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. أما بدل الاشتمال فهو يمكن، وقد جاء لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل، إذ الفعل لا يقبل التجزيء، فلا يقال في الفعل: له كل وبعض إلاَّ بمجاز بعيد، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى، إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض. قال الزمخشري، وقد ذكر قراءة الجزم: فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟. قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأً فاحشاً، وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. انتهى كلامه. وذلك على عادته في الطعن على القراء. {ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} والظاهر أن يكون قوله: والمؤمنون، معطوفاً على قوله: الرسول، ويؤيده قراءة علي، وعبد الله: وآمن المؤمنون، فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء، فعلى هذا يكون: كل، لشمول الرسول والمؤمنين، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله: من ربه، ويكون: المؤمنون، مبتدأ، و: كل، مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة. و: آمن بالله، جملة في موضع خبر: كل، والجملة، من: كل وخبره، في موضع خبر المؤمنين، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأوّل محذوف، وهو ضمير مجرور تقديره: كل منهم آمن، كقولهم: السمن منوان بدرهم، يريدون: منه بدرهم.

{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وانتصاب: غفرانك، على المصدر، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمراً، التقدير عند سيبويه: إغفر لنا غفرانك، قال السجاوندي: ونسبه ابن عطية للزجاج، وقال الزمخشري: غفرانك منصوب بإضمار فعله، يقال: غفرانك لا كفرانك، أي: نستغفرك ولا نكفرك. فعلى التقدير الأول: الجملة طلبية، وعلى الثاني: خبرية. واضطرب قول ابن عصفور فيه، فمرة قال: هو منصوب بفعل يجوز إظهاره، ومرة قال: هو منصوب يلتزم إضماره. وعدّه مع: سبحان الله، وأخواتها. وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به، أي: نطلب، أو: نسأل غفرانك. وجوّز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ، أي: غفرانك بغيتنا. {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ظاهره أنه استئناف. وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف. وقال ابن عطية: يكلف، يتعدّى إلى مفعولين. أحدهما محذوف تقديره: عبادة أو شيئاً. انتهى. فإن عنى أن أصله كذا، فهو صحيح، لأن قوله: إلاَّ وسعها، استثناء مفرغ من المفعول الثاني، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة، فليس كذلك. بل الثاني هو وسعها، نحو: ما أعطيت زيداً إلاَّ درهماً، ونحو: ما ضربت إلاَّ زيداً. هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعطيت زيداً شيئاً إلاَّ درهماً. و: ما ضربت أحداً إلاَّ زيداً. وقرأ ابن أبي عبلة: {إلاَّ وسعها} جعله فعلاً ماضياً. وأولوه على إضمار: ما، الموصولة، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف، كما أن وسعها في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله، كقول حسان: فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء

أي: ومن ينصره، فحذف: من، لدلالة: من، المتقدّمة. وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول، لأنه وصلته كالجزء الواحد، ويجوز أن يكون مفعول: يكلف، الثاني محذوفاً، لفهم المعنى، ويكون: وسعها، جملة في موضع الحال، التقدير: لا يكلف الله نفساً شيئاً إلاَّ وسعها، أي: وقد وسعها، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول.

سورة آل عمران

سورة آل عمران {الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأٌّرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ آيَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .

{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} ويكون: وهب، بمعنى جعل، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، تقول العرب: وهبني الله فداك، أي: جعلني الله فداك. وهي في هذا الوجه لا تتصرف، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة. لدن: ظرف، وقل أن تفارقها: من، قاله ابن جني، ومعناها: ابتداء الغاية في زمان أو مكان، أو غيره من الذوات غير المكانية، وهي مبنية عند أكثر العرب، وإعرابها لغة قيسية، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون، فمن بناها قيل: فلشبها بالحروف في لزوم استعمال واحد، وامتناع الإخبار بها، بخلاف: عند، ولدي. فإنهما يكونان لابتداء الغاية، وغير ذلك، ويستعملان فضلة وعمدة، فالفضلة كثير، ومن العمدة {وعنده مفاتح الغيب} {ولدينا كتاب ينطق بالحق} . وأوضح بعضهم علة البناء فقال: علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها. بخلاف: عند، فإنها لا تختص بالملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب. ومثله: ثم، و: هنا. لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة. ومن أعربها، وهم قيس، فتشبيهاً: بعند، لكون موضعها صالحاً لعند، وفيها تسع لغات غير الأولى: لَدُن، ولُدْنُ، ولَدْنٌ، ولَدِنٌ، ولَدُنِ، ولَدٌ ولُدْ، ولَدٌ ولَتْ. بإبدال الدال تاء، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً، وإلى الجملة قليلاً. فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر: صريع غوانٍ راقهن ورُقنَهُ لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ قوال الآخر: لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم فلا يك منكم للخلاف جنوحُ ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر: تذكر نعماه لده أنت يافع إلى أنت ذو فودثين أبيض كالنسر وجاء إضافتها إلى: أن والفعل، قال: وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا

قرابة ذي قربى ولا حق مسلم وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو. {الم * اللَّهُ} وقال الأخفش: يجوز: ألم الله، بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله. واختلفوا في فتحة الميم: فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين، كما حركوا: من الله، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو: من الرجل، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء، كما قالوا: أين؟ كيف؟ ولزيادة السكرة قبل الياء، فزال الثقل. وذهب الفارء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل، لأن حروف الهجاء ينوي بها الوقف، فينوي بما بعدها الاستئناف. فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو: لتسمعن وشياً في دياركم الله أكبر: يا طارات عثماناً وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل. وما يسقط يتلقى حركته، قاله أبو علي. وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري، وأورد أسئلة وأاب عنها. فقال: فإن قلت: كيف جامز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟ قلت: ليس هذا بدرج، لأن ميم في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفاً، وألقيت حركتها على الساكن قبلها الندل عليها، ونظيره قولهم: واحد إثنان، بالقاء حركة الهمزة على الدال. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وليس جوابه بشيء، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها. وأن ذلك ليس بدرج، بل هو وقف، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة، سواء كانت حركته إعرابية، أو بنائية، أو نقلية، أو لإلتقاء الساكنين، أو للحكاية، أو للإتباع. فلا يجوز في: قد أفلح، إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال: قد، أن تقف على دال: قد، بالفتحة، بل تسكنها قولاً واحداً.

وأما قوله: ونظير ذلك قولهم: واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه، ولم يحك الكسر لغة. فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه، كما زعم الزمخشري، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل، ولكنه موصول بقولهم: إثنان، فالتقى ساكنان، دال، واحد، و: ثاء، إثنين، فكسرت الدال لإلتقائهما، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل. وأما ما استدل به للفراء من قولهم: ثلاثة أربعة، بإلقائهم الهمزة على بالهاء، فلا دلالة فيه، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها، وليس كذلك همزة الوصل نحو: من الله، وأيضاً، فقولهم: ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا، لا أنها موقوف عليها. ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً. فقال: فإن قلت: هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين؟. قلت: لأن إلتقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف، وذلك كقولك: هذا ابراهيم، وداود، وإسحاق. ولو كان لإلتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لإلتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن آخر. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وهو سؤال صحيح، وجواب صحيح، لكن الذي قال: إن الحركة هي لإلتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف، وهنما عنى إلتقاء الساكنين اللذين هما: ميم ميم الأخيرة. و: لام التعريف، كالتقاء نون: من، ولام: الرجل، إذا قلت: من الرجل. ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً، فقال: فإن قلت: إنما لم يحركوا لألتقاء الساكنين في ميم، لأنهم أرادوا الوقف، وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلاَّ التحريك فحركوا؟

قلت: الدليل على أن الحركة ليست الملاقاة الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا: واحد اثنان، بسكون الدال مع طرح الهمزة، فجمعوا بين ساكنين، كما قالوا: أصيم ومديق، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وليست لالتقائ الساكنين. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين؟ ويعني بالساكنين: الياء والميم في سيم، وحيئذ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، يعني الياء والميم، ثم قال: فإن جاء بساكن ثالث، يعني لام التعريف، لم يمكن إلاَّ التحريك، يعني في الميم، فحركوا يعني: الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف، إذ لو لم يحركوا لآجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن. هذا شرح السؤال. وأما جواب الزمخشري عن سؤاله، فلا يطابق، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: واحد اثنان، بأن يسكنوا الدال، والثاء ساكنة، وتسقط الهمزة. فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال، وهذه مكابرة في المحسوس، لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء، وطرح الهمزة. وأما قوله: فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع كما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أصيم ومديق، فهذا ممكن كما هو في: راد وضال، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو، فأمكن النطق به، وليس مثل: واحد اثنان. لأن الساكن الأول ليس حرف علة، ولا الثاء في مدغم، فلا يمكن الجمع بينهما.

وأما قوله: فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وليست لالتقاء الساكنين، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك، فإن صح كسر الدال، كما نقل هذا الرجل، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل، وقد ردّ قول الفراء، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل: لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها، لما في ذلك من الفساد والتدافع، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها، وهذا متناقض. إنتهى. وهو ردّ صحيح. والذي تحرر في هذه الكلمات: أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً، فلوا التقى آخر مسكن منها، بساكن آخر، حرك لالتقاء الساكنين. فهذه الحركة التي في ميم: ألم الله، هي حركة التقاء الساكنين. {الم * اللَّهُ} قال ابن كيسان: موضع: ألم، نصب، والتقدير: قرأوا ألم، و: عليكم ألم. ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى: هذا ألم، و: ذلك ألم. وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف، أي: هذه الحروف كتابك. وقرأ عمر بن الخطابد وعبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس: القيام. وقال خارجه في مصحف عبد الله: القيم، وروي هذا أيضاً عن علقمة. {الله} رفع على الإبتداء، وخبره: {لا إله إلا هو} و {نزل عليك الكتاب} خبر بعد خبر، ويحتمل أن يكون: نزل، هو الخبر، و: لا إله إلا هو، جملة اعترض. وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب: {لا إله إلا هو الحي القيوم} فأغنى عن إعادته هنا.

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً} والباء: تحتمل السببية أي: بسبب إثبات الحق، وتحتمل الحال، أي: محقاً نحو: خرج زيد بسلاحه، أي متسلحاً. وانتصاب: مصدقاً، على الحال من الكتاب، وهي حال مؤكدة، وهي لازمة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه، فهو كما قال: أنا ابن دارة معروفاً به نسبي وهل بدارة يا للناس من عار؟ وقيل: انتصاب: مصدقاً، على أنه بدل من موضع: بالحق، وقيل: حال من الضمير المجرور. و: لما، متعلق بمصدقاً، واللام لتقوية التعدية، إذ: مصدقاً، يتعدى بنفسه، لأن فعله يتعدى بنفسه. وقرأ الحسن: والأنجيل، بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنه أعجمي، لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب، بخلاف إفعيل، فإنه موجود في أبنيتهم: كإخريط، وإصليت. وتعلق: من قبل، بقوله: وأنزل، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور، أي: من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل: التقدير من قبلك، فيكون المحذوف ضمير الرسول. وغاير بين نزل وأنزل، وإن كانا بمعنى واحد، إذ التضعيف للتعدية، كما أن الهمزة للتعدية. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأٌّرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} و: كيف، هنا للجزاء، لكنها لا تجزم. ومفعول: يشاء، محذوف لفهم المعنى، التقدير: كيف يشاء أن يصوركم. كقوله {ينفق كيف يشاء} أي: كيف يشاء أن ينفق، و: كيف، منصوب: بيشاء، والمعنى: على أي حال شاء أن يصوركم صوركم، ونصبه على الحال، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه، نحو قولهم: أنت ظالم إن فعلت، التقدير: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى، فتعلقها كتعلق إن فعلت، كقوله: أنت ظالم. وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه، لا يهتدي له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب، واستحضار للطائف النحو.

وقال بعضهم {كيف يشاء} في موضع الحال، معمول: يصوركم؛ ومعنى الحال أي: يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك وقيل: التقدير في هذه الحال: يصوركم على مشيئته، أي مريداً، فيكون حالاً من ضمير اسم الله، ذكره أبو البقاء، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول، أي: يصوركم منقلبين على مشيئته. وقال الحوفي: يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة، وكما يشاء. {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ آيَتٌ مُّحْكَمَتٌ} وقوله: {منه آيات محكمات} إلى آخره، في موضع الحال، أي: تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً، وارتفع: آيات، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء، والجملة حالية. ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة، وأما قوله: {وأخر متشابهان} فأُخر صفة لآيات محذوفة، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر.

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} ويكون قوله {والراسخون} مبتدأ و {يقولون} خبر عنه وقيل: والراسخون، معطوف على الله، وهم يعلمون تأويله، و: يقولون، حال منهم أي: قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً، ومجاهد والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأكثر المتكلمين. ورجح الأول بأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية، وهي ظنية، والظن لا يكفي في القطعيات، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات، وهو ترك للظاهر، ولا يجوز، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا {آمنا به} ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى، وقطعوا أنه الحق، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان، ولأنه لو كان: الراسخون، معطوف على: الله، للزم أن يكون: يقولون، خبر مبتدأ وتقديره: هؤلاء، أو: هم، فيلزم الإضمار، أو حال والمتقدّم: الله والراسخون، فيكون حالاً من الراسخين فقط، وفيه ترك للظاهر. ولأن قوله: {كل من عند ربنا} يقتضي فائدة، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عرى عن الفائدة، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يقع جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله، تعالى. وتلخص في إعراب {والراسخون} وجهان:.

أحدهما: أنه معطوف على قوله: الله، ويكون في إعراب: يقولون، وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف. والثاني: أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين، كما تقول: ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة. والثاني: من إعراب: والراسخون، أن يكون مبتدأ، ويتعين أن يكون: يقولون، خبراً عنه، ويكون من عطف الجمل. {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} هذا من المقول، ومفعول: يقولون قوله: {آمنا به كل من عند ربنا} وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة، نحو قوله: كيف أصحبت؟ كيف أمسيت؟ مما يزرع الود في فؤاد الكريم؟ كأنه قال: هذا الكلام مما يزرع الودّ. والضمير في: به، يحتمل أن يعود على المتشابه، وهو الظاهر، ويحتمل أن يعود على الكتاب. والتنوين في: كل، للعوض من المحذوف، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب، أي: كله من عند ربنا، ويحتمل أن يكون التقدير: كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله، وإدا كان من عند الله فلا تناقض ولا أختلاف، وهو حق يجب أن يؤمن به. {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} و: إذ، أصلها أن تكون ظرفاً، وهنا أضيف إليها: بعد، فصارت إسماً غير ظرف، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة، وليست الإضامة إليها تخرجها عن هذا الحكم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين} ؟ {يوم لا تملك} في قراءة من رفع يوم؟ وقول الشاعر. على حين عاتبت المشيب على الصبا على حين من تكتب عليه ذنوبه على حين الكرام قليل ألا ليت أيام الصفاء جديد كيف خرج الظرف هنا عن بابه، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر، واسم ليت، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة؟. ويجوز في: أنت، التوكيد للضمير، والفصل، والابتداء.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا} وقرأ أبو عبد الرحمن: لن يغني، بالياء على تذكير العلامة. وقرأ علي: لن يغني، بسكون الياء. وقرأ الحسن: لن يغني بالياء أولاً وبالياء منالساكنة آخراً، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع. وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة، وينبغي أن لا يخص بها، إذ كثر ذلكح في كلامهم. و: من، لابتداء الغاية عند المرد، وبمعنى: عند، قاله أبو بعيدة، وجعله كقوله تعالى: {أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} قال: معناه عند جوع وعند خوف، وكون: من، بمعنى: عند، ضعيف جداً. وقال الزمشخري: قوله: من الله، مثله في قوله: {ان الظنّ لا يغني من الحق شيئاً} والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق. ومنه: ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي: لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك. وما عندك. وف معناه قوله تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى} إنتهى كلامه. وإثبات البدلية: لمن، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه، وغيرهم قد أثبته، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل. واستدل بقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} {لجعلنا منكم ملائكة} أي: بدل الآخرة وبدلكم. وقال الشاعر: أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلماً ويكتب للأميلا إفيلا أي بدل الفصيل، وشيئاً ينتصب على أنه مصدر، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به، لأن معنى: لن تغني، لن تدفع أو تمنع، فعلى هذا يجوز أن يكون: من، في موضع الحال من شيئاً، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها، فلما تقدّم انتصب على الحال. وتكون: من إذ ذاك للتبعيض.

فتلخص في: من، أربعة أقوال: ابتداء الغاية، وهو قول المبرد، والكلبي. و: كونها بمعنى: عند، وهو قول أبي عبيدة. و: البدلية، وهو قول الزمخشري، و: التبعيض، وهو الذي قررناه. {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر: إن، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة اغلأولى، وأشار: بأولئك، إلى بعدهم. وأتى بلفظ: هم، المشعرة بالاختصاص، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله: {وقودها الناس والحجارة} . وقرأ الحسن، ومجاهد، وغيرهما: وقود، بضم الواو، وهو مصدر: وقدت النار تقد وقوداً، ويكون على حذف مضاف، أي: أهل وقود النار، أو: حطب وقود، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة، كما تقول: زيد رضا. وقد قيل في المصدر أيضاً: وقود، بفتح الواو، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو، وتقدّم ذكر ذلك. و: هم، يحتمل أن يكون مبتدأ، ويحتمل أن يكون فصلاً. {كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ} واختلفوا في إعراب: كدأب، فقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، فهو في موضع رفع، التقدير: دأبهم كدأب، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية. وقيل: هو في موضع نصب بوقود، أي: توقد النار بهم، كما قد بآل فرعون. كما تقول: إنك لتثلم الناس كدأب أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشري. وقيل: يفعل مقدّر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الإحتراق، قاله ابن عطية. وقيل: من معناه أي عذبوا تعذيباً كدأب آل فرعون. ويدل عليه وقود النار. وقيل: بلن تغني، أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، قاله الزمخشري. وهو ضعيف، للفصل بين العالم والمعمول بالجملة التي هي: {أولئك هم وقود النار} على أي التقديرين اللذين قدرناهما، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن، أو على الجملة المؤكدة بإن، فان قدرتها اعتراضية، وهو بعيد، جاز ما قاله الزمخشري.

وقيل: بفعل منصوب من معنى: لن تغني، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون. وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره: كفراً كدأب والعامل فيه: كفروا، قاله الفراء وهو خطأ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان من الصلة، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها، وهنا قد أخبر، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في الصلة. وقيل: بفعل محذوف يدل عليه: كفروا، التقدير: كفروا كفراً كعادة آل فرعون. وقيل: العامل في الكاف كذبوا بآياتنا، والضمير في: كذبوا، على هذا الكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون. وقيل: يتعلق بقوله: {فأخذهم الله بذنوبهم} أي: أخذهم أخذاً كما أخذ آل فرعون، وهذا ضعيف، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها. وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا: زيداً قمت فضربت، فعلى هذا يجوز هذا القول. فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف. {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وموضع: والذين، جر عطفاً على: آل فرعون. {كَذَّبُواْ بِأَيَتِنَا} بهذه الجملة تفسير للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا؟ وما فعلوا بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال، أي: مكذبين، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله: {كدأب آل فرعون} ثم ابتدأ فقال: {والذين من قبلهم كذبوا} فيكون: الذين، مبتدأ، و: كذبوا خبره وفي قوله: بآياتنا، التنفات، إذ قبله من الله، فهو اسم غيبة، فانتقل منه إلى التكلم.

{قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى الأٌّبْصَرِ * زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَمِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ} . {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وأبعد من ذهب إلى أن: إلى، في معنى: في، فيكون المعنى: إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد، يحتمل أن يكون من جملة المقول، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى، قاله الراغب؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: وبئس المهاد جهنم. وكثيراً ما يحذف لفهم المعني، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه: أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها، وذلك لا يجوز، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة. وأمّا من جعل: المهاد، ما مهدوا لأنفسهم، أي: بئسما مهدوا لأنفسهم، وكان المعنى عنده، و: بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم، ففيه بُعْدٌ، ويروى عن مجاهد. {قَدْ كَانَ لَكُمْءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} والجمهورُ برفع: فئة، على القطع، التقدير: إحداهما، فيكون: فئة، على هذا خبر مبتدأ محذوف، أو التقدير: منهما، فيكون مبتدأ محذوف الخبر. وقيل: الرفع على البدل من الضمير في التقتا.

وقرأ مجاهد، والحسن، والزهري وحميد: فئةٍ، بالجر على البدل التفصيلي، وهو بدل كل من كل، كما قال: وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِومنهم من رفع: كافرة، ومنهم من خفضها على العطف، فعلى هذه القراءة تكون: فئة، الأولى بدل بعض من كل، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي: فئة منهما تقاتل في سبيل الله، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على الخبر. وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فئة، بالنصب. قالوا: على المدح، وتمام هذا القول: إنه انتصب الأول على المدح، والثاني على الذم، كأنه قيل: أمدح فئة تقاتل في سبيل الله، وأذم أخرى كافرة. وقال الزمخشري: النصب في: فئة، على الاختصاص وليس بجيد، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً، وأجاز هو، وغيره قبله كالزجاج: أن ينتصب على الحال من الضمير في: التقتا، وذكر: فئة، على سبيل التوطئة. {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} فالظاهر أن الجملة صفة لقوله: وأخرى كافرة، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: تراهم، وضمير النصب عائد على: فئة تقاتل في سبيل الله، وضمير الجرّ في: مثليهم، عائد على فئة أيضاً، وذلك على معنى الفئة، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب: تراها مثليها، أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها. أي: ستمائة ونيف وعشرين، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة، أي ألفين، أو قريباً من ألفين. ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى، والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى، أي: ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها. ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة، أي: مثلي الفئة الكافرة. والجملة إذ ذاك صفة لقوله: وأخرى كافرة، ففي الوجه الأول الرابط الواو، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب.

فيه {يَرَوْنَهُمْ} قراءتان بالياء والتاء. والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد، وانتصب: مثليهم، على الحال. قاله أبو علي، ومكي، والمهدوي. ويقوي ذلك ظاهر قوله: رأي العين، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد. قال الزمخشري: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وقيل: الرؤية هنا من رؤية اللب، فيتعدى لإثنين، والثاني هو: مثليهم. ورد هذا بوجهين: أحدهما: قوله تعالى: رأي العين، والثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يعلم الشيء شيئين. وأجيب عن الأول: بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي، أي: رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به. وعن الثاني: بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد، فلا يكون ذلك محالاً. وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى. قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} أي فإن اعتقدتم إيمانهن، ويدل على هذا قراءة من قرأ: ترونهم، بضم التاء، أو الباء. قالوا: فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً، لا يقيناً. فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك، وذلك أن: أُري، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر، وإذا كان كذلك، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين، لأنه كما لا يقع: العلم غير مطابق للمعلوم، كذلك لا يقع: النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم شبه برؤية العين. {وَالْقَنَطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} من الذهب بيان للقناطير وهي في موضع الحال أي كائناً من الذهب.

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّبِرِينَ وَالصَّدِقِينَ وَالْقَنِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأٌّسْحَارِ * شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . {للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} يحتمل أن يكون للذين متعلقاً بقوله: بخير من ذلكم، و: جنات، خبر مبتدأ محذوف أي: هو جنات، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله: بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب: جنات، بالجر بدلاً من: بخير، كما تقول: مررت برجل زيد، بالرفع و: زيد بالجر، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون: جنات، منصوباً على إضمار: أعني، ومنصوباً على البدل على موضع بخير، لأنه نصب. ويحتمل أن يكون: للذين، خبرا لجنات، على أن تكون مرتفعة على الإبتداء، ويكون الكلام تم عند قوله: بخير من ذلكم، ثم بين ذلك الخير لمن هو، فعلى هذا العامل في: عند ربهم، العامل في: للذين، وعلى القول الأول العامل فيه قوله: بخير. وأعرب: الذين يقولون، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب، ويكون ذلك من توابع: {الذين اتقوا} أو من توابع: العباد، والأول أظهر. و {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} : مفعول: شهد، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف، ليدل على بالاعتناء بذكر المفعول، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين، بحيث لا ينسقان متجاورين. وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى، وعلمهم كله ضروري، بخلاف البشر، فإن علمهم ضروري وإكتسابي.

وقرأ أبو الشعثاء: شهد، بضم الشين مبيناً للمفعول، فيكون: أنه، في موضع البدل أي: شهد وحدانية الله وألوهيته. وارتفاع: الملائكة، على هذه القراءة على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والملائكة وأولوا العلم يشهدون. وحذف الخبر لدلابة المعنى عليه، ويحتمل أن يكون فاعلاً بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنياً للفاعل، والتقدير: وشهد بذلك الملائكة وأولوا العلم. وقرأ أبو المهلب، عم محارب بن دثار: شهداء الله، على وزن: فعلاء، جمعاً منصوباً. قال ابن جني: على الحال من الضمير في المستغفرين. وقيل: نصب على المدح، وهو جمع شهداء، وجمع شاهد: كظرفاء وعلماء. وروي عنه، وعن أبي نهيك: شهداء الله، بالرفع أي: هم شهداء الله. وفي القراءتين: شهداء، مضاف إلى اسم الله. وروي عن أبي المهلب: شهد بضم الشضين والهاء، جمع: شهيد، كنذير ونذر، وهو منصوب على الحال، واسم الله منصوب. وذكر النقاش: أنه قرىء كذلك بضم الدال وبفتحها مضافاً لام الله في القراءتين. وذكر الزمخشري، أنه قرىء: شهداء لله، برفع الهمزة ونصبها، وبلام الجر داخلة على اسم الله، فوجه النصب على الحال من المذكورين، والرفع على إضمارهم، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفاً على الضمير المستكن في شهداء، وأاز ذلك الوقوع الفاصل بينهما. وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية، وإما على الإبتداء.

وقرأ أبو عمر وبخلاف عنه بإدغام: واو، وهو في: واو، والملائكة. وقرأ ابن عبا: {أنه لا إله إلاَّ هو} بكسر الهمزة في: أنه، وخرج ذلك على أنه أجرى: شهد، مجرى: قال، لأن الشهادة في معنى القول، فلذلك كسر إن، أو على أن معمول: شهد، هو إن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله: {أنه لا إله إلاَّ هو} جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف، إذ فيها تسديد لمعنى الكلام وتقوية، هكذا خرجوه والضمير في: أنه، يحتمل أن يكون عائداً على: الله، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن، ويؤيد هذا قراءة عبد الله {شهد الله أن لا إله إلا هو} ففي هذه القراءة يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن، لأنها إذا خففت لم تعمل في غيره إلاَّ ضرورة، وإذا عملت فيه لزم حذفه. قالوا: وانتصب: {قائماً بالقسط} على الحال من اسم الله تعالى، أو من: هو، أو من الجميع، على اعتبار كل واحد واحد، أو على المدح، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو. أو: على القطع، لأن أصله: القائم، وكذا قرأ ابن مسعبود، فيكون كقوله: {وله الدين واصبا} أي الواصب. وقرأ أبو حنيفة: قيما، وانتصابه على ما ذكر. وذكر السجاوندي: أن قراءة عبد الله: قائم، فأما انتصابه على الحال من اسم الله فعالمهلا شهد، إذ هو العامل في الحال، وهي في هذا الوجه حال لازمة، لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى.

وقال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه، أي: من الله، كقوله: {وهو الحق مصدقاً} . انتهى. وليس من الحال المؤكدة، لأنه ليس من باب: {ويوم يبعث حياً} ولا من باب: أنا عبد الله شجاعاً. فليس {قائماً بالقسط} بمعنى: شهد، وليس مؤكداً مضمون الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً. لكن في هذا التخريج قلق في التركيب، إذ يصير كقولك: أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعاً. فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد، وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو: هو، فجوّزه الزمخشري وابن عطية. قال الزمخشري: فإن قلت: قد جعلته حالاً من فاعل: شهد، فهل يصح أن ينتصب حالاً من: هو، في: {لا إله إلا هو} ؟ قلت: نعم لأنها حال مؤكدة، والحال المئكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها، كقوله: أنا عبد الله شجاعاً. انتهى. ويعني: أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة قبلها، وإنما ينتصب بعامل مضمر تقديره: أحق، أو نحوه مضمراً بعد الجملة، وهذا قول الجمهور. والحال المئكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم، أو شبيه بالملازم، فإن كان المتكلم بالجملة مخبراً على نفسه، فيقدر الفعل: أحق، مبنياً للمفعول، نحو: أنا عبد الله شجاعاً، أي: أحق شجاعاً. وإن كان مخبراً عن غيره نحو: هو زيد شجاعاً، فتقديره: أحقه شجاعاً. وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمنم ممن معنى المسمى، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه. وأما من جعله حالاً من الجميع، على ما ذكره، فرد بأنه لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكباً، أي: كل واحد منهم. وهذا لا تقوله العرب.

وأما انتصابه على المدح، فقال الزمخشري: فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك: الحمد لله الحميد، «إنا معشر الأنبياء لا نورث» . إنا بني نهشل لا ندعى لأب؟ قلت: قد جاء نكرة في قول الهذلي: ويأوي إلى نسوة عطل وشعثاً مراضيع مثل السعالي انتهى سؤاله وجوابه. وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يفرّق بين لامنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمهما واحداً، وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو: الحمد لله الحميد، ومثالين من المنصوب على الاختصاص وهما: «إنا معشر الأنبياء لا نورث» . إنا بني نهشل لا نعدى لأب والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح، وقد يكون نكرة كذلك، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة: أقارعُ عوفٍ لا أحاولُ غيرَها وجوه قرودٍ يبتغي من يخادعُ فانتصب: وجوه قرودٍ، على الذم. وقبله معرفة وهو قوله: أقارع عوف. وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهماً، ولا يكون إلاَّ معرفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلمية، أو بأي، ولا يكون إلاَّ بعد ضمير متكلم مختص به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب. وأما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو؟

قلت: لا يبعد، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف، ثم قال: وهو أوجه من انتصابه عن فاعل: شهد، وكذلك انتصابه على المدح. انتهى. وكان قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً. ويعني أن انتصاب: قائماً، على أنه صفة لقوله: إله، أو لكونه انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل: شهد، وهو الله. وهذا الذي ذكره لا يجوز، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو المعطوفان اللذان هما: الملائكة وأولو العلم، وليسا معمولين من جملة {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} بل هما معمولان: لشهد، وهو نظير: عرف زيد أن هنداً خارجة وعمرو وجعفر التميمية. فيفصل بين هنداً والتميمية بأجنبي ليس داخلاً فيما عمل فيها، وفي خبرها بأجنبي وهما: عمرو وجعفر، المرفوعان بعرف، المعطوفان على زيد. وأما المثال الذي مثل به وهو: لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية، لأن قولك: إلاَّ عبد الله، يدل على الموضع من: لا رجل، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي. على أن في جواز هذا التركيب نظراً، لأنه بدل، و: شجاعاً، وصف، والقاعدة أنه: إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح، فصار من جملة أخرى على المذهب. وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلا على مذهب الكوفيين، وقد أبطله البصريون. والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من اسم الله، والعامل فيه: شهد، وهو قول الجمهور.

وأما قراءة عبد الله: القائم بالقسط، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم بالقسط. قال الزمخشري وغيره: إنه بدل من: هو، ولا يجوز ذلك، لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي. وهو المعطوفان، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك، لم يجز. إنما الكلام: جاء زيد أخوك وعائشة. وقال الزمخشري فإن قلت: لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه، ولو قلت: جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز؟ قلت: إنما جاز هذا لعدم الإلباس، كما جاز في قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب ونافلة} إن انتصب: نافلة، حالاً عن: يعقوب، ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً، جاز لتميزه بالذكورة. انتهى كلامه. وما ذكر من قوله في: جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، بل هذا جائز، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قيداً فإنه يحمل على أقرب مذكور، ويكون راكباً حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة، لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل. لكان: الطويل، صفة: لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة، لأنه يلبس بل لا لبس في هذا، وهو جائز فكذلك الحال. وأما قوله: في: نافلة، إنه انتصب حالاً عن: يعقوب، فلا يتعين أن يكون حالاً عن: يعقوب، إذ يحتمل أن يكون: نافلة، مصدراً كالعافية والعاقبة. {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وارتفع: العزيز، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: والعزيز، على الاستئناف قيل: وليس بوصف، لأن الضمير لا يوصف، وليس هذا بالجمع عليه، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف. وجوّزوا في إعراب: العزيز، أن يكون بدلاً من: هو.

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ وَالاٍّمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّصِرِينَ} .

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} قراءة الجمهور بكسر «إن» على الاستئناف وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب: أنه، وأن، فقال أبو علي الفارسي: إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل. وقال: وإن شئت جعلته بدلاً من القسط، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة. انتهت تخريجات أبي علي، وهو معتزلي، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب، وهو: عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو، و: بنو تميم، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي، إن الخصلة الحميدة هي البسالة. وتقريب هذا المثال: ضرب زيد عائشة، والعمران حنقاً أختك. فحنقاً: حال من زيد، وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف، وهو لا يجوز. وبالحال لغير المبدل منه، وهو لا يجوز، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل. وخرجها الطبري على حذف حرف العطف، التقدير: وأن الدين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، ولم يبين وجه ضعفه، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو: أكل زيد خبزا وعمرو وسمكاً. وأصل التركيب: أكل زيد وعمرو خبزاً وسمكاً. فإن فصلنا بين قولك: وعمرو، وبين قولك: وسمكاً، يحصل شنع التركيب. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح.

وقال الزمخشري: وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بياناً صريحاً، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل. إنتهى. وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء. وأما قراءة ابن عباس فخرج على {أن الدّين عند الله الإسلام} هو معمول: شهد، ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو {أنه لا إله إلا هو} والثاني: بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} وإذا أعربنا: العزيز، خبر مبتدأ محذوف، كان ذلك ثلاث اعتراضات، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب، وإنما حمل على ذلك العجمة، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب، وحفظ أشعارها. وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتبا: أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بدّ من الأطلاع على كحلام العرب، والتطبع بطباعها، والاستكثار من ذكل، والذي خرجت عليه قراءة: أن الدّين، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول: للحكيم، على إسقاط حرف الجر، أي: بأن، لأن الحكيم فعيل للمبالغة: كالعليم والسميع والخبير، كما قال تعالى {من لدن حكيم خبير} وقال {من لدن حكيم عليم} والتقدير: لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام. فإن قلت: لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل، فيكون معناه المللهحكم، كما قالوا في: أليم، إنه بمعنى مؤلم، وفي سميع من قول الشاعر: أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع؟

فالجواب: إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل، وقد يؤوّل: أليم وسميع، على غير مفعل، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغلا فهو منقاس كثير جداً، خارج عن الحصر: كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ، في ألفاظ لا تحصى، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حالكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور} رحيك أنك أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق: والله غفور رحيم فقيل له التلاوة: {والله عزيز حكيم} فقال: هكذا يكون عز فحكم، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه، وهذا تخريج سهل سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها. وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل: أن الدين معمولاً: لشهد، كما فهموا، وان: أنه لا إله إلاَّ هو، اعتراض، وأنه بين المعطوف والحال وبين: أن الدين، اعتراض آخر، أو اعتراضان، بل نقول: معمول: شهد، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول، أو نقول: إنه معمولها، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً، فإنك تقول: شهدت إن زيداً ألمنطلق، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت: شهدت أن زيداً منطلق، فمن قرأ بفتح: أنه، فإنه لم ينو التعليق، ومن كسر فإنه نوى التعليق. ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا. {بغيا بينهم} وإعراب: بغياً، فإنه أتى بعد إلاَّ شيآن ظاهرهما أنهما مستثنيان، وتخريج ذلك: فأغنى عن إعادته هنا.

{فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذود تقديره: سريثع الحساب له. {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} {ومن ابتعن} قيل: من، في موضع رفع، وقيل: في موضع نصب على أنه مفعول معه، وقيل: في موضع خفض عطفاً على اسم الله. ومعناه: جعلت مقصدي بالإيمان به، والاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له، والتحفي بتعلمه، وصحته. فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في: أسلمت، قاله الزمخشري، وبدأ به قال: وحسن للفاصل، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر، على رأي البصريين. إلاَّ إنه فصل بين الضمير والمبعطوف، فيحسن. وقاله ابن عطية أيضاً، وبدأ به. ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو: أكلت رغيفاً وزيد، لزم من ذكل أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلّموجهه لله، وإنما المعنى: أنه صلى الله عليه وسلّمأسلم وجهه لله، وهم أسلموا وجوههم لله، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول: أسلمت، التقدير: ومن اتبعني وجهه. أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: وعمرو كذفلك. أي: قضى نحبه. ومن الجهة التي امتنع عطف. ومن، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل، يمتنع كون: من، منصوباً على أنه مفعول معه، لأنك إذا قلت: أكلت رغيفاً وعمراً، أي: مع عمرو، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية.

وأثبت ياء: اتبعني، في الوصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، ولأنها رأس آية كقوله: أكرمن وأهانن، فتشبه قوافي الشعر كقوله الشاعر: وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا د من حذر الموت أن يأتيَنْ {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهذه الجملة هي خبر: إن، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء، أعني: إن. ومع ذلك في المسألة خلاف: الصحيح جواز دخول الفاء في خبر: إن، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ، وتلك الشروط معتبرة هنا، ونظير هذه الآية في دخول الفاء {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم} {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم} . ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة، ولم يقس زيادتها.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَبِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ

فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَفِرِينَ} . اللهم: هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة. وعند الفراء: هي من قوله: يا الله أمنا بخير، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها: أل، فقالوا: لا همّ، بمعنى: اللهمّ. قال الزاجر: لا هم إني عامر بن جهم أحرم حجاً في ثياب دسم وخففت ميمها في بعض اللغات قال: كَحَلْقَه من أبي رياح يسمعها اللَّهُمَ الكُبار {وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} جملة حالية وقيل مستأنفة. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ} وارتفع: ذفلك، بالابتداء، و: بأنهم، هو الخبر، أي: ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول، وهو قولهم: إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل، يحصرها العدد. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: شأنهم ذلك، أي التولي والإعراض، قاله الزجاج. وعلى هذا يكون: بأنهم، في موضع الحال، أي: مصحوباً بهذا القول، و: ما في: ما كانوا، موصولة، أو مصدرية. {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وانتصاب: فكيف، قيل على الحال، والتقدير: كيف يصنعون؟ وقدره الحوفي: كيف يكحون حالهم؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى: التقدير: كيف حالهم؟ والعامل في: إذا، ذلك الفعل الذي قدره، والعامل في: كيف، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف، فيكون العامل في: إذا، المبتدأ الذي قدرناه، أي: فكيف حالهم في ذلك الوقت؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أككثر استفهامات القرآن، لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه تعالى تقريع.

{قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ} وانتصاب: مالك الملك، على أنه منادى ثانٍ أي: يا مالك الملك، ولا يوصف اللهم عند سيبويه، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه، فهو عندهما صفة للاهم، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو. {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ} وقرأ الجمهور: لا يتخذ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي، والمراد به النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي. و: يتخذ، هنا متعدية إلى اثنين، و: من دون، متعلقة بقوله: لا يتخذ، و: من، لابتداء الغاية. {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ} وخبر: ليس، هو ما استقلت به الفائدة، وهي: في شيء، و: من الله، في موضع نصب على الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء، والتقدير: فليس في شيء من ولاية الله. و: من، تبعيضية نفي ولاية الله عن من اتخذ عدوه ولياً، لأن الولايتين متنافيتان، قال: تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك، ليس النَّوْكُ عنك بعازب وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة: إذا حاولت في أسد فجوراً فإني لست منك ولست مني ليس بجيد، لأن: منك ومني، خبر ليس، وتستقل به الفائدة. وفي الآية الخبر قوله: في شيء، فليس البيت كالآية.

قال ابن عطية {فليس من الله في شيء} معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «من غشنا فليس منا» . وفي الكلام حذف مضاف تقديره: فليس من التقرب إلى الله والتزلف. ونحو هذا مقوله: في شيء، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله: {ليس من الله في شيء} . انتهى كلامه. وهو كلام مضطرب، لأن تقديره: فليس من التقرب إلى الله، يقتضي أن لا يكون منالله خبراً لليس، إذ لا يستقل. فقوله: في شيء، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً، فيبقى: ليس، على قوله لا يكون لها خبر، وذلك لا يجوز. وتشبيهه بقوله عليه السلام: «من غشنا فليس منا» ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية. {إِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَةً} هذا استثناء مفرع من المفعول له. وقال الزمخشري: إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء: تقية. وقيل: للمتقي تقاة وتقية، كقولهم: ضرب الأمير لمضروبه. انتهى فجعل: تقاة، مصدراً في موضع اسم المفعول، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً. وقال أبو عليّ: يجوز أن يكون: تقاة، مثل: رماة، حالاً من: تتقوا، وهو جمع فاعل، وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن يكون جمع تقي. انتهى كلامه. وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله {إلا أن تتقوا منهم} وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً، ولو كان جمع: تقي، لكان أتقياء، كغني وأغنياء، وقولهم: كمي وكماة، شاذ فلا يخرجّ عليه، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} المعنى حق اتقائه، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا: اتقى، حتى صار: تقي يتقي، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي.

وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، والضحاك، وأبو حيوة، ويعقوب، وسهل، وحميد ابن قيس، والمفضل عن عاصم: تقية على وزن مطية وجنية، وهو مصدر على وزن: فعيلة، وهو قليل نحو: النميمة. وكونه من افتعل نادر. {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا} اختلف في العامل في: يوم، فقال الزجاج: العامل فيه: ويحذركم، ورجحه. وقال أيضاً: العامل فيه: المصير. وقال مكي بن أبي طالب: العامل فيه: قدير، وقال أيضاً: فيه مضمر تقديره اذكر. وقال ابن جرير: تقديره: اتقوا، ويضعف نصبه بقوله: ويحذركم، لطول الفصل. هذا من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود، واليوم موعود، فلا يصح له العمل فيه، ويضعف انتصابه: بالمصير، للفصل بين المصدر ومعموله، ويضعف نصبه: بقدير، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً. وأما نصبه باضمار فعل، فالإضمار على خلاف الأصل. وقال الزمخشري: {يوم تجد} منصوب: بتود، والضمير في: بينه، ليوم القيامة، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً. إنتهى هذا التخريج. والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين، وهي: إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء اتصل بالمعمول للفعل، نحو: غلام هند ضربت، وثوبي أخويك يلبسان، ومال زيد أخذ، فذهب الكسائي، وهشام، وجمهور البصريين: إلى جوزاز هذه المسائل. ومنها الآية على تخريج الزمخشري، لأن الفاعل: بتودّ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول: تودّ، وهو: يوم، لأن: يوم، مضاف إلى: تجد كل نفس، والتقدير: يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوؤ تودّ.

وذهب الفراء، وأبو الحسن الأخفش، وغير من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز، لأن هذا المعمول فضلة، فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به، ولهذه العلة امتنع: زيداً ضرب، وزيداً ظنّ قائماً. والصحيح جواز ذلك قال الشاعر: أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني أي: المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر. و: تجد، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو: ما عملت، فيكون بمعنى نصيب، ويكون: محضراً، منصوباً على الحال. وقيل: تجد، هنا بمعنى: تعلم، فتتعدّى إلى اثنين، وينتصب: محضراً على أنه مفعول ثان لها، وما، في: ما عملت، موصولة، والعائد عليها من الصلة محذوف، ويجوز أن تكون مصدرية أي: عملها، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول، أي: معمولها، فقوله: ما عملت، هو على حذف مضاف أي: جزاء ما عملت وثوابه. قيل: ومعنى: محضراً على بهذا موفراً غير مبخوس. وقيل: ترى ما عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشضيراً لها، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل. وقرأ الجمهور: محضراً، بفتح الضاد، اسم مفعول. وقرأ عبيد بن عمير: محضرا بكسر الضاد، أي محضراً الجنة أو محضراً مسرعاً به إلى الجنة من قولهم: أحضر الفرس، إذا جرى وأسرع.

و: ما عملت من سوء، يجوز أن تكون في موضع نصب، معطوفاً على: ما عملت من خير، فكيون المفعول الثاني إن كان: تجد، متعدّية إليهما، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد محذوفاً، أي: وما عملت من سوء محضراً. وذلك نحو: ظننت زيداً قائماً وعمراً، إذا أردت: وعمراً قائماً، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون: تودّ، مستأنفاً. ويجوز أن يكون: توّد، في موضع الحال أي: وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء، فيكون الضخمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو: الخير الذي عمله، ولا يطلب تباعد وقت إحضاراً لخير إلاَّ بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر، فتودّ تباعدة لتسلم من الشر، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى: عوده على: ما عملت من السوء، لأنه أقرب مذكور، لأن المعنى: أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه، وإلى عطف: ما عملت من سوء، على: ما عملت من خير، وكون، تودّ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري، ويجوز أن يكون: وما عملت من سوء، موصولة في موضع رفع بالابتداء و: تودّ، جملة في موضع الخبر: لما، التقدير: والذي عملته من سبوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون: وما عملت من سوء، شرطاً. قال الزمخشري: لارتفاع: تودّ. وقال ابن عطية: لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه، اللهم إلاَّ أن يقدر في الكلام محذوف، أي: فهي تودّ، وفي ذلك ضعف. إنتهى كلامه. وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع: تودّ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبون العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، رحمه الله، واستشسكل قول الزمخشري. وقال: ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول: لا غائب مالي ولا حرم وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى: (بالتذكرة) ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة، فنقول: إذا كان فعل الشرط ماضياً، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء، جاز في ذلك المضارع الجزم، وجاز فيه الرفع، مثال ذلك: إن قام زيد يقوم عمرو، وان قام زيد يقم عمرو. فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً، وأنه فصيح، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب (الإعراب) عن بعض النحويين أنه: لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع: كان، لقوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها} لأنها أصل الأفعال، ولا يجوز ذلك مع غيرها. وظاهر كلام سيبويه، ونص الجماعة، أنه لا يختص ذلك بكان، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان، وأنشد سيبويه للفرزدق: دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدوراً ذات توغير وقال أيضاً: تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير. وقال بعض أصحابنا: وهو أحسن من الجزم، ومنه بين زهير السابق إنشاده، وهو قوله أيضاً: وإن سل ريعان الجميع مخافة يقول جهاراً: ويلكم لا تنفروا وقال أبو صخر: ولا بالذي إن بان عنه حبيبه يقول ويخفي الصبر: إني الجازع وقال الآخر: وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر وقال الآخر: وإن كان لا يرضيك حتى تردّني إلى قطري لا إخاك راضياً وقال الآخر: إن يسألوا الخير يعطوه، وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب إخبار

فهذا الرفع، كما رأيت كثير، ونصوص الأمة على جوازه في الكلام، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره. وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي، وهو مصنف (صف المباني) رحمه الله: لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع، تقدّم الماضي أو تأخر، وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء، وجعله مثل قول الشاعر: إنك إن يصرغ أخوك تصرغ. على مذهب من جعل الفائ منه محذوفة. وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم. وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده. وذهب الكوفيون، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط، لكونه ماضياً، ضعف عن العمل في فعل الجواب، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء، ولا على نية التقديم، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان. وتلخص من هذا الذي قلناه: أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً، لكن امتنع أن يكون: وما عملت، شرطاً لعلة أخرى، لا لكون: تود، مرفوعاً، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب، فنقول: إذا كان: تود، منوياً به كالتقديم أدّى إلى تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناه في العربية. ألا ترى أن الضمير في قوله: وبينه، عائد على اسم الشرط الذي هو: ما، فيصير التقدير: تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على الظاهر، وذلك لا يجوز. فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله، وذلك نظير: ضرب زيداً غلامه، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير.

فالجواب: إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب. وإذا كان كذلك تدافع الأمر، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها، فتدافعا. وهذا بخلاف: ضرب زيداً غلامه، هي جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه، ولذلك جاز عند بعضهم: ضرب غلامها هنداً، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع: ضرب غلامها جار هند، لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرق ما بين المسألتين. ولا يحفظ من لسان العرب: أو دّلو أني أكرمنه أياً ضربت هند، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره. وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة: من سوء ودّت لو أن، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون: ما، شرطية في موضع نصب، فعملت. أو في موضع رفع على إضمار الهاء في: عملت، على مذهب الفراء، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام، وتكون: ودّت، جزاء الشرط. قال الزمخشري: لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت لموافقة قراءة العامة. انتهى. و: لو، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف، ومفعول: تود، محذوف، والتقدير: تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في: لو، و: أن، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب سيبويه، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس.

وأمّا على قول من يذهب إلى أن: لو، بمعنى: أن، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية، ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاَّ قليلاً، كقوله تعالى {مثل ما أنكم تنطقون} والذي يقتضيه المعنى أن: لو أن، وما يليها هو معمول: لتودّ، في موضع المفعول به. قال الحسن: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً، ذلك معناه. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَهِيمَ وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَى الْعَلَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاٍّنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّلِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ *

قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىءَايَةً قَالَءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَرِ} . نوح: اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو: العلمية والعجمة الشخصية، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم، فيمكن ذلك. ويسمى: آدم الثاني واسمه السكن، قاله غير واحد، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم. عمران: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً. زكريا: أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة. وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم، وهو غلط منه، ويقال: ذكرى بحذف الألف، وفي آخره ياء كياء بحتى، منونة فهو منصرف، وهي لغة نجد، ووجهه فيما قال أبو علي؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه، ولو كانت الياآن هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف. انتهى كلامه. وقد حكي: ذكر على وزن: عمر، وحكاها الأخفش. هنا: اسم إشارة للمكان القريب، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه يجر بحرف الجر، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد. وبنو تميم تقول: هناك، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام، وقد يراد بها ظرف الزمان.

يحيي: اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية، وقيل: هو عربي، وهو فعل مضارع من: حي، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وعلى القولين يجمع على: يحيون، بحذف الأولف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل، وسيبويه ونقل عن الكوفيين: إن كان عربياً فتحت الياء، وإن كان أعجمياً ضمت الياء. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} وروي معناه عن ابن عباس، قال: المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، واختاره الفراء. وقال التبريزي: هذا ضعيف، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان: ونوح مجروراً، لأن آدم محله الجر بالإضافة، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته. لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف، فيلزم جر ما عطف عليه، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف. ألا ترى إلى قوله واسأل القرية؟ وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو. {عَلَى الْعَلَمِينَ} متعلق باصطفى، ضمنه معنى فضل، فعداه بعلى. ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن. {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} أجازوا في نصب: ذرية، وجهين: أحدهما: أن يكون بدلاً. قال الزمخشري {من آل إبراهيم وآل عمران} يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى. وأجازوا أيضاً نصب: ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال: وهو أظهر من البدل. وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً، فأغنى عن إعادته. وقرأ زيد بن ثابت والضحاك: ذِرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم. {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} جملة في موضع الصفة لذرية و: من، للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل.

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَنَ} والعامل في: إذ، مضمر تقديره: إذكر، قاله الأخفش، والمبرد، أو معنى الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران. قاله الزجاج، وعلى هذا يجعل {وآل عمران} من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء، وزمان قول امرأة عمران، فلا يصح عمله فيه. وقال الطبري ما معناه: إن العامل فيه: سميع، وهو ظاهر قول الزمخشري، أو: سميع عليم، لقول امرأة عمران ونيتها، و: إذ، مصنوب به. انتهى. ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما ان يكون خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: سميع، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل: سميع، في الظرف، لأنه قد وصف. اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك، ولأن اتصافه تعالى: بسميع عليم، لا يتقيد بذلك الوقت. وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة، المعنى: قالت امرأة عمران. وتقدّم له نظير هذا القول في: مواضع، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وانتصب محرراً، على الحال. قيل: من ما، فالعامل: نذرت وقيل من الضمير الذي في: استقر، العامل في الجار والمجرور، فالعامل في هذا: استقر، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره: غلاماً محرراً. وقال ابن عطية: وفي هذا نظر، يعني أن: نذر، قد أخذ مفعوله، وهو: ما في بطني، فلا يتعدّى إلى آخره، ويحتمل أن ينتصب: محرراً، على أن يكون مصدراً في معنى: تحريراً، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة، كما قال الشاعر: ألم تعلم مسرحي القوافي

فلاعياً بهنّ ولا اجتلابا التقدير: تسريحي القوافي، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف، أي: نذر تحرير، أو على أنه مصدر من معنى: نذرت، لأن معنى: {نذرت لك ما في بطني} حررت لك بالنذر ما في بطني. والظاهر القول الأول، وهو أن يكون حالاً من: ما، ويكون، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله: محرراً، خادماً للكنيسة، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً، لأن عتق ما في البطن يجوز. {قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى} وقال الزمخشري: فإ قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها؛ وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟. قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال، وذا الحال شيء واحد، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين} . إنتهى. وآل قوله إلى أن: أنثى، تكون حالاً مؤكدة، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة. وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك، حيث عاد الضمير على معنى: من، فليس ذلك نظير: وضعتها أنثى، لأن ذلك حمل على معنى: من، إذا المعنى: أية امرأة، كانت امّك، أي: كانت هي أيّ المرأة أمّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحمل على معنى: من، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير: وضعتها أنثى، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى، فإنه لمجرد التأكيد. وأما تنظيره بقوله: {فإن كانتا اثنتين} فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر، والكلام عليه يأتي في مكانه، فإنه من المشكلات، فالأحسن أن يجعل الضمير في: وضعتها أنثى، عائداً على النسمة، أو النفس، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} و: ما، موصولة بمعنى: الذي، أو: التي، وأتى بلفظ: ما، كما في قوله: {نذرت لك ما في بطني} والعائد عليها محذوف على كل قراءة.

{وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} مريم في لغتهم معناه: العابدة، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير، والتقرب إلى الله تعالى، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن تصدّق فيها ظنها بها. ألا ترى إلى إعاذتها بالله وعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات، كما نقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة، وفي الحديث: «ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم» . وفي الحديث أنه: «يعق عن المولود في السابع ويسمى» . وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ: بما وضعت، بضم التاء. وأما من قرأ: بما وضعت، بسكون التاء أو بالكسر. فقال الزمخشري: هي معطوفة على: إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضان، كقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} . إنتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان، لأنه يحتمل أن يكونه {وليس الذكر كالأنثى} في هذه القراءة من كلامها، ويكون المعترض جملة واحدة، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ: وضعت، بضم التاء، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي: أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك.

وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله: {وانه لقسم لو تعلمون عظيم} ليس تشبيهاً مطابقاً للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم الذي هو: {فلا أقسم بمواقع النجوم} وجوابه الذي هو: {انه لقرآن كريم} بجملة واحدة وهي قوله: {وانه لقسم لو تعلمون عظيم} لكنه جاء في جملة الأعتراض بين بعض أجزائه وبعض، اعتراض بجملة وهي قوله: {لو تعلمون} اعترض به بين المنعوت الذي هو: لقسم، وبين نعته الذي هو: عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله: {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل، يقول سميت ابني بزيد، وسميته زيداً. قال: وسميت كعباً بشر العظام وكان أبوك يسمى الجعلأي: وسميت بكعب، ويسمى: بالجعل، وهو باب مقصور على السماع، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير، وتحرير ذلك في علم النحو. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} والباء في: بقبول، قيل: زائدة، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر، وقيل: ليست بزائدة. وانتصب: نباتاً، على أنه مصدر على غير الصدر، أو مصدر لفعل محذوف أي: فنبتت نباتاً حسناً. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وانتصاب: هنالك، بقوله: دعا، ووقع في تفسير السجاوندي: أن هناك في المكان، وهنالك في الزمان، وهو وهم، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا. وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان، كما أن أصل: عند، أن يكون للمكان، ثم يتجوز بها للزمان، كما تقول: آتيك عند طلوع الشمس.

{قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وتقدّم أن: لدن، لما قرب، و: عند، لما قرب ولما بعد، وهي أقل إبهاماً من: لدن، ألا ترى أن: عند، تقع جواباً لأين، ولا تقع له جواباً: لدن؟. و {مِن لَّدُنْكَ} متعلق: بهب، وقيل: في موضع الحال من: ذرية، لأنه لو تأخر لكان صفة، فعلى هذا تتعلق بمحذوف. وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول، أو من الملائكة، و: يصلي، يحتمل أن يكون صفة: لقائم، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المستكن في: قائم، أو: من ضمير المفعول، على مذب من جوّز حالين من ذي حال واحد، ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً: لهو، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد، وإن لم تكن في معنى خبر واحد. ويتعلق: في المحراب، بقوله: يصلي، ولا يجوز أن يتعلق: بقائم، في وجه من احتمالات إعراب: يصلي، إلا في وجه واحد، وهو أن يكون: يصلي، حالاً من الضمير الذي استكن في: قائم، فيجوز. لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي: يصلى، وهو: قائم، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو: قائم، إذ هو العامل في ذي الحال، وبه يتعلق المجرور. وفي قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} قالوا: دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه، وقد كرهه أبو حنيفة، وقال: كان ذلك شرعاً لمن قبلنا. ورقق وَرش راء: المحراب، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كانت: المحراب، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر. ولم يقيد بالجر. {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} قرأ ابن عامر، وحمزة: إن الله، بكسر الهمزة. فعند البصريين الكسر على إضمار القبول، أي: وقالت. وعند الكوفيين لا إضمار، لأن غير القول مما هو في معناه: كالنداء والدعاء، يجري مجرى القول في الحكاية، فكسرت بنادته، لأن معناه قالت له. وقرأ الباقون بفتح الهمزة، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل، أي بتبشير:

وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب. وقرأ عبد الله: يا زكريا إن الله. فقوله: يا زكرياء، هو معمول النداء. فهو في موضع نصب، ولا يجوز فتح: إن، على هذه القراءة، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه، وهما: الضمير والمنادى. {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وانتصب: مصدّقاً، على الحال قال ابن عطية: وهي حال مؤكدة. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ} و: يكون، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام، أي: أنَّي يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تكون ناقصة، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الأسم، لأنه قيل: دخول كان مصحح لجواز الإبتداء بالنكرة، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز الإبتداء بالنكرة، والجملتان بعد كل منهما حال، والعامل فيهما: يكون، إن كانت تامة، أو العامل في: لي، إن كانت ناقصة. وقيل: {وامرأتي عاقر} حال من المفعول في: بلغني، والعامل بلغني، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً فشيئاً، فلم يكن وصفاً لازماً، وكانت الثانية اسمية والخبر: عاقر، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية.

{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} الكاف: للتشبيه، وذلك: إشارة إلى الفعل، أي: مثل ذلك الفعل، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغربية فيكون إخباراً من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة: سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: فعلاً مثل ذلك الفعل، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف: من يفعل، وذكل على مذهب سيبويه، وقد تقدّم لنا مثل هذا، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبراً، وذلك على حذف مضاف، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، ويكون {يفعل ما يشاء} شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة: الله، قال: {ويفعل ما يشاء} بيان له، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات. إنتهى. وقال ابن عطية: أي: كهذه القدرة المسغربة هي قدرة الله. إنتهى. وعلى هذا الاحتمال، تكون الكاف في موضع رفع، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة. {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىءَايَةً} وظاهر: جعل، هنا أنها بمعنى صيِّر، فتتعدّى لمفعولين: الأول آية، والثاني المجرور، قبله وهو: لي، وهو يتعين تقديمه، لأنه قبل دخول: اجعل، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة.

وقرأ ابن أبي عبلة: أن لا تكلم، برفع الميم على أن: أن، هي المخففة من الثقيلة، أي أنه لا تكلم، واسمها محذوف ضمير الشأن، أو على إجراء: أن، مجرى: ما المصدرية، وانتصاب: ثلاثة أيام، على الظرف خلافاً للكوفيين، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل، فليس بظرف، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو: صمت يوماً، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعاً في جميع الثلاثة، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه. {إِلاَّ رَمْزًا} واستثناء الرمز، قيل: هو استثناء منقطع، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلاً على مذهبه. ولذكل أنشد النحويون: أرادت كلاماً فاتقت من رقيبها فلم يك إلاَّ ومؤها بالحواجب وقال: إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادرواستعمل المولدون هذا المعنى. قال حبيب: كلمته بجفون غير ناطقة فكان من ردّه ما قال حاجبه وكونه استثناءً متصلاً بدأ به الزمخشري. قال: لما أدّى مؤدّي الكلام، وفهم منه ما يفهم منه، سمي كلاماً. وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً. قال: والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الأستثناء أنه منقطع، وبدأ به أوّلاً، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً. وقرأ الأعمش: رمزاً، بفتح الراء والميم، وخرج على أنه جمع رامز، كخادم وخدم، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من الفاعل، وهو الضمير في تكلم، ومن المفعول وهو: الناس. كما قال الشاعر: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيىّ وأيّك فارس الأحزاب أي: إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه.

{وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَرِ} وانتصاب: كثيراً، على أنه نعت لمصدر محذوف، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه: اذكروا، على مذهب سيبويه. ومفعول: وسبح، محذوف للعلم به، لأن قبله: {واذكر ربك كثيراً} أي: وسبح ربك. و: الباء في: بالعشي، ظرفية أي: في العشي. وقرىء شاذاً والإبكار، بفتح الهمزة، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف، تقول: أتيتك بكراً، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره: سحر وأسحار، وجبل وأجبال. وهذه القراءة مناسبة للعشي على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية، وكذلك هي مناسبة إذا كان العش مفرداً، وكانت الألف واللام فيه للعموم، كقوله: {إن الإنسان لفي خسر} وأهلك الناس الدينار الصفر. وأما على قراءة الجمهور: والإبكار، بكسر الهمزة، فهو مصدر، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت، بالمصدر، فيحتاج إلى حذف أي: بالعشي ووقت الإبكار. ويتعلق: بالعشي، بقوله: وسبح، ويكون على إعمال الثاني وهو الألى، إذ لو كان متعلقاً بقوله: واذكر ربك، لأضمر في الثاني، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة. قيل: أو في قليل من الكلام، ويحتمل أن يكون من باب الإعمال، فيكون الأمر بالذكحر غير مقيد بهذين الزمانين.

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَلَمِينَ * يمَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّلِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأٌّكْمَهَ والأٌّبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ} .

{ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ} والكاف في: ذلك، و: إليك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والأحسن في الإعراب أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من أنباء الغيب، خبره. وأن يكون: نوحيه، جملة مستأنفة، ويكون الضمير في: نوحيه، عائداً على الغيب، أي: شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ولذلك أتى بالمضارع، ويكون أكثر فائدة من عوده على: ذلك، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل، إذ يصير نظير: زيد يطعم المساكين، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة. والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع، وإذ يلزم من عوده على: ذلك، أن يكون: نوحيه، بمعنى: أوحيناه إليك، لأن الوحي به قد وقع وانفصل، فيكون أبعد فلي المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي، وجوّزوا أن يكون: نوحيه، خبراً: لذلك، و: من أنباء، حال من: الهاء، في: نوحيه، أو متعلقاً: بنوحيه. {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَمَهُمْ} والعامل في: إذ، العامل في: لديهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في: إذ، كنت. إنتهى. ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة. لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا، فكيف يعمل في ظرف؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه، والمضارع بعد: إذ، في معنى الماضي، أي: إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم. وارتفع {أيّهم يكفل مريم} على الابتداء والخبر، وهو في موضع نصب إما على الحكاغية بقول محذوف، أي: يقولون أيهم يكفل، ودل على المحذوف: {يلقون أقلامهم} . والعامل في: اذ، العامل في: لديهم، أو، كنت، على قول أبي علي في: إذ يلقون.

وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة: التكحرار في: اصطفاك، وفي: يا مريم، وفي: ما كنت لديهم. قيل: والتقديم والتأخير في: واسجدي واركعي، على بعض الأقوال. والأشتعارة، فيمن جعل القنوعت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة، والإشارة بذلك من أنباء الغيب، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين، والتشبيه في أقلامهم، إذا قلنا إنه أراد القداح. والحذف على عدة مواضع. {إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} العامل في: إذا، اذكر أو: يختصمون، أو إذ، بد من إذ، في قوله: إذ يختصمون، أو من: وإذ قالت الملائكة، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة، وهو بعيد، وهو قول الزجاج. ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ. {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} والظاهر أن اسمه: المسيح، فيكون: اسمه المسيح، مبتدأ وخبراً، و: عيسى، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون بدلاً، وأن يكون عطف بيان. ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر، وقال: كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى، أو أسماها على لفظ الكلمة، ويجوز أن يكون: عيسى، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو عيسى ابن مريم. قال ابن عطية: ويدعو إلى هذا كون قوله: ابن مريم، صفة: لعيسى، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف. وأما على البدل، أو عطف البيان، فلا يجوز أن يكون: ابن مريم، صفة: لعيسى، لأن الأسم هنا لم يرد به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظر. إنتهى كلامه. وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل: {اسمه المسيح عيسى بن مريم} وهذه ثلاثة أشياء الأسم منها: عيسى، وأما: المسيح و: الأبن، فلقب وصفة؟.

قلت: الأسم للمسمى علامة يعرف بها، ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة. إنتهى كلامه. ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله: اسمه، ويكون من باب: هذا حلو حامض، و: هذا أعسر يسر. فلا يكون أحدها على هذا مستقلاًغ بالخبرية. ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر: كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم؟ أي: مجموع هذا مما يزرع الود، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع، كذلك يجوز في الخبر. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ابن مريم، خبر مبتدأ محذوف أي: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله، ولا صفة لأن: ابن مريم، ليس باسم. ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه؟ إنتهى. قال بعضهم: ومن قال إن المسيح صفة لعيسى، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره: اسمه عيسى المسيح، لأن الصفة تابعة لموصوفها. إنتهى. ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة، لأن المخبر به على هذا اللفظ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال، إذ لفظ عيسى ليس المسيح. ومن قال: إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشضهرته. قال ابنه الأنباري: وإنما بدأ بلقبه لأن: المسيح، أشهر من: عيسى، لأنه قل أن يقل على سمي يشتبه، وعيسه قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته. ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم؟ وهذا يدل على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم. قال الزجاج: وعيسى معرب من: ايسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث، ويكون مشتقاً من: عاسه يعوسه، إذا اساسه وقام عليه. {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} معطوف على قوله: وجيهاً، وتقديره: ومقرباً من جملة المقربين.

أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين، وأن عيسى منهم. ونظير هذا العطف قوله تعالى: {وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} فقوله: وبالليل، جار ومجرور في موضع الحال، وهو معطوف على: مصبحين، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل، فلو جاء: ومقرباً، لم تكن فاصلة. {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً} وعطف: ويكلم، وهو حال أيضاً على: وجيهاً، ونظيره: {إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} أي: وقابضات. وكذلك: ويكلم، أي: وملكماً. وأتى في الحال الأول بالأسم لأن الأسم هو للثبوت، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقد بالأسم. وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة. أترى في الحال وصف في المعنى؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إكذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. كقوله تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمان} فكذلك الحال، بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد، كما أن الأسم يشعر بالثبوت، ويتعلق: في المهد، بمحذوف إذ هو في موضع الحال، التقدير: كائنا في المهد وكهلاً، معطوف على هذه الحال، كأنه قيل: طفلاً وكهلاً، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكساً: {وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} ومن زعم أن: وكهلاً، معطوف على: وجيهاً، فقد أبعد.

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} وقرأ نافع، وعاصم، ويعقوب، وسهل: ويعلمه، بالياء وقرأ الباقون: بالنون، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة، وذلك إن قوله: قال كذلك، الضمير في: قال، عائد على الرب، والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ الله مبتدأ، وخبره فيما قبله، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في: {قال كذلك الله يفعل ما يشاء} فيكون هذا من المقول لمريم، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها، ويجوز أن يكون معطوفاً على: يخلق، سواء كانت خبراً عن الله أم تفسيراً لما قبلها، إذا أعربت لفظ: الله مبتدأ وما قبله الخبر، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء. وأما على قراءة النون، فيكون من باب الإلتفات، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة. وقال أبو علي: وجوزه الزمخشري، وغيره عطف: ويعلمه، على: يبشرك، وهذا بعيد جداً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفلاً على: ويكلم، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: وجيهاً، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال. وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن، وهذا القولان بعيدان أيضاً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثله في لسان العرب.

وقال بعضهم: ونعلمه، بالنون حمله على قوله {نوحيه إليك} فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري: أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفاً على شيء من هذه التي ذكرت، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله، على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلاَّ أن يدعى زيادة الواو في: ويعلمه، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك. وقال الطبري: قراءة الياء عطف على قوله {يخلق ما يشاء} وقراءة النون عطف على قوله {نوحيه إليك} قال ابن عطية: وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى. انتهى. ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على: نوحيه، من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط، وتعقيد التركيب، وتنافر الكلام. وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران، وولادتها لمريم، وكفالة زكريا، وقصته في ولادة يحيى له، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير، كل ذلك من أخبار الغيب، نعلِّمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله.

وأما قراءة الياء وعطف: ويعلمه، على: يخلق، فليست مفسدة للمعنى، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف: ويعلمه، لقرب لفظه وصحة معناه. وقد ذكرنا جوازه قبل، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجرِ بها عادة، مثل ما خلق لك ولداً من غير أب، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس من بني إسرائيل، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه تعالى من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف: ويعلمه. {وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} اختلفوا في: رسولاً، هنا فقيل: هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل: هو مصدر بمعنى رسالة، إذ قد ثبت أن رسولاً يكون بمعنى رسالة، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي، وأبو البقاء، وقالا: هو معطوف على الكتاب، أي: ويعلمه رسالة إلى بني اسرائيل، فتكون: رسالة، داخلاً في ما يعلمه الله عيسى. وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدراً في موضع الحال. وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه، وجوها. أحدها: أن يكون منصوباً بإضمار فعل تقديره: ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، قالوا: فيكون مثل قوله: يا ليت زوجك قد غدا متقلداً سيفاً ورمحاً أي: ومعتقلاً رمحاً. لما لم يمكن تشريكه مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو: يعلمه، أضمر له فعل ناصب يصح به المعنى، قاله ابن عطية وغيره. الثاني: أن يكون معطوفاً على: ويعلمه، فيكون: حالاً، إذ التقدير: ومعلماً الكتاب، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله: وجيهاً، قاله الزمخشري، وثنى به ابن عطية، وبدأ به وهو مبني على إعراب: ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول: إن: ويعلمه، معطوف على: وجيهاً، للفصل المفرط بين المتعاطفين.

الثالث: أن يكون منصوباً على الحال من الضمير المستكن في: ويكلم، فيكون معطوفاً على قوله: وكهلاً، أي: ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل، قاله ابن عطية، وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين. الرابع: أن تكون الواو زائدة، ويكون هالاً من ضمير: ويعلمه، قاله الأخفش، وهو ضعيف لزيادة الواو، لا يوجد في كلامهم: جاء زيد وضاحكاً، أي: ضاحكاً. الخامس: أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول، ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول من عيسى، التقدير: وتقول أرسلت رسولاً إلى بني إسرائيل، واحتاج إلى هذا التقدير كله، لقوله: {أني قد جئتكم} وقوله: {ومصدقاً لما بين يدي} ، إذ لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر، لأن ما قبله ضمير غائب، وهذا أن ضمير متكلم، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى. قاله الزمخشري، وقال: هو من المضايق، يعني من المواضع التي فهيا إشكال. وهذا الوجه ضعيف، إذ فيه إضمار القول ومعموله الذي هو: أرسلت، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة، إذ يفهم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي على هذا التقدير حال مؤكدة. فهذه خمسة أوجه في إعراب: ورسولاً، أولاها الأول، إذ ليس فيه إلاَّ إضمار فعل يدل عليه المعنى، أي: ويجعله رسولاً، ويكون قوله {أني قد جئتكم} معمولاً لرسول، أي ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور، ومعمولاً لقول محذوف على قراءة من كسر الهمزة، وهي قراءة شاذة، أي: قائلاً إني قد جئتكم، ويحتمل أن يكون محكياً بقوله: ورسولاً، لأنه في معنى القول، وذلك على مذهب الكوفيين. وقرأ اليزيدي: ورسولٍ، بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على: بكلمة منه، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف. ويجوز أن يكون: من ربكم، في موضع الصفة، لأنه يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق: بجئتكم، أي: جئتكم من ربكم بآية.

{أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} قرأ الجمهور: أني أخلق، بفتح الهمزة على أن يكون بدلاً من: آية، فيكون في موضع جر، أو بدلاً من قوله: أني قد جئتكم، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي، أي: الآية أني أخلق، فيكون في موضع رفع. وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول، أو على التفسير للآية. كما فسر المثل في قوله: {كمثل آدم} بقوله: {خلقه من تراب} . وقرأ بعضهم فأنفخها، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة. إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو: على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله: {فتنفخ فيها} ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجرّ. كما قال: ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند إسلاب يريد: ولا قامت عليك، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء. وقال النابغة: كالهبرقيّ ثنحَّى ينفخ الفحماء فعدى: تفخ، لمنصوب، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر، ويمكن أن يكون على التضمين، أي: يضرم بالنفخ الفحم، فيكون هنا ناقصة على بابها، أو بمعنى: تصير. وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: طائراً، وقرأ الباقون: طيراً، وانتصابه على أنه خبر: يكون، ومن جعل: يكون، هنا تامّة، و: طائراً، حالاً فقد أبعد. وتعلق بإذني الله، قيل: بيكون. وقيل: بطائر. {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} و: ما، في: ما تأكلون وما تدخرون، موصولة اسمية، وهو الظاهر. وقيل: مصدري.

وقرأ الجمهور: تدخرون، بدال مشددة، وأصله: إذتخر، من الذخر، أبدلت التاء دالاً، فصار: إذدخر، ثم أدغمت الذال في الدال، فقيل: ادّخر، كما قيل: ادكره. وقرأ مجاهد، والزهري، وأيوب السختياني، وأبو السمال: تذخرون، بذال ساكنة وخاء مفتوحة. وقرأ أبو شعيب السوسي، في رواية عنه: وما تذدخرون، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام، وهذا الفك جائز. وقراءة الجمهور بالإدغام أجود، ويجوز جعل بالدال ذالاً، والإدغام فتقول: اذخر، بالذال المعجمة المشددة. {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} عطف و: مصدقاً، على قوله: بآية إذ الباء فيه للحال، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى، فالمعنى: وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم، ومصدقاً لما بين يدي. ومنعوا أن يكون: ومصقاً، معطوفاً على: رسولاً إلى بني إسرائيل، ولا على: وجيهاً، لما يلزم من كون الضمير في قوله: لما بين يدي، غائباً. فكان يكون: لما بين يديه، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله: ورسولاً، أن يكون منصوباً بإضمار فعل، أي: وأرسلت رسولاً، فعلى هذا التقدير يكون: ومصدقاً، معطوفاً على: ورسولاً. {وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} واللام في: ولأحل لكم، لام كي، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ، فقيل: هو معطوف على المعنى، إذ المعنى في: ومصدقاً، أي: لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم. وهذا هو العطف على التوهم، وليس هذا منه، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه. ألا ترى إلى قوله: فأصدق وأكحي كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض؟ وكذلك قوله: تقي نقي لم يكثر غنيمة

بنكهة ذي قربى ولا بحفلد كيف اتحد معنى النفي في قوله: لم يكثر، ولا في قوله: ولا بخفلد؟ أي: ليس بمكثر ولا بحفلد. وكذلك ما جاء من هذا النوع. وقيل: اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى: أي وجئتكم لأحلّ لكم. وقيل: تتعلق اللام بقوله: وأطيعون، والمعنى: واتبعون لأحل لكم، وهذا بعيد جداً. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره: لأخفف عنكم، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري: ولأحل، ردّ على قوله: بآية من ربكم، أي: جئتكم بآية من ربكم، لأن: بآية، في موضع حال، و: لأحل، تعليل، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في بالحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف. {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ظاهر اللفظ أن يكون قوله: {وجئتكم بآية من ربكم} للتأسيس لا للتوكيد، لقوله: قد جئتكم بآية من ربكم، وتكون هذه الآية قوله: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه} لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القول آية وعلامة، لأنه رسول كسائر الرسل، حخيث هداه للنظر في أدلة العقل والأستدلال. وكسر: إن، على هذا القول لأن: قولاً، قبلها محذوف، وذلك القول بدل من الآية، فهو معمول للبدل. ومن قرأ بفتح: أن، فعلى جهة البدل من: آية، ولا تكون الجملة من قوله: إن، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول، ويكون قوله: {فاتقوا الله واطيعون} جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه.

وقيل: الآية الأولى في قوله: {قد جئتكم بآية} هي معجزة. وفي قوله: {وجئتكم بآية} هي الآية من الإنجيل، فاختلف متعلق المجيء، ويجوز أن يكون {وجئتكم بآية من ربكم} كررت على سبيل التوكيد، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من: خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات، وبغيره من ولادتي من غير أب، ومن كلامي في المهد، وسائر الآيات. فعلى بهذا من كسر: إن، فعلى الأستئناف، ومن فتح فقيل التقدير، لأن الله ربي وربك فاعبدوه، فيكون متعلقاً بقوله: فاعبدوه، كقوله: {لايلاف قريشض} ثم قال: {فليعبدوا} فقدم: أن، على عاملها. ومن جوز: أن تتقدم: أن، ويتأخر عنها العامل في نحو هذا غير مصيب، لا يجوز: أن زيداً منطلق عرفت، نص على ذلك سيبويه وغيره، ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم، وما بينهما اعتراض. وقال ابن عطية: التقدير: أطيعون لأن الله ربي وربكم. إنتهى. وليس قوله بظاهر.

{فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَآءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَذِبِينَ} . {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى} قيل: خير، هنا ليست للتفضيل، بل هي: كهي في قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقر} وقال حسان. فشركما لخيركما الفداء

وفي هذه الآية من ضروب البلاغة: الاستعارة في: أحس، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس، بمعنى رأى، أو بمعنى: سمع منهم كلمة الكفر، فيكون: أحس، لا استعارة فيه، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن، وتسمية الشيء باسم ثمرته. قال الجمهور: أحس منهم القتل، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر. والسؤال والجواب في: قال {من أنصاري إلى الله قال الحواريون} والتكرار في: من أنصاري إلى الله، وأنصار الله، وآمنا بالله، وآمنا بما أنزلت، ومكروا ومكر الله، والماكرين، وفي هذا التجنيس المماثل، والمغاير، والحذف، في مواضع. {إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} العامل في: إذ، ومكر الله قاله الطبري، أو: اذكر، قاله بعض النحاة، أو: خير الماكرين، قاله الزمخشري. وهذا القول هو بواسطة الملك، لأن عيسى ليس بملكم، قاله ابن عطية. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ} {إلى يوم القيامة} الظاهر أن: إلى، تتعلق بمحذوف، وهو العامل في: فوق، وهو المفعول الثاني: لجاعل، إذ معنى جاعل هنا مصير.

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} و: ذلك، مبتدأ، و: نتلوه، خبر و: من الآيات، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال، أي: كائناً من الآيات. و: من، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر، وجوّزوا أن يكون: من الآيات، خبراً بعد خبر، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف، إذا كان لمبتدأ واحد، ولم يكن في معنى خبر واحد، وجوّزوا أن يكون: من، لبيان الجنس، وذلك على رأي من يجيز أن تكون: من، لبيان الجنس. ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلاَّ بمجاز، لأن تقدير: من، البيانية بالموصول. ولو قلت: ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم، لاحتيج إلى تأويل، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات، والذكر هو الآيات، والذكر على سبيل المجاز. وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس: أبو محمد بن عطية، وبدأ به، ثم قال: ويجوز أن تكون للتبعيض وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الإشتغال، أي: نتلو ذلك نتلوه عليك، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الإشتغال؛ فزيدٌ ضربته، أفصح من: زيداً ضربته، وإن كان عربياً، وعلى هذا الإعراب يكون: نتلوه، لا موضع له من الإعراب، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف، ويكون: من الآيات، حالاً من ضمير النصب في: نتلوه. وأجاز الزمخشري أن يكون: ذلك، بمعنى: الذي، و: نتلوه، صلته. و: الآيات، الخبر. وقاله الزجاج قبله، وهذه نزعة كوفية، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة، ولا يجوز ذلك عند البصريين، إلاَّ في: ذا، وحدها إذا سبقها: ما، الإستفهامية باتفاق، أو: من، الإستفهامية باختلاف. وتقرير هذا في علم النحو.

وجوّزوا أيضاً أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من الآيات، خبر. و: نتلوه، حال. وأن يكون: ذلك، خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك. و: نتلوه، حال. والظاهر في قوله: {والذكر الحكيم} أنه معطوف على الآيات، ومن جعلها للقسم وجواب القسم: {إن مثل عيسى} فقد أبعد. {كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} والضمير المنصوب في: خلقه، عائد على آدم، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال، وقدر مع خلقه مقدرة، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه. قال الزجاج: إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل. إنتهى كلامه. وفيه نظر. {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} جملة من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون: الحق، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو. أي: خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق، و: من ربك، حال أو: خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق. {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} و: من، يصح أن تكون موصولة، ويصح أن تكون شرطية، و: العم، هنا: الوحي الذي جاء به جبريل، وقيل: الآيات المتقدّمة في أمر عيسى، الموجبة للعمل. و: ما، في: ما جاءك، موصولة بمعنى: الذي، وفي: جاءك، ضمير الفاعل يعود عليها. و: من العلم، متعلق بمحذوف في موضع الحال، أي: كائناً من العلم. وتكون: من، تبعيضية. ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك، قال بعضهم، ويخرج على قول الأخفشض: أن تكون: ما، مصدرية، و: من، زائدة، والتقدير: من بعد مجيء العلم إياك.

{فَقُلْ تَعَالَوْاْ} قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس، إذا التقدير تفاعل، وألفة منقلبة عن يائ وأصلها واو، فإذا أمرت الواحد قلت: تعال، كما تقول: إخشَ واسعَ. وقرأ الحسن، وأبو واقد، وأبو السمال: بضم اللام، ووجههم أن أصله: تعاليوا، كما تقول: تجادلوا، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين، وهذا تعليل شذوذ. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ * قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِى إِبْرَهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هأَنتُمْ هَؤُلاءِ حَجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ} .

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} وقيل: هذا إشارة إلى ما بعده من قوله {وما من إله إلاَّ الله} ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله: وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير: إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله. انتهى. لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في: لهو، دخلت على الفصل. والقصص خبر إن، والحق صفة له، والقصص مصدر، أو فعل بمعنى مفعول، أي: المقصوص كالقبض، بمعنى المقبوض، ويجوز أن يكون: هو، مبتدأ و: القصص، خبره، والجملة، في موضع خبر إن. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} و: من، زائدة لاستغراق الجنس، و: إله، مبتدأ محذوف الخبر، و: الله، بدل منه على الموضع، ولا يجوز البدل على اللفظ، لأنه يلزم منه زيادة: من، في الواجب، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد: إلاَّ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ويجوز في: لهو، من الإعراب ما جاز في: لهو القصص، وتقديم ذكر فائدة الفصل. {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} و: تولوا، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله: {فان الله عليم بالمفسدين} . {قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} عبر بالكلمة عن الكلمات، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام، وإلى هذا ذهب الزجاج، إما لوضع المفرد موضع الجمع، كما قال: بها جيفُ الحسرى، فأما عظامها

فبيض، وأما جلدها فصليب وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض، فصارت في قوة الكلمات الواحدة إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة، لأن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها. وقرأ الجمهور: سواء، بالجر على الصفة. وقرأ الحسن: سواء، بالنصب، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر. قال الزمخشري: بمعنى استوت استواء، فيكون: سواء، بمعنى استواء، ويجوز أن ينتصب على الحال من: كلمة، وإن كان نكرة ذو الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل، وإلى تأويل: سواء، بمعنى: استواء، والأشهر استعمال: سواء، بمعنى اسم الفاعل، أي: مستو، وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة والظاهر انتصاب الظرف بسواء. {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} موضع: أن، جر على البدل من: كلمة، بدل شيء من شيء، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، أي: هي أن لا نعبد إلاَّ الله. وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله: سواء، وارتفاع: أن لا نعبد، على الابتداء والخبر قوله: بيننا وبينكم. قالوا: والجملة صفة للكلمة، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف، وجوزوا أيضاً ارتفاع: أن لا نعبد، بالظرف، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد، والبصريون يمنعون ذلك، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير: إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله، فعلى هذا يكون: أن لا نعبد، في موضع رفع على الفاعل بسواء، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط، وهو فيها، وهو ضعيف. قل {يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تُحَآجُّونَ} و: ما، في قوله: لمَ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر، ولذلك علة ذكرت في النحو، وتتعلق: اللام بتحاجون.

{هأَنتُمْ هَؤُلاءِ} وقرأ الكوفيون، وابن عامر، والبزي: ها أنتم، بألف بعد الهاء بعدها همزة: أنتم، محققة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوب: بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش: ها،للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولاً بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام، وأصلها أن تباشر إسم الإشارة، لكن اعتنى بحرف التنبيه، فقدم، وذلك نحو قول العرب: ها أناذا قائماً، و: ها أنت ذا تصنع كذا. و: ها هوذا قائماً. ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته، بل نبه على حال غفل عنها الشغفه بما التبس به، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون، ولم ترد به التوراة والإنجيل، فتقول لهم: هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة، فلم تحتجون فيما ليس كذلك؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم، وعلى هذا يكون: ها، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيداً، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف: ها، كما حذفها من وقف على: {أيه الثقلان} يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس. وقال أبو عمرو ابن العلاء، وأبو الحسن الأخفش: الأصل في: ها أنتم. فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء. لأنها أختها. واستحسنه النحاس. وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام، لا يحفظ من كلامهم: هتضرب زيداً، بمعنى: زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت فيه: ها، بدل همزة الاستفهام، وهو: وأتت صواحبها وقلن هذا الذي

منح المودّة غيرنا وجفانا ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام، وهمزة: أنت، لا يناسب، لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى: هاء، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو: أريقه، إذ أصله: أأريقه؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا، بل قالوا: أهريقه. وقد وجهوا قراءة قنبل على أن: الهاء، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها، وعلى هذا من أثبت الألف، فكيون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام، وبين همزة: أنتم، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في: هيأة. وأمّا تحقيقها فهو الأصل، وأمّا إبدالها ألفاً فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} . و: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء. الخنبر. و: حاججتم، جملة حالية. كقول: ها أنت ذا قائماً. وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها، كقوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون} على أحسن الوجوه في إعرابه. وقال الزمخشري: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء، خبره، و: حاججتم، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقي، وبيان حماقتكم، وقلة عقولكم، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم؟ انتهى. وأجازوا أن يكون: هؤلاء، بدلاً، وعطف بيان، والخبر: حاججتم، وأجازوا أن يكون، هؤلاء، موصولاً بمعنى الذي، وهو خبر المبتدأ، أو: حاججتم، صلته. وهذا على رأي الكوفيين. وأجازوا أيضاً أن يكون منادي أي: يا هؤلاء، وحذف منه حرف النداء، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين، ويجوز على مذهب الكوفيين، وقد جاء في الشعر حذفه، وهو قليل، نحو قول رجل من طيء: إن أُلالى وصفوا قومي لهم فهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً وقال: لا يغرّنكم أولاء من القو م جنوح للسلم فهو خداع يريد: يا هذا اعتصم، و: يا أولاء. {وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ} مبتدأ والخبر: هم المتبعون له، فقد تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه. وقرىء: وهذا النبيّ، بالنصب عطفاً على: الهاء، في اتبعوه، فيكون متبعاً لا متبعاً: أي: أحق الناس بإبراهيم من اتبعه، ومحمداً صلى الله عليهما وسلم، ويكون: والذين آمنوا، عطفاً على خبر: إن، فهو في موضع رفع. وقرىء: وهذا النبي، بالجر، ووجه على أنه عطف على: إبراهيم، أي: إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم. و: النبي، قالوا: بدل من هذا، أو: نعت، أو: عطف بيان. {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} . وقال أبو مسلم الأصبهاني: ودّ بمعنى: تمنى، فتستعمل معها: لو، و: أن، وربما جمع بينهما، فيقال: وددت أن لو فعل، ومصدره: الودادة، والأسم منه: وُدّ، وقد يتداخلان في المصدر والأسم. قال الراغب: إذا كان: ودّ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال: لوغ فيه أبداً. وقال عليّ بن عيسى: إذا كان: ودّ، بمعنى: تمنى، صلح للماضي والحال والمستقبل، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل. وإذا كان للحال والمستقبل جاز: أن ولو، وإذا كان للماضي لم يجز: أن، لأن: أن، للمستقبل. وما قال فيه نظر، ألا ترى أن: أن، توصل بالفعل الماضي نحو: سرّني أن قمت؟.

{مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ} في موضع الصفة لطائفة، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم. وقال ابن عطية: ويحتمل: من، أن تكون لبيان الجنس، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ، ولو، هنا قالوا بمعنى: أن فتكون مصدرية، ولا يقول بذلك جمهور البصريين، والأولى إقرارها على وضعها. ومفعول: ودّ، محذوف، وجواب: لو، محذوف، حذف من كلَ من الجملتين ما يدل المعنى عليه، التقدير: ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} فيطالع هناك. {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} جملة حالية. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وأما: يكتمون، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على: تلبسون، بل هو استئناف، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق، وقال ابن عطية: قال أبو علي: الصرف ها هنا يقبح، وكذلك إضمار: أن، لأن: يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة، قولك: أتقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب، إلاَّ في ضرورة شعر، كما روي: وألق بالحجاز فاستريحا وقد قال سيبويه: في قولك: أسرت حتى تدخلها، الا يجوز إلاَّ النصب، في: تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب. وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلها، رفعت، لأن السير موجب، والأستفهام إنما وقع عن غيره. إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي.

والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله، لأن ما قبله فيه: أن الأستفهام وقع على اللبس فحسب، وأما: يكتمون، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع، وفيما نقله ابن عطية أن: يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون: ويكتمون، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الإستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه، تبعه في ذكل ابن مالك. فقال في (التسهيل) حين عد ما يضمر: أن، لزوماً في الجواب، فقال: أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل، فإن تضمن وقع الفعل م يجز النصب عنده، نحو: لم ضربت زيداً، فيجاز بك؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي، وتبعه فيه ابن مالك في الإستفهام، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله، إما لكونه ليس ثم فعل، ولا ما في معناه ينسبك منه، وإما لإسحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى، فإذا قال: لم ضربت زيداً فأضربك. أي: ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه. لأن قوله: {لم تلبسون} ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله. ولو فرضنا أنه ماض حقيقة، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق، لأنه كما قررنا قبل: إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة، سبكناه من لازم الجملة.

وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع، نحو: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك في: كم مالك فنعرفه؟ و: من أبوك فنكرمه؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير: ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا. و: ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا. و: ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له. وقرأ عبيد بن عمير: لم تلبسوا، وتكتموا، بحذف النون فيهما، قالوا: وذلك جزم، قالو: ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق: لِمَ بلم في عمل الجزم. وقال السجاوندي: ولا وجه له إلاَّ أن: لم، تجزم الفعل عند قوم كلم. إنتهى. والثابت في لسان العرب أن: لَم، لا ينجزم ما عدها، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى: لَمُ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً، وذلك في قراءة أبي عمر، ومن بعض طرقه قالوا: ساحران تظاهرا، تتشديد الظائ، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون، وأما في النظم، فنحو: قول الراجز: أبيت أسرى وتبيتي تدلكي يريد: وتبيتين تدلكين. وقال: فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو ستحتلبوها لاقحاً غير باهل والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل، وكتم الحق، وكأن الحق منقسم إلى قسمين: قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر. {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} جملة حالية.

{وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . {ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْءَاخِرَهُ} وانتصب: وجه النهار، على الظرف ومعناه: أول النهار، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه. وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي: من كان مسروراً بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار والضمير في: آخره، عائد على النهار، أي: آخر النهار. والناصب للظرف الأول: آمنوا، وللآخر: اكفروا. وقيل: الناصب لقوله: وجه النهار، أنزل. أي: بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار، والضمير في: آخره، يعود على الذي أنزل، أي: واكفروا آخر المنزل، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول، ومتعلق الرجوع محذوف أي: يرجعون عن دينهم. {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} اللام في: لمن، قيل: زائدة للتأكيد، كقوله {عسى: أن يكون ردف لكم} أي ردفكم، وقال الشاعر: ما كنت أخدع للخليل بحله حتى يكون لي الخليل خدوعاً أراد: ما كنت أخدع الخليل، والأجود أن لا تكون: اللام، زائدة بل ضمن، آمن معنى: أقر واعترف، فعدى باللام. وقال أبو علي: وقد تعدّى آمن باللام في قوله {فما آمن لموسى إلا ذريه} {وآمنتم له} {ويؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} انتهى.

{أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} يكون: أو يحاجوكم، معطوفاً على: يؤتى، وأو: للتنويع، وأجازوا أن يكون: هدى الله، بدلاً من: الهدى. لا خبراً لأن. والخبر قوله: {أن تؤتى أح مثل ما أوتيتم} أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم، ويكون: أو يحاجوكم، منصوباً بإضمار: أن، بعد أو بمعنى: حتى، أي: حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي، ولا يكون: أو يحاجوكم، معطوفاً على: يؤتى، وداخلاً في خبر إن، و: أحد، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصاً به، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي، أو في خبر نفي، بل: أحد، هنا بمعنى: واحد، وهو مفرد، إذ عنى به الرسول صلى الله عليه وسلّم وإنما جمع الضمير في: يحاجوكم، لأنه عائد على الرسول وأتباعه، لأن الرسالة تدل على الأتباع. وقال بعض النحويين: إن، هنا للنفي بمعنى: لا، التقدير: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء، وتكون: أو، بمعنى إلاَّ، والمعنى إذ ذاك: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ أن يحاجوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه، فقوله: أو يحاجوكم، حال من جهة المعنى لازمة، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه. وفي هذا القول يكون، أحد، هو الذي للعموم. لتقدّم النفي عليه، وجمع الضمير في: يحاجوكم، حملاً على معنى: أحد، كقوله تعالى {فما منكم من أحد عنه حاجزين} جمع حاجزين حملاً على معنى: أحد، لا على لفظه، إذ لو حمل على لفظه لأفرد.

لكن في هذا القول القول بأن: أن، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب. والخطاب في: أو تتيم، وفي: يحاجوكم، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة، القائلة: {آمنوا بالذي أنزل} وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى: أن لا يؤتى أحد، وحذفت: لا، لأن في الكلام دليلاً على الحذف. قال كقوله: {يبين الله لكم أن تضلوا} أي: لا تضلوا. وردّ ذلك أبو العباس، وقال: لا تحذف: لا، وإنما المعنى: كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا: كراهة أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، أي: ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين. والخطاب في: أوتيتم، و: يحاجوكم، لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم فعلى هذا: أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة، ويحتاج إلى تقديره عامل فيه، ويصعب تقديره، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: أن يؤتى، بدلاً من قوله: أن يؤتى، بدلاً من قوله: هدى الله، ويكون المعنى: قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن. ويكون قوله: أو يحاجوكم، بمعنى: أو فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم. انتهى هذا القول. وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب: أن يؤتى، بفعل مضمر يدل عليه قوله {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنه قيل: {قل إن الهدى هدى الله} فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله، ولم يحفظ ذلك من لسانهم. وأجازوا أن يكون قوله {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم} ليس داخلاً تحت قوله: قل، بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} ويكون قوله: {هل إن الهدى هدى الله} حملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها.

{أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} وقرأ ابن كثير: أن يؤتى أحد؟ بالمدّ على الإستفهام، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل، لأن الإستفهام قاطع، فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به، أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحوه مما يدل عليه الكلام. و: يحاجوكم، معطوف على: أن يؤتى. قال أبو علي: ويجوز أن يكون موضع: أن، نصباً، فيكون المعنى: أتشيعون، أو: أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ ويكون بمعنى: أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث، ويكون: أو يحاجوكم، في تأويل نصب أن بمعنى: أو تريدون أن يحاجوكم؟. قال أبو عليّ وأحد، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلاَّ أنه: أحد، الذي في قولك: أحد وعشرون، وهو يقع في الإيجاب، لأنه في معنى: واحد، وجمع ضميره في قوله: أو يحاجوكم، حملاً على المعنى، إذ: لأحد، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ: وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة. انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله: أن يؤتيى، مفعولاً من أجله، على أن يكون داخلاً تحت القول من قول الطائفة، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة.

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَقَ لَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} . {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ} وقرأ أبي بن كعب: تئمنه، في الحرفين، و: تئمنا، في يوسف. وقرأ ابن مسعود، والأشهب العقيلي، وابن وثاب: تيمنه، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها، قال الداني: وهي لغة تميم. وأما إبدال الهمزة ياء في: تئمنه، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر. وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من: فعل، ومن: ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله {نستعين} فأغني عن إعادته.

وقال: ابن عطية، حين ذكر قراءة أبي: وما أراها إلاَّ لغة: قرشية، وهي كسر نون الجماعة: كنستعين، وألف المتكلم، كقول ابن عمر: لا إخاله، وتاء الخاطب كهذه الآية، ولا يكسرون الياء في الغائب، وبها قرأ أبي في: تئمنه. انتهى. ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ. وقد بينا ذلك في {نستعين} وتقدّم تفسير: القنطار، في قوله: {والقناطير المقنطرة} . وقرأ الجمهور: يؤده، بكسر الهاء ووصلها بياء. وقرأ قالون باختلاس الحركة، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، والأعمش بالسكون. قال أبو إسحاق: وهذا الإسكان الذي روي عن ثؤلاء غلط بيِّن، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل. وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة، فغلطب عليه كما غلط عليه في: بارئكم، وقد حكى عنه سيبويه، وهو ضابط لمثل هذا، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً. انتهى كلام ابن إسحاق. وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء، إذ هي قراءة في السبعة، وهي متواترة، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء. فإنه عربي صريح، وسامع لغة، وإمام في النحو، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا. وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة. وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع. وقد روي الكسائي أن لغة عقيل وكلاب: أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك، وأنهم يسكنون أيضاً. قال الكسائي: سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون: {لربه لكنود} بالجزم، و: لربه لكنود، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في: له، وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله. له زجل كأنه صوت حاد وقال: إلا لأن عيونه سيل واديها

ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع، ويجوز الاختلاس، ويجوز السكون. وأبو إسحاق الزجاج، يقال عنه: إنه لم يكن إماماً في اللغة، ولذلك أنك على ثعلب في كتابه: (الفصيح) مواضع زعم أن العرب لا تقولها، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره، ونقلوها من لغة العرب. وممن ردّ عليه: أبو منصور الجواليقي، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين، ونقلوا أيضاً قراءتين: إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو، وهي قراءة الزهري، والأخرى: ضمها دون وصل، وبها قرأ سلام. والباء في: بقنطار، وفي: بدينارد قيل: للإلصاق. وقيل: بمعنى على، إذا الأصل أن تتعدى بعلى، كما قال مالك: {لا تأمنا على يوسف} وقال: {هل آمنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه} وقيل: بمعنى في أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار. {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا} و: ما، في: ما دمت، مصدرية ظرفية. و: دمت، ناقصة فخبرها: قائماً، وأجاز أبو البقاء أن تكون: ما، مصدرية فقط لا ظرفية، فتتقدر بمصدر، وذلك المصدر ينتصب على الحال، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان. قال: والتقدير: إلاَّ في حال ملازمتك له. فعلى هذا يكون: قائماً، منصوباً على الحال، لا خبراً لدام، لأن شرط نقص: دام، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} وجوّزوا أن يكون: علينا، خبر: ليس، وأن يكون الخبر: في الأمّيين، وذهب قوم إلى عمل: ليس، في الجار، فيجوز على هذا أن يتعلق بها. قيل: ويجوز أن يرتفع: سبيل، بعلينا، وفي: ليس، ضمير الأمر، ويتعلق: على الله، بيقولون بمعنى: يفترون. قيل: ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب. قيل: لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول. {وهم يعلمون} جملة حالية.

{مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} و: من، يحتمل أن تكون موصولة، والأظهر أنها شرطية، و: أوفى، لغة الحجاز و: وفى، خفيفة لغة نجد و: وفى، مشدّدة لغة أيضاً. وتقدّم ذكر هذه اللغات. {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى} وقرأ الجمهور: ثم يقول، بالنصب عطفاً على: أن يؤتيه، وقرأ شبل عن ابن كثير، ومحبوب عن أبي عمرو: بالرفع على القطع أي: ثم هو يقول. وقرأ الجمهور: عباداً لي، بتسكين ياء الإضافة. وقرأ عيسى بن عمر: بفتحها. {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} الباء للسبب، و: ما، الظاهر أنها مصدرية، و: تعلمون، متعدٍ لواحد على قرائة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤا بالتخفيف مضارع علم، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة، فيتعدّى إلى اثنين، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد، وأول المفعولين محذوف تقديره: تعلمون الناس الكتاب. وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى. {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا} وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة ولا يأمركم، بنصب الراء، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى: ولا له أن يأمركم، فقد روا: أن، مضمرة بعد: لا، وتكون: لا، مؤكدة معنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا قيام. وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، فلا للتوكيد في النفي السابق، وصار المعنى: ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.

وقال الطبري قوله: بولا يأمركم، بالنصب معطوفعلى قوله: ثم يقول: قال ابن عطية: وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى. انتهى كلامه. ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على: ثم يقول، وكانت لا لتأسيس النفي، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل: لا، وهو: أن، فينسبك من: ان، والفعل المنفي مصدرٍ منتف فيصير المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له الأنتفاء كان له الثبوت، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما، فينتفي قوله: {كونوا عباداً لي} وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضح هذا المعنى وضع: غير، موضع: لا، فإذا قلت: ما لزيد فقه ولا نحو، كانت: لا، لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت: لا، لتأسيس النفي كانت بمعنى: غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له، إذ لو قلت: ما لزيد فقه وغير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ماله غير نحو. ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زاد، كان المعنى: جئت بغير زاد، وإذا قلت: ما جئت بغير زاد، معناه: أنك جئت بزاد؟ لأن: لا، هنا لتأسيس النفي، وأن يكون من عطف المنفي بلا على الثبت الداخل عليه النفي، نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم. وأجاز الزمخشري أن أن تكون: لا، لتأسيس النفي، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي، ثم قال: والثاني أن يجعل: لا، غير مزيده، والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان ينهي قريضشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك رباً، قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.

قال: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وينصرها قراءة عبد الله: ولن يأمركم، انتهى كلام الزمخشري. {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} . و: بعد، ينتصب بالكفر، أو: بيأمركم، و: هذ، مضافة للجملة الإسمية كقوله: {واذكروا إذ أنتم قليل} وأضيف إليها: بعد، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّهِدِينَ} . يكون العامل: أذكر، أو: أذكروا، ويجوز أن يكون العامل في: إذ، قال من قوله: {قال أأقررتم} وهو حسن، إذ لا تكلف فيه. قيل: ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ، والعامل فيها: اصطفى، وهذا بعيد جداً. وقرأ جمهور السبعة: لما، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة: لما، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير، والحسن: لما، بتشديد الميم. فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.

أحدهما: أن: ما، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها، واللام قبلها موطئة لمجيء: ما، بعدها جواباً باللقسم، وهو أخذ الله ميثاق. و: من، في قوله: من كتاب، كهي، في قوله: {ما ننسخ من آية} والفعل بعد: ما، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم، ما، الشرطية علىه. وقوله: ثم جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، فهو في حيز الشرط، ويلزم أن يكون في قوله: ثم جاءكم، رابط يربطها بما عطفت عليه، لأن: جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، و: لتؤمنن به، جواب لقوله {أخذ الله ميثاق النبيين} ونظيره من الكلام في التركيب: أقسم لأيهم صحبت، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي. فلأحسنن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والضمير في: به، عائد على: رسول، وهذا القول، وهو أن: ما، شرطية هو قول الكسائي. وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه: ما، ههنا بمنزلة: الذي، ودخلت اللام كما دخلت على: إن، حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام في: ما، كهذه التي في: أن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه: ومثل ذلك {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم} إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى.

وقال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: بمنزلة الذي أنها موصولة، بل أنها السم، كما أن الذي اسم وفرَّ أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً: {وإن كلا لما ليوفينهم} وفي قوله: {وإن كل ذلك لما متاع} انتهى. وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن: ما، في: لما أتيتكم، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء: كالمازني، والزجاج، وأبي علي، والزمخشري، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً، وهو أنه: إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت، ومتعلقاته متعلقاته، فإذا قلت: والله لمن جاءني لأكرمنه، فجواب: مَنْ، محذوف، التقدير: من جاءني أكرمه. وفي الآية اسم الشرط: ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم، وهو الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير: ما، المقدّر، فجواب: ما، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك، لأنه تعّز. والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم؟ ألا ترى أنك لو قلت: والله لئن ضربني زيد لأضربنه؟ فكيف تقدره: إن ضربني زيد أضربه؟ ولا يجوز أن يكون التقدير: والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه، لأن: لأضربنه، لا يدل على: أشكه، فهذا ما يرد على قول من خرج: ما، على أنها شرطية.

وأما قول الزمخشري: ولتؤمنن، ساد مسد جواب القسم، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل: ما، شرطية، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما، فيمكن أن يقال؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح، لأن كلاًّ منهما، أعني: الشرط والقسم، يطلب جواباً على حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه، فيكون في موضع جزم، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه، فلا موضع له من الإعراب. ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب. والقول الثاني: قاله أبو علي الفارسي وغيره، وهو: أن تكون: ما، موصولة مبتدأة، وصلتها: آتيناكم، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به، فحذف لدلالة المعنى عليه، هكذا خرجوه، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه، وخرجوه على مذهب الأخفش: أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله: لما معكم، لأنه هو الموصول، فكأنه قيل: ثم جاءكم رسول مصدق له، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير، إلاَّ أنه قليل: روي من كلامهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، يريدون: رويت عنه وقال: فيا رب ليلى أنت في كل موطن وأنت الذي في رحمة الله أطمعيريد في رحمته أطمع. وخبر المبتدأ، الذي هو: ما، الجملة من القسم المحذوف وجوابه، وهو: لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على الموصول المبتدأ، ولا يعود على: رسول، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به، والجملة الابتدائية التي هي: لما آتيناكم، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم، وهو قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} .

والقول الثالث: قاله بعض أهل العلم، وهو: أن تكون: ما، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم، التقدير: لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة، قال: إلاَّ أنه حذف: لتبلغن، لدلالة عليه، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف، ثم قال تعالى: {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} وهو محمد صلى الله عليه وسلّم {لتؤمنن به ولتنصرنه} وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، انتهى. ويعني: يكون: لتؤمنن به، جواب قسم محذوف، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم، والله لزيداً تريد ليضربن زيداً. والقول الرابع: قاله ابن أبي إسحاق، وهو: أن يكون: لما، تخفيف لما، والتقدير: حين آتيناكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد. وأمّا توجيه قراءة حمزة: فاللام هي للتعليل، و: ما، موصولة: بآتيناكم، والعائد محذوف. و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والرابط لها بالموصول إما إضمار: به، على ما نسب إلى سيبويه، وإما هذا الظاهر الذي هو: لما معكم، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن.

وقول الزمخشري: فجواب: أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على رسول، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، لو قلت: أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه، جاز. وأجاز الزمخشري، في قراءة حمزة، أن تكون: ما، مصدرية، وبدأ به في توجيه هذه القراءة، قال: ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به، على أن: ما، مصدرية، والفعلان معها أعني: آتيناكم وجاءكم، في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى كلامه. إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره، وهذا التقدير الذي قدره، أنه تعليل للفعل المقسم عليه، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقة، وهو الإيمان. فاللام متعلقة بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله: لتؤمنن به، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: والله لأضربن زيداً، فلا يجوز: والله زيداً لاضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في: لما، بقوله: لتؤمنن به. وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب، إذا كان ظرفاً أو مجروراً، تقدّمه، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق، وقوله تعالى: {عما قليل ليصبحن نادمين} فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله: لتؤمنن به، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو. وذكر السجاوندي، عن صاحب النظم: أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى: بعد، كقول النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع فعلى ذا لا تكون اللام في: لما، للتعليل.

وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير، والحسن: لما، فقال أبو إسحاق: أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون: لما، تؤول إلى الجزاء كما تقول: لما جئتني أكرمتك. انتهى كلامه. قال ابن عطية: ويظهر أن: لما، هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة. وقال الزمخشري: لما، بالتشديد بمعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته. انتهى. فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن: لما، ظرفية، واختلفا في تقدير الجواب العامل في: لما، على زعمهما. فقدّره ابن عطية من القسم، وقدّره الزمخشري من جواب القسم، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في: لما، المقتضية جواباً، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب، وليست ظرفية بمعنى: حين، ولا بمعنى غيره، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي. وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه. وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها: لمن ما، وزيدت: من، في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا، فجاء: لمما، فثقل اجتماع ثلاث مميات، فحذفت الميم الأولى فبقي: لما. قال ابن عطية: وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير: لما، بفتح الميم مخففة، وقد تقدّم. انتهى.

وظاهر كلامه أن: من، في قوله: لمن ما، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة: لما، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد، فقال: وقيل أصله: لمن مّا، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي: الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها، فصارت: لما، ومعناه: لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى. انتهى كلامه. وهو مخالف لكلام ابن جني في: من، المقدّر دخولها على: ما، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة، لأنه جعلها للتعليل. وفي قول الزمخشري: فحذفوا إحداهما، إبهام في المحذوف، وقد عينها ابن جني: بأن المحذوفة هي الأولى، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله، فكيف كلام الله تعالى؟ وكان ابن جني كثير التمحل في كلام العرب. ويلزم في: لما، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في: لمن ما آتيناكم، زائدة، ولا تكون اللام الموطئة، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت: أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً، لم يجز، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه. وقرأ عبد الله: رسول مصدّقاً، نصبه على الحال، وهو جائز من النكرة، وإن تقدّمت النكرة. وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى، لأن المعنى به محمد صلى الله عليه وسلّمعلى قول الجمهور.

{قَالَ فَاشْهَدُواْ} وقوله: فاشهدوا، معطوف على محذوف التقدير، قال: أأقرتم فاشهدوا، فالفاء دخلت للعطف. ونظير ذلك قوله: ألقيت زيداً؟ قال: فأحسن إليه. التقدير: لقيت زيداً فاحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ألا ترى قال: أأقررتم، وقوله: قالوا أقررنا؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء. {وأنا معكم من الشاهدين} يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد، ويحتمل أن يكون جملة حالية. {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ} . و: من، الظاهر أنها شرط، والجملة من: فأولئك وما بعده جزاء، ويحتمل أن تكون موصولة، وأعاد الضمير في: تولى، مفرداً على لفظ: من وجمع في: فأولئك، حملاً على المعنى. وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة. منها: الطباق: في: بقنطار وبدينار، إذ أريد بهما القليل والكثير، وفي: يؤدّه ولا يؤدّه، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع، وهما ضدان، وفي قوله: بالكفر ومسلمون، والتجنيس المغاير في: اتقى والمتقين، وفي: فاشهدوا والشاهدين، والتجنيس المماثل في: ولا يأمركحم أيأمركم، وفي: أقررتم وأقررنا. والإشارة في قوله: ذلك بأنهم، وفي أولئك لا خلاق لهم. والسؤال والجواب، وهو في: قال أأقررتم؟ ثم: قالوا أقررنا. والاختصاص في: يحب المتقين، وفي يوم القيامة، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال. والتكرار في: يؤدّه ولا يؤده، وفي اسم الله في مواضع، وفي: من الكتاب وما هو من الكتاب. والاستعارة في: يشترون بعهد الله. والالتفات في: لما آتيتكم، وهو خطاب بعد قوله: النبيين، وهو لفظ غائب. والحذف في عدة مواضع تقدمت.

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأٌّسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَنِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَلِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأٌّرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّصِرِينَ} .

وقرأ أبو عمرو، وحفص، وعياش، ويعقوب، وسهل: يبغون، بالياء على الغيبة، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو، وعاصم بكماله. وقرأ الباقون: بالتائ، على الخطاب، فالياء على نسق: هم الفاسقون، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام. والتقدير: فأغير؟ وجوّز هذا الوجه الزمخشري، وهو قول جميع النحاة قبله. قال: ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره: أيتولون فغير دني الله يبغون. انتهى. وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك، وأمعنا الكلام عليه في كتاب (التكميل) من تأليفنا. وانتصب: غير، على أنه مفعول يبغون، وقدم على فعله لأنه أهم من يحث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل، قاله الزمخشري. ولا تحقيق فيه، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع، وشبه: يبغون، بالفاصلة بآخر الفعل. والجملة من قوله: {وله أسلم} حالية. و: طوعاً وكرهاً، مصدران في موضع الحال، أي: طائعين وكارهين. وقيل: هما مصدران على خلاف الصدر. {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَمِ دِينًا} وانتصب: ديناً على التمييز: لغير، لأن: غير، مبهمة، ففسرت بدين، كما أن مثلاً مبهمة فتفسر أيضاً. وهذا كقولهم: لنا غيرها إبلاً وشاء، ومفعول: يبتغ هو: غير، وقيل: ديناً، مفعول، و: غير، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً وقيل: ديناً، بدل من: غير، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام.

{وَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ} الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة. و: في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي: وهو خاسر في الآخرة، أو: بإضمار أعني، أو: بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف، كهي في: الرجل، أو: به على أنها موصولة، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، وكلُّ منقول، وقد تقدّم لنا نظير. {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} وشهدوا: ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا، وبه قال الحوفي، وابن عطية، ورده مكي وقال: لا يجوز عطف: شهدوا، على: كفروا، لفساد المعنى، ولم يبين من أي جهة فساد المعنى، وكأنه توهم الترتيب، فلذلك فسد المعنى عنده وقال ابن عطية: المعنى مفهوم أن الشاهدة قبل الكفر، و: الواو، لا ترتب، وأجاز قوم منهم: مكي، والزمخشري: أن يكون معطوفاً على: ما في إيمانهم، من معنى الفعل، إذ المعنى: بعد أن آمنوا وشهدوا. وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون: الواو، للحال لا للعطف، التقدير: كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا، والعامل فيه: كفروا. {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وانتصاب: كفراً، على التمييز المنقول من الفاعل، المعني: ثم ازداد كفرهم، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال. وقرأ عكرمة: لن نقبل، بالنون، توبتهم، بالنصب، والضالون المخطئون طريق الحق والنجاة في الآخرة، أو: الهالكون، من: ضل اللبن في الماء إذا صار هالكاً. والواو في: وأولئك، للعطف إما على خبر إن، فتكون الجملة في موضع رفع، وإما على الجملة من: إن ومطلوبيها، فلا يكون لها موضع من الإعراب.

وذكر الراغب قولاً: إن الواو في: وأولئك، واو الحال، والمعنى: بل تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان. انتهى هذا القول. وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة، ويجوز في: هم الفصل، والابتداء والبدل. قرأ عكرمة: فلن نقبل، بالنون و: ملء، بالنصب. وقرىء: فلن يقبل بالياء مبنياً للفاعل، أي فلن يقبل الله. و: ملء، بالنصب. وقرأ أبو جعفر، وأبو السمال: مل الأرض، يدون همز. ورويت عن نافع، ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل، وهو اللام، وحذفت الهمزة، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا، وأتى بلفظ: أحدهم، لوم يأت بلفظ: منهم، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود، إذ كان: منهم، يحتمل أن يكون يفيد الجميع. وانتصاب: ذهباً، على التمييز، وفي ناصب التمييز خلاف، وسماه الفراء: تفسيراً، لأن المقدار معلوم، والمقدّر به مجمل. وقال الكسائي: نصب على إضمار: من، أي: من ذهب، كقوله: {أو عدل ذلك صياماًإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأٌّرْضِ ذَهَبًا} أي: من صيام. وقرأ الأعمش: ذهب، بالرفع. قال الزمخشري: ردّ على: ملء، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال. انتهى. ويعني بالردّ: البدل، ويكون من بدل النكرة من المعرفة، لأن: ملء الأرض، معرفة ولذكل ضبط الحذاق قوله: {لك الحمد ملء السموات والأرض} بالرفع على بالصفة للحمد، واستعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة.

{وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} قرأ ابن أبي عبلة: لو افتدى به، دون واو، و: لو، هنا هي بمعنى: إن، الشرطية لا: لو، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره، لأن: لو، هنا معلقة بالمستقبل، وهو: فلن يقبل، وتلك معلقة بالماضي. فأما قراءة ابن أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول، وأما قراءة الجمهور بالواو، فقيل: الواو زائدة، وهو ضعيف، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة. وقيل: ليست بزائدة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله، لقوله: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه} والمثل يحذف كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربت ضرب زيد، تريد: مثل ضربه، وأبو يوسف أبو حنيفة، تريد: مثله. ولا هيثم الليلة للمطي و: قضية ولا أبا حسن لها تريد: ولا هيثم، و: لا مثل أبي حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت: وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد. انتهى كلامه. ولا حاجة إلى تقدير: مثل، في قوله {ولو افتدى به} وكان الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به، فاحتاج إلى إضمار: مثل، حتى يغاير بينب ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به، وليس كذلك، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض، والتقدير: إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث لو بذلفه على أي جهة بذله لم يقبل منه، بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في الفظ ولا المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر. وأما فيما مثل به من: ضربت ضرب زيد، وأبو يوسف أبو حنيفة، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير: مثل، إذ ضربك يستبحيل أن يكون ضرب زيد، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة. وأما: لا هيثم الليلة للمطي.

يدل على حذف: مثل ما تقرر في اللغة العربية أن: لا، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها، فاحتاج إلى إضمار: مثل، لتبقى على ما تقرر فيها، إذ تقرر أنها لا تعمل إلاَّ فى الجنس، لأن العلمية تنافي عموم الجنس. وأما قوله: كما أن يزاد في: مثلك لا يفعل كذا، تريد، أنت، فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا، ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا. وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع: الطباق: في قوله: طوعا وكرها. وفي: كفروا بعد إيمانهم في موضعين. والتكرار: في: يهدي ولا يهدي. وفي: كفروا بعد إيمانهم. والتجنيس المغاير: في كفروا وكفروا. والتأكيد: بلفظ: هم، في قوله: وأولئك هم الضالون. قيل: والتشبيه في: ثم ازدادوا كفراً، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالإجرام التي يزاد بعضها على بعض، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. والعدول من مفعل إلى فعيل، في: عذاب أليم، لما في: فعيل، من المبالغة. والحذف في مواضع. {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} . و: من، في: مما تحبون، للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله: حتى تنفقوا بعض ما تحبون. و: ما، موصولة، والعائد محذوف.

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَلَمِينَ * فِيهِءَايَتٌ بَيِّنَتٌ مَّقَامُ إِبْرَهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ * قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْءَايَتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَطٍ مّسْتَقِيمٍ} .

{نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} قال أبو البقاء: مِن متعلقة بحرم، يعني في قوله: إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه. ويبعد ذلك، إذْ هو من الاخبار بالواضح، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة. ويظهر أنه متعلق بقوله: كان حلاً لبني إسرائيل، أي من قبل أن تنزل التوراة، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن: في جواز أن، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: ما حبس إلا زيد عندك، وما أوى إلا عمر وإليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً. وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقاً نحو: ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز هو وابنُ الأنباري ذلك في مرفوع نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا: حل من قبل أن تنزل التوراة. {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ} والأظهر في من أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة. وجمع في فأولئك حملاً على المعنى. وهم: يحتمل أن تكون فصلاً، ومبتدأً، وبدلاً. {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَلَمِينَ} وللناس متعلق بوضع، واللام فيه للتعليل، وللذي ببكة خبر إنّ. والنعنى: للبيت الذي ببكة. وأكدت النسبة بتأكيدين: إنّ واللام. وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة، وبالصفة التي هي وضع إمالها، وإمّا لما أضيفت إليه. إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ. ومن أمثلة سيبويه: أنّ قريباً منك زيد. تخصص قريب بلفظ منك، فحسن الإخبار عنه. وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال:

وأنّ حراماً أن أسب مجاشعاً بآبائي الشم الكرام الخضارم والباء في ببكة ظرفية كقولك: زيد بالبصرة. ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه، وهو لا يصحّ. وانتصاب مباركاً على الحال. وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً، أي في هذه الحال للذي ببكة. وهذا التقدير ليس بجائز، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو: الخبر، لأنه معمول لأنَّ خبر لها، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: للذي ببكة وضع مباركاً. وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البت أولاً، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال. وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة، أي استقر ببكة في حال بركته. وهو وجه ظاهر الجواز، ولم يذكر الزمخشري غيره. وأما هدي فظاهره أنه معطوف على مباركاً، والمعطوف على الحال حال. وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو هدي، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار. {فِيهِءَايَتٌ بَيِّنَتٌ مَّقَامُ إِبْرَهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَءَامِناً} وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله، فيكون المجرور في موضع الحال، والعامل فيها محذوف، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة. ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز، كنسبة الخبر إليها. إذا قلت: زيد في الدار، أو عندك. ولذلك قال بعض أصحابنا: وما يعزى للظرف من خبرية وعمل، فالأصح كونه لعامله. وكون فيه في موضع حال مقدّرة، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه، أو على ما أعربناه. ويجوز أو يكون جملة مستأنفة. أخبر الله تعالى أن فيه آيات بينات.

{ومن دخله كان آمناً} جملة من شرط وجزء، أو مبتدأ وخبر، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله: مقام ابراهيم، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً. بل لم يأت بعد قوله: {آيات بينات} سوى مفرد وهو: مقام ابراهيم فقال. فإن قلت: كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان وقوله: ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة: إما ابتدائية، وإما شرطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى. ون قوله: {ومن دخله كان آمناً} دل على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح. لأن تقديره وأمن الداخل، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم، وفسر بهما الآيات. والجملة من قوله: ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه. فلا يجعل قوله: ومن دخله كان آمناً في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. قال الزمخشري: ويجوز أن بذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ونحوه في طي الذكر قول جرير: كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها

ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم «حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة» انتهى كلامه. وفيه حذف معطوفين، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله: آيات بينات. ورد عليه ذلك، لأن آيات نكرة، ومقام إبراهيم معرفة، ولا يجوز التخالف في عطف البيان. وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين، فلا يلتفت إليه. وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين. وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم: عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله، أعربه البصريون بدلاً، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة، فينبغي أن لا يجوز. والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحدها: أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم. أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها: أي من الآيات البينات مقام إبراهيم. ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم. وأما على قراءة من قرأ: آية بينة بالتوحيد، فإعرابه بدل، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة، كقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله} .

{وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء، والباقون بفتحها. وهما لغتان: الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية. وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو: ذكر ذكراً. وجعله الزجاج اسم العمل. ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر. وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً، وأنْ يكون خبر الحج. ولا يجوز أن يكون «ولله» حالاً، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي. وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت، والألف واللام فيه للعهد. إذ قد تقدّم «أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة» هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة. فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل

وفي إعراب مَنْ خلاف، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل، فتكون مَن موصولة في موضع جر، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير، فهو محذوف تقديره، من استطاع إليه سبيلاً منهم. وقال الكسائي وغيره: من شرطية، فتكون في موضع رفع بالابتداء. ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها، وحذف جواب الشرط، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج، أو فعلية ذلك. والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا. ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله: {ومن كفر} وقيل: مَنْ موصولة في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم من استطاع إليه سبيلاً. وقال بعض البصريين: مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو: عجبت من شرب العسل زيد، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى. أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر. وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح، لأنّه يكون المعنى: إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع. ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم، والضمير في إليه يعود على البيت، وقيل: على الحج. وإليه متعلق باستطاع، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد. قال تعالى: {لا يستطيعون نصركم} وكل موصل إلى شيء، فهو سبيل إليه. {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ} ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله: {عن العالمين} إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم.

{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَتِ اللَّهِ} وتقدّم الكلام على «لم» وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار. وقوله: «على ما تعملون» متعلق بقوله: شهيد. وما موصولة. وجوزوا أنْ تكون مصدرية، أي على عملكم. {قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وصدّ: لازم ومتعد. يقال: صد عن كذا، وصد غيره عن كذا. وقراءة الجمهور: يصدون ثلاثياً، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن. وقرأ الحسن: تصدُّون من أصدّ، عدى صدّ اللازم بالهمز، وهما لغتان. وقال ذو الرّمة: أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} نصبه على الحال من الضمير في يبغون، أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى. وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به، {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ} والجملة من قوله: «يبغونها عوجاً تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون حالاً من الضمير في يصدُّون أو من سبيل الله، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما. وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله: فرد شعورهنّ السود بيضاً وردّ وجوههنّ البيض سودا وقيل: انتصب على الحال، والقول الأول أظهر. وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة: الاستفهام الذي يراد به الإنكار في {لم تكفرون} {لم تصدون} {وكيف تكفرون} والتكرار: في يا أهل الكتاب، وفي اسم الله في مواضع، وفيما يعملون، والطباق: في الإيمان والكفر، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية، وفي العوج والاستقامة، والتجوز: بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل: هو يهودي غير معين. وقيل: هو شاس بن قيس اليهودي. وإطلاق العموم والمراد الخصوص: في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج. والحذف في مواضع.

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * تِلْكَءَايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَلَمِينَ * وَللَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّمُورُ * كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَبِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَسِقُونَ * لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأٌّدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ

مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأٌّنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} . أصبح: من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح. وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً، وتأتي أيضاً لازمة تقول: أصبحت أي دخلت في الصباح. وتقول: أصبح زيد، أي أقام في الصباح ومنه. إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح، أي مقيم في الصباح. قال ابن عطية: ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه، فيكون: كرماة ورام، أو يكون جمع تقي، إحد فعيل وفاعل بمنزلة. والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه. وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهر أنّ قوله: حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها، كما تقول: ضربت زيداً شديد الضرب، أي الضرب الشديد. فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت. أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل: اضرب زيداً حق ضرابه، فلا يدل هذا التركيب على معنى: اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه. بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى، والتقدير: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه. ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.

{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} والجملة من قوله: وأنتم مسلمون حالية، والاستثناء مفرع من الأحوال. التقدير: ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام. ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير، وللمواجهة فيها بالخطاب. وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل، ومستصحبة. وأمّا لو قيل: مسلمين، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً. {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} انتصب جميعاً على الحال. {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال. وعليه قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير أن نفرا قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال. فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع: أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

وهذا الذي ذكره: من أن أصبح للاستمرار، وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما. وجوز الحوفي في «إذ» أن ينتصب باذكروا، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة. أي إنعام الله، وبالعامل في عليكم. إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة، وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح، أو ما تعلق به الجاروالمجرور. وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته. وأن يكون أصبحتم تامة، وبنعمته متعلق به، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً، وإخواناً حال. والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر، وبنعمته متعلق بأصبحتم، والباء للسبب لا ظرفية. وقال بعض الناس: الأخ في الدين يجمع إخواناً، ومن النسب إخوة، هكذا كثر استعمالهم. وفي كتاب الله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة} والصحيح أنهما يقالان من النسب. وفي الدين: وجمع أخ على أخوة لا يراه سيبويه، بل أخوة عنده اسم جمع، لأن فعلاً لا يجمع على فعله. وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء. والضمير في منها عائد على النار، وهو أقرب مذكور، أو على الحفرة. وحكى الطبري أن بعض الناس قال: يعود على الشفا، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث. كما قال جرير: أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال

قال ابن عطية: وليس الأمر كما ذكروا، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا. وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى. وأقول: لا يحسن عوده إلا على الشفا، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزئي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه. وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زيد غلام جعفر، لم يكن جعفر محدثاً عنه، وليس أحد جزئي الإسناد. وكذلك لو قلت: ضرب زيد غلام هند، لم تحدث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه. {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} قيل: من للجنس، وقيل: للتبعيض. وقرأ الجمهور: ولْتكن بسكون اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: بكسرها، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو. وجوزوا في «ولتكن» أن تكون تامة، فيكون منكم متعلقاً بها، أو بمحذوف على أنه حال، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة. وأن تكون ناقصة، ويدعون الخبر، وتعلق من على الوجهين السابقين. وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر، ويدعون صفة. ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر. {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} والعامل في {يوم تبيض} ما يتعلق به. ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه. وقال الحوفي: العامل، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة، أي: يعذبون يوم تبيض وجوه. وقال الزمخشري: بإضمار اذكروا، أو بالظرف وهو لهم. وقال قوم: العامل عظيم، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب، لأنه مصدر قد وصف.

وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو رزين العقيلي، وأبو نهيك: تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم: وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياض وتسواد بألف فيهما. ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد، ولم ينقل أنه قرىء بذلك. {>ُ؛ ِ} هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ. وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله: وتسودّ وجوه، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم. فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر. وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها، والخبر هنا محذوف للعلم به. والتقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله: أي يقولون: سلام عليكم. ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله: فأمّا القتال لا قتال لديكم ولكنّ سيرا في عرض المواكب

يريد فلا قتال، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل: قد اعترض على النحاة في قولهم: لما حذف. يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى: {وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف فيقال، ولم تحذف الفاء. فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، فوقع ذلك جواباً له. ولقوله: أكفرتم، ومن نظم العرب: إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً، كما في قوله تعالى: {فأمّا يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فقوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين، وليس أفلم جواب جواب أمّا، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي. انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي. أمّا قوله: قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه. وأمّا ما اعترض به من قوله: {وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي} وأنهم قدروه فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال: ولم تحذف الفاء، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف، فيقال: وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب أمّا، ويقال بعدها محذوف. وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما أن تكون زائدة. وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر: يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبر

يريد: يكبر وقول الآخر: لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي جلدها بتذبذب يريد: تركت. وقال زهير: أراني إذا ما بت بتّ على هوى فثم إذا أصبحت أصبحت غادياً يريد ثم. وقول الأخفش: وزعموا أنهم يقولون أخوك، فوجد يريدون أخوك وجد. والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، وتقدم الكلام فيقال لهم: ما يسوؤهم، فالم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: {أفلم يسيروا في الأرض} وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو: توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء. فالفاء هنا ليست مرتبة، وإنما هي مفسرة للوضوء. كذلك تكون في {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل. فلما بطل هذا يعني ـ أن يكون الجواب فذوقوا ـ أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل، وأنه سواء في الآيتين. وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو، فيقال في الموضعين، ومعنى الكلام عليه. وأمّا تقديره: أأهملتكم، فلم تكن آياتي، فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة، لكنْ اعتنى بالاستفهام، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين. وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو. وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك. وعلى تقدير قول هذا الرجل: أأهملتكم، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ، والفاء جواب أما. وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة. وقول هذا الرّجل: فوقع ذلك جواباً له، ولقوله: أكفرتم، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا، ولقوله:

أكفرتم؟ والاستفهام هنا لا جواب له، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم. وأمّا قول هذا الرّجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فأما يأتينكم} الآية. وزعمه أن قوله تعالى: {فلا خوف عليهم} جواب للشرطين. فقولٌ روي عن الكسائي. وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره: فاتبعوه. والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول. وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله: {فأما يأتينكم} الآية. بما كنتم، الباء سببية وما مصدرية.

وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: فأما الذين اسوادت، وأما الذين ابياضت بألف. وأصل افعلّ هذا افعلل يدل، على ذلك اسوددت واحمررت، وأن يكون للون أو عيب حسي، كأسود، وأعوج، واعوز. وأن لا يكون من مضعف كاحم، ولا معتل لام كألمى، وأنْ لا يكون للمطاوعة. وندر نحو: انقضّ الحائط، وابهار الليل، وإشعار الرجل بفرق شعره، وشذا رعوى، لكونه معتل اللام بغي لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته. وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها، ولزومه إذا لم يجأ بهما. وقد يكون العكس. فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: {مد هامتان} ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: {تزوّر عن كهفهم} واحمرّ خجلاً. وجواب أما ففي الجنة، والمجرور خبر المبتدأ، أي فمستقرون في الجنة. وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لم تدخل في حيز أما، ولا في إعراب ما بعده. دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود. وقال الزمخشري: (فإن قلت) كيف موقع قوله: هم فيها خالدون بعد قوله: ففي رحمة الله؟ (قلت) : موقع الاستئناف. كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى. وهو حسن. وقيل: جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون، وهم فيها خالدون ابتداء. وخبر وخالدون العامل في الظرفين، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم.

{>ُ للهِتِلْكَءَايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَلَمِينَ} وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره، ونتلوها جملة حالية. قالوا: والعامل فيها اسم الإشارة. وجوزوا أن يكون آيات الله بدلاً، والخبر نتلوها. وقال الزجاج: في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى. فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف، لأنّه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية. ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه. والباء في بالحق باء المصاحبة، فهي في الموضع الحال من ضمير المفعول أي: ملتبسة بالحق. وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير: ظلمه، والعائد هو ضمير الله تعالى أي: ليس الله مريداً أن يظلم أحداً من العالمين. قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق: في تبيضّ وتسودّ، وفي اسودّت وابيضّت، وفي أكفرتم بعد إيمانكم، وفي بالحق وظلماً. والتفصيل: في فأمّا وأمّا. والتجنيس: المماثل في أكفرتم وتكفرون. وتأكيد المظهر بالمضمر في: ففي رحمة الله هم فيها خالدون. والتكرار: في لفظ الله. ومحسنه: أنه في جمل متغايرة المعنى، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر، لأن في ذكرع دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه، وليس ذلك نظير. لا أرى الموت يسبق الموت شيء لاتحاد الجملة. لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم. والإشارة في قوله: تلك، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع.

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وظاهر كان هنا أنها الناقصة، وخير أمة هو الخبر. ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك: كان زيد قائماً، بل المراد دوام النسبة كقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع. وقيل: كان هنا بمعنى صار، أيْ صرتم خير أمة. وقيل: كان هنا تامة، وخير أمة حال. وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة، لأن الزائدة لا تكون أول كلام، ولا عمل لها. وقال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارىء. ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} .

ومنه قوله: كنتم خير أمة، كأنه قيل: وجدتم خير أمة انتهى كلامه. فقوله: أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق. فإذا قلت: كان زيد عالماً بمعنى صار، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم. وقوله: ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع. وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم، بل المراد الخصوص. وقوله: كأنه قال وجدتم خير أمة، هذا يعارض أنها مثل قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة، وأن خير أمة حال. وقوله: وكان الله غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا. وقيل: المعنى: كنتم في علم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم. وقيل: هو على الحكاية، وهو متصل بقوله: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي فيقال لهم في القيامة: كنتم في الدنيا خير أمة، وهذا قول بعيد من سياق الكلام. وخير مضاف للنكرة، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها، وإن كانت جارية على جمع. {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وهي جملة في موضع الصفة لأمة، أي خير أمة مخرجة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة، فتكون في موضع نصب أي مخرجة. وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة، ولم يراع لفظ الخطاب. وهما طريقان للعرب، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب، ثم جاء بعده خبره إسماً، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول: أنا رجل آمر بالمعروف، وأنت رجل تأمر بالمعروف. ومنه {بل أنتم قوم تفتنون} وأنك امرؤ فيك جاهلية: وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية كأنك منها قاعد في جوالق

وتارةً يراعى حال ذلك الاسم، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة. فتقول: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف. ومنه: كنتم خير أمة أخرجت ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً. والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده. {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وقال ابن عطية: تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى. وقاله الراغب: والاستئناف أمكن وأمدح. وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر، وأن كون نعتاً لخير أمة. {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} والظاهر أن قوله: إلا أذى استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير: لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم. وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم: هو استثناء منقطع، والتقدير: لن يضروكم لكنْ أذى باللسان. {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} ثم لا ينصرون: هذا استئنافُ أخبار أنّهم لا ينصرون أبداً. ولم يشرك في الجزاء فيجزم، لأنه ليس مرتباً على الشرط، بل التولية مترتبة على المقاتلة. والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، إذ منع النصر سببه الكفر. فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى. وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط. قال: وثم للتراخي، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط. والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام. قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط.

{أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} عام في الأمكنة. وهي شرط، وما مزيدة بعدها، وثقفوا في موضع جزم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال: ضربت هو الجواب، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً. وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل، أي ضربت عليهم الذلة، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم، ودل ذكر الماضي على المستقبل، كما دل في قول الشاعر: وندمان يزيد الكأس طيباً سقيت إذا تغوّرت النجوم التقدير: سقيت، وأسقية إذا تغوّرت النجوم. {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} هذا استثناء ظاهره الانقطاع، وهو قول: الفراء، والزجاج. واختيار ابن عطية، لأن الذلة لا تفارقهم. وقدره الفراء: إلا أن يعتصما بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال: حميد بن نور الهلالي: رأتني بحبليها فصدت مخافة

ونظره ابن عطية بقوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ} قال: لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ. وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك. وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره: في أمتنا، فلا نجاة من الموت إلا بحبل. نتهى كلامه. وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً. والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمن منه: ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك، ومنه هذه الآية. على تقدير الانقطاع، إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم. ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله} فلم يستثن هناك. وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال: وهو استثناء من أعم عام الأحوال.

{لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَءَايَتِ اللَّهِءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّلِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأٌّيَتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَبِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأٌّنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . سواء خبر ليس

ومن أهل الكتاب أمة قائمة: مبتدأ وخبر. وقال الفراء: أمة مرتفعة بسواء، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة، فحذفت هذه الجملة المعادلة، ودل عليها القسم الأول كقوله: عصيت إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها التقدير: أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال: أراك فما أدري أهم ضممته وذو الهم قدماً خاشع متضائل التقدير: أم غيره. قال الفراء: لأن المساواة تقتضي شيئين: سواء العاكف فيه والبادي سواء محياهم ومماتهم. ويضعف قول الفراء من حيث الحذف. ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر، إذ التقدير: ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا، وأمة كافرة. وذهب أبو عبيدة: إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها، في قول الشاعر: يلومونني في شراء النخيـ ـل قومي وكلهم ألوم واسم ليس: أمّة قائمة، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة. قال ابن عطية: وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى. ولم يبين جهة الخطأ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط، وأنه لا محذوف. ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً. قيل: وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر انتهى. وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم: إنها لغة ضعيفة، وكثيراً ما جاءت في الحديث. والإعراب الأول هو الظاهر. وهو: أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء {يأمرون بالمعروف} بياناً لقوله: {كنتم خير أمة} . {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وقوله: وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضاً معطوفة على يتلون، وقيل حالية.

وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأوّل، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير صلاة. ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف، كما تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل. وأجاز بعضهم في قوله: وهم يسجدون أن يكون حالاً من الضمير في قائمة، وحالاً من أمة. {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة. وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون، وأن تكون بدلاً من السجود. قيل: لأن السجود بمعنى الإيمان. {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّلِحِينَ} من قيل للتبعيض وقيل لبيان الجنس. {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} ما: قيل موصولاً وقيل مصدرية. وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح. فإنْ كان الصر البرد وهو قول: ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة. فظاهر كون ذلك في الريح. وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر، فالمعنى فيها قرةُ صرَ كما تقول: برد بارد، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه. أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة. كما قال: وفي الرحمن كاف للضعفاء. وقولهم: إن ضيعني فلان ففي الله كاف. المعنى الرحمن كاف، والله كاف. وهذا فيه بعد. وقوله: أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح. بدأ أولاً بالوصف بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة. وقوله: ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم.

{وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولكن وقرىء شاذاً: ولكنَّ بالتشديد، واسمها أنفسهم، والخبر يظلمون. والمعنى: يظلمونها هم. وحسنٌ حذفُ هذا الضمير، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى. ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن. وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر. {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} وقوله: من دونكم في موضع الصفة لبطانة، وقدّره الزمخشري: من دون أبناء جنسكم، وهم المسلمون. وقيل: يتعلق من بقوله: لا تتخذوا. وقيل: مِنْ زائدة، أي بطانة دونكم.

والجملة من قوله: لا يألونكم خبالاً لا موضع لها من الإعراب، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة. ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح. لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، وودادة مشقتهم، وظهور بغضهم. والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما. وألا متعد إلى واحد بحرف الجر، يقال: ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه. وقيل: انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول، كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} التقدير: لا يألونكم خبالكم، أي في خبالكم. فكان أصل هذا المفعول حرف الجر. وقيل: انتصابه على إسقاط حرف، التقدير: لا يألونكم في تخبيلكم. وقيل: انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال. قال ابن عطية: معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد عليكم. فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام، وللخبال على إسقاط في. وقال الزمخشري: يقال: أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدّي إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحاً، ولا آلوك جهداً، على التضمين. والمعنى: لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى. {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} وما في قوله: ما عنتم مصدرية، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها. وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة، وحالاً من الضمير في يألونكم، وقد معه مرادة.

{هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَبِ كُلِّهِ} تقدّم لنا الكلام على نظيرها، أنتم أولاء في قوله: {هاأنتم هؤلاء حاججتم} قراءة وإعراباً. وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة، على أن يكون أولاء موصولاً أو خبراً لأنتم، وأولاء مناداً، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً، وتحبونهم خبر عنه، والجملة خبر عن الأوّل. أو يكون أولاء في موضع نصب نحو: أنا زيداً ضربته، فيكون من الاشتغال. واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم، لأن أنتم خطاب للمؤمنين، وأولاء إشارة إلى الكافرين. وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد. وهو: المؤمنون. وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم. والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم، فلها من الإعراب ما لها. وقال الزمخشري: والواو في وتؤمنون للحال، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم. والحال: إنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصل منكم في حقكم ونحوه. فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن. إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو: أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال، وأنها منتصبة من لا يحبونكم. والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ الحال تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك. فأما قولهم: قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ. وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه، فتصير الجملة اسمية. ويحتمل هذا التأويل هنا، أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف.

{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} وقرأ الجمهور: إن تمسسكم بالتاء. وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل، لأن تأنيث الحسنة مجازى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه: لا يضركم من ضار يضير. ويقال: ضار يضور، وكلاهما بمعنى ضرَّ. وقرأ الكوفيون وابن عامر: لا يضرُّكم بضم الضاد والراء المشدّدة، من ضرّ يَضُرُّ. واختلف، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك: كدّ؟ ونسب هذا إلى سيبويه، فخرج الإعراب على التقديم. والتقدير: لا يضركم أن تصبروا، ونسب هذا القول إلى سيبويه. وخرج أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس، مع إضمار الفاء. والتقدير: فليس يضركم، وقاله: الفراء والكسائي. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه: بضم الضاد، وفتح الراء المشددة. وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد، والفتح هو الكثير المستعمل. وقرأ الضحاك: بضم الضاد، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين. وقال ابن عطية: فأما الكسر فلا أعرفه قراءة، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى. وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك. وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز، وعليها في الآية إن تمسَسْكم. ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.

قالوا: وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة. منها: الوصل والقطع في {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} والتكرار: في أصحاب النار هم. والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره: في يتلون وما بعده، وفي يظلمون. والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في: يؤمنون بالله واليوم الآخر. والمقابلة: في تأمرون وتنهون، وفي المعروف والمنكر. ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً، وفي حسنة وسيئة، وفي تسؤهم ويفرحوا. والاختصاص: في عليم بالمتقين، وفي أموالهم ولا أولادهم، وفي كمثل ريح، وفي حرث قوم ظلموا أنفسهم، وفي عليم بذات الصدور. والتشبيه: في مثل ما ينقون، وفي بطانة، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة. شبه حصولهما بالمس والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والصحيح أن هذه استعارة. وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. والتجنيس المماثل: في ظلمهم ويظلمون، وفي تحبونهم ولا يحبونكم، وفي تؤمنون وآمنا، وفي من الغيظ وبغيظكم. والالتفات: في وما تفعلوا من خير فلن تكفرواه على قراءة من قرأ بالتاء، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين. وتسمية الشيء باسم محلة: في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها. والحذف في مواضع.

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِءَالافٍ مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} . {وَإِذْ غَدَوْتَ} والعامل في إذا ذكر. وقيل: هو معطوف على قوله: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} أي وآية إذ غدوت، وهذا في غاية البعد. ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته. وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع، أي: وإذ غدوت مع أهلك. وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب.

وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب. فقيل: هي حال مقدرة، أي خرجت قاصد التبوئة، لأن وقت الغودِّو لم يكن وقت التبوئة. وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ. وقرأ عبد الله: تبوِّىء من أبوأ، عداه الجمهور بالتضعيف، وعبد الله بالهمزة. وقرأ يحيى بن وثاب: تبوى بوزن تحيا، عداه بالهمزة، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو: يقرى في يقرىء. وقرأ عبد الله: للمؤمنين بلام الجر على معنى: ترتب وتهيىء. ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه، إنما يتعدى بحرف جر. وقرأ الأشهب: مقاعد القتال على الإضافة، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى. ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء، وعداه باللام كما في قوله: {واذبوا أنا لابراهيم مكان البيت} وقيل: اللام في لابراهيم زائدة، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء. وقيل: في موضع الصفة لمقاعد. وقال الزمخشري: وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى. أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا: إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى، وهي في قولهم: شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت. وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى: {فتقعد ملوماً} على أن معناه: فتصير، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد. وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي: القعد الصيرورة، والعرب تقول: قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار. وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر: على ما قام يشتمني لئيم إنها من أفعال المقاربة

{إِذْ هَمَّتْ} : بدل من إذ غدوت. قال الزمخشري: أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى. وهذا غير محرر، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقول: أو عمل فيه معنى سميع أو عليم، وتكون المسألة من باب التنازع. وجوز أن يكون معمولاً لتبوى، ولغدوت. وهمّ يتعدى بالباء، فالتقدير: بأن تفشلا. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} والجملة من قوله: وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم. {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِءَالاَفٍ} وقرأ الحسن: بثلاثة آلاف يقف على الهاء، وكذلك بخمسة آلاف. قال ابن عطية: ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول. والهاء إنما هي أمارة وقف، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع. فمن ذلك ما حكاه الفرائ أنهم يقولون: أكلت لحما شاة، يريدون لحم شاة، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف قالا: يريدون. قال: ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت. ومن ذلك في الشعر قول الشاعر: ينباع من زفرى غضوب جسرة زيانة مثل العتيق المكرم يريد ينبع فمطل. ومنه قول الآخر: أقول إذ حزت على الكلكال يا ناقتا ما جلت من مجال يريد الكلكال فمطل. ومنه قول الآخر: فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح

يريد بمنتزح. قال أبو الفتح: فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما في الحقيقة إثنان انتهى كلامه. وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسبتوجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف، أبدلها هاء في الوصل، كما أبدلوا لها هاء في الوقف، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف، وإجراء الوقف مجرى الوصل. وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة. وأشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاءً في الوصل، وإنما هو نظير قولهم: ثلاثة أربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال. ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل. وقرىء شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل، أجراه مجرى الوقف. واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي؟ وهي لغة. وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول، وابن عامر بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان. وقرأ ابن أبي عبلة: منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنياً للفاعل. وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً، والمعنى: ينزلون النصر.

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ} وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له، أي: ما جعله الله لشيء إلا بشرى لكم. فهو استثناء فرغ له العامل، وبشرى مفعول من أجله. وشروط نصبه موجودة وهو: أنه مصد ومتحد الفاعل والزمان. ولتطمئن معطوف على موضع بشرى، إذ أصله لبشرى. ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل، لأن فاعل بشرى هو الله، وفاعل تطمئن هو قلوبكم. وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي، فهو من عطف الإسم على توهم. موضع اسم آخر، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد. وقال الحوفي: إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء، وهي عائدة على الوعد بالمدد. وقيل: بشرى مفعول ثان لجعله الله. فعلي هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف، إذ ليس قبله عطف يعذف عليها. قالوا: تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم. وبشرى: فعلى مصدر كرجعى، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم. وقال ابن عطية: اللام في ولتطمئن متعلقة تفعل مضمر بدل عيه جعله. ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، وتطمئن به قلوبكم انتهى. وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع، لأن من شرط العطف على الوضع ـ عند أصحابنا ـ أن يكون ثم محرر للموضع، ولا محرز هنا، لأن عامل الجر مفقود. ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولاً.

{لِيَقْطَعَ طَرَفاً} واللام في ليقطع يتعلق قيل: بمحذوف تقيديره أمدكم أو نصركم. وقال الحوفي: يتعلق بقوله: {ولقد نصركم الله} أي نصركم ليقطع. قال: ويجوز أن يتعلق بقوله: وما النصر إلا من عند الله. ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم. وقال ابن عطية: وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله، وقيل: هو معطوف على قوله. ولتطمئن، وحذف حرف العطف منه، التقدير: ولتطمئن قلوبكم به وليقطع، وتكون الجملة من قوله: وما النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف. والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو: العامل من في عند الله وهو خبر المبتدأ. كأنّ التقدير: وما النصر إلا كائن من عند الله، لا من عند غيره. لأحد أمرين: إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر، وإما بخزي وانقلاب بخيبة. وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص، بل هي للعموم، أي: لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين. {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأٌّمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ * وَللَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .

{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ} قيل: هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة. ويكون قوله: ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية، والمعنى: أن الله مالك أمرهم، فإما أنْ يهلكهم، أو يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: أن مضمرة بعد أو، بمعنى: إلا أن، وهي التي في قولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، والمعنى: أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا، أو بنار في الآخرة، فيستشفى بذلك ويستريح. وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس، لا للتأكيد. وقيل: أو يتوب معطوف على الأمر. وقيل: على شيء. أي: ليس لك من الأمر، أو من توبتهم، أو تعذيبهم شيء. أو ليس لك من الأمر شيء، أو تعذيبهم. والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول. وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع. من ذلك العام المراد به الخاص: في من أهلك، قال الجمهور: أراد به بيت عائشة. فالاختصاص في: والله سميع عليم، وفي: فليتوكل المؤمنون، وفي: ما في السموات وما في الأرض، وفي: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم {وفي العزيز الحكيم} لأن العز من ثمرات النصر، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.

والتشبيه: في ليقطع طرفاً، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه، وفي: ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة. وفي: فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه، فأخفق أمله وقصده. والطباق: في نصركم وأنتم أذلة، النصر إعزاز وهو ضد الذل. وفي: يغفر ويعذب، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب. والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في: أن يفشلا. وبإقامة اللام مقام إلى في: ليس لك أي إليك، أو مقام على: أي ليس عليك. والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في: أضعافاً مضاعفة. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في: لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً، لأنه يؤول إليه.

{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَمِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَفِرِينَ} . {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى، أي فاستغفروا لذنوبهم. وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته. {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} جملة اعتراض المتعاطفين، أو بين ذي الحال والحال. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} .

{وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال الزمخشري: وهم يعلمون حالية من فعل الإصرار. وأجاز أبو البقاء أن يكون: وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا، جاز أن يكون: وهم يعلمون حالاً منه أيضاً. وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة. {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} والذين إذا فعلوا مبتدأ، وأولئك وما بعده خبره، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك. وثم محذوف أي: جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم. {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَمِلِينَ} المخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، أي المغفرة والجنة. {فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان. {وَأَنتُمُ الأٌّعْلَوْنَ} قيل جملة حالية والظاهر أنها إخبار مستأنف. {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} وجواب الشرط محذوف تقديره: فتأسوا فقد مس القوم قرح، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط. ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس، فهو ذاهل. {وَتِلْكَ الأٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} والأيام: صفة لتلك، أو بدل، أو عطف بيان. والخبر نداولها، أو خبر لتلك، ونداولها جملة حالية.

{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ} هذه لام كي قبلها حرف العطف، فتتعلق بمحذوف متأخر أي: فعلنا ذلك وهو المداولة، أو نيل الكفار منكم. أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي: فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم. هكذا قدّره الزمخشري وغيره، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف. ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها. فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل. ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد، فيكون كعرف. وقيل: يتعدّى إلى ثنين، الثاني محذوف تقديره: مميزين بالإيمان من غيرهم.

وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان: من ذلك الاعتراض في: والله يحب المحسنين، وفي: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وفي: والله لا يحب الظالمين. وتسمية الشيء باسم سببه في: إلى مغفرة من ربكم. والتشبيه في: عرضها السموات والأرض. وقيل: هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة. والطباق في: السرّاء والضرّاء، وفي: ولا تهنوا والأعلون، لأن الوهن والعلو ضدان. وفي آمنوا والظالمين، لأن الظالمين هنا هم الكافرون، وفي: آمنوا ويمحق الكافرين. والعام يراد به الخاص في: والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك. والتكرار في: واتقوا الله، واتقوا النار، وفي لفظ الجلالة، وفي والله يحب، وذكروا الله، وفي وليعلم الله، والله لا يحب، وليمحص الله، وفي الذين ينفقون، والذين إذا فعلوا. والاختصاص في: يحب المحسنين، وفي: وهم يعلمون، وفي: عاقبة المكذبين، وفي: موعظة للمتقين، وفي: إن كنتم مؤمنين، وفي: لا يحب الظالمين، وفي: وليمحص الله الذين آمنوا، وفي: ويمحق الكافرين. والاستعارة في: فسيروا، على أنه من سير الفكر لا القدم، وفي: وأنتم الأعلون، إذا لم تكن من علو المكان، وفي: تلك الأيام نداولها، وفي: وليمحص ويمحق، والإشارة في هذا بيان. وفي: وتلك الأيام. وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في: إن كنتم مؤمنين، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّبِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الأٌّخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّبِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ * فَئْاتَهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الأٌّخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّصِرِينَ * سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّلِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الأٌّمْرِ وَعَصَيْتُمْ

مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأٌّخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . كائن: كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية. وقلَّ الاستفهام بها. والكاف للتشبيه، دخلت على أي وزال معنى التشبيه، هذا مذهب سيبويه والخليل، والوقف على قولهما بغير تنوين. وزعم أبو الفتح: أنّ أيا وزنه فعل، وهو مصدر أوى يأوى إذا انضم واجتمع، أصله: أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي. وهذا كله دعوى لا يقوم دليل على شيء منها. والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه، يأتي للتكثير مثل كم، وفيه لغات: الأولى وهي التي تقدمت. وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان فقوله بعيد. وكلئن على وزن كعن، وكأين وكيين، ويوقف عليها بالنون. وأكثر ما يجيء تمييزها مصحوباً بمن. ووهم ابن عصفور في قوله: إنه يلزمه مِنْ، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أولها أم لم يليها، نحو قول الشاعر: أطرد اليأس بالرجاء فكاين آلماً عم يسره بعد عسر وقول الآخر: وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة قديماً ولا تدرون ما من منعم {أَمْ حَسِبْتُمْ} وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل، والهمزة على ما قرر في النحو. وقيل: هي بمعنى الهمزة. وقيل: أم متصلة. قال ابن بحر: هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم، وذلك أنَّ قوله: {أن يمسسكم قرح وتلك الأيام نداولها} إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك: أتعلمون أن التكاليف يوجب ذلك، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم واقعاً. انتهى كلامه. وتقدّم لنا إبطال مثل هذا القول. وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده.

وظاهره: أن أم متصلة، وخشيتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن. ولما يعلم: جملة حالية، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد. فإذا قلت: قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك: قام زيد. فإذا نفيته قلت: لما يقم زيد. وإذا قلت: قام زيد كان نفيه لم يقم زيد، قاله سيبويه وغيره. وقال الزمخشري: ولما بمعنى لم، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى وقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه. وهذا الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما يستقبل، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره. بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار. أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري. قال: لما لتعريض الوجود بخلاف لم. وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر: لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه

وقرأ الجمهور: «ويعلم» برفع الميم فقيل: هو مجزوم، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ: ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين. وقيل: هو منصوب. فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو، لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف، وتقرير المذهبين في علم النحو. وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم. قال الزمخشري: على أن الواو للحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى. ولا يصح ما قال، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع، لايجوز: جاء زيدو يضحك، وأنت تريد جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل. فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكاً، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك. فإنْ أوّلَ على أن المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم الصابرين كما أولوا قوله: نجوت وأرهنهم مالكاً، أي وأنا أرهنهم. وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار، أي: وهو يعلم الصابرين. {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} وقرأ النخعي والزهري: تلا قوه ومعناها ومعنى تلقوه سواء، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من اثنين، وإنْ لم يكنْ على وزن فاعل. وقرأ مجاهد من قبلُ بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة، فيكون موضع أنْ تلقوه نصباً على أنه بدل اشتمال من الموت.

{فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} وقيل: معنى الرؤية هنا العلم، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي: فقد علمتم الموت حاضراً، وحذف لدلالة المعنى عليه. وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً، ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين. وقرأ طلحة بن مصرف. فلقد رأيتموه باللام، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين، أي معاينين مشاهدين له حين قتلبين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية، وهذا قول الأخفش، وهو الظاهر.

{أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ} الفاء للعطف، وأصلها التقديم. إذ التقدير: فأإن مات. لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على حرف العطف، وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه. وقال الخطيب كمال الدين الزملكاني: الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه. ولو صرّح به لقيل: أتؤمنون به مدة حياته، فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى. وهذه نزعة زمخشرية. وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك. وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه. وجزاؤه، هو انقلبتم، فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه. فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو: أإن تأني آتك. وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبني على أداة الاستفهام، فينوي به التقديم، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً لأن جواب الشرط محذوف، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط، فيلزم عنده أن تقول: أإن أكرمتني أكرمك. التقدير فيه: أكرمك أن أكرمتني، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك بجزمهسسما أصلاً، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر. والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو. فعلى مذهب يونس: تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم، وهو ماض معناه الاستقبال، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل. وجواب الشرط عند يونس محذوف. {فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} انتصب شيئاً على المصدر.

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} وأن تموت في موضع اسم كان، ولنفس هو في موضع الخبر، فيتعلق بمحذوف. وجعل بعضهم كان رائدة. فيكون أن تموت في موضع مبتدأ، ولنفس في موضع خبره. وقدره الزجاج على المعنى فقال: وما كانت نفس لتموت، فجعل ما كان اسماً خبراً، وما كان خبراً اسماً، ولا يريد بذلك الإعراب، إنّما فسر من جهة المعنى. وقال أبو البقاء: اللام في: لنفس، للتبيين متعلقة بكان انتهى. وهذا لا يتم إلا أن كانت تامة. وقول من قال: هي متعلقة بمحذوف تقديره: وما كان الموت لنفس وإن تموت، تبيين للمحذوف مرغوب عنه، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز على مذهب البصريين. {كِتَباً مُّؤَجَّلاً} أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلينْ والكتابة هنا عبارة عن القضاء، وقيل: مكتوباً في اللوح المحفوظ مبيناً فيه. ويحتمل هذا الكلام أن يكون جواباً لقولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وانتصاب كتاباً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والتقدير: كتب الله كتاباً مؤجلاً ونظيره: {كتاب الله عليكم صنع الله ووعد الله} . وقيل: هو منصوب على الإغراء، أي الزمور وآمنوا بالقدر وهذا بعيد. وقال ابن عطية: كتاباً نصب على التمييز، وهذا لا يظهر فإن التمييز كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول، وأقسامه في النوعين محصورة، وليس هذا واحداً منها.

{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنياً للمفعول، وقتادة كذلك، إلا أنه شدّد التاء، وباقي السبعة قاتل بألف فعلاً ماضياً. وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل إلى الضمير، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى التكثير بالنسة لكثرة الأشخاص، لا بالنسبة لفرد فرد. إذ القتل لا يتكثر في كل فرد فرد. أو هو قاتل ويكون قوله: معه ربيون محتملاً أن تكون جملة في موضع الحال، فيرتفع ربيون بالابتداء، والظرف قبله خبره، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه العائد على ذي الحال، ومحتملاً أن يرتفع ربيون على الفاعلية بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالاً التقدير: كائناً معه ربيون، وهذا هو الأحسن. لأن وقوع الحال مفرداً أحسن من وقوعه جملة. وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالاً فيعمل وهي حال محكمة، فلذلك ارتفع ربيون بالظرف. وإنْ كان العامل ماضياً لأنه حكى الحال كقوله تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه} وذلك على مذهب البصريين. وأما الكسائي وهشام فإنه يجوز عندهما إعمال اسم الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل، بكونه حكاية حال، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير، ويكون الربيون هم الذين قتلوا أو قتلوا أو قاتلوا، وموضع كأين رفع على الابتداء. والظاهر أن خبره بالجملة من قوله: قتل أو قتل أو قاتل، سواء أرفع الفعل الضمير، أم الربيين. وجوزوا أن يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع الخبر كما تقول: كم من رجل صالح معه مال. أو في موضع الصفة فيكون قد وصف بكونه مقتولاً، أو مقتلاً، أو مقاتلاً، وبكونه معه ربيون كثير. ويكون خبر كأين قد حذف تقديره: في الدنيا أو مضى. وهذا ضعيف، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى تكلف إضمار. وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من قتل ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي، والخبر

محذوف. وهذا كما قلنا ضعيف. ولما ذكروا أن أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها، فهي عاملة فيها، كما دخلت على ذا في قولهم: له عندي كذا. وكما دخلت على أنّ في قولهم: كأن ادعى أكثرهم إن كأن، بقيت فيها الكاف على معنى التشبيه. وإن كذا، وكأن، زال عنهما معنى التشبيه. فعلى هذا لا تتعلق الكاف بشيء، وصار معنى كأين معنى كم، فلا تدل على التشبيه ألبتة. وقال الحوفي: أما العامل في الكاف فإن حملناها على حكم الأصل فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من تقدّم من الأنبياء وأصحابهم. وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى كم، كان العامل بتقدير الابتداء، وكانت في موضع رفع وقتل الخبر. ومن متعلقة بمعنى الاستقرار، والتقدير الأول أوضح لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي. وإذا كانت أي على بابها من معاملة اللفظ، فمن متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه. وهو كلام فيه غرابة. وجزَّهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادّعاؤهم بأنها مركبة من: كاف التشبيه، وإن أصلها أي: فجرت بكاف التشبيه. وهي دعوى لا يقوم على صحتها دليل. وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة مبنية على السكون، والنون من أصل الكلمة وليس بتنوين، وحملت في البناء على نظيرتها كم. وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير. {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا} وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان. وإن قالوا في موضع الاسم، جعلوا ما كان أعرف الاسم، لأن إنَّ وصلتها تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للمضير، يتنزل منزلة العلم. وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم، جعلوه اسم كان، والخبران قالوا. والوجهان فصيحان، وإن كان الأول أكثر. وقد قرىء: ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة.

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} وتعدت صدق هنا لى اثنين، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر، تقول: صدقت زيداً الحديث، وصدقت زيداً في الحديث، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين. ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، فيكون من باب استغفر. واختاروا العامل في إذ صدقكم. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الأٌّمْرِ} وإذاً في قوله: إذا فشلتم، قيل: بمعنى إذ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك، ويتعلق بتحسونهم أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. وقيل: حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله: وتنازعتم على زيادة الواو، قاله: الفراء وغيره. وثم صرفكم على زيادة ثم، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف. والصحيح: أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، فقدره ابن عطية: انهزمتم. والزمخشري: منعك نصرة، وغيرهما: امتحنتم. والتقادير متقاربة. وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية} تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو: انقسمتم إلى قسمين. ويدل عليه ما بعده، وهو نظير: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} التقدير: انقسموا قسمين: فمنهم مقتصد لا يقال: كيف، يقال: انقسموا فيمن فشل وتنازع، وعصى. لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلبهم، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.

وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً: من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في: أم حسبتم. والتجنيس المماثل في: انقلبتم ومن ينقلب، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب. والمغاير في قولهم: إلا أن قالوا. وتسمية الشيء باسم سببه في: تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله، وفي قوله: وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب. والالتفات في: وسنجزي الشاكرين. والتكرار في: ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق. أو للتنبيه على فضل الصابر. وفي: أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل، والمعنى: مفارقة الروح الجسد فهو واحد. ومن في ومن يرد ثواب الجملتين، وفي: ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما، وفي: ثواب وحسن ثواب. وفي: لفظ الجلالة، وفي: منكم من يريد الجملتين. والتقسيم في: ومن يرد وفي منكم من يريد. والاختصاص في: الشاكرين، والصابرين، والمؤمنين. والطباق: في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا. والتشبيه في: يردّوكم على أعقابكم، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى، وفي قوله: سنلقى. وقيل: هذا كله استعارة. والحذف في عدة مواضع.

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَبَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأٌّمْرِ مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الأٌّمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأٌّمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأٌّرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ

الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأٌّمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَنَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .

وقرىء تلو من بإبدال الواو همزة، وذلك لكراهة اجتماع الواوين. وقياس هذه الواو المضمومة أن لا تبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة. ومتى وقعت الواو غير أول وهي مضمومة، فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين: أحدهما: أن تكون الضمة لازمة. الثاني: أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان. مثال ذلك: فووج وفوول. وغوور. فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز. ومثل كونها عارضة: هذا دلوك. ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان: هذا سور، ونور، جمع سوار ونوار. فإنك تقول فيهما: سور ونور. ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه، وهو: أن لا يكون مدغماً فيها نحو: تعود، فلا يجوز فيه تعوذ بإبدال الواو المضمومة همزة. وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو: أن لا تكون الواو زائدة نحو: الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه. وقرأ الحسن: تلون، وخرجوها على قراءة من همز الواو، ونقل الحركة إلى اللام، وحذف الهمزة. قال ابن عطية: وحذفت إحدى الواوين الساكنين، وكان قد قال في هذه القراءة: هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى. وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان، إحداهما: الواو التي هي عين الكلمة، والأخرى: واو الضمير. فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنان، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو. لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف، ولا يلتقي واوان ساكنتان. ولو قال: استثقلت الضمة على الواو، لأن الضمة كأنها واو، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت، فتنقلب الضمة إلى اللام، فالتقى ساكنان، فحذفت الأولى منهما، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه، فلا يتصور. ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي، على تضمين معنى العطف. أي: لا تعطفون على أحد.

وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم: تلوون من ألوى، وهي لغة في لوى. وظاهر قوله على أحد العموم. {فَأَثَبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} وقال الزمخشري: فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون، لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي، إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى: إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم. {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَبَكُمْ} اللام لام كي، وتتعلق بقوله: فأثابكم. فقيل: لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن. {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ} وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل، ونعاساً بدل منه، وهو بدل اشتمال. لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك. أو عطف بيان، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف. أو مفعول من أجله وهو ضعيف، لاختلال أحد الشروط وهو: اتحاد الفاعل، ففاعل الإنزال هو الله تعالى، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين. وقيل: نعاساً هو مفعول أنزل، وأمنة حال منه، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال. التقدير: نعاساً ذا أمنة، لأن النعاس ليس هو إلا من. أو حال من المجرور على تقدير: ذوي أمنة. أو على أنه جمع آمن، أي آمنين، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله: الزمخشري، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله.

وقرأ حمزة والكسائي: تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا. وقالوا: الجملة في موضع الصفة، وهذا ليس بواضح، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت. فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك، لأنه مخالف لهذه القاعدة، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة. وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو: اتحاد الفاعل. فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل: ما حكم هذه الأمنة؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم، جاز ذلك. وقال ابن عطية: أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى. لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه. فإذا قلت: إن هنداً حسنها فاتن، كان الخبر عن حسنها، هذا هو المشهور في كلام العرب. وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية، واستدل على ذلك بقوله: إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب ويقول الآخر: وكأنه لهق السراة كأنه ما حاجبيه معين بسواد فقال: تركت، ولم يقل تركاً. وقال معين: ولم يقل معينان، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي: غدوها ورواحها وحاجبيه. وما زائدة بين المبدل منه والبدل. ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد. كما قال: لمن زحلوقه زل بها العينان تنهل وقال: وكأنّ في العينين حبّ قرنفل أو سنبلاً كحلت به فانهلت فقال: ظلتا ولم يقل: ظلت تكف. وقرأ الباقون: يغشى بالياء، حمله على لفظ النعاس.

{وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَهِلِيَّةِ} والواو في قوله: وطائفة، واو الحال. وطائفة مبتدأ، والجملة المتصلة به خبره. وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان: أحدهما: واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر: سرينا ونم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوؤه كل شارق والمسوغ الثاني: أن الموضع موضع تفصيل. إذ المعنى: يغشى طائفة منكم، وطائفة لم يناموا، فصار نظير قوله: إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحوّل ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز. ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة، ويظنون الخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، والجملتان صفتان، التقدير: ومنكم طائفة. ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم، وانتصاب غير الحق. قال أبو البقاء: على أنه مفعول أول لتظنون، أي أمراً غير الحق، وبالله الثاني. وقال الزمخشري: غير الحق في حكم المصدر، ومعناه: يظنون بالله ظن الجاهلية، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك، انتهى. فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين، وتكون الباء ظرفية كما تقول: ظننت بزيد. وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين، وإنما المعنى: جعلت مكاك ظني زيداً. وقد نص النحويون على هذا. وعليه: فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج سراتهم في السائريّ المسرد

أي: اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج. وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي، أي: ظناً مثل ظن الجاهلية. ويجوز في: يقولون أن يكون صفة، أو حالاً من الضمير في يظنون، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده. ومن شيء في موضع مبتدأ، إذ من زائدة، وخبره في لنا، ومن الأمر في موضع الحال، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له، فيتعلق بمحذوف. وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى: {ولم يكن له كفواً أحد} وهذا لا يجوز: لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر، وتقديره: أعني لنا هو جملة أخرى، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة، وذلك لا يجوز. وأما تمثيله بقوله: ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء، لأن له معمول لكفواً، وليس تبييناً. فيكون عامله مقدراً، والمعنى: ولم يكن أحد كفواً له، أي مكافياً له، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو، فقوله: لعمرو ليس تبينناً، بل معمولاً لضارب. وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر. وقرأ أبو عمر: وكله على أنه مبتدأ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو: الجرمي، والزجاج، والفراء. قال ابن عطية: ورجح الناس قراءة الجمهور، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى. ولا ترجيح، إذ كل من القراءتين متواتر، والابتداء بكل كثير في لسان العرب وجواب لو هو الجملة المنفية بما. وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام. {وَقَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأٌّرْضِ} اللام في «لإخوانهم» لام السبب وليس لام التبليغ.

وإذا ظرف لما يستقبل. وقالوا: ماض، فلا يمكن أن يعمل فيه. فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين، فاعمل فيه قال: وقال ابن عطية: دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان. قال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا؟ (قلت) : هو حكاية الحال الماضية، كقولك: حين تضربون في الأرض انتهى كلامه. ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف، وهو لا بد من تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف المستقبل، لكن يكون الضمير في قوله: لو كانوا عائداً على إخوانهم لفظاً، وعلى غيرهم معنى، مثل قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} وقول العرب: عندي درهم ونصفه. وقول الشاعر: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا ونصفه فقد والمعنى: من معمر آخر ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخر، فعاد الضمير على درهم الحمام لفظاً لا معنى. كذلك الضمير في قوله: لو كانوا، يعود على إخوانهم لفظاً والمعنى: لو كان إخواننا الآخرون. وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي. ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً، وعلى حذف التاء، والمراد: غزاة. وقال بعض من وجهٍ على أنّه حُذف التاء وهو: ابن عطية، قال: وهذا الحذف كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي: أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى به المجد أخلاق الأبوّ السوابق

يريد الأبوة: جمع أب، كما أن العمومة جمع عم، والبنوّة جمع ابن. وقد قالوا: ابن وبنوّ انتهى. وقوله: وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر، بل لا يوجد مثل رام ورمى، ولا حام وحمى، يريد: رماة وحماة. وإن أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله، ولا نقول أنَّ الحذف ـــ أعني حذف التاء ـــ كثيرٌ في كلامهم، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها، ثم حذفت كثيراً وليس كذلك، بل الجمع جاء على فعول نحو: عم وعموم، وفحل وفحول، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع، فلا نقول في عموم: أنه حذفت منه التاء كثيراً لأن الجمع لم يبن عليها، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها. وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه، إن ذلك على سبيل تأكيد الجمع، لمَّا رأوا زائداً لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد. وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه: أنه مما شذ جمعه ولم يعل، فيقال فيه: أبى كما قالوا: عصى في عصا، وهو عندهم جمع على فعول، وليس أصله أبوه. ولا يجمع ابن علي بنوّة، وإنما هما مصدران. والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل، كما قدم الضرب على الغزو. والضمير في: لو كانوا، هو لقتلى أحد، قاله: الجمهور. أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله: بكر بن سهل الدمياطي. وقرأ الجمهور: وما قتلوا بتخفيف التاء. وقرأ الحسن: بتشديدها للتكثير في المحال، لا بالنسبة إلى محل واحد، لأنه لا يمكن التكثير فيه.

{لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ} اختلفوا في هذه اللام فقيل: هي لام كي. وقيل: لام الصيرورة. فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق، ولماذا يشار بذلك؟ فذهب بعضهم: إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام وسياقه، التقدير: أوقع ذلك، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم. وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال: لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلاً لقولهم. {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وأكد ذلك بالقسم. لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم، وجواب القسم هو: لمغفرة. وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا، وأنه كاف في فوز المؤمن. وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله. وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء. أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير: ورحمة منه. وثمَّ صفة أخرى محذوفة لا بد منها وتقديرها: ورحمة لكم. وخبر هنا على بابها من كونها افعل تفضيل، كما روي عن ابن عباس: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله: لمغفرة. وترتفع المغفرة على خير الابتداء المقدر. وقوله: خير صفة لا خير ابتداء انتهى قوله. وهو خلاف الظاهر. وجواب الشرط الذي هو إن قتلتم محذوف، لدلالة جواب القسم عليه. وقول الزمخشري: سدَّ مسدَّ جواب الشرط إن عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح، وإن عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح.

{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} لم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور. ولو تأخر لكان: لتحشرن إليه كقوله: ليقولن ما يحبسه. وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا، أو بسوف. كقوله: {فلسوف تعلمون} أو بقد كقول الشاعر: كذبت لقد أصبى على المرء عرسه وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي قال أبو علي: الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل، فلم يحتج إلى النون. وبدخولها على سوف وقع الفرق، فلم يحتج إلى النون، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا.

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وما هنا زائدة للتأكيد، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان، مقرر في علم العربية. وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة، ورحمة بدل منها. كأنه قيل: فبشيء أبهم، ثم أبدل على سبيل التوضيح، فقال: رحمة. وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة. وقيل: ما هنا استفهامية. قال الرازي: قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول، ولا خشونة في الكلام، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه. وما قاله المحققون: صحيح، لكنَّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية، فضلاً عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام الله، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب. ثمّ إنَّ تقديره ذلك: فبأي رحمة، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة، وما ذهب إليه خطأ من وجهين: أحدهما: أنه لا تضاف ما الاستفهامية، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف، وكم على مذهب أبي إسحاق. والثاني: إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه. قول الزجاج في ما هذه؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين.

وتضمنت هذه الآيات الطباق في: ينصركم ويخذلكم، وفي رضوان الله وبسخط. والتكرار في: ينصركم وينصركم، وفي الجلالة في مواضع. والتجنيس المماثل: في يغل وما غل. والاستفهام الذي معناه النفي في: أفمن اتبع الآية. والاختصاص في: فليتوكل المؤمنون، وفي: وما كان لنبي، وفي: بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء. والحذف في عدة مواضع. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْءَايَتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * أَوَ لَمَّا أَصَبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ * وَمَآ أَصَبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} وقرىء شاذاً: لمن منّ الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد من. قال الزمخشري: وفيه وجهان: أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم، فحذف لقيام الدلالة. أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير، إذا كان قائماً بمعنى لمن مَنَّ الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى. أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به} {وما منا إلا له مقام} {وما دون ذلك} على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة، إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان، ومفعولة باذكر على قول. أمّا أنْ تستعمل مبتدأ فلم يثبت ذلك في لسان العرب، ليس في كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل. وقد قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين، ولا مبتدأين انتهى كلامه. وأمّا قوله: في محل الرفع كإذا، فهذا التشبيه فاسد، لأن المشبه مرفوع بالابتداء، والمشبه به ليس مبتدأ. إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك. وليس في الحقيقة في موضع رفع، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف، وذلك العامل هو مرفوع. فإذا قال النحاة: هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، فهذا في غاية الفساد. لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب، لا يجيز أن ينطق به، إنما هو أمر تقديري. ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده. وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب، ذكرت في مبسوطات

النحو. {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} وإن هنا هي الخففة من الثقيلة، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله: {وإن كانت لكبيرة} والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا. وقال الزمخشري: إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين. انتهى. وقال مكي: وقد ذكر أنه قبل إن نافية، واللام بمعنى إلا، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، قال: وهذا قول الكوفيين. وأما سيبويه فإنه قال: إن مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين. فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث. ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف. نحو: يا ذهب إليه. إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت: إن زيداً ائم ثم خففت، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان: أحدهما: جواز الأعمال، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة، إلا أنها لا تعمل في مضمر. ومنع ذلك الكوفيون، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب. والوجه الثاني: وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل، لا في ظاهر، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدر ألبتة. فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف، وفي أولهما إن تأخر فنقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيداً قائم. وإن وليه جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء. وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. والجملة من قوله: وإن كانوا، حالية. والظاهر أن العامل فيها هو: ويعلمهم، فهو حال من المفعول.

{أَوَ لَمَّا أَصَبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار. وقال ابن عطية: دخلت عليها ألف التقرير، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال. وقال الزمخشري: ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم، وأنَّى هذا نصب لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع. (فإن قلت) : على م عطفت الواو هذه الجملة؟ (قلت) : على ما مضى من قصة أحد من قوله: {ولقد صدقكم الله وعده} ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، فكأنه قال: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى. أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله: {لقد صدقكم الله وعده} . ففيه بعدٌ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه، وقد رددناه عليه. وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها التقديم، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأمّا قوله: ولما نصب إلى آخره وتقديره: وقلتم حينئذ كذا، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي. زعم أن لما ظرف زمان بمعنى حين، والجملة بعدها في موضع جر بها، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل، وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو: لما جاء زيد عمرو، فلما في موضع نصب بجاء من قولك: جاء عمرو. وأمّا مذهب سيبويه فأما حرف لا ظرف، وهو حرف وجوب لوجوب، ومذهب سيبويه هو الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى: بالتكميل.

{قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} وأنى هذا: جملة من مبتدأ وخبر، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله: قلتم. قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم، والمعنى: كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك. وأنى سؤال عن الحال هنا، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى، لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجب. وقال الزمخشري: أنى هذا من أين هذا، كقوله: «أنى لك هذا» لقوله: «من عند أنفسكم» وقوله: «من عند الله» انتهى كلامه. والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا، لأنه إنما انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في ألاّ أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشري: أنى هذا، من أين هذا تقدير غير سائغ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأمّا على ما قررناه، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ، ومراعي فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأبي سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر، والجواب بقوله: من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار: كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب ذلك بأن يقال: بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.

{وَمَآ أَصَبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وما موصولة مبتدأ، والخبر قوله: فبإذن الله، وهو على إضمار أي: فهو بإذن الله. ودخول الفاء هنا. قال الحوفي: لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل. وقال ابن عطية: ودخلت الفاء رابطة مسددة. وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سيبويه: الذي قام فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه. وهو أحسن من كلام الحوفي، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط. وقال ابن عطية: فأشبه الكلام الشرط. ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط. فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضياً من حيث المعنى، فكذلك الصلة. {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَنِ} وأقرب هنا افعل تفضيل، وهي من القرب المقابل للبعد. ويعدّي بإلى وباللام وبمن، فيقال: زيد أقرب لكذا، وإلى كذا، ومن كذا من عمرو. فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقاً في نحو: زيد أفضل من عمرو. وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفاً على الآخر. ولا بدلاً منه بخلاف سائر العوامل، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف، أو على سبيل البدل. فتقول: زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.

والعامل في يومئذ أقرب. ومنهم متعلق بأقرب أيضاً، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة، أي: هم قوم إذ قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش: إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد، وإنما هو من القَرَب بفتح القاف والراء وهو المطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الوداد، فاللفظة بمعنى الطلب. ويتعين على هذا القول التعدية باللام، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر. {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً: الرفع على النعت للذين نافقوا، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون، والنصب على الذم أي: أذم الذين، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم. والجملة من قوله: وقعدوا حالية أي: وقد قعدوا. ووقوع الماضي حالاً في مثل هذا التركيب مصحوباً بقد، أو بالواو، أو بهما، أو دونهما، ثابت من لسان العرب بالسماع.

قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. (فإن قلت) : كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ (قلت) : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء. والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن التقدير: ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً لا يجوز، لأنَّ فيه تقديم المضمر على مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب: رب بلا خلاف، نحو: ربه رجلاً أكرمته، وباب نعم وبئس في نحو: نعم رجلاً زيد على مذهب البصريين، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو: ضرباني وضربت الزيدين، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو: هو زيد منطلق، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو: مررت به زيد، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبراً للضمير، وجعل منه قوله تعالى: {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدّنيا} التقدير عنده: ما الحياة إلا حياتنا الدّنيا. وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحداً من هذه الأماكن المذكورة. وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه: يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى، لكنه عندهم قليل جداً. قال أبو عليّ الفارسي: حذفه عزيز جداً، كما أن حذف خبر كان كذلك، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى. قول أبي علي. وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصاراً، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو. وما كان بهذه المثابة ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً حذفه عند الجمهور، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى. فتأويل مَن تأوّل الفاعل مضمراً يفسره المعنى، أي: لا يحسبن هو أي أحد، أو حاسب أولى. وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلفت بالخطاب والغيبة.

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} وقرأ الجمهور: بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة: أحياء بالنصب. قال الزمخشري: على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى. وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال الزجاج: ويجوز النصب على معنى: بل أحسبهم أحياءً. ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال: لا يجوز ذلك، لأن الأمر يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة. فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن يُضمر فعلاً غير المحسبة اتقدهم أو اجعلهم، وذلك ضعيف، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي. وقوله: لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه: أنَّ المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة، لأنها لا تكون لليقين. وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن، لكنه في ظن كثير، وفي حسب قليل. ومن ذلك في حسب قول الشاعر: حسبت التقى والحمد خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا وقول الآخر: شهدت وفاتوني وكنت حسبتني فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي فلو قدر بعد: بل أحسبهم بمعنى أعلمهم، لصحَّ لدلالة المعنى عليه، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن، لاختلاف مدلوليهما. وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر. وقوله: ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ. وقوله: أو اجعلهم، هذا لا يصح ألبتة، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو صيرهم، أو سمهم، أو القهم. وقوله: وذلك ضعيف أي النصب، وقوله: إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح، وإن عنى من حيثُ المعنى فغير مسلم له، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب العلم.

ومعنى عند ربهم: بالمكانة والزلفى، لا بالمكان. قال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن عند تقتضي غاية القرب، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى. ويحتمل عند ربهم أن يكون خبراً ثانياً، وصفة، وحالاً. وكذلك يرزقون: يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، وأن يكون صفة ثانية. وقدَّم صفة الظرف على صفة الجملة، لأن الأفصح هذا وهو: أن يقدم الظرف أو المحرور على الجملة إذا كانا وصفين، ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق. وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف. {فَرِحِينَ بِمَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} ومن يحتمل أن تكون للسبب، أي: ما آتاهم الله متسبب عن فضله، فتتعلق الباء بآتاهم. ويحتمل أن تكون للتبعيض، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما، أي: بما آتاهموه الله كائناً من فضله. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، فتتعلق بآتاهم. وجوّزوا في فرحين أن يكون حالاً من الضمير في يرزقون، أو من الضمير في الظرف، أو من الضمير في أحياء، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب. {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفاً على فرحين ومستبشرين كقوله: «صافات ويقبضن» أي قابضات وأن يكون على إضمارهم. والوا للحال، فتكون حالية من الضمير في فرحين، أو من ضمير المفعولين في آتاهم، أو للعطف. ويكون مستأنفاً من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها.

وإن هي المخففة من الثقيلة، واسمها محذوف ضمير الشأن، وخبرها الجملة المنفية بلا. وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة أو منصوب على أنه مفعول من أجله، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة. أو منصوب على أنه مفعول من أجله، فيكون علة للاستشار، والمستبشر به غيره. التقدير: لأنه لا خوف عليهم. ولاذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع، الطباق في قوله: لقد منّ الله الآية، إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدّر. وفي قوله: في ضلال مبين، وفي: يقولون بأفواههم، والقول ظاهر ويكتمون. وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم. وفي: أمواتاً بل أحياء وفي: فرحين ويحزنون. والتكرار في: وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم. وفي فرحين ويستبشرون. والتجنيس المغاير في: إصابتكم مصيبة، والمماثل في: أصابتكم قد أصبتم. والاستفهام الذي يراد به الإنكار في: أو لما أصابتكم. والاحتجاج النظري في: قل فادرأوا عن أنفسكم. والتأكيد في: ولا هم يحزنون. والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها.

{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَبَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَرِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الأٌّخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَنِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ

السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَبَهُمُ الْقَرْحُ} والظاهر إعراب الذين مبتدأ، والجملة بعده الخبر وجوزوا الاتباع نعتاً، أو بدلاً، والقطع إلى الرفع والنصب. ومن في منهم قال الزمخشري: للتبيين مثلها في قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم غفرة وأجراً عظيماً} لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا، إلا بعضهم. وعن عروة بن البزير قالت لي عائشة: أن أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني: أبا بكر والزبير انتهى. وقال أبو البقاء: منهم حال من الضمير في أحسنوا، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس. {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وجوزوا في إعراب الذين قال: أوجه الذين قبله، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي: فزادهم ذلك القول إيماناً. وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده. وهما ضعيفان، من حيث أن الأول لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به، لا هو في نفسه. من حيثُ أن الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع، لا على المفرد. فيقول: مفارقه شابت، باعتبار الإخبار عن الجمع، ولا يجوز مفارقه شاب، باعتبار مفرقه شاب. {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الجملة من قوله: لم يمسسهم سوء في موضع الحال، أي سالمين. وبنعمة حال أيضاً، لأن الباء فيه باء المصاحبة، أي: انقلبوا متنعمين سالمين. والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال، يجوز دخول الواو عليها، وعدم دخولها. فمن الأوّل قوله تعالى: {أو قال أوحي إلي} ولم يوح إليه شيء، وقول الشاعر: لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل

ومن الثاني قوله تعالى: {وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} وقول قيس بن الأسلت: واضرب القوس يوم الوغى بالسيف لم يقصر به باعي ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم: أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظاً احتاجت إلى الواو كان فيها ضميراً، ولم يكن فيها. والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} والتشديد في يخوّف للنقل، كان قبله يتعدّى لواحد، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين. وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها، وأحدهما اقتصار أو اختصار، أو هنا تعدّى إلى واحد، والآخر محذوف. فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير: يخوفكم أولياء، أي شر أوليائه في هذا الوجه. لأن الذوات لا تخاف، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني، أي: يخوّف أولياءه شرّ الكفار، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون، ومن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمأي: أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين، ولا يصل إليكم تخويفه. وعلى لوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار: أبو سفيان ومن معه. ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل. وقرأ أبيّ والنخعي: يخوفكم بأوليائه، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه، أي: أولياءه، كقراءة الجمهور. ويجوز أن تكون الباء للسبب، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي: يخوّفكم الشرّ بأوليائه، فيكونون آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير: بأوليائه فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً لدلالة، المعنى على الحذف، والتقدير: بأوليائه، فيكونون آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير: بأوليائه، فيكونون

آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير: بأوليائه، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة، المعنى على الحذف، والتقدير: يخوفكم الشرّ بأوليائه، وهذا بعيد. والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ، والشيطان خبره، ويخوف جملة حالية، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية} {وهذا بعلي شيخاً} وأجاز أبو لابقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان، ويكون يخوف خبراً عن ذلكم. وقال الزمخشري: الشيطان خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلك المثبط هو الشيطان، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة، ويخوف الخبر والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه. فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب. وإنما قال: والمراد بالشيطان نعيم، أو أبو سفيان، لأنه لا يكون صفة، والمراد به إبليس. لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة، إذ أصله صفة كالعيوق، ثم غلب على إبليس، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه.

وقال ابن عطية: وذلكم في الإعراب ابتداء، والشيطان مبتدأ آخر، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأوّل. وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى. وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز، إن كان الضمير في أولياءه عائداً على الشيطان، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله: ذلكم، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم: هجيري أبي بكر لا إله إلا الله، وإن ان عائداً على ذلكم، ويكون ذلك عن الشيطان جاز، وصار نظير: إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى: إذ ذاك، إنما ذلكم الركب، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه، أي: أولياء الركب، أو أبي سفيان والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه، هذا إذا كان المراد بقوله: أولياءه كفار قريش، وغيرهم من أولياء الشيطان. وإن كان المراد به المنافقين، فيكون عائداً على الناس من قوله: {إن الناس قد جمعوا لكم} قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان، وأمر بخوفه تعالى، وعلق ذلك على الإيمان. أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله: {ولا يخشون أحداً إلا الله} وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان. وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان، كما تقول: إن كنت رجلاً فافعل كذا. وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وهي ضمير المفعول، والأصل الإثبات. ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون، فتذهب الدلالة على المحذوف.

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأًّنفُسِهِمْ} وقرأ حموة تحسبنّ بتاء الخطاب، فيكون الذين كفروا مفعولاً أول. ولا يجوز أن يكون: أنما نملي لهم خير، في موضع المفعول الثاني، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى، والمصدر لا يكون الذات، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي: ولا تحسبن شأن الذين كفروا. أو من الثاني أي: ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب، أنَّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول. وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري: على أن يكون أنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين. قال ابن الباذش: ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على على مفعول واحد؟ (قلت) : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ، ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى كلامه. وهو التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد. التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم. قال الفرّاء ومثله: هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم انتهى. وقد ردّ بعضهم قول الكسائي والفراء فقال: حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد، فهو غلط منهما انتهى.

وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصاراً فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} إن تقديره: ولا تحسبنهم. وذكرنا هناك أن مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جداً بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادراً وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه. وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير. قال: وقد قرأ بها خلق كثير، وساق عليها مثالاً قول الشاعر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، وعلى هذا يكون: أنما نملي بدل، وخيراً: المفعول الثاني أي إملائنا خيراً. وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد. وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه.

وقال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً في موضع المفعول الثاني، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم. وجاز الابتداء بأن المفتوحة، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك. ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردّوها. وقال أبو علي الفارسي: ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثني. وقال مكي في مشكله: ما علمت أحداً قرأ تحسبن بالتاء من فوق، وكسر الألف من إنما. وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبنَّ بالياء، وإعرابُ هذه القراءة ظاهر، لأن الفاعل هو الذين كفروا، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنَّ كما تقول: حسبت أن زيداً قائم. وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي، ومصدرية، أي: أن الذي نملي، وحذف العائد أي: عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلاً معمولاً لفعل تام متعيناً للربط، أو أنَّ إملائنا خير. وجوّز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب، فتكون القراءتان بمعنى واحد.

وقرأ يحيى بن وثاب: ولا يحسبن بالياء، وإنما نملي بالكسر. فإن كان الفعل مسنداً للنبي صلى الله عليه وسلّم فيكون المفعول الأول الذين كفروا، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني. وإن كان مسنداً للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين. فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين، ولكن يحيى قرأ بالكسر، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن، وإن لم تكن اللام في حيزها. والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن، وهو بعيد: لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله: إني وجدت ملاك الشيمة الأدب أي لملاك الشيمة الأدب، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب. وحكى الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى، وفتح الثانية. ووجه ذلك على أن المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة، وترك المعاجلة بالعقوبة. وظاهر الذين كفروا العموم. وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين. قيل: وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف، ونتبع سنة الإمام في المصاحف. وأما الثانية، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي. ولا مصدرية، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه. وقيل: اللام في ليزدادوا للصيرورة. {ولهم عذاب مهين} هذه الواو في: ولهم، للعطف.

{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} واللام في قوله: ليذر هي المسماة لام الجحود، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي، وتعمل بنفسها النصب في المضارع. وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول: ما كان زيد يقوم، وما كان زيد ليقوم، إذا أكدت النفي. ومذهب البصريين أنَّ خبر كان محذوف، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار، وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها، وأنَّ التقدير: ما كان الله مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، أي: ما كان مريداً لترك المؤمنين. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل. {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} وقرأ حمزة تحسين بالتاء، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن، وهو على حذف مضاف أي: بخل الذين. وقرأ باقي السبعة بالياء. فإنْ كان الفعل مسنداً إلى الضمير، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره: بخلهم، وحذف لدلالة يبخلون عليه. وحذفه كما قلنا: عزيز جداً عند الجمهور، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف، وهو فصل. وقرأ الأعمش بإسقاط هو، وخيراً هو المفعول بتحسبن. قال ابن عطية: ودل قوله: يبخلون على هذا البخل المقدر، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر: إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف

والمعنى: جرى إلى السفه انتهى. وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين: أحدهما أن الدال في اةية هو الفعل، وفي البيت هو اسم الفاعل، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد. والثاني أن في الآية حذفاً لظاهر، إذ قدروا المحذوف بخلهم، وأما في البيت فهو إضمار، لا حذف. ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين، ويبخلون يطلب مفعولاً بحرف جر، فقوله: ما آتاهم يطلبه يحسبن، على أن يكون المفعول الأول، ويكون هو فصلاً، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون. فعدى بحرف الجر واحد معموله، وحذف معمول تحسين الأول، وبقي معموله الثاني، لأنه لم يتنازع فيه، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول. وساغ حذفه وحده، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت أو فلت: زيد منطلق، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق، وفي الآية: لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد، وتقدير المعنى: ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف، لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً، إذ لم يقع فيه التنازع. ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم، وكان تحت الانتفاء قسمان: أحدهما أن لا خير ولا شر، والآخر إثبات

الشر، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو: إثبات كونه شراً لهم. وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع. الاختصاص في: أجر المؤمنين. والتكرار ف: يستبشرون، وفي: لن يضروا الله شيئاً، وفي: اسمه في عدة مواضع، وفي: لا يحسبن الذين كفروا، وفي ذكر الإملاء. والطباق في: اشتروا الكفر بالإيمان، وفي: ليطلعكم على الغيب. والاستعارة في: يسارعون، وفي: اشتروا، وفي: نملي وفي: ليزدادوا إثماً، وفي: الخبيث والطيب. والتجنيس المماثل في: فآمنوا وإن تؤمنوا. والالتفات في: أنتم إن كان خطاباً للمؤمنين، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب، وفي: تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب. والحذف في مواضع. {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأٌّنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَبِ الْمُنِيرِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَعُ الْغُرُورِ} . {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}

وإن وما بعدها محكي بقالوا: وأجاز أبو البقاء أن يكون محكياً بالمصدر، فيكون من باب الأعمال. قال: وإعمالُ الأول أصلٌ ضعيف، ويزداد ضعفاً لأن الثاني فعل والأول مصدر، وإعمال الفعل أقوى. والظاهر أنَّ ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي، وأجيز أن تكون مصدرية. وقرأ الجمهور: سنكتب وقتلهم بالنصب. ونقول: بنون المتكلم المعظم. أو تكون للملائكة. وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة: سيكتب بالياء مبنياً للمفعول، وقتلهم بالرفع عطفاً على ما، إذ هي مرفوعة بسيكتب، ويقول بالياء على الغيبة. وقرأ طلحة بن مصرّف: سنكتب ما يقولون. وحكى الداني عنه: ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا. ونقلوا عن أبي معاذ النحويّ أنّ في حرف ابن مسعود سنكتبُ ما يقولون ونقول لهم ذوقوا.

و {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ} والذين قالوا صفة للذين قالوا. وقال الزجاج: الذين صفة للعبيد. قالابن عطية: وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى. وهو كما قال. وجوزوا قطعة للرّفع، والنصب، واتباعه بدلاً. وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر، فحذف وبقي على الخلاف فيه: أهو في موضع نصب أو جر؟ وأن يكون مفعولاً به على تضمين عهد معنى الزم، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن. وقرأ عيسى بن عمر بقرُبان بضم الراء. قال ابن عطية: اتباعاً لضمة القاف، وليس بلغة. لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين. وحكى سيبويه السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الاتباع انتهى. ولم يقل سيبويه: إنَّ ذلك على الاتباع، بل قال: ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان، ولا شيئاً من هذا النحو لم يذكره. ولكنه جاء فعلان وهو قليل، قالوا: السلطان وهو اسم انتهى. وقال الشارح: صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل. قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسماً: وهو قليل نحو سلطان.

{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير: وإن يكذبوك فتسلّ به. ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل، وما يوجد في كلام المعربين أنَّ مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة. وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم، بل نبه على أنَّ من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء، فكان المعنى: فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل. قيل: ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم. ومن قبلك: متعلق بكذب، والجملة من قوله: جاؤا في موضع الصفة لرسل انتهى. والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية، أي: حاؤا أممهم مصحوبين بالبينات، أو جاؤا البينات. وقرأ الجمهور: والزبر. وقرأ ابن عامر: وبالزبر، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم. وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب. وقرأ الجمهور: والكتاب. وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد. وكان ذكر الكتاب مفرداً وإنَّ كان مجموعاً من حيث المعنى لتناسب الفواصل، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك. وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله: الذين قالوا: والمماثل في: قالوا، وسنكتب ما قالوا، وفي: كذبوك فقد كذب. والطباق في: فقير وأغنياء، وفي: الموت والحياة، وفي: زحزح عن النار وأدخل الجنة. والالتفات في: سنكتب ونقول، وفي: أجوركم، إذ تقدمه كل نفس. والتكرار في: لفظ الجلالة، وفي البينات. والاستعارة في: سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة، وفي: قدّمت أيديكم، وفي: تأكله النار، وفي: ذوقوا وذائقة. والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم. والاختصاص في: أيديكم. والإشارة في: ذلك، والشرط المتجوز فيه. والزيادة للتوكيد في: وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك. والحذف في مواضع.

{لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّمُورِ * وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاخْتِلَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لأّيَتٍ لاٌّوْلِى الأٌّلْبَبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنْصَرٍ * رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَنِ أَنْءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأٌّبْرَارِ * رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَرِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى

وَقَتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَتِهِمْ وَلائدْخِلَنَّهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَدِ * مَتَعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ * وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} وارتفاع ولا تكتموانه لكونه وقع حالاً، أي: غير كاتمين له وليس داخلاً في المقسم عليه. قالوا وللحال لا العطف، كقوله: {فاستقيما ولا تتبعان} وقوله: ولا يسأل في قراءة من خفف النون ورفع اللام. وقيل: الواو للعطف، وهو من جملة المقسم عليه. ولمّا كان منفياً بلا لم يؤكد، تقول: والله لا يقوم زيد، فلا تدخله النون. وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح، لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ، قبل لا، حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال، إذ المضارع المنفي بلالاً تدخل عليه واو الحال. وقرأ عبد الله: ليبينونه بغير نون التوكيد. قال ابن عطية: وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد، قاله: سيبويه انتهى. وهذا ليس معروفاً من قول البصريين، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة. والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام، فيجزون: والله لا قوم، ووالله أقومن. وقال الشاعر: وعيشك يا سلمى لا وقن إنني لما شئت مستحل ولو أنه القتل وقال آخر: يميناً لأبغض كل امرىء يزخرف قولاً ولا يفعل {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما ما قاله أبو عليّ: وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء، والذين رفع به. وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله: وما خلت أبقي بيننا من مودّة عراض المداكي المشنقات القلائصا وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد. قال ابن عطية: فتتجه القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلاً من الأول، وقد تعدّى إلى المفعولين وهما: الضمير وبمفازة، واستغنى بذلك عن المفعولين، كما استغنى في قوله:

بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب أي: وتحسب حبهم عاراً عليّ. والوجه الثاني ما قاله الزمخشري: وهو أن يكون المفعول الأول محذوفاً على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين. وفلا يحسبنهم تأكيد، وتقدّم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله: {ولا يحسبن الذين كفروا إنما} وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك. وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين: المرفوع والمنصوب، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها، ومن غيرها: وجدت، وفقدت، وعدمت، وذلك مقرّر في علم النحو. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: لا تحسبن، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء فيهما خطاباً للرسول، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما ذكره ابن عطية، وهو أن المفعول الأول هو: الذين يفرحون. والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفاً في المفعولين. وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام، وهي عادة العرب، وذلك تقريب لذهن المخاطب. والوجه الثاني ذكره الزمخشري، قال: وأحد المفعولين الذين يفرحون، والثاني بمفازة. وقوله: فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم، فلا يحسبنهم فائزين. وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطاباً للمؤمنين. ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: لا يحسبن بياء الغيبة، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء فيهما، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما. ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوّز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل. وإذا كان فلا يحسبنهم توكيداً أو بدلاً، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة، إذ لا يصح أن تكون للعطف، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء. وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر:

حتى تركت العائدات يعدنه يقلن فلا تبعد وقلت له: ابعد وقال آخر: لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي: كفه يتذبذب أي: لا تبعد، وأي تركت. وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى: أعطوا. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً} وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم. وفي قوله: دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور. {ويتفكرون في خلق السموات والأرض} الظاهر أنه معطوف على الصلة، فلا موضع له من الإعراب. وقيل: الجملة في موضع نصب على الحال، عطفت على الحال قبلها. {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره: يقولون. وهذا الفعل في موضع نصب على الحال. انتصاب باطلاً على أنه نعت لمصدر محذوف. وقيل: انتصب باطلاً على الحال من المفعول. وقيل: انتصب على إسقاط الباء، أي بباطل، بل خلقته بقدرتك التي هي حق. وقيل: على إسقاط اللام وهو مفعول من أجله، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولاً. وقيل: على أنه مفعول ثان لخلق، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين، وهذا عكس المنقول في النحو وهو: أنَّ جعل يكون بمعنى خلق، فيتعدى لواحد. أما أنّ خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين، فلا أعلم أحداً ممن له معرفة ذهب إلى ذلك. والباطل: الزائل الذاهب ومنه: ألا كل شيء ما خلا الله باطل والأحسن من أعرايبه انتصابه على الحال من هذا، وهي حال لا يستغنى عنها نحو قوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على النفي، وهو لا يجوز.

{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ومن مفعوله لفعل الشرط. وحكى بعض المعربين ما نصه، وأجاز قوم أن يكون من منصوباً بفعل دل عليه جواب الشرط وهو: فقد أخزيته. وأجاز آخرون أن يكون من مبتدأ، والشرط وجوابه الخير انتهى. أما القول الأول فصادر عن جاهل بعلم النحو، وأما الثاني فإعراب من مبتدأ في غاية الضعف. وأما إدخاله جواب الشرط في الخبر مع فعل الشرط فجهالة. ومن أعظم وزراً ممن تكلم في كتاب الله بغير علم.

{رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَنِ أَنْءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا} سمع إن دخل على مسموع تعدي لواحد نحو: سمعت كلام زيد، كغيره من أفعال الحواس. وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه نحو: سمعت زيداً يتكلم، وسمعت زيداً يقول كذا، ففي هذه المسألة خلاف. منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها، أو معرفة كان حالاً منها. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع، وجعل سمع مما يعدي إلى واحد إن دخل على مسموع، وإلى اثنين إن دخل على ذات، وهذا مذهب أبي علي الفارسي. والصحيح القول الأول، وهذا مقرر في علم النحو. فعلى هذا يكون ينادي في موضع الصفة لأن قبله نكره، وعلى مذهب أبي علي يكون في موضع المفعول الثاني. وذهب الزمخشري إلى القول الأول قال: تقول: سمعت رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، لتوقع الفعل على الرّجل، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً عنه، فأغناك عن ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدٌّ. وإن يقال: سمعت كلام فلان، أو قوله انتهى كلامه. وقوله: ولولا الوصف أو الحال إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكون وصف ولا حال، ويدخل سمع على ذات، لا على مسموع. وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع وإن لم يكن وصفاً ولا حالاً، ومنه قوله تعالى: {هل يسمعونكم إذ تدعون} أغني ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع.

واللام متعلقة بينادي، ويعدي نادي، ودعا، وندب باللام وبالي، كما يعدي بهما هدي لوقوع معنى الاختصاص، وانتهاء الغاية جميعاً. ولهذا قال بعضهم: إن اللام بمعنى إلى. لما كان ينادي في معنى يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى: إلى. وقيل: اللام لام العلة، أي لأجل الإيمان. وقيل: اللام بمعنى الباء، أي بالإيمان. والسماع محمول على حقيقته، أي سمعنا صوت مناد. قيل: ومن جعل المنادي هو القرآن، فالسماع عنده مجاز عن القبول، وأن مفسرة التقدير: أنْ آمنوا. وجوز أن تكون مصدرية وصلت بفعل الأمر، أي: بأن آمنوا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني لها موضع وهو الر، أو النصب على الخلاف. وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول، وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ، والمعنى: فآمنا بك أو بربنا. {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف أي: ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك، لأنَّ الرسل يحملون ذلك، فإنما عليه ما حمل انتهى. وهذا الوجه الذي ذكر آخراً أنه يجوز لبس بجائز، لأن من قواعد النحويين أن الجارّ والمجرور والظرف متى كان العامل فيهما مقيداً فلا بد من ذكر ذلك العامل، ولا يجوز حذفه، ولا يحذف العامل إلا إذا كان كوناً مطلقاً. مثال ذلك: زيد ضاحك في الدار، لا يجوز حذف ضاحك ألبتة. وإذا قلت: زيد في الدار فالعامل كون مطلق يحذف. وكذلك زيد ناج من بني تميم، لا يجوز حذف ناج. ولو قلت: زيد من بني تميم جاز على تقدير كائن من بني تميم، والمحذوف فيما جوزه الزمخشري وهو قوله: منزلاً أو محمولاً، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو. وإذا كان العامل في الظرف أو المجرور مقيداً صار ذلك الظرف أو المجرور ناقصاً، فلا يجوز أن يقع صلة، ولا خبر إلا في الحال. ولا في الأصل، ولا صفة، ولا حالاً.

{وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ} يوم القيامة: معمول لقوله ولا تخزنا، ويصلح أن يكون معمولها لتخزنا وآتنا ووعدتنا ويكون من باب الإعمال. {أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} ومنكم في موضع الصفة، أي: كائن منكم. وقوله: من ذكر أو أنثى، قيل: من تبيين لجنس العامل، فيكون التقدير الذي هو ذكر أو أنثى. ومن قيل: زائدة لتقدم النفي في الكلام. وقيل: مِنْ في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي: عامل كائن منكم كائناً من ذكر أو أنثى. وقال أبو البقاء: من ذكر أو أنثى بدل من منكم، بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة انتهى. فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر، ويكون بدلاً تفصيلياً من مخاطب. ويعكر على أن يكون بدلاً تفصيلياً عطفه بأو، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت ويعكر على كونه من مخاطب أنَّ مذهب الجمهور: أنه لا يجوز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الأخفش. هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة، فإنه يجوز إذ ذاك. وهذا التقييد صحيح، ومنه «تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا» فقوله لأوّلنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا وقول الشاعر: فما برحت أقدامنا في مقامة ثلاثتنا حتى أرينا المنائيا فثلاثتنا بدل من ضمير المتكلم. وأجاز ذلك لأنه بدل في معنى التوكيد، ويشهد لمذهب الأخفش قول الشاعر: بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا وقول الآخر: وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى بمستلئم مثل الفنيق المرجل فقريش بدل من ضمير المخاطب. وبمستلئم بدل من ضمير المتكلم. وقد تجيء أو في معنى الواو إذا عطفت ما لا بد منه كقوله: قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع

يريد: وسافع. فكذلك يجوز ذلك هنا في أو، أن تكون بمعنى الواو، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم، ثم أبدل منه على سبيل التأكيد، وعطف على حد الجزئين ما لا بد منه، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله، فلم يكن بدّ من العطف حتى يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم، فصار نظير من بين ملجم مهره أو سافع. لأنّ بين لا تدخل على شيء واحد، فلا بد من عطف مصاحب مجرورها. {وَقَتَلُواْ وَقُتِلُواْ} وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا بالبناء للمفعول ثم بالمبني للفاعل، فتتخرج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب، فيكون الثاني وقع أولاً ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع فالمعنى: قتل بعضهم وقاتل باقيهم. وقرأ عمر بن عبد العزيز: وقتلوا وقتلوا بغير ألف، وبدأ ببناء الأول للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وهي قراءة حسنة في المعنى، مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف. وقرأ محارب بن دثار: وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا. وقرأ طلحة بن مصرف: وقتلوا وقاتلوا بضم قاف الأولى، وتشديد التاء، وهي في التخريج كالقراءة الأولى. {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَتِهِمْ وَلائدْخِلَنَّهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ} لأكفرن: جواب قسم مذوف، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله: {فالذين هاجروا} وفي هذه الآية ونظيرها من قوله: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم} والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقول الشاعر: جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين وإذا أتاك فلات حين مناص رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ لا تكون قسمية.

{ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} انتصب ثواباً على المصدر المؤكد، وإن كان الثواب هو المثاب به، كما كان العطاء هو المعطى. واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء، فوضع ثواباً موضع إثابة، أو موضع تثويباً، لأنَّ ما قبله في معنى لأثيبنهم. ونظيره صنع الله ووعد الله. وجوّز أن يكون حالاً من جنات أي: مثاباً بها، أو من ضمير المفعول في: {ولأدخلنهم} أي مثابين. وأن يكون بدلاً من جنات على تضمين، ولأدخلنهم معنى: ولأعطينهم. وأن يكون مفعولاً بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي: يعطيهم ثواباً. وقيل: انتصب على التمييز. وقال الكسائي: هو منصوب على القطع، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا. وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ، وخبراً في موضع خبر المبتدأ الأول. والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبراً فالتقدير: والله مستقر، أو استقرّ عنده حسن الثواب. وانتصاب نزلاً قالوا: إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف، والعامل فيها العامل في لهم. وإما بإضمار فعل أي: جعلها نزلاً. وإمّا على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية: تكرمة، وقدره الزمخشري: رزقاً أو عطاء. وقال افرّاء: انتصب على التفسير كما تقول: هو لك هبة وصدقة انتهى. وهذا القول راجع إلى الحال. {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} وللأبرار متعلق بخير، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات. وقيل: فيه تقديم وتأخير. أي الذي عند الله للأبرار خير لهم، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها.

{خَشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} كما اشترت بها أحبارهم الذين لم يؤمنوا. وانتصاب خاشعين على الحال من الضمير في يؤمن، وكذلك لا يشترون هو في موضع نصب على الحال. وقيل: حال من الضمير في إليهم، والعامل فيها أنزل. وقيل: حال من الضمير في لا يشترون، وهما قولان ضعيفان. ومن جعل من نكرة موصوفة، يجوز أن يكون خاشعين ولا يشترون صفتين للنكرة. وجمع خاشعين على معنى من كما جمع في وما أنزل إليهم. وحمل أولاً على اللفظ في قوله: يؤمن، فأفرد وإذا اجتمع الحملان، فالأولى أن يبدأ بالحمل على اللفظ.

وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الاستعارة. عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله، وبسماع المناد إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازته على يسير أعمالهم، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللهم بين يديه، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته. قيل: ويحتمل أن يكون الحساب استعير للجزاء، كما استعير «ولم أدر ما حسابيه» لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى: {فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} والطباق في: البيينة للناس ولا تكتمونه، وفي السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل، والليل عبارة عن الظلمة والنهار عبارة عن النور، وفي: قياماً وقعوداً ومن: ذكر أو أنثى. والتكرار: في لا تحسبن فلا تحسبنهم، وفي: ربنا في خمسة مواضع، وفي: فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى واحد وفي: ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وف: ثواباً وحسن لثواب. والاختصاص في: لأولي الألباب، وفي: وما للظالمين من أنصار، وفي: توفنا مع الأبرار، وفي: ولا تحزنا يوم القيامة، وفي: وما عند الله خير للأبرار. والتجنيس المماثل في: أن آمنوا فآمنا، وفي: عمل عامل منكم. والمغاير في: مناداً ينادي. والإشارة في: ما خلقت هذا باطلاً، والحذف في مواضع.

سورة النساء

سورة النساء {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأٌّرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * وَءَاتُواْ الْيَتَمَى أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَهُمْ إِلَى أَمْوَلِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَمَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً * وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَلَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَابْتَلُواْ الْيَتَمَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً * لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالأٌّقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالأٌّقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ

وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . مثنى وثلاث ورباع: معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود. كقوله: ونفروا بعيراً بعيراً، وفصلت الحساب لك باباً باباً، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل. والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو، وأجاز الفرّاء أن تصرف، ومنع الصرف عنده أولى. وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام. وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية ازضافة، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا.

وقال الزمخشري: إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكريرها. وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه. وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعلها عن تكرّرها، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة: أحدها: ما نقلناه عن سيبويه. والثاني: ما نقلناه عن الفراء. والثالث: ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث. والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه. وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل. فإذا قال: جاءني القوم مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين. فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الأخبار عن مقدار المعدودون غيره. فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب.

وقد ردّ الناس على الزجاج قوله: أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته. وأما قوله: يعرفن بلام التعريف، يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، فهو معترض من وجهين: أحدهما: زعمه أنها تعرف بلام التعريف، وهذا لم يذهب إليه أحد، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات. والثاني: أنه مثل بها، وقد وليت العوامل في قوله: فلان ينكح المثنى، ولا يلي العوامل، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل، ولا تقع إلا خبراً كما جاء: {صلاة الليل مثنى} . أو حالاً نحو: {ما طاب لكم من النساء مثنى} أو صفه نحو: {أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع} وقوله: ذئاب يبغى الناس مثنى وموحدا وقد تجيء مضافة قليلاً نحو، قول الآخر: بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل عل قلة، وقد يستدل له بقول الشاعر: ضربت خماس ضربة عبشمي أدار سداس أن لا يستقيما ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث، فلا تقول: مثناة، ولا ثلاثة، ولا رباعة، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث. عال: يعول عولاً وعيالة، مال. وميزان فلان عائل. وعال الحاكم في حكمه جار، وقال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلّم له شاهد من نفسه غير عائل

وحكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول: عال الرجل يعول كثر عياله. ويقل: عال يعيل افتقر وصار عالة. وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة. وجماع القول في عال: أنها تكون لازمة ومتعدية. فاللازمة بمعنى: مار، وجار، وكثرة عياله، وتفاقم، وهذا مضارعه يعول. وعال الرجل افتقر، وعال في الأرض ذهب فيها، وهذا مضارعه يعيل. والمتعدية بمعنى أثقل، ومان من المؤنة. وغلب منه أعيل صبري وأعجز. وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء، تقول: عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني، وباقي المتعدّي من ذوات الواو. قال سيبويه: هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى. وقال كثير: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب، ويوضع في عقره. ومنه قوله: متبذل تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأٌّرْحَامَ} وقرأ الجمهور من السبعة: تساءلون. وقرأ الكوفيون: بتخفيف السين، وأصله تتساءلون. قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال، كما قالوا: طست فابدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس. قال العجاج: لو عرضت لأسقفي قس أشعث في هيكله مندس حن إليها كحنين الطس

انتهى. أما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة، وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي: إلى أنّ المحذوفة هي الأولى، وهي تاء المضارعة، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل، والإدغام وهو قريب من الأصل، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم. والحذف، لاجتماع المثلين. وظاهر كلامه اختصاص الإدغام والحذف بتتفاعلون، وليس كذلك. أما الإدغام فلا يختص به، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع، فقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه، أو تعليل الحذف والإدغام، وليس كذلك. أما إن كان تعليلاً فليس كذلك، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة. وأما إن كان تعليلاً لهما فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا. وأما قول أبي علي: إذا اجتمعت المتقاربة فكذا، فلا يعني أن ذلك حكم لازم، إنما معناه: أنه قد يكون التخفيف بكذا، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل. وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت. {وَالأٌّرْحَامَ} قرأ الجمهور: السبعة بنصب الميم. وقرأ حمزة: بجرها، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش. وقرأ عبد الله بن يزيد: بضمها، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة، ويكون ذلك على حذف مضاف، التقدير: واتقوا الله، وقطع الأرحام وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم.

وقيل: النصب عطفاً على موضع به كما تقول: مررت بزيد وعمراً. لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه. ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله: تساءلون به وبالأرحام أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية: والأرحام أهل أن توصل: وقدره الزمخشري: والأرحام مما يتقى، أو مما يتساءل به، وتقديره أحسن من تقديره ابن عطية، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق، وابن عطية قدر من المعنى. وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد. ويؤيده قراءة عبد الله: وبالأرحام. وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم. قال الزمخشري: وليس بسديد يعني: الجر عطفاً على الضمير. قال: لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك: مررت به وزيد، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر، ووجب تكرير العامل كقولك: مررت به وبزيد، وهذا غلامه وغلام زيد. ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار، ونظير هذا قول الشاعر: فما بك والأيام من عجب وقال ابن عطية: وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض. قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه. فكما لا يجوز مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال: فاليوم قدبت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب وكما قال: تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكف غوط تعانف

واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية. وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول: رأيتك وزيداً، ولا يجوز رأيت زيداوك، فكان القياس رأيتك وزيداً، أن لا يجوز. وقال ابن عطية أيضاً: المضمر المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف. ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما: أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفريق في معنى الكلام. وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلّم «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» انتهى كلامه. وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في الأرحام واو القسم لا واو العطف، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى، وذهبوا إلى تخريج ذلك قراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها، وأنها من الله تعالى بمكان. قال ابن عطية: وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى. وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية: من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى: {وكفر به والمسجد الحرام} وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها، فأغنى ذلك عن إعادة هنا.

وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه. إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلّمبغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت. وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم، وحمزة رضي الله عنه: أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر. وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم: سفيان الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي. وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع على على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك. ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية، لا صحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.

{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ} وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور: ما طاب. فقيل: ما بمعنى من، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء، وهو مذهب مرجوح. وقيل: عبر بما عن النساء، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل: ما واقعة على النوع، أي: فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس: ما لتعميم الجنس على المبالغة، وكان هذا القول هو القول الذي قبله. وقيل: ما مصدرية، والمصدر مقدّر باسم الفاعل. والمعنى: فانحوا النكاح الذي طاب لكم. وقيل: ما نكرة موصوفة، أي: فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم. وقيل: ما ظرفية مصدرية، أي: مدة طيب النكاح لكم. والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله: فانكحوا، وأنّ من النساء معناه: من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي: كائناً من النساء، ويكون في موضع الحال. وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية، فمفعول فانكحوا هو من النساء، كما تقول: أكلتُ من الرغيف، والتقدير فيه: شيئاً من الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات.

{مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَاعَ} وقرأ النخعي وابن وثاب: وربع ساقطة الألف، كما حذفت في قوله: وحلياناً برداً يريداً بارداً وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعولة وتكون موصولة، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها، وقال أبو البقاء: حال من النساء. وقال ابن عطية: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفة انتهى. وهما إعرابان ضعيفان. أمّا الأول فلأن المحدث عنه هو ماا طاب، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثاً عنه، فلا يكون الحال منه، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات. وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل. وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل. وأيضاً فإنه قال: إنها نكرة وصفة، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعاً لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى: {أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع} وما وقع صفة للنكرة وقع حالاً للمعرفة. وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالاً. هنا نقص كلام مصحف لانه غير واضح بالتصوير وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف، إذ التقدير: أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كانت الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه. تقول: دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر، لأنك تقول: دنوت لكذا. {وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَتِهِنَّ نِحْلَةً} وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر، لأن معنى: وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مضمرة. وقيل: مصدر في موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي: منحولات. وقيل: انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع، أي: أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة وديناً. وقيل: إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات.

{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} منه في موضع صفة لشيء. وانتصب نفساً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من الفاعل. وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصباً عن تمام الجملة، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقه في الجمعية نحو: كرم الزيدون رالاً، كما يطابق لو كان خبراً، وإن كان مخالفاً، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أو مختلفة، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد: كرم بنو فلان أصلاً وأباً. وكقولك: زكاة الأتقياء، وجاد الأذكياء وعياً. وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله. وإن كان مختلف المدلول، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد، أو لا يلبس. فإن ألبس وجبت المطابقة نحو: كرم الزيدون رباء، أي: كرم آباء الزيدين. ولو قلت: كرم الزيدون أباً، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم. وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع. والإفراد أولى، كقوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة. وقرّ الزيدون عيناً، ويجوز أنفساً وأعيناً. وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده، وهو أن المعنى: فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفساً. وقال بعض البصريين: أراد بالنفس الهوى. والهوى مصدر، والمصادر لا تثني ولا تجمع. وجواب الشرط: فكلوه، وهو أمر إباحة. والمعنى: فانتفعوا به.

وانتصاب هنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فكلوه أكلاً هنيئاً، أو على أنه حال من ضمير المفعول، هكذا أعربه الزمخشري وغيره. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية، لأنه عند سيبويه وغيره: منصوب بإضمارفعل لا يجوز إظهاره. وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله: فكلوه هنيئاً مريئاً، ولا تعلق له به من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. وجماع القول في هنيئاً: أنها حال قائمة مقام الفعل الناصب لها. فإذا قيل: إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت، وأقيم هنيئاً مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك. فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت، وهنيئاً حال من ذلك، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك. وإذا قلت: هنيئاً ولم تقل له ذلك، بل اقتصرت على قولك: هنيئاً، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت: هنيئاً له، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف، لأنه صار عوضاً منه، فعمل عمله. كما أنك إذا قلت: زيد في الدار، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر، لأنه عوض منه. ولا يكون في هنيئاً ضمير، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت: هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها، وهو الضمير فاعلاً لثبت، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل. وإذا قلت: هنيئاً مريئاً، فاختلفوا في نصب مريء. فذهب بعضهم: إلى أنه صفة لقولك هنيئاً، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي. وذهب الفارسي: إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً، فالتقدير عنده: ثبت مريئاً، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكما لفعل الذي ناب منابه، والفعل لا يوصف، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله

النحاة في هنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر، أو حال من الضمير في فكلوه أي: كلوه وهو هنيء مريء. قال: وقد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر، كأنه قيل: هنئاً مرئاً انتهى. وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال: كأنه قيل هنأ مرأ، فصار كقولك: سقياً ورعياً، أي: هناءة ومراءة. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف. إما على الحال، وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر. والمراد بها: الدعاء. أجاز ذلك فيها تقول: سقياً لك ورعياً، ولا يجوز سقياً الله لك، ولا رعياً الله لك، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول: سقاك الله ورعاك. والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر: هنيئاً مريئاً غيرداء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت فما: مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء. أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال. وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف، لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لهنيئاً، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك. ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت: قام خرج زيد، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف. وذهب بعضهم: إلى أنّ مريئاً يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب، وهنيئاً مريئاً اسما فاعل للمبالغة. وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل، كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر.

{فَإِنْءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} وحتى هنا غاية للابتلاء، ودخلت على الشرط وهو: إذاً، وجوابه: فإن آنستم، وجوابه وجواب إن آنستم: فادفعوا. وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح، فيلزم أن يكون بعده. وحتى إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله: وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقوله: وحتى ماء دجلة أشكل على أن في هذه المسألة خلافاً ذهب الزّجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة البتة. وفي قوله: بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو: بلغوا حد النكاح أو وقته. وقال ابن عباس: معنى آنستم عرفتم. وقال عطاء: رأيتم. وقال الفراء: وجدتم. وقال الزجاج: علمتم. وهذه الأقوال متقاربة. وقرأ ابن مسعود: فإن أحستم، يريد أحسستم. فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في أليفاظ يسيرة. وحكى غير سيبويه: أنها لغة سليم، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه. {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} وانتصب إسرافاً وبداراً على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر، والولي مبادر إلى خذ ماله، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله، أي: لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر، أي: كبركم كقوله: {أو إطعام يتيماً} وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف. وقيل: التقدير مخافة أن يكبروا، فيكون أن يكبروا مفعولاً من أجله، ومفعول بداراً محذوف.

{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} وفي كفى خلاف: أهي اسم فعل، أم فعل؟ والضجيج أنها فعل، وفاعله اسم الله، والباء زائدة. وقيل: الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء، أي: كفى هو، أي الاكتفاء بالله، والباء ليست بزائدة، فيكون بالله في موضع نصب، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل. وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره. وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز، أعني: حذف الفاعل وحذف المصدر. وانتصب حسيباً على التمييز لصلاحية دخول مَن عليه. وقيل: على الحال. وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف، التقدير: وكفاكم الله حسيباً. وتأتي بغير هذا المعنى، فتعديه إلى اثنين كقوله: {فسيكفيكهم الله} . {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالأٌّقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالأٌّقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} مما ترك في موضع صفة لنصب وقوله: مما قلّ منه، هو بدل من قوله: مما ترك إلا خيراً، أعيد معه حرف الجر، والضمير في منه عائد على من قوله: مما ترك إلا خير. واكتفى بذكره في هذه الجملة، وهو مراد في الجملة الأولى، ولم يضطرّ إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله: مما ترك العموم في المتروك. وهذا البدل فيه ذكر توعى المتروك من القلة أو الكثرة. وقال أبو البقاء: مما قلّ يجوز أن يكون حالاً من الضمير المحذوف في ترك، أي: مما تركه مستقراً مما قلّ.

ومعنى نصيباً مفروضاً: أي حظاً مقطوعاً به لا بد لهم من أن يحوزوه. وقال الزجاج ومكي: نصيباً منصوب على الحال، المعنى: لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض. وقال الفراء: نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر، ولذلك وحده كقولك له: عليّ كذا حقاً لازماً، ونحوه: {فريضة من ا.} ولو كان اسماً صحيحاً لم ينصب، لا تقول: لك عليّ حق درهماً انتهى. وقال الزمخشري قريباً من هذا القول قال: ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: فريضة من الله، كأنه قسمة مفروضة. وقال ابن عطية نحواً من كلام الزجاج قال: إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقديره: فرضاً. ولذلك جاز نصبه كما تقول له: عليّ كذا وكذا حقاً واجباً، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في اسم الذي ليس بمصدر هذا النصب، ولكنّ حقه الرفع انتهى كلامه. وهو مركب من كلام الزجاج والفراء، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له. وقال الزمخشري: ونصيباً مفروضاً نصب على الاختصاص بمعنى أعني: نصيباً مفروضاً مقطوعاً واجباً انتهى. فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة. وقيل: انتصب نصب المصدر الصريح، لأنه مصدر أي نصيبه نصيباً. وقيل: حال من النكرة، لأنها قد وصفت. وقيل: بفعل محذوف تقديره: جعلته أو، أوجبت لهم نصيباً. وقيل: حال من الفاعل في قلّ أو كثر.

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر: بكسر لام الأمر في: وليخش، وفي: فليتقوا، وليقولوا. وقرأ الجمهور: بالإسكان. ومفعول وليخش محذوف، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال، أعمل فليتقوا. وحذف معمول الأول، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصاراً، فكان حذفه اختصاراً أجوز، ويصير نحو قولك: أكرمت فبررت زيداً. وصلة الذين الجملة من لو وجوابها. قال ابن عطية: تقديره لو تركوا لخانوا. ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول: لو قام زيد لقام عمرو، ولو قام زيد قام عمرو، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل: لقد زاد الحياة إليّ حباً بناتي إنهنّ من الضعاف أحاذر أن يرثن البؤس بعدي وأن يشربن رنقاً بعد صاف انتهى كلامه. وقال غيرهما: لو تركوا، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، وخافوا جواب لو انتهى. فظاهر هذه النصوص أنّ لو هنا التي تكون تعليقاً في الماضي، وهي التي يعبر عنها سيبويه: بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره. ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. وذهب صاحب التسهيل: إلى أنَّ لو هنا شرطية بمعنى أن فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وليخش الذين إن تركوا من خلفهم. قال: ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر: لا يلفك الراجيك إلا مظهراً خلق الكريم ولو تكون عديماً

وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية، والأمر مستقبل، ومتعلق الأمر هو موصول، لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر. وحسن مكان لو لفظ أن فقال: إنها تعليق في المستقبل، وأنها بمعنى إن. وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم، فلذلك قال: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا، فلم تدخل لو على مستقبل، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر. وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى، واقعة بالفعل. إذ معنى: لو تركوا من خلفهم، أي ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى: أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل. أما إذا كان ماضياً على تقدير يصح أن يقع صلة، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه. وأص لو أن تكون تعليقاً في الماضي، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى: إن، إلا إذ دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم. لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله: لا يلفك. وكذلك قوله: قوم إذا حاربوا شدّة مآزرهم دون النساء ولو بانت بإطهار لدخول ما بعدها في حيز إذا، وإذا للمستقبل. ولو قال قائل: لو قام زيد قام عمر، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية.

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْماً} وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبران هي الجملة من قوله: إنما يأكلون. وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً، لأن وفي ذلك خلاف. وحسن ذلك هنا تباعدهما بكون اسم إنّ موصولاً، فطال الكلام بذكر صلته. وفي بطونهم: معناه ملء بطونهم يقال: أكل في بطنه، وفي بعض بطنه. كما قال: كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص والظاهر: تعلق في بطونهم بيأكلون، وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من قوله: ناراً. وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة. الطباق في: واحدة وزوجها، وفي غنياً وفقيراً، وفي: قل أو كثر. والتكرار في: اتقوا، وفي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى، وفي اليتامى، وفي النساء، وفي فادفعوا إليهم أموالهم، فإذا دعتم إليهم أموالهم، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وفي قوله: وليخش، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين، وإطلاق اسم المسبب على السبب في: ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل.t وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في: وآتوا اليتامى، سماهم يتامى بعد البلوغ. والتأكيد بالاتباع في: هنيئاً مريئاً وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في: نصيب مما ترك، وفي ناراً على قول من زعم أنها حقيقة. والتجنيس المماثل في: فادفعوا فإذا دفعتم، والمغاير في: وقولوا لهم قولاً. والزيادة للزيادة في المعنى في: فليستعفف. وإطلاق كل على بعض في: الأقربون، إذ المراد أرباب الفرائض. وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في: خلفهم، أي من بعد وفاتهم. والاختصاص في: بطونهم، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات. والتعريض في: في بطونهم، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله: في بطونهم. رفع المجاز العارض في قوله: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} وهذا على قول من حمله على الحقيقة، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيخ المجاز، ونظير كونه رافعاً للمجاز قوله: {يطير بجناحيه} ، وقوله: {يكتبون الكتاب بأيديهم} . والحذف في عدة مواضع. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاٌّمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ

اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّنْثَيَيْنِ} مثل: صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل وشبه الجملة في محل نصب بيوصيكم. {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} واسم كان الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله: نساء وحده، وهي صفة للتأكيد نساء خبراً ثانياً، لكان، وليس بشيء، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد. ولو سكت على قوله فإن كن نساء لكان نظير، أن كان الزيدون رجالاً، وهذا ليس بكلام. وقال بعض البصريين: التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين. وقدره الزمخشري: البنات أو المولودات. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين، ويكون نساء وواحدة تفسيراً لهما على أن كان تامّة؟ (قلت) : لا أبعد ذلك انتهى. ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدّم، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما، وهذا الذي لم يبعده الزمخمشري هو بعيد، أو ممنوع ألبتة. لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمراً يفسره ما بعده، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما، وفي باب التنازع على ما قرر في النحو. {وإن كانت واحدة فلها النصف} قرأ الجمهور واحدة بالنصب على أنه خبر كان، أي: وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى. وقرأ نافع واحدة بالرفع على إن كان تامة وواحدة الفاعل.

{وَلأًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} ولكل واحد منهما بدل من أبويه، ويفيد معنى التفصيل. وتبيين أن السدس لكل واحد، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس، وهو أبلغ وآكد من قولك: لكل واحد من أبويه السدس، إذ تكرر ذكرهما مرتين: مرة بالإظهار، ومرة بالضمير العائد عليهما. قال الزمخشري: والسدس مبتدأ، وخبره لأبويه، والبدل متوسط بينهما انتهى. وقال أبو البقاء: السدس رفع بالابتداء، ولكل واحد منهما الخبر، ولكل بدل من الأبوين، ومنهما نعت لواحد. وهذا البدل هو بدل بعض من كل، ولذلك أتى بالضير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا. بل تقول: يصنع كذا. وفي قول الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر، لأنّ البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه، كما مثلناه في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا، إذا أعربنا كلا بدلاً. وكما تقول: إنّ زيداً عينه حسنه، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبراً فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغنى عن جعل المبدل منه خبراً بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل. ولو كان التركيب: ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة.

{لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} قالوا: وارتفع أيهم على الابتداء، وخبره أقرب، والجملة في موضع نصب لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه، وهو: أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم، وهي مفعول ببتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب، فيكون نظير قوله تعالى: {ثم لتنزعن من كل شيعة أيهم أشدّ} وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظاً محذوف صدر صلتها {فريضة من الله} انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدراً. {إن الله كان عليماً حكيماً} أي عليماً بمصالح العباد، حكيماً فيما فرض، وقسم من المواريث وغيرها. وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى، ومن زعم أنها التامة والنتصب عليماً على الحال فقوله: ضعيف، أو أنهار زائدة فقوله: خطأ.

{وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} وقرأ الجمهور: يورث بفتح الراء مبنياً للمفعول، من أورث مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن: كسرها مبنياً للفاعل من أورث أيضاً. وقرأ أبو رجاء والحسن والأعمش: بكسر الراء وتشديدها. من ورّث. فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث، فانتصاب الكلالة على الحال من الضمير المستكن في يورث. وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير: ذا كلالة، لأن الكلالة إذ ذاك ليست نفس الضمير في يورث. وإن كان معنى الكلالة القرابة، فانتصابها على أنها مفعول من أجله أي: يورث لأجل الكلالة. وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال، والمفعولان محذوفان، التقدير: يورث وارثه ماله في حال كونه كلالة. وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: يورث كلالة ماله أو القرابة، فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضاً، ويجوز في كان أن تكون ناقصة، فيكون يورث في موضع نصب على الخبر. وتامة فتكون في موضع رفع على الصفة. ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت، أن يكون يورث صفة، وينتصب كلالة على خبر كان، أو بمعنى الوارث. فيجوز ذلك على حذف مضاف أي: وإن كان رجل موروث ذا كلالة. وقال عطاء: الكلالة المال، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول. وقال ابن زيد: الكلالة الوراثة، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره: وراثة كلاله.

وعطف وامرأة على رجل، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى، والتقدير: أو امرة تورث كلالة. وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه. والضمير في: وله، عائد على الرجل نظير: «وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول: زيد أو هند قامت، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزاد الفراء وجهاً ثالثاً وهو: أن يسند الضمير إليهما. قال الفراء: عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو، وأن تعيد الضمير إليهما جميعاً، وإلى حدهما أيهما شئت. تقول: مَن كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذا الوجه ظاهر قوله: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} وقد تأوله من منع الوجه. وأصل أخت أخوة على وزن شررة، كما أن بنتاً أصله بنية على أحد القولين في ابن، أهو المحذوف منه واو أو ياء؟ قيل: فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث، وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما قال الفراء: أول أخت ليدل على أن المحذوف واو، وكسر أول بنت ليدل على أن المحذوف ياء انتهى. ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث.

{غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} قالوا: وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي، والعامل فيهما يوصي. ولا يجوز ما قالوه، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله: أو دين. لأن قوله: أو دين، معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال. ولو كان على ما قالوه من الأعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين. وعلى قراءة من قرأ: يوصَى بفتح الصاد مبنياً للمفعول، لا يصح أن يكون حالاً لما ذكرناه، ولأنّ المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف. لو قلت: تُرسل الرياح مبشراً بها بكسر الشين، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشراً بها. والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى، ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين، وتقديره: يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وقيل: يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه، كقراءة يسبح بفتح الباء. وقال رجال: أي يسبحه رجال. وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي: يوصيكم الله بذلك وصية، كما انتصب {فريضة من الله} .

وقال ابن عطية: هو مصدر في موضع الحال، والعامل يوصيكم. وقيل: هو نصب على لخروج من قوله: {فلكل واحد منهما السدس} أو من قوله: {فهم شركاء في الثلث} وجوز هو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية، لكنه ما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية. ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضار وصية، فخفض وصية بإضافة مضار إليه، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى: يا سارقي في الليلة، لكنه اتسع في الفعل فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في: وصية من الله، فاتسع وعدي اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به. {مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا} وانتصاب خالدين على الحال المقدرة، والعامل فيه يدخله، وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله.

قال ابن عطية: وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ من، وعكس هذا لا يجوز انتهى. وما ذكر أنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين، وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو المطولة. وقال الزمخشري: وانتصب خالدين وخالداً على الحال. (فإن قلت) : هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً؟ (قلت) : لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بد من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالداً هو: فيها انتهى. وما ذكره ليس مجمعاً عليه، بل فرع على مذهب البصريين. وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك، ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو. وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزي أخذ بمذهب الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر: ندخله هنا، وفي: ندخله ناراً بنون العظمة. وقرأ الباقون: بالياء عائداً على الله تعالى. قال الراغب: ووصف الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدّنيا الموصوف بقوله: {قل متاع الدنيا قليل} والصغير والقليل في وصفهما متقاربان. وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع: التفصيل في: الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله: للرجال نصيب الآية. والعدول من صيغة: يأمركم الله إلى يوصيكم، لما في الوصية من التأكيد والحرص على اتباعها. والطباق في: للذكر مثل حظ الأنثيين، وفي: من يطع ومن يعص، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله: مما ترك أي: ترك الموروث. والتكرار في: لفظ كان، وفي فريضة من الله، أن الله، وفي: ولداً، وأبواه، وفي: من يعد وصية يوصي بها أو دين، وفي: وصية من الله أن الله، وفي: حدود الله، وفي: الله ورسوله. وتلوين الخطاب في: من قرأ ندخله بالنون. والحذف في مواضع.

{وَاللَتِى يَأْتِينَ الْفَحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانَ يَأْتِيَنِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً * إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَلَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الأٌّنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً * وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَقاً غَلِيظاً * وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ وَبَنَتُكُمْ وَأَخَوَتُكُمْ وَعَمَّتُكُمْ وَخَلَتُكُمْ وَبَنَاتُ

الأٌّخِ وَبَنَاتُ الاٍّخْتِ وَأُمَّهَتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَئِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَنُكُمْ كِتَبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَتِ الْمُؤْمِنَتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم مِّن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَت غَيْرَ مُسَفِحَتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَتِ أَن تَمِيلُواْ

مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً} . {وَاللَتِى يَأْتِينَ الْفَحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ} وإعراب اللاتي مبتدأ، وخبره فاستشهدوا. وجاز دخول الفاء في الخبر، وإن كان لا يجوز فاضربه على الابتداء والخبر، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط. وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا، فيكون من باب الاشتغال، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط، فلا يصح أن يفسر هكذا. قال بعضهم: وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره: اقصدوا اللاتي. وقيل: خير اللاتي محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين، كقول سيبويه في قوله: {والسارق والسارقة} وفي قوله: {الزانية والزاني} وعلى ذلك جملة سيبويه. ويتعلق من نسائكم بمحذوف، لأنه في موضع الحال من الفاعل في: يأتين، تقديره: كائنات من نسائكم. ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله: فاستشهدوا، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة، أي: كائنين منكم. وإعراب واللذان مثل إعراب واللاتي وموضع بجهالة حال أي جاهلين.

{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء} وارتفاع التوبة على الابتداء، والخبر هو على الله، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله، والتقدير: إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين. وقال أبو البقاء: في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالاً من الضمير في قوله: على الله، والعامل فيها الظرف، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف. وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر للذين، ويتعلق على الله بمحذوف، ويكون حالاً من محذوف أيضاً والتقدير: إنما التوبة إذا كنت، أو إذ كانت على الله. فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه. وكان تامة، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. قال: ولا يجوز أن يكون على الله حالاً يعمل فيها للذين، لأنه عامل معنوي، والحال لا يتقدم على المعنوي. ونظير هذه المسألة قولهم: هذا بسرا أطيب منه رطباً انتهى. وهو وجه متكلف في الإعراب، غير متضح في المعنى، وبجهالة في موضع الحال أي: مصحوبين بجهالة. ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل لهم على عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة إتيان المعصية ما عملوها كقوله {لا يزني حين يزني وهو مؤمن} لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً. ومن في قوله: من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان: أحدهما: أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني: أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية: أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله: على الله. وقوله: يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله: فأولئك {عسى الله أن يتوب عليهم} .

ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذف الموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، لي مقيساً. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو: مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو: اسقني ماء ولو بارداً، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماً وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس. {ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال من النساء، فيقدر باسم فاعل أي: كإرهاب، أو باسم مفعول أي: مكرهات. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وبفتح الكاف، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين، وهما لغتان: كالصمت والصمت قاله: الكسائي والأخفش وأبو علي. وقال الفراء: الفتح بمعنى الإكراه، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب، وقاله: أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً. وتقدّم الكلام عليه في قوله: {وهو كره لكم} في البقرة. وقرىء: لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا نحل لكم الوراثة، كقراءة من قرأ: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} أي إلا مقالتهم، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهن الموروثات، وإما على حذف مضاف أي: أموال النساء. {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} هذا استثنائ متصل، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم. وهو استثناء من ظرف زمان عام، أو من علة. كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين. أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين.

وقرأ ابن كثير وأبو بكر: مبينة هنا، وفي الأحزاب، والطلاق بفتح الياء، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها. وقرأ الباقون: بالكسر أي: بينة في نفسها ظاهرة. وهي اسم فاعل من بين، وهوفعل لازم بمعنى بان أي ظهر، وظاهر قوله: ولا تعضلوهن، أن لا نهى، فالفعل مجزوم بها، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية. فإن قلنا: شرط عطف الجمل المناسبة، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال: لا ترثوا النساء كرهاً فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن. وإن قلنا: لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه، فظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصباً عطفاً على ترثوا، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلاً على فعل. وقرأ ابن مسعود: ولا أن تعضلوهن، فهذه القراء تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحلّ بالنصّ. وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه، وهو لا يجوز. وذلك أنك إذا عطفت فعلاً منفياً بلا على مثبت وكانا منصوبين، فإنّ الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف، لا بعد لا. فإذا قلت: أريد أن أتوب ولا أدخل النار، فالتقدير: أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت، والثاني على سبيل النفي. فالمعنى: أريد التوبة وانتفاء دخولي النار. فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفياً، فكذلك ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت: لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية، وهو خلاف الظاهر. وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح. وإذا قدرت أنّ بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر، لا من باب عطف الفعل على الفعل، فالتبس على ابن عطية العطفان، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل، وفرق بين قولك: لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج، وقولك: لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج،

ففي الأول: نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه، فقد أراد خروجه. وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه، ووجود خروجه، فلا يريد لا القيام ولا الخروج. وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية. {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} ولما كانت عسى فعلاً جامداً دخلت عليه فاء الجواب، وعسى هنا تامّة، فلا تحتاج إلى اسم وخبر. {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وانتصب بهتاناً وإثماً على أنهما مصدران في موضع الحال من الفاعل، التقدير: باهتين وآثمين. أو من المفعول التقدير: مبهتاً محيراً لشنعته وقبح الأحدونة، أو مفعولين من أجلهما أي: أتأخذونه لبهتانكم وإثمكم؟ قال ذلك الزمخشري قال: وإن لم يكن غرضاً كقولك: قعد عن القتال جبناً. {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَءَابَاؤُكُمْ} وقال قوم: ما مصدرية. والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي: مثل نكاح آبائكم الفاسد، أو الحرام الذي كانوا يتعاطونه في الجاهلية كالشغار وغيره، كما تقول: ضربت ضرب الأمير أي: مثل ضرب الأمير. وقيل موصولة. هنا رسم مصحف غير واضح بالتصوير والاستثناء في قوله: إلا ما قد سلف منقطع، إذ لا يجامع الاستقبال الماضي، والمعنى: أنه لما حرم عليهم أن ينكحوا ما نكح آباؤهم، دلّ على أن متعاطي ذلك بعد التحريم آثم، وتطرق الوهم إلى ما صدر منهم قبل النهي ما حكمه. فقيل: إلا ما قد سلف أي: لكن ما قد سلف، فلم يكن يتعلق به النهي فلا إثم فيه.

وقيل: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف، وهذا جهل بعلم النحو، وعلم المعاني. أما من حيث علم النحو فما كان في حيز أن لا يتقدم عليها، وكذلك المستثنى لا يتقدم على الجملة التي هو من متعلقاتها بالاتصال أو الانقطاع، وإن كان في هذا خلاف ولا يلتفت إليه. وأما من حيث المعنى فإنه أخبر أنه فاحشة ومقت في الزمان الماضي، فلا يصح أن يستثنى منه الماضي، إذ يصير المعنى هو فاحشة في الزمان الماضي، إلا ما وقع منه في الزمان الماضي فليس بفاحشة، وهذا معنى لا يمكن أن يقع في القرآن، ولا في كلام عربي لتهافته. {إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} كان بمعنى لم يزل. وقال المبرد: هي زائدة. ورد عليه بوجود الخبر، إذ الزائدة لا خبر لها. وينبغي أن يتأول كلامه على أنَّ كان لا يراد بها تقييد الخبر بالزمن الماضي فقط، فجعلها زائدة بهذا الاعتبار. وساء سبيلاً هذه مبالغة في الذم، كما يبالغ ببئس. فان كان فيها ضمير يعود على ما عاد عليه ضمير إنّه، فإنها لا تجري عليها أحكام بئس. وانْ الضمير فيها مبهماً كما يزعم أهل البصرة فتفسيره سبيلاً، ويكون المخصوص بالذم اذ ذاك محذوفاً التقدير: وبئس سبيلاً سبيل هذا النكاح، كما جاء بئس الشراب أي: ذلك الماء الذي كالمهل.

{مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ظاهر هذا أنه متعلق بقوله: وربائبكم فقط. واللاتي: صفة لنسائكم المجرور بمن، ولا جائز أن يكون اللاتي وصفاً لنسائكم من قوله: وأمهات نسائكم، ونسائكم المجرور بمن، لأن العامل في المنعوتين قد اختلف: هذا مجرور بمن، وذاك مجرور بالإضافة. ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقاً بمحذوف ينتظم أمهات نسائكم وربائبكم، لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك، لأنه بالنسبة إلى قوله: وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء، وتمييز المدخول بها من غير المدخول بهن. وبالنسبة إلى قوله: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، يكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول: هذا ابني من فلانة. {وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَنُكُمْ} قيل استثناء متصل وقيل منقط. {كِتَبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت عليكم. وكأنه قيل: كتب الله عليكم تحريم ذلك كتاباً. ومن جعل ذلك متعلقاً بقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النسائ مثنى وثلاث ورباع} كما ذهب إليه عبيدة السلماني، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلاً بهذه الآية، إذ تقدير ذلك عنده: عليكم كتاب الله أي: الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدراً مؤكداً كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع اليماني: كتب الله عليكم، جعله فعلاً ماضياً رافعاً ما بعده، أي: كتب الله عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميقع أيضاً أنه قرأ: كتب الله عليكم جمعاً ورفعاً أي: هذه كتب الله عليكم أي: فرائضه ولازماته.

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقرأ حمزة والكسائي وحفص: وأحل مبنياً للمفعول، وهو معطوف على قوله: {حرمت عليكم} . وقرأ باقي السبعة: وأحل مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى، وهو أيضاً معطوف على قوله: حرمت. ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنياً للفاعل، أو للمفعول. ولا يشترط المناسبة ولا يختار، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل، فكيف إذا اتحد كهذا، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في حرمت: هو الله تعالى، وهو الفاعل المضمير في: أحلّ المبني للفاعل. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : علام عطف قوله: وأحل لكم؟ (قلت) : على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله: أي كتب الله عليكم تحريم ذلك، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب الله عليكم، وأحل لكم. ثم قال: ومن قرأ {وأحل لكم} على البناء للمفعول، فقد عطفه على: حرّمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين، وما اختاره من التفرقة غير مختار. لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت، فالعامل فيه وهو كتب، إنما هو تأكيد لقوله: حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم، إنما التأسيس حاصل بقوله: حرمت، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها، لا سيما والجملتان متقابلتان: إذا حداهما للتحريم، والأخرى للتحليل، فناسب أن يعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ: وأحل مبنياً للمفعول، فكذلك يجوز فيه مبنياً للفاعل، ومفعول أحلّ هو: ما وراء ذلكم.

{أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَلِكُمْ} وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم، وقال الزمخشري مفعول له الظاهر لا يجوز أن يعرب: أن تبتغوا مفعولاً له، كما ذهب إليه الزمخشري، لأنه فات شرط من شروط المفعول له، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له. لأن الفاعل بقوله: وأحل، هو الله تعالى. والفاعل في: أن تبتغوا، هو ضمير المخاطبين، فقد اختلفا. ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله: وأحلّ، وفي المفعول له، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا محذوف اختصاراً، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله: ما وراء ذلكم، وتقديره: أن تبتغوه. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : أين مفعول تبتغوا؟ (قلت) : يجوز أن يكون مقدراً وهو. النساء، وأجود أن لا يقدر. وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه. فأما تقديره: إذا كان مقدراً بالنساء فإنه لما جعله مفعولاً له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول. وأما قوله: وأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم، فهو مخالف للظاهر، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح، كما هو في تخرجوا، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.

{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وما من قوله: فما استمتعتم به منهن، مبتدأ. ويجوز أن تكون شرطية، والخبر الفعل الذي يليها، والجواب: فآتوهن، ولا بد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط. فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره: فأتوهن أجورهن من أجله أي: من أجل ما استمتعتم به. وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج، فالراجع هو المفعول بآتوهن وهو الضمير، ويكون أعاد أولاً في به على لفظ ما، وأعاد على المعنى في: فآتوهن، ومن في: منهن على هذا يحتمل أن يكون تبعيضاً. وقيل: يحتمل أن يكون للبيان. ويجوز أن تكون ما موصولة، وخبرها إذ ذاك هو: فآتوهن، والعائد الضمير المنصب في: فآتوهن إن كانت واقعة على النساء، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على ما بين قبل. {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَتِ الْمُؤْمِنَتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم} ومن مبتدأ، وظاهره أنه شرط. والفاء في: فمما ملكت فاء الجواب، ومن تتعلق بمحذوف تقديره: فلينكح من ما ملكت. ويجوز أن يكون مَن موصولة، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله: مما ملكت جملة في موضع الخبر. ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا. والظاهر أنَّ مفعول يستطع هو طولاً، وأن ينكح على هذا أجازوا، فيه أن يكون أصله بحرف جر، فمنهم من قدره بإلى، ومنهم من قدره باللام أي: طولاً إلى أن ينكح، أو لأن ينكح، ثم حذف حرف الجر، فإذا قدر إلى، كان المعنى: ومَن لم يستطع منكم وصلة إلى أن ينكح. وإذا قدر باللام، كان في موضع الصفة القدير: طولاً أي: مهراً كائناً لنكاح المحصنات. وقيل: اللام المقدرة لام المفعول له أي: طولاً لأجل نكاح المحصنات، وأجازوا أن يكون: أن ينكح في موضع نصب على المفعول به، وناصبة طول. إذ جعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته، قالوا: ومنه قول الفرزدق:

إن الفرزدق صخرة عادية طالت فليس تنالها إلا وعالا أي وطالت إلا وعال أي: ويكون التقدير ومَن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات. ويكون قد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله: يضرب بالسيوف رؤوس قوم أزلناها مهن عن المقيل وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون. وإلى أنَّ طولاً مفعول ليستطع، وإن ينكح في موضع مفعول بقوله: طولاً، إذ هو مصدر. ذهب أبو علي في التذكرة، وأجازوا أيضاً أن يكون أن ينكح بدلاً من طول، قالوا: بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة. وأجازوا أن يكون مفعول يستطع قوله: أن ينكح. وفي نصب قوله: طولاً وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولاً من أجله على حذف مضاف، أي: ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات. والثاني: قاله: ابن عطية. قال: ويصح أن يكون طولاً نصب على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة، لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة، أو بالمصدر انتهى كلامه. وكأنه يعني أنَّ الطول هو استطاعة، فيكون التقدير: ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح. وما من قوله: فمما ملكت، موصولة اسمية أي: فلينكح من النوع الذي ملكته أيمانكم. ومن فتياتكم: في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت، العائد على ما. ومفعول الفعل المحذوف الذي هو فلينكح محذوف، التقدير: فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم. ومِن للتبعيض، نحو: أكلت من الرغيف. وقيل: مِن في من ما زائدة، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله: ما ملكت أيمانكم. وقيل: مفعوله فتياتكم على زيادة من. وقيل: مفعوله المؤمنات، والتقدير: فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات. والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم. وقيل: ما مصدرية التقدير، من ملك إيمانكم. وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله: ملكت.

ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عن قول الطبري: أنّ فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله: {بعضكم من بعض} وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: وَمَنْ لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم ن بعض الفتيات، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه، لأنه قول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه. ومنكم: خطاب للناكحين، وفي: أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه، وهذا التوسع في اللغة كثير. {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} هذه جملة من مبتدأ وخبر، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع بعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف. {مُحْصَنَت غَيْرَ مُسَفِحَتٍ} وانتصاب محصنات على الحال، والظاهر أنّ العامل فيه: وآتوهن، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي: وآتوهن أجورهن في حال تزويجهن، لا في حال سفاح، ولا اتخاذ خدن. قيل: ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي: عفائف أو مسلمات، غير زوان. {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ} وقرأ حمزة والكسائي: أحصن مبنياً للفاعل، وباقي السبعة: مبنياً للمفعول إلا عاصماً، فاختلف عنه. ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدًّا في أنه أريد به التزوج، ويقوى حمله مبنياً للفاعل على هذا المعنى أي: أحصن أنفسهن بالتزويج. وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله: فإن أتين بفاحشة فعليهن، فالفاء في: أتين هي فاء الجواب، لا فاء العطف، ولذلك ترتب الثاني، وجوابه على وجود الأول، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود، وهو نظير: إن دخلت الدار فإن كلمت زيداً فأنت طالق، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيداً ثانياً. ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا، وتفصيل ذكر في النحو. ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما.

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} مفعول يتوب محذوف وتقديره: يريد الله هذا هو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية، أي: تحليل ما حلل، وتحريم ما حرم، وتشريع ما تقدّم ذكره. والمعنى: يريد الله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه، هذا مذهب البصريين. ولا يجوز عندهم أن يكون متعلف الإرادة التبيين، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام، وإلى إضمار أنّ بعد لام ليست لام الجحود، ولا لام كي، وكلاهما لا يجوز عندهم. ومذهب الكوفيين: أنّ متعلق الإرادة هو التبيين، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها. وقال بعض البصريين: إذا جا مثل هذا قدر الفعل الذي قبل اللام بالمصدر فالتقدير: إرادة الله لما يريد ليبين، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها، أي: إرادتي لا ينسى ذكرها. وكذلك قوله تعالى: {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} أي: أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى. وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين، وهذا يبحث في علم النحو.

وقال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين. وأما كونه خارجاً عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد، والمفعول متأخر، وأضمر أن بعد هذه اللام. وأما كونه خارجاً عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام، لا بأن، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام. وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله: ليبين لكم، لام العاقبة، قال: كما في قوله: {ليكون لهم عدواً وحزناً} ولم يذكر مفعول يبين. ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال، فيكون مفعول ليبين ضميراً محذوفاً يفسره مفعول ويهديكم، نحو: ضربت وأهنت زيداً، التقدير: ليبيها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم.

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} تعلق الإرادة أولاً بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على العلة، فهو علة. ونعلقها هنا على سبيل المفعولية، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله: والله يريد أن يتوب عليكم تكراراً لقوله: ويتوب عليكم، لأن قوله: ويتوب عليكم، معطوف على مفعول، فهو مفعول به. قال ابن عطية: وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول، وليس المقصد في الآية إلا الأخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله: ليبين، في معنى أن يبين، فيكون مفعولاً ليريد، وعطف عليه: ويتوب، فهو مفعول مثله، ولذلك قال: وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قد حكى قول الكوفيين وقال: وهذا ضعيف، فرجع أخيراً إلى ما ضعفه، وكان قد قدم أنَّ مذهب سيبويه: أنَّ مفعول: يريد، محذوف، والتقدير: يريد الله هذا التبيين.

وقرأ الجمهور: أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء: بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور: ميلاً بسكون الياء. وقرأ الحسن: بفتحها، وجاءت الجملة الأولى اسمية، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله: ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف، قال: تنبيهاً على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجمل الأولى، وتأخيره في الجملة الثانية، ليبين أنَّ الثاني ليس على العطف انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل، ولأنّ المضارع باشرته الواو، وذلك لا يجوز، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح، فحمله على النادر تعسف لا يجوز.

{وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً} وأعربوا هذه الجملة حالاً من قوله: والله يريد أن يتوب عليكم، والعامل في الحال يريد، التقدير: والله يريد أن يتوب عليكم مريداً أن يخفف عنكم، وهذا الإعراب ضعيف، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل، وهي جملة أجنبية من العامل والحال، فلا ينبغي أن يتجوز إلا بسماع من العرب. ولأنه رفع الفعل الواقع حالاً الاسم الظاهر، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره، فصار نظير: زيد يخرج يضرب زيد عمراً. والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية، أو في شيء من نواسخها. أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك. وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبراً بالظاهر. أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة، فلا موضع لها من الإعراب. أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا، كما جاء {يريد الله بكم اليسر. ولا يريد بكم العسر} .

وقرأ ابن عباس ومجاهد: وخلق الإنسان مبنياً للفاعل مسنداً إلى ضمير اسم الله، وانتصاب ضعيفاً على الحال. وقيل: انتصب على التمييز. لأنه يجوز أن يقدر بمن، وهذا ليس بشيء. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، والتقدير: من شيء ضعيف، أي من طين، أو من نطفة وعلقة ومضغة. ولما حذف الموصوف والجابر انتصبت الصفة بالفعل نفسه. قال ابن عطية: ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله: ضعيفاً مفعولاً ثانياً انتهى. وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل، لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إلى ذلك، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكونن بمعنى خلق، فيتعدّى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه، والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك. وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من البيان والبديع. منها: التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله: يأتين الفاحشة، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيماً لقبحه وفحشه، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد. والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله: فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال، أو الجمع بينهما،

وبقوله: سبيلاً والمراد الحد، أو رجم المحصن. وبقوله: فأعرضوا عنهما أي اتركوهما. وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: حتى يتوفاهنّ الموت، وفي قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت. والتجنيس المغاير في: إن تابا إن الله كان توّاباً، وفي: أرضعنكم ومن الرضاعة، وفي: محصنات فإذا أحصنّ. والتجنيس المماثل في: فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا، وفي: ولا تنكحوا ما نكح. والتكرار في: اسم الله في مواضع، وفي: إنما التوبة وليست التوبة، وفي: زوج مكان زوج، وفي: أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي، وفي: إلا ما قد سلف، وفي: المؤمنات في قوله: المحصنات المؤمنات، وفي: فتياتكم المؤمنات، وفي: فريضة ومن بعد الفريضة، وفي: المحصنات من النساء والمحصنات، ونصف ما على المحصنات، وفي: بعضكم من بعض، وفي: يريد في أربعة مواضع، وفي: يتوب وأن يتوب، وفي: إطلاق المستقبل على الماضي، في: واللاتي يأتين الفاحشة وفي: واللذان يأتيانها منكم، وفي: يعملون السوء وفي: ثم يتوبون، وفي: يريد وفي: ليبين، لأن إرادة الله وبيانه قديمان، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة. والإشارة والإيماء في قوله؛ كرهاً، فإن تحريم الإرث كرهاً يومىء إلى جوازه طوعاً، وقد صرح بذلك في قوله: فإن طين، وفي قوله: ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها، أو بمالها، وفي: أنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء، وفي: أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء. والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله: وآتيتم إحداهنّ قنطاراً عظم الأمر حتى ينتهي عنه. والاستعارة في قوله: وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة، وفي: كتاب الله عليكم أي فرض الله، استعار للفرض لفظ الكتاب

لثبوته وتقريره، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول. وفي: محصنين، استعار لفظ الإحصان وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة، وكذلك: فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله. وفي قوله: طولاً استعارة للمهر يتوصل به للغرض، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور. وفي قوله: يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله: أن يخفف، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: أن ترثوا النساء كرهاً، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثاً، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية. وفي قوله: وخلق الإنسان ضعيفاً جعله ضعيفاً باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله. والطباق المعنوي في قوله: وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب. وفي قوله: والمحصنات من النساء، أي حرام عليكم ثم قال: وأحل لكم. والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم، ثم نسق المحرمات، ثم قال: وأحل لكم، فهذا هو الطباق. وفي قوله: محصنين غير مسافحين، والمحصن الذي يمنع فرجه، والمسافح الذي يبذله. والاحتراس في قوله: اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي وربائبكم اللاتي في جحوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور. وفي قوله: والمحصنات من النساء إذا المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخل تحتها الرجال، فاحترز بقوله: من النساء. والاعتراض بقوله: والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض. والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً * وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً * وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالأٌّقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً * الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ فَالصَّلِحَتُ قَنِتَتٌ حَفِظَتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً * وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ

وَالصَّحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قًّرِيناً} . {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} استثناء منقطع وأن تكون في موضع نصب أي: لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه. وقرأ الكوفيون: تجارة بالنصب، على أن تكون ناقصة على قدير مضمر فيها يعود على الأموال، أو يفسره التجارة، والتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. كما قال: إذا كان يوماً ذا كوكب أشنعا. أي إذا كان هواي اليوم يوماً ذا كوكب. واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد، وقرأ باقي السبعة: تجارة بالرفع، على أنّ كان تامة. وقال مكي بن أبي طالب: الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد. وقال ابن عطية: تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي، ولكنه حسن انتهى ما ذكره. ويحتاج هذا الكلام إلى فكر، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده. وعن تراض: صفة للتجارة أي: تجارة صادرة عن تراض. {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَناً وَظُلْماً} وانتصاب عدواناً وظلماً على المفعول من أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين.

{وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} وقرأ نافع: مدخلاً هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورويت عن أبي بكر. وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدر أي: إدخالاً، والمدخل فيه محذوف أي: ويدخلكم الجنة إدخالاً كريماً. وإمّا على أنه مكان الدخول، فيجيء الخلاف الذي في دخل، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف. وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون دخولاً كريماً، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه، ولدلالة مصدره أيضاً. ويحتمل أن يراد به المكان، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف، أهو مفعول به أو ظرف. {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو: أن لغة قريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا، وسأل يقتضي مفعولين، والثاني لقوله: واسألوا الله هو قوله: من فضله. كما تقول: أطعمت زيداً من اللحم، وكسوته من الحرير، والتقدير: شيئاً من فضله، وشيئاً من اللحم، وشيئاً من الحرير. وقال بعض النحويين: من زائدة، والتقدير: وسلوا الله فضله، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية: ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَلِدَنِ وَالأٌّقْرَبُونَ} وكلّ لا تستعمل إلا مضافة، إما الظاهر، وإما المقدر، واختلفوا في تعيين المقدّر هنا، فقيل: المحذوف إنسان، وقيل: المحذوف مال. والمولى: لفظ مشترك بين معان كثيرة، منها: الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم: أن الموالي العصبة والورثة، فإذا فرّ عنا على أنّ المعنى: ولكلّ إنسان، احتمل وجوهاً: أحدها: أن يكون لكلّ متعلقاً بجعلنا، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان، والتقدير: وجعل لكل إنسان وارثاً مما ترك، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل، أو بمضمر يفسره المعنى، التقدير: يرثون مما ترك، وتكون الجملة قد تمت عند قوله: مما ترك، ويرتفع الولدان على إضمار كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون ورّاثاً، والكلام جملتان. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي، أي ورّاثاً. ثم أضمر فعل أي: يرث الموالي مما ترك الوالدان، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله: وجعلنا لكل إنسان موالي، بيَّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم، ويكون الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذين الوجهين لا يكون في: جعلنا، مضمر محذوف، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان.

الوجه الثالث: أن يكون التقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي أي: ورّاثاً نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، فيكون جعلنا صفة لكلَ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر، فيتعلق لكل بمحذوف، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول: لكل من خلقه الله إنساناً من رزق الله، أي حظ من رزقه الله. وإذا فرعنا على أن المعنى: ولكل مال، فقالوا: التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون، جعلنا موالي أي ورّاثاً يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل، والوالدان واوقربون فاعل بترك ويكونون موروثين، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك: بكل رجل مررت تميمي، وفي جواز ذلك نظر.

{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَنُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وقرأ الكوفيون: عقدت بتخفيف القاف من غير ألف، وشدّد القاف حمزة من رواية عليّ بن كبشة، والباقون عاقدت بألف، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً. أحدها: أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم. والثاني: أن يكون منصوباً من باب الاشتغال نحو: زيداً فاضربه. الثالث: أن يكون مرفوعاً معطوفاً على الوالدان والأقربون، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذا كان الوالدان ومن عطف عليه مروثين، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه. الرابع: أن يكون منصوباً معطوفاً على موالي قاله: أبو البقاء، وقال: أي وجعلنا الذين عاقدت ورّاثاً، وكان ذلك ونسخ انتهى. ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدّره أن يكون معطوفاً على موالي لفساد العطف، إذ يصير التقدير: ولكل إنسان، أو: لكل شيء من المال جعلنا ورّاثاً. والذين عاقدت أيمانكم، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك، أي جعلنا ورّاثاً لكل شيء من المال، أي: لكل إنسان، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم ورّاثاً. وهو بعد ذلك توجيه متكلف، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي: عاقدتهم أيمانكم، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره: عقدت حلفهم، أو عهدهم أيمانكم. وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم، أم الجارحة، مجاز بل فاعل ذلك هو الشخص. {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ} والباء في بما للسبب، وما مصدرية أي: بتفضيل الله. ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفاً مسوّغ لحذفه، فلا يجوز. وبما أنفقوا من أموالهم: معناه عليهن، وما: مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف.

{حَفِظَتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير، والاستغناء بها كثير كقوله: {واشتعل الرأس شيباً} أي رأسي. وقال ذو الرّمة: لمياء في شفتيها حوّة لعس وفي اللثات وفي أنيابها شنب تريد: وفي لثاتها. وقرأ الجمهور: برفع الجلالة، وما تكون مصدرية ويجوز أن تكون موصولة وقال أبو البقاء يجوز أن تكون ما نكرة موصوفة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: بنصب الجلالة فالظاهر أنَّ ما بمعنى الذي، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي: بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره. وقيل: التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقدره ابن جني: بما حفظ دين الله، أو أمر الله. وحذف المضاف متعين تقديره: لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد. وقيل: ما مصدرية، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره: بما حفظن الله، وهو عائد على الصالحات. قيل: وحذف ذلك الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال: فإن الحوادث أودي بها. يريد: أو دين بها. والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلته. والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير، بل يقال: إنه عاد الضمير عليهن مفرداً، كأنه لوحظ الجنس، وكأن الصالحات في معنى من صلح، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قال في هذه القراءة: إنّ ما مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول، بل ينزه القرآن عنه. {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} انتصاب سبيلاً على اسقاط الخافض. {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَناً} وقرأ ابن أبي عبلة: وبالوالدين إحسان بالرفع، وهومبتدأ أو خبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر، وإن كان جملة خبرية نحو قوله: فصبر جميل فكلانا مبتلي

{وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى} وقرىء: والجار ذا القربى. قال الزمخشري: نصباً على الاختصاص كما قرىء {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} تنبيهاً على عظم حقه لإدلالئه بحقي الجوار والقربى انتهى. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} واختلفوا في إعراب الذين يبخلون، فقيل: هو في موضع نصب بدل من قوله: من كان. وقيل: من قوله مختالاً فخوراً. أفرد اسم كان، والخبر على لفظ من، وجمع الذين حملا على المعنى. وقيل: انتصب على الذم. ويجوز عندي أن يكون صفة لمن، ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل: هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف، أي: هم الذين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في فخوراً، وهو قلق. وقيل: الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء، واختلفوا في الخبر: أهو محذوف؟ أم ملفوظ به؟ فقيل: هو ملفوظ به وهو قوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} ويكون الرابط محذوفاً تقديره: مثقال ذرة لهم، أو لا يظلمهم مثقال ذرة. وإلى هذا ذهب الزجاج، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه: انتظاماً واضحاً لأنّ سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهراً من قوله: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، بل مساق أنّ الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخباراً عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس. وقيل: هو محذوف فقدره الزمخشري: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية: معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء: أولئك قرناؤهم الشيطان، وقدره أيضاً: مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير: كافرون.

{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} وفي إعراب والذين ينفقون وجوه: أحدها: أنه مبتدأ محذوف الخبر، ويقدر: معذبون، أو قرينهم الشيطان، ويكون العطف من عطف الجمل. والثاني: أن يكون معطوفاً على الكافرين، فيكون مجروراً قاله: الطبري. والثالث: أن يكون معطوفاً على الذين يبخلون، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون. والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات. ورئاء مصدر راء، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله، وفيه شروطه فلاينبغي أن يعدل عنه. وقيل: هو مصدر في موضع الحال قاله: ابن عطية، ولم يذكر غيره. وظاهر قوله: ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين، فيكون صلة. ولا يضر الفصل بين إبعاض الصلة بمعمول للصلة، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون. وجوّزوا أن يكون: ولا يؤمنون في موضع الحال، فتكون الواو واو الحال أي: غير مؤمنين، والعامل فيها ينفقون أيضاً. وحكى المهدوي: أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون، فعلى هذا لا يجوز أن يكون: ولا يؤمنون معطوفاً على الصلة، ولا حالاً من ضمير ينفقون، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول، بل يكون قوله: ولا يؤمنون مستأنف. وهذا وجه متكلف. وتعلق رئاء بقوله: ينفقون واضح، إما على المفعول له، أو الحال، فلا ينبغي أن يعدل عنه. وتكرار لا وحرف الجر في قوله: ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله، ومن الإيمان باليوم الآخر. لأنك إذا قلت: لا أضرب زيداً وعمراً، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما. ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك: بل أحدهما. واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما علي سبيل الجمع، وعلى سبيل الإفراد. فإذا قلت: لا أضرب زيداً ولا عمراً، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار.

{وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَنُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قًّرِيناً} والفاء جواب الشرط، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام، وقريناً تمييز لذلك الضمير. والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقريناً حال، لأنها إذ ذاك تكون فعلاً متصرفاً فلا تدخله الفاء، أو تدخله مصحوبة بقد. وقد جوّزوا انتصاب قريناً على الحال، أو على القطع، وهو ضعيف. وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة. قال الزمخشري وغيره: ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى. فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال: {مقرنين في الأصفاد} و {إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين} . وقال الجمهور: هذه المقارنة هي في الدنيا كقوله: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم} ونقيض له شيطاناً فهو له قرين وقال قرينه ربنا ما أطغيته قال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: {بئس للظالمين} بدلاً وذلك مردود، لأنّ بدلاً حال، وفي هذا نظر. والذي قاله الطبري صحيح، وبدلاً تمييز لا حال، وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هم أي الشيطان وذريته. وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالاً الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو. {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً} .

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} ظاهر هذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة، والمراد بذلك: ذمّهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بما ذكر تعالى. فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جمليتن، وتكون لو على بابها من كنهنا حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، والتقدير: وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة. ويحتمل أن يكون جملة واحدة، وذلك على مذهب من يثبن أن لو تكون مصدرية في معنى: أن كأنه قيل: وماذا عليهم أن آمنوا، أي في الإيمان بالله، ولا جواب لها إذ ذاك، فيكون كقوله: وماذا عليه أن ذكرت أوانساً كغزلان رمل في محاريب أقيال قالوا: ويجوز أن يكون قوله: وماذا عليهم، مستقلاً لا تعلق به بما بعده، بل ما بعده مستأنف. أي: وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة، ثم استأنف وقال: لو آمنوا، وحذف جواب لو. وقال ابن عطية: وجواب لو في قوله: ماذا، فهو جواب مقدم انتهى. فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقاً لكلام النحويين، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو، ولأن قولهم: أكرمتك لو قام زيد، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب، لا جواب كما قالوا في قولهم: أنت ظالم إن فعلت. وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله. وماذا: يحتمل أن تكون كلها استفهاماً، والخبر في عليهم. ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام، وذا بمعنى الذي وهو الخبر، وعليهم صلة ذا. وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله: وماذا عليهم، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة، وقد تعلقت المعتزلة بذلك.

قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع. التكرار وهو في: نصيب مما اكتسبوا، ونصيب مما اكتسبن. والجلالة: في واسئلوا الله، إن الله، وحكماً من أهله، وحكماً من أهلها، وبعضكم على بعض، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفوا مما رزقهم الله وقريناً وساء قريناً. والجلالة في: مما رزقهم الله، وكان الله. والتجنيس المغاير في: حافظات للغيب بما حفظ الله، وفي: يبخلون وبالبخل. ونسق الصفات من غير حرف في: قانتات حافظات. والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في: وبالوالدين إحساناً وما بعده. والطابق المعنوي في: نشوزهنّ فإن أطعنكم، وفي: شقاق بينهما ويوفق الله. والاختصاص في قوله: من أهله ومن أهلها، وفي قوله: عاقدت أيمانكم. والإبهام في قوله: به شيئاً وإحساناً، وما ملكت فشيوع شيئاً وإحساناً وما واضح. والتعريض في: مختالاً فخوراً. أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم. والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في: وما ملكت أيمانكم. والتمثيل: في ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً. والحذف في عدّة مواضع.

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأٌّرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} . {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَعِفْهَا} ويظلم يتعدّى لواحد، وهو محذوف وتقديره: لا يظلم أحداً مثقال ذرة. وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي: ظلماً وزن ذرّة، كما تقول: لا أظلم قليلاً ولا كثيراً. وقيل: ضمنت معنى ما يتعدّى لاثنين، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان، والأول محذوف التقدير: لا ينقص، أو لا يغضب، أو لا يبخس أحداً مثقال ذرة من الخير أو الشر، {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} .

حذفت النون من تلك لكثرة الاستعمال، وكان القياس إثبات الواو، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين. فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو، ولأن الموجب لحذفها قد زال. ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو: أن تلاقي ساكنان، فإن لاقته نحو: لم يكن ابنك قائماً، ولم يكن الرجل ذاهباً، لم يجز حذفها. وأجازه يونس، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة، فلو كان مبنياً على نون التوكيد، أو نون الإناث، أو مرفوعاً بالنون، لم يجز حذفها. وقرأ الجمهور: حسنة بالنصب، فتكون ناقصة، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال. وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث، أو على مراعاة المعنى، لأن مثقال معناه زنة أي: وإن تك زنة ذرّة. وقرأ الحسن والحرميان: حسنة بالرفع على أن تك تامة، التقدير: وإن تقع أو توجد حسنة. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير: فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم، أو كيف صنعهم. وهذا المبتدأ هو العامل في إذا، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلاً أي: فكيف يصنعون، أو كيف يكونون. والفعل أيضاً هو العامل في إذا. ونقل ابن عطية عن مكيّ: أن العامل في كيف جئنا. قال: وهو خطأ. وظاهر قوله: وجئنا بك، أنه معطوف على قوله: جئنا من كل أمة. وقيل: حال على تقدير قد أي وقد جئنا.

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأٌّرْضُ} والعامل في: يوم يودّ. ومعنى يودّ: يتمنى. وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا. وقيل: هو على إضمار موصول آخر أي: والدين عصوا فهما فرقتان. وقيل: الواو واو الحال أي: كفروا وقد عصوا الرسول. وقال الحوفي: يجوز أن يكون يوم مبنياً مع إذ، لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه. وإذ في هذا الموضع اسم ليست بظرف، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها، كما تخصص الأسماء، ومع استحقاقها الجرّ، والجرّ ليس من علامات الظروف انتهى، وهو كلام جيد. والعامل في يومئذ يود، ومفعول يود محذوف تقديره: تسوية الأرض بهم، ودلّ عليه قوله: لو تسوى بهم الأرض. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابه محذوف تقديره: لسروا بذلك، وحذف لدلالة يودّ عليه. ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلك هنا، وكانت إذ ذاك لا جواب لها، بل تكون في موضع مفعول يود.

{وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقيل: الواو وللحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يكذبون في قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين. لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم، والشهادة عليهم بالشرك. فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى. والذي يتخلص في هذه الجملة أن الواو في قوله: ولا يكتمون إما أن تكون للحال، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى: أنهم يوم القيامة يودون إن كانوا ماتوا وسويت بهم الأرض، غير كاتمين الله حديثاً، فهي حال من بهم، والعامل فيها تسوى. وهذه الحال على جعل لو مصدرية بمعنى أن، ويصح أيضاً الحال على جعل لو حرفاً لما سيقع لوقوع غيره، أي: لو تسوى بهم الأرض غير كاتمين الله حديثاً لكان بغيتهم وطلبتهم. ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا، والعامل يود على تقدير أن تكون لو مصدرية أي: يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين، وتكون هذه الحال قيدا في الودادة. أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدّنيا من الكفر والتكذيب، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن، إذ قد ورد أنهم يكتمون، ويبعد أن يكون حالاً على هذا الوجه. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال، وعاملها بالجملة. وإن كانت الواو في: ولا يكتمون، للعطف فيحتمل أن يكون من عطف المفردات، ومن عطف الجمل. فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفاً على مفعول يود أي: يودّون تسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان. ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة، وهو قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين. ويبعد جدًّا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفاً على يود، أي: يودّون كذا ولا

يكتمون الله حديثاً، فأخبر تعالى عنهم بخبرين الودادة وانتفاء الكتمان، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة. ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفاً كما قرّرناه، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف كما تقدّم. والجملة من قوله: ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل: جملة الودادة، والجملة التعليقية من لو وجوابها، وجملة انتفاء الكتمان. {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى} وقرأ الجمهور: سكارى بضم السين. واختلفوا: أهو جمع تكسير؟ أم اسم جمع؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير. قال سيبويه في حد تكسير الصفات: وقد يكسرون بعض هذا على فعالى، وذلك قول بعضهم: سكارى وعجالى. فهذا نصَّ منه على أن فعلى جمع. ووهم الأستاذ أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى سيبويه أنه اسم جمع، وأن سيبويهبين ذلك في الأبنية. قال ابن الباذش: وهو القياس، لأنه جاء على بناء لم يجيء عليه جمع ألبتة، وليس في الأبنية إلا نص سيبويه على أنه تكسير، وذلك أنه قال: ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني وكباري، ولا يكون وصفاً، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالي وسكارى وكسالى. وحكى السيرافي فيه القولين، ورجح أنه تكسير، وأنه الذي يدل عليه كلام سيبويه. وقرأت فرقة: سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى، وهو جمع تكسير. وقرأ النخعي: سكرى، فاحتمل أن يكون صفة لواحدة مؤنثة كامرأة سكارى، وجرى على جماعة إذ معناه: وأنتم جماعة سكرى. وقال ابن جنى: هو جمع سكران على وزن سكرى بضم السين على وزن حبلى، وتخريجه على أنه صفة لجماعة أي: وأنتم جماعة سكرى. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى بالضم والفتح قاله الزمخشري.

{وَلاَ جُنُباً} ـــ حال معطوف على وأنتم سكارى إذ هي حالية أيضاً قال الزمخشري: الجنب يستوي فيه الواجد والجمع، والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى. والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح، وبه جاء القرآن. وقد جمعوه جمع سلامة بالواو والنون قالوا: قوم جنبون، وجمع تكسير قالوا: قوم أجناب. وأما تثنيته فقالوا: جنبان. {إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} قال الزمخشري وانتصابه على الحال. (فإن قلت) : كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها؟ (قلت) : كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر، وعبور السبيل عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالاً ولكن صفة كقوله: جنباً أي: ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل، أي: جنباً مقيمين غير معذورين. {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ} وقوله: أو على سفر في موضع نصب عطفاً على مرضى. وفي قوله: أو جاء، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبراً لكان من غير قد وادّعاء إضمارها تكلف خلافاً للكوفيين لعطفها على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَبِ يَشْتَرُونَ الضَّللَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} . ومن الكتاب: يحتمل أن يتعلق بأوتوا، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيباً.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً * مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} . والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال: سحيم: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفى مطردة كما قال تعالى: {أو لم يكف بربك إنه على كل شيء شهيد} وقال الزجاج: دخلت الباء في الفاعل، لأن معنى الكلام الأمر أي: اكتفوا بالله. وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة، ولا يصح ما قال من المعنى، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون، ويكون بالله متعلقاً به. وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون، فتناقض قوله. وقال ابن السراج: معناه كفى الاكتفاء بالله، وهذا أيضاً يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى. وهذا أيضاً لا يصح لأنّ فيه حذف المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله: هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم ومسحكم صلبكم رحمان قربانا

التقدير: وقولكم يا رحمن قرباناً. وقال ابن عطية: بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر، أي: اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك. وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج، وهو أفسد من قول الزجاج، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل اختلاف معنى الحرف، إذ بالنسبة لكون الله فاعلاً هو زائد، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد. وقال ابن عيسى: إنما دخلت لأن الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره، فضوعف لفظها المضاعفة معناها، وهو كلام يحتاج إلى تأويل. وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله: {فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً} لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد: نقول: ورد بعضها. وانتصاب ولياً ونصيراً قيل: على الحال. وقيل: على التمييز، وهو أجود لجواز دخول من. {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ، ومن الذين خبره، والتقدير: من الذين خبره، والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، وهذا مذهب سيبويه، وأبى عليّ، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلاً كقولهم: منا ظعن، ومنا أقام أي: منا نفر ظعن، ومنا نفر أقام. وقال الشاعر: وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح يريد: فمننهما تارة أموت فيها. وخرّجه الفرّاء على إضمار من الموصولة أي: من الذين هادوا من يحرفون الكلم، وهذا عند البصريين لا يجوز. وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، قال الفرّاء: ومثله قول ذي الرّمة: فظلوا ومنهم دمعه سابق لها وآخر يثني دمعة العين باليد

وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولاً، بل يترجح أن يكون موصوفاً لعطف النكرة عليه وهو آخر، إذ يكون التقدير: فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها. وقيل: هو على إضمار مبتدأ التقدير: هم من الذين هادوا، ويحرفون حال من ضمير هادوا، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله، فقيل: بنصيراً أي نصيراً من الذين هادوا، وعداه بمن كما عداه في: {ونصرناه من القوم} وفمن ينصرنا من بأس الله ومنعناه وفمن يمنعنا. وقيل: من الذين هادوا بيان لقوله: بأعدائكم، وما بينهما اعتراض. وقيل: حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء. قال: ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في أوتوا لأن شيئاً واحداً لا يكون له أكثر من حال واحدة، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض، ولا يكون حالاً من الذين لهذا المعنى انتهى. وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعدداً لا يقتضي أكثر من حال واحدة، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك. وقيل: من الذين هادوا بيان {للذين أوتوا نصيباً من الكتاب} لأنهم يهود ونصارى، وقوله: {والله أعلم بأعدائكم} وكفى بالله ولياً {وكفى بالله ولياً} {وكفى بالله نصيراً} جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشر، وبدأ به. ويضعفه أن هذه جمل ثلاث، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث. {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ} وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولاً في أحد التقادير، وانتصاب لياً وطعناً على المفعول من أجله. وقيل: هما مصدران في موضع الحال أي: لاوين وطاعنين.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ} قال الزمخشري: المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيراً لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى. فسبك من أنهم قالوا مصدراً مرتفعاً بثبت على الفاعلية، وهذا مذهب المبرد خلافاً لسيبويه. إذ يرى سيبويه أنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ، وهل الخبر محذوف، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن؟ قولان أصحهما هذا. فالزمخشري وافق مذهب المبرد، وهو مذهب مرجوح في علم النحو. وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع. قالوا: التجوز بإطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى في قوله: إن الله لا يظلم، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم. والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله: مثقال ذرة. والإبهام في قوله: يضاعفها، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر. والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع، أو تقريره لنفسه في: فكيف إذا جئنا. والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في: بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً. والتجيس المماثل في: وجئنا وفي: وجئنا وفي: بشهيد وشهيداً. والتجنيس المغاير: في واسمع غير مسمع. والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في: من الغائط. والكناية في: أو لامستم النساء. والتقديم والتأخير في: إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله: فتيمموا. والاستفهام المراد به التعجب في: ألم تر. والاستعارة في: يشترون الضلالة. والطباق في: هذا أي بالهدى، والطباق الظاهر في: وعصينا وأطعنا. والتكرار في: وكفى بالله ولياً، وكفى بالله، وفي سمعنا وسمعنا. والحذف في عدة مواضع.

{يَأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَرِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَبَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْءَاتَيْنَآءَالَ إِبْرَهِيمَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَّنْءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} . {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَرِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ} وقال أبو البقاء: على أدبارها حال من ضمير الوجوه. أو نلعنهم معطوف على أن نطمس.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} وقرأ الجمهور: ألم تر بفتح الراء. وقرأ السلمي: بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف. وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل. وقرأ الجمهور: ولا يظلمون بالياء. وقرأت طائفة: ولا تظلمون بتاء الخطاب، وانتصاب فتيلاً. قال ابن عطية: على أنه مفعول ثان، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين. {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} وكيف: سؤال عن حال، وانتصابه على الحال، والعامل فيه يفترون، والجملة في موضع نصب بانظر، لأن انظر معلقة. وقال ابن عطية: وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يفترون انتهى. أما قوله: يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله يفترون، فهذا لم يذهب إليه أحد، لأنّ كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها، وإنما قوله: كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمراً، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب، لأنه ذكر أنّ الخبر هي الجملة من قوله: يفترون، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى رابط. فهذا الذي قال فيه: ويصح، هو فاسد على كل تقدير. {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ سَبِيلاً} جملة يقولون ـــ حالية معطوفة على جملة يؤمنون الحالية. {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} قرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس ـــ لا يؤتوا ـــ بحذف النون على اعمال إذن. {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أم أيضاً منقطعة فتقدّر ببل.

{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} انتصاب على كل الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية، والعامل فيه بدلناهم، وهي جملة فيها معنى الشرط، وهي في موضع الحال، والعامل فيها نصليهم. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع. الاستفهام الذي يراد به التعجب في: ألم تر في الموضعين. والخطاب العام ويراد به الخاص في: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلّمابن صوريا وكعباً وغيرهما من الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول. والاستعارة في قوله: من قبل أن نطمس وجوهاً، في قول من قال: هو الصرف عن الحق، وفي: ليذوقوا العذاب، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب. والطباق في: فتردّها على أدبارها، والوجه ضد القفا، وفي للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا، وفي: إن الذين كفروا والذين آمنوا، وفي: من آمن ومن صدّ، وهذا طباق معنوي. والاستطراد في: أو نلعنهم كما لعن أصحاب السبت. والتكرار في: يغفر، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: آتينا وآتيناهم، وفي: فمنهم ومنهم، وفي: جلودهم وجلوداً، وفي: سندخلهم وندخلهم. والتجنيس المماثل في: نلعنهم كما لعنا وفي: لا يغفر ويغفر، وفي: لعنهم الله ومن يلعن الله، وفي: لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي: يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى. والتعجب: بلفظ الأمر في قوله: انظر كيف يفترون. وتلوين الخطاب في: يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاماً أنهم مستمرون على ذلك. والاستفهام الذي معناه التوبيه والتقريع في: أم لهم نصيب وفي: أم يحسدون. والإشارة في: أولئك الذين. والتقسيم في: فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه. والتعريض في: فإذن لا يؤتون الناس نقيراً عرض بشدة بخلهم. وإطلاق الجمع على الواحد في: أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول، وإقامة المنكر مقام المعرف

لملاحظة الشيوع. والكثرة في: سوف نصليهم ناراً. والاختصاص في: عزيزاً حكيماً. والحذف في: مواضع. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَحمَنَتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأٌّمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَآ أَصَبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} .

{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ} وأن تحكموا، ظاهره: أن يكون معطوفاً على أن أن تؤدّوا، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا. وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} {وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً} {سبع سموات ومن الأرض مثلهن} ففصل في هذه الآية بين الواو والمعطوف بالمجرور. وأبو عليّ يخص هذا بالشعر، وليس بصواب. فإن كان المعطوف مجروراً أعيد الجار نحو: امرر بزيد وغداً بعمرو. ولكنَّ قوله: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا، ليس من هذه الآيات، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأنْ تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعاً وقت الحكم. وقد خرجه على هذا بعضهم. والذي يظهر أنّ إذاً معمولة لأنْ تحكموا مقدرة، وأنْ تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور. وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها، لأنه يجير: يعجبني العسل أن يشرب، فتقدم معمول صلة أنْ عليها. {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أصله: معم ما، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي. كأنه قال: نعم الشيء يعظكم به، أي شيء يعظكم به. ويعظكم صفة لشيء، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه. والمخصوص محذوف التقدير: نعم الذي يعظكم الفارسي في أحد قوليه، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله. وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال، وتحقيق ذلك في علم النحو. وقال ابن عطية: وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما، ومما في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر: وإنا لمما نضرب الكبشر ضربة على رأسه تلقى اللسان من الفم

ونحوه. وفي هذا هي بمنزلة ربما، وهي لها مخالفة في المعنى: لأنّ ربما معناها التقليل، ومما معناها التكثير. ومع أن ما موطئه، فهي بمعنى الذي. وما وطأت إلا وهي اسم، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه. وهو كلام متهافت، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسماً، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا. وقرأ الجمهور: نعماً بكسر العين اتباعاً لحركة العين. وقرأ بعض القراء: نعماً بفتح النون على الأصل، إذ الأصل نعم على وزن شهد. ونسب إلى أبي عمرو سكون العين، فيكون جمعاً بين ساكنين. {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} شرط وجوابه محذوف، أي: فردوه إلى الله والرسول. {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} جملة حالية من قوله: يريدون، ويريدون حال، فهي حال متداخل. وأعاد الضمير هنا مذكراً، وأعاده مؤنثاً في قوله: اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها. وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله: {أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم} . {رَأَيْتَ الْمُنَفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} قيل في رأيت المنافقين أنها من رؤية العين، صدوا مجاهرة وتصريحاً، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي: علمت. ويكون صدهم مكراً وتخابثاً ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه. وصدوداً: مصدر لصد، وهو هنا متعد بحرف الجر، وقد يتعدى بنفسه نحو: «قصدهم عن السبيل» وقياس صدّ في المصدر فعل نحو: صده صدّاً. وحكى ابن عطية: أن صدوداً هنا ليس مصدراً، والمصدر عنده صد.

{وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} وقال الزمخشري: (فإن قلت) : ثم تعلق قوله: في أنفسهم؟ (قلت) : بقوله: بليغاً أي: قلْ لهم قولاً بليغاً في أنفسهم، مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إنْ نجم منهم النفاق، وأطلع قرنه، وأخبرهن أنَّ ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان، وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيق انتهى كلامه. وتعليقه في أنفسهم بقوله: بليغاً لا يجوز على مذهب البصريين، لأن معمول الصفة لا يتقدّم عندهم على الموصوف. لو قلت: هذا رجل ضارب زيداً لم يجز أن تقول: هذا يزداً رجل ضارب، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل، ومعلوم أن النعت لا يتقدّم على المنعوت، لأنه تابع، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين. وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله، وتقويل الله تعالى ما لم يقله، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ. ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات. وحكى عن مجاهد أن قوله: في أنفسهم متعلق بقوله: مصيبة، وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله، فإنه في غاية الفساد.

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لأّتَيْنَهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَهُمْ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً}

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} قدم لا على القسم اهتماماً بالنفي، ثم كررها بعد توكيداً للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام. وقيل: الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي. وقال الزمخشري: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم. ولا يؤمنون جواب القسم. (فإن قلت) : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في. لا يؤمنون. (قلت) : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم} انتهى كلامه. ومثل الآية قول الشاعر: ولا والله لا يلقى لما بي ولا للما بهم أبداً دواء وحتى هنا غاية، أي: ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ} وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنَّ أنْ توصل بفعل الأمر. وارتفع قليل، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين، وبالرفع قرأ الجمهور. وقرأ أبيّ، وابن أي إسحاق، وابن عامر، وعيسى بن عمر: إلا قليلاً بالنصب، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما.

وقال الزمخشري: وقرىء إلا قليلاً بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلاً قليلاً انتهى. الأما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة. وأما قوله: على إلا فعلا قليلاً فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب: لو قلت ما ضربوا زيداً إلا ضرباً قليلاً منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره. وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله: أن اقتلوا أو اخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الكناية في قوله ما فعلوه عائد على القتل والخروج معاً، وذلك لأن الفعل جنس واحد، وإن اختلفت صورته انتهى. وهو كلام غير نحوي. {وَإِذاً لأّتَيْنَهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَهُمْ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً} قال الزمخشري: وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت؟ فقيل: وإذا لو ثبتوا لآتيناهم. لأنّ إذا جواب انتهى. وظاهر قول الزمخشري: لأن إذا جواب وجزاء يفهم منها أنها قد تكون جواباً فقط في موضع، وجواباً وجزاء في موضع نفي، مثل: إذن أظنك صادقاً لمن قال: أزورك، هي جواب خاصة. وفي مثل: إذن أكرمك لمن قال: أزورك، هي جواب وجزاء. وذهب الأستاذ أبو عليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفاً مع ظاهر كلام سيبويه. والصحيح قول الفارسي، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو.

{ُ ِوَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقاً على الحال من أولئك، أو على التمييز. وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون منقولاً، فيجوز دخول من عليه، ويكون هو المميز. وجاء مفرداً إما لأن الرفيق مثل الخليط والصديق، يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وأمّا لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع، ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفاعل، فلا يكون هو المميز والتقدير: وحسن رفيق أولئك، فلا تدخل عليه من ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى من يطع الله والرسول، وجمع على معنى من ويجوز في انتصاب رفيقاً إلا وجه السابقة.

وقرأ الجمهور: وحسُن بضم السين، وهي الأصل، ولغة الحجاز. وقرأ أبو السمال: وحسْن بسكون السين وهي لغة تميم. ويجوز: وحُسْن بسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها، وهي لغة بعض بني قيس. قال الزمخشري: وحسن أولئك رفيقاً فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً. ولاستقلاله بمعنى التعجب: وحسْن بسكون السين. يقول المتعجب. وحسْنُ الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى كلامه. وهو تخليط، وتركيب مذهب على مذهب. فنقول: اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم، فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، فلا يكون فاعلاً إلا بما يكون فاعلاً لهما. وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس، فيجعل فاعلها كفاعلهما، وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب. وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل، ولا في بقية أحكامهما، بل يكون فاعله ما يكون مفعولاً لفعل التعجب، فيقول: لضربت يدك ولضربت اليد. والكلام على هذين المذهبين تصحيحاً وإبطالاً مذكور في علم النحو. والزمخشري لم يتبع واحداً من هذين المذهبين، بل خلط وركب، فأخذ التعجب من مذهب الأخفش، وأخذ التمثيل بقوله: وحسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي. وأما قوله: ولاستقلاله بمعنى التعجب، قرىء: وحسْن بسكون السين، وذكر أن المتعجب يقول: وحسن وحسن، فهذا ليس بشيء، لأن الفرّاء ذكر أن تلك لغات للعرب، فلا يكون التسكين، ولا هو والنقل لأجل التعجب. {ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} وذلك مبتدأ والفضل خبره، ومِن الله حال، ويجوز أن يكونَ الفضل صفةً، والخبر من الله، ويجوز أن يكونا خبرين على مذهب من يجيز ذلك.

{فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً} وقرأ الجمهور: فانفِروا بكسر الفاء فبهما. وقرأ الأعمش: بضمها فيهما، وانتصاب ثبات وجميعاً على الحال، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء. وقال الفراء: العرب تخفض هذه التاء في النصب وتنصبها. أنشدني بعضهم: فلما جلاها بالأيام تحيزت ثباتاً عليها ذلها واكتئابها ينشد بكسر التاء وفتحها انتهى. وأوفى أو انفروا للتخيير. {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} واللام في ليبطئن لام قسم محذوف التقدير: للذي والله ليبطئن. والجملتان من القسم وجوابه صلة لمن، والعائد الضمير المستكن في ليبطئن. قالو: وفي هذه الآية رد على من زعم من قدماء النحاة أنه لا يجوز وصل الموصول بالقسم وجوابه إذا كانت جملة القسم قد عريت من ضمير، فلا يجوز جاءني الذي أقسم بالله لقد قام أبوه، ولا حجة فيها لأنّ جملة القسم محذوفة، فاحتمل أن يكون فيها ضمير يعود على الموصول، واحتمل أنْ لا يكون. وما كان يحتمل وجهين لا حجة فيه على تعيين أحدهما، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم} في قراءة من نصب كلا وخفف ميم لما أي: وأن كلا للذي ليوفينهم على أحسن التخاريج. وقال ابن عطية: اللام في ليبطئن لام قسم عند الجمهور. وقيل: هي لام تأكيد بعد تأكيد انتهى. وهذا القول الثاني خطأ. وقرأ الجمهور: ليبطئن، بالتشديد. وقرأ مجاهد: ليبطئن بالتخفيف. والقراءتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازماً، لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى بطؤ، ويحتمل أن يكون متعدياً بالهمزة أو التضعيف من بطؤ، فعل اللزوم المعنى أنه يتثاقل ويثبط عن الخروج للجهاد، وعلى التعدّي أكثر المفسرين. {وَلَئِنْ أَصَبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يلَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} .

وقرأ الجمهور: ليقولن بفتح اللام. وقرأ الحسن: ليقولن بضم اللام، أضمر فيه ضمير الجمع على معنى من. وقرأ ابن كثير وحفص. كأنْ لم تكن بتاء التأنيث، والباقون بالياء. وقرأ الحسن ويزيد النحوي: فأفوزُ برفع الزاي عطفاً على كنت، فتكون الكينونة معهم والفوز بالقسمة داخلين في التمني، أو على الاستئناف أي فأنا أفوز. وقرأ الجمهور: بنصب الزاي، وهو جواب التمني، ومذهبُ جمهور البصريين: أنّ النصب بإضمار أن بعد الفاء، وهي حرف عطف عطفت المصدر المنسبك من أن المضمرة والفعل المنصوب بها على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين: أنه انتصب بالخلاف، ومذهب الجرمي: أنه انتصب بالفاء نفسها، ويا عند قوم للنداء، والمنادي محذوف تقديره: يا قوم ليتني. وذهب أبو علي: إلى أن يا للتنبيه، وليس في الكلام منادى محذوف، وهو الصحيح. وكأنْ هنا مخففة من الثقيلة، وإذا وليتها الجملة الفعلية فتكون مبدوءة بقد، نحو قوله: لا يهولنك اصطلاؤك للحر ب فمحذورها كان قد ألما أو بلم كقوله: «كان لم يكن» كان لم «تغن بالأمس» ووجدت في شعر عمار الكلبي ابتداءها في قوله: بددت منها الليالي شملهم فكأن لما يكونوا قبل ثم

وينبغي التوقف في جواز ذلك حتى يسمع من لسان العرب. وقال ابن عطية: وكأنْ مضمنة معنى التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وإنما تجيء بعدها الجمل انتهى. وهذا الذي ذكره غير محرر، ولا على إطلاقه. أما إذا خفقت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة، فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر، ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفاً، وتكون تلك الجملة في موضع رفع خبر كان. وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهراً، وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه. ولا يخص ذلك بالشعر، فنقول: كأن زيداً قائم. قال سيبويه: وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤون: وأن كلا لما يخففون وينصبون كما قال: كأن ثدييه حقان، وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله، كما لم يغير عمل لم يك، ولم أبل حين حذف انتهى. فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله: كأن ثدييه حقان جواز ذلك في الكلام، وأنه لا يختص بالشعر. وقد نقل صاحب رؤوس المسائل: أن كأنْ إذا خفغت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين، وأن البصريين أجازوا ذلك. فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في أنَّ كانْ المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر، وأما على مذهب البصريين فلا، لأنها عندهم لا بد لها من اسم وخبر.

{كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} هذه الجملة: إمّا أن يكون لها موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن، أو نصب على المفعول بيقولن على الحكاية، فيكون من جملة المقول، وجملة المقول هو مجموع الجملتين: جملة التشبيه، وجملة التمني. وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد، وضمير الغيبة في وبينه للرسول. وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين، وضمير الغيبة للقائل. وإمّا أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضاً في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت، والنية بها التوسط بين الجملتين. أو لكونها اعتراضاً بين: ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني، ولبس اعتراضاً يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة، بل يتعلق بمضمون الجملتين، والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين، وفي بينه للقائل. واعترض به بين أثناء الحملة الأخيرة، ولم يتأخر بعدها وإنْ كان من حيث المعنى متأخراً إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين، لأن معمول القول النية به التقديم، لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة. ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة، والتقدير: ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً كأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة، إذ صدر منه قوله وقت المصيبة: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً. وقوله: وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم، وهذا قول من لم تسبق منه مودة لكم.

وتضمنت هذه الجملة أنواعاً من الفصاحة والبديع: دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله: إن كنتم تؤمنون. والإشارة في ذلك: خير أولئك الذين يعلم الله، فأولئك منع الذين، وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله. والاستفهام المراد به التعجب في: ألم تر إلى الذين يزعمون. والتجنيس المغاير في: أن يضلهم ضلالاً، وفي: أصابتهم مصيبة، وفي: وقل لهم في أنفهم قولاً، وفي: يصدّون عنك صدوداً، وفي: ويسلموا تسليماً، وفي: فإنْ أصابتكم مصيبة، وفي: فأفوز فوزاً عظيماً. والاستعارة في: فإن تنازعتم، أصل المنازعة الجذب باليد، ثم استعير للتنازع في الكلام. وفي: ضلالاً بعيداً استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب لدوام القلوب عليها، وفي: فيما شجر بينهم استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض استعارة المحسوس للمعقول وفي: أنفسهم حرجاً أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس للمناسبة التي بينهما وهو من الضيق والتتميم، وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكناً وبياناً للمعنى المراد وهو في قوله بليغاً أي: يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغاً في زجرهم. وزيادة الحرف لزيادة المعنى في: من رسول أتت للاستغراق إذ لو لم تدخل لا وهم الواحد. والتكرار في: استغفر واستغفروا أنفسهم، وفي أنفسهم واسم الله في مواضع. والالتفات في: واستغفر لهم الرسول. والتوكيد بالمصدر في: ويسلموا تسليماً. والتقسيم البليغ في قوله: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وإسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في: أصابتكم مصيبة، وأصابكم فضل. وجعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله: وإن منكم لمن ليبطئن. والاعتراض على قول الجمهور في قوله: كان لم يكن بينكم وبينه مودّة. والحذف في مواضع.

{فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ وَمَن يُقَتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّلِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً * الَّذِينَءَامَنُواْ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّغُوتِ فَقَتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَنِ كَانَ ضَعِيفاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} .

{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} هذا الاستفهام فيه حثّ وتحريض على الجهاد في سبيل الله، وعلى تخليص المستضعفين. والظاهر أنّ قوله: لا تقاتلون في موضع الحال، وجوزوا أن يكون التقدير: وما لكم في أنْ لا تقاتلوا، فلما حذف حرف الجر، وحذف أنْ، ارتفع الفعل، والمستضعفين هو مطعوف على اسم الله أي: وفي سبيل المستضعفين. وقال المبرد والزجاج: هو معطوف على سبيل الله أي: في سبيل الله، وفي خلاص المستضعفين. وقرأ ابن شهاب: في سبيل الله المستضعفين بغير واو عطف. فإما أن يخرج على إضمار حرف العطف، وإما على البدل من سبيل الله أي: في سبيل الله سبيل المستضعفين لأنه سبيل الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يكون: والمستضعفين منصوباً على الاختصاص يعني: واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين، لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه انتهى كلامه. ولا حاجة إلى تكلف نصبه على الاختصاص، إذ هو خلاف الظاهر.

{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} ولمّا حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه، وظرف زمان بمعنى حين على مذهب أبي علي. وإذا كانت حرفاً وهو الصحيح فجوابه إذا الفجائية، وإذا كانت ظرفاً فيحتاج إلى عامل فيها فيعسر، لأنه لا يمكن أن يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، ولا يمكن أن يعمل في لما الفعل الذي يليها، لأنّ لمّا هي مضافة إلى الجملة بعدها. فقال بعضهم: العامل في لمّا معنى يخشون، كأنه قيل: جزعوا. قال: وجزعوا هو العامل في إذا بتقدير الاستقبال. وهذه الآية مشكلة لأن فيها ظرفين أحدهما: لما مضى، والآخر: لما يستقبل انتهى. والذي نختاره مذهب سيبويه في لمّا، وأنها حرف. ونختار أنّ إذا الفجائية ظرف مكان يصح أن يجعل خبراً للاسم المرفوع بعده على الابتداء، ويصح أن يجعل معمولاً للخبر. فإذا قلت: لما جاء زيد إذا عمرو قائم، يجوز نصب قائم على الحال. وإذا حرف يصح رفعه على الخبر، وهو عامل في إذا. وهنا يجوز أن يكون إذا معمولاً ليخشون، ويخشون خبر فريق. ويجوز أن يكون خبراً، ويخشون حال من فريق، ومنهم على الوجهين صفة لفريق. ومن زعم أنَّ إذا هنا ظرف زمان لما يستقبل فقوله فاسد، لأنه إن كان العامل فيها ما قبلها استحال، لأن كتب ماض، وإذا للمستقبل. وإن تسومح فجعلت إذا بمعنى إذْ صار التقدير: فلما كتب عليهم القتال في وقت خشية فريق منهم، وهذا يفتقر إلى جواب لما، ولا جواب لها. وإن كان العامل فيها ما بعدها، احتاجت إلى جواب هو العامل فيها، ولا جواب لها. والقول في إذا الفجائية: أهي ظرف زمان؟ أم ظرف مكان؟ أم حرف مذكور في علم النحو؟ والكاف في كخشية الله في موضع نصب. قيل: على أنه نعت لمصدر محذوف أي: خشية كخشية الله. وعلى ما تقرر من مذهب سيبويه أنها على الحال من ضمير الخشية المحذوف، أي: يخشونها الناس أي: يخشون الخشية الناس مشبهة خشية الله.

وقال الزمخشري: (فإن قلت) : ما محل كخشية الله من الإعراب؟ (قلت) : محلها النصب على الحال من الضمير في يخشون، أي: يخشون الناس مثل أهل خشية الله أي: مشبهين لأهل خشية الله. أو أشد خشية، يعني: أو أشد خشية من أهل خشية الله. وأشد معطوف على الحال. (فإن قلت) : لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدره: يخشون خشية الله، بمعنى مثل ما يخشى الله؟ (قلت) : أبى ذلك قوله: أو أشد خشية، لأنه وما عطف عليه في حكم واحد. ولو قلت: يخشون الناس أشدّ خشية لم يكن إلا حالاً عن ضمير الفريق، ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول: خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول: أشد خشية فتجرها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالاً منه، اللهم إلا أنْ تجعل الخشية خاشية على حد قولهم: جد جده، فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية أشدّ خشية من خشية الله. ويجوز على هذا أن يكون محل أشدّ مجروراً عطفاً على خشية الله، يريد: كخشية الله أو كخشية أشدّ خشية منها انتهى كلامه. وقد يصح خشية، ولا يكون تمييزاً فيلزم من ذلك ما التزمه الزمخشري، بل يكون خشية معطوفاً على محل الكاف، وأشدّ منصوباً على الحال لأنه كان نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال والتقدير: يخشون الناس مثل خشية الله أو خشية أشد منها. وقد ذكرنا هذا التخريج في قوله تعالى: {أو أشدّ ذكراً} وأوضحناه هناك. وخشية الله مصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف أي: كخشيتهم الله. وأو على بابها من الشك في حق المخاطب، وقيل: للإبهام على المخاطب. وقيل: للتخيير. وقيل: بمعنى الواو. وقيل: بمعنى بل. وتقدّم نظير هذه الأقوال في قوله: {أو أشدّ قسوة} ولو قيل أنها للتنويه، لكان قولاً يعني: أنّ منهم من يخشى الناس كخشية الله، ومنهم من يخشاهم خشية تزيد على خشيتهم الله.

{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} والجزم في يدرككم على جواب الشرط، وأينما تدل على العموم، وكأنه قيل: في أي مكان تكونون فيه أدرككم الموت. ولو هنا بمعنى إن، وجاءت لدفع توهم النجاة من الموت بتقدير: إن لو كانوا في بروج مشيدة، ولإظهار استقصاء العموم في أينما. وقرأ طلحة بن سليمان: يدرككم برفع الكافين، وخرجه أبو الفتح: على حذف فاء الجواب أي: فيدرككم الموت وهي قراءة ضعيفة. قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع أينما تكونوا، وهو: أينما كنتم كما حمل ولا ناعب على ما يقع موقع ليسوا مصلحين، وهو ليسوا بمصلحين. فرفع كما رفع زهير يقول: لا غائب ما لي ولا حرم. وهو قول نحوي سيبويهي انتهى. ويعني: أنه جعل يدرككم ارتفع لكون أينما تكونوا في معنى أينما كنتم، بتوهم أنه نطق به. وذلك أنه متى كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ فإنه يجوز في المضارع بعده وجهان: أحدهما: الجزم على الجواب. والثاني: الرفع. وفي توجيه الرفع خلاف، الأصح أنّه ليس الجواب، بل ذلك على التقديم والتأخير، والجواب محذوف. وإذا حذف الجواب فلا بد أن يكون فعل الشرط ماضي اللفظ، فتخريج هذه القراءة على هذا يأباه كون فعل الشرط مضارعاً. وحمله علي ولا ناعب ليس بجيد، لان ولا ناعب عطف على التوهم، والعطف على لتوهم لا ينقاس. وقال الزمخشري أيضاً ويجوز أن يتصل بقوله: {ولا تظلمون فتيلاً} أي: لا تنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها. ثم ابتدأ بقوله: يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، والوقف على هذا الوجه أينما تكونوا انتهى كلامه. وهذا تخريج ليس بمستقيم، لا من حيث المعنى، ولا من حيث الصناعة النحوية. أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متصلاً بقوله: ولا تظلمون فتيلاً، لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} وأما

من حيث الصناعة النحوية فإنه على ظاهر كلامه يدل على أنَّ أينما تكونوا متعلق بقوله: ولا تظلمون، ما فسره من قوله أي: لا تنقصون شيئماً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحرب أو غيرها، وهذا لا يجوز، لأن أينما اسم شرط، فالعامل فيه إنما هو فعل الشرط بعده. ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله، فلا يمكن أن يعمل فيه، ولا تظلمون. بل إذا جاء نحو: اضرب زيداً متى جاء، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب. فإن قال: يقدّر له جواب محذوف يدل عليه ما بله وهو: ولا تظلمون، كما تقدر في اضرب زيداً: متى جاء، فالتقدير: أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلاً أي: فلا ينقص شيء من آجالكم وحذفه لدلالة ما قبله عليه. قيل له: لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي، وفعل الشرط هنا مضارع. تقول العرب: أنت ظالم إن فعلت، ولا تقل أنت ظالم إن تفعل. وقرأ نعيم بن ميسرة: مشيدة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازاً، كما قال: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر ناظمها. {مَّآ أَصَبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَبَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} .

وقد تضمنت هذه الآيات من البيان والبديع: الاستعارة في: يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، وفي: فسوف نؤتيه أجراً عظيماً لما يناله من النعيم في الآخرة، وفي: سبيل الله، وفي: سبيل الطاغوت، استعار الطريق للاتباع وللمخالفة وفي: كفوا أيديكم أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال. والاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في: وما لكم لا تقاتلون. والاستفهام الذي معناه التعجب في: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا. والتجوز بفي التي للوعاء عن دخولهم في: الجهاد. والالتفات في: فسوف نؤتيه في قراءة النون. والتكرار في: سبيل الله، وفي: واجعل لنا من لدنك، وفي: يقاتلون، وفي: الشيطان، وفي: وإن تصبهم، وفي: ما أصابك وفي: اسم الله. والطباق اللفظي في: الذين آمنوا والذين كفروا. والمعنوي في: سبيل الله طاعة وفي سبيل الطاغوت معصية. والاختصاص في: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وفي: والآخرة خير لمن اتقى. والتجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في: يدرككم الموت، وفي: إن تصبهم، وفي: ما أصابك. والتشبيه في: كخشية. وإيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في: خير لمن اتقى. والتجنيس المغاير في: يخشون وكخشية. والحذف في مواضع.

{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفاً كَثِيراً * وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأٌّمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأٌّمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَنَ إِلاَّ قَلِيلاً * فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً * مَّن يَشْفَعْ شَفَعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتاً * وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً} .

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} قال الزمخشري: ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة، وهذا من قول المرتسم سمعاً وطاعة، وسمع وطاعة، ونحوه قول سيبويه. وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمداً لله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني حمد الله. ولو نصب حمد الله وثناء عليه كان على الفعل، والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها انتهى. ولا حاجة لذكر ما لم يقرأ به ولا لتوجيهه ولا لتنظيره بغيره، خصوصاً في كتابه الذي وضعه على الاختصار لا على التطويل. {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَنَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقال قوم: الاستثناء إنما هو من الاتباع، فقدره الزمخشري: إلا اتباعاً قليلاً، فجعله مستثنى من المصدر الدال عليه الفعل وهو لاتبعتم. وقال ابن عطية: في تقدير أن يكون استثناء من الاتباع قال: أي لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، ففسره في الاستثناء بالمتبع فيه، فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع، ويكون استثناء مفرّعاً، والتقدير: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلاً من الأشياء فلا تتبعونه فيه. فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح، لأنه يلزم من الاستثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلاً، وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد، لأن قوله: إلا اتباعاً قليلاً، لا يرادف إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها. وقال قوم: قوله إلا قليلاً عبارة عن العدم، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم. قال ابن عطية: وهذا قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قلماً تنبت كذا، بمعنى لا تنبته. لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها، ولكن ذكره الطبري انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح، ولكن قد جوزه هو في قوله: {ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} ولم يقلق عنده هناك ولا رده، وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة.

وقيل: إلا قليلاً مستثنى من قوله: أذاعوا به، والتقدير: أذاعوا به إلا قليلاً، قاله: ابن عباس وابن زيد، واختاره: الكسائي، والفراء، وأبو عبيد، وابن حرب، وجماعة من النحويين، ورجحه الطبري. وقيل: مستثنى من قوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم، قاله: الحسن، وقتادة، واختاره ابن عيينة. {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلاً بقوله: {وما لكم لا تقاتلون} أو بقوله: {فسوف يؤتيه أجراً عظيماً} وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي: إن أردت الفوز فقاتل. أو معطوفة على قوله: {فقاتلوا أولياء الشيطان} فقد أبعد. {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} جملة حالية وتحتمل الاستئناف. وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع أنواعاً الالتفات في قوله: فما أرسلناك. والتكرار في: من يطع فقد أطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: اسم الله في مواضع، وفي: أشد، وفي: من يشفع شفاعة. والتجنيس المماثل في: يطع وأطاع، وفي: بيت ويبيتون، وفي: حييتم فحيوا. والمغاير في: وتوكيل ووكيلاً، وفي: من يشفع شفاعة، وفي: وإذا حييتم بتحية. والاستفهام المراد به الإنكار في: أفلا يتدبرون. والطباق في: من الأمن أو الخوف، وفي: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة. والتوجيه في: غير الذي تقول. والاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في: ولو كان من عند غير الله. وخطاب العين والمراد به الغير في: فقاتل. والاستعارة في: في سبيل الله، وفي: أن يكف بأس. وافعل في: غير المفاضلة في أشد. وإطلاق كل على بعض في: بأس الذين كفروا واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى. والحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة.

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً * فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً * سَتَجِدُونَءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَناً مُّبِيناً * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ

فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ} ويحتمل أن يكون لا إله إلا هو خبر عن الله، ويحتمل أن يكون جملة اعتراض، والخبر الجملة المقسم عليها، وحذف هنا القسم للعلم به. وإلى إما على بابها ومعناها: من الغاية، ويكون الجمع في القبور، أو يضمن معنى: ليجمعنكم معنى: ليحشرنكم، فيعدى بإلى. قيل: أو تكون إلى بمعنى في، كما أولوه في قول النابغة: فلا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلى به القار أجرب أي: في الناس. وقيل: إلى بمعنى مع. {فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَفِقِينَ فِئَتَيْنِ} وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخاطب في لكم، والعامل فيها العامل في لكم. وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي: كنتم فئتين. ويجيزون مالك الشاتم أي: كنت الشاتم، وهذا عند البصريين لا يجوز، لأنه عندهم حال، والحال لا يجوز تعريفها. {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} جملة في موضع الحال. {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} مَن أثبت أن لو تكون مصدرية قدره: ودُّوا كفركم كما كفروا. ومَن جعل لو حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل مفعول ودُّوا محذوفاً، وجواب لو محذوفاً، والتقدير: ودُّوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، لسرُّوا بذلك.

قال الزمخشري: ولو نصب على جواب التمني لجاز، والمعنى: ودُّوا كفركم وكونكم معهم شرعاً واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء انتهى. وكون التمني بلفظ الفعل، ويكون له جواب فيه نظر. وإنما المنقول أنَّ الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو: ليت، ولو وإلا، إذا أشربتا معنى التمني، أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب. بل لو جاء لم تتحقق فيه الجوابية، لأن ودّ التي على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذواب، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون فاء جواب، لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به، فيكون من باب: للبس عباءة وتقرّ عيني. {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} استثناء من قوله ـــ فخذوهم واقتلوهم. وأصل الاستثناء أن يكون متصلاً، وظاهر الآية وهذه الأقوال التي تقدّمت: أنه استثناء متصل. والمعنى: إلا الكفار الذين يصلون إلى قوم معاندين، أو يصلون إلى قوم جاؤكم غير مقاتلين ولا مقاتلي قومهم. إن كان جاؤكم عطفاً على موضع صفة قوم، وكلا العطفين جوز الزمخشري وابن عطية، إلا أنهما اختار العطف على الصلة. قال ابن عطية بعد أن ذكر العطف على الصلة قال: ويحتمل أن يكون على قوله: بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى في العطفين مختلف انتهى. واختلافه أنّ المستثنى إمّا أن يكونا صنفين واصلاً إلى معاهد، وجائياً كافاً عن القتال. أو صنفاً واحداً يختلف باختلاف من وصل إليه من معاهغد أو كاف. قال ابن عطية: وهذا أيضاً حكم، كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك إذا جاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه، لا سبيل عليه. وهذه نسخت أيضاً بما في براءة انتهى.

وقال الزمخشري: الوجه العطف على العلة لقوله: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم} الآية بعد قوله: فخذوهم واقتلوهم، فقرر أنّ كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم، وترك الإيقاع بهم. (فإن قلت) : كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق ترك التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قومٍ، ويكونَ قوله: فإن اعتزلوكم تقريراً لحكم اتصالهم بالكافين، واختلاطهم فيهم، وجريهم على سننهم؟ (قلت) : هو جائز، ولكنَّ الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام انتهى. وإنما كان أظهروا وأجرى على أسلوب الكلام لأنّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه. وإذا عطفت على الصلة كان محدثاً عنه، وإذا عطفت على الصفة لم يكن محدثاً عنه، إنما يكون ذلك تقييداً في قوم الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى، وبين أن تكون تقييدية، كان حملُها على الإسنادية أولي للاستثقال الحاصل بها، دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية. وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين من المعنى، فإنه يكون تركهم القتال سبباً لترك التعرّض لهم، وهو سبب قريب، وذلك على العطف على الصلة، ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم، وهو سبب بعيد، وذلك على العطف على الصفة. ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة البعيد. وعلى أن الاستثناء متصل من مفعول: فخذوهم واقتلوهم. وفي مصحف أبي وقراءته: ميثاق جاؤكم بغير واو. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون جاؤكم بياناً ليصلونن، أو بدلاً، أو استئنافاً، أو صفة بعد صفة لقوم انتهى. وهي وجوه محتملة، وفي بعضها ضعف. وهو البيان والبدل، لأن البيان لا يكون في الأفعال، ولأن البدل لا يتأتى لكونه ليس إياه، ولا بعضاً، ولا مشتملاً.

وقرأ الجمهور: حصرت. وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب: حصرة على وزن نبقة، وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص. وحكى عن الحسن أنه قرأ: حصرات. وقرىء: حاصرات. وقرىء: حصرة بالرفع على أنه خبر مقدم، أي: صدورهم حصرة، وهي جملة اسمية في موضع الحال. فأما قراءة الجمهور فجمهور النحويين على أنَّ الفعل في موضع الحال. فمَن شرط دخول قد على الماضي إذا وقع حالاً زعم أنها مقدرة، ومن لم ير ذلك لم يحتج إلى تقديرها، فقد جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير قد. ويؤيد كونه في موضع الحال قراءة من قرأ ذلك اسماً منصوباً، وعن المبرد قولان: أحدهما: أنّ ثم محذوفاً هو الحال، وهذا الفعل صفته أي: أو جاؤكم قوماً حصرت صدورهم. والآخر: أنه دعاء عليهم، فلا موضع له من الإعراب. ورد الفارسي على المبرد في أنه دعاء عليهم بأنا أمرنا أن نقول: اللهم أوقع بين الكفار العداوة، فيكون في قوله: أو يقاتلوا قومهم، في ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم. قال ابن عطية: ويخرج قول المبرد على أنّ الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقيرهم، أي: هم أقل وأحقر، ويستغني عنهم كما تقول إذا أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلاناً علي ولا معي، بمعنى: استغنى عنه، واستقل دونه. وقال غير ابن عطية: أو تكون سؤالاً لموتهم، على أنّ قوله: قومهم، قد يعبر به عن من ليسوا منهم، بل عن معاديهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون حصرت في موضع جر صفة لقوم، وأو جاؤكم معترض. قال: يدل عليه قراءة من أسقط أو، وهو أبى. وأجاز أيضاً أن يكون حصرت بدلاً من جاؤكم، قال: بدل اشتمال، لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره. وقال الزجاج: حصرت صدورهم خبر بعد خبر. قال ابن عطية: يفرق بين تقدير الحال، وبين خبر مستأنف في قولك: جاء زيد ركب الفرس، إنك إن أردت الحال بقولك: ركب الفرس، قدرت قد. وإن أدرت خبراً بعد خبر لم نحتج إلى تقديرها. وقال الجرجاني: تقديره إن جاؤكم حصرت،

فحذف إنْ، وما ادعاه من الإضمار لا يوافق عليه، أن يقاتلوكم تقديره: عن أن يقاتلوكم. وقرأ الجمهور: فيقاتلوكم بألف المفاعلة. وقرأ مجاهد وطائفة: فلقتلوكم على وزن ضربوكم. وقرأ الحسن والجحدري: فلقتلوكم بالتشديد، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو، لأن المعطوف على الجواب جواب، كما لو قلت: لو قام زيد لقام عمرو ولقام بكر. وقال ابن عطية: واللام في لسلطهم جواب لو، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول: لقاتلوكم انتهى. وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة، لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل، وعبارة مكي قبله. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} قال الزمخشري (فإن قلت) : بما انتصب خطأ؟ (قلت) : بأنه مفعول له أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالاً بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، وأن يكون صفة لمصدر أي: إلا قتلا خطأ. {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ}

وهذا الاستثناء قيل: منقطع، وقيل: إنه متصل. قال الزمخشري: (فإن قلت) : بم تعلق أن يصدقوا؟ وما محله؟ (قلت) : تعلق بعليه، أو بمسلمة. كأن قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم: اجلس ما دام زيد جالساً، ويجوز أن يكون حالاً من أهله بمعنى: إلا متصدقين انتهى كلامه. وكلا التخريجين خطأ. أما جعل أن وما بعدها ظرفاً فلا يجوز، نص النحويون على ذلك، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول: أجيئك أن يصيح الديك، يريد وقت صياح الديك. وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال، فنصوا أيضاً على أن ذلك لا يجوز. قال سيبويه في قول العرب: أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم، في معنى أنت الرجل نزالاً وخصومة، أنَّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله، لأن المستقبل لا يكون حالاً، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناء منقطعاً هو الصواب. وقرأ الجمهور يصدقوا، وأصله يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة. وقرىء: تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد، وأصله تتصدقوا، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة. وفي حرف أبيّ وعبد الله: يتصدقوا بالياء والتاء. {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} انتصب على المصدر.

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} وانتصب متعمداً على الحال من الضمير المستكن في يقتل، والمعنى: متعمداً قتله. وروى عبدان عن الكسائي: تسكين تاء متعمداً، كأنه يرى توالي الحركات. وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعاً. التتميم في: ومن أصدق من الله حديثاً. والاستفهام بمعنى الإنكار في: فما لكم في المنافقين، وفي: أتريدون أن تهدوا. والطباق في: أن تهدوا من أضل الله. والتجنيس المماثل في: لو تكفرون كما كفروا، وفي: بينكم وبينهم، وفي: أن يقاتلوكم أو يقاتلوا، وفي: أن يأمنوكم ويأمنوا، وفي: خطأ وخطأ. والاستعارة في: بينكم وبينهم، وفي: حصرت صدورهم، وفي: فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم، وفي: سبيلاً وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم الآية. والاعتراض في: ولو شاء الله لسلطهم. والتكرار في مواضع. والتقسيم في: ومن قتل إلى آخره. والحذف في مواضع.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * لاَّ يَسْتَوِى الْقَعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَهِدِينَ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَهِدِينَ عَلَى الْقَعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأٌّرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَسِعَةً فَتُهَجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً * وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأٌّرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وقرأ الجمهور: إنَّ بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرىء بفتحها على أن تكون معمولة لقوله: {فتبينوا} . {لاَّ يَسْتَوِى الْقَعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} ويستوى من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: غير برفع الراء. ونافع، وابن عامر، والكسائي: بالنصب، ورويا عن عاصم. وقرأ الأعمش وأبو حيوة: بكسرها. فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة، وهو قول سيبويه، كما هي عنده صفة في {غير المغضوب عليهم} ومثله قول لبيد: وإذا جوزيت قرضاً فاجزه إنما يجزي الفتى غير الجمل كذا ذكره أبو عليّ، ويروى: ليس الجمل. وأجاز بعض النحويين فيه البدل. قيل: وهو إعراب ظاهر، لأنه جاء بعد نفي، وهو أولى من الصفة لوجهين: أحدهما: أنهم نصوا على أنَّ الأفصح في النفي البدل، ثم النصب على الاستثناء، ثم الوصف في رتبة ثالثة. الثاني: أنه قد تقرر أنّ غيراً نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا، هو المشهور، ومذهب سيبويه. وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناساً معينين، كانت الألف واللام فيه جنسية، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة، وهذا كله ضعيف. وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين. وقيل: استثناء من المؤمنين، والأول أظهر لأنه المحدث عنه. وقيل: انتصب على الحال من القاعدين. وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من {الذين أنعمت عليهم} ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله: القاعدون. أي: كائنين من المؤمنين.

{وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وانتصب كلاً على أنه مفعول أوّل لوعد، والثاني هو الحسنى. وقرىء: وكل بالرفع على الابتداء، وحذف العائد أي: وكلهم وعد الله. {دَرَجَتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه: أحدها: أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل، كأنه قيل: فضلهم تفضيله. كما تقول: ضربته سوطاً، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول: ضربته أسواطاً تعني: ضربات. والثاني: أنهما ينتصبان انتصاب الحال أي: ذوي درجة، وذوي درجات. والثالث: على تقدير حرف الجر أي: بدرجة وبدرجات. والرابع: أنهما انتصبا على معنى الظرف، إذ وقعا موقعه أي: في درجة وفي درجات. وقيل: انتصاب درجات على البدل من أجراً قيل: ومغفرة ورحمة معطوفان على درجات. وقيل: انتصبا بإضمار فعلهما أي: غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة. وأما انتصابُ أجراً عظيماً فقيل: على المصدر، لأنّ معنى فضل معنى أجر، فهو مصدر من المعنى، لا من اللفظ. وقيل: على إسقاط حرف الجر أي بأجر. وقيل: مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم. قال الزمخشري: ونصب أجراً عظيماً على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدّمة عليها انتهى. وهذا لا يظهر لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتاً لعدم المطابقة، لأنّ أجراً عظيماً مفرد، ولا يكون نعتاً لدرجات، لأنها جمع. وقال ابن عطية: ونصب درجات، إما على البدل من الأجر، وإما بإضمار فعل على أن يكون تأكيداً للأجر، كما نقول لك: على ألف درهم عرفاً، كأنك قلت: أعرفها عرفاً انتهى. وهذا فيه نظر. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأٌّرْضِ} وتوفاهم: ماض لقراءة من قرأ توفتهم، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل، ولكون تأنيث الملائكة مجازاً أو مضارع، وأصله تتوفاهم.

وقرأ ابراهيم: توفاهم بضم التاء مضارع وفيت، والمعنى: أنّ الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. والضمير في قالوا للملائكة، والجملة خبر إنّ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى، التقدير: قالوا: لهم فيم كنتم؟ قال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف صح وقوع قوله: كنا مستضعفين في الأرض، جواباً عن قولهم: فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، ولم يكن في شيء؟ (قلت) : معنى فيم كنتم، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به، واعتلالاً بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه. والذي يظهر أنّ قولهم: كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله: فيم كنتم على المعنى، لا على اللفظ. لأن معنى: فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم، قالوا: كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة، وهو جواب كذب. {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} الفاء للعطف، عطفت جملة على جملة. وقيل: فأولئك خبر إنْ، ودخلت الفاء في خبر إنّ تشبيهاً لاسمها باسم الشرط، وقالوا: فيم كنتم حال من الملائكة، أو صفة لظالمي أنفسهم أي: ظالمين أنفسهم قائلاً لهم الملائكة: فيم كنتم؟ وقيل: خبر إنّ محذوف تقديره: هلكوا، ثم فسر الهلاك بقوله: قالوا فيم كنتم. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} وهذه الجملة قيل: مستأنفة. وقيل: في موضع الحال. وقال الزمخشري: صفة للمستضعفين، أو الرّجال والنساء والولدان. قال: وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني

وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وهو هدم للقاعدة المشهورة: بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة. {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ} جواب الشرط ـــ قوله ـــ فقد وقع أجره على الله. وقرأ النخعي وطلحة بن مصرّف: ثم يدركه برفع الكاف. قال ابن جني: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: ثم هو يدركه الموت، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم، وفاعله وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى: إن تركبوا فركوب الخير عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل المراد: أو أنتم تنزلون، وعليه قول الآخر: إن تذنبوا ثم يأتيني نعيقكم فما عليّ بذنب عندكم قوت المعنى: ثم أنتم يأتيني نعيقكم. وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك انتهى. وخرج على وجه آهر وهو: أن رفع الكاف منقول من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله: من عرى سلبي لم أضربه يريد: لم أضربه، فنقل حركة الهاء إلى الباء المجزومة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن، ونبيح، والجراح: ثم يدركه بنصب الكاف، وذلك على إضماران كقول الأعشى: ويأوي إليها المستجير فيعصما قال ابن جني: هذا ليس بالسهل، وإنما بابه الشعر لا القرآن وأنشد أبو زيد فيه: سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا والآية أقوى من هذا لتقديم الشرط قبل المعطوف انتهى وتقول: أجرى ثم مجرى الواو والفاء، فكما جاء نصب الفعل بإضمار أن بعدهما بين الشرط وجوابه، كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلوا بهذه القراءة. وقال الشاعر في الفاء: ومن لا يقدم رجله مطمئنة فيثبتها في مستوى القاع يزلق وقال آخر في الواو: ومن يقترب منا ويخضع نوؤه ولا يخشى ظلماً ما أقام ولا هضما

وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من البلاغة والبديع. منها الاستعارة في قوله: إذا ضربتم في سبيل الله، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء، والسبيل لدينه، وفي: لا يستوي عبَّر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي: درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي اقتضى التفضيل، وفي: يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت، وفي: فقد وقع استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر. والتكرار في: اسم الله تعالى، وفي: فتبينوا، وفي: فضل الله المجاهدين على القاعدين. والتجنيس المماثل في: مغفرة وغفوراً. والمغاير في: أن يعفو عنهم وعفواً، وفي: يهاجر ومهاجراً. وإطلاق الجمع على الواحد في: توفاهم الملائكة على قول من قال أنه ملك الموت وحده. والاستفهام المراد منه التوبيخ في: فيم كنتم، وفي: ألم تكن. والإشارة في كذلك وفي: فأولئك. والسؤال والجواب في: فيم كنتم وما بعدها. والحذف في عدة مواضع.

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأٌّرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} . {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ} وفي قراءة أبي وعبد الله: أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم، بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي: مخافة أن يفتنكم.

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً * وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَدِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَدِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَناً وَإِثْماً مُّبِيناً * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ

وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} . {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} قرأ الأعرج بفتح الهمزة على المفعول من أجله. {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} الضمير في يستخفون قيل: يعود على من باعتبار المعنى، وتكون الجملة نعتاً. وهو معهم أي: عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم، وهي جملة حالية. {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} والضمير في: به عائد على الإثم، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله: انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا. وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا. وقيل: يعود على الكسب المفهوم من يكسب. وقيل: على المكسوب. وقيل: يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو، كأنه قيل: ثم يرم بأحد المذكورين. وقيل: ثم محذوف تقديره: ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئاً أو إثماً ثم يرم به بريئاً، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو.

وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع. منها الاستعارة في: وإذا ضربتم في الأرض، وفي: فيميلون استعار الميل للحرب. والتكرار في: جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما، وفي: فلتقم طائفة: ولتأت طائفة، وفي: الحذر والأسلحة، وفي: الصلاة، وفي: تألمون، وفي: اسم الله. والتجنيس المغاير في: فيميلون ميلة، وفي: كفروا إن الكافرون، وفي: تختانون وخواناً، وفي: يستغفروا غفوراً. والتجنيس المماثل في: فأقمت فلتقم، وفي: لم يصلوا فليصلوا، وفي: يستخفون ولا يستخفون، وفي: جادلتم فمن يجادل، وفي: يكسب ويكسب، وفي: يضلوك وما يضلون، وفي: وعلمك وتعلم. قيل: والعالم يراد به الخاص في: فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة، لأن السياق يدل على ذلك، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى. وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص، لأن أل للعموم وأل للعهد فهما قسيمان، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعاً للآخر. والإبهام في قوله: بما أراك الله وفي: ما لم تكن تعلم. وخطاب عين ويراد به غيره وفي: ولا تكن للخائنين خصيماً فإنه صلى الله عليه وسلّممحروس بالعصمة أن يخاصم عن المبطلين. والتتميم في قوله: وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده، وأصل المعية في الإجرام، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة. وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقد احتمل بهتاناً. والحذف في مواضع.

{لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلاً بَعِيداً * إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلائضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الأٌّنْعَمِ وَلأّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَنُ إِلاَّ غُرُوراً * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً * وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً * لَّيْسَ بِأَمَنِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً * وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ

مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَهِيمَ خَلِيلاً * وَللَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطاً} . {لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي: إلا نجوى من أمر، وقاله: أبو عبيدة. وإن كان النجوى المتناجين قيل: ويجوز في: من الخفض من وجهين: أن يكون تابعاً لكثير، أو تابعاً للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة، وإن شئت اتبعته القوم. ويجوز أن يكون من أمر مجروراً على البدل من كثير، لأنه في حيز النفي، أو على الصفة. وإذا كان منقطعاً فالتقدير: لكن من أمر بصدقة فالخير في نجواه. وقرأ ابن المسيب، ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء: الاأنثا، يريدون وثناً، فأبدل الهمزة واواً، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن، فجمع على وثان كجعل وجمال، ثم وثان على وثن كمثال، ومثل وحمار وحمر. قال ابن عطية: هذا خطأ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع، وإنما يجمع جموع التقليل، والصواب أن يقال: وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد انتهى. وليس قوله: وإنما يجمع جموع التقليل بصواب، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل، نص على ذلك النحويون. وقرأ أيوب السجستاني: الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة، كشقق. وقرأت فرقة: الااثنا بسكون الثاء، وأصله وثناً، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراآت: إناثاً، وأنثاً، وأوثاناً، ووثناً، ووثنا، واثناً، وأثنا. {وَقَالَ لأّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} الواو قيل عاطفة وقيل واو الحال.

{وَلأّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الأٌّنْعَمِ} ومفعول أمر الثاني محذوف أي: ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن. وحذف لدلالة ما بعده عليه. وقرأ أبو عمرو: ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن عطية. وقرأ أبي: وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى. فتكون جملاً مقولة، لا مقسماً عليها. {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} وعنها: لا يجوز أن تتعلق بمحذوف، لأنها لا تتعدّى بعن، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني. وجوزوا أن يكون حالاً من محيص، فيتعلق بمحيص أي: كائناً عنها، ولو تأخر لكان صفة. {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ} والذين مبتدأ، وسيدخلهم الخير. ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي: وسندخل الذين آمنوا سندخلهم. وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره، فوعد الله مؤكداً لقوله: سيدخلهم، وحقاً مؤكد لوعد الله. {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وحكى الطبري عن قوم: أنّ من زائدة، أي: ومن يعمل الصالحات. وزيادة من في الشرط ضعيف، ولا سيما وبعدها معرفة. ومِن الثانية لتبيين الإبهام في: ومن يعمل. وتقدم الكلام في أوفى قوله: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} وهو من مؤمن. جملة حالية.

{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَهِيمَ خَلِيلاً} وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن، ولا تصلح هذه للصلة، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر، أي: لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : ما موقع هذه الجملة؟ (قلت) : هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى. فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله، كأنه يقول: اعترضت الكلام. وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول، وقوله: كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم: والحوادث جمة، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله: وقد أدركتني والحوادث جمة أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل ونحو قال الآخر: ألا هل أتاها والحوادث جمة بل أمرأ القيس بن تملك بيقرا ولا نحفظه جاء آخر كلام.

وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع. منها التجنيس المغاير في: فقد ضل ضلالاً، وفي: فقد خسر خسراناً، وفي: ومن أحسن وهو محسن. والتكرار في: لا يغفر ويغفر، وفي: يشرك ومن يشرك، وفي: لآمرنهم، وفي: اسم الشيطان، وفي: يعدهم وما يعدهم، وفي: الجلالة في مواضع، وفي: بأمانيكم ولا أماني، وفي: من يعمل ومن يعمل، وفي: ابراهيم. والطباق المعنوي في: ومن يشاقق والهدى، وفي: أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي: سواء والصالحات. والاختصاص في: بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي: وهو مؤمن، وملة ابراهيم، وفي: ما في السموات وما في الأرض. والمقابلة في: من ذكر أو أنثى. والتأكيد بالمصدر في: وعد الله حقاً. والاستعارة في: وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي: محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته. والحذف في عدة مواضع.

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَبِ فِى يَتَمَى النِّسَآءِ الَّلَتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَمَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً * وَإِنِ امْرَأَةٌ خَفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَسِعاً حَكِيماً * وَللَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً * وَللَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِئَاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً * مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَلِدَيْنِ

وَالأٌّقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَبِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَبِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلاً بَعِيداً * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً * بَشِّرِ الْمُنَفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْءَايَتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَفِقِينَ وَالْكَفِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .

{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَبِ فِى يَتَمَى النِّسَآءِ الَّلَتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَنِ} ذكروا في موضع ما من الإعراب: الرفع، والنصب، والجر، فالرفع ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفاً على اسم الله أي: الله يفتيكم، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى. قال الزمخشري: يعني قوله: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} وهو قوله أعجبني زيد وكرمه انتهى. والثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في يفتيكم، وحسن الفصل بينهما بالمفعول والجار والمجرور. الثالث: أن يكون ما يتلى مبتدأ، وفي الكتاب خبره على أنها جملة معترضة.

وقيل في هذا الوجه: الخبر محذوف، والتقدير: وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء لكم أو يفتيكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وعلى هذا التقدير في الكتاب بقوله: يتلى عليكم، أو تكون في موضع الحال من الضمير في يتلى، وفي يتامى بدل من في الكتاب. وقال أبو البقاء في الثانية: تتعلق بما تعلقت به الأولى، لأن معناها يختلف، فالأولى ظرف، والثانية بمعنى الباء أي: بسبب اليتامى، كما تقول: جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد. ويجوز أن تتعلق الثانية بالكتاب أي: فيما كتب بحكم اليتامى. ويجوز أن تكون الثانية حالاً، فتتعلق بمحذوف. وأما النصب فعلى التقدير: ويبين لكم ما يتلى، لأن بفتيكم معناها يبين فدلت عليها. وأما الجر فمن وجهين: أحدهما: أن تكون الواو للقسم كأنه قال: وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، والقسم بمعنى التعظيم، قاله الزمخشري: والثاني: أن يكون معطوفاً على الضميرالمجرور في فيهن، قاله محمد بن أبي موسى. وقال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه، وفي ما لم يسألوا عنه. قال ابن عطية: ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض. قال الزمخشري: ليس بسديد أن يعطف على المجرور في فيهن، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى انتهى. والذي ختاره هذا الوجه، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين أنّ ذلك لا يجوز إلا في الشعر، لكن قد ذكرت دلائل جواز ذلك في الكلام. وأمعنتُ في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله: {وكفر به} و {المسجد الحرام} وليس مختلاً من حيث اللفظ، لأنّا قد استدللنا علي جواز ذلك، ولا من حيث المعنى كما زعم الزمخشري، بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي: يفتيكم في مثلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، من إضافة متلو إلى ضميرهن سائغة، إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة لما كان متلواً فيهن صحت الإضافة إليهما. ومن ذلك قول الشاعر: إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة

وأما قول الزمخشري: لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه. قال الزجاج: وهذا بعيد، لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى، أما للفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وذلك غير جائز. كما لم يجز قوله: {تساءلون به والأرحام} وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل، وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب. ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى مفتي فيما سألوه من المسائل انتهى كلامه. وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف، والرفع على العطف على الله، أو على ضمير يخرجه عن التأسيس. وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس، وكذلك الجر على القسم. فالنصب بإضمار فعل، والعطف على الضمير يجعله تأسيساً. وإذا أراد الأمرين: التأسيس والتأكيد، كان حمله على التأسيس هو الأولى، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند اتضاح عدم التأسيس. وتقدم الكلام في تعلق قوله: «في يتامى النساء» . وقال الزمخشري: (فإن قلت) : بم تعلق قوله: في يتامى النساء؟ (قلت) : في الوجه الأول هو صلة يتلى أي: يتلى عليكم في معناهن: ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلاً من فيهنّ. وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير انتهى كلامه. ويعني بقوله في الوجه الأول: أن يكون وما يتلى في موضع رفع، فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى فلا يتصوّر إلا إن كان في يتامى بدلاً من في الكتاب، أو تكون في للسبب، لئلا يتعلق حرف جر بمعنى واحد بفعل واحد، فهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف. وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضاً من أن في يتامى بدل من فيهن، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف. ونظير هذا التركيب: زيد يقيم في الدار وعمرو في كسر منها، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف، والتركيب المعهود: زيد يقيم في الدار في كسر منها. وعمرو واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أنّ

هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذه السورة وهو قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} وقوله: {وآتوا اليتامى أموالهم} وقوله: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة رضيالله عنها: نزلت هذه الآية يعني: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أوّلاً، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن أمر النساء فنزلت: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وما يتلى عليكم فعلى ما قاله المفسرون وما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي، لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت. والإضافة في يتامى النساء من باب إضافة الخاص إلى العامّ، لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى. وقال الكوفيون: هي من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا عند البصريين لا يجوز، وذلك مقرر في علم النحو. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : الإضافة في يتامى النساء ما هي؟ (قلت) : إضافة بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه، كقولك: خاتم حديد، وثوب خز، وخاتم فضة. ويجوز الفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بمن، والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنى اللام، ومعنى اللام الاختصاص. وقرأ أبو عبد الله المدني: في يتامى النساء بياءين، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى، فأبدل من الهمزة ياء، كما قالوا: باهلة بن يعصر، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله: أثناك أن أباك غير لونه كر الليالي واختلاف الأعصر

وقالوا في عكس ذلك: قطع الله أيده يريدون يده، فأبدل من الياء همزة. وأيامى جمع أيم على وزن فعيل، وهو مما اختص به المعتل، وأصله: أيايم كسيايد جمع سيد، قلبت اللام موضع العين فجاء أيامى، فأبدل من الكسرة فتحة انقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال ابن جني: ولو قال قائل كسر أيم على أيمي على وزن سكرى، ثم كسر أيمي على أيامي لكان وجهاً حسناً. {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَمَى بِالْقِسْطِ} هو في موضع جر عطفاً على ما قبله أي: وفي أن تقوموا. والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى موالكم} إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم. والقسط: العدل. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى ويأمركم أن تقوموا. وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم انتهى. وفي ري الظمآن: ويحتمل أن يرفع، وأن تقوموا بالابتداء وخبره محذوف أي: خير لكم انتهى. وإذا أمكن حمله على غير حذف بكونه قد عطف على مجرور كان أولى من إضمار ناصب، كما ذهب إليه الزمخشري. ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره. {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قيل خير أفعل التفضيل وقيل ليس أفعل تفضيل.

وقال الزمخشري: في قوله: والصلح خير، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله: وأحضرت الأنفس الشح. ومعنى إحضار الأنفس الشح: إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه، يعني: أنها مطبوعة عليه. والغرض أنّ المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى. قوله. والصلح خبر جملة اعتراضية، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أنَّ قوله: {وإن يتفرقا} معطوف على قوله: {فلا جناح عليهما أن يصالحا} وقوله: ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضراً لا يغيب عنها أبداً، جعله من باب القلب وليس بجيد، بل التركيب القرآني يقتضي أنّ الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه، لأنّ الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل، إد الأصل: حضرت الأنفس الشح. على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول. فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني، والشح هو المفعول الأول، وقام الثاني مقام الفاعل. والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه. وقرأ العدوي: الشح بكسر الشين وهي لغة. {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} وتذروها يحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على تميلوا، ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي. وكالمعلقة في موضع نصب على الحال، فتتعلق الكاف بمحذوف.

{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّكُمْ} وإياكم عطف على الموصول، وتقدّم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان. ومثل هذا العطف أعني: عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب، ولا يختص بالشعر، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلاً فتقول: آتيك وزيداً. ولا يجوز عنده: رأيت زيداً وإياك إلا في الشعر، وهذا وهم فاحش، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفاً فيجوز قام زيد وأنت، وخرج بكر وأنا، لا خلاف في جواز ذلك. فكذلك ضربت زيداً وإياك. {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِئَاخَرِينَ} قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم. كما أنه قد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني ردم انتهى. وما جوّزه لا يجوز، لأنّ مدلول آخر في اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم، فلو قلت: جاء زيد وآخر معه، أو مررت بامرأة وأخرى معها، أو اشتريت فرساً وآخر، وسابقت بين حمار وآخر، لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه، ولا تثنيته ولا جمعه إلا من جنس ما يكون قبله. ولو قلت: اشتريت ثوباً وآخر، ويعني به: غير ثوب لم يجز، فعلى هذا تجويزهم أن يكون قوله: بآخرين من غير جنس ما تقدم وهم الناس ليس بصحيح، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر، لأنّ غيراً تقع على المغاير في جنس أو في صفة، فتقول: اشتريت ثوباً وغيره، فيحتمل أن يكون ثوباً، ويحتمل أن يكون غير ثوب وقلّ من يعرف هذا الفرق.

{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ} ومن يحتمل أن تكون موصولة والظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب: ولا بد في الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط، والتقدير: ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، هكذا قدّره الزمخشري وغيره. والذي يظهر أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} وأبعد من جوّز أن يكون المعنى في أنفسكم: الأهل واوقارب، وأن يكون «أو الوالدين» تفسيراً لأنفسكم، ويضعفه العطف بأو. وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر. ومن ذهب إلى جعله حالاً من الضمير في قوّامين كأبي البقاء، فقوله ضعيف. لأن فيها تقييداً لقيام بالقسط، سواء كان مثل هذا أم لا. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف، قال ابن عباس: معناه كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كان.

ولو شرطية بمعنى: أنّ وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف، لأن التقدير: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقرير الكلام. وحذف كان بعد لو كثير تقول: ائتني بتمرولو حشفاً، أي: وإن كان التمر حشفاً فائتني به. وقال ابن عطية: ولو على أنفسكم متعلق بشهداء. فإن عنى شهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك، وإن عنى الذي قدّرناه نحن فيصح. وقال الزمخشري: ولو على أنفسكم، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. (فإن قلت) : الشهادة على لوالدين والأقربين أن يقول: أشهدُ أنّ لفلان على والذي كذا وعلى أقاربي، فما معنى الشهادة على نفسه؟ (قلت) : هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها، ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم، أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه. وتقديره: ولو كانت الشهادة على أنفسكم، ليس بجيد، لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه. فإذا قلت: كن محسناً لمن أساء إليك، فتحذف كان واسمها والخبر، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره: ولو كان إحسانك لمن أساء. فلو قلت: ليكن منك إحسان ولو لمن أساء، فتقدر: ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه، ولو قدرته. ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً، لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. وقول الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم هذا لا يجوز، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد، ولا يجوز حذف الكون المقيد، لو قلت: كان زيد فيك وأنت تريد محباً فيك لم يجز، لأنّ محباً مقيداً، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق، وهو: تقدير كائن أو مستقر.

{إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا تمتنع من الشهادة عليه لغناه، أو فقيراً فلا تمنعها ترحماً عليه وإشفاقاً. فعلى هذا الجواب محذوف، لأن العطف هو بأو، ولا يثني الضمير إذا عطف بها، بل يفرد. وتقدير الجواب: فليشهد عليه ولا يراعي الغنيّ لغناه، ولا لخوف منه، ولا الفقير لمسكنته وفقره، ويكون قوله: فالله أولى بهما ليس هو الجواب، بل لما جرى ذكر الغني والفقير. عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي: بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبيّ: فالله أول بهم ما يشهد بإرادة الجنس. وذهب الأخفش وقوم، إلى أنّ أو في معنى الواو، فعلى قولهم يكون الجواب: فالله أولى بهما، أي: حيث شرع الشهادة عليهما، وهو أنظر لهما منكم. ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وقد ذكر العطف بالواو وثم وحتى ما نصه تقول: زيد أو عمر، وقام زيد لا عمرو قام، وكذلك سائر ما بقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم، والذي بقي بل ولكن وأم. قال: لا تقول قاما لأنّ القائم إنما هو أحدهما لا غير، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة، وذلك شذوذ لا يقاس عليه. قال الله تعالى: إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر انتهى. وهذا ليس بسديد. ولا شذوذ في الآية، ولا دليل فيها على جواز زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ، ولا غيره. ولأن قوله: فالله أولى بهما ليس بجواب كما قررناه، والضمير ليس عائداً على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية، وإنما يعود على ما دل عليه المعنى من جنسي الغني والفقير. وقرأ عبد الله: إن يكن غني أو فقير على أنّ كان تامة.

{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} قال ابن عطية يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط كأنه قال: انتهوا خوف أن تجوروا، أو محبة أن تقسطوا. فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى: محبة أن تجوروا انتهى كلامه. وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أنّ تعدلوا فعلاً محذوفاً من معنى النهي، وكان الكلام قد تم عند قوله: فلا تتبعوا الهوى، ثم أضمر فعلاً وقدره: انتهوا خوف أن تجورا، أو محبة أن تقسطوا، ولذلك قال: فإن جعلت العامل تتبعوا. والذي يدل عليه الظاهر أنّ العامل هو تتبعوا، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى، فيكون فعلها عاملاً في أن تعدلوا. وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه، وعلى هذا التقادير فإنَّ تعدلوا مفعول من أجله. وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير: أن لا تعدلوا، فحذف لا، أي: لا تتبعوا الهوى في ترك العدل. {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلاً بَعِيداً} جواب الشرط.

{لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} قال الزمخشري: نفي للغفران والهداية، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام، والمراد: بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى. وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين، وهو أنهم يقولون: إذا قلت لم يكن زيد ليقوم، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم، واللام للتأكيد زيدت في النفي، والمنفي هو القيام، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة. والبصريون يقولون: النصب بإضمار أنْ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر، وذلك المصدر لا يصح أنْ يكون خبراً، لأنه معنى والمخبر عنه جثة. ولكن الخبر محذوف، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة. وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوص من أن المحذوفة، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة. ومعنى قوله: والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم. {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ} والذين: نعت للمنافقين، أو نصب على الذم، أو رفع على خبر المبتدأ. أي: هم الذين. {فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط، والمعنى: أنْ تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة، وانتصب جميعاً على الحال.

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْءَايَتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الخطاب لمن وقرأ الجمهور: وقد نزل مشدداً مبنياً للمفعول. وقرأ عاصم: نزل مشدداً مبنياً للفاعل. وقرأ أبو حيوة وحميد: نزل مخففاً مبنياً للفاعل. وقرأ النخعي: أنزل بالهمزة مبنياً للمفعول، ومحل أن رفع أو نصب على حسب العامل، فنصب على قراءة عاصم، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين. وإنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره: ذلك أنه إذا سمعتم. وما قدره أبو البقاء من قوله: أنكم إذا سمعتم، ليس بجيد، لأنها إذا خففت إنْ لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر، وشأن محذوف، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق وخبر إنْ هي الجملة من إذا وجوابها. ومثال وقوع جملة الشرط خبراً لأنْ المخففة من الثقيلة قول الشاعر: فعلمت أن من تتقوه فإنه جزر لخامعة وفرخ عقاب ويكفر بها في موضع نصب على الحال. {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} وقرىء شاذاً مثلهم بفتح اللام، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله: لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام، والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلاً وهو الظرف، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي: في مثل حالك. فعلى قولهم يكون انتصاب مثلهم على المحل، وهو الظرف.

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون، أو صفة للمنافقين، أو نصب على الذم، أو رفع على خبر الابتداء محذوف. وقرأ ابن أبي عبلة: ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع، والمعنى: ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم، ومنعكم من المؤمنين؟ ونظيره قول الحطيئة: ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودة والإخاء وقال ابن عطية: ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى. يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين. وقرأ أُبي: ومنعناكم من المؤمنين، وهذا معطوف على معنى التقدير: لأن المعنى إما استخوذنا عليكم ومنعناكم كقوله: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا} . إذ المعنى: أما شرحنا لك صدرك ووضعنا.

وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنوناً التجنيس المغاير في: أن يصالحا بينهما صلحاً، وفي: فلا تميلوا كل الميل، وفي: فقد ضل ضلالاً، وفي: كفروا وكفروا. والتجنيس المماثل في: ويستفتونك ويفتيكم، وفي: صلحاً والصلح، وفي: جامع وجميعاً. والتكرار في: لفظ النساء، وفي لفظ يتامى، واليتامى، ورسوله، ولفظ الكتاب، وفي آمنوا ثم كفروا، وفي المنافقين. والتشبيه في: كالمعلقة. واللفظ المحتمل للضدين في: ترغبون أن تنكحوهن. والاستعارة في: نشوزاً، وفي: وأحضرت الأنفس الشح، وفي: فلا تميلوا، وفي: قوامين، وفي: وإن تلووا أو تعرضوا، وفي: ازدادوا كفراً ولا ليهديهم سبيلاً، وفي: يتربصون، وفي: فتح من الله، وفي: ألم نستحوذ، وفي: سبيلاً. وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني. والطباق في: غنياً أو فقيراً، وفي: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين. والاختصاص في: بما تعملون خبيراً خص العمل. والالتفات في: وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين. والحذف في مواضع.

{إِنَّ الْمُنَفِقِينَ يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً * إِنَّ الْمُنَفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأٌّسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً * مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَكِراً عَلِيماً * لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً * إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً * إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَباً مِّنَ السَّمَآءِ

فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَناً مُّبِيناً * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَقاً غَلِيظاً * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَئَايَتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأٌّنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} . {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وهذه الجملة معطوفة على خبر إن. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال. {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون، أو فاعل ولا يذكرون. وقال الزمخشري: مذبذبين: إمّا حال من قوله: ولا يذكرون عن واو يراؤونهم، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو منصوب على الذم.

ويتعلق إلى بمحذوف تقديره. ولا منسوبين إلى هؤلاء، وهو موضع الحال. {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} والسلطان. قال الفراء: أنث وذكر، وبعض العرب يقول: قضت به عليك السلطان، وقد أخذت فلاناً السلطان، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى. فمن ذكر ذهب به إلى البرهان والاحتجاج، ومن أنّث ذهب به إلى الحجة، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر، لأنه وقع الوصف فاصلة، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث. وقال ابن عطية: والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وهذا مخالف لما قاله الفراء. وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير: ذو السلطان، أي: ذو الحجة على الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم. {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} والذين تابوا مستثنى من قوله: في الدرك. وقيل من قوله: فلن تجد لهم. وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر فأولئك. وقال الخوفي: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين. {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ} وما استفهام كما ذكرنا في موضع نصب بفعل، التقدير: أي شيء يفعل الله بعذابكم. والباء للسبب، استشفاء أم إدراك نار، أم جلب منفعة، أم دفع مضرة، فهو تعالى منزه عن ذلك. وأجاز أبو البقاء أنْ تكون ما نافية، قال: والمعنى: ما يعذبكم. ويلزم على قوله أن تكون الباء زائدة، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي: إن شكرتم وآمنتم فما يفعل بعذابكم.

{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} وهذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي: الأجهر من ظلم. وقيل: الاستثناء منقطع والتقدير: لكنّ المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازى ظلامته قاله: السدي، والحسن، وغيرهما. وبالسوء متعلق بالجهر، وهو مصدر معرّف بالألف واللام، والفاعل محذوف، وبالجهر في موضع نصب. ومن أجاز أن ينوي في المصدر بناؤه للمفعول الذي لم يسم فاعله قدّر أنّ بالسوء في موضع رفع، التقدير: أن يجهر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله. وجوّز بعضهم أن يكون من ظلم بدلاً من ذلك الفاعل المحذوف التقدير: أن أحد إلا المظلوم، وهذا مذهب الفراء. أجاز الفراء فيما قام إلا زيد أن يكون زيد بدلاً من أحد. وأما على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل، فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر. وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي، وكأنه قيل: لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. وقرأ ابن عباس، وابن عمر، وابن جبير، وعطاء بن السائب، والضحاك، وزيد بن أسلم، وابن أبي إسحاق، ومسلم بن يسار، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، وأبو رجاء: إلا من ظلم مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع. فقدره الزمخشري: لأن الظالم راكب ما لم يحبه الله فيجهر بالسوء.

وقال قوم: تقديره: لكنّ من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك، فهي ثلاثة تقادير في هذا الاستثناء المنقطع: أحدها: راجع للجملة الأولى وهي لا يجب، كأنه قيل: لكن الظالم يحب الجهر بالسوء فهو يفعله، والثاني: راجع إلى فاعل الجهر أي: لا بحب الله أن يجهر أحد بالسوء، لكنَّ الظالم يجهر بالسوء. والثالث: راجع إلى متعلق الجهر الفضلة المحذوفة أي: أن يجهر أحدكم لأحد بالسوء، لكن من ظلم فاجهروا له بالسوء. قال ابن عطية: وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر انتهى. ويعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد، وما ذكره من جواز الرفع على البدل لا يصح، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين: قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، فهذا فيه البدل في لغة تميم، والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز. وإنما جاز فيه البدل، لأنك لو قلت: ما في الدار إلا حمار صح المعنى. وقسم يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل، وهو مالا يمكن توجه العامل عليه نحو: المال ما زاد إلا النقص. التقدير: لكن النقص حصل له، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص، لأنك لو قلت: ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى، والآية من هذا القسم، لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، فيفع أن يجهر لأنّ يعمل في الظالم لم يصح المعنى. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من مرفوعاً كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو. ومنه {لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} انتهى.

وهذا الذي جوّزه الزمخشري لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغواً زائداً، ولا يمكن أن يكون الظالم بدلاً من الله، ولا عمرو بدلاً من زيد، لأن البدل في هذا الباب راجع في المعنى إلى كونه بدل بعض من كل، إما على سبيل الحقيقة نحو: ما قام القوم إلا زيد، وإما على سبيل المجاز نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز، لأنّ الله علم وكذا زيد هو علم، فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم، فيكون الظالم بدلاً من الله، وعمرو بدلاً من زيد. وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم، ولذلك صح البدل منه على طريق المحاز، وإن لم يكن بعضاً من المستثني منه حقيقة. وأما قول الزمخشري: على لغة من يقول ما جاءني زيد إلا عمرو، فلا نعلم هذه اللغة، إلا أنّ في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتاً من الاستثناء المنقع آخرها قول الشاعر: عشية لا تغني الرّماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم

ما نصه وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه أخوانكم إلا أخوانه، لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها، انتهى كلام سيبويه. ولم يصرح ولا لوح أنّ قوله: ما أتاني زيد إلا عمرو من كلام العرب. وقيل: من شرح سيبويه، فهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، أي ينبغي أن يثبت هذا من كلامهم، لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي، كما أنّ زيداً ليس بعمرو، وكما أن أخوة زيد ليسوا أخوانكم انتهى. وليس ما أتاني زيد إلا عمرو نظيراً للبيت، لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز، كأنه قيل: لا يغني السلاح مكانها إلا المشرفي، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويله حتى يصح البدل، فكان يصح ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو. كأنه يدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء، إما أن يكون على إلغاء هذا الفاعل وزيادته، أو على كون عمرو بدلاً من زيد، فإنه لا يجوز لما ذكرناه. وأما قول الزمخشري: ومنه قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، فليس من باب ما ذكر، لأنه يحتمل أن تكون من مفعولة، والغيب بدلاً من بدل اشتمال أي: لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي ما يسرونه ويخفونه لا يعلمه إلا الله. وإنْ سلّمنا أنّ مَن مرفوعة، فيجوز أن يكون الله بدلاً مِن مَن على سبيل المجاز فييِمن، لأن مَن في السموات يتخيل فيه عموم، كأنه قيل: قل لا يعلم الموجود دون الغيب إلا الله. أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى، ولذا جاء عنه ذلك في القرآن وفي السنة كقوله تعالى:،وهو الله في السموات وفي الأرض وقوله تعالى:،وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وفي الحديث أين الله؟ قالت: في السماء وسمن كلام العرب: لا ودي. وفي السماء بيته يعنون الله تعالى. وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر، وخص الجهر بالذكر إما إخراجاً له مخرج

الغائب، وإمّا اكتفاء بالجهر عن مقابله، أو لكونه أفحش. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقّاً} وأكد بقوله: حقاً، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية، كما تقول: هذا عبد الله حقاً أي حق ذلك حقاً. أو هو نعت لمصدر محذوف أي: كفراً حقاً أي: ثابتاً يقيناً لا شك فيه. أو منصوب على الحال على مذهب سيبويه. وقد تقدم لذلك نظائر، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه وقال: الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقاً الحق الذي هو مقابل للباطل، وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن. {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَئَايَتِ اللَّهِ} والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف الزمخشري: فعلنا هم ما فعلناه. وقدره ابن عطية: لعناهم وأذللناهم، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم. قال ابن عطية: وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى. وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو، ولا تساعده اللغة، لأنه ليس بجواب. وجوزوا أن يتعلق بقوله: {حرمنا عليهم} على أن قوله: {فبظلم من الذين هادوا} بدل من قوله: فبما نقضهم ميثاقهم، وقاله الزجاج، وأبو بكر، والزمخشري، وغيرهم. وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه.

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَناً عَظِيماً} الظاهر في قوله: وبكفرهم، وقولهم أنه معطوف على قوله: فبما نقضهم وما بعده. على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله: وبكفرهم وقولهم، معطوفاً على بكفرهم وقال الزمخشري أيضاً: (فإن قلت) : هلا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم؟ (قلت) : لم يصح هذا التقدير، لأن قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، ردّ وإنكار لقولهم: قلوبنا غلف، فكان متعلقاً به انتهى. وهو جواب حسن، ويمتنع من وجه آخر وهو أنّ العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول، أو الانتقال عاماً في كتاب الله في الإخبار، فلا يكون إلا للانتقال. ويستفاد من الجملة الثاية ما لا يستفاد من الجملة الأولى. والذي قدّره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قرّرناه، لأن قوله: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وقولهم: قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم، فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز. لو قلت: مر زيد بعمرو، بل مر زيد بعمرو، لم يجز. وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وكذا طبع على قلوبهم. وقيل: التقدير فيما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلاً، والفاء مقحمة. وما في قوله: فبما نقضهم كهي في قوله: {فبما رحمة} وتقدّم الكلام فيها. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم. أي: ولكنّ اتباع الظنّ لهم.

وقال الزمخشري: يعني ولكنهم يتبعون الظنّ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقال ابن عطية: هو استثناء متصل، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين. وقد يقول الظان على طريق التجوز: علمي في هذا الأمر أنه كذا، وهو يعني ظنه انتهى. وليس كما ذكر، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين، لأنه ترجيح أحد الجائزين، وما كان ترجيحاً فهو ينافي اليقين، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين. وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر، فلا يكون أيضاً استثناء متصلاً، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم. فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ، والاتباع للظنّ لا يضمنه والعلم جنس ما ذكر. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي: متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم: إنا قتلنا المسيح قاله: السدي. أو نعت لمصدر محذوف أي: قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري. وقال الحسن: وما قتلوه حقاً انتهى. فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك: وما قتلوه حقاً أي: حق انتفاء قتله حقاً. وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً، وإن يقيناً منصوب برفعه الله إليه، والمعنى: بل رفعه الله إليه يقيناً، فلعله لا يصح عنه. وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها.

{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} إنْ هنا نافية، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه، التقدير: وما أحد من أهل الكتاب. كما حذف في قوله: {وإن منكم إلا واردها} والمعنى: وما من اليهود. وقوله: {وما منا إلا له مقام معلوم} أي: وما أحد منا إلا له مقام، وما أحد منكم إلا واردها. قال الزجاج: وحذف أحد لأنه مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو: ما قام إلا زيد، معناه ما قام أحد إلا زيد. وقال الزمخشري: ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإنْ من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه: وما منا إلا له مقام معلوم، وإن منكم إلا واردها. والمعنى: وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به انتهى. وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب، والتقدير كما ذكرناه: وإن أحد من أهل الكتاب. وأما قوله: ليؤمنن به، فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف، إذ لا ينتظم من أحد. والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محط الفائدة. وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام، وكذلك إلا واردها، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي.

قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع. فمنها التجنيس المغاير في: يخادعون وخادعهم، وشكرتم وشاكراً. والمماثل في: وإذا قاموا. والتكرار في: اسم الله، وفي: هؤلاء وهؤلاء، وفي: ويرون ويريدون، وفي: الكافرين والكافرين، وفي: أهل الكتاب وكتاباً، وفي: بميثاقهم وميثاقاً. والطباق في: الكافرين والمؤمنين، وفي: إن تبدوا أو تخفوه، وفي: نؤمن ونكفر، والاختصاص في: إلى الصلاة، وفي: الدرك الأسفل، وفي: الجهر بالسوء. والإشارة في مواضع. الاستعارة في: يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي: سبيلاً، وفي سلطاناً لقيام الحجة والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار، واعتصموا للالتجاء، وفي: أن يفرقوا، وفي: ولم يفرّقوا وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني، وفي: سلطاناً استعير للحجة، وفي: غلف وبل طبع الله. وزيادة الحرف لمعنى في: فبما نقضهم، وإسناد الفعل إلى غير فاعله في: فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي: وقتلهم الأنبياء، وفي: وقولهم على مريم بهتاناً وقولهم إنا قتلنا المسيح. وحسن النسق في: فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط. وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء. وإطلاق اسم كل على بعض وفي: كفرهم بآيات الله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم. والتعريض في رسول الله إذا قلنا أنه من كلامهم. والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف. وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى. والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد. والحذف في مواضع.

{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَلَ النَّاسِ بِالْبَطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً * إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأٌّسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَرُونَ وَسُلَيْمَنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَلاَ بَعِيداً * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ

فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * يأَهْلَ الْكِتَبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَحِدٌ سُبْحَنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى السَّمَوَت وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} . {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} كثيراً منثوب بالمصدر. وأعيدت الباء في: {وبصدهم} لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، بل في العامل فيه. ولم يعد في: {وأخذهم} وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه. ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} . {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} جملة حالية. {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر يؤمنون لا غير، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة. ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف، وانتصب المقيمين على المدح، وارتفع والمؤتون أيضاً على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع. ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله، لأنّ النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فكثر الوصف بأن جعل في جمل.

وقرأ ابن جبير، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو: والمقيمون بالرفع نسقاً على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء. وروي أنها كذلك في مصحف أُبيّ. وقيل: بل هي فيه، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان. وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان: أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف، ولا يصح عنهما ذلك، لأنهما عربيان فصيحان، قطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك.

قال الزمخشري: ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان، وعنى عليه: أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم انتهى. ويعني بقوله: من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوهاً: أحدها: أن يكون معطوفاً على بما أنزل إليك، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة. واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة، فقيل: الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية. وقيل: الملائكة ذكره ابن عطية. وقيل: المسلمون، والتقدير: وندب المقيمين، ذكر ابن عطية معناه. والوجه الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير في منهم أي: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم. الوجه الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في أولئك أي: ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. الوجه الرابع: أن يكون معطوفاً على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير: وما أنزل من قبلك وقيل: المقيمين الصلاة. الوجه الخامس: أن يكون معطوفاً على كاف قبلك ويعني الأنبياء، ذكره ابن عطية. وقال ابن عطية: فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق، وكان أنشده قبل وهو: النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر بحرف العطف الذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى. إنْ منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية. قال الشاعر: ويأوي إلى نسوة عطل وشعث مراضيع مثل السعالى

وكذلك جوززوا في قوله تعالى: والمؤتون الزكاة، وجوهاً على غير الوجه الذي ذكرناه: من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح: أحدها: أنه معطوف على الراسخون. الثاني: على الضمير المستكن في المؤمنون. الثالث: على الضمير في يؤمنون. الرابع: أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه. وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون. ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ أو خبره ما بعده، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة. والأجود إعراب أولئك مبتدأ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده: أنه سيؤتى أولئك سنؤتيهم، فيجعله من باب الاشتغال، فليس قوله براجح، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيداً ضربته، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو: سأضرب زيداً، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال. فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه. {وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} وقرأ حمزة: زبوراً بضم الزاي. قال أبو البقاء: وفيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود. والثاني: أنه جمع زبور على حذف الزائد وهو الواو. وقال أبو علي: كما قالوا طريق وطروق، وكروان وكروان، وورشان وورشان، مما يجمع بحذف الزيادة. ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، والحرث وحريث، وثابت وثبيت، والجمع مثله في القياس وإنْ كان أقل منه في الاستعمال. قال أبو علي: ويحتمل أن يكون جمع زبر أوقع على المزبور كما قالوا: ضرب الأمير، ونسج اليمن. وكما سمي المكتوب كتاباً.

{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَهُمْ عَلَيْكَ} وانتصاب ورسلاً على إضمار فعل أي: قد قصصنا رسلاً عليك، فهو من باب الاشتغال. والجملة من قوله: قد قصصناهم، مفسرة لذلك الفعل المحذوف، ويدل على هذا قراءة أبي ورسلُ بالرفع في الموضعين على الابتداء. وجاز الابتداء بالنكرة هنا، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا: فثوب لبست وثوب أجر. وقال امرؤ القيس: بشق وشق عندنا لم يحوّل ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي: وآتينا داود زبوراً. وقال ابن عطية: الرفع على تقدير وهم: رسل، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة. وجوّزوا أيضاً نصب ورسلاً من وجهين: أحدهما: أن يكون نصباً على المعنى، لأن المعنى: إنا أرسلناك وأرسلنا رسلاً. {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه، هذا هو الغالب. وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز، إلا أنه قليل. فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري: بكى الخز من عوف وأنكر جلده وعجت عجيجاً من جذام المطارف وقال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولاً، فلما قال: تكليماً لم يكن إلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى. {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وانتصب رسلاً على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير. قال: والأوجه أن ينتصب على المدح. وجوّز غيره أن يكون مفعولاً بأرسلنا مقدرة، وأن يكون حالاً موطئة. ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال. وجوّز أن يتعلق بمقدر أي: أرسلناهم بذلك أي: بالبشارة والنذارة لئلا يكون. {لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} تقدم الكلام على لام الجحود. {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} قيل استثناء منقطع.

{قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ} وفي انتصاب خيراً لكم هنا. وفي قوله: انتهوا خيراً لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه: مذهب الجليل، وسيبويه. وأتوا خيراً لكم، وهو فعل يجب إضماره. ومذهب الكسائي وأبي عبيدة: يكن خيراً لكم، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيماناً خيراً لكم وانتهاء خيراً لكم، بجعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله. والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو. {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} هذه الجملة قيل: حال. وقيل: صفة على تقدير نية الانفصال أي: وكلمة منه. ومن هنا لابتداء الغاية، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أن عيسى جزء من الله تعالى، فرد عليه علي بن الحسين بن وافد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله: وروح منه، فأجابه ابن وافد بقوله: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} . وقال: إن كان يجب ذها أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه، فانقطع النصراني وأسلم. وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر. {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَثَةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي: الآلهة ثلاثة. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة، أو الآلهة ثلاثة، أو الأقاليم ثلاثة. وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى. وقال الزجاج: تقديره إلهاً ثلاثة. وقال الفراء وأبو عبيد: تقديره ثلاثة كقوله: {سيقولون ثلاثة} وقال أبو علي: التقدير الله ثالث ثلاثة، حذف المبتدأ والمضاف انتهى.

{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة. وفي الكلام حذف التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيد الله، فإن ضمن عبداً معنى ملكاً لله لم يحتج إلى هذا التقدير، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة. فإن قوله: ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإن لحظ في قوله: ولا الملائكة معنى: ولا كل واحد من الملائكة، كان من عطف المفردات. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ (قلت) : إما أن يعطف على المسيح، أو على اسم يكون، أو على المستتر في عبداً لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، وقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى. والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصاً بالمسيح، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيداً، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمراً ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضاً مرحوجية الوجهين من جهة دخول لا، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون، أو على المستتر في عبداً. لم تدخل لا، بل كان يكون التركيب بدونها تقول: ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين، وتقول: ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.

{فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً * يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} . {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً} وقال الزمخشري: ويهديهم إلى عبادته، فجعل الضمير عائداً على الله تعالى وذلك على حذف مضاف وهذا هو الظاهر، لأنه المحدث عنه، وفي رحمة منه وفضل ليس محدثاً عنهما. قال أبو علي: هي راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى، والمعنى: ويهديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا صراطاً مستقيماً نصباً على الحال كانت الحال من هذا المحذوف انتهى.

{إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، والجملة من قوله: ليس له ولد، في موضع الصفة لامرؤ، أي: إنْ هلك امرؤ غير ذي ولد. وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال، فعلى هذا القول زيداً ضربته العاقل. وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر، ومنع الزمخشري أن يكون قوله: ليس له ولد، جملة حالية من الضمير في هلك، فقال: ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة، لا النصب على الحال. وأجاز أبو البقاء فقال: ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك، وله أخت جملة حالية أيضاً. والذي يقتضيه النظر أنّ ذلك ممتنع، وذلك أنّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب، فصارت كالمؤكدة لما سبق. وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم، إنما هو للمؤكد، إذ هو معتمد الإسناد الأصلي. فعلى هذا لو قلت: ضربت زيداً ربت زيداً العاقل، انبغى أن يكون العاقل نعتاً لزيد في الجملة الأولى، لا لزيد في الجملة الثانية، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى. والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية.

{فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} وقال الزمخشري: (فإن قلت) : إلى مَن يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله: فإن كانتا اثنتين، وإن كانوا أخوة؟ (قلت) : أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً. وإنما قيل: فإن كانتا، وإن كانوا. كما قيل: من كانت أمك، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى. وهو تابع في هذا التخريج غيره، وهو تخريج لا يصح، وليس نظير من كانت أمك، لأنَّ مَن صرّح بها ولها لفظ ومعنى. فمَن أنّث راعى المعنى، لأن التقدير: أية أم كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم، بخلاف الآية، فإنّ المدلولين واحد،. ولم يؤنث في مَن كانت أمك لتأنيث الخبر، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً. ألا ترى إنك تقول: من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر. وذلك وجهان: أحدهما: إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين، إنما هو يعود على الوارثتين، ويكون ثم صفة محذوفة، واثنتين بصفته هو الخبر، والتقدير: فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني: أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكروا، ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وإن كان حذفه قليلاً، ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير: فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك. ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت، فكأنه قيل: فإن كانت أختان له، ونظيره أن تقول: إن كان لزيد أخ فحكمه كذا، وإن كان أخوان فحكمهما كذا. تريد وإن كان أخوان له.

{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} أنْ تضلوا مفعول من أجله، ومفعول يبين محذوف أي: يبين لكم الحق. فقدره البصري والمبرد وغيره: كراهة أن تضلوا. وقرأ الكوفي، والفراء، والكسائي، وتبعهم الزجاج: لأن لا تضلوا، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي: رأينا ما رأى البصراء منا فآلينا عليها أن تباعا أي أن لا تباعا، وحكى أبو عبيدة قال: حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه: «لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجاية» فاستحسنه أي لئلا يوافق. وقال الزجاج هو مثل قوله «إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا» أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا. وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها. وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع. فمن ذلك الطباق في: حرمنا وأحلت، وفي: فآمنوا وإن تكفروا. والتكرار في: وما قتلوه، وفي: وأوحينا، وفي: ورسلاً، وفي: يشهد ويشهدون، وفي: كفروا، وفي: مريم، وفي: اسم الله. والالتفات في: فسوف نؤتيهم، وفي: فسنحشرهم وما بعد ما في قراءة من قرأ بالنون. والتشبيه في: كما أوحينا. والاستعارة في: الراسخون وهي في الاجرام استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه، وفي: سبيل الله، وفي: يشهد، وفي: طريقاً، وفي: لا تغلوا والغلو حقيقة في ارتفاع السعر، وفي: وكيلاً استعير لإحاطة علم الله بهم، وفي: فيوفيهم أجورهم استعير للمجازاة. والتجنيس المماثل في: يستفتونك ويفتيكم. والتفصيل في: فأما الذين آمنوا وأما الذين استنكفوا. والحذف في عدّة مواضع.

سورة المائدة

سورة المائدة {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأٌّنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلَئِدَ وَلاءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَدُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأٌّزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأٌّنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وموضع ما نصب على الاستثناء، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة. قال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل، وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجل إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد انتهى. وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأنّ الذي قبله موجب. فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى عليكم. وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف. وقوله: إلا من نكرة، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو. وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله في مثل هذا التركيب. وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة، أو ما قاربها من أسماء الأجناس، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم. ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماء الأجناس، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكثير والتعريف.

{غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} قرأ الجمهور غير بالنصب. واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال. ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور، الزمخشري، وابن عطية وغيرهما: هو الضمير المجرور في أحلّ لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به، وهو الله تعالى. وقال بعضهم: هو ضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم، هو استثناء من بهيمة الأنعام. وأنّ قوله: غير محلى الصيد، استثناء آخر منه. فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام، وفي المستثنى منه والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء. قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى. وقال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير، وقدروا تقديمات وتأخيرات، وذلك كله غير مرضي، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه. وهو أيضاً ممن خلط على ما سنوضحه. فأمّا قول الأخفش: ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية، بل هي منشئة أحكاماً، وذلك لا يجوز.

وأما قول: من جعله حالاً من الفاعل. وقدّره: وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم، قال كما تقول: أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة، فهو فاسد. لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسياً منسياً، ولا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت: أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباً لدعائهم لم يجز، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كما وضعت صيغته مبنياً للفاعل، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها. وأما ما نقله القرطبي عن البصريين، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى، فنقول: إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلل لهم، أو من المحلل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم. وغرّهم في ذلك كونه كتب محلى بالياء، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة. وأصله: غير حلين الصيد وأنتم حرم، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف، فلا يقدر فيه حذف النون، بل حذف التنوين. وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: محلى الصيد، من باب قولهم: حسان النساء. والمعنى: النساء الحسان، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل. والمحل صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف.

وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ، أو صار ذا حل، اتضح كونه استثناء من استثناء، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم. لأنّ المستثنى من المحلل محرم، والمستثنى من المحرم محلل. بل إن كان المعنى بقوله: بهيمة الأنعام، الأنعام أنفسها، فيكون استثناء منقطاً. وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل، استثنى الصيد الذب بلغ الحل في حل كونهم محرمين. (فإن قلت) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ (قلت) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم، وإن كان حلالاً لغيره، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله: حرمت عليكم الميتة الآية، استثناء منقطعاً، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي: تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش، فيكون الاستثناآن راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول. وإذا لم يمكن ذلك، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيداً، إلا عمراً، إلا بكراً (فإن قلت) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد، لا من صفة الناس، ولا من صفة الفاعل المحذوف، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس، إذ لو كان من

صفة الصيد لم يكتب بالياء، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك. (قلت) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: باييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف، وبنقصهم منه ألفاً. وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين، وهذا كثير في الرسم. وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على {سندع الزبانية} من غير واو اتباعاً للرسم. على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء، فكتب محلى بالياء على الوقف على هذه اللغة، وهذا توجيه شذوذ رسمي، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه. وقرأ ابن أبي عبلة: غير بالرفع، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الأنعام، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية: لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلى الصيد وأنتم حرم جملة حالية.

{ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} قال ابن عباس وقتادة: ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم، يقال: جرمني كذا على بغضك. فيكون أنْ تعتدوا أصله على أن تعتدوا، وحذف منه الجار. وقال قوم: معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي: اعتداؤكم عليكم. وتتعدى أيضاً إلى واحد تقول: أجرم بمعنى كسب المتعدّية لاثنين، يقال في معناها: جرم وأجرم. وقال أبو علي: أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب. وقرأ الحسن، وابراهيم. وابن وثاب، والوليد عن يعقوب: يجرمنكم بسكون النون، جعلوا نون التوكيد خفيفة. قال الزمخشري: والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم، لأنّ صدوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون: أن تعتدوا في محل مفعول به، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر.

وقرأ النحويان وابن كثير، وحمزة، وحفص، ونافع: شنآن بفتح النون. وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها، ورويت عن نافع. والأظهر في الفتح أن يكون مصدراً، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان، وجوزوا أن يكون وصفاً وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم: حمار قطوان أي: عسير السير، وتيس عدوان كثير العدو، وليس في الكثرة كالمصدر. قالوا: فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم. ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل، لأنه من شنيء بمعنى البغض. وهو متعد وليس مضافاً للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدراً، فإنه يحتمل أن يكون مضافاً للمفعول وهو الأظهر. ويحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي: بغض قوم إياكم، والأظهر في السكون أن يكون وصفاً، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة، وقياس هذا أنه من فعل متعد. وحكى أيضاً شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى، وقياسه أنه من فعلا لازم. وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو: فغر فاه، وغرَّفوه بمعنى فتح وانفتح. وجوز أن يكون مصدراً وقد حكى في مصادر شنيء، ومجيء المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل، قالوا: لويته دينه لياناً. وقال الأحوص: وما الحب إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا أصله الشنآن، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: إنْ صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية، ويؤيد قراءة ابن مسعود: إنْ صدوكم. {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء متصل من ما أكل السبع وقيل هو منقطع والأظهر الأول. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأٌّزْلاَمِ} معطوف على ما قبله داخل في التحريم. وما الحب إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

أصله الشنآن، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: إنْ صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية، ويؤيد قراءة ابن مسعود: إنْ صدوكم. {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء متصل من ما أكل السبع وقيل هو منقطع والأظهر الأول. {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأٌّزْلاَمِ} معطوف على ما قبله داخل في التحريم. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ

لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاماً، والجملة خبر. ويحتمل أن يكون ما استفهاماً، وذا خبراً. أي: ما الذي أحل لهم؟ والجملة إذ ذاك صلة. والظاهر أنّ المعنى: ماذا أحل لهم من المطاعم، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائص، سألوا عما يحل لهم؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربن ولأضربن، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها. وقال الزمخشري: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل: يقولون: ماذا أحل لهم انتهى. ولا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه من باب التعليق كقوله: سلهم أيهم بذلك زعيم، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب للعلم، فكما تعلق العلم فكذلك سببه. {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله: علمتم، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه. وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات، ويكون حذف مضاف أي: وصيد ما علمتم، وقدره بغضهم: واتخاذ ما علمتم. أو رفع على الابتداء، وما شرطية، والجواب: فكلوا. وهذا أجود، لأنه لا إضمار فيه. {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره: وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك.

والجملة من قوله: تعلمونهن، حال ثانية. ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير: أن لا تكون ما من قوله: وما علمتم من الجوارح، شرطية، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه. {وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ} هذا معطوف على قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب. {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وقيل: الباء للتبعيض، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم، وقال من لا خبرة له بالعربية. الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله {ومن يرد فيه بإلحاد} {وهزِّي إليك بجذع النخلة} {ولا تلقوا بأيديكم} أي إلحاد أو جذع وأيديكم. وقال الفراء: تقول العرب هزه وهزّ به، وخذ الخطام وبالخطام، وحز رأسه وبرأسه، ومده ومد به. وحكى سيبويه: خشنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد، وهذا نص في المسألة. ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز، وهو تأويل ضعيف جداً، ولم يرد إلا في النعت، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية، أو تأول على أنّ الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل، وحذف الفعل وحرف الجرّ، وهذا تأويل في غاية الضعف.

وقرأ نافع، والكسائي، وابن عامر، وحفص: وأرجلكم بالنصب. واختلفوا في تخريج هذه القراءة، فقيل: هو معطوف على قوله: وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض، بل هي منشئة حكماً. وقال أبو البقاء: هذا جائز بلا خلاف. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج. وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل، وأما مَن يرى المسح فيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح. وقرأ الحسن: وأرجلكم بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي: اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح. {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله: {يريد الله ليبين لكم} فأغنى عن إعادته. ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام، جعل زيادة في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج.

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * يَأَيُّهَآ الَّذِينَءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * يَأَيُّهَآ الَّذِينَءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} تعدى يجرمنكم بعلى وهو خلاف الأصل فلعله ضمن معنى ما يتعدى بها. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} ووعد تتعدى لأنين، والثاني محذوف تقديره: الجنة، وقد صرح بها في غير هذا الموضع. والجملة من قوله: لهم مغفرة، مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب، لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر. وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإعراب.

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلوةَ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَوةَ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَتِكُمْ وَلائدْخِلَنَّكُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَرَى أَخَذْنَا مِيثَقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * يَأَهْلَ الْكِتَبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَبٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا

يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَرَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَأَهْلَ الْكِتَبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَلَمِينَ * يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأٌّرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَرِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَسِرِينَ * قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَلِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَمُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الأٌّرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ

الْفَسِقِينَ} . {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلوةَ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَوةَ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَتِكُمْ وَلائدْخِلَنَّكُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ} اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها، وبعد أداة الشرط أن يكون جواباً للقسم، ويحتمل أن يكون القسم محذوفاً، ويحتمل أن يكون لأكفرن جواباً لقوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، ويكون قوله: وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال، أو يكونان جملتي اعتراض، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. وقال الزمخشري: وهذا الجواب يعني لأكفرنّ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً انتهى. وليس كما ذكر لا يسدّ وكفرن مسدَّهما، بل هو جواب القسم فقط، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا. {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} ويحتمل أن يكون الخائنة مصدراً كالعافية، ويدل على ذلك قراءة الأعمش على خيانة، أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة، أو فعلة خائنة، أو نفس خائنة. والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله: ابن عباس. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في الأفعال أي: إلا فعلاً قليلاً منهم، فلا تطلع فيه على خيانة. وقيل: الاستثناء من قوله: {وجعلنا قلوبهم قاسية} . {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَرَى أَخَذْنَا مِيثَقَهُمْ} الظاهر أنّ من تتعلق بقوله: أخذنا وأنَّ الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول، وأنّ الجملة معطوفة على قوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} .

{قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ومه ومن في الأرض جميعاً} هذا ردّ عليهم. والفاء في: فمن للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير: قل كذبوا، وقل ليس كما قالوا فمن يملك. {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول، أي محبوبوه، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو: لبيب وألباء. {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار، أو يكون هو المذكور في الآية. قبل هذا، أي: يبين لكم ما كنتم تخفون، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي: شرائع الدين. أو حذف اقتصاراً واكتفاء بذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل، دون أن يقصد تعلقه بمفعول، والمعنى: يكون منه التبيين والإيضاح. ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال. وعلى فترة متعلق بجاءكم، أو في موضع نصب على الحال، وأن تقولوا: مفعول من أجله فقدو البصريون: كراهة أو حذار أن تقولوا. وقدره الفراء: لئلا تقولوا. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ} وقرأ ابن محيصن: ياقُوم بضم الميم، وكذا حيث وقع في القرآن، وروى ذلك عن ابن كثير. وهذا الضم هو على معنى الإضافة، كقراءة من قرأ: قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدى اللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم. {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله: رجلان، وصفا أولاً بالجار والمجرور، ثم ثانياً بالجملة. وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما، وجوز أن تكون الجملة حالاً على إضمار قد، وأن تكون اعتراضاً، فلا يكون لها موضع من الإعراب.

{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل، وقد تقدّم الكلام على ذلك في قوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر، فيكون من عطف الجمل التقدير: فاذهب وليذهب ربك. وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال، وربك مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف. أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما: وربك يعينك، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا. {إِنَّا هَهُنَا قَعِدُونَ} هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال، ولا على الرجوع من حيث جاءوا، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم. وها من قوله هاهنا للتنبيه، وهنا ظرف مكان للقريب، والعامل فيه قاعدون. ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له. وهو أفصح. {قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعاً بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: وأخي لا يملك إلا نفسه، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة، أو منصوباً عطفاً على اسم إنّ أي: وإن أخي لا يملك إلا نفسه، والخبر محذوف، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو: إن زيداً قائم وعمراً شاخص، أي: وإنّ عمراً شاخص. وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكن في أملك، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور. ويلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان الأنفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط. وجوز أيضاً أن يكون مجروراً معطوفاً على ياء المتكلم في نفسي، وهو ضعيف على رأي البصريين.

{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الأٌّرْضِ} والظاهر أن العامل في قوله: أربعين محرمة، فيكون التحريم مقيداً بهذه المدة، ويكون يتيهون مستأنفاً أو حالاً من الضمير في عليهم. ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي: يتيهون هذه المدة في الأرض. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى. ولا أدري ما الحامل له على قوله: إن العامل مضمر كما ذكر؟ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه، لا مضمر يفسره قوله: يتيهون في الأرض.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْءْادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الأٌّخَرِ قَالَ لأّقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأًّقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَلَمِينَ * إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَبِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّلِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأٌّرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّدِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأٌّرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِى الأٌّرْضِ لَمُسْرِفُونَ * إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأٌّرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأٌّرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَئَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ

وَجَهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَلاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْءْادَمَ بِالْحَقِّ} ويحتمل قوله: بالحق، أن يكون حالاً من الضمير في: واتل أي: مصحوباً بالحق، وهو الصدق الذي لا شك في صحته، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف أي: تلاوة ملتبسة بالحق، والعامل في إذ نبأ أي حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي: اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف انتهى. ولا يجوز ما ذكر، لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان، ونبأ ليس بزمان. {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَناً} وقال الزمخشري: يقال: قرب صدقة وتقرب بها، لأن تقرب مطاوع قرب انتهى. وليس تقرّب بصدقة مطاوع قرب صدقة، لاتحاد فاعل الفعلين، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل، فيكون من أحدهما فعل، ومن الآخر انفعال نحو: كسرته فانكسر، وفلقته فانفلق، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش.

{لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأًّقْتُلَكَ} قال الزمخشري: (فإن قلت) : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: لئن بسطت ما أنا بباسط؟ (قلت) : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى. وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري، وهو كلام فيه انتقاد. وذلك أن قوله: ما أنا بباسط، ليس جزاء بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في لئن المؤذنة بالقسم والموطئة للجواب، لا للشرط. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، ولو كان جواباً للشرط لكان بالفاء، فإنه إذا كان جواب الشرط منفياً بما فلا بد من الفاء كقوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} ما كان حجتهم إلا أن قالوا: ولو كان أيضاً جواباً للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية من أنه إذا تقدم القسم على الشرط فالجواب للقسم لا للشرط. وقد خالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة في قوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} . فقال: ما تبعوا جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط، وتكلمنا معه هناك فينظر.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ} وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح، والحسن بن عمران، وأبو واقد: فطاوعته، فيكون فاعل فيه الاشتراك نحو: ضاربت زيداً، كان القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل، أو كان النفس تأبى ذلك ويصعب عليها، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فوافقته. وقال الزمخشري: فيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أن قتل أخيه، كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك: حفظت لزيد ماله انتهى. فأما الوجه الثاني فهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه: ضاعفت وضعفت مثل: ناعمت ونعمت. وقال: فجاءوا به على مثال عاقبته، وقال: وقد يجيء فاعلت لا يريد بها عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت، وذكر أمثلة منها عافاه الله. وهذا المعنى وهو أنّ فاعل بمعنى فعل، أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف: كابن عصفور، وابن مالك، وناهيك بهما جمعاً واطلاعاً، فلم يذكر أنّ فاعل يجيء بمعنى فعل، ولا فعل بمعنى فاعل. وقوله: وله لزيادة الربط، يعني: في قوله فطوعت له نفسه، يعني: أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام، إذ الربط يحصل بدونه. كما إنك لو قلت: حفظت مال زيد كان كلاماً تاماً. {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأٌّرْضِ لِيُرِيَهُ} وعلق ليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. ويجوز أن يتعلق بقوله: فبعث.

{يَوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِى} وقرأ الجمهور: فأواريَ بنصب الياء عطفاً على قوله: أن أكون. كأنه قال: أعجزتُ أن أواريَ سوءة أخي. وقال الزمخشري: فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى. وهذا خطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء، وهنا تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى: إن تزرني أكرمك. وقال تعالى: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا. ولو قلت هنا: إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارِ سوءة أخي لم يصح، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب. وقرأ طلحة بن مصرف، والفياض بن غزوان: فأواريْ بسكون الياء، فالأولى أن يكون على القطع أي: فأنا أواري سوءة أخي، فيكون أواري مرفوعاً. وقال الزمخشري: وقرىء بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني: الزمخشري: وقرىء بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني: أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة. وقال ابن عطية: هي لغة لتوالي الحركات انتهى. ولا ينبغي أن يخرج على النصب، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً كما أشار إليه الزمخشري، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات، لأنه لم يتوال فيه الحركات. وهذا عند النحويين ـ أعني النصب ـ بحذف الفتحة، لا يجوز إلا في الضرورة، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على جه صحيح، وقد وجد وهو الاستئناف أي: فأنا أواري.

{مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأٌّرْضِ} ومن لابتداء الغاية أي: ابتداء الكتب، ونشأ من أجل القتل، ويدخل على أجل اللام لدخول من، ويجوز حذف حرف الجر واتصال الفعل إليه بشطه في المفعول له. ويقال: فعلت ذلك من أجلك ولأجلك. وقوله: أو فساد، هو معطوف على نفس أي: وبغير فساد. {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِى الأٌّرْضِ لَمُسْرِفُونَ} والعامل في بعد، والمتعلق به في الأرض خبر إن، ولم تمنع لام الابتداء من العمل في ذلك وإن كان متقدماً، لأنّ دخولها على الخبر ليس بحق التأصل. {وَيَسْعَوْنَ فِى الأٌّرْضِ فَسَاداً} وانتصب فساداً على أنه مفعول له، أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى يسعون في الأرض معناه: يفسدون، لمّا كان السعي للفساد جعل فساداً. أي: إفساداً. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ومثله معطوف على اسم إن، لام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن وهو لهم.

ووجد الضمير في به، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف، وهو ما في الأرض ومثله معه، إمّا لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد كما قالوا: رب يوم وليلة مرّ بي، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال: ليفتدوا بذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في: ومثله، بمعنى مع، فيوحد المرجوع إليه. (فإن قلت) : فبم ينتصب المفعول معه؟ (قلت) : بما تستدعيه لو من الفعل، لأن لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض انتهى. وإنما يوحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر، والحال، وعود الضمير متأخراً حكمة متقدماً، تقول: الماء والخشبة استوى، كما تقول: الماء استوى والخشبة وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول: الماء مع الخشبة استويا، ومنع ذلك ابن كيسان. وقول الزمخشري: تكون الواو في: ومثله، بمعنى مع ليس بشيء، لأنه يصير التقدير مع مثله معه، أي: مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض، إنْ جعلت الضمير في معه عائداً على مثله أي: مع مثله مع ذلك المثل، فيكون المعنى مع مثلين. فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عيّ، إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه. وقول الزمخشري. فإنْ قلت إلى آخر السؤال، وهذا السؤال لا يردّ، لأنّا قد بينا فساد أنْ تكون الواو واو مع، وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أنّ الواو إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية، فيكون التقدير على هذا: لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به، فيكون الضمير عائداً على ما فقط. وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد في أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، وهو مذهب مرجوح. ومذهب سيبويه أنّ أنْ بعد لو في موضع رفع على الابتداء. والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة، وعلى التفريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون ومثله مفعولاً معه، ويكون العامل فيه ما ذكر

من الفعل، وهو ثبت بوساطة الواو لما تقدم من وجود لفظ معه. وعلى تقدير سقوطها لا يصح، لأنّ ثبت ليست رافعة لما العائد عليها الضمير، وإنما هي رافعة مصدراً منسبكاً من أن وما بعدها وهو كون، إذ التقدير: لو ثبت كون ما في الأرض جميعاً لهم ومثله معه ليفتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون. فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل، والمعنى: على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل، لا على ثبوت ذلك مصاحباً للمثل، وهذا فيه غموض، وبيانه، أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمر، أو جعلت عمراً مفعولاً معه، والعامل فيه يعجبني، لزم من ذلك أنّ عمراً لم يقم، وأنه أعجبك القيام وعمرو، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائماً، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً لقيام عمرو. (فإن قلت) : هلا، كان ومثله معه مفعولاً معه، والعامل فيه هو العامل في لهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذه الجملة يجوز أن تكون عطفاً على خبر: {إن الذين كفروا} ويجوز أن تكون عطفاً على {إن الذين كفروا} ، وجوزوا أنْ تكون في موضع الحال وليس بقوي.

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} وقرأ الجمهور: والسارق والسارقة بالرفع. وقرأ عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم، وقال الخفاف: وجدت في محصف أبيّ والسُّرق والسرقة بضم السين المشددة فيهما كذا ضبطه أبو عمرو. قال ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه. والرفع في والسارق والسارقة على الابتداء، والخبر محذوف والتقدير: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم، السارق والسارقة أي: حكمهما. ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله: فاقطعوا، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور، أي جملة صالحة لأداة الشرط. والموصول هنا ألْ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه. وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني: أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ، والخبر جملة الأمر، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه: الذي سرق والتي سرقت. ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك، تأوله على إضمار الخبر فيصير تأوله: فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة. جملة ظاهرها أن تكون مستقلة، ولكن المقصود هو في قوله: فاقطعوا، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة: والسارقَ والسارقة بالنصب على الاشتغال. قال سيبويه: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول: زيداً فاضربه، ولكنْ أبت العامة إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم. ولما كان معظم القراء على الرفع، تأوله سيبويه على وجه يصح، وهو أنه جعله مبتدأ، والخبر محذوف، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجاً على غير الوجه في كلام العرب، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده. وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي بن

خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء، ويدل على فساده وجوه: الأول: أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول، وعن أعلام الأمة، وذلك باطل قطعاً. (قلت) : هذا تقول على سيبويه، وقلة فهم عنه، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع، بل وجهها التوجيه المذكور، وأفهم أنّ المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الاتبداء فيه، وكون جملة الأمر خبره، أو لم ينصب الاسم، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيداً أضربه على ما تقرر في كلام العرب، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء. فقوله: أبت العامة إلا الرفع تقوية لتخريجه، وتوهين للنصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز، إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب. فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر، فكيف يكون طاعناً في الرفع؟ وقد قال سيبويه: وقد يحسن ويستقيم: عبد الله فاضربه، إذا كان مبنياً على مبتدأ مضمر أو مظهر، فأما في المظهر فقولك: هذا زيد فاضربه، وإن شئت لم تظهر هذا ويعمل عمله إذا كان مظهراً وذلك قولك: الهلال والله فانظر إليه، فكأنك قلت: هذا الهلال ثم جئت بالأمر. ومن ذلك قول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم واكرومة الحيين خلو كما هيا هكذا سمع من العرب تنشده انتهى. فإذا كان سيبويه يقول: وقد يحسن ويستقيم. عبد الله فاضربه، فكيف يكون طاعناً في الرفع، وهو يقول: أنه يحسن ويستقيم؟ لكنه جوزه على أنّ يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر، كما تأوله في السارق والسارقة، أو خبر مبتدأ محذوف كقوله: الهلال والله فانظر إليه.

وقال الفخر الرازي: (فإن قلت) : ـ يعني سيبويه ـ لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول: القراءة بالنصب أولى، فنقول له: هذا أيضاً رديء، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود. (قلت) : هذا السؤال لم يقله سيبويه، ولا هو ممن يقوله، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه؟ وأيضاً فقوله: لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين تشنيع، وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه، وليس كذلك، بل قراءته مستندة إلى الصحابة وإلى الرسول، فقراءته قراءة الرسول أيضاً، وقوله: وجميع الأمة، لا يصح هذا الإطلاق لأنّ عيسى بن عمر وابراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة. وقال سيبويه: وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني، فأخبر أنها قراءة ناس. وقوله: وجميع الأمة لا يصح هذا العموم. قال الفخر الرازي: الثاني: من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} بالنصب، ولما لم يوجد في القراءة أحد قرأ كذلك، علمنا سقوط هذا القول. (قلت) : لم يدّع سيبويه أنّ قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر، وإنما قال سيبويه: وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع. ويعني سيبويه بقوله: من القوة، لو عرى من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء، وجملة الأمر خبره، ولكن أبت العامة أي ـ جمهور القراء ـ إلا الرفع لعلة دخول الفاء، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبراً لهذا المبتدأ، فلما دخلت الفاء جح الجمهور الرفع. ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في

الأمر والنهي، لم يمثله بالفاء بل عارياً منها. قال سيبويه: وذلك قولك: زيداً اضربه وعمراً أمر ربه، وخالداً اضرب أباه، وزيداً اشتر له ثوباً ثم قال: وقد يكون في الأمر والنهي أن يبني الفعل على الاسم وذلك قوله: عبد الله فاضربه، ابتدأت عبد الله فرفعت بالابتداء، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر. فإذا قلت: زيداً فاضربه، لم يستقم، لم تحمله على الابتداء. ألا ترى أنك لو قلت: زيد فمنطلق، لم يستقم؟ فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبراً عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر. ثم قال سيبويه: فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره. لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء، أجاز نصبه على الاشتغال، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ.

وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه: أن الجملة الواقعة أمراً بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء، وجملة الأمر خبره، فإنْ دخلت عليه الفاء فإمّا أنْ تقدرها الفاء الداخلة على الخبر، أو عاطفة. فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ وجملة الأمر خبره، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى اسم الشرط لشبهه به، وله شروط ذكرت في النحو. وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعاً، إما مبتدأ كما تأول سيبويه في قوله: والسارق والسارقة، وإما خبر مبتدأ محذوف كما قيل: القمر والله فانظر إليه. والنصب على هذا المعنى دون الرفع، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء، وإلى حذف الفعل الناصب، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها. فإذا قلت زيداً فاضربه، فالتقدير: تنبه فاضرب زيداً اضربه. حذفت تنبه، وحذفت اضرب، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر. وكان الرفع أولى، لأنه ليس فيه لا حذف مبتدأ، أو حذف خبر. فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط، والفاء واقعة في موقعها، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى. قال سيبويه: وأما قوله عز وجل: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فإنّ هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} ثم قال بعد فيها: أنهار فيها كذا وكذا، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنه قال: ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه والله أعلم. وكذلك الزانية والزاني لما قال تعالى: {سورة أنزلناها وفرضناها} قال في الفرائض: {الزانية والزاني أو الزانية والزاني} في الفرائض ثم قال: فاجلدوا، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال: وقائلة خولان فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير، وكذلك السارق والسارقة. كأنه قال: مما فرض عليكم السارق

والسارقة، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم. وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى. فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة. فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين. وقول الرازي: لوجب أن يكون في القراء من قرأ: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} بالنصب إلى آخر كلامه، لم يقل سيبويه أن النصب في مثل هذا التركيب أولى، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب واللذان يأتيانها، بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله: والسارق والسارقة، لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف وهو قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} فخرج سيبويه الآية على الإضمار. وقال سيبويه: وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء، أو توصي، ثم تقول: زيد أي زيد فيمن أوصى فأحسن إليه وأكرمه، ويجوز في: واللذان يأتيانها منكم، أن يرتفع على الابتداء، والجملة التي فيها الفاء خبر لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره لشبهه باسم الشرط، بخلاف قوله: والسارق والسارقة، فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط، فلا يشبه به في دخول الفاء.

قال الفخر الرازي: الثالث يعني: من وجوه فساد قول سيبويه إنا إنما قلنا السارق والسارقة مبتدأ، وخبره هو الذي يضمره، وهو قولنا: فيما يتلى عليكم، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله: فاقطعوا أيديهما. (قلت) : تقدم لنا حكمه المجيء بالفاء وما ربطت، وقد قدره سيبويه: ومما فرض عليكم السارق والسارقة، والمعنى: حكم السارق والسارقة، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم، فناسب تقدير سيبويه. وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك. قال الفخر الرازي: فإن قال ـ يعني سيبويه ـ الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله: والسارق والسارقة، يعني: أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده، فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق، فاذكر هذا أولاً حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته. (قلت) : هذا لا يقوله سيبويه، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها. قال الفخر الرازي: الرابع: يعني من وجوه فساد قول سيبويه إذا اخترنا القراءة بالنصب، لم تدل على أنّ السرقة علة لوجوب القطع. وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله: جزاء بما كسبت، فثبت أن القراءة بالرفع أولى. (قلت) : هذا عجيب من هذا الرجل، يزعم أنّ النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع ويفيدها الرفع، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب علىه الحكم؟ فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب لو قلت: السارق ليقطع، أو اقطع السارق، لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل. وكذلك الزاني ليجلد، أو اجلد الزاني. ثم قوله: إن هذا المعنى متأكد بقوله: جزاء بما كسباً، والنصب أيضاً يحسن أن يؤكد بمثل هذا، لو قلت: اقطع اللص جزاء بما كسب صح.

وقال الفخر الرازي: الخامس: يعني من وجوه فساد قول سيبويه، أن سيبويه قال: وهم يقدمون الأهم فالأهم. والذي هم ببيانه أعني: فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث أنه سارق، وأمّا القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أثم من العناية بكونه سارقاً. ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أنّ القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً. (قلت) : الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول. قال سيبويه: فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول يعني: في ضرب عبد الله زيداً قال: وذلك ضرب زيداً عبد الله، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخراً في اللفظ، فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً، وهو عربي جيد كثير كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم، وهم ببيانه أعني: وإن كانا جميعهاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى.

والرازي حرف كلام سيبويه وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه وهو المبتدأ والخبر، فإنه ليس فيه إلا نسبة واحدة بخلاف الفاعل والمفعول، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب فيقدم الفاعل، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول، لأن نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما. وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده. وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه، والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العوم حتى صنف في النحو كتاباً سماه المحرر، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ومن مقاصدهم، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف ويقول: إنه ليس جارينا على مصطلح القوم، وإنْ ما سلكه في ذلك من التخليط في العلوم، ومن غلب عليه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن أو قريباً منه من هذا المعنى، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب ويستزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله. وكان أبو جعفر يقول: لكل علم حد ينتهي إليه، فإذا رأيت متكلماً في فن مّا ومزجه بغيره فاعلم أنّ إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه، وإما أن يكون من قلة محصوله وقصوره في ذلك العلم، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه.

وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب والسارق والسارقة ما نصه: ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر فاقطعوا أيديهما، ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط، لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما، والاسم الموصول تضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر، لأن زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى. وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط، ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور، بل الموصول هنا ال وصلة، ال لا تصلح لأداة الشرط، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صار الإعراب في الصلة بخلاف الظرف والمجرور، فإن العامل فيهما جملة لا تصلح لأداة الشرط. وأما قوله: في قراءة عيسى، إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان: أحدهما زيداً اضربه، والثاني زيد فاضربه. فالتركيب الأول اختار فيه النصب، ثم جوزوا الرفع بالابتداء. والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء، وتكون الجملة الأمرية خبراً له لأجل الفاء. وأجاز نصبه على الاشتغال، أو على الإغراء، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف أي: هذا زيد فاضربه، ثم ذكر الآية فخرجها على حذف الخبر، ودل كلامه أنّ هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين: الأولى ابتدائية، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة، إنما قال: وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة أي: نصبها على الاشتغال أو الإغراء، وهو قوي لا ضعيف، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء. وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره، أو خبر حذف مبتدئه، وبين نصبه على الاشتغال بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى، وزحلقة الفاء عن موضعها.

{جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَلاً مِّنَ اللَّهِ} قال الكسائي: انتصب جزاء على الحال. وقال قطرب: على المصدر، أي: جازاهم جزاء. وقال الجمهور: هو على المفعول من أجله، وبما متعلق بجزاء، وما موصولة أي: بالذي كسباه. ويحتمل أن تكون مصدرية أي: جزاء بكسبهما، وانتصاب نكالاً على المصدر، أو على أنه مفعول من أجله. والعذاب: النكال، والنكل القيد تقدّم الكلام فيه في قوله: {فجعلناها نكالاً} . وقال الزمخشري: جزاء ونكالاً مفعول لهما انتهى، وتبع في ذلك الزجا. قال الزجاج: هو مفعول من أجله يعني جزاء. قال: وكذلك نكالاً من الله انتهى. وهذا ليس بجيد. إلا إذا كان الجزاء هو النكال، فيكون ذلك على طريق البدل. وأما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف. {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وظلمه مضاف إلى الفاعل أي: من بعد أن ظلم غيره بأخذ مال أو سرقة. قيل: أو مضاف إلى المفعول أي: من بعد أن ظلم نفسه. وفي جواز هذا الوجه نظر إذ يصير التقدير: من بعد أن ظلمه. ولو صرح بهذا لم يجز، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن، وفقد، وعدم.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْءَامَنَّا بِأَفْوَهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هًّادُواْ سَمَّعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّلُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأٌّحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِئَايَتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأٌّنْفَ

بِالأٌّنْفِ وَالاٍّذُنَ بِالاٍّذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَرِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَءَاتَيْنَهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ * وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآءَاتَكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .

المهيمن: الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا: ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ: هيمن، وسيطر، وبيطر، وحيمر، وبيقر، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب، ومعناه: سار من الحجاز إلى اليمن، ومن أفق إلى أفق. وهيمن بنا أصل. وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال: فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا: اهراق في اراق، وهياك في إياك، وهذا تكلف لا حاجة إليه، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها. وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن، وأبدلت همزته هاء، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول. واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر. {سَمَّعُونَ لِلْكَذِبِ} ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله، ويكون المعنى: إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك، وينقلون حديثك، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً. وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله: سماعون، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل. {سَمَّعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} جملة لم يأتوك في محل جر صفة لقوم. {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ} والواو في: وعندهم، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر، وقوله: فيها. حكم الله، حال من التوراة، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي: كائناً فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبراً عن التوراة كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وأو لا محل له، وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري.

{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ} قال الزمخشري: (فإن قلت) : علام عطف ثم يتولون؟ (قلت) : على يحكمونك انتهى. {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَبِ اللَّهِ} الباء للسبب. {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم: بنصب، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّ النصب، وخبر أنّ هو المجرور، وخبر والجروح قصاص. وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات، وقدره الزمخشري أولاً: مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق، وكذلك العين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن، والن مقلوعة بالسن. وينبعغي أن يحمل قول الزمخشري: مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب، لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً، لا كوناً مقيداً. والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ. فإذا قلت: بعت الشاء شاة بدرهم، فالمعنى مأخوذ بدرهم، وكذلك الحر بالحر، والعبد بالعبد. التقدير: الحر مأخوذ بالحر، والعبد مأخوذ بالعبد. وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم. وقال الحوفي: بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره: يجب، أو يستقر. وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلها بقتل النفس. وقرأ الكسائي: برفع والعين وما بعدها. وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً. الأول: أنّ الواو عاطفة جملة على جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي: وكتبنا، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع. الثاني: أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله: إن النفس

بالنفس، أي: قل لهم النفس بالنفس، وهذا العطف هو من العطف على التوهم، إذ يوهم في قوله: إن النفس بالنفس، إنه النفس بالنفس، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ. الثالث: أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد، وهو أن يكون: والعين معطوفاً على الضمير المستكن في الجار والمجرور، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها. وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى، لأن المرفوع على هذا فاعل، إذ عطف على فاعل.

وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان: لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم، وهو لا ينقاس، إنما يقال منه ما سمع. والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة، وفيه لزوم هذه الأحوال. والأصل في الحال أن لا تكون لازمة. وقال الزمخشري: الرفع للعطف على محل: أنّ النفس، لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك: النفس بالنفس، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول: كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. وكذلك قال الزجاج: لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاً انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهذا ليس من العطف على الموضع، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه، وإنما هو عطف على التوهم. ألا ترى أنا لا نقول أن قوله: إنّ النفس بالنفس في موضع رفع، لأن طالب الرفع مفقود، بل نقول: إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب، والتقدير: وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا، فحكيت بها الجملة: وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات، ولا نقول: إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار.

وقرأ العربيان وابن كثير: بنصب والعين، والأنف، والأذن، والسن، ورفع والجروح. وروي ذلك عن: نافع. ووجه أبو علي: رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها. وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّمقرأ أنّ النفس بتخفيف أن، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين: أحدهما: أن تكون مصدرية مخففة من أنّ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، والجملة في موضع رفع خبر أنّ فمعناها معنى المشدّدة العاملة في كونها مصدرية. والوجه الثاني: أن تكون أن تفسيرية التقدير أي: النفس بالنفس، لأن كتبنا جملة في معنى القول. وقرأ أبيّ بنصب النفس، والأربعة بعدها. وقرأ: وأنْ الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة، ورفع الجروح. ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخفة من الثقيلة، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشدّدة غير عاملة من حيث التفسيرية، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك. {وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَرِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وعلى آثارهم، متعلق بقفينا، وبعيسى متعلق به أيضاً. وهذا على سبيل التضمين أي: ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم، وليس التضعيف في قفينا للتعدية، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية، ولا تعدى بعلى. وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب: ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني، لكنه ضمن معنى جاء وعدى بالياء، وتعدى إلى آثارهم بعلى. وقال الزمخشري: قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء.

(فإن قلت) : فأين المفعول الأول في الآية؟ (قلت) : هو محذوف، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى. وكلامه يحتاج إلى تأويل، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته، فيكون فعل بمعنى فعل نحو: قدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل، ثم عداه بالباء، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد. ولا يجوز فلا يقال: في طعم زيد اللحم، أطعمت زيداً باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة تقول: دفع زيد عمراً، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيداً بعمر. وأي: جعلت زيداً يدفع عمراً، وكذلك صك الحجر الحجر. ثم تقول: صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه. وأما قوله: المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح، ولا يسد الظرف مسده، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به. ألا ترى إلى قوله: لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه؟ وقول الزمخشري: فقد قفى به إياه فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلاً، وليس من مواضع فصل لو قلت: زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر، فإصلاحه زيد ضربته بسوط، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى. {وَءَاتَيْنَهُ الإِنجِيلَ} جملة معطوفة على قوله وقفينا. {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} وقوله: فيه هدى ونور، في موضع الحال، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور، إذ قد اعتمد بأن. وقع حالاً لذي حال أي: كائناً فيه هدى. ولذلك عطف عليه {ومصدقاً لما بين يديه من التوراة} والضمير في يديه عائد على الإنجيل.

{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} قال ابن عطية: ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال انتهى. وإنما قال: إن مصدقاً، حال مؤكدة من حيث المعنى، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلا هيا أن يكون مصدقاً للكتب الإلهية، لكن قوله: معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح، لأنّا قد بينا أنّ قوله: فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة، إذ قدرناه كائناً فيه هدى ونور، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل، لأنها جملة اسمية، ولم تأت بالواو، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير، لكن الأسْن والأكثر أن يأتي بالواو، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ، وإن كان ثم ضمير، وتبعه على ذلك الزمخشر. قال علي بن أبي طالب: ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى. ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى، كرره على سبيل التوكيد، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً. {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} قرأ الضحاك: وهدى وموعظة بالرفع، وهو هدى وموعظة. وقرأ الجمهور: بالنصب حالاً معطوفة على قوله: ومصدقاً.

وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله: وليحكم. قال: كأنه قيل: وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله، لا إلى الإنجيل، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل، ولذلك جاء منصوباً. ولما كان: وليحكم، فاعله غير الله، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضاً، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء، فعدى أيضاً لذلك باللام، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر. قال الزمخشري: فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله: وليحكم؟ (قلت) : أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة، حين جعلتهما مفعولاً لهما، فأقدر: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى. وهو جواب واضح. {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر ساكنة، وبعض القراء يكسرها. وقرأ أبيّ: وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به. وقال ابن عطية: والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى. فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال: ليتضمن الهدى. والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال: وللهدي والموعظة وللحكم أي: جعله مقطوعاً مما قبله، وقدر العامل مؤخراً أي: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه. وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة، إنما جيء بقوله: فيه هدى ونور، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحال، والحال لا يكون علة. فقول ابن عطية: ليتضمن كيت وكيت، وليحكم، بعيد.

{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف. وانتصب مصدقاً على الحال لما بين يديه، أي: لما تقدمه من الكتاب. الألف واللام فيه للجنس، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للعهد، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق، وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن. والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة، وأنها حذفت، والتقدير: من الكتاب الإلهي. وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم، فلا يحتاج إلى تقدير حذف. وقرأ مجاهد وابن محيصن: ومهيمناً بفتح الميم الثانية، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه، أي: حفظ من التبديل والتغيير. والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك. وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني. وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: معناه محمد مؤتمن على القرآن. قال الطبري: فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك. وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمناً، لأنها عطف على مصدّقاً، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف، إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن، وتقديره: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد. وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن.

{وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ} وقال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي: عادلاً عما جاءك، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن، وهذا ليس بجيد. لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة، كما لا يصلح أن يكون خبراً، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه. {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَجاً} والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا، ومفعولها الثاني هو لكل، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره: أعني منكم. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام، ويوجب أيضاً أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى. فيكون في التركيب كقولك: من كل ضربت تميمي رجلاً، وهو لا يجوز. {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة. {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .

وأجازوا في: وأن احكم، أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكتاب، أي: والحكم. وفي موضع جر عطفاً على بالحق، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً، والتقدير: وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا. أو مقدماً والتقدير: ومن الواجب حكمك بما أنزل الله. وقيل: أنْ تفسيرية، وأبعد ذلك من أجل الواو، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلاً محذوفاً فيه معنى القول أي: وأمرناك أن احكم، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها، وذلك لا يحفظ من كلام العرب. {أَفَحُكْمَ الْجَهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وقرأ الجمهور: أفحكمَ بنصب الميم، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وأبو رجاء، والأعرج: أفحكمُ الجاهلية برفع الميم على الابتداء. والظاهر أن الخبر هو قوله: يبغون، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة. وقال ابن مجاهد: هذا خطأ. قال ابن جني: وليس كذلك، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى. وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين. وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام، وبعضهم يخصه بالشعر، وبعضهم يفصل. وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو. وقال الزمخشري: وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في «أهذا الذي بعث الله رسولاً وعن الصفة في: الناس رجلان، رجل أهنت ورجل أكرمت. وعن الحاف في: مررت بهند تضرب زيداً انتهى. فإنْ كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن، فليس كما ذكر عند البصريين، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح، وحذفه من الصفة قليل، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر، أو في نادز. وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح. وقال ابن عطية: وإنما تتجه القراء على أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم تبغون، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعل صفة خبر محذوف، ونظيره: {من الذين يحرفون} تقديره قوم يحرفون انتهى. وهو توجيه ممكن.

{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَرَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَدِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَءَامَنُواْ أَهُؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَسِرِينَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَفِرِينَ يُجَهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَلِبُونَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَدَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ

إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَرِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَهُمُ الرَّبَّنِيُّونَ وَالأٌّحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأٌّرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَبِءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَتِهِمْ وَلأٌّدْخَلْنَهُمْ جَنَّتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ * يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا

بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئُونَ وَالنَّصَرَى مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وعَمِلَ صَلِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرَءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَلِثُ ثَلَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ

الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الأٌّيَتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} قال الحوفي: هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب. {فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَرِعُونَ فِيهِمْ} وقرأ ابراهيم بن وثاب: فيرى بالياء من تحت، والفاعل ضمير يعود على الله، أو الرأي. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى، والمعنى: أن يسارعوا، فحذفت أن إيجازاً انتهى. وهذا ضعيف لأنّ حذف إنْ من نحو هذا لا ينقاس. وقرأ قتادة والأعمش: يسرعون بغير ألف من أسرع، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالاً، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني. {فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَدِمِينَ} وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله: فيصبحوا معطوف على قوله: {أَن يَأْتِىَ} وهو الظاهر، ومجور ذلك هو الفاء، لأن فيها معنى التسبب، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح، لأنه كان يكون معطوفاً على أن يأتي خبر لعسى، وهو خبر عن الله تعالى، والمعطوف على الخبر خبر، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط، ولا رابط هنا، فلا يجوز العطف. لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر. وجوز أن لا يكون معطوفاً على أن يأتي، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني، إذ عسى تمنّ وترج في حق البشر، وهذا فيه نظر.

{وَيَقُولُ الَّذِينَءَامَنُواْ أَهُؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ} قال المفسرون: لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادًّا في معاداة اليهود: هذا جزاؤهم منك طال، والله ما أشبعوا بطنك، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حصدوا في ليلة؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا: أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم؟ والمعنى: يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذ أغلظوا بالإيمان للمؤمنين أنهم معكم، وأنهم معاضدوكم على اليهود، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين. ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود، ويكون الخطاب في قوله: إنهم لمعكم لليهود، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم: {وإن قوتلتم لننصرنكم} فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود. وقرأ الابنان ونافع: بغير واو، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ. فقيل: يقول الذين آمنوا، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة. وقرأ الباقون: بالواو، ونصب اللام أبو عمرو، ورفعها الكوفيون. وروى علي بن نصر عن أبي عمر: والرفع والنصب، وقالوا: وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق. والواو عاطفة جملة على جملة، هذا إذا رفع اللام، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا: نخشى، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم: أهؤلاء الذين أقسموا، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير، وتارة يؤكد بالعطف بالواو.

وأما قراءة ويقول بالنصب، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح، وأنه محمول على المعنى، فهو معطوف على أن يأتي، إذ معنى: فعسى الله أن يأتي، معنى فعسى أن يأتي الله، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي: ويقول الذين آمنوا به، أي بالله. فهذا الضمير يصح به الربط، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً من اسم الله لا خبراً، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة، كأنك قلت: عسى أن يأتي، ويقول: أو معطوف على فيصبحوا، على أن يكون قوله: فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى، إذ فيها معنى التمني. وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر، أو هل هو تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني؟ أم لا تجري؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى، وتبعه ابن الحاجب، ولم يذكر ابن الحاجب غيره. وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ. وخرجه النحاس على أن يكون معطوفاً على قوله: {بالفتح} بأن يفتح، ويقول: ولا يصحّ هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله: أو أمر من عنده، وحقه أن يكون بلعه لأن المصدر ينحل لأن والفعل، فالمعطوف عليه من تمامه، فلا يفصل بينهما. وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر، فيحل لأن والفعل. والظاهر أنه لا يراد به ذلك، بل هو كقولك: يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه، لا يراد به انحلاله، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضاً، لأن المعنى ليس على: فعسى الله أن يأتي، بأن يقول الذين آمنوا كذا. ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله: {فيصبحوا} وهو أجنبي من المتعاطفين، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفاً على أن يأتي، ونظيره قولك: هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة، وقول أصحابه: أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة؟ فيكون وقول معطوفاً على بضرب.

وقال ابن عطية: عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الذين نصرهم يقولون: ننصره بإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى. وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سبباً لأنه صار في الجملة ضمير عائد على الله، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز. وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد، والمعنى: أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم. ويجوز أن ينتصب على الحال، كما جوّزوا في فعلته جهدك. {حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَسِرِينَ} وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبراً ثانياً عن هؤلاء، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا، وأن يكون الذين، صفة لهؤلاء، ويكون حبطت هو الخبر. {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} جملة {من يرتد} جملة شرطية مستقلة. وقرأ نافع وابن عامر: من يرتدد بدالين مفكوكاً، وهي لغة الحجز. والباقون بواحدة مشددة وهي لغة تميم. والعائد على اسم الشرط من جملة الجزاء محذوف لفهم المعنى تقديره: فسوف يأتي الله بقوم غيرهم، أو مكانهم. ويحبونه معطوف على قوله: يحبهم، فهو في موضع جر. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب تقديره: وهن يحبونه انتهى. وهذا ضعيف لا يسوغ مثله في القرآن. {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف، لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة بل ذلل، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام، لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف كأنه قال: عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع. قيل: أو لأنه على حذف مضاف التقدير: على فضلهم على المؤمنين.

وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز، وهما صفتا مبالغة، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله: {يحبهم ويحبونه} لأن الاسم يدل على الثبوت، فلما كانت صفة مبالغة، وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة، جاء الوصف بالاسم. ولما كانت قبل تتجدد، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها، جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد. ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر، ولشرف المؤمن أيضاً. ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن، قدّم قوله يحبهم ويحبونه على قوله: أذلة على المؤمنين. وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله: وفرع يغشى المتن أسود فاحم إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية، فقدم يحبهم ويحبونه ـ وهو فعل ـ على قوله: أذلة وهو اسم. وكذلك قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وقرىء شاذاً أذلة، وهو اسم وكذا أعزة نصباً على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها. وقرأ عبد الله: غلظاء على الكافرين مكان أعزة. {يجاهدون في سبيل الله} أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة، ويجوز أن تكون استئناف أخبار. وجوز أبو البقاء أن تكون في موضع نصب حالاً من الضمير في أعزة. {وَلاَ يَخَفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ويحتمل أن تكون الواو في: ولا يخافون، واو الحال أي: يجاهدون، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين. {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} ويؤتيه استئناف، أو خبر بعد خبر أو حال.

{وَالَّذِينَءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} وقال تعالى: {أشحة على الخير} ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة، وفي كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة. والركوع هنا ظاهره الخضوع، لا الهيئة التي في الصلاة. وقيل: المراد الهيئة، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة، فعبر بها عن جميع الصلاة، إلا أنه يلزم في هذا القول تكرير الصلاة لقوله: يقيمون الصلاة. ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية. وقيل: المراد بالصلاة هنا الفرائض، وبالركوع التنفل. يقال: فلان يركع إذا تنفل بالصلاة. وروي أنّ علياً رضي الله عنه تصدّق بخاتمه وهو راكع في الصلاة. والظاهر من قوله: وهم راكعون، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها، منتظمة في سلك الصلاة. وقيل: الواو للحال أي: يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها، أي يئتونها فيتصدقون وهم ملتبسون بالصلاة. وقال الزمخشري. (فإن قلت) : الذين يقيمون ما محله؟ (قلت) : الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على هم الذين يقيمون انتهى. ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، لأن المبدل منه في نية الطرح، وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف. {ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} يحتمل أن يكون جواب مَن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، أي: يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون الجواب: فإن حزب الله، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي: فإنهم هم الغالبون.

وهم هنا يحتمل أن يكون فصلاً، ويحتمل أن يكون مبتدأ. {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَسِقُونَ} وقرأ الجمهور: بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع، وفي موضع نصب، وفي موضع جر. فالرّفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخراً محذوفاً أي: وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق، وأنكم على الباطل، إلا أنّ حب الرّياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف. ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدماً أي: ومعلوم فسق أكثركم، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدّمة إلا بعد أما فقط. والنصب من وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على أن آمنا أي: ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، فيدخل الفسق فيما نقموه، وهذا قول أكثر المتأوّلين. ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم، فكيف ينقمونه، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون، كما تقول: ما تنقم مني إلا أني صدّقت وأنت كذبت، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض، وكأنه قيل: ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإسلام وأنتم خارجون. والوجه الثاني: أن يكون معطوفاً على إن آمنا، إلا أنه على حذف مضاف تقديره: واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون، وهذا معنى واضح. ويكون ذلك داخلاً في ما تنقمون حقيقة. الثالث: أن تكون الواو واو مع، فتكون في موضع نصب مفعولاً معه التقدير: وفسق أكثرهم أي: تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى: لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم كما تقول: تسيء إلي مع أني أحسنت إليك. الرابع: أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدّر يدل عليه، هل تنقمون تقديره: ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. والجرّ على أنه معطوف على

قوله: بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم. ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا. فهذه سبعة وجوه في موضع إن وصلتها، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح، وذلك أنّ نقم أصلها أن تتعدّى بعلى، تقول: نقمت على الرجل أنقم، ثم تبنى منها افتعل فتعدّى إذ ذاك بمن، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه. قال تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} ومناسبة التضمين فيها أنّ من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه، وإن قدر، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل لقولهم: وقد رأوه، ولذلك عدّيت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها، فصار المعنى: وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي: لأنْ آمنا، فيكون أن آمنا مفعولاً من أجله، ويكون وإن أكثركم فاسقون معطوفاً على هذه العلة، وهذا ـ والله أعلم ـ سبب تعديته بمن دون على. {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} وانتصب مثوبة هنا على التمييز، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على لتمييز كقوله: {ومن أصدق من الله حديثاً} وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله: {ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} . ومن في موضع رفع كأنه قيل: من هو؟ فقيل: هو من لعنه الله. أو في موضع جر على البدل من قوله: بشّر. وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي: أنبئكم من لعنه الله.

{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّغُوتَ} وقرأ الحسن في رواية: وعبد الطاغوت بإسكان الباء. وخرجه ابن عطية: على أنه أراد وعبداً منوّناً فحذف التنوين كما حذف في قوله: {ولا ذاكر الله إلا قليلاً} ولا وجه لهذا التخريج، لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتحها كقولهم: في سلف سلف. وقرأ النخعي عبد مبخا للمفعول والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه، وغضب، وجعل، وعبد، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي: وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم. ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلاً في الصلة، لكنه على تقدير من، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ، ومن عبد فإما عطفاً على القردة والخنازير، وإما عطفاً على من قوله: من لعنه الله. وقرىء: وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفاً على القردة والخنازير مضافاً إلى الطاغوت. وقرىء وعابدي. وقرأ ابن عباس في رواية: وعابدوا. وقرأ عون العقيلي: وعابد، وتأولها أبو عمرو على أنعا عآبد. وهذان جمعا سلامة أضيفاً إلى الطاغوت، فبالتاء عطفاً على القردة والخنازير، وبالواو عطفاً على من لعنه الله أو على إضمارهم. ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفرداً اسم جنس. وقرأ أبو عبيدة: وعابد على وزن ضارب مضافاً إلى لفظ الشيطان، بدل الطاغوت. وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس، وبنى بناء الصفات لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة. وأنشد أبني لبيني البيت، وقال: ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى. وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال: ومنها فعل كنحو سمر وعبد.

{قَالُواْءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} جملتان حاليتان العامل فيهما آمنا والذي نقول: إن الجملة الإسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يتحمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد. وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد، إن كانت الواو في: وهم، واو حال، لا واو عطف، خلافاً لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل. {وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السخت لبئس ما كانوا يعملون} يحتمل ترى أن تكون بصرية، فيكون يسارعون صفة: وأن تكون علمية، فيكون مفعو ثانياً. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة، وقال الحوفي: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في مبسوطتان انتهى. ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ، أو على ذي الحال محذوفاً التقدير: ينفق بهما. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال، وهي نصب بيشاء انتهى. ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال، بل هي في معنى الشرط كما تقول: كيف تكون أكون، ومفعول يشاء محذوف، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم، كما يدل في قولك: أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، كما تقول: كيف تشاء أن أضربك أضربك، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط. ونظير ذلك قوله: {فيبسطه في السماء كيف يشاء} .

{وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} هذا تنويع في التفصيل. فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور، والخبر الجملة من قوله: ساء ما يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى. وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً، والوصف ألزم للموصوف من الخبر، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة، وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم، باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار، فجاء الوصف بالإلزام، ولم يجعل خبراً، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون، لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة، واختار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تنصرف، فإن فيه التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله: ساء مثلاً. فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز أي: ساء عملاً ما كانوا يعملون.

{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئُونَ وَالنَّصَرَى} وقرأ القراء السبعة: والصابئون بالرفع، وعليه مصاحف الأمصار، والجمهور. وفي توجيه هذه القراءة وجوه: أحدها: مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة: أنه مرفوع بالابتداء، وهو منوي به التأخير، ونظيره: إنّ زيداً وعمرو قائم، التقدير: وإن زيداً قائم وعمرو قائم، فحذف خبر عمرو لدلالة خبر إنّ عليه، والنية بقوله: وعمرو، التأخير. ويكون عمرو قائم بخبره هذا المقدر معطوفاً على الجملة من أنّ زيداً قائم، وكلاهما إلا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع اسم إنّ لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع، وهذا مذهب الكسائي والفراء. أما الكسائي فإنه أجاز رفع المعطوف على الموضع سواء كان الاسم مما خفي فيه الإعراب، أو مما ظهر فيه. وأما الفراء فإنه أجاز ذلك بشرط خفاء الإعراب. واسم إن هنا خفي فيه الإعراب. الوجه الثالث: أنه مرفوع معطوف على الضمير المرفوع في هادوا: وروي هذا عن الكسائي. ورد بأنّ العطف عليه يقتضي أنّ الصابئين تهودوا، وليس الأمر كذلك. الوجه الرابع: أن تكون إن بمعنى نعم حرف جواب، وما بعده مروع بالابتداء، فيكون والصابئون معطوفاً على ما قبله من المرفوع، وهذا ضعيف. لأن ثبوت أن بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين، وعلى تقدير ثبوت ذلك من لسان العرب فتحتاج إلى شيء يتقدمها يكون تصديقاً له، ولا تجيء ابتدائية أول الكلام من غير أن تكون جواباً لكلام سابق. وقد أطال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه ونصرته، وذلك مذكور في علم النحو، وأورد أسئلة وجوابات في الآية إعرابية تقدم نظيرها في البقرة.

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} تقدم تفسير مثل هذا في البقرة. وقال الزمخشري هنا: (فإن قلت) : أين جواب الشرط؟ فإن قوله فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، ولأنه لا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت. (قلت) : هو محذوف يدل عليه قوله: فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله: فريقاً كذبوا، جواب مستأنف لسؤال قاتل: كيف فعلوا برسلهم؟ انتهى قوله: فإن قلت: أين جواب الشرط؟ سمي قوله كلما جاءهم رسول شرطاً وليس بشرط، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية، والعال فيها هو ما يأتي بعدما المذكورة، وصلتها من الفعل كقوله: {كلما انضجت جلودهم بدلناهم} كلما {ألقوا فيها} وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما، وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر أن قوله: فريقاً كذبوا ينبو عن الجواب لوجهين: أحدهما: قوله: لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، وليس كما ذكر، لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد، بل المراد به الجنس. وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين: فريق كذب، وفريق قتل. والوجه الثاني قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه. وليس كما ذكر، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن، ولم يمنعه إلا الفراء وحده، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا، بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه. فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت، وعموم نصوص النحويين على ذلك، لأنهم حين حصر، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه

التقديم على العامل والتأخير عنه، ولم يستثنوا هذه الصورة، ولا ذكروا فيها خلافاً. فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله: كذبوا، وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف، والعامل فيه كذبوا. وقال أبو البقاء: كذبوا جواب كلما انتهى. {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وسدت أنْ وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه. وقرأ الحرميان وعاصم وابن عامر: بنصب نون تكون بأنْ الناصبة للمضارع، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن. وقرأ النحويان وحمزة برفع النون، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المنفية في موضع الخبر. نزل الحسبان في صدورهم منزلة العلم، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلاً قال الشاعر: حسبت التقى والجود خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً وتكون هنا تامة.

{ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم من عموا، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه، وحم وأحمه، ولا يقال: زكمه الله ولاحمه الله، كما لا يقال: عميته ولا صممته، وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعَدّية ثلاثية، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال. وقال الزمخشري: وعموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي: رماهم بالعمى والصمم كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك انتهى. وارتفاع كثير على البدل من المضمر. وجوّزوا أن يرتفع على الفاعل، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، ولا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أي: العمى والصم كثير منهم. وقيل: مبتدأ والجملة قبله في موضع الخبر. وضعف بأن الفعل قد وقع موقعه، فلا ينوي به التأخير. والوجه هو الإعراب الأول. {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَلِثُ ثَلَثَةٍ} ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة، لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة. وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيى ثعلب، وردّوه عليه جعلوه كاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو: رابع ثلاثة، وليس مثله إذ تقول: ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَحِدٌ} وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي إتباعه على اللفظ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب، والتقدير: وما إله في الوجود إلا إله واحد أي: موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.

{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وليمسنّ: اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} ونظير هذه الآية: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} ومثله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} ومعنى مجيء إن بغير باء، دليل على أنه قبل إنْ قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال: فإنكم لمشركون ومن في منهم للتبعيض، أي كائناً منهم، والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية. ومن أثبت أنّ مَن تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا، ونظره بقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} . {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} والفاء في أفلا للعطف، حجزت بين الاستفهام ولا النافية، والتقدير: فألا. وعلى طريقة الزمخشري تكون قد عطفت فعلاً على فعل، كأن التقدير: أيثبتون على الكفر فلا يتوبون. {وأمه صديقة} هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير، وشريب وطبيخ، من سكت وسكر، وشرب وطبخ. ولا يعمل ما كان مبنياً من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيداً.

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَلِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَسِقُونَ} . {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ} قال سبويه ما مبهمة تقع على كل شيء. {لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} وانتصاب غير هنا على الصفة أي: غلوّاً غير الحق. وأبعد مَن ذهب إلى أنها استثناء متصل، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره: لكن الحق فاتبعوه.

{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تقدّم الكلام على إعراب ما قال الزمخشري في قوله: أن سخط الله، أنه هو المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم انتهى. ولا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفرّاء، والفارسي في أنّ ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً، وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً، وقدّمت صفة التمييز. وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك، لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء قدّمت لهم أنفسهم، فيكون على هذا أن سخط الله في موضع رفع بدل من ما انتهى. ولا يصح هذا سواء كانت موصولة، أم تامة، لأن البدل يحل محل المبدل منه، وأن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس، لأن فاعل نعم وبئس لا يكون أن والفعل. وقيل: إن سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدّمت، أي: قدّمته كما تقول: الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً. وقيل: على إسقاط اللام أي: لأن سخط. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ} وجاء جواب لو منفياً بما بغير لام، وهو الأفصح، ودخول اللام عليه قليل نحو قوله: لو أن بالعلم تعطى ما تعيش به لما ظفرت من الدنيا بنقرون

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّلِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ * لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأٌّيْمَنَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَنَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأٌّنصَابُ وَالأٌّزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ

فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} واللام في {لتجدن} هي الملتقى بها القسم المحذوف. وقال ابن عطية: هي لام الابتداء، وليس بمرضيّ. وتعلق {للذين آمنوا} الأول بعداوة والثاني بمودة. وقيل هما في موضع النعت. و {من} في {من الدمع} قال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: أن مِن لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني: أن يكون حالاً، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق، ومعناها من أجل الذي عرفوه، و {من الحق} حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا. وقيل: {من} في {من الدمع} بمعنى الباء أي بالدمع. وقال الزمخشري: {من الدمع} من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً. (فإن قلت) : أي فرق بين مِن ومِن في قوله: {مما عرفوا من الحق} (قلت) : الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، انتهى. والجملة من قوله: {وإذا سمعوا} تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم. و {يقولون} في موضع نصب على الحال، قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه، وهو قول خطأ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في {عرفوا} لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها، فالأولى أن تكون مستأنفة.

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} و {لا نؤمن} في موضع الحال، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام، وذلك كما تقول: جاء زيد راكباً جواباً لمن قال: هل جاء زيد ماشياً أو راكباً، والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور، رأي: أي شيء يستقرّ لنا. {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّلِحِينَ} الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين، قالوا وعاطفة جملة على جملة، و {ما لنا لا نؤمن} لا عاطفة على نؤمن أو على لا نؤمن ولا على أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وقال الزمخشري: والواو في {ونطمع} واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن، ولكن مفيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاماً، انتهى. وماذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك، وذوا الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا، ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل، فيحتاج أن يقدر: ونحن نطمع. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {ونطمع} حالاً من {لا نؤمن} على أنهم أنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل.

{وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأٌّيْمَنَ} قرأ ابن ذكوان عاقدتم وقال أبو علي الفارسي: عاقدتم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص، انتهى، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغير ألف، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت اليمين، وقال الحطيئة: قوم إذا عاقدوا عقداً لجارهم فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه. قال أبو علي: والأحرى أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد، قال: بما عاهد عليه الله كما عدى {ناديتم إلى الصلاة} بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيداً {وناديناه من جانب الطور الإيمن} لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا قال ممن دعا إلى الله ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان، كما حذف من قوله {فاصدع بما تؤمر} انتهى، وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بل هو الذي عقدها. وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضاً بعيد، وليس تنظيره ذلك بقوله {فاصدع بما تؤمر} بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني وإن كان أصله الحذف تقول أمرتُ زيداً الخير، وأمرته بالخير، ولأنه لا يتعين في {فاصدع بما تؤمر} أن تكونن ما موصولة بمعنى الذي، بل يظهر أنها مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو باللغو في أيمانكم، لأن اللغو مصدر، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول.

{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَنِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأٌّيْمَنَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عائد على ما إن كانت موصولة اسمية، وهو على حذف مضاف كما تقدم، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى. و {من أوسط} في موضع مفعول ثان لإطعام، والأول هو {عشرة مساكين} أي طعاماً من أوسط والعائد على {ما} من {تطعمون} في موضع محذوف أي تطعمونه. قرأ ابن المسيفع أو كاسوتهم قال الزمخشري. (فإن قلت) ما محل الكاف (قلت) الرفع، قيل: إن قوله {أو كسوتهم} عطف على محل {من أوسط} فدل على أنه ليس قوله {من أوسط} في موضع مفعول ثان بالمصدر بل انقضى عنده الكلام في قوله {إطعام عشرة مساكين} ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور يبينه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط، وعلى ما ذكرناه من {أن أوسط} في موضع نصب تكون الكاف في {كاسوتهم} في موضع نصب لأنه معطوف على محل {من أوسط} وهو عندنا منصوب. {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} من تبعيضية وقيل لبيان الجنس. والجملة من قوله {تناله} في موضع الصفة لقوله {بشيء} أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنه حال من الصيد. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} وقرأ الزهري {ليعلم الله} من أعلم. قال ابن عطية أي ليعلم عباده انتهى. فيكون من أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدى عرف فحذف المفعول الأول وهو عباده لدلالة المعنى عليه وبقي المفعول الثاني وهو {من يخافه} .

{وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وقرأ الكوفيون {فجزاء} بالتنوين {مثل} بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل. وقرأ عبد الله {فجزاؤه مثل} والضمير عائد على قاتل الصيد أو على الصيد وفي قراءة عبد الله يرتفع {فجزاؤه مثل} على الابتداء والخبر. وقرأ باقي السبعة {فجزاء مثل} برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فقيل مثل كأنها مقحمة كما تقول مثلك من يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل، وقيل ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي {فجزاء} بالرفع والتنوين {مثل ما قتل} بالنصب. وقرأ محمد بن مقاتل {فجزاء مثل ما قتل} بنصب جزاء ومثل والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ومثل صفة لجزاء. وقرأ الحسن {من النعم} سكن العين تخفيفاً كما قالوا الشعر، وقال ابن عطية هي لغة و {من النعم} صفة لجزاء سواء رفع {جزاء} و {مثل} أو أضيف {جزاء} إلى {مثل} أي كائن من النعم ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً حل الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد، على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَلِغَ الْكَعْبَةِ} وجوّزوا في انتصاب قوله {هدياً} أن يكون حالاً من {جزاء} فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلاً من مثل في قراءة من نصب مثلاً أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حال من قوله به. والجملة من قوله يحكم في موضع الصفة لقوله {فجزاء} أي حاكم به ذوا عدل.

{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَكِينَ} قال أبو علي {طعام} عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة. انتهى؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً. {أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} وانتصب {صياماً} على التمييز على العدل كقولك على التمرة مثلها زبداً لأن المعنى أو قدر ذلك صياماً. قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله {فجزاء} أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى. وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف {فجزاء} أو نون ونصب {مثل} وأما على قراءة من نوّن ورفع {مثل} فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن {مثل} صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمراً لم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط. {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} والفاء في {فينتقم} جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمار مبتدأ أي فهو ينتقم الله منه.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَعاً لَّكُمْ} وانتصب {متاعاً} قال ابن عطية على المصدر والمعنى متّعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون؛ وقال الزمخشري متاعاً لكم مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافله} في باب الحال لأنّ قوله {متاعاً لكم} مفعول له مختصّ بالطعام كما أن {نافلة} حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى عليه السلام في مسيره إلى الخضر انتهى. وتخصيصه المفعول له بقوله: {وطعاماً} جار على مذهبه مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل وأنّ قوله وطعامه هو المأكول منه وأنه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريّاً وقديداً وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَئِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يأُوْلِى الأٌّلْبَبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} البيت وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان، وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى. وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامداً. لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك.

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَفِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يِأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ شَهَدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأٌّرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلوةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَدَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الأٌّثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأٌّوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَدَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * ذلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَدَةِ عَلَى

وَجْهِهَآ أَوْ يَخَفُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَنٌ بَعْدَ أَيْمَنِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ الأٌّكْمَهَ وَالأٌّبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُواْءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأًّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ}

{أشياء} مذهب سيبويه والخليل أنها الفعاء مقلوبة من فعلاء، والأصل شيئاً من مادة شيء، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء ومذهب غيرهما أنها جمع. واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم، هو جمع شيء كبيت وأبيات، وقال الكسائي لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء ولكثرة استعمالها والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان. ذهب الفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء، قال الفراء شيء مخفف من شيء كما قالوا هوناً في جمع هين المخفف من هين، وقال الأخفش ليس مخففاً من شيء بل هو فعل جمع على أفعلاء فاجتمع في هذين القولين همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافاً، وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شيء كصديق وأصدقاء، ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المدلكون ما بعدها ألفاً، قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء وفي القول الذي قبله أفلاء، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالاً مذكور في علم التصريف. {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفة لأشياء. {عفا الله عنها} ظاهره أنه استئناف إخباره من الله تعالى، وذهب بعضهم إلى أنها في موضع جر صفة لأشياء كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء معفو عنها.

{للهقَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَفِرِينَ} قال أبو البقاء العكبري من قبلكم متعلق يسألها، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ولا حالاً لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها انتهى. وهذا الذي ذكره صحيح في ظرف الزمان المجرد من الوصف أما إذا وصف فذكروا أنه يكون خبراً تقول نحن في يوم طيب وأما قبل وبعد فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء زيد زماناً أي في زمان متقدم على زمان مجيء عمرو، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ولم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرداً لم يجز أن يقع صلة، قال تعالى: {والذين من قبلكم} ولا يجوز والذين اليوم وقد تكلمنا على هذا في أول البقرة. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ} وقال ابن عطية و {جعل} في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع، ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون من أفعال المقاربة. وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله.

{أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} وقال ابن عطية في {أو لو} : ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول وإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده: نعم، ولو كان كذلك انتهى. وقوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الاستفهام، وقوله: كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير قالوا: فاعتنى بالهمزة فقدّمت لقوله: {ولم يسيروا في الأرض} وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى، وقال الزمخشري والواو في قوله: {أو لو} كان آباؤهم واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى. وجعل الزمخشري الواو، في أو لو، واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية أنها واو العطف لا من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل، فقوله: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردّوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة» . وقول الشاعر: قوم إذا حاربو شدّوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بإطهار فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو على الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب فالواو عاطفة على حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال إنها واو الحال وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا.

{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} و {عَلَيْكُمْ} : من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً و {عليكم} : اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم، وإذا كان المغرى به مخاطباً جاز أن يؤتى بالضمير منفصلاً فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسك كما في هذه الآية. وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ {عليكم أنفسكم} بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين: أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء، والوجه الثاني أن يكون توكيداً للضمير المستكن في {عليكم} ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلاً ويكون مفعول {عليكم} محذوفاً لدلالة المعنى عليه والتقدير عليكم أنفسكم هدايتكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، وقرأ الجمهور {لا يضركم} بضم الضاد والراء وتشديدها، قال الزمخشري: وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وينصره قراءة أبي حيوة {لا يضركم} وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضركم ويجوز أن يكون نهياً انتهى.

{يِأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ شَهَدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} وقرأ الجمهور {شهادة بينكم} بالرفع وإضافة {شهادة} إلى {بينكم} ، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج {شهادة بينكم} برفع شهادة وتنوينه، وقرأ السلمي والحسن أيضاً {شهادة} بالنصب والتنوين وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و {بينكم} في هاتين القراءتين منصوب على الظرف فشهادة على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه كقوله هذا فراق بيني وبينك وخبره {اثنان} تقديره شهادة اثنين أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم إثنان واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأ الخبر وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج، وأجاز الزمخشري أن يرتفع {اثنان} على الفاعلية بشهادة ويكون {شهادة} مبتدأ وخبره محذوف وقدره فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، وقيل {شهادة} مبتدأ خبره {إذا حضر أحدكم الموت} ، وقيل خبره {حين الوصية} ، ويرتفع {اثنان} على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم، أو على الفاعلية، التقدير يشهد اثنان، وقيل {شهادة} مبتدأ و {اثنان} مرتفع به على الفاعلية وأغنى الفاعل عن الخبر. وعلى الإعراب الأول يكون {إذاً} معمولاً للشهادة وأما {حين} فذكروا أنه يكون معمولاً لحضر أو ظرفاً للموت أو بدلاً من إذا ولم يذكر الزمخشري غير البدل، قال و {حين الوصية} بدل منه يعني من {إذا} وحذف ما من قوله ما بينكم جائز لظهوره ونظيره {هذا فراق بيني وبينكم} أي ما بيني وبينك وقوله {لقد تقطع بينكم} في قراءة من نصب انتهى، وحذف ما الموصولة لا يجوز عند البصريين ومع الإضافة لا يصح تقدير ما البتة وليس قوله {هذا فراق بيني وبينك} نظيره {لقد تقطع بينكم} لأن ذلك مضاف إليه وهذا باق على طريقته فيمكن أن يتخيل فيه تقدير ما لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية وصيرته مفعولاً به على السعة.

وأما تخريج قراءة السلمي والحسن {شهادة} بالنصب والتنوين ونصب {بينكم} فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل {شهادة} مفعولاً بإضمار هذا الأمر و {اثنان} مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه، قال ابن جني التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان انتهى، وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى: بـ {سبح له فيها بالغدو والآصال} على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذا خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كان يقال لك ما قام أحد عندك فتقول بلى زيد أي قام زيد أو أجيب به استفهام كقول الشاعر: ألا هل أتى أم الحويرث مرسلاً بل خالدان لم تعقه العوائق التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين: أحدهما أن يكون {شهادة} منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر و {اثنان} مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك: ضرباً زيداً إلا أن الفاعل في ضرباً مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد، والوجه الثاني أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمر بل يكون خبراً ناب مناب الفعل في الخبر، وإن كان ذلك قليلاً كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرىء القيس: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان.

{ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} {ذَوَا عَدْلٍ} صفة لقوله {اثنان} و {منكم} صفة أخرى و {من غيركم} صفة لآخران. {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأٌّرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلوةِ} صفة لآخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله {إن أنتم ... إلى الموت} وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة، حسب اختلاف العلماء في ذلك، إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه استغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله {وآخران من غيركم} انتهى. وإلى أن {تحبسونهما} صفة ذهب الحوفي وأبو البقاء وهو ظاهر كلام ابن عطية إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدّمناه. وقال الزمخشري (فإن قلت) : ما موضع {تحبسونهما} . (قلت) : هو استئناف كلام كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فقيل: {تحبسونهما} ، وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته. وجواب الشرط تقديره فاستشهدواغ اثنين أما منكم وأما من غيركم. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً} والفاء في قوله {فيقسمان} عاطفة هذه الجملة على قوله {تحبسونهما} هذا هو الظاهر. وقال أبو علي وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة: وإنسان عيني يحسر الماء تارة فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم إذا حسر بدا فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف وإبقاء جوابه فتكون الفاء إذ ذاك فاء الجزاء وإلى تقدير مضمر بعد الفاء أي فهما يقسمان وفهو يبدو، وخرّج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر وهو أن قوله: يحسر الماء تارة. جملة في موضع الخبر وقد عربت عن الرابط فكان القياس أن لا تقع خبراً للمبتدأ لكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ فحصل الربط بذلك و {لا نشتري} هو جواب قوله فيقسمان بالله وفضل بين القسم وجوابه بالشرط. {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَدَةَ اللَّهِ} وقرأ الحسن والشعبي {ولا نكتم} بجزم الميم نهياً أنفسهما عن كتمان الشهادة ودخول لا الناهية على المتكلم قليل نحو قوله: إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد بها أبداً ما دام فيها الجراضم وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه {شهادة الله} بنصبهما وتنوين شهادة وانتصبا بنكتم التقدير ولا نكتم الله شهادة، قال الزهراوي ويحتمل أن يكون المعنى ولا نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب الفعل إيجازاً.

{مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأٌّوْلَيَانِ} وارتفاعهما على هما لأوليان كأنه قيل ومن هما فقيل {الأوليان} ، وقيل هما بدل من الضمير في {يقومان} أو من آخران ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى. وقد سبقه أبو عليّ إلى أن تخريج رفع {الأوليان} على تقديرهما لأوليان، وعلى البدل من ضمير {يقومان} وزاد أبو عليّ وجهين آخرين، أحدهما أن يكون {الأوليان} مبتدأ ومؤخراً، والخبر آخران يقومان مقامهما. كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا والوجه الآخر أن يكون {الأوليان} مسنداً إليه {استحق} . قال أبو عليّ فيه شيء آخر وهو أن يكون {الأوليان} صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى. وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ما جوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله: {فآخران} مبتدأ والخبر {يقومان} ويكون قد وصف بقوله من {الذين} أو يكون قد وصف بقوله {يقومان} والخبر {من الذين} ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله: {فآخران} ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل، أي فليشهد آخران وأما مفعول {استحق} فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم. وأجازا به عطية أن يرتفع الأوليان بـ استحق وتلخص في إعراب الأوليان على هذه القراءة وجوه الابتداء والخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير يقومان والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلف في تقديره. وقال بعضهم المفعول محذوف أي {من الذين استحق عليهم الأوليان} وصيتهما.

وأما القراءة الثالثة وهي قراءة استحق مبنياً للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصف للذين، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى؛ وهذا على تفسير أن قوله: {أو آخران من غيركم} أنهم الأجانب لا أنهم الكفار، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله: {اثنان ذوا عدل منكم} انتهى. وأما القراءة الرابعة وهي قراءة الحسن فالأولان مرفوع باستحق. وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح. {ذلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَدَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَفُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَنٌ} فتلخص أن أو تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو، ويخافوا معطوف في هذين الوجهين على يأتوا أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين. إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو يأتوا لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية.

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} وذكروا في نصب يوم وجوهاً: أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكروا. والثاني: بإضمار احذروا. والثالث: باتقوا. والرابع: باسمعوا قاله الحوفي. والخامس: بلا يهدي، قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء قالا: لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة، قال أبو البقاء أولاً يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة. والسادس: أجاز الزمخشري أن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله واتقوا الله، وهو بدل الاشتمال، كأنه قيل واتقوا الله يوم جمعه وفيه بعد لطول الفصل بالجملتين. والسابع أن ينتصب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت قاله الزمخشري، وقال ابن عطية وصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً والعامل اذكروا واحذروا مما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولاً انتهى. والذي نختاره غير ما ذكروا وهو أن يكون يوم معمولاً لقوله {قالوا لا علم لنا} أي قال الرسل وقت جمعهم وقول الله لهم ماذا أجبتم وصار نظير ما قلناه في قوله {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل} . وانتصاب {ماذا أجبتم} ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قاله الزمخشري، وقيام ما لااستفهامية مقام المصدر جائز وكذلك ماذا إذا جعلتها كلها استفهاماً وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدراً قول الشاعر: ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وقال ابن عطية معناه ماذا أجابت به الأمم، ولم يجعل ما مصدراً بل جعلها كناية عن الجواب، وهو الشيء المجاب به لا للمصدر، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم. وقال الحوفي ما للاستفهام وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها وأجبتم صلته والتقدير ماذا أجبتم به انتهى، وحذف هذا الضمير المجرور بالحرف يضعف لو قلت جاءني الذي مررت تريد به كان ضعيفاً إلا إن اعتقد أنه حذف حرف الجر أولاً فانتصب الضمير ثم حذف منصوباً ولا يبعد. وقال أبو البقاء ماذا في موضع نصب بأجبتم وحرف الجر محذوف أي بماذا أجبتم وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا لأنه لا عائد هنا وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى، وما ذكره أبو البقاء أضعف لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر إنما سمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ونصوا على أنه لا يجوز زيداً مررت به تريد بزيد مررت ولا سرت البيت تريد إلى البيت إلا في ضرورة شعر نحو قول الشاعر: تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني يريد لقضي عليّ فحذف عليّ وعدى الفعل إلى الضمير فنصبه. وقرأ علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى فيتم الكلام بالمقدر في قوله {إنك أنت} أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. وقال الزمخشري ثم نصب {علام الغيوب} على الاختصاص أو على النداء أو صفة لاسم إن انتهى. وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذّ، للكسائي. وقرأ حمزة وأبو بكر الغيوب بكسر الغين حيث وقع كأنّ من قال ذلك من العرب قد استثقل توالي ضمتين مع الياء ففر إلى حركة مغايرة للضمة مناسبة لمجاورة الياء وهي للكسرة.

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ} قال ابن عطية: العامل في إذ محذوف تقديره اذكره ويحتمل أن يكون {إذ} بدلاً من قوله: {يوم يجمع الله الرسل} والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرة وجاوز واحد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات هذا سحر مبين واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري. وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في إذ مضمراً تقديره اذكر يا محمد، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله: أأنت قلت للناس ويحتمل أن يكون {إذ} بدلاً من قوله: {يوم يجمع الله} انتهى. وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله. وإذا كان المنادى علماً مفرداً ظاهر الضمة موصوفاً بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعاً لفتحة ابن. هذا مذهب الجمهور وأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل {ابن مريم} صفة وجعلته بدلاً أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحو هنا، فقال بعض المفسرين: يجوز أن يكون عيسى في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان نحو يا زيد بن عمرو وأنشد النحويون: يا حكم بن المنذر بن الجارود أنت الجواد بن الجواد بن الجود قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع عيسى نصب لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى. والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى أنها حركة اتباع الحركة نون {ابن} ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى} أن: مصدرية وتحتمل أن تكون تفسيرية. {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ} أن ينزل معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به. {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقال الزمخشري هنا عيسى في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وه اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك يا زيد بن عمرو والدليل عليه قوله: أجاز ابن عمر كأني خمر، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى. فقوله: عيسى في محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الأتباع فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله: ويجوز أن يكون مضموماً هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضم ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياساً على الصحيح ولم يبدأ أولاً بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنه في تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادي لأجل الاتباع مقدّر فيه الضمة لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة الله فقولك: يا حار هو مضموم تقديراً وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع، وهي الفتحة فلا تنافي بين الترخيم وبين ما فتح اتباعاً وقدرت فيه الضمة، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} حيت تكلم الناس عليها.

{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء فإن كان ماضياً فصل بينهما بقد نحو قوله ونعلم أن قد صدقتنا وإن كان مضارعاً فصل بينهما بحرف تنفيس كقوله علم أن سيكون منكم مرضي ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلاً. وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق به عليها التي تقدمت في نحو إني لكما لمن الناصحين، وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال انتهى. وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلاّ إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناً مقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهر التنافي بينهما. {اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأًّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} وقرأ الجمهور {سكون لنا} على أن الجملة صفة لمائدة. وقرأ عبد الله والأعمش {يكن} بالجزم على جواب الأمر والمجرور بدل من قوله {لنا} وكرر العامل وهو حرف الجر كقوله {منها من غم} ، والبدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض أو بدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل إذ المعنى تكون لنا عيداً كلنا كقولك مررت بكم أكابركم وأصاغركم لأن معنى ذلك مررت بكم كلكم وإن لم تفد توكيداً فمسألة خلاف الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع.

{قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَلَمِينَ * وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَنَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * للَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .

{فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَلَمِينَ} والعذاب هنا بمعنى التعذيب فانتصابه انتصاب المصدر، وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً به على السعة وهو إعراب سائغ ولا يجوز أن يراد بالعذاب ما يعذب به إذ يلزم أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر فكان يكون التركيب فإني أعذبه بعذاب لا يقال حذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه فنصبه لأن حذف الحرف في مثل هطا مختص بالضرورة والظاهر أن الضمير في {لا أعذبه} يعود على العذاب بمعنى التعذيب والمعنى لا أعذب مثل التعذيب أحداً. وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير لا عذب به أحداً وأن يكون مفعولاً به على السعة وأن يكون ضمير المصدر المؤكد كقولك: ظننته زيداً منطلقاً فلا يعود على العذاب، ورابط الجملة الواقعة صفة لعذاب هو العموم الذي في المصدر المؤكد كقولك هو جنس وعذاباً نكرة فانتظمه المصدر كما انتظم اسم الجنس زيداً في: زيد نعم الرجل، وأجاز أيضاً أن يكون ضمير من على حذف أي لا أعذب مثل عذاب الكافر وهذه تقادير متكلفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} قال أبو عبيدة {إذ} زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع ولا يؤول بيقول وقد يقع التجوز في استعمال {إذ} بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عنه، بيان ذلك أنك تقول: أضربت زيداً، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيد قد وقع. فإذا قلت أنت ضربت زيداً كان الضرب قد وقع بزيد، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب، وهذه مسألة بيانية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش.

{مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ} و {بحق} خبر ليس أي ليس مستحقاً وأجازوا في {لي} أن يكون تبييناً وأن يكون صلة صفة لقوله {يحق} لي تقدم فصار حالاً أي بحق لي، ويظهر أنه يتعلق بحق لأن الباء زائدة، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقاً، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قد تم عند قوله {ما ليس لي} وجعل {بحق} متعلقاً بعلمته الذي هو جواب الشرط، ورد ذلك بادعاء التقديم والتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك، أو بتوقيف، أو فيما لا يمكن فيه إلا ذلك؛ انتهى هذا القول ورده، ويمتنع أن يتعلق لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه.

{ُ ِمَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ} قال الحوفي وابن عطية: وأن في {أن اعبدوا} مفسرة، لا موضع لها من الإعراب. ويصح أن يكون بدلاً من من ما وصح أن يكون بدلاً من الضمير في به، زاد ابن عطية أنه يصح أن يكون في محل خفض على تقدير بـ {أن اعبدوا} ، وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء والرفع على إضمار هو والنصب على إضمار أعني أو بدلاً من موضع به. قال: ولا يجوز أن تكون بمعنى أن المفسرة، لأن القول قد صرّح به، وأن لا تكون مع التصريح بالقول. وقال الزمخشري أن في قوله {أن اعبدوا الله} إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر، والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر وكلاهما لا وجه له، أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير لا تقول ما قلت لهم إلا {أن اعبدوا الله ربي وربكم} ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخلُ من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به أو من الهاء في به وكلاهما غير مستقيم، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاء لأنك لو أقمت {أن اعبدوا الله} لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته.

(فإن قلت) : فكيف تصنع؟ (قلت) : يحمل فعل القول على معناه لأن معنى {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بـ {أن اعبدوا الله ربي وربكم} ويجوز أن تكون موصولة عطفاً على بيان الهاء لا بدلاً؛ انتهى، وفيه بعض تلخيص. أما قوله: وأما فعل الأمر إلى آخر المنع، وقوله لأن الله تعالى لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم فإنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعل مفسراً بقوله {اعبدوا الله} ويكون ربي وربكم من كلام عيسى على إضمار أعني أي ربي وربكم لا على الصفة التي فهمها الزمخشري، فلم يستقم ذلك عنده. وأما قوله: لأن العبادة لا تقال فصحيح لكن ذلك يصحّ على حذف مضاف، أي: ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله، أي القول المتضمن عبادة الله. وأما قوله لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته فلا يلزم في كل بدل أن يحلّ محل المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين: زيد مررت به أبي عبدا لله، ولو قلت زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز ذلك عندهم إلا على رأي الأخفش. وأما قوله عطفاً على بيانا لهاء، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام، وما اختاره الزمخشري وجوّزه غيره من كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد إلا، وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلا بدّ أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها ما لإعراب.

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ} قرأ الجمهور هذا يوم بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وهي في موضع المفعول به، لقال: أي هذا الوقت وقت نفع الصادقين وفيه إشارة إلى صدق عيسى عليه السلام. وقرأ نافع {هذا يوم} بفتح الميم وخرّجه الكوفيون على أنه مبني خبر لهذا وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنياً في بناء الظرف المضاف إلى الجملة، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى. وقال البصريون: شرط هذا البناء إذا أضيف الظرف إلى الجملة الفعلية أن يكون مصدراً بفعل مبني، لأنه لا يسري إليه البناء لا من المبني الذي أضيف إليه، والمسألة مقررة في علم النحو فعلى قول البصريين: هو معرب لا مبني وخرج نصبه على وجهين ذكرهما الزمخشري وغيره أحدهما: أن يكون ظرفاً لقال وهذا إشارة إلى المصدر فيكون منصوباً على المصدرية، أي: قال الله هذا القول أو إشارة إلى الخبر أو القصص، كقولك: قال زيد شعراً أو قال زيد: خطبة فيكون إشارة إلى مضمون الجملة، واختلف في نصبه أهو على المصدرية أو ينتصب مفعولاً به؟ فعلى هذا الخلاف ينتصب إذا كان إشارة إلى الخبر أو القصص نصب المصدر أو نصب المفعول به. قال ابن عطية: وانتصابه على الظرف وتقدير {قال الله هذا} القصص أو الخبر {يوم ينفع} معنى يزيل وصف الآية وبهاء اللفظ والمعنى، والوجه الثاني أن يكون ظرفاً خبر هذا وهذا مرفوع على الابتداء والتقدير، هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى واقع يوم ينفع ويكون هذا يوم ينفع جملة محكية بقال. قال الزمخشري: وقرأ الأعمش يوماً ينفع بالتنوين كقوله {واتقوا يوماً لا تجزى} . وقال ابن عطية: وقرأ الحسن بن عياش الشامي {هذا يوم} بالرفع والتنوين. وقرأ الجمهور {صدقهم} بالرفع فاعل ينفع وقرىء بالنصب، وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم أو على إسقاط حرف الجر أي بصدقهم أو مصدر مؤكد، أي الذين يصدقون صدقهم أو مفعول به

سورة الأنعام

أي يصدقون الصدق كما تقول: صدقته القتال والمعنى يحققون الصدق. سورة الأنعام {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَوَتِ وَفِى الأٌّرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْءَايَةٍ مِّنْءَايَتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأٌّنْهَرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناًءَاخَرِينَ * وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأٌّمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}

{الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَتِ وَالنُّورَ} وقال الزمخشري {جعل} يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله: {جعل الظلمات والنور} وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} والفرق بين الخلق والجعل، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك { ... وجعل منها زوجها} {وجعل الظلمات والنور} لأن الظلمات من الإجرام المتكاثفة والنور من النار {وجعلناكم أزواجاً} أجعل الآلهة إلهاً واحداً؛ انتهى. وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله: {وجعلوا الملائكة} لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثاً، وإنما قال بعض النحويين: إنها بمعنى سمى وقول الطبري {جعل} هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا فكأنه قال: وجعل إظلامها وإنارتها تخليط، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد، فهما متباينان معنى واستعمالاً. {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وقال ابن عطية، ثم تدل على قبح فعل الذين كفروا وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن {ثم} للتوبيخ، والزمخشري من أن {ثم} للاستبعاد ليس بصحيح لأن {ثم} لم توضع لذلك، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول، ثم ولا أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك بل {ثم} هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية. وقال الزمخشري (فإن قلت) : على م عطف قوله: {ثم الذين كفروا} .

(قلت) : إما على قوله: {الحمد لله} على عنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فيكفرون نعمه وإما على قوله {خلق السموات والأرض} على معنى أنه خلق ما خلق، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه؛ انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز، لأنه إذ ذاك يكون معطوفاً على الصلة والمعطوف على الصلة صلة، فلو جعلت الجملة من قوله: {ثم الذين كفروا} صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر، فكأنه قيل: {ثم الذين كفروا به يعدلون} وهذا من الندور، بحيث لا يقاس عليه ولا يجمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح. {ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} وقال الزمخشري: (فإن قلت) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله: {وأجل مسمى عنده} . (قلت) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} انتهى. وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة، أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك.

(قلت) : أوجبه أن المعنى وأي {أجل مسمى عنده} تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم؛ انتهى. وهذا لا يجز لأنه إذا كان التقدير وأي {أجل مسمى عنده} كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي {أجل مسمى عنده} ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز. {وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَوَتِ وَفِى الأٌّرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وقال أبو علي: {هو} ضمير الشأن {والله} مبتدأ خبره ما بعده، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذه لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن، كان عائداً على الله تعالى فيصير التقدير الله {والله} فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظاً ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية، وذلك لا يجوز فلذلك والله أعلم تأول. أبو علي الآية على أن الضمير ضمير الأمر {والله} خبره يعلم في {السماوات وفي الأرض} متعلق بيعلم والتقدير الله يعلم {في السماوات وفي الأرض} {سركم وجهركم} . ذهب الزجاج إلى أن قوله: {في السماوات} متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب. قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى.

وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن {في السماوات} متعلق بلفظ {الله} لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها، وإن كان {في السماوات} متعلقاً بها جميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يعمل في المحرور ما تضمنه لفظ {الله} من معنى الألوهية وإن كان لفظ {الله} علماً لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كما قال: أنا أبو المنهال بعض الأحيان. فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان. وقالت فرقة: {وهو الله} تم الكلام هنا. ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور بـ {يعلم} وقالت فرقة: {وهو الله} تام و {في السماوات وفي الأرض} متعلق بمفعول {يعلم} وهو {سركم وجهركم} والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، وهذا يضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النجاس حيث قال: هذا من أحسن ما قيل فيه، وقالت فرقة: هو ضمير الأمر والله مرفوع على الابتداء وخبره {في السماوات} والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام. ثم استأنف فقال: {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم} أي: ويعلم في الأرض. وقيل: يتعلق {في السماوات} بقوله: {تكسبون} هذا خطأ، لأن {ما} موصولة بـ {تكسبون} وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى الذي، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول. وقيل {في السماوات} حال من المصدر الذي هو {سركم وجهركم} تقدم على ذي الحال وعلى العامل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون {الله في السماوات} خبراً بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية.

وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف موقع قوله {يعلم سركم وجهركم} (قلت) : إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريراً له، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية، هو الله وحده وكذلك إذا جعلت {في السماوات} خبراً بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث، انتهى، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخباراً متعددة. {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْءَايَةٍ مِّنْءَايَتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} والجملة من قوله: {كانوا} ومتعلقها في موضع الحال فيكون {تأتيهم} ماضي المعنى لقوله: {كانوا} أو يكون {كانوا} مضارع المعنى لقوله: {تأتيهم} وذو الحال هو الضمير في {تأتيهم} ، ولا يأتي ماضياً إلا بأحد شرطين أحدهما: أن يسبقه فعل كما في هذا الآية، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمراً. {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} والظاهر أن ما في قوله: {لما كانوا} موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في {به} عائد عليها. وقال ابن عطية: يصح أن تكون مصدرية التقدير {أنباء} كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في {به} لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن {ما} المصدرية اسم لا حرف، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية. {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ} و {يروا} هنا بمعنى يعلموا، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و {كم} في موضع المفعول بـ {أهلكنا} و {يروا} معلقة والجملة في موضع مفعولها، و {من} الأولى لابتداء الغاية و {من} الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله {من} الثانية بدلاً من الأولى.

وأجاز أبو البقاء أن يكون {كم} هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً، أي: كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا؟ ومفعول {أهلكنا من قرن} على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد، لو قلت: كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة {من} لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي.

والظاهر أن قوله {مكناهم} جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: {مكناهم في الأرض} . وقال أبو البقاء: {مكناهم} في موضع خبر صفة {قرن} وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن، {وما} في قوله: {ما لم نمكن لكم} جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين، الذي {لم نمكن لكم} فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه، ويكون الضمير العائد على {ما} محذوفاً أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز، لأن {ما} بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وهن كان مدلولها مدلول الذي، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز، فلو قلت: الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم، وهذا أيضاً لا يجوز لأن {ما} النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها، لو قلت: قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون {ما} مفعولاً به بتمكن على المعنى، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس، وأجاز أيضاً أن تكون {ما} مصدرية والزمان محذوف أي مد {ما لم نمكن لكم} ويعني مدة انتفاء التمكين لكم، وأجاز أيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام {مكنا ليوسف في الأرض} {إنما مكنا له في الأرض} أو لم نمكن لهم.

{وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} و {السماء} السماء المظلة قالوا: لأن المطر ينزل منها إلى السحاب، ويكون على حذف مضاف أي مطر {السماء} ويكون {مدراراً} حالاً من ذلك المضاف المحذوف. وقيل: {السماء} المطر وفي الحديث: «في أثر سماء كانت من الليل» ، وتقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر وقال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قوم رغيناه وإن كانوا غضبانا {ومدراراً} على هذا حال من نفس {السماء} . وقيل: {السماء} هنا السحاب ويوصف بالمدرار، فمدراراً حال منه. {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} و {سخروا} استهزؤوا إلا أن استهزأ تعدّى بالباء وسخر بمن كما قال: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} وبالباء تقول: سخرت به وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ولم يتكرر في {ولقد استهزىء} فكان يكون التركيب، {فحاق بالذين} استهزؤوا بهم لثقل استفعل، والظاهر في {ما} أن تكون بمعنى الذي وجوّزوا أن تكون {ما} مصدرية، والظاهر أن الضمير في {منهم} عائد على الرسل، أي {فحاق بالذين سخروا} من الرسل وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائداً على غير الرسل. قال الحوفي: في أمم الرسل. وقال أبو البقاء: على المستهزئين، ويكون {منهم} حالاً من ضمير الفاعل في {سخروا} وما قالاه وجوزاه ليس بجيد، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل، وأما قول أبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى: {فحاق بالذين سخروا} كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومة من قوله {سخروا} وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال {ولقد استهزىء} على أصل التقاء الساكنين. وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعاً ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن، وهو حاجز غير حصين.

{قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . {ُقُل للَّهِ} ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرنا. وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا: إنها تفسير للرحمة تقديره: أن يجمعكم، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من {الرحمة} وهو مثل قوله {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه} المعنى أن يسجنوه، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال: وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب في القسم، انتهى. وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحداً مما ذكر نحو قوله تعالى: {وإمّا ينزغنك} وكذلك قوله: وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل ما ذكروه، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب، فإذا قلت والله لأضربنّ زيداً، فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع.

{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} اختلف في إعراب {الذين} فقال الأخفش: هو بدل من ضمير الخطاب في {ليجمعنكم} وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية. فقال: ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله::ّ {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد، ويجيء هذا بدل البعض من الكل، انتهى. وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد، لأنه إذا جعلنا {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة كان {الذين} بدل بعض من كل، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر {الذين خسروا أنفسهم} منهم وقوله فيفيدنا إبدال {الذين} من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز، وهذا كله مقرر في علم النحو. وقال الزجاج: {الذين} مرفوع على الابتداء والخبر قوله: {فهم لا يؤمنون} ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون {الذين} منصوباً على الذمّ أي: أريد {الذين خسروا أنفسهم} ؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم باذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع {الذين} جر نعتاً للمكذبين أو بدلاً منهم.

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَدةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لاٌّنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * الَّذِينَءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِئَايَتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ

يُجَدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِئَايَتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} وانتصاب غير على أنها مفعول أول لاتخذ. وقرأ الجمهور {فاطر} فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية: أو على الابتداء؛ انتهى. ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرىء شاذاً بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال، والمعنى على هذا أأجعل {فاطر السموات والأرض} غير الله، انتهى. والأحسن نصبه على المدح. وقرأ الزهري فطر جعله فعلاً ماضياً. {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار. وقيل لي: لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ {إني أمرت أن أكون أول من أسلم} فيكون مندرجاً تحت لفظ {قل} إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين. وقيل: هو معذوف على معمول {قل} إذ لو كان كذلك لكان الترتيب ولا أكون من المشركين. وقيل: هو معطوف على معمول {قل} حملاً على المعنى، والمعنى {قل إني} قيل لي كن {أول من أسلم، ولا تكوننّ من المشركين} فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على {قل} أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا. وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي. فقيل: هو شرط معترض لا موضع له من الإعراب كالاعتراض بالقسم. وقيل: هو في موضع نصب على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصياً ربي.

{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} قرأ حمزة وأبو بكر والكساني من يصرف مبنياً للفاعل فمن مفعول به مقدم ويجوز أن يعرب {من} مبتدأ والضمير في {عنه} عائد عليه، ومفعول {بصرف} محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية قبل التقير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون {من} منصوباً بإضمار فعل يفسره معنى {يصرف} ويجوز على إعراب {من} مبتدأ أن يكون المفعول مذكوراً، وهو {يومئذ} على حذف أي هول يومئذ فينتصب {يومئذ} انتصاب المفعول به. وقرأ باقي السبعة {من يصرف} مبنياً للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في {يصرف} عائداً على {من} وفي {عنه} عائداً على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب، ويجوز أن يكون الضمير في {عنه} عائداً على {من} ومفعول {يصرف} {يومئذ} وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في {يومئذ} تنوين عوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم، إذ يكونن الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة {يصرف} مبنياً للفاعل لتناسب {فقد رحمه} ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي {من يصرف} الله ورجح الطبري قراءة {يصرف} مبنياً للمفعول قال: لأنها أقل إضماراً. قال ابن عطية: وأما مكي بن أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية: وهذا توجيه لفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛ انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى

الترجيح بين القراءات السبع. وقال: قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا، أحمد بن يحيى كان عالماً بالنحو واللغة متديناً ثقة. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} و {فوق} منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال: وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر.

{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} قرأ حمزة وأبو بكر والكساني من يصرف مبنياً للفاعل فمن مفعول به مقدم ويجوز أن يعرب {من} مبتدأ والضمير في {عنه} عائد عليه، ومفعول {بصرف} محذوف اختصاراً إذ قد تقدّم في الآية قبل التقير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون {من} منصوباً بإضمار فعل يفسره معنى {يصرف} ويجوز على إعراب {من} مبتدأ أن يكون المفعول مذكوراً، وهو {يومئذ} على حذف أي هول يومئذ فينتصب {يومئذ} انتصاب المفعول به. وقرأ باقي السبعة {من يصرف} مبنياً للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في {يصرف} عائداً على {من} وفي {عنه} عائداً على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب، ويجوز أن يكون الضمير في {عنه} عائداً على {من} ومفعول {يصرف} {يومئذ} وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في {يومئذ} تنوين عوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم، إذ يكونن الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضاً عنها، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة {يصرف} مبنياً للفاعل لتناسب {فقد رحمه} ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي {من يصرف} الله ورجح الطبري قراءة {يصرف} مبنياً للمفعول قال: لأنها أقل إضماراً. قال ابن عطية: وأما مكي بن أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية: وهذا توجيه لفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف، وأما المعنى فالقراءتان واحد؛ انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً كان لا يرى

الترجيح بين القراءات السبع. وقال: قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة، لم أفضل إعراباً على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا، أحمد بن يحيى كان عالماً بالنحو واللغة متديناً ثقة. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} و {فوق} منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال: وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر. {قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} جملة من مبتدأ وخبر. {قل الله أكبر شهادة} وانتصب {شهادة} على التمييز. قال ابن عطية: ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل؛ انتهى. وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يتشبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولاً وجعل {أكبر} مشبهاً بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولاً وهذا تخليط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف. {وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لاٌّنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} قرأ الجمهور {وأوحى} مبنياً للمفعول والقرآن مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري {وأوحى} مبنياً للفاعل و {القرآن} منصوب به. والظاهر وهو قول الجمهور إن {من} في موضع نصب عطفاً على مفعول {لأنذركم} والعائد على {من} ضمير منصوب محذوف وفاعل {بلغ} ضمير يعود على {القرآن} . وقالت فرقة: الفاعل بـ {بلغ} عائد على {من} لا على {القرآن} .

والمفعول محذوف والتقدير ومن بلغ الحلم، ويحتمل أن يكون {من} في موضع رفع عطفاً على الضمير المستكن في {لأنذركم به} وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن. {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِءَالِهَةً أُخْرَى} وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة، كقوله: {مآرب أخرى والأسماء الحسنى} ولما كانت الآلهة حجارة وخشباً أجريت هذا المجرى. {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أعرب الذين خسروا مبتدأ والخبر منهم لا يؤمنون. {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} قيل: {لوم} معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به قاله ابن عطية وأبو البقاء. وقيل: المحذوف متأخر تقديره {ويوم نحشرهم} كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف قاله الزمخشري. وقيل: العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم. وقيل: هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم. وقيل: هو مطعوف على ظرف محذوف، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف والتقدير أنه لا يلفح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم قاله الطبري. وحذف مفعولاً {يزعمون} اختصاراً إذ دل ما قبله على حذفهما والتقدير تزعمونهم شركاء، ويحسن أن يكون التقدير كما قال بعضهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} إنها تشفع لكم عند الله عز وجل.

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} وقرأ الجمهور {ثم لم تكن} وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص {فتنتهم} بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء، و {فتنتهم} بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن {فتنتهم} بالياء بالنصب، لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا} {وما كان حجتهم إلا أن قالوا} ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازياً أو لوقوعها من حيث المعنى على مذكر، والفتنة اسم يكن والخبر {إلا أن قالوا} جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ {ثم لم تكن} بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله، ومن قرأ {ثم لم تكن} بالتاء {فتنتهم} بالنصب فالأحسن أن يقدر {إلا أن قالوا} مؤنثاً أي {ثم لم تكن فتنتهم} إلا مقالتهم. وقيل: ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى. قال أبو علي: وهذا كقوله تعالى: {فله عشر أمثالها} فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى. وقال الزمخشري: وقرىء {تكن} بالتاء و {فتنتهم} بالنصب وإنما أتت {أن قالوا} لوقوع الخبر مؤنثاً كقوله: من كانت أمك؛ انتهى. وتقدم لنا أن الأولى أن يقدر {أن قالوا} بمؤنث أي إلا مقالتهم. وكذا قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من، لأن من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر نحو ومنهم من يستمعون إليك. ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان. ومن تقنت في قراءة

التاء فليست أنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة كانت أمك. وقرأ الأخوان {والله ربنا} بنصب الباء على النداء أي يا ربنا، وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان. {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} الخطاب للرسول عليه السلام والنظر قلبي و {كيف} منصوب بـ {كذبوا} والجملة في موضع نصب بالنظر لأن {انظر} معلقة و {كذبوا} ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقاً لوقوعه ولا بد. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ما قيل مصدرية وقيل موصولة. والجملة عطف على كذبوا أو استئنافية. {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} {وجعلنا} معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدّمت صارت حالاًو {أن يفقهوه} في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه.

{حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ومجيء الجملة الشرطية {إذا} بعد {حتى} كثير جدًّا في القرآن، وأوّل ما وقعت فيه قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة لإذا ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط {حتى} التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيداً ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوباً و {حتى} إذا وقعت بعدها {إذا} يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا {جاؤوك يجادلونك} يقول أو يكون التقدير {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن يقولوا: {إن هذا إلا أساطير الأولين} في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى {حتى إذا} وتركيب {حتى إذا} لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله: فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال: أقتلت، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام، نحو قوله: {آتوني زبر الحديا} {حتى إذا} ساوى بين الصدقين قال: انفخوا حتى إذا جعله ناراً التقدير فأتوه بها ووضعها بين الصدقين {حتى إذا} ساوى بينهما قال: انفخوا فنفخه {حتى إذا} جعله ناراً بأمره وإذنه قال آتوني أفرغ ولهذا قال الفراء {حتى إذا} لا بد أن يتقدمها كلام لفظاً أو تقديراً، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتى مستوفاة ودخولها على الشرط، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب غيرهما. وقال الزمخشري: هنا هي {حتى} التي تقع بعدها الجمل والجملة قوله: {إذا جاؤوك يقول الذين كفروا ويجادلونك} في موضع الحال؛ انتهى. وهذا موافق لما ذكرناه، ثم قال: ويجوز أن تكون الجارة ويكون {إذا جاؤوك} في

محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و {يجادلونك} حال. وما جوّزه الزمخشري في {إذا} بعد {حتى} من كونها مجرورة أوجبه ابن مالك في التسهيل، فزعم أن {إذا} تجز بـ {بحتى} . قال في التسهيل: وقد تفارقها، يعني {إذا} الظرفية مفعولاً بها ومجرورة بـ {بحتى} أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجزيزه أن تكون {إذا} مجرورة بـ {بحتى} ، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر قولاً غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك فقال هنا أبو البقاء {حتى إذا} في موضع نصب لجوابها وهو {يقول} وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية، كما لا تعمل في الجمل و {يجادلونك} حال من ضمير الفاعل في {جاؤوك} وهو العامل في الحال، يقول جواب {إذا} وهو العامل في إذا؛ انتهى. {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وفي قوله: {ينهون وينأون} تجنيس التصريف وهو أن يتنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالها {وينأون} انفردت بالهمزة ومنه وهم يحسبون أنهم يحسنون ويفرحون ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحرف وهو أن يكون الحرف فرقاً بين الكلمتين. وأنشد عليه: إن لم أشن على ابن هند غارة لنهاب مال أو ذهاب نفوس وذكر غيره أن تجنيس التحريف، هو أن يكون الشكل فرقاً بين الكلمتين كقول بعض العرب: وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم. وقال بعض العرب: اللهي تفتح اللهى. {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} إن نافية. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} وجواب {لو} محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمراً شنيعاً وهولاً عظيماً وحذف جواب {لو} لدلالة الكلام عليه جائز فصيح ومنه {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} الآية. وقول الشاعر: وجدّك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه و {نرى} مضارع معناه الماضي أي: ولو رأيت فإذ باقية على كونها ظرفاً ماضياً معمولاً لترى وأبرز هذا في صورة المضي وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي، والظاهر أن الرؤية هنا بصرية وجوزوا أن تكون من رؤية القلب. ومعمول {ترى} محذوف تقديره {ولو ترى} حالهم {إذ} وقفوا. وقيل: {ترى} باقية على الاستقبال و {إذ} معناه إذا فهو ظرف مستقبل فتكون {لو} هنا استعملت استعمال أن الشرطية، وألجأ من ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد.

{فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِئَايَتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قرأ ابن عامر وحمزة وحفص {ولا نكذب} {ونكون} بالنصب فيهما وهذا النصب عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير {يا ليتنا} يكون لنا رد وانتفاء تكذيب وكون {من المؤمنين} وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري {ولا نكذب ونكون} بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن {من المؤمنين} انتهى، وليس كما ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب، لأن الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية، ويميزها من الفاء، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. وقال سيبويه: والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصاً. وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينا لا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون من المؤمنين. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر

في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر {ولا نكذب} بالرفع {ونكون} بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم؛ انتهى. وكان قد قدم أن رفع {ولا نكذب ونكون} في قراءة باقي السبعة على وجهين أحدهما: العطف على {نرد} فيكونان داخلين في التمني. والثاني الاستئناف والقطع، فهذان الوجهان يسوغان في رفع {ولا نكذب} على هذه القراءة وف مصحف عبد الله فلا نكذب بالفاء وفي قراءة أبي فلا {نكذب بآيات ربنا أبداً ونكون} . وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن {نكون من المؤمنين} وجوزوا في رفع {ولا نكذب ونكون} أن يكون في موضع نصب على الحال فتلخص في الرّفع ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون معطوفاً على {نرد} فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلينن في التمني أي وليتنا لا نكذب، وليتنا نكون من المؤمنينن، ويكون هذا الرفع مساوياً في هذا الوجه للنصب لأن في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه، ففي النصب على مصدر من الرد متوهم وفي الرّفع على نفس الفعل. والثاني من وجوه الرّفع أن يكون رفع {ولا نكذب ونكون} على الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجاً تحت القول أي قالوا: يا ليتنا نرد وقالوا: نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال. فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله: دعني ولا أعود، بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني.

والثالث من وجوه الرّفع: أن يكون {ولا نكذب ونكون} في موضع نصب على الحال، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيكون داخلاً قيداً في الرد المتمني وصاحب الحال هو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله {وإنهم لكاذبون} بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب {ولا نكذب ونكون} إذا كانا معطوفين على نرد. وحكي أن بعض القراء قرأ {ولا نكذب} بالنصب {ونكون} بالرفع فالنصب عطف على مصدر متوهم والرفع في {ونكون} عطف على {نرد} أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف فيه الحال لأنه مضارع مثبت فلا يكون حالاً بالواو إلا على تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت، وأرهنهم مالكاً. والأصح أن {يا} في قوله {يا ليت} حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذف متعلقة رأساً وذلك إجحاف كثير. {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} {بل} هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق، وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان ما بعدها من إخبار الله تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم، تكون فيه للإضراب كقوله: {بل افتراه بل هو شاعر} . {وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} قال الزمخشري ـــ معطوفة على لعادوا ـــ ويجوز العطف على وأنهم لكاذبون.

وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر، أي لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا، هكذا قال بعض أصحابنا إنه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمي المجرور برب نحو ربه رجلاً أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال: أو جعل خبره ومثله بقوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} التقديران الحياة إلا حياتنا الدنيا، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلالاً لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله: {حياتنا} . {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير {إذ وقفوا على ربهم} قائلاً لهم {أليس هذا بالحق} . {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا} وجوزوا في انتصاب {بغتة} أن يكون مصدراً في موضع الحال من {الساعة} أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة وما مصدرية وقيل موصولة. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} والواو في {وهم} واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى.

{أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} {ساء} هنا تحتمل وجوهاً ثلاثة. أحدها: أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون، وتحتمل {ما} على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون {ما} مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم. والوجه الثاني: أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما. والثالث: أنها أيضاً حوّلت إلى فعل بضم العين، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام، ويكون إطلاق الذي سبق في {ما} في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} جارياً فيها هنا، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ وخبر، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر، وإن الكلام فيه خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب فقط فقال: ساء ما يزرون بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله: {ساء مثلاً القوم} ، وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن {ساء} متعدية و {ما} فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد. قال كقول الشاعر: رضيت خطة خسف غير طائلة فساء هذا رضا يا قيس عيلانا ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد؛ بل يحتمل قوله: فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة.

{وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} واللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل يقال: لهيت عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي، فقال هذا: فيه ضعف وبعد لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم: لهيان ولام الأول واو؛ انتهى. وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات الواو تنقلب فيه الواو ياء كما تقول: شقي فلان وهو من الشقوة فكذلك لهي، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها فقالوا: لهي كما قالوا: خلى بعيني وهو من الحلو وأما استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأن التثنية هي كالفعل تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في المفرد في قولهم: له اسم فاعل من لهي كما قالوا: شج وهو من الشجو، وقالوا في تثنيته: شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من هذا في المفردات. وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على الإضافة، وقالوا: هو كقولهم: مسجد الجامع فقيل هو من إضافة الموصوف إلى صفته. وقال الفراء: هي إضافة الشيء إلى نفسه كقولك: بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين؛ انتهى. وقيل: من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي ولدار الحياة الآخرة، ويدل عليه وما الحياة الدنيا وهذا قول البصريين، وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل كقوله {وإن لنا للآخرة والأولى} وقوله {وللآخرة خير لك من الأولى} . وقرأ باقي السبعة {وللدار الآخرة} بتعريف الدار بأل ورفع {الآخرة} نعتاً لها و {خير} هنا أفعل التفضيلوحسن حذف المفضل عله لوقوعه خبراً والتقدير من الحياة الدنيا، وقيل: {خير} هنا ليست للتفضيل وإنما هي كقوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} إذ لا اشتراك بين المؤمن والكافر في أصل الخير، فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن.

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّلِمِينَ بِئَايَتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأٌّرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَهِلِينَ} . {قد} حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم كقولك: قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضي فالتوقع كان عند السامع، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذ المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان؛ كقولهم: هو يعطي ويمنع. وقال الزمخشري والتبريزي: قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله: ولكنه قد يهلك المال نائله؛ انتهى. وما ذكره من أن قد تأتي للتكثير في الفعل والزيادة قول غير مشهور للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلاً بقول الشاعر: قد أترك القرن مصفرًّا أنامله كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفرصاد وبقوله: أخي ثقةٍ لا يتلف الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله

والذي نقوله: إن التكثير لم يفهم من {قد} وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرم مرّة واحدة، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك، في قوله: {قد نعلم} لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير، وقوله: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته، والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي. قال بعض أصحابنا: فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال: هذا ظاهر قول سيبويه، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله {قد نعلم إنه ليحزنك} وقوله {لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} وقول الشاعر: وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّه ولو كان تحت الأرض سبعين واديا وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قوله: {قد نرى تقلب وجهك} انتهى. وقال مكي: {قد} هنا وشبهه تأتي لتأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه ونعلم بمعنى علمنا. وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن: كلمة {قد} تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل؛ انتهى، نحو قولهم: إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في {أنه} ضمير الشأن، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبران ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفرداً وذلك لا يجوز عند البصريين.

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَهُمْ نَصْرُنَا} وما مصدرية ويحتمل {وأوذوا} أن يكون معطوفاً على قله: {كذبت} ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله {فصبروا} ويبعد أن يكون معطوفاً على {كذبوا} ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم. {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} والفاعل بجا. قال الفارسي: هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب. وقيل: معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبأهم لا أنباؤهم، لقوله {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} . وقال الرماني: فاعل جاءك مضمر تقديره: ولقد جاءك نبأ. وقال ابن عطية: الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير: ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي نبأ أو بيان، فيكون الفاعل مضمراً يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمر تقديره هو و {من نبإ} في موضع الحال، وذوا لحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه {جاءك} .

{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} وكان فيها ضمير الشأن، والجملة المصدرة بكبر عليك إعراضهم في موضع خبر كان وفي ذلك دليل على أن خبر كان وأخواتها يكون ماضياً ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد، لكثرة ما ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب خلافاً لمن زعم أنه لا بدّ فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافاً لمن حصر ذلك بكان دون أخواتها، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعاً بكبر كما في القول الأول وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض وهو في موضع الخبر وهي مسألة خلاف، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره فافعل كما تقول: إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره، أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو المضارع المنفيّ بلم لأنه ماض، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر.

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأٌّرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئْايَتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلْ إِيَّهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَهُمْ بَغْتَةً فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الأٌّيَتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ

إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّلِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأٌّعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّلِمِينَ} . {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} والموتى يبعثهم الله قيل جملة اسمية من مبتدأ وخبر. وقيل ليس جملة بل الموتى معطوف على الذين يسمعون، ويبعثهم الله جملة حالية. {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأٌّرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وقرأ ابن أبي عبلة {ولا طائر} بالرفع، عطفاً على موضع {دابة} . وجوزوا أن يكون {في الأرض} في موضع رفع صفة على موضع {دابة} ، وكذلك يقتضي أن يكون {يطير} ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة، والباء في {بجناحيه} للاستعانة كقوله: «كتبت بالقلم» و {إلا أمم} هو خبر المبتدأ الذي هو {من دابة ولا طائر} وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفرداً حملاً على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق.

{مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَبِ مِن شَىْءٍ} والتفريط التقصير فحقه أن يتعدى بفي كقوله {على ما فرطت في جنب الله} وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون {من شيء} في موضع المفعول به و {من} زائدة، والمعنى: ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب شيئاً يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف، ويبعد جعل من هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف، وإن قاله بعضهم. وجعل أبو البقاء هنا من شيء واقعاً موقع المصدر، أي تفريطاً. {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} مفعول {يشأ} محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله {يضلله} ومن يشأ هدايته {يجعله} ولا يجوز في من فيهما أن يكون مفعولاً بيشأ للتعاند الحاصل بين المشيئتين، (فإن قلت) : يكون مفعولاً بيشأ على حذف مضاف تقديره إضلال من يشاء الله وهداية من يشاء الله، فحذف وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول. فالجواب: أن ذلك لا يجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه، والضمير في {يضلله} إما أن يكون عائداً على إضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على إضلال فيكون كقوله {يغشاه موج من فوقه} إذ الهاء تعود على ذي المحذوفة من قوله: أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه يصير التقدير إضلال {من يشأ الله يضلله} أي يضلل الإضلال وهذا لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلوا الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اشم الشرط وذلك لا يجوز. (فإن قلت) : يكون التقدير من يشأ الله بالإضلال فيكون على هذا مفعولاً مقدماً لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا. قال الشاعر: أرادت عرار بالهوان ومن يرد عرار العمرى بالهوان فقد ظلم

فالجواب: أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في معنى الشيء أن يعدى تعديته، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول: دخلت الدار ودخلت في غمار الناس، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا وارداً في الفعل الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى، وإذا تقرّر هذا فإعراب من يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره والثاني أن يكون مفعولاً بفعل محذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط من حيث المعنى، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق الله يشأ إضلاله ومن يسعد يشأ هدايته {يجعله على صراط مستقيم} .

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل أرأيت زيداً أي بعينك فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول: أرأيت وأنت تقول أخبرني فيها هنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام العرب تومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ انتهى. وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول، ومذهب الفراء أن التاء هي حرف خطاب التاء باختلاف المخاطب ولا يجوز إلحاق الكاف بها وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني جاز أن تحقق الهمزة، وبه قرأ الجمهور في {أرأيتكم} وأرأيتم وأرأيت وجاز أن تسهل بين بين وبه قرأ نافع وروي عنه إبدالها ألفاً محضة ويطول مدّها لسكونها وسكون ما بعدها، وهذا البدل ضعيف عند النحويين إلا أنه قد سمع من كلام العرب حكاه قطرب وغيره وجاز حذفها وبه قرأ الكسائي وقد جاء ذلك في كلام العرب. قال الراجز: أريت إن جاءت به أملودا

بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب، قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل أرأيت زيداً أي بعينك فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول: أرأيت وأنت تقول أخبرني فهاهنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام العرب تومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ انتهى. وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول، ومذهب الفراء أن التاء هي حرف خطاب كهي في أنت وإن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل، استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبدالاً وتصحيحاً مذكور في علم النحو، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم. وذلك تفسير معنى لا تفسير إعراب قالوا: فتقول العرب أرأيت زيداً ما صنع فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت وهو جائز في علمت ورأيت الباقية على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني لأن أخبرني لا تعلق، فكذلك ما كان بمعناها والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. قال سيبويه: وتقول أرأيتك زيداً أبو من هو وأرأيتك عمراً أعندك هو أم عند فلان لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ألا ترى أنك لو قلت أرأيت أبو من أنت وأرأيت أزيد ثم أم فلان، لم يحسن لأن فيه معنى أخبرني عن زيد. ثم قال سيبويه: وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني وقد اعترض كثير من النحاة على سيبويه وخالفوه، وقالوا: كثيراً ما تعلق أرأيت وفي القرآن من ذلك كثير منه {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون} {أرأيت إن كذب وتولى ألم

يعلم} . وقال الشاعر: أرأيت إن جاءت به أملودا مرجّلاً ويلبس البرودا أقائلن أحضروا الشهودا وذهب ابن كيسان إى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيداً ما صنع بدل من أرأيت، وزعم أبو الحسن إن أرأيتك إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعده الاستفهام، لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها بالكلية وتضمن معنى أما أو تنبه وجعل من ذلك قوله تعالى: قال {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} فإني نسيت الحوت وقد أمعنا الكلام على أرأيت ومسائلها في كتابنا المسمى بالتذييل في شرح التسهيل وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعاً في كتاب فيوقف عليه فيه، ونحن نتكلم على كل مكان تقع فيه أرأيت في القرآن بخصوصيته. فنقول الذي نختاره إنها باقية على حكمها من التعدّي إلى اثنين فالأول منصوب والذي لم نجده بالاستقراء إلا جملة استفهامية أو قسمية، فإذا تقرر هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية محذوف والمسألة من باب التنازع تنازع {أرأيتكم} والشرط على عذاب الله فأعمل الثاني وهو {أتاكم} فارتفع عذاب به، ولو أعمل الأول لكان التركيب عذاب بالنصب ونظيره اضرب إن جاءك زيد على أعمال جاءك، ولو نصل لجاز وكان من أعمال الأول وأما المفعول الثاني فهي الجملة الاستفهامية من {أغير الله تدعون} والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره {أغير الله تدعون} لكشفه والمعنى: قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله تدعون لكشفه أو كشف نوار لها، وزعم أبو الحسن أن {أرأيتكم} في هذه الآية بمعنى أما.

قال وتكون أبداً بعد الشرط وظروف الزمان والتقدير أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت لا جواب الشرط وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية، وقد ذكرنا تخريجها على ما استقر فيها فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد، وعلى ما زعم أبو الحسن لا يكون لأرأيت مفعولان ولا مفعول واحد، وذهب بعضهم إلى أن مفعول {أرأيتكم} محذوف دل عليه الكلام تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله: {أغير الله تدعون} . وقال آخرون لا تحتاج هنا إلى جواب مفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وهذان القولان ضعيفان، وأما جواب الشرط فذهب الحوفي إلى أن جوابه {أرأيتكم} قدّم لدخول ألف الاستفهام عليه وهذا لا يجوز عندنا، وإنما يجوز تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد وذهب غيره إلى أنه محذوف فقدره الزمخشري فقال: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ وإصلاحه بدخول الفاء أي فمن تدعون؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جواباً للشرط فلا بد فيها من الفاء؟ وقدره غيره إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة دعوتم الله ودل عليه الاستفهام في قوله: {أغير الله تدعون} .

وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق الشرط بقوله: {أغير الله تدعون} كأنه قيل أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله؛ انتهى. فلا يجوز أن يتعلق الشرط بقوله: {أغير الله} لأنه لو تعلق به لكان جواباً للشرط، فلا يجوز أن يكون جواباً للشرط لأن جواب الشرط إذا كان استفهاماً بالحرف لا يكون إلا بهل مقدماً عليها الفاء نحو أن قام زيد فهل تكرمه؟ ولا يجوز ذلك في الهمزة لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها، فلا يجوز إن قام زيد فأتكرمه ولا أفتكرمه ولا أتكرمنه، بل إذا جاء الاستفهام جواباً للشرط لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها هكذا نقله الأخفش عن العرب، ولا يجوز أيضاً من وجه آخر لأنا قد قرّرنا إن أرأيتك متعد إلى اثنين أحدهما في هذه الآية محذوف وأنه من باب التنازع والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعة فلو جعلتها جواباً للشرط لبقيت {أرأيتكم} متعدّية إلى واحد، وذلك لا يجوز وأيضاً التزام العرب في الشرط الجائي بعد أرأيت مضى الفعل دليل على أن جواب الشرط محذوف، لأنه لا يحذف جواب الشرط إلا عند مضيّ فعله قال تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله} {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً قل أرأيتم إن جعل الله} {أفرأيت إن متعناهم سنين} {أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم} إلى غير ذلك من الآيات، وقال الشاعر: أرأيت إن جاءت به أملودا وأيضاً فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جواب الشرط، إذ لا يصح وقوعها جواباً للشرط. وتلخص في جواب الشرط من تدعون. أحدها: أن مذكور وهو {أرأيتكم} المتقدّم الثاني أنه مذكور وهو {أغير الله تدعون} . والثالث: أنه محذوف تقديره من تدعون.

والرابع: أنه محذوف تقديره دعوتم الله، هذا ما وجدنا منقولاً والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال وهو أن يكون محذوفاً لدلالة {أرأيتكم} عليه وتقديره {إن أتاكم عذاب الله} فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشه، كما تقول: أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به؟ التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت التقدير فأنت ظالم فحذف فأنت ظالم وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه، وهذا التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية. {إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} وجواب {إن كنتم صادقين} محذوف تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم إن غير الله إله فهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب؟.

{بَلْ إِيَّهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} {إياه} ضمير نصب منفصل وتقدم الكلام عليه في قوله: {إياك نعبد} مستوفى. وقال ابن عطية: هنا {إياه} اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبداً؛ انتهى، وهذا مخالف لمذهب سيبويه، لأن مذهب سيبويه إن ما اتصل باباً من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة وهو حرف لا اسم أضيف إليه أياً لأن المضمر عنده لا يضاف لأنه أعرف المعارف، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة لا يكون مضمراً وهذا فاسد، ومجيئه هنا مقدماً على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول وعند الزمخشري إن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص، ولذلك قال: بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة، والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام لا من تقديم المفعول على العامل و {بل} هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما تضمنه الكلام السابق من معنى النفي لأن معنى الجملة السابقة النفي وتقديرها ما تدّعون أصنامكم لكشف العذاب وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب يعني الإبطال، و {ما} من قوله {ما تدعون} الأظهر أنها موصولة أي فيكشف الذي تدعون. قال ابن عطية: ويصح أن تكون ظرفية؛ انتهى. ويكون مفعول يكشف محذوفاً أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعيه وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة، ويضعفه وصل {ما} الظرفية بالمضارع وهو قليل جدًّا إنما بابها إن توصل بالماضي تقول ألا أكلمك ما طلعت الشمس ولذلك علة، أما ذكرت في علم النحو، قال ابن عطية: ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام. وقال الزجاج: وهو مثل واسأل القرية؛ انتهى. ويكون تقدير المحذوف فيكشف موجب دعائكم وهو العذاب، وهذه دعوى محذوف غير متعين وهو خلاف الظاهر والضمير في {إليه} عائد على {ما} الموصولة أي إلى كشفه ودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء يتعدى بإلى قال الله تعالى: {وإذا دعوا

إلى الله} الآية. وقال الشاعر: وإن دعوت إلى جلي ومكرمة يوماً سراة كرام الناس فادعينا وتتعدى باللام أيضاً قال الشاعر: وإن أدع للجلي أكن من حماتها وقال آخر: دعوت لما نابني مسوراً وقال ابن عطية: والضمير في {إليه} يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله؛ انتهى. وهذا ليس بجيد لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} أجيب دعوة الدّاع إذا دعان ومن كلام العرب دعوت الله بمعنى دعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجأون، كأنه قيل فيكشف ما يلجأون فيه بالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعذق تعالى الكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا يجب عليه شيء. قال الزمخشري: إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم تكن مفسدة؛ انتهى. وفي قوله: ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال، وظاهر قوله: وتنسون ما تشركون النسيان حقيقة والذهول والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه تجرد خاطره من كل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم، فيكاد يصير كالمجلأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكر غير الله القادر على كشف مادهم. وقال الزمخشري: {وتنسون ما تشركون} وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد. وقال ابن عطية: تتركونهم وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال: تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون. وقال النحاس: هو مثل قوله {لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى} . وقيل: يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله، و {ما} موصولة أي وتنسون الذي تشركون. وقيل: {ما} مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجمل بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن عطية.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} ومفعول {أرأيتم} الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول: أرأيتك زيداً ما يصنع وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه. قال الحوفي: وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال والعامل في الحال {أرأيتم} كقوله: اضربه إن خرج أي خارجاً، وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام؛ انتهى، وهذا الإعراب تخليط. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّلِمُونَ} والجملة من قوله {هل يهلك} معناها النفي أي ما يهلك {إلا القوم الظالمون} ولذلك دخلت إلا وهي في موضع المفعول الثاني لا رأيتكم والرابط محذوف أي هل يهلك به؟ والأول من مفعولي {أرأيتكم} محذوف من باب الإعمال لما قررناه. {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وانتصب مبشرين ومنذرين على الحال. {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال الزمخشري (فإن قلت) : أعلم الغيب ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفاً على محل قوله: {خزائن الله} لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول؛ انتهى. ولا يتعين ما قاله، بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل. {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} قال الزمخشري في محل نصب حال من يحشروا. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الجملة في موضع الحال.

{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ} {ومن} في {من حسابهم} وفي {من حسابك} مبعضة في موضع نصب على الحال في {من حسابهم} وذو الحال هو من شيء لأنه لو تأخر من حسابهم لكان في موضع النعت لشيء فلما تقدّم انتصب على الحال و {عليك} في موضع الخبر لما إن كانت حجازية، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفاً أو مجروراً وفي موضع خبر المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن ما تميمية وأما في {من حسابك} فقيل: هو في موضع نصب على الحال ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز تقديمها عليه خصوصاً إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال. وقيل: يجوز أن يكون الخبر {من حسابك} و {عليهم. صفة لشيء تقدّمت عليه فانتصب على الحال وهذا ضعيف، لأن عليهم هو محطّ الفائدة فترجح أن يكون هو الخبر ويكون من حسابك} على هذا تنبيهاً لا حالاً ولا خبراً. {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّلِمِينَ} الظاهر أن قوله: {فتطردهم} جواب لقوله {ما عليك من حسابهم من شيء} يكون النصب هنا على أحد معنى النصب في قولك: ما تأتينا فتحدّثنا لأن أحد معنى هذا ما تأتينا محدثاً إنما تأتي ولا تحدث، وهذا المعنى لا يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي لا يقع هذا فكيف يقع هذا وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون حسابهم عليك فيكون وقع الطرد، وأطلقوا جواب أن يكون {فتطردهم} جواباً للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جواباً والظاهر في قوله: {فتكون من الظالمين} أن يكون معطوفاً على {فتطردهم} والمعنى الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن الطرد، وجوّزوا أن يكون {فتكون} جواباً للنهي في قوله: {ولا تطرد} كقوله: {لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} وتكون الجملتان وجواب الأولى اعتراضاً بين النهي وجوابه.

{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّكِرِينَ * وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَتِنَا فَقُلْ سَلَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الأٌّيَتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَصِلِينَ * قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الأٌّمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّلِمِينَ} . {لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ} اللام ــــ في ليقولوا ـــ لام كي، ومن رأى لام الصيرورة فهي هذه عنده. {فَقُلْ سَلَمٌ عَلَيْكُمْ} قال ابن عطية: لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت؛ انتهى. والتخصيص الذي يعنيه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعاً إلى التخصيص والتعميم والذي يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.

{أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له، ووهم النحاس فزعم أن قوله {فإنه} عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم، لأن {من} مبتدأ سواء كان موصولاً أو شرطاً فإن كان موصولاً بقي بلا خبر وإن كان شرطاً بقي بلا جواب. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل. وقيل: فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو {من} من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والإخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب. {وبجهالة} في محل نصب على الحال. ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وإن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول {كتب} . {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} واستبان يكون لازماً ومتعدّياً وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها. وقرأ العربيان وابن كثير وحفص {ولتستبين} بالتاء سبيل بالرفع. وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء سبيل بالرفع فاستبان هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المحرمين. وقرأ نافع {ولتستبين} بتاء الخطاب {سبيل} بالنصب فاستبان هنا متعدية. {يقضى بالحق} وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به. وقيل: يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي: وعليهما مسدودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظاً لالتقاء الساكنين. {وَهُوَ خَيْرُ الْفَصِلِينَ} قيل خير أفعل تفضيل وقيل ليس كذلك.

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الأٌّرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَسِبِينَ * قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الأٌّيَتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءَايَتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ * قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَبِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَطِينُ فِى الأٌّرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَبٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَتِ الأٌّرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ} في موضع الحال من {ورقة} وهي حال من النكرة. كما تقول: ما جاء أحد إلا راكباً.

وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله: ولا حبة {ولا رطب ولا يابس} معطوف على قوله {من ورقة} والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، فالمعنى إلا أكرمتها ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميقع {ولا رطب ولا يابس} بالرفع فيهما والأولى أن يكونا معطوفين على موضع {من ورقة} ويحتمل الرفع على الابتداء وخبره {إلا في كتاب مبين} . {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} وظاهر {ويرسل} أن يكون معطوفاً على {وهو القاهر} عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار الهر. وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله: {يتوفاكم} وما بعده من الأفعال وأن يكون معطوفاً على {القاهر} التقدير وهو الذي يقهر ويرسل، وأن يكون حالاً على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير في {القاهر} وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب، {وعليكم} ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله: {يرسل عليكما شواظ} ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا ويحتمل أن يكون متعلقاً بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم، كما قال: وإن عليكم لحافظين كما تقول: حفظت عليك ما تعمل. وجوّزوا أن يكون حالاً لأنه لو يتأخر لكان صفة أي حفظه كائنة عليكم. {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ} وقرأ الحسن والأعمش {لحق} بالنصب والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على المدح وجوز نصبه على المصدر تقديره الرد الحق. {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} انتصباً على الحال.

{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} وقرأ أبو عبد الله المدني {يلبسكم} بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون شيعاً حالاً. وقيل: مصدر والعامل فيه {يلبسكم} من غير لفظه؛ انتهى. ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعاً ويكون شيعاً حالاً، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناس يلبسهم بعضهم بعضاً كما قال الشاعر: لبست أناساً فأفنيتهم وغادرت بعد أناس أناسا {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءَايَتِنَا} و {رأيت} هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} وهم خائضون فيها أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة. وقيل: {رأيت} علمية لأن الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير {وإذا رأيت الذين يخوضو في آياتنا} خائضين فيها وحذفه اقتصاراً لا يجوز وحذفه اختصاراً عزيز جداً حتى أن بعض النحويين منعه. {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَنُ} قال ابن عطية: وأما شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم كما قال الشاعر: أما يصبك عدو في مناوأة

إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى. وهذه المسألة فيها خلاف، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن ما لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجيء فيها بعد أما إلا الثقيلة. وقرأ ابن عامر {ينسينك} مشدّداً عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة. وقال ابن عطية: وقد ذكر القراءتين إلا أن التشديد أكثر مبالغة؛ انتهى. وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة ومفعول {ينسينك} الثاني محذوف تقديره {وإما ينسينك الشيطان} نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على فعلى وألفه للتأنيث ولم يجيء مصدر على فعلى غيره. {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن تذكرونهم، ومن قال الإباحة كانت بسبب العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى وقدّره بعضهم ولكن هو ذكرى أي الواجب ذكرى. وقيل: هذا ذكرى أي النهي ذكرى. قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل من شيء كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله: {من حسابهم} يأبى ذلك؛ انتهى. كأنه تخيل إن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شيء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفاً على {من شيء} على الموضع لأنه يصير التقدير عنده و {لكن ذكرى} من حسابهم وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشيء لا يلزم في العطف بولكن ما ذكر تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت {لكن} للاستدراك.

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} انتصب لعباً ولهواً على المفعول الثاني {لاتخذوا} . {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} اتفقوا على أن {تبسل} في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة {أن تبسل} ومخافة {أن تبسل} ولئلا {تبسل} ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما في الإضمار من التفخيم كما أضمر الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا: اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم وقد أجاز ذلك سيبويه قال: فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من قال: أكلوني البراغيث أو يحمله على البدل من المضمر وقال أيضاً: فإن قلت ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل كما جعلته في الرفع؛ وقد روي قوله: تنخل فاستاكت به عود أسحل بجر عود على أنه بدل من الضمير. {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} وهذه الجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و {من} لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة؛ انتهى، وهو ضعيف. {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} وانتصب {كل عدل} على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على المصدر لأنه لا يسند إليه الأخذ وأما في {لا يؤخذ منها} عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده إليه ويجوز أن ينتصب كل عدل على المفعول به أي {وإن تعدل} بذاتها {كل} أي كل ما تفدى به {لا يؤخذ منها} ويكون الضمير على هذا عائداً على {كل عدل} . {لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} الأظهر أنها جملة استئناف إخبار ويحتمل أن تكون حالاً وشراب فعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول، لا يقال: ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول.

{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَبِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} أي من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك {ونرد} إلى الشرك {على أعقابنا} أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا إلى طريق الحق وإلى المشية السجح الرفيعة {ونرد} معطوف على {أندعوا} أي أيكون هذا وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي لا يقع شيء من هذا وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال أي ونحن نرد أي أيكون هذا الأمر في هذه الحال وهذا فيه ضعف لإضمار المبتدأ ولأنها تكون حالاً مؤكدة. {كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَطِينُ فِى الأٌّرْضِ حَيْرَانَ} وموضع {كالذي} نصب قيل: على أنه نعت لمصدر محذوف أي رداً مثل رد الذي والأحسن أن يكون حالاً أي كائنين كالذي والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي. وظاهر قوله {في الأرض} أن يكون متعلقاً باستهوته. وقيل: حال من مفعول {استهوته} أي كائناً في الأرض. وقيل: من {حيران} . وقيل: من ضمير {حيران} و {حيران} لا ينصرف ومؤنثه حيرى و {حيران} حال من مفعول {استهوته} . وقيل: حال من الذي والعامل فيه الرد المقدر والجملة من قوله {له أصحاب} حالية أو صفة لحيران أو مستأنفة و {إلى الهدي} متعلق بيدعونه. {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} الظاهر أن اللام لام كي ومفعول {أمرنا} الثاني محذوف وقدروه {وأمرنا} بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم {لرب العالمين} والجملة داخلة في المقول معطوفة على {إن هدى الله هو الهدي} . وقال الزمخشري: هو تعليل للأمر فمعنى {أمرنا} قيل لنا: اسلموا لأجل أن نسلم. وقال ابن عطية: ومذهب سيبويه أن {لنسلم} في موضع المفعول وإن قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل إلى غير ذلك من الأمثلة؛ انتهى. فعلى ظاهر كلامه تكون اللام زائدة وكون أن نسلم هو متعلق {أمرنا} على جهة أنه مفعول ثان بعد إسقاط حرف الجر. وقيل: اللام بمعنى الباء كأنه قيل {وأمرنا} بأن نسلم ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب، وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر بل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت، قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم} {يريدون ليطفئوا} أي أن يطفئوا {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} أريد لأنسى ذكرها ورد ذلك عليهما أبو إسحاق، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف وأن الفعل قبلها يراد به المصدر والمعنى الإرادة للبيان واومر للإسلام فهما مبتدأ وخبر فتحصل في هذه اللام أقوال: أحدها إنها زائدة، والثاني أنها بمعنى كي للتعلل إما لنفس الفعل وإما لنفس المصدر المسبوك من الفعل، والثالث أنها لام كي أجريت مجرى أن، والرابع أنها بمعنى الباء وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل.

{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَاتَّقُوهُ} أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه، قال الزجاج هو معطوف على قوله: لنسلم تقديره لأن نسلم و {أن أقيموا} . قال ابن عطية: واللفظ يمانعه لأنّ {نسلم} معرب و {أقيموا} مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى، وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المغرب وأنّ ذلك لا يجوز ليس كما ذكر، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا، وقال تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيه وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه، بجزم يقصدني فإنْ لم تؤثر في قام لأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب، ثم قال ابن عطية: اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله: {أن أقيموا} بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على المعنى، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى، وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهم إلا أن إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ {أن أقيموا} معطوف على أن نسلم وأنّ كلاهما علة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء أن أقيموا على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر، قال سيبويه: وتقول: كتبت إليه بأن قم، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله: لنسلم وأن أقيموا في تقدير للإسلام، ولإقامة الصلاة وأما تشبيه ابن عطية بقوله: ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه

الضمير أن يتسلط على ما بعده، بخلاف أن فإنها توصل بالأمر فإذاً لا شبه بينهما. وقال الزمخشري (فإن قلت) : على عطف قوله: {وإن أقيموا} (قلت) : على موضع {لنسلم} كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير أنّ {أنْ نسلم} في موضع المفعول الثاني لقوله: وأمرنا وعطف عليه وأن أقيموا فتكون اللام على هذا زائدة، وكان قد قدّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله {أن نسلم} أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك، ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة انتهى، وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول: لاتحد قولاه وذلك خلف، وقال الزجاج: ويحتمل أن يكون {وأن أقيموا} معطوفاً على {أتنا} . وقيل: معطوف على قوله: {إن هدى الله هو الهدى} والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان جدًّا، ولا يقتضيهما نظم الكلام، قال ابن عطية: يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا؛ انتهى. وكان قد قدّر: وأمرنا بالإخلاص أو بازيمان لأن نسلم وهذا قول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبلة إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى تقول: أضربت زيداً فتجيب نعم وعمراً التقدير ضربته وعمراً وقد أجاز الفراء جاءني الذي وزيد قائمان التقدير جاءني الذي هو وزيد قائمان فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في {واتقوا} عائد على رب العالمين.

{وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} جوزوا في {يوم} أن يكون معمولاً لمفعول فعل محذوف وقد روه واذكر الإعادة يوم يقول: كن أي يوم يقول للأجساد كن معادة ويتم الكلام عند قوله: كن، ثم أخبر بأنه يكون قوله: الحق الذي كان في الدنيا إخباراً بالإعادة فيكون قوله فاعلاً بفيكون أو يتم الكلام عند قوله: كن فيكون ويكون {قوله الحق} مبتدأ وخبراً. وقال الزجاج {يوم يقول} معطوف على الضمير من قوله {واتقوه} واتقوا عقابه والشدائد ويوم فيكون انتصابه على أنه مفعول به لا ظرف. وقيل: {ويوم} معطوف على {السموات والأرض} والعامل فيه خلق، وقيل: العامل اذكر أو معطوفاً على قوله بالحق إذ هو في موضع نصب ويكون {يقول} بمعنى الماضي كأنه قال وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها كن ويتم الكلام عند قوله فيكون، ويكون {قوله الحق} مبتدأً وخبراً أو يتم عند {كن} ويبتدىء {فيكون قوله الحق} أي يظهر ما يظهر وفاعل يكون {قوله} و {الحق} صفة و {يكون} تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة ينبو عنها التركيب وأقرب ما قيل ما قاله الزمخشري وهو أن قوله الحق مبتدأ والحق صفة له و {يوم يقول} خبر المبتدأ فيتعلق بمسْتقر كما تقول يوم الجمعة القتال. وجوز الزمخشري وجهاً آخر وهو أن يكون قوله الحق فاعلاً بقوله فيكون فانتصاب يوم بمحذوف دل عليه قوله بالحق كأنه قيل: كن يوم بالحق وهذا إعراب متكلف. {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ} قيل {يوم} بدل من قوله {ويوم يقول} ، وقيل: منصوب بالملك.

{عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ} أي هو عالم أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بيقول أو بينفخ محذوفة يدل عليه ينفخ نحو رجال بعد قوله: {يسبح} بفتح الباء وشركاؤهم بعد {زين} مبنياً للمفعول ورفع قتل ونحو ضارع لخصومة بعد ليبك يزيد التقدير يسبح له رجال وزينه شركاؤهم ويبكيه ضارع أو نعت للذي أقوال أجودها الأول والغيب والشهادة يعمان جميع الموجودات، وقرأ الأعمش عالم بالخفض ووجه على أنه بدل من الضمير في له أو من رب العالمين أو نعت للضمير في له، والأجود الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لأًّبِيهِءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماًءَالِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الأٌّفِلِينَ * فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لأّكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ * فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأٌّمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأٌّمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَآءَاتَيْنَهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى

وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّلِحِينَ * وَإِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَلَمِينَ * وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ وَإِخْوَنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَهُمْ وَهَدَيْنَهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَفِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَلَمِينَ * وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ

الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْءَايَتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . وقال الصاغاني: حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب وك ب عند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك وب ولعله تبع فيه الليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصلية انتهى. وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلاً عن زيادتها في أول كلمة، فأما قولهم هندي وهند كي في معنى واحد وهو المنسوب إلى الهند قال الشاعر: ومقرونة دهم وكمت كأنها طماطم يوفون الوفاز هنادك فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هو من باب سبط وسبطر، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب إليه كافاً مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء: شوكي وإلى الفرس: الفرسكي وربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري: جبرتي، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش، وكثيراً ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لأًّبِيهِءَازَرَ} آزر وهو عطف بيان أو بدل، وقال مجاهد: هو اسم صنم فيكون أطلق على أبي إبراهيم لملازمته عبادته كما أطلق على عبيد الله بن قيس الرقيات لحبه نساء اسم كل واحدة منهنّ رقية. فقيل ابن قيس الرقيات، وكما قال بعض المحدّثين: أدعى بأسماء تترى في قبائلها كأن أسماء أضحت بعض أسمائي ويكون إذ ذاك عطف بيان أو يكون على حذف مضاف أي عابد آزر حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو يكون منصوباً بفعل مضمر أي تتخذ آزر. آزر امتنع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل هو صفة. وإذا كان صفة أشكل منع صرفه ووصف المعرفة به وهو نكرة ووجهه الزجاج بأن تزاد فيه أل وينصب على الذمّ كأنه قيل: أذمّ المخطىء، وقيل: انتصب على الحال وهو في حال عوج أو خطأ، وقرأ الجمهور {آزر بفتح الراء وأبيّ وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء وكونه علماً ولا يصح أن يكون صفة لحذف حرف النداء وهو لا يحذف من الصفة إلا شذوذاً، وأراك يحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية، والظاهر أن تتخذ يتعدّى إلى مفعولين. أريناه وهي حكاية حال وهي متعدية إلى اثنين، فالظاهر أنها بصرية. قال ابن عطية وإما من أرى التي بمعنى عرف انتهى، ويحتاج كون رأي بمعنى عرف ثم تعدّى بالهمزة إلى مفعولين إلى نقل ذلك عن العرب والذي نقل النحويون إن رأى إذا كانت بصرية تعدّت إلى مفعول واحد وإذا كانت بمعنى علم الناصبة لمفعولين تعدت إلى مفعولين. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّى} هذه الجملة معطوفة على قوله: {وإذ قال ابراهيم} على قول من جعل {وكذلك نرى} اعتراضاً وهو قول الزمخشري. قال ابن عطية: الفاء في قوله {فلما} رابطة جملة ما بعدها بما قبلها.

وهو رباعي والواو فيه أصل وتكررت فيه الفاء فوزنه فعفل نحو قوقل وهو تركيب قليل الكوكب، والظاهر أن جواب {لما رأى كوكباً} وعلى هذا جوزوا في {قال هذا ربي} أن يكون نعتاً للكوكب وهو مشكل أو مستأنفاً وهو الظاهر ويجوز أن يكون الجواب {قال هذا ربي} و {رأى كوكباً} حال أي جن عليه الليل رائياً كوكباً وهذا ربي الظاهر أنها جملة خبرية، وقيل هي استفهامية على جهة الإنكار حذف منها الهمزة كقوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان {فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَآ أَكْبَرُ} المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث فأنثت أولاً على المشهور وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر، فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث وأما من لم ير فيها إلا التأنيث. فقال ابن عطية: ذكر أي هذا المرئي أو النير وقدره الأخفش، هذا الطالع، وقيل: الشمس بمعنى الضياء قال تعالى: {جعل الشمس ضياء} فأشار إلى الضياء والضياء مذكر، وقال الزمخشري: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد كقولهم: ما جاءت حاجتك وما كانت أمك، ولم تكن فتنتعم إلا أن قالوا وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله: علام ولم يقولوا علامة، وإن كان علامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث انتهى، ويمكن أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث، ولا علامة عندهم للتأنيث بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم فلذلك أشار إلى المؤنث عندنا حين حكى كلام ابراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنّث بفرج لم يكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم وحين أخبر تعالى عنها بقوله {بازغة} و {أفلت} أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.

{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى} وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام {أتحاجوني} بتخفيف النون وأصله بنونين الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ في ذلك، وقال مكي: الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه وإنما يجوز في الشعر للوزن والقرآن لا يحتمل ذلك فيه إذ لا ضرورة تدعو إليه وقول مكي ليس بالمرتضى، وقيل: التخفيف لغة لغطفان، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون أصله أتحاجونني فأدغم هروباً من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ولم يقرأ هناك بالفك وإن كان هو الأصل ويجوز في الكلام، و {في الله} متعلق بأتحاجوني لا بقوله وحاجة قومه والمسألة من باب الإعمال إعمال الثاني فلو كان متعلقاً بالأول لأضمر في الثاني ونظير {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} والجملة من قوله {وقد هدان} حالية. {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً} وجوز أبو البقاء أن يكون متصلاً ومنقطعاً إلا أنه جعله متصلاً مستثنى من الأحوال وقدره إلا في حال مشيئة ربي أي لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال، وانتصب شيئاً على المصدر أي مشيئة أو على المفعول به. {وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً} وانتصب علماً على التمييز المحول من الفاعل، أصله وسع علم ربي كل شيء. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جواب الشرط محذوف تقديره فأخبروني.

{ولم يلبسوا} يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون حالاً دخلت واو الحال على الجملة المنفية بلم كقوله تعالى: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جداً وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ بل ذلك قليل وبغير الواو كثير على ذلك لسان العرب، وكلام الله، وقرأ عكرمة: {ولم يلبسوا} بضم الياء ويجوز في {الذين} أن يكون خبر مبتدأ محذوف وأن يكون خبره المبتدأ والخبر الذي هو {أولئك لهم الأمر} وأبعد من جعل لهم الأمن خبر الذين وجعلأولئك فاصلة وهو النحاس والحوفي. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآءَاتَيْنَهَآ إِبْرَهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الإشارة بتلك إلى ما وقع به الاحتجاج من قوله {فلما جن عليه الليل} إلى قوله {وهم مهتدون} وهذا الظاهر، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لإيتاء المتكلم و {آتيناها} أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية، أو {آتيناها} بوحي منا ولقناه إياها وإن أعربت وتلك مبتدأ وحجتنا بدلاً {وآتيناها} حال العامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدراً وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ولو جعلناه مصدراً مجازاً لم يجز ذلك أيضاً لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه، وأجاز الحوفي أن يكون {آتيناها} في موضع النعت لحجتنا والنية فيها الانفصال والتقدير: وتلك حجة لنا آتيناها انتهى، وهذا بعيد جداً. وقال الحوفي: وهاء مفعول أول وإبراهيم مفعول ثان وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان وابراهيم مفعول أول. ويجوز أن يكون في موضع الحال وحذف مضاف أي {آتيناها إبراهيم} مستعلية على حجج قومه قاهرة لها.

{نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَآءُ} ونوّن درجات الكوفيون وأضافها الباقون ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان، ويحتاج هذا القول إلى تضمين نرفع معنى ما يعدّي إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} والجملة من قوله: {ووهبنا} معطوفة على قوله: {وتلك حجتنا} عطف فعلية على اسمية، وقال ابن عطية: {ووهبنا} عطف على {آتيناها} انتهى. ولا يصح هذا لأن {آتيناهم} لها موضع من الإعراب إما خبر. وإما حال ولا يصح في {ووهبنا} شيء منهما {وَإِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً} وقرأ الجمهور واليسع كأن أل أدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم واختلف فيه أهو عربي أم عجمي، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمي به ولا ضمير فيه فأعرب ثم نكر وعرف بأل، وقيل سمي بالفعل كيزيد ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذاً كاليزيد في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً ولزمت كما لزمت في الآن، ومن قال: إنه أعجمي فقال: زيدت فيه أل ولزمت شذوذاً، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو عليّ الفارسي وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو عليّ أن أل فهي كهي في الحارث والعباس، لأنهما من أبنية الصفات لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجيء فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجيء فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبد الله بن مالك الجياني، ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسموأل، فإن الأغلب ثبوت أل فيه وقد يجوز أن يحذف فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة واتضح من قوله: إن اليسع ليس منقولاً من فعل كما قال بعضهم. {ومن آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم} المجرور في موضع نصب. فقال الزمخشري: عطفاً على {كلاًّ} بمعنى وفضلنا بعض آبائهم. {وَاجْتَبَيْنَهُمْ وَهَدَيْنَهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ} عطف على {فضلنا} .

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وانتصب {حق قدره} على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر، والعامل في إذ قدروا وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ {تعليلاً} . {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَبَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} إن وانتصب {نوراً وهدى} على الحال والعامل {أنزل} أو {جاء} . {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {يلعبون} حال من مفعول ذرهم أو من ضمير {خوضهم} و {في خوضهم} متعلق بـ {ذرهم} أو بـ {يلعبون} أو حال من {يلعبون} . {عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ} وحذف أهل الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله: {واسأل القرية} لأن القرية لا نسأل ولم تحذف من فيعطف حولها على أم القرى وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عن الظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها. {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ} جملة حالية. {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّلِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} جواب لو محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً ولرأيت عجباً وحذفه أبلغ من ذكره وترى بمعنى رأيت لعمله في الظرف الماضي وهو {إذ والملائكة باسطوا} جملة حالية و {أخرجوا} معمول لحال محذوفة أي قائلين أخرجوا وما في بما مصدرية. {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والكاف في كما في موضع نصب، قيل: بدل من فرادى، وقيل: نعت لمصدر محذوف أي مجيأ {كما خلقناكم} يريد كمجيئكم يوم خلقناكم.

{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} قرأ جمهور السبعة {بينكم} بالرفع على أنه اتسع في الظرف وأسند الفعل إليه فصار اسماً كما استعملوه اسماً في قوله: {ومن بيننا وبينك حجاب} وكما حكى سيبويه هو أحمر بين العينين ورجحه الفارسي أو على أنه أريد بالبين الوصل أي لقد تقطع وصلكم قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل وإنما انتزع ذلك من هذه الآية أو على أنه أريد بالبين الافتراق وذلك مجاز عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك بالبين، وقرأ نافع والكسائي وحفص {بينكم} بفتح النون وخرجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني على الفتح حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف وقد يقال لإضافته إلى مبني كقوله: {ومنادون ذلك} وخرجه غيره على أن منصوب على الظرف وفاعل تقطع التقطع، قال الزمخشري: وقع التقطع بينكم كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل انتهى. وظاهره ليس بجيد وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر، فهو محذوف فلا يجوز حذف الفاعل وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه، ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام، وقيل: الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله: {شركاء} ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية قال: ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف تقديره: لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم أو نحو هذا وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس مجاهد والسدّي وغيرهما انتهى، وقوله إلى شيء محذوف ليس بصحيح لأن الفاعل لا يحذف، وأجاز أبو البقاء أن يكون بينكم صفة لفاعل محذوف أي لقد تقطع شيء بينكم أو وصل وليس بصحيح أيضاً لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن

المسألة من باب الإعمال تسلط على {ما كنتم تزعمون} تقطع وضل فأعمل الثاني وهو ضل وأضمر في تقطع ضمير ما هم الأصنام فالمعنى {لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون} وضلوا عنكم كما قال تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} أي لم يبق اتصال بينكم وبين {ما كنتم تزعمون} أنهم شركاء فعبدتموهم وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش {ما بينكم} والمعنى تلف وذهب ما {بينكم} وبين {ما كنتم تزعمون} ومفعولاً {تزعمون} محذوفان التقدير تزعمونهم شفعاء حذفاً للدلالة عليهما كما قال الشاعر: ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب أي وتحسبه عاراً.

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الأٌّيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الأٌّيَتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَنٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّتٍ مِّنْ أَعْنَبٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَبِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذلِكُمْ لاٌّيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَنَهُ وَتَعَلَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَلِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأٌّبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأٌّبْصَرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الأٌّيَتِ وَلِيَقُولُواْ

دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الأٌّيَتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} وعطف قوله: {ومخرج الميت} على قوله: {فالق الحب} اسم فاعل على اسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله: {فالق الحب والنوى} من جنس إخراج الحيّ من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله: {تحيي الأرض بعد موتها} فوقع قوله: {يخرج الحيّ من الميت} من قوله: {فالق الحب والنوى} موقع الجملة المبينة فلذلك عطف اسم الفاعل لا على الفعل ولما كان هذا مفقوداً في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما {يولج في النهار ويولج النهار في الليل} كان العطف بالفعل على أنه يجوز أن يكون معطوفاً وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في معناه كما قال الشاعر: بات يغشيها بعضب باتر يقصد في أسوقها وجائر

{ُ ِفَالِقُ الْحَبِّ} وقرأ الحسن وعيسى أبو رجاء الأصباح بفتح الهمزة جمع صبح وقرأت فرقة بنصب الأصباح وحذف تنوين فالق وسيبويه إنما يجوز هذا في الشعر نحو قوله: ولا ذاكر اللَّه إلا قليلاً حذف التنوين لالتقاء الساكنين والمبرد يجوّزه في الكلام. {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} وقرأ الكوفيون {وجعل الليل} فعلاً ماضياً لما كان فالق بمعنى المضي حسن عطف {وجعل} عليه وانتصب {والشمس والقمر حسباناً} عطفاً على {الليل سكناً} ، وقرأ باقي السبعة {وجاعل} باسم الفاعل مضافاً إلى الليل والظاهر أنه اسم فاعل ماض ولا يعمل عند البصريين فانتصاب {سكناً} على إضمار فعل أي يجعله سكناً لا باسم الفاعل هذا مذهب أبي علي فيما انتصب مفعولاً ثانياً بعد اسم فاعل ماض وذهب السيرافي إلى أنه ينتصب باسم الفاعل وإن كان ماضياً لأنه لما وجبت إضافته إلى الأول لم تكن أن يضاف إلى الثاني فعمل فيه النصب وإن كان ماضياً وهذه مسألة تذكر في علم النحو وأما من أجاز إعمال اسم الفاعل الماضي وهو الكسائي وهشام فسكناً منصوب به، وقرأ يعقوب ساكناً، قال الداني: ولا يصح عنه، وقرأ أبو حيوة بجر {والشمس والقمر} حسباناً عطفاً على الليل سكناً وأما قراءة النصب وهي قراءة الجمهور فعلى قراءة {جاعل الليل} ينتصبان على إضمار فعل أي وجعل الشمس والقمر حسباناً، قال الزمخشري: أو يعطفان على محل الليل، (فإن قلت) : كيف يكون لليل محل؟ والإضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول زيد ضارب عمراً أمس (قلت) : ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة انتهى، وملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإعراب، وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وأما قوله إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون للمجرور بعده موضع من

الإعراب فيعطف عليه {والشمس والقمر} وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل وقد نصوا على ذلك وأنشدوا: ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان وإذا تقيد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل إذ ذاك عند البصريين أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيجوز إعماله، والإضافة إليه على ما أحكم في علم النحو وفصل وعلى تسليم أن يكون حالاً على الاستمرار في الأزمنة وتعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره بل لو كان حالاً أو مستقبلاً لم يجز ذلك على القول الصحيح وهو مذهب سيبويه، فلو قلت: زيد ضارب عمرو الآن أو غداً أو خالداً لم يجز أن تعطف وخالداً. على موضع عمرو وعلى مذهب سيبويه بل تقدره وتضرب خالداً لأن شرط العطف على الموضع مفقود فيه وهو أن يكون الموضع محرزاً لا يتغير، وهذا موضح في علم النحو وقرىء شاذاً {والشمس والقمر} برفعهما على الابتداء والخبر محذوف تقديره مجعولان حسباناً أو محسوبان حسباناً. {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا} {لتهتدوا} متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم أي جعل ذلك لاهتدائكم وجعل معناها خلق فهي تتعدى إلى واحد، قال ابن عطية: وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني من {لتهتدوا} أي جعل لكم النجوم هداية انتهى، وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها. {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} و {فأخرجنا} معطوف على {فأخرجنا} وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من {فأخرجنا} و {نخرج} جملة في موضع الصفة لخضر أو يجوز أن يكون استئناف إخبار، وقرأ الأعمش وابن محيصن يخرج منه حب متراكب على أنه مرفوع بيخرج ومتراكب صفة في نصبه ورفعه.

{وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَنٌ دَانِيَةٌ} وهذه الجملة مبتدأ وخبر j) {من طلعها} بدل من {ومن النخل} والتقدير ز {فنوان دانية} كائنة من طلع {النخل} . وقال ابن عطية: {ومن النخل} تقديره نخرج من النخل ومن طلعها {قنوان} ابتداء خبره مقدم والجملة في موضع المفعول بتخرج انتهى. وهذا خطأ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها مانع من أن يعمل في شيء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة في علم النحو و {نخرج} ليست مما يعلق وليس في الجملة ما يمنع من عمل الفعل في شيء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدّراً لتسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج {من النخل من طلعها} قنواناً دانية بالنصب، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة {أخرجنا} عليه تقديره ومخرجة من طلع النخل قنوان انتهى، ولا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة في الإخبار بدونه، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون {قنوان} مبتدأ والخبر {من طلعها} وفي {من النخل} ضمير تقديره وينبت من النخل شيء أو ثمر فيكون من طلعها بدلاً منه، ويجوز أن يرتفع {قنوان} على أنه فاعل من طلعها فيكون في {من النخل} ضمير يفسره {قنوان} وإن رفعت {قنوان} بقوله: {من النخل} على قول من أعمل أول الفعلين جاز وكان في {من طلعها} ضمير مرفوع انتهى، وهو إعراب فيه تخليط لا يسوغ في القرآن ومن قرأ {يخرج منه حب متراكب} جاز أن يكون قوله: {من النخل من طلعها قنوان دانية} معطوفاً عليه كما تقول يضرب في الدار زيد، وفي السوق عمرو وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه. {وَجَنَّتٍ مِّنْ أَعْنَبٍ} قرأ بالكسر الجمهور عطفاً على قوله نبات.

وقرأ محمد بن أبي ليلى والأعمش وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم {وجنات} بالرفع وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة حتى قال أبو حاتم: هي محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل ولا يسوغ إنكار هذه القراءة ولها التوجيه الجيد في العربية وجهت على أنه مبتدأ محذوف الخبر فقدره النحاس ولهم جنات وقدره ابن عطية، ولكم جنات وقدره أبو البقاء ومن الكرم جنات وقدره ومن الكرم لقوله: {ومن النخل} وقدره الزمخشري وثم جنات أي مع النخل ونظيره قراءة من قرأ {وحور عين} بالرفع بعد قوله: {طاف عليهم بكاس من معين} الآية وتقديره ولهم حور وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء ومثله كثير وقدر الخبر أيضاً مؤخراً تقديره {وجنات من أعناب} أخرجناها ودل على تقديره قوله قبل: {فأخرجنا} كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه التقدير وأخوه أكرمته فحذف أكرمته لدلالة أكرمت عليه، ووجهها الطبري على أن {وجنات} عطف على {قنوان} ، قال ابن عطية: وقوله ضعيف، وقال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على {قنوان} لأن العنب لا يخرج من النخل، وقال الزمخشري: وقد ذكر أن في رفعه وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره وثم جنات وتقدّم ذكر هذا التقدير عنه، قال: والثاني أن يعطف على {قنوان} على معنى وحاصله أو ومخرجه من النخل قنوان {وجنات من أعناب} أي من نبات أعناب انتهى، وهذا العطف هو على أن لا يلاحظ فيه قيد من النخل فكأنه قال {من النخل قنوان دانية} {جنات من أعناب} حاصلة كما تقول من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَبِهٍ} قرىء بالنصب إجماعاً. قال ابن عطية: عطفاً على حباً. وقيل: عطفاً على نبات، وقال الزمخشري: وقرىء وجنات بالنصب عطفاً على نبات كل شيء أي وأخرجنا به {جنات من أعناب} وكذلك قوله: {والزيتون والرمان} . انتهى فظاهره أنه معطوف على نبات كما أن {وجنات} معطوف عليه، قال الزمخشري: والأحسن أن ينتصب على الاختصاص كقوله: {والمقيمين الصلاة} لفضل هذين الصنفين انتهى. وانتصب {مشتبهاً} على أنه حال من {الرمان} لقربه وحذفت الحال من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير {والزيتون} مشتبهاً وغير متشابه {والرمان} كذلك هكذا قدره الزمخشري وقال كقوله: كنت منه ووالدي بريئاً. انتهى. فعلى تقديره يكون تقدير البيت كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي بريئاً والبيت لا يتعين فيه ما ذكر لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق، فيصح أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع فيحتمل أن يكون بريئاً خبر كان على اشتراك الضمير، والظاهر المعطوف عليه فيه إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما ولا يجوز أن يكون حالاً منهما وإن كان قد أجازه بعضهم إذ لو كان حالاً منهما لكان التركيب متشابهين وغيره متشابهين.

{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} والجمهور على نصب {الجن} وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولاً أولاً بجعلوا {وجعلوا} بمعنى صيروا {وشركاء} مفعول ثان ولله متعلق بشركاء، قال الزمخشري (فإن قلت) : فما فائدة التقديم (قلت) : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء انتهى، وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون الجن بدلاً من {شركاء} و {لله} في موضع المفعول الثاني و {شركاء} هو المفعول الأول وما أجازاه لا يجوز، لأنه يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظماً لو قلت وجعلوا لله الجن لم يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول: وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا وأجاز الحوفي أن يكون شركاء المفعول الأول والجن المفعول الثاني كما هو ترتيب النظم، وأجاز أبو البقاء أن يكون {لله شركاء} حالاً وكان لو تأخر للشركاء وأحسن مما أعربوه ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير الثقفي يقول فيه قال انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر كأنه قيل من {جعلوا لله شركاء} قيل: الجن أي جعلوا الجن ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال: من الذي جعلوه شريكاً فقيل له: هم الجن. {بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَحِبَةٌ} وقرأ المنصور: بديع بالجر رداً على قوله: {جعلوا لله} أو على {سبحانه} . وقرأ صالح الشامي: {بديع} بالنصب على المدح. وقرأ النخعي: ولم يكن بالياء ووجه على أن فيه ضميراً يعود على الله أو على أن فيه ضمير الشأن، والجملة في هذين الوجهين في موضع خبر {تكن} أو على ارتفاع {صاحبة} بتكن وذكر للفصل بين الفعل والفاعل كقوله: لقد ولد الأخيطل أم سوء

وحضر للقاضي امرأة. وقال ابن عطية: وتدكيرها وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال. انتهى، ولا أعرف هذا عن النحويين، ولم يفرقوا بين كان وغيرها والظاهر ارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ أي هو بديع فيكون الكلام جملة واستقلال الجملة بعدها، وجوزوا أن يكون بديع مبتدأ والجملة بعده خبره. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا} أي فالابصار لنفسه والعمى عليها قدره الزمخشري {فمن أبصر} الحق وآمن {فلنفسه} أبصر وإيّاها نفع ومن عمى عنه فعلى نفسه عمي والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين: أحدهما: أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة، وفي تقديره هو المحذوف جملة والجار والمجرور فضلة، والثاني: وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت من شرطاً أم موصولة مشبهة بالشرط لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ، لو قلت: من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديره فإنه لا بد فيه من الفاء ولا يجوز حذفها إلا في الشعر.

{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} وقرأت طائفة {وليقولوا} بسكون اللام على جهة الأمر المتضمن للتوبيخ والوعيد، وقرأ الجمهور بكسرها وقالوا: هذه اللام هي التي تضمر أن بعدها والفعل منصوب بأن المضمرة. قال ابن عطية: على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} أي لما صار أمرهم إلى ذلك، وقال الزمخشري: و {ليقولوا} جوابه محذوف تقديره وليقولوا دارست تصرفها (فإن قلت) : أي فرق بين اللامين في {ليقولوا} و {لنبينه} (قلت) : الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ولكنه لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبه به فسيق مساقه، وقيل {ليقولوا} كما قيل: {لنبينه} انتهى، وتسميته ما يتعلق به قوله ليقولوا جواباً اصطلاح غريب ومثل هذا لا يسمى جواباً لا تقول: في جئت من قولك: جئت لتقوم أنه جواب وهذا الذي ذكره الزمخشري من تخريج {ليقولوا} عليه هو الذي ذهب إليه من أنكر لام الصيرورة وهي التي تسمى أيضاً لام العاقبة والمآل وهو أنه لما ترتب على التقاطه كونه صار لهم عدواً وحزناً جعل كأنه علة لالتقاطه فهو علة مجازية، وقال أبو عليّ الفارسي: واللام في {ليقولوا} على قراءة ابن عامر ومن وافقه بمعنى لئلا يقولوا أي صرف الآيات وأحكمت لئلا يقولوا هذه أساطير الأوّلين قديمة قد تليت وتكرّرت على الأسماع واللام على سائر القراءآت لام الصيرورة، وما أجازه أبو عليّ من إضمار لا بعد اللام المضمر بعدها أن هو مذهب لبعض الكوفيين، وتقدير الكلام لئلا يقولوا كما أضمروها بعد أن المظهرة في قوله: أن تضلوا ولا يجيز البصريون إضمار لا إلا في القسم على ما تبين فيه، وقد حمله بعضهم على أن اللام لام كي حقيقة فقال: المعنى تصريف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفراً على كفر وتنبيه لبعضهم فيزدادوا إيماناً على إيمان وننظيره {يضل به

كثيراً ويهدى به كثيراً} وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ولا يتعين ما ذكره المعرّبون والمفسرون من أن اللام في {وليقولوا} لام كي أو لام الصيرورة بل الظاهر أنها لام الأمر، والفعل مجزوم بها لا منصوب بإضمار أن ويؤيده قراءة من سكن اللام والمعنى عليه متمكن كأنه قيل: ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونك درستها وتعلمتها أو درست هي أي بليت وقدمت فإنه لا يحفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم. {للهاتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} لجملة بين الأمرين اعتراضية أو موضع الحال المؤكدة. {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} و {فيسبوا} منصوب على جواب النهي، وقيل: هو مجزوم على العطف كقولك: لا تمددها فتشققها، وعدواً مصدر عدا وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم، وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن يزيد بضم العين والدال وتشديد الواو وهو مصدر لعدا كما ذكرناه، وجوّزوا فيهما انتصابهما على المصدر في موضع الحال أو على المصدر من غير لفظ الفعل لأن سب الله عدوان أو على المفعول له، وقال ابن عطية: وقرأ بعض المكيين وعينه الزمخشري فقال عن ابن كثير: بفتح العين وضم الدال وتشديد الواو أي أعداء وهو منصوب على الحال المؤكدة وعدو يخبر به عن الجمع كما قال: هم العدوّ. {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ} وانتصب جهد على المصدر المنصوب بأقسموا أي أقسموا جهد إقساماتهم والأيمان بمعنى الإقسامات كما تقول: ضربته أشد الضربات، وقال الحوفي: مصدر في موضع الحال من الضمير في {أقسموا} أي مجتهدين في أيمانهم، وقال المبرد: مصدر منصوب بفعل من لفظه وقد تقدم الكلام على {جهد أيمانهم} في المائدة.

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ما نافية وأن في هذه القراءة مصدرية ولا على معناها من النفي، وجعل بعض المفسرين أن هنا بمعنى لكل وحكي من كلامهم ذلك قالوا: إيت السوق إنك تشتري لحماير بدون لعلك، وقال امرؤ القيس: عوجاً على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن حرام وذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ولعل تأتي كثيراً في مثل هذا الموضع قال تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} {وما يدريك لعل الساعة قريب} وفي مصحف أبي وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وضعف أبو علي هذا القول بأن التوقع الذي يدل عليه لعل لا يناسب قراءة الكسر، وجعل بعضهم لا زائدة فيكون المعنى وما يدريكم بإيمانهم كما قالوا: إذا جاءت وإنما جعلها زائدة لأنها لو بقيت على النفي لكان الكلام عذراً للكفار وفسد المراد بالآية قاله ابن عطية، قال وضعف الزجاج وغيره زيادة لا، انتهى. قول ابن عطية والقائل بزيادة لا هو الكسائي والفراء، وقال الزجاج: زعم سيبويه أن معناها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وهي قراءة أهل المدينة، قال: وهذا الوجه أقوى في العربية والذي ذكر أن لا لغو غالط لأن ما كان لغواً لا يكون غير لغو ومن قرأ بالكسر فالإجماع على أن لا غير لغو فليس يجوز أن يكون المعنى مرة إيجاباً ومرة غير ذلك في سياق كلام واحد، وتأول بعض المفسرين الآية على حذف معطوف يخرج لا عن الزيادة وتقديره {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} أو يؤمنون أي ما يدريكم بانتفاء الإيمان أو وقوعه، ذكره النحاس وغيره، ولا يحتاج الكلام إلى زيادة لا ولا إلى هذا الإضمار ولا لا يكون أن بمعنى لعل وهذا كله خروج عن الظاهر لفرضه بل حمله على الظاهر أولى وهو واضح سائغ كما بحثناه أولاً أي {وما يشعركم} ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها، القراءة الرابعة: فتح الهمزة والتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة، والظاهر أنه خطاب للكفار

ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة لا أي وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت كما أقسمتم عليه، وعلى تأويل أن بمعنى لعل وكون لا نفياً أي وما يدريكم بحالهم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها وكذلك يصح المعنى على تقدير حذف المعطوف أي وما يدريكم بانتفاء إيمانكم إذا جاءت أو وقوعه لأن مآل أمركم مغيب عنكم فكيف تقسمون على الإيمان إذا جاءتكم الآية، وكذلك يصح معناها على تقدير أي على أن تكون أنها علة أي {قل إنما الآيات عند الله} فلا يأتيكم بها لأنها {إذا جاءت لا يؤمنون} وما يشعركم بأنكم تؤمنون وأما على إقرار أن {أنها} معمولة {ليشعركم} وبقاء {لا} على النفي فيشكل معنى هذه القراءة لأنه يكون المعنى {وما يشعركم} أيها الكفار بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم الآية المقترحة، والذي يناسب صدر الآية {وما يشعركم} بوقوع الإيمان منكم إذا جاءت، وقد يصح أن يكون التقدير: وأيّ شيء يشعركم بانتفاء الإيمان إذا جاءت، أي لا يقع ذلك في خواطركم بل أنتم مصممون على الإيمان إذا جاءت، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون إذا جاءت لأنكم مطبوع على قلوبكم. وكم آية جاءتكم فلم تؤمنوا. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن ما في قوله {وما يشعركم} نافية والفاعل بيشعركم ضمير يعود على الله، ويتكلف معنى الآية على جعلها نافية، سواء فتحت أن أم كسرت. ومتعلق {لا يؤمنون} محذوف وحسن حذفه كون ما يتعلق به وقع فاصلة، وتقديره {لا يؤمنون} بها وقد اتضح من ترتيب هذه القراءات الأربع أنه لا يصلح أن يكون الخطاب للمؤمنين على الإطلاق ولا للكفار على الإطلاق، بل الخطاب يكون على ما يصح به المعنى التي للقراءة. {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الكاف للتعليل وقيل للجزاء. وقيل: الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليباً لكفرهم، أي عقوبة مساوية لمعصيتهم، قاله أبو البقاء.

وقال الحوفي: نعت لمصدر محذوف والتقدير: لا يؤمنون به إيماناً ثانياً {كما لم يؤمنوا به أول مرة} انتهى. والضمير عائد على الله أو القرآن أو الرسول، أقوال وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على القليب، وانتصب أول مرة على أنه ظرف زمان. {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأٌّرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا

لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ * وَذَرُواْ ظَهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ * وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ * أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَآءَتْهُمْءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ * فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً} وقرأ نافع وابن عامر قبلاً بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مقابلة أي عياناً ومشاهدة. قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، ونصبه على الحال.

وقال المبرد: معناه ناحية كما تقول: زيد قبلك، ولي قبل فلان دين، فانتصابه على الظرف وفيه بعد. وقرأ أبيّ والأعمش قبيلاً بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها، وانتصابه في هذه القراءة على الحال. وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء وجواب لو {ما كانوا ليؤمنوا} وقدره الحوفي لما كانوا قال: وحذفت اللام وهي مراده، ولبس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جواباً للوفا لأكثر في لسان العرب، أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما، فلا تقول إن اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفى بما بالموجب، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام و {ما كانوا ليؤمنوا} أبلغ في النفي من لم يؤمنوا لأن فيه نفي التأهل والصلاحية للإيمان، ولذلك جاءت لام الجحود في الخبر وإلا أن يشاء الله استثناء متصل من محذوف هو علة. وسبب التقدير {ما كانوا ليؤمنوا} لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله. وقدره بعضهم في كل حال إلا في حال مشيئة الله ومن ذهب إلى أنه استثناء منقطع كالكرماني وأبي البقاء والحوفي. فقوله فيه بعد إذ هو ظاهر الاتصال. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم {وجعلوا لله شركاء الجن} وجوزوا في شياطين البدلية من عدواً، كما جوزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد رددناه عليهم. والظاهر أن قوله {شياطين الإنس والجن} هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين.

وقيل: الإضافة ليست من باب إضافة الصفة للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن، أي متمردين مغوين لهم. وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي والكلبي قالوا: ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، قسم إبليس جنده فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل صاحبه بما أضل هو به صاحبه، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلّي والائتسا بمن سبق من الأنبياء، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه، وهم شياطين الإنس. {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وانتصب غروراً على أنه مفعول له وجوزوا أن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغر بعضهم بعضاً أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين. {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ} واللام لام كي وهي معطوفة على قوله غروراً لما كان معناه للغرور، فهي متعلقة بيوحي ونصب غرور لاجتماع شروط النصب فيه، وعدى يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم وفاعل تصغى هو {أفئدة} وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل فكأن كل واحد مسبب عما قبله.

وقال الزمخشري: {ولتصغي} جوابه محذوف تقديره، وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً على أن اللام لام الصيرورة، وتسمية ما تتعلق به اللام جواباً اصطلاح غريب، وما قاله هو قول الزجاج، قال: تقديره {ولتصغي إليه} فعلوا ذلك فهي لام صيرورة. وذهب الأخفش إلى أن لام {ولتصغي} هي لام كي وهي جواب لقسم محذوف تقديره. والله {ولتصغي} موضع ولتضغين فصار جواب القسم من قبيل المفرد فتقول والله ليقول زيد التقدير أقسم بالله لقيام زيد واستدل على ذلك بقول الشاعر: إذا قلت قدني قال باللَّه حلفة لتغني عني ذا أنائك أجمعا وبقوله: {ولتصغي} والرد عليه مذكور في كتب النحو. وقيل هي في {ولتصغي} لام كي سكنت شذوذاً، وفي {ليرضوه وليقترفوا} لام الأمر مضمناً التهديد والوعيد، كقوله: {اعملوا ما شئتم} . {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَبَ مُفَصَّلاً} وجوزوا في إعراب غير أن يكون مفعولاً بأبتغي وحكماً حال وعكسه وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم كقولهم: إن لنا غيرها إبلا وهو متجه. وحكاه أبو البقاء وجملة وهو الذي أنزل حالية. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء {صِدْقاً وَعَدْلاً} مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء. وقال ابن عطية: هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} و {من} قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف. وقال أبو الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي: في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد.

وأضرب منا بالسيوف القوانسا أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها {يضل} وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل. وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر {يضل} والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله {لنعلم أي الحزبين} وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو. وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح {يضل} بضم الياء وفاعل {يضل} ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالاً أو يخلق فيه الضلال. {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ودعوى زيادة لا هنا لا حاجة إليها والمعنى على كونها نافية صحيح واضح، و {أن لا تأكلوا} أصله في أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقة بما تعلق به لكم الواقع خبراً لما الاستفهامية ونفى {أن لا تأكلوا} على الخلاف أهو منصوب أو مجرور ومن ذهب إلى {أن لا تأكلوا} في موضع الحال أي تاركين الأكل فقوله: ضعيف لأن أن ومعمولها لا يقع حالاً وهذا منصوص عليه من سيبويه، ولا نعلم مخالفاً له ممن يعتبر وله علة مذكورة في النحو والجملة من قوله: {وقد فصل} في موضع الحال قال هو والحوفي، وهي في موضع نصب بالاستثناء أو الاستثناء منقطع. وقال أبو البقاء: {ما} في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى.

{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وجواب الشرط. زعم الحوفي أنه {إنكم لمشركون} على حذف الفاء أي فإنكم وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن وإنما الجواب محذوف و {إنكم لمشركون} جواب قسم محذوف التقدير والله {إن أطعتموهم} لقوله: وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن وقوله: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن} وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على إن الشرطية، كقوله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه.

{وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} قيل: هو معطوف على {كذلك زين} فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير إليه بقوله: {كذلك زين} و {جعلنا} بمعنى صيرنا ومفعولها الأول {أكابر مجرميها} وفي كل قرية المفعول الثاني و {أكابر} على هذا مضاف إلى {مجرميها} ، وأجاز أبو البقاء أن يكون {مجرميها} بدلاً من {أكابر} وأجاز ابن عطية أن يكون {مجرميها} المفعول الأول و {أكابر} المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر، وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل الثاني والتقدير مجرميها أكابر، وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أو مؤنث أو مجموع، فإذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين: إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا فالقول بأن {مجرميها} بدل من {أكابر} أو أن {مجرميها} مفعول أول خطأ لالتزامه أن يبقى {أكابر} مجموعاً وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة وذلك لا يجوز، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال: أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة؛ انتهى. وكان ينبغي أن يقيد فيقول: أو مع الإضافة إلى معرفة وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفاً أي فساقاً {ليمكروا فيها} وهو ضعيف جداً لا يجوز أن يحمل القرآن عليه، وقال ابن عطية: ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ومنه قول الشاعر: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت مالي وكنت بهنّ قدماً مولعا

انتهى، ولا أعلم أحداً أجاز في الأفاضل أن يقال الأفاضلة بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل، وقرأ ابن مسلم أكبر مجرميها وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد كقوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو، ولاز {ليمكروا} لام كي. وقيل: لام العاقبة والصيرورة. {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقالوا: حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا. قال الحوفي: لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان فإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً على السعة والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم. وقال أبو البقاء: والتقدير يعلم موضع رسالاته وليس ظرفاً لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا وليس المعنى عليه، وكذا قدره ابن عطية. وقال التبريزي: {حيث} هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب المفعول كما في قول الشماخ: وحلأها عن ذي الأراكة عامر

أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواخر فجعل مفعولاً به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكوى النواحر، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع؛ انتهى. وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأن النحاة نصوا على أن {حيث} من الظروف التي لا تتصرف وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب {حيث} على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها، والذي يظهر لي إقرار {حيث} على الظرفية المجازية على أن تضمن {أعلم} معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً {حيث يجعلرسالاته} أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته، والظرفية هنا مجاز كما قلنا وروى {حيث} بالفتح. فقيل: حركة بناء. وقيل: حركة إعراب ويكون ذلك على لغة بني فقعس فإنهم يعربون {حيث} حكاها الكسائي. وقرأ ابن كثير وحفص رسالته بالتوحيد وباقي السبعة على الجمع. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} وانتصب عند {سيصيب} أو بلفظ {صغار} لأنه مصدر فيعمل أو على أنه صفة لصغار فيتعلق بمحذوف، وقدّره الزجاج ثابت عند الله و {ما} الظاهر أنها مصدرية أي بكونهم {يمكرون} . وقيل: موصولة بمعنى الذي. {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ويحتمل أن يكون {يجعل} بمعنى يخلق وينتصب {ضيقاً حرجاً} على الحال أي يخلقه على هذه الهيئة فلا يسمع الإيمان ولا يقبله. {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وتعدية {يجعل} بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير و {على} في موضع المفعول الثاني.

{لَهُمْ دَارُ السَّلَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَفِرِينَ * ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَفِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍءَاخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ * وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأٌّنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ

أَوْلَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} . {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} وإعرابه عندي بدل كأنه قيل: الوقت الذي وحينئذ يكون جنساً ولا يكون إعرابه نعتاً لعدم المطابقة. {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} وقال أبو علي: هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم؛ انتهى. ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه {مثواكم} أي يثوونن {خالدين فيها} قيل الاستثناء متصل وقيل منقطع.

{ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} وجوّزوا في ذلك الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ذلك الأمر، وخبر محذوف المبتدإ أي الأمر ذلك والنصب على فعلنا ذلك وإن لم يكن تعليل ويحتمل أن تكون أن الناصبة للمضارع والمخففة من الثقيلة أي لأن الشأن لم يكن ربك وأجاز الزمخشري أن لا يكون {إن لم يكن} تعليلاً فأجاز فيه أن يكون بدلاً من ذلك كقوله: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع} فإذا كان تعليلاً فهو على إسقاط حرف العلة على الخلاف أموضعه نصب أو جر وإن كان بدلاً فهو في موضع رفع، لأن الزمخشري لم يذكر في ذلك إلا أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ} و {من} لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: للتبعيض. وقال الطبري: وتبعه مكي هي بمعنى أخذت من ثوبي ديناراً بمعنى عنه وعوضه؛ انتهى، يعني إنها بدلية. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدَّارِ} والظاهر أن {من} مفعول {يتعلمون} وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم استفهام وخبره {تكون} والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان يتعدّى إلى مفعولين.

{سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} والظاهر أن {ساء} هنا مجراة مجرى بئس في الذمّ كقوله: {قل بئسما يأمركم} والخلاف الجاري في {بئسما} وإعراب ما جار هنا وتقدم ذلك مستوفى في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} في البقرة وعلى أن حكمها حكم {بئسما} فسرها الماتريدي فقال: بئس الحكم حكمهم وأعربها الحوفي وجعل ما موصولة بمعنى الذي قال والتقدير ساء الذي يحكمون حكمهم، فيكون حكمهم رفعاً بالابتداء وما قبله الخبر وحذف لدلالة يحكمون عليه. ويجوز أن يكون ما تمييزاً على مذهب من يجيز ذلك في {بئسما} فيكون في موضع نصب التقدير {ساء} حكماً حكمهم ولا يكون {يحكمون} صفة لما لأن الغرض الإبهام ولكن في الكلام حذف بدل ما عليه والتقدير سا ما {ما يحكمون} . وقال ابن عطية: و {ما} في موضع رفع كأنه قال: ساء الذي يحكمون ولا يتجه عندي أن تجري هنا {ساء} مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النجاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله: {ساء مثلاً القوم} لأن المفسر ظاهر في الكلام؛ انتهى. وهذا قول من شدا يسير من العربية ولم يرسخ قدمه فيها بل إذا جرى ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمها سواء لا يختلف في شيء البتة من فاعل مضمر أو ظاهر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذمّ والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه فقوله: لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب.

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} وقرأ الجمهور: {زين} مبنياً للفاعل ونصب {قتل} مضافاً إلى {أولادهم} ورفع {شركاؤهم} فاعلاً بزين وإعراب هذه القراءة واضح، وقرأت فرقة منهم السلمي والحسن وأبو عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر {زين} مبنياً للمفعول {قتل} مرفوعاً مضافاً إلى {أولادهم شركاؤهم} مرفوعاً على إضمار فعل أي زينه شركاؤهم هكذا خرجه سيبويه، أو فاعلاً بالمصدر أي {قتل أولادهم شركاؤهم} كما تقول: حبب لي ركوب الفرس زيد هكذا خرجه قطرب، فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما ذلك في القراءة الأولى، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون. ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين وإن لم يكونوا مباشري القتل، وقرأت فرقة كذلك إلا أنهم خفضوا شركائهم وعلى هذا الشركاء هم المودودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، أو لأنهم قسيميو أنفسهم وأبعاض منها. وقرأ ابن عامر: {كذلك} إلا أنه نصب {أولادهم} وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها، فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخر وهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر، وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عذة أبيات قد ذكرناها في كتاب منهج السالك من تأليفنا ولا التفات إلى قول ابن عطية وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو لشركاء ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله: كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي يقارب أو يزيل

فكيف بالمفعول في أفصح كلام ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش: فزججته بمزجة زج القلوس أبي مزادة وفي بيت الطرماح وهو قوله: يطفن بجوزي المراتع لم يرع بواديه من قرع القسيّ الكنائن انتهى كلام ابن عطية، ولا التفات أيضاً إلى قول الزمخشري: إن الفصل بينهما يعني بين المضاف والمضاف إليه فشا لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر أكان سمجاً مردوداً فكيف به في القرآن المعجز لحسن نظمه وجزالته؟ والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر {الأولاد} والشركاء لأن {الأولاد شركاؤهم} في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب؛ انتهى ما قاله. وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم ولا التفات أيضاً لقول أبي علي الفارسي: هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أولى لأنهم لم يجزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف وإنما أجازوه في الشعر؛ انتهى. وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب هو غلام إن شاء الله أخيك فالفصل بالمفرد أسهل، وقد جاء الفصل في اسم الفاعل في الاختيار. قرأ بعض السلف: مخلف وعده رسله بنصب وعده وخفض رسله وقد استعمل أبو الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول اتباعاً لما ورد عن العرب فقال: بعثت إليه من لساني حديقة سقاها الحيا سقي الرياض السحائب

وقال أبو الفتح: إذا اتفق كل شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به فإن كان فصيحاً وكان ما أورده يقبله القياس فالأولى أن يحسن به الظن، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ونحوه ما روى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك وذهب عنهم كثيره يعني الشعر في حكاية فيها طول. وقال أبو الفتح: فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح إذا سمع منه ما يخالف الجمهور بالخطا؛ انتهى، ملخصاً مقتصراً على بعض ما قاله. وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر {زين} بكسر الزاي وسكون الياء على القراءة المتقدمة من الفصل بالمفعول. افتراءً على الله وانتصب {افتراء} على أنه مفعول من أجله أو مصدر على إضمار فعل، أي يفترون أو مصدر على معنى وقالوا: لأنه في معنى افتروا أو مصدر في موضع الحال.

{وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَجِنَا} وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة: خالص بالرفع بغير تاء وهو خبر ما و {لذكورنا} متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني خالصاً بالنصب بغير تاء، وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها؛ انتهى ملخصاً. ويعني بقوله: على الحال من {ما} أي من ضمير {ما} الذي تضمنه خبر {ما} وهو {لذكورنا} ويعني بقوله: في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفاً أو مجروراً نحو زيد قائماً في الدار، وخبر {ما} على هذه القراءة هو {لذكورنا} . وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضاً {خالصة} بالنصب وإعرابها كإعراب خالصاً بالنصب وخرّج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري {خالصة} على الإضافة وهو بدل من {ما} أو مبتدأ خبره {لذكورنا} والجملة خبر ما. {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} وقرأ ابن كثير: وإن يكن {ميتة} بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة وجعل الخبر محذوفاً التقدير وإن تكن في بطونها ميتة وفيه بعد. وقرأ باقي السبعة {وإن يكن} التذكير {ميتة} بالنصب على تقدير وإن يكن ما في بطونها ميتة. قال أبو عمرو بن العلاء: ويقوي هذه القراءة قوله: {فهم فيه شركاء} ولم يقل فيها؛ انتهى.

{وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّتٍ مَّعْرُوشَتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الأَنْعَمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * ثَمَنِيَةَ أَزْوَجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * قُل لاّ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَدِقُونَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ

وَسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَلِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَدَكُمْ مِّنْ إمْلَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .

هلمّ: لغة الحجاز إنها لا تلحقها الضمائر بل تكون هكذا للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فهي عند النحويين اسم فعل ولغة بني تميم لحاق الضمائر على حدّ لحوقها للفعيل، فهي عند معظم النحويين فعل لا تتصرف والتزمت العرب فتح الميم في اللغة الحجازية وإذا كان أمراً للواحد المذكر في اللغة التميمية فلا يجوز فيها ما جاز في ردّ، ومذهب البصريين أنها مركبة من ها التي للتنبيه ومن المم ومذهب الفراء من هل وأمّ وتقول للمؤنثات هلممن. وحكى الفراء هلمين وتكون متعدّية بمعنى أخضر ولازمة بمعنى أقبل.

{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} وانتصب مختلفاً على أنه حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفاً. وقيل: هي حال مقارنة وذلك بتقدير حذف مضاف قبله تقديره وثمر النخل وحب الزرع والضمير في {أكله} عائد على {النخل والزرع} وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية قال معناه الزمخشري: وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين. وقال الحوفي: والهاء في {أكله} عائدة على ما تقدّم من ذكر هذه الأشياء المنشآت؛ انتهى. وعلى هذا لا يكون ذو الحال {النخل والزرع} فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف المأكول، ولو كان كما زعم لكان التركيب مختلفاً أكلها إلا إن أخذ ذلك على حذف مضاف أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل: {أكله} بالإفراد على مراعاته فيكون ذلك نحو قوله: {أو كظلمات في بحر لجيّ} يغشاه موج أو كذي ظلمات، ولذلك أعاد الضمير في {يغشاه} عليه، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو {الزرع} ويكون قد حذفت حال {النخل} لدلالة هذه الحال عليها، التقدير {والنخل مختلفاً أكله} والزرع مختلفاً أكله كما تأول بعضهم في قولهم: زيد وعمرو قائم أي زيد قائم وعمرو قائم، ويحتمل أن يكون الحال مختصة بالزرع لأن أنواعه مختلفة الشكل جدّاً كالقمح والشعير والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك، بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر. {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والظاهر أن {يوم حصاده} معمول لقوله: {وآتوا} والمعنى واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكان الإيتاء فيه. ويجوز أن يكون معمولاً لقوله: {حقه} . {وَمِنَ الأَنْعَمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} هذا معطوف على {جنات} .

{ثَمَنِيَةَ أَزْوَجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} وانتصب {ثمانية أزواج} على البدل في قول الأكثرين من قوله: {حمولة وفرشاً} وهو الظاهر. وأجازوا نصبه بـ {كلوا مما رزقكم الله} وهو قول عليّ بن سليمان وقدره كلوا لحم ثمانية وبإنشأ مضمرة قاله الكسائي، وعلى البدل من موضع ما من قوله: {مما رزقكم} وبـ {كلوا} مضمرة وعلى أنها حال أي مختلفة متعددة. وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن وعيسى بن عمر: {من الضأن} بفتح الهمزة. وقرأ الابنان وأبو عمرو: {ومن المعز} بفتح العين. وقرأ أبي ومن المعزى. وقرأ أبان بن عثمان: اثنان بالرفع على الابتداء والخبر المقدم. {قُل لاّ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} والدم موصوف بقوله: {مسفوحاً} والفسق موصوفاً بقوله: {أهل لغير الله به} . و {محرماً} صفة لمحذوف تقديره مطعوماً ودل عليه قوله {على طاعم يطعمه} ويطعمه صفة لطاعم. وقرأ الباقر {بطعمه} بتشديد الطاء وكسر العين والأصل يطتعمه أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيها فاء الكلمة. وقرأت عائشة وأصحاب عبد الله ومحمد بن الحنفية تطعمه بفعل ماض وإلا أن يكون استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون نصبه بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز. وقرأ الابنان وحمزة إلا أن تكون بالتاء وابن كثير وحمزة {ميتة} بالنصب واسم {يكون} مضمر يعود على قوله: {محرماً} وأنث لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر {ميتة} بالرفع جعل كان تامة. وقرأ الباقون بالياء ونصب {ميتة} واسم كان ضمير مذكر يعود على {محرماً} أي {إلا أن يكون} المحرم {ميتة} وعلى قراءة ابن عامر وهي قراءة أبي جعفر فيما ذكر مكي يكون قوله: {أو رماً} معطوفاً على موضع {أن يكون} وعلى قراءة غيره، يكون معطوفاً على قوله: {ميتة} .

و {أهل} صفة للفسق منصوبة المحل وأجاز الزمخشري أن ينتصب {فسقاً} على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو {أهلّ} لقوله. طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب وفصل به بين أو وأهل بالمفعول له ويكون أو أهل معطوفاً على {يكون} والضمير في {به} يعود على ما عاد عليه في {يكون} وهذا إعراب متكلف جداً وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة وغير جائز في قراءة من قرأ {إلا أن يكون ميتة} بالرفع فيبقى الضمير في {به} ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شيء {أهل لغير الله به} لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} أي شحوم الجنسين ويتعلق {من} بحرمنا المتأخرة ولا يجب تقدمها على العامل، فلو كان التركيب وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومها لكان تركيباً غريباً، كما تقول: من زيد أخذت ماله ويجوز أخذت من زيد ماله، ويحتمل أن يكون {ومن البقر والغنم} معطوفاً على {كل ذي ظفر} فيتعلق من بحرمنا الأولى ثم جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في منن التبيعيضة من المحرم فقال: {حرّمنا عليهم شحومها} . وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون {من البقر} متعلقاً بحرمنا الثانية بل ذلك معطوف على كل {وحرمنا عليهم} تبيين للمحرّم من البقر والغنم وكأنه يوهم أن عود الضمير مانع من التعلق إذ رتبة المجرور بمن التأخير، لكن عن ماذا أما عن الفعل فمسلم وأما عن المفعول فغير مسلم وإن سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع، بل يجوز ذلك كما جاز ضرب غلام المرأة أبوها وغلام المرأة ضرب أبوها وإن كانت رتبة المفعول التأخير، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة أعني في كونهما فضلة فلا يبالي فيهما بتقديم أيهما شئت على الآخر. وقال الشاعر:

وقد ركدت وسط السماء نجومها فقدّم الظرف وجوباً لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف. {أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} معطوف على ظهورها قاله الكسائي. قال الزمخشري: وأو بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ انتهى. وقال النحويون: أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معاً وأن يجالس أحدهما، والأحسن في الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوفية للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم. {ذلك جزيناهم ببغيهم} قال ابن عطية: {ذلك} في موضع رفع وقال الحوفي: {ذلك} في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره الأمر ذلك، ويجوز أن يكون نصب {بجزيناهم} لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك. وقال أبو البقاء: {ذلك} في موضع نصب بـ {جزيناهم} لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك. وقال أبو البقاء: {ذلك} في موضع نصب بـ {جزيناهم} ولم يبين على أيّ شيء انتصب هل على المصدر أو على المفعول بإذ؟ وقيل: مبتدأ والتقدير جزيناهموه؛ انتهى، وهذا ضعيف لضعف زيد ضربت. وقال الزمخشري: ذلك الجزاء {جزيناهم} وهو تحريم الطيبات؛ انتهى. وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر، وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشاراً به إلى المصدر إلا واتبع بالمصدر فتقول: قمت هذا القيام وقعدت ذلك العقود، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك، فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر. {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ىَابَآؤُنَا} {ولا آباؤنا} معطوف على الضمير المرفوع وأغني الفصل بلا بين حرف العطف والمعطوف على الفصل بين المتعاطفين بضمير منفصل يلي الضمير المتصل أو بغيره. وعلى هذا مذهب البصريين لا يجيزون ذلك بغير فصل إلا في الشعر ومذهب الكوفيين جواز ذلك وهو عندهم فصيح في الكلام.

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَلِغَةُ} الفاء عطف على محذوف يقدر بما يناسب المعنى. {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} و {هَلُمَّ} هنا على لغة الحجاز وهي متعدية ولذلك انتصب المفعول به بعدها أي أحضروا شهداءكم. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} و {ما} بمعنى الذي وهي مفعولة باتل أي اقرأ الذي حرمه ربكم عليك. وقيل: مصدرية أي تحريم ربكم. وقيل: استفهامية منصوبة بحرّم أي أي شيء حرم ربكم، ويكون قد علق أتل وهذا ضعيف لأن أتل ليس من أفعال القلوب فلا تعلق و {عليكم} متعلق بجرم لا بأتل فهو من أعمال الثاني. وقال ابن الشجري: إن علقته باتل فهو جيد لأنه أسبق وهو اختيار الكوفيين فالتقدير اتل عليكم الذي حرّم ربكم. {ُ ِأَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَاناً} الظاهر أن {أن} تفسيرية و {لا} ناهية لأن {اتل} فعل بمعنى القول وما بعد {أن} جملة فاجتمع في أن شرطاً التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى لقول وأن يكون بعدها جمولة وذلك بخلاف أي فإنها حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها، وبعدها مفرد وجملة وجعلها تفسيرية هو اختيار الزمخشري.

(فإن قلت) : إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما {حرم ربكم} وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما يصنع بالأوامر؟ (قلت) : لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدّمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإشارة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول وكث عهد الله؛ انتهى. وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم وكون التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وأما عطف هذه الأامر فيحتمل وجهين: أحدهما: أنها معطوفة على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية بل هي معطوفة على قوله: {تعالوا أتل ما حرم} أمرهم أولاً بأمر يترتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح، والثاني: أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت أن التفسيرية ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل عليه حذفه والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرّم عليه، لأن معنى {ما حرم ربكم عليكم} ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى {قل تعالوا أتل} ما نهاكم ربكم عنه، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال امرؤ القيس: يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً وقد جوزوا في أن {أن} تكون مصدرية لا تفسيرية في موضع رفع وفي موضع نصب. فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل عليه المعنى أو التقدير المتلو {أن لا تشركوا} . وأما النصب فمن وجوه. أحدها: أن يكون منصوباً بقوله: {عليكم} ويكون من باب الإعراء وتم الكلام عند قوله: {أتل ما حرم ربكم} أي التزموا انتفاء الإشراك وهذا بعيد لتفكيك الكلام عن ظاهره. الثاني: أن يكون مفعولاً من أجله أي {أتل ما حرم ربكم عليكم} {أن لا تشركوا} وهذا بعيد لأن ما جاء بعده أمر معطوف بالواو ومناه هي معطوفة بالواو فلا يناسب أن يكون تبييناً لما حرم، أما الأوامر فمن حيث المعنى وأما المناهي فمن حيث العطف. الثالث: أن يكون مفعولاً بفعل محذوف تقديره أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله: {وبالوالدين إحساناً} محمول على أوصيكم {بالوالدين إحساناً} وهذا بعيد لأن الإضمار على خلاف الأصل. وهذه الأوجه الثلاثة لا فيها باقية على أصل وضعها من النفي وهو مراد. الرابع: أن يكون في موضع نصب على البدل من {ما حرم} أو من الضمير المحذوف من {ما حرم} إذ تقديره ما حرمه وهذان الوجهان لا فيهما زائدة كهي في قوله: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً من المحرم ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعاء زيادة لا فيه لظهور أن لا فيها للنهي.

وقال الزمخشري: (فإن قلت) هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت {أن لا تشركوا} بدلاً من {ما حرم} (قلت) : وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها وهي قوله: {وبالوالدين إحساناً} لأن التقدير وأحسنوا {بالوالدين إحساناً} وأوفوا وإذا قلتم فاعدلوا وبعهد الله أوفوا؛ انتهى. ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بينا جواز عطف {وبالوالدين إحساناً} على {تعالوا} وما بعده معطوف عليه، ولا يكون قوله: {وبالوالدين إحساناً} معطوفاً على {أن لا تشركوا} .

{وَأَنَّ هَذَا صِرَطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَبُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُءَايَتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُءَايَتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ

وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَئِفَ الأٌّرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} قرأ الأخوان {وإن هذا} بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف، {فاتبعوه} جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرأ الباقون بفتحها وخفف ابن عامر النون وشدّدها الباقون. وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق {وإن} كقراءة ابن عمر، فأما تخفيف النون فعلى أنه حذف اسم إن وهو ضمير الشأن وخرجت قراءة فتح الهمزة على وجوه: أحدها: أن يكون تعليلاً حذف منها اللام تقديره ولأن هذا {صراطي مستقيماً فاتبعوه} كقوله: {وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع الله أحداً} وقد صرّح باللام في قوله: {لإيلاف قريش إيلافهم} {فليعبدوا} . قال الفارسي: قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة بمنزلتها في زيد فقام. الوجه الثاني: أن تكون معطوفة على {ألا تشركوا} أي أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد وأتل عليكم أن هذا صراطي وهذا على تقدير أن {أن} في {أن لا تشركوا} مصدرية قاله الحوفي هكذا قرروا هذا الوجه فجعلوه معطوفاً على البدل مما حرم وهو أن لا تشركوا. وقال أبو البقاء: أنه معطوف على المبدل منه أي أتل الذي حرم وأتل أن هذا {صراطي مستقيماً} وهو تخريج سائغ في الكلام، وعلى هذا فالصراط مضاف للمتكلم وهو الرسول صلى الله عليه وسلّموصراطه هو صراط الله. الوجه الثالث: أن يكون في موضع جر عطفاً على الضمير في به قاله الفراء، أي وصاكم به وبأن حذفت الباء لطول أن بالصلة. قال الحوفي: وهو مرادة ولا يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها. وقال أبو البقاء: هذا فاسد لوجهين. أحدهما: عطف المظهر على المضمر من غير إعادة الجار والثاني أنه يصير المعنى وصاكم باستقامة الصراط. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} وانتصب فتفرق لأجل النهي جواباً له أي فتفرق فحذف التاء. وقرىء {فتفرق} بتشديد التاء.

{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} {ثم} تقتضي المهلة في الزمان هذا أصل وضعها ثم تأتي للمهلة في الإخبار. فقال الزجاج: هو معطوف على أتل تقديره أتل ما حرم ثم أتل {آتينا} . وقيل: معطوف على {قل} على إضمار قل أي ثم قال {آتينا} . وقيل: التقدير ثم إني أخبركم إنا آتينا. و {الكتاب} هنا التوراة بلا خلاف وانتصب تماماً على المفعول له أو على لمصدر أتممناه {تماماً} مصدر على حذف الزوائد أو على الحال إما من الفاعل والمفعول وكل قد قيل. وقال بعض نحاة الكوفة: يصح أن يكون {أحسن} اسماً وهو أفعل التفضيل وهو مجرور صفة للذي وإن كان نكرة من حيث قارب المعرفة إذ لا يدخله أل كما تقول العرب: مررت بالذي خير منك، ولا يجوز مررت بالذي عالم؛ انتهى. وهذا سائغ على مذهب الكوفيين في الكلام وهو خطأ عند البصريين. وقرأ يحيى بن معمر وابن أبي إسحاق {أحسن} برفع النون وخرج على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أحسن و {أحسن} خبر صلة كقراءة من قرأ {مثلا ما بعوضة} أي تماماً على الذي هو أحسن دين وأرضاه أو تامّاً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتم له الكتاب على أحسنه. وقال التبريزي: {الذي} هنا بمعنى الجمع وأحسن صلة فعل ماض حذف منه الضمير وهو الواو فبقي أحسن أي على الذين أحسنوا، وحذف هذا الضمير والاجتزاء بالضمة تفعله العرب. قال الشاعر: فلو أن الأطباء كان حولي وقال آخر: إذا شاؤوا أضروا من أرادوا ولا يألوهم أحد ضرارا وقال آخر: شبوا على المجد شابوا واكتهل يريد واكتهلوا فحذف الواو ثم حذف الضمير للوقف؛ انتهى. وهذا خصه أصحابنا بالضرورة فلا يحمل كتاب الله عليه. وانتصب تفصيلاً على المفعول له.

و {أنزلناه} و {مبارك} صفتان لكتاب أو خبران عن هذا على مذهب من يجيز تعداد الأخبار. وإن لم يكن في معنى خبر واحد. {ُ ِأَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَبُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} {أن تقولوا} مفعول من أجله فقدره الكوفيون لئلا تقولوا ولأجل أن لا تقولوا وقدره البصريون كراهة {أن تقولوا} والعامل في كلا المذهبين {أنزلناه} محذوفة يدل عليها قوله قبل {أنزلناه} ، ولا يجوز أن يكون العامل {أنزلناه} هذه الملفوظة بها للفاصل بينهما وهو {مبارك} الذي هو وصف لكتاب أو خبر عن هذا فهو أجنبي من العامل والمعمول. وظاهر كلام ابن عطية أن العامل فيه {أنزلناه} الملفوظ بها. وقيل: {أن تقولوا} مفعول والعامل فيه {واتقوا} أي {واتقوا أن تقولوا} لأنه لا حجة لكم فيه. {ُ ِوَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَفِلِينَ} وإن هنا هي المخففة من الثقيلة. وقال الكوفيون: إن نافية واللام بمعنى إلا والتقدير وما كنا عن دراستهم إلا غافلين. وقال قطرب: في مثل هذا التركيب إن بمعنى قد واللام زائدة وليس هذا الخلاف مقصوراً على ما في هذه الآية، بل هو جار في شخصيات هذا التركيب وتقريره في علم النحو. وقال الزمخشري: {وإن كنا} هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل {وإن كنا عن دراستهم} غافلين على أن الهاء ضمير؛ انتهى. وما ذهب إليه من أن أصله {وإن كنا} والهاء ضمير الشأن يلزم منه أن إن المخففة من الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حالة التخفيف كما قال النحويون في أن المخففة من الثقيلة والذي نص الناس عليه أن إن المخففة من الثقيلة إذا لزمت اللام في أحد الجزأين بعدها أو في أحد معمولي الفعل الناسخ الذي يليها، إنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر لا مثبت ولا محذوف فهذا الذي ذهب إليه مخالف للنصوص وليست إذا وليها الناسخ داخلة في الأصل على ضمير شأن البتة.

و {عن دراستهم} متعلق بقوله: {لغافلين} وهذا يدل على بطلان مذهب الكوفيين في دعواهم أن اللام بمعنى إلا ولا يجوز أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها، وكذلك اللام التي بمعناها ولهم أن يجعلوا عنها متعلقاً بمحذوف ويدل أيضاً على أن اللام لام ابتداء لزمت للفرق، فجاء أن يتقدم معمولها عليها لما وقعت في غير ما هو لها أصل كما جاز ذلك في أن زيداً طعامك لأكل حيث وقعت في غير ما هو لها أصل ولم يجز ذلك فيها إذا وقعت فيما هو لها أصل وهو دخولها على المبتدأ. {ُ ِفَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} والفاء في قوله: {فقد جاءكم} على ما قدره الزمخشري وغيره جواب شرط محذوف. قال الزمخشري: والمعنى إن صدقتم فيما كنتم تعدجون من أنفسكم. {ُ ِفَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف؛ انتهى. {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا خَيْرًا} وقال الزمخشري: {آمنت من قبل} صفة لقوله: {نفساً} وقوله: {أو كسبت في إيمانها خيراً} عطف على {آمنت} . وانتصب يوم تأتي بقوله: {لا ينفع} وفيه دليل على تقدّم معمول الفعل المنفي بلا على لا خلافاً لمن منع. وقرأ زهير القروي {يوم يأتي} بالرفع والخبر {لا ينفع} والعائد محذوف أي لا ينفع فيه وإن لم يكن صفة وجاز الفصل بالفاعل بين الموصوف وصفته لأنه ليس بأجنبي إذ قد اشترك الموصوف الذي هو المفعول والفاعل في العامل، فعلى هذا يجوز ضرب هنداً غلامها التميمية ومن جعل الجملة حالاً أبعد ومن جعلها مستأنفة فهو أبعد.

{ُ ِمَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأنت عشراً وإن مفرده مؤنث والتقدير فله عشر حسنات أمثالها ونظيره في التذكير مررت بثلاثة نسابات راعى الموصوف المحذوف أي بثلاثة رجال نسابات. وقيل: أنث عشراً وإن كان مضافاً إلى ما مفرده مذكر لإضافة أمثال إلى مؤنث وهو ضمير الحسنة كقوله: {يلتقطه بعض السيارة} قاله أبو عليّ وغيره. وقرىء أمثالها بالرفع على النعت لعشر. {ُ ِدِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وانتصب {ديناً} على إضمار عرفني لدلالة هداني عليه أو بإضمار هداني أو بإضمار اتبعوا وألزموا، على أنه مصدر لهداني على المعنى كأنه قال: اهتداء أو على البدل من إلى صراط على الموضع لأنه يقال: هديت القوم الطريق. قال الله تعالى: {ويهديك صراطاً مستقيماً} . وقرأ الكوفيون وابن عامر قيماً وتقدم توجيهه في أوائل سورة النساء. وقرأ باقي السبعة قيماً كسيد وملة بدل من قوله: {ديناً} و {حنيفاً} تقدم إعرابه في قوله: {بل ملة إبراهيم حنيفاً} في سورة البقرة. وقال ابن عطية: و {حنيفاً} نصب على الحال من إبراهيم.

سورة الأعراف

سورة الأعراف مائتان وخمس آيات مكية كم اسم بسيط لا مركّب من كاف التشبيه وما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجرّ عليها وسكنت كما قالوا لم تركيباً لا ينفكّ كما ركبت في كأين مع أي وتأتي استفهاميّة وخبريّة وكثيراً ما جاءت الخبرية في القرآن ولم يأتِ تمييزها في القرآن إلا مجروراً بمن وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو. القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة قاله الليث، وقال الأزهري الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرّ ولم يكن نوم، وقال الفرّاء: قال: يقيل قيلولة وقيلاً وقائلة ومقيلاً استراح وسط النهار. العيش الحياة عاش يعيش عيشاً ومعاشاً وعيشةً ومعيشة ومعيشاً. قال رؤبة: إليك أشكو شدّة المعيش

وجهد أيام نتفن ريشي غوى يغوي غيّاً وغوايةً فسد عليه أمره وفسد هو في نفسه ومنه غوى الفصيل أكثر من شرب لبن أمّه حتى فسد جوفه وأشرف على الهلاك، وقيل أصله الهلاك ومنه فسوف يلقون غيّاًالمص * كِتَبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ * فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَتِنَا يَظْلِمُونَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّكُمْ فِى الأٌّرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن

بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَئَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّلِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَلِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّصِحِينَ * فَدَلَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأٌّرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَرِى سَوْءَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَطِينَ

أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} . الشمائل جمع وهو جمع تكسير وجمعه في القلة على أشمل قال الشاعر: يأتي لها من أيمن وأشمل وشمال يطلق على اليد اليسرى وعلى ناحيتها، والشمائل أيضاً جمع شمال وهي الريح والشمائل أيضاً الأخلاق يقال هو حسن الشمائل. ذأمه عابه يذأمه ذأماً بسكون الهمزة ويجوز إبدالها ألفاً قال الشاعر: صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها وفي المثل لن يعدم الحسناء ذأماً. وقيل: أردت أن تديمه فمدحته، وقال الليث ذأمته حقرته، وقال ابن قتيبة وابن الأنباري: ذأمه وذمّه، دحره أبعده وأقصاه دحوراً قال الشاعر: دحرت بنني الحصيب إلى قديد وقد كانوا ذوي أشَر وفخر وسوس تكلم كلا ما خفيا يكرّره والوسواس صوت الحلى شبه الهمس به وهو فعل لا يتعدّى إلى منصوب نحو ولولت ووعوع. قال ابن الأعرابي: رجل موسوس، بكسر الواو، ولا يقال: موسوَس بفتحها. وقال غيره: يقال موسوس له وموسوس إليه. وقال رؤبة يصف صياداً: وسوس يدعو مخلصاً ربَّ الفلق لمّا دنا الصيد دنا من الوهق يقول لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس في نفسه أيخطىء أم يصيب. قال الأزهري: وسوس وورور معناهما واحد، نصح بذل المجهود في تبيين الخير وهو ضد غش ويتعدى بنفه وباللام نصحْتُ زيداً ونصحتُ لزيد ويبعد أن يكون يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجرّ وأصله نصحت لزيد، من قولهم نصحت لزيد الثوب بمعنى خطته خلافاً لمن ذهب إلى ذلك. ذاق الشيء يذوقه ذوقاً مسه بلسانه أو بفمه ويطلق على الأكل. طفق، بكسر الفاء وفتحها، ويقال: طبق بالباء وهي بمعنى أخذ من أفعال المقاربة. خصف العل وضع جلداً على جلد وجمع بينهما بسير والخصف الخرز. الريش معروف وهو للطائر ويستعمل في معان يأتي ذكرها في تفسير المركبات واشتقوا منه قالوا راشه يريشه، وقيل الريش مصدر راش. النزع الإزالة والجذب بقوة.

{المص * كِتَبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} والظاهر أنّ الضمير في منهالمص * كِتَبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} عائد على الكتاب، وقيل على التبليغ الذي تضمنه المعنى. وقيل على التكذيب الذي دلّ عليه المعنى، وقيل على الإنزال، وقيل على الإنذار.

قال ابن عطية: وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعمّ جميع الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرّض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك {وفلا يكن في صدرك حرج منه} اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً {ولتنذر} متعلق بأنزل انتهى. وكذا قال الحوفي والزمخشري أنّ اللام متعلقة بقوله {أنزل} وقاله قبلهم الفرّاء ولزم من قولهم أن يكون قوله: فلا يكن في صدرك حرج اعتراضاً بين العامل والمعمول. وقال ابن الأنباري: التقدير فلا يكن {في صدرك حرج منه كي تنذر به فجعله متعلقاً بما تعلّق به في صدرك وكذا علقه به صاحب النظم فعلى هذا لا تكون الجملة معترضة وجوّز الزمخشري وأبو البقاء الوجهين إلا أنّ الزمخشري قال: (فإن قلت) : بم يتعلق قوله: لتنذر} (قلت) : بانزل أي أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ولذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجّعه اليقين على الإنذار لأنّ صاحب اليقين جَسور متوكّل على عصمته انتهى. فقوله أو بالنهي ظاهره أنه يتعلق بالنّهي فيكون متعلقاً بقوله فلا يكن كان عندهم في تعليق المجرور والعمل في الظرف فيه خلاف ومبناه على أنه هل تدلّ كان الناقصة على الحدث أم لا فمن قال إنها تدلّ على الحدث جوّز فيها ذلك، ومن قال إنها لا تدلّ عليه لم يجوّز ذلك، وأعرب الفرّاء وغير {المص} مبتدأ {وكتاب} خبره وأعرب أيضاً {كتاب} خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب {ذكري} هو مصدر ذكر بتخفيف الكاف وجوّزوا فيه أن يكون مرفوعاً عطف على كتاب أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو ذكرى، والنصب على المدر على إضمار فعل معطوف على {لتنذر} أي وتذكر ذكرى أو على موضع {لتنذر لأن موضعه نصب فيكون إذ ذاك معطوفاً على المعنى كما عطفت الحال على موضع المجرور في قوله دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً ويكون مفعولاً من أجله وكما تقول جئتك للإحسان وشوقاً إليك، والجرّ على موضع الناصبة

لتنذر} المسنبك منها ومن الفعل مصدر التقدير لإنذارك به وذكري. وقال قوم: هو معطوف على الضمير من به وهو مذهب كوفيّ وتعاور النصب والجرّ هو على معنى وتذكير مصدر ذكر المشدّد. {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} والظاهر أنّ الضمير في من دونهاتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} عائد على {ربكم} . وقيل على ما وقيل على الكتاب والمعنى لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة. وقيل أراد بالأولياء الشياطين شياطين الجنّ والإنس وإنهم الذين يحملون على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلّون عن دين الله. وقرأ الجحدري: ابتغوا من الإبتغاء. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار. ولا تبتغوا من الابتغاء أيضاً والظاهر أنّ الخطاب هو لجميع الناس. وقال الطبري وحكاه: التقدير {قل اتبعوا} فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدّم الذكر عليه وانتصب {قليلاً} على أنه نعت لمصدر محذوف {وما} زائدة أي يتذكرون تذكراً قليلاً أي حيث يتركون دين الله ويتّبعون غيره وأجاز الحوفي أن يكون نعتاً لمصدر محذوف والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعاً قليلاً. وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ: إن {ما} موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى. وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلاً على أنه نعت لظرف محذوف أي زماناً قليلاً نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع على أنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن {ما} نافية. وقرأ حفص والإخوان {تذكرون} بتاء واحدة وتخفيف الذال، وقرأ ابن عامر {يتذكرون} بالياء والتاء وتخفيف الذال، وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذال وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين، وقرأ مجاهد

بياء وتشديد الذال. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} {كم} هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بدّ في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلون فمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله {فجاءها} أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله {فجاءها} . وقرأ ابن أبي عبلة {وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم} فيقدّر المضاف وكم من أهل قرية ولا بد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصوّر فلا بدّ من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها {فجاءها بأسنا} وأما أن يحتلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك وإما أن يكون التجوّز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.

وقال الفرّاء: إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبالِ أيّهما قدّم في الرتبة، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد. وقيل: الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير، كقوله: توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بياناً على الحال وهو مصدر أي {فجاءها بأسنا} بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلاً كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشر لما لفّ في قوله {فجاءها} وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع وأشقّ ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين، فهو كالمجيء بغتةً وقوله {أو هم قائلون} جملة في موضع الحال ونصّ أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوّز جاء زيد ماشياً أو وهو راكب. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى: {أو هم قائلون} (قلت) : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزّجاج. وقال: لو قلت جاءني زيد راجلاً أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حُذفت الواو استثقالاً لاجتماع حر في عطفه لأنّ واو الحال هي واو العطف استُعيرت للوصل فقولك جاء زيد راجلاً أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدّة وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث انتهى.

فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفرّاء، وأما قول الزّجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه، وأما قول الزمخشري والصحيح إلى آخرها فتعليليه ليس بصحيح لأنّ واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حر في عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالاً حتى يعطف حالاً على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكون حالاً دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف إذا قلت والله ليخرجنّ وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملة الإسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإنّ حذف الواو منها شاذ وتبع في ذلك الفرّاء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة. {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ}

ودعواهم اسم كان وإلا أن قالوا الخبر وأجازوا العكس والأول هو الذي يقتضي نصوص المتأخّرين أن لا يجوز إلا هو فيكون دعواهم الإسم و {إلا أن قالوا} الخبر لأنه إذا لم تكن قرينة لفظية ولا معنوية تبين الفاعل من المفعول وجب تقديم الفاعل وتأخير المفعول نحو: ضرب موسى عيسى وكان وأخواتها مشبّهة في عملها بالفعل الذي يتعدّى إلى واحد، فكما وجب ذلك فيه وجب ذلك في المشبّه به وهو كان ودعواهم وإلا أن قالوا لا يظهر فيهما لفظ يبين الإسم من الخبر ولا معنى فوجب أن يكون السابق هو الإسم واللاحق الخبر. وجمعت الموازين باعتبار الموزونات والميزان واحد، هذا قول الجمهور. وقال الحسن لكل أحد يوم القيامة ميزان على حدة وقد يعبّر عن الحسنات بالموازين فيكون ذلك على حذف مضاف أي من ثقلت كفّه موازينه أي موزوناته فيكون موازين جميع موزون لا جمع ميزان، وكذلك ومن خفّت كفّة حسناته و {الوزن} . مبتدأ وخبره ظرف الزمان والتقدير والوزن كائن يوم أن نسألهم ونقّص عليهم وهو يوم القيامة و {الحقّ} صفة للوزون ويجوز أن يكون {يومئذ} ظرفاً للوزن معمولاً له و {الحقّ} خبر ويتعلّق {بآياتنا} بقوله {يظلمون} لتضمّنه معنى يكذّبون أو لأنها بمعنى يجحدون وجحد تعدّى بالباء قال: {وجحدوا بها} والظاهر أنّ هذا التقسيم هو بالنسبة للمؤمنين من أطاع ومن عصى وللكفّار فتوزن أعمال الكفار. {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَتِنَا يَظْلِمُونَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّكُمْ فِى الأٌّرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}

والمعائش جمع معيشة ويحتمل أن يكون وزنها مفعلة ومفعلة بكسر العين وضمّها قالهما سيبويه. وقال الفرّاء: معيشة بفتح عين الكلمة والمعيشة ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما مما يتوصّل به إلى ذلك وهي في الأصل مصدر تنزّل منزلة الآلات. وقيل على حذف مضاف التقدير أسباب معايش كالزرع والحصد والتجارة وما يجري مجرى ذلك. وقرأ الجمهور: معايش بالياء وهو القياس لأنّ الياء في المفرد هي أصل لا زائدة فتهمز وإنما تهمز الزائدة نحو: صحائف في صحيفة، وقرأ الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية: معائش بالهمزة وليس بالقياس لكنّهم رووه وهم ثقات فوجب قبوله وشذّ هذا الهمز، كما شذ في منابر جمع منارة وأصلها منورة وفي مصائب جمع مصيبة وأصلها مصوبة وكان القياس مناور ومصاوب. وقد قالوا مصاوب على الأصل كما قالوا في جمع مقامة مقاوم ومعونة معاون، وقال الزّجاج: جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيه بصحيفة وصحائف ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة. وقال المازنيّ: أصل أخذ هذه القراءة عن نافع ولم يكن يدري ما العربية وكلام العرب التصحيح في نحو هذا انتهى. ولسنا متعبّدين بأقوال نحاة البصرة. وقال الفرّاء: ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنها فعلية فيشبّهون مفعلة بفعيلة انتهى. فهذا نقل من الفرّاء عن العرب أنهم ربما يهمزون هذا وشبهه وجاء به نقل القراءة الثقات ابن عامر وهو عربيّ صراح وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللحن والأعرج وهو من كبار قرّاء التابعين وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه في ذلك أحد، والأعمش وهو من الضبط والإتقان والحفظ والثقة بمكان، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التابعين وهم من الفصاحة والضبط والثقة بالمحلّ الذي لا يجهل، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا، وأما قول

المازنيّ أصل أخذ هذه القراءة عن نافع فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وأما قوله إنّ نافعاً لم يكن يدري ما العربية فشهادة على النفي ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك إذ هو فصيح متكلم بالعربية ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظنّ بالقرّاء ولا يجوز لهم وإعراب {قليلاً ما تشكرون} كإعراب {قليلاً ما تذكرون} . {وَلَقَدْ خَلَقْنَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّجِدِينَ}

قلنا ما أن تكون فيه ثم بمعنى الواو فلم ترتّب ويكون الترتيب بين الخلق والتصوير أو تكون ثم في {ثم قلنا} للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهل محمل في الآية ومنهم من جعل {ثم} للترتيب في الزمان واختلفوا في الممخاطب، فقيل المراد به آدم وهو من إطلاق الجمع على الواحد، وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع، وقيل الخطاب في الأولى ئدم و4ي الانية ألذرّيته فتحصل المهلة بينهم {وثم} الثالثة لترتيب الأخبار، وروى هذا العوفي عن ابن عباس. وقيل: خلقناكم لآدم ثم صوّرناكم لبنيه يعني في صلبه عند أخذ الميثاق ثم قلنا فيكون الترتيب واقعاً على بابه وعلى القول الثاني وهو أنّ الخطاب لبني آدم، فقيل: الخطاب على ظاهره وإن اختلف محل الخلق والتصوير فروي الحرث عن ابن عباس خلقناكم في ظهر آدم ثم صوّرناكم في الأرحام، وقال ابن جبير عنه خلقناكم في أصلاب الرجل ثم ثوّرناكم في أرحام النساء، وقاله عكرمة وقتادة والضحّاك والأعمش، وقال ابن السائب خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صوّرناكم عند اجتماع النطف في الأرحام، وقال معمّر بن راشد حاكياً عن بعض أهل العلم خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوّرناكم فيها بعد الخلق شقّ السّمع والبصر {وثم} على هذه الأقوال في قوله {ثم قلنا} للترتيب في الأخبار، وقيل الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف التقدير ولقد خلقناكم أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم حكاه القاضي أبو يعلى في المعتمد ويكون {ثم} في {ثم قلنا} الترتيب الأخبار، وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكم ثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني والمهلة على أصل وضعها، وقيل هو من تلوين الخطاب يخاطب العين ويراد به الغير فيكون الخطاب لبني آدم والمراد آدم كقوله {وإذ نجّيناكم من آل فرعون} {فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون وإذ قتلتم نفساً} هو خطاب لمن كان بحضرة

الرسول من بني إسرائيل والمراد أسلافهم. ومنه قول الشاعر: إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها وزادت على ما وطّدت من مناقب فأنتم بذي قارٍ أمالت سيوفكم عروش الذين استرهنوا قوس حاجب وقوله {لم يكن من السّاجدين} جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله {أبي واستكبر} بعد قوله {إلا إبليس} في البقرة. الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنه قيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى ما منعك أن تسجدقَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في {ألاّ تسجد} والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود وإن كان تعالى عالماً بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادة لا قول الشاعر: أفعنك لا برق كأنّ وميضه غاب يقسمه ضرام مثقب وقول الآخر: أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قائله وأقول لا حجّة في البيت الأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيرك وأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها، وقال أبو عمرو بنُ العلاء: الرواية فيه لا البخل بخفض اللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى. وقد خرّجته أنا تخريجاً آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعولة، وقال قوم: لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا، فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد، وقيل يحمل قوله ما منعك يصحّ معه النفي، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد.

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّغِرِينَ} والضمير في منها لم يتقدّم له مفسر يعود عليه، فقيل: يعود على الجنة وكان إبليس من سكانها، وقيل: يعود على السماء، قال الزمخشري: فاهبط منها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين لمتكبرين من الثقلين، وقيل: يعود على الأرض فكأنه كان له ملكها أمره أن يهبط منها إلى جزائر البحار فسلطانه فيها فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق يخاف فيها حتى يخرج منها وهذا يحتاج إلى صحة نقل، وقيل: يعود على صورته التي كان فيها لأنه افتخر أنه من النار فشوّهب صورته بالإظلام وزوال إشراقه قاله أبو روق، وقيل: عائد على المدينة التي كان فيها ذكره الكرماني ويحتاج إلى تصحيح نقل، وقيل يعود على المنزلة والرّتبة الشريفة التي كان فيها في محل الاصطفاء والتقريب إلى محل الطّرد والتعذيب ومعنى فما يكون لك لا يصح لك أو لا يتم أو لا ينبغي بل التكبّر منهيّ عنه في كل موضع، وقيل: هو على حذف معطوف دلّ عليه المعنى التقدير فيها ولا في غيرها، وقيل المعنى ما للمتكبر أن يكون فيها وكرّر معنى الهبوط بقوله {فاخرج} لأنّ الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلّته وهو أنه جزاء على تكبّره قوبل بالضدّ مما اتّصف به وهو الصغار هو ضدّ التكبر والتكبر تفعل منه لأنه خلق كبيراً عظيماً ولكنه هو الذي تعاطى الكبر ومن كلام عمر ومن تكبّر وعدا طوره رهصه الله إلى الأرض. {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ}

الضمير في يبعثون عائد على ما دلّ عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يعود عليه وحكمة استنظاره وإن كان ذلك سبب للغواية والفتنة إنّ في ذلك ابتلاء تالعباد بمخالفته وطواعيته وما يترتب على ذلك من إعظام الثّواب بالمخالفة وإدامة العقاب بالطواعيّة وأجابه تعالى بأنه من المنظرين أي من المؤخرين ولم يأتِ هنا بغاية للانتظار وجاء مغياً في الحجر وفي ص بقوله {إلى يوم الوقت المعلوم} ويأتي تفسيره في الحجر إن شاء الله، ومعنى من المنظرين من الطائفة التي تأخّرت أعمارها كثيراً حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها فقد شمل تلك الطائفة انظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر، وقيل من المنظرين جمع كثير مثل قوم يونس. {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} الظاهر أن الباء للقسم وما مصدرية ولذلك تلقيت الالية بقوله: لأقعدن، قال الزمخشري وإنما أقسم بالإغواء لأنّه كان تكليفاً من أحسن أفعال الله لكونه تعريضاً لسعادة الأبد، فكان جديراً أن يقسم به انتهى، وقيل: الباء للسبب أي بسبب إغوائك إياي وعبر ابن عطية عنها بأن يراد بها معنى المجازاة قال: كما تقول فبإكرامك لي يا زيد لأكرمنك قال وهذا أليق بالقصة، قال الزمخشري، (فإن قلت) : بم تعلقت الباء فإن تعليقها بلأقعدن تصد عنه لام القسم لا تقول والله بزيد لأمرن (قلتلله تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره {فبما أغويتني} أقسم بالله {لأقعدن} أي بسبب إغوائك أقسم انتهى، وما ذكره من أن اللام تصدّ عن تعلّق الباء بلأقعدن ليس حكماً مجمعاً عليه بل في ذلك خلاف، وقيل: ما استفهامية كأنه استفهم عن السبب الذي أغواه وقال بأي شيء أغويتني ثم ابتدأه مقسماً فقال: لأقعدنّ لهم وضعف بإثبات الألف في ما الاستفهامية، وذلك شاذّ أو ضرورة نحو قولهم عما تسأل فهذا شاذّ والضرورة كقوله: على ما قام يشتني لئيم

قالو وانتصب {صراطك} على إسقاط على قاله الزجاج، وشبه بقول العرب ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجرّ لا ينقاس في مثل هذا لا يقال قعدت الخشبة تريد قعدت على الخشبة قالوا أو على الظرف كما قال الشّاعر فيه. كما عسل الطريق الثعلب وهذا أيضاً تخريج فيه ضعف لأنّ {صراطك} ظرف مكان مختص وكذلك الطريق فلا يتعدّى إليه الفعل إلا بواسطة في، وما جاء خلاف ذلك شاذّ أو ضرورة وعلى الضرورة أنشدوا: كما عسل الطريق الثعلب وما ذهب إليه أبو الحسين بن الذرّاوة من أنّ الصراط والطريق ظرف مبهم لا مختص ردّه عليه أهل العربية، والأولى أن يُضمّن {لأقعدنّ} معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب الصّراط على أنه مفعول به والتقدير لألزمنّ بقعودي صراطك المستقيم. {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَكِرِينَ}

وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف قيل من بين أيديهم ومن خلفهم بحرف الابتداء و {عن أيمانهم وعن شمائلهم} بحرف المجاوزة، (قلت) : المفعول فيه عدى إليه الفعل تعديته إلى المفعول به كما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه يمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلي عليه ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في فعال ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأنّ السّهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها فكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأنن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل انتهى، وهو كلام لا بأس به، وأقول إنما خصّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان لأنهما أغلب ما يجيء العدو منهما فينال فرصته وقدم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلّ على إقدام العدوّ وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه والخلف من جهة غدر ومخاتلة وجهالة القرن بمن يغتاله ويتطلب غرّته وغفلته وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان.

وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار لي مقسماً عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهو هذا الإخبار منه كان على سبيل التظني لقوله {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظ أو استفادته من قوله {وقليل من عبادي الشكور} أو من الملائكة بإخبار الله لهم أو بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها} أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة. الجمهور على أنّ الضمير عائد على الجنة والخلاف فيه كالخلاف في فاهبط منهاقَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا} وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقاً، وأمر بالخروج مخبراً أنه ذو صغار، وأمر بالخروج مقيداً بالذمّ والطرد، وقال قتادة: {مذؤوماً} لعيناً، وقال الكلبي: ملوماً، وقال مجاهد: منفيّاً، وقيل: ممقوتاً و {مدحوراً} مبعداً من رحمة الله أو من الخير أو من الجنة أو من التوفيق أو من خواصّ المؤمنين أقوال متقاربة، وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش: مذوماً بضم الذال من غير همز فتحتمل هذه القراءة وجهين أحدهما، وهو الأظهر، أن تكون من ذأم المهموز سهل الهمزة وحذفها وألقى حركتها على الذّال والثاني أن يكون من ذام غير المهموز يذيم كباع يبيع فأبدل الواو بياء كما قالوا في مكيل مكول، وانتصب {مدحوراً} على أنه حال ثانية على من جوّز ذلك أو حال من الضمير في {مذؤوماً} أو صفة لقوله {مذؤوماً} . {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}

قرأ الجمهور لمن بفتح اللام الابتداء ومن موصولة و {لأملأنّ} جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة، وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم {لمن تبعك منهم} بكسر اللام واختلفوا في تخريجها، فقال ابن عطية: المعنى لأجل من تبعك منهم {لأملأُّنّ} انتهى، فظاهر هذا التقدير أنّ اللام تتعلق بلأملأن ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبله، وقال الزمخشري بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله {لأملأنّ جهنم منكم أجمعين} على أنّ {لأملأن} في محل الابتداء و {لمن تبعك} خبره انتهى فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنّ قوله {لأملأنّ} جملة هي جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ومن حيث كونها جواباً للقسم يمتنع أيضاً لأنها إذ ذاك من هذه اليثية لا موضع لها من الإعراب ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلاً عليها عامل غير داخل وذلك لا يتصور، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي: اللام متعلقة من الذأم والدّحر ومعناه أخرج بهاتين الصفتين لأجل أتباعك ذكر ذلك في كتاب اللوامح في شواذ القراآت ومعنى {منكم منك وممن تبعك فغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وإخوتك أكرمكم. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الجرة فتكونا من الظالمين. أي وقلنا يا آدم وتقدّم تفسير هذه الآية في البقرة. إلا أن هنا فكلا من حيث شئتما وفي البقرة وكلا منها رغداً حيث شئتما} ، قالوا: وجاءت على أحد محاملها وهو أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأنّ تلك مدنية وهذه مكية فوُفّي المعنى هناك باللفظ. {لله

والظاهر أنّ اللام لام كي قصد إبداء سوآتهما وتنحطّ مرتبتهما بذلك ويسوؤهما بكشف ما ينبغي ستره ولا يجتنبان نهى الله فيكونن هو وهما سواء في المخالفة هو أمر بالسجود فأبى، وهما نهيا فلم ينتهيا، وقال قوم: إنها لام الصيرورة لأنه لم يكن له علم بهذه العقوبة المخصوصة فيقصدها. وقرأ الجمهور ووريفَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَلِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّصِحِينَ} ، وقرأ عبد الله أوري بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز، وقرأ ابن وثاب ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسى، وقرأ مجاهد والحسن من سوّتهما بالإفراد وتسهيل الهمزة بإبدالها واواً وإدغام الواو فيها، وقرأ الحسن أيضاً وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصّاح من سوّاتهما بتسيهل الهمزة وتشديد الواو، وقرىء من سواتهما بواو واحدة وحذف الهمزة ووجهه أنه حذفها وألقى حركتها على الواو فمن قرأ بالجمع فهو من وضع الجمع موضع التثنية كراهة اجتماع مثلين ومن قرأ بالإفراد فمن وضعه موضع التثنية ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أنّ كل عورة هي الدّبر والفرْج وذلك أربعة: فهي جمع وإلا أن تكونا ملكين استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي ما نهاكما ربّكما لشيء إلا كراهة أن تكونا ملكين ويقدره الكوفيّون إلا أن تكونا وإضمار الاسم وهو كراهة أحسن من إضمار الحرف وهو لا. { والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في الفعل فتقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلاناً خالفته وتقاسما تحالفاً وأما هنا فمعنى وقاسمهما أقسم لهما لأنّ اليمين لم يشاركاه فيها. وهو كقول الشاعر: وقاسمهما بالله جهداً لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها وفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو باعدت الشيء وأبعدته، وقال ابن عطية وقاسمهما أي حلف لهما وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعني أنها من واحد، وقال الزمخشري: كأنه قال لهما أقسم لكما أني لمن الناصحين وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمة بينهم أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم انتهى، وقرىء وقاسمهما بالله ولكماوَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّصِحِينَ} متعلّق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ أل موصولة وتسومح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما أو على أنّ أل لتعريف الجنس لا موصولة أوجه مقولة. وقال الأزهري: لهذه الكلمة أصلان أحدهما أنّ الرجل يدلي دلوه في البئر ليأخذ المائ فلا يجد فيها ماء، وضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال: دلاّه أي أطمعه الثاني جرأهما على أكل الشجرة والأصل فيه دللهما من الدّال والدّلالة وهما الجراءة انتهى، فأبدل من المضاعف الأخير حرف علة، كما قالوا: تظنيت وأصله تظننت.

والأولى أن يعود الضمير في عليهمافَدَلَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} على عورتيهما كأنه قيل {يخصفان} على سوآتهما من ورق الجنة، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرر في علم العربية أنه لا يتعدى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى المضمر المتصل المنصوب لفظاً أو محلاًّ في غير باب ظنّ وفقد وعلم ووجد لا يجوز زيد ضربه ولا ضربه زيد ولا زيد مر به زيد فلو جعلنا الضمير في {عليهما} عائداً على آدم وحواء للزم من ذلك تعدّى يخصف إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في يخصفان فإن أخذ ذلك على حذف مضاف مراد جاز ذلك وتقديره يخصفان على بدنيهما، قال ابن عباس: الورق الذي خصفا منه ورق الزيتون، وقيل: ورق شجر التين، وقيل: ورق الموز ولم يثبت تعيينها لا في القرآن ولا في حديث صحيح، وقرأ أبو السّمال {وطفقا} بفتح الفاء، وقرأ الزهري {يخصفان} من أخصف فيحتمل أن يكون أفعل بمعنى فعل ويحتمل أن تكون الهمزة للتعدية من خصف أي يخصفان أنفسهما، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب {يخصفان} بفتح الياء وكسر الخاء والصاد وشدّها، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك إلا أنه فتح الخاء، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب، وقرىء {يخصفان} بالتشديد من خصف على وزن فعل، وقرأ عبد الله بن يزيد {يخصفان} بضمّ الياء والخاء وتشديد الصاد وكسرها وتقرير هذه القراآت في علم العربية. {وناداهما ربّهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين} لما كان وقت الهناء شرّف بالتصريح باسمه في النداء فقيل ويا آدم اسكن وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرّح باسمه.

وقيل: النداء لآدم على الحقيقة ولم يرو قط أنّ الله كلم حواء والنداء هو دعاء الشّخص باسمه العلم أو بنوعه أو بوصفه ولم يصرّح هنا بشيء من ذلك والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلاً: ألم أنهكما وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما. قيل: ألم أنهكما عن تلكما فأشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على البعد والإنذار بالخروج منها {وأقلّ لكما} إشارة إلى قوله تعالى: {فقلنا يا آدم إنّ هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} . {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ} ولنكوننّ جواب قسم محذوف قبل {إن} كقوله {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ} التقدير والله إن لم يغفر لنا وأكثر ما تأتي إنّ هذه ولام التوطئة قبلها كقوله {لئن لم ينته} . {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} . هذا كالتفسير لقوله {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} أي بالحياة إلى حين الموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أن تعطف على الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء {قال اهبطوا} الآية {قال فيها تحيون} لما كانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله {ومنها تخرجون} أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب وهذا كقوله {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} . وقرأ الأخوان وابن ذكوان {تخرجون} مبنياً للفاعل هنا وفي الجاثية والزخرف وأوّل الروم وعن ابن ذكوان في أوّل الروم خلاف، وقرأ باقي السّبعة مبنياً للمفعول.

{يَبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَرِى سَوْءَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وعطف الريش على {لباساً} يقتضي المغايرة وأنه قسيم للباس لا قسم منه، وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية ورياشا، فقيل: هما مصدران بمعنى واحد راشه الله يريشه ريشاً ورياشاً أنعم عليه، وقال الزمخشري: جمع ريش كشعب وشعاب، وقال الزّجاج: هما اللباس، وقال الفرّاء: هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبس ولباس، وقال معبد الجهني: الرياش المعاش، وقال ابن الأعرابي: الريش الأكل والشرب والرياش المال المستفاد، وقيل: الريش ما بطن والرياش ما ظهر.

وقرأ الصاحبان والكسائي: {ولباس التقوى} بالنصب عطفاً على المنصوب قبله، وقرأ باقي السّبعة بالرفع، فقيل هو على إضمار مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى قاله الزّجاج {وذلك خير} على هذا مبتدأ وخبر وأجاز أبو البقاء أن يكون {ولباس} مبتدأ وخبره محذوف تقديره ولباس التّقوى ساتر عوراتكم، وهذا ليس بشيء والظاهر أنه مبتدأ ثانٍ {وخير خبره} والجملة خبر عن {ولباس التقوى} والرابط اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ إذا لم يكن إياه، وقيل: ذلك بدل من لباس، وقيل: عطف بيان، وقيل: صفة وخبر {ولباس} هو {خير} ، وقال الحوفي: وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتاً للباس التقوى لأنّ الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساوياً للمنعوت أو أقلّ منه تعريفاً فإن كان قد تقدّم قول أحدٍ به فهو سهو وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلاً لا موضع له من الإعراب ويكون {خير} خبراً لقوله {ولباس التقوى} فجعل اسم الإشارة فصلاً كالمضمر ولا أعلم أحداً قال بهذا وأما قوله فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو فقد ذكره ابن عطية وقال: هو أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة انتهى؛ وأجازه أيضاً أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف، وقرأ عبد الله وأبيّ ولباس التقوى خير بإسقاط ذلك فهو مبتدأ وخبر.

وينزع حال من الضمير في أخرجيَبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَتِهِمَآ إِنَّهُ} أو من {أبويكم} لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزع نازعاً تعين الأول لأنه إذ ذاك لوجوز الثاني لكان وصفاً جرى على غير من هوله فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسبباً فيه. {يَبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} والظاهر أن الضمير في أنه عائد على الشيطان، وقال الزمخشري: والضمير في {أنه} ضمير الشأن والحديث انتهى، ولا ضرورة تدعو إلى هذا {وقبيله} معطوف على الضمير المستكن في {يراكم} ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أو معطوفاً على موضع اسم إن على مذهب من يجيز ذلك، وقرأ اليزيدي {وقبيله} بنصب اللام عطفا على اسم إنّ إن كان الضمير يعود على اليطان {وقبيله} مفعول معه أي مع قبيله، وقرىء شاذاً من حيث لا ترونه بإفراد الضمير فيحتمل أن يكون عائداً على الشيطان {وقبيله} إجراء له مجرى اسم الإشارة فيكون كقوله: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق أي كان ذلك ويحتمل أن يكون عاد الضمير على الشيطان وحده لكونه رأسهم وكبيرهم وهم له تبع وهو المفرد بالنّهي أولاً.

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * يَبَنِىءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} بدأ الشيء أنشأه واخترعه، الجمل الحيوان المعروف وجمعه جمال وأجمل ولا يسمّى جملاً حتى يبلغ أربع سنين والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي في المركبات. سمّ الخياط ثقبه وتضم سين سم وتفتح وتكسر، وكل ثقب في أنف أو أذن أو غير ذلك، فالعرب تسميه سماً والخياط وهما آلتان كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع. الغل الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء. نعم حرف يكون تصديقاً لإثبات محض أو لما تضمّنه استفهام وكسر عينها لغة لقريش وإبدال عينها بالحاء لغة ووقوعها جواباً بعد نفي يراد به التقرير نادر. الأعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشاعر: كل كناز لحمه يناف كالجبل الموفى على الأعراف وقال الشماخ: فظلت بأعراف تعادي كأنها رماح نحاها وجهة الرمح راكز ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعللوّهما. الستة رتبة من العدد معروفة وأصلها سدسة فأبدلوا من السين تاء ولزم الإبدال ثم أدغموا الدّال في التاء بعد إبدال الدّال بالتاء ولزم الإدغام وتصغيره سديس وسديسة. الحثّ الإعجال حثثت فلاناً فأحثثت قاله الليث وقال: فهو حثيث ومحثوث {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} . وأقيموا معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسط أي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر لأن والفعل الماضي نحو عجبت من قيام زيد وخرج أي من أن قام وخرج وأن والمضارع نحو:

للبس عباءتي وتقرّ عيني أي لأن ألبس عباءة وتقر عيني كذلك ينحل لأن وفعل الأمر ألا ترى أنّ أن توصل بفعل الأمر نحو كتبت إليه بأن فم كما توصل بالماضي والمضارع بخلاف ما المصدرية فإنها لا توصل بفعل الأمر وبخلاف كي إذا لم تكن حرفاً وكانت مصدرية فإنها توصل بالمضارع فقط ولما أشكل هذا التخريج جعل الزمخشري {وأقيموا} على تقدير وقل فقال: أقيموا فيحتمل قوله وقل أقيموا أن يكون {أقيموا} معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به، ويحتمل أن يكون قوله {وأقيموا} معطوفاً على {أمر ربي بالقسط} فيكون معمولاً لقل الملفوظ بها أولاً وقدّرها ليبيّن أنها معطوفة عليها وعلى ما خرّجناه نحن يكون في خبر معمول أمر، وقيل: {وأقيموا} معطوف على أمر محذوف تقديره فأقبلوا وأقيموا، {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَلَةُ} {فريقاً} نصب على الحال وفريقاً عطف عليه والجملة من {هدى} ومن {حقّ} في موضع الصفة لما قبله وقد حذف الضمير من جملة الصفة أي هداهم، وجوّز أبو البقاء أن يكون {فريقاً} مفعول {هدى} {وفريقاً} مفعول أضل مضمرة والجملتان الفعليتان حال، وهدى على إضمار قد أي تعودون قد هدى فريقاً وأضلّ فريقاً، وعلى المعنى الأوّل يحسن الوقف على {تعودون ويكون فريقاً} مفعولاً بهدى ويكون {وفريقاً} منصوباً بإضمار فعل يفسّر قوله {حقّ عليهم الضلالة} ، وانتصاب قوله تعالى {وفريقاً} بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حقّ عليهم الضلالة انتهى؛ وهي تقادير على مذهب الاعتزال. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يُتجمل به من ثياب وغيرها كقوله وازّينت أي بالنبات.

قرأ قتادة قل هي لمن آمن، وقرأ نافع {خالصة} بالرفع، وقرأ باقي السبعة بالنصب فأما النصب فعلى الحال والتقدير {قل هي} مستقرّة {للذين آمنوا} في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبراً لهي و {في الحياة} متعلق بآمنوا ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن في الدّنيا ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها وإلى هذا المعنى يشير تفسير ابن جبير، وجوّزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر والخبر الأوّل هو {للذين آمنوا} و {في الحياة الدّنيا} متعلق بما تعلق به للذين وهو الكون المطلق. وقال أبو عليّ في الحجة ويصح أن يعلق قوله {في الحياة الدنيا} بقوله {حرم ولا يصح أن يتعلق بقوله أخرج لعباده} ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله {هي للذين آمنوا} لأنّ ذلك كلام يشدّ القصة وليس بأجنبي منها جدّاً كما جاز ذلك في قوله {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلّة} فقوله: {وترهقهم ذلّة} معطوف على {كسبوا} داخل في الصلاة والتعلّق بأخرج هو قول الأخفش، ويصحّ أن يتعلق بقوله {والطيّبات} ويصح أن يتعلق بقوله {من الرّزق} انتهى. وتقادير أبي عليّ والأخفش فيها تفكيك للكلام وسلوك به غير ما تقتضيه الفصاحة، وهي تقادير أعجمية بعيدة عن البلاغة لا تناسب في كتاب الله بل لو قدّرت في شعر الشنفري ما ناسب والنحاة الصّرف غير الأدباء بمعزل عن إدراك الفصاحة وأما تشبيه ذلك بقوله {والذين كسبوا} فليس ما قاله بمتعيّن فيه بل ولا ظاهر بل قوله {جزاء سيئة بمثلها} هو خبر عن النهي أي جزاء سيئة منهم بمثلها وحذف منهم لدلالة المعنى عليه كما حذف من قولهم السّمن منوان درهم أي منوان منه وقوله {وترهقهم ذلة} معطوف على {جزاء سيئة بمثلها} وسيأتي توضيح هذا بأكثر في موضعه إن شاء الله تعالى.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} وأفرد الأجل لأنه اسم جنس أو لتقارب أعمال أهل كل عصر أو لكون التقدير لكل واحد من أمة، وقال ابن عطية لفظ عنى به الجزء القليل من الزمان والمراد جمع أجزائه انتهى، والمضارع المنفي بلا إذا وقع في الظاهر جواباً لإذا يجوز أن يتلقى بفاء الجزاء ويجوز أن لا يتلقى بها وينبغي أن يعتقد أنّ بين الفاء والفعل مبتدأ محذوفاً وتكون الجملة إذ ذاك إسميّة والجملة الإسمية إذا وقعت جواباً لإذا فلا بد فيها من الفاء أو إذا الفجائية، قال بعضهم: ودخلت الفاء على إذا حيث وقع إلا في يونس لأنها عطفت جملة على جملة بينهما اتصال وتعقيب فكان الموضع موضع الفاء وما في يونس يأتي في موضعه إن شاء الله انتهى، وقال الحوفي ولا يستقدمون معطوف على {لا يستأخرون} انتهى، وهذا لا يمكن لأنّ إذا شرطيّة فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام لأنّ الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك إذا قمت في المستقبل لم يتقدّم قيامك في الماضي ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدّم قيامه هذا في الماضي وهذا شبيه بقول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا ومعلوم أن الشيء إذا كان جائياً إليه لا يسبقه والذي تخرج عليه الآية أن قوله {ولا يستقدمون} منقطع من الجواب على سبيل استئناف إخبار أي وهم لا يستقدمون الأجل أي لا يسبقونه وصار معنى الآية أنهم لا يسبقون الأجل ولا يتأخرون عنه. {يَبَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْءَايَتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}

هذا الخطاب لبني آدم. قيل: هو في الأول، وقيل: هو مراعى به وقت الإنزال وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإشارة بصحّة النبوة إلى محمد وما في إمّا تأكيد، قال ابن عطية وإذا لم يكن ما لم يجز دخول النون الثقيلة انتهى، وبعض النحويين يجيز ذلك وجواب الشرط {فمن اتقى} فيحتمل أن تكون من شرطيّة وجوابه {فلا خوف} وتكون هذه الجملة الشرطية مستقلة بجواب الشرط الأوّل من جهة اللفظ ويحتمل أن تكون من موصولة فتكون هذه الجملة والتي بعدها من قوله {والذين كذّبوا} مجموعهما هو جواب الشرط وكأنه قصد بالكلام التقسيم وجعل القسمان جواباً للشّرط أي {إما يأتينكم} . {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَبِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَفِرِينَ} تقدّم الكلام على حتى إذا في الأوائل الأنعام، ووقع في التحرير {حتى} هنا ليس بغاية بل هي ابتداء وجر والجملة بعدها في موضع جرّ وهذا وهم بل معناها هنا الغاية والخلاف فيها إذا كانت حرف ابتداء أهي حرف جر والجملة بعدها في موضع جرّ وتتعلق بما قبلها كما تتعلق حروف الجرّ أم ليست حرف جر ولا تتعلق بما قبلها تعلّق حروف الجر من حيث المعنى لا من حيث الإعراب قولان: الأوّل لابن درستويه والزّجاج، والثاني للجمهور وإذا كانت حرف ابتداء فهي للغاية ألا تراها في قول الشاعر: سريت بهم حتى تكلّ مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بارسان وقول الآخر: فما زالت القتلى تمجّ دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

تفيد الغاية لأن المعنى أنه مد همهم في السير إلى كلال المطي والجياد ومجت الدماء إلى تغيير ماء دجلة. قال الزمخشري: وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام انتهى، وقال الحوفي وحتى غاية متعلقة بيناً لهم فيحتمل قوله أن يريد التعلق الصّناعي وأن يريد التعلق المعنوي و {يتوفونهم} في موضع الحال وكتبت {أينما} متّصلة وكان قياسه كتابتها بالانفصال لأن ما موصولة كهي في {أنّ ما توعدون لآت} إذ التقدير أين الآلهة التي كنتم تعبدون؟ ويحتمل {وشهدوا} أن يكون مقطوعاً على {قالوا} فيكون من جملة جواب السؤال ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر ولا تعارض بين هذا وبين قوله {والله ربّنا ما كنا مشركين} لاحتمال ذلك من طوائف مختلفة أو في أوقات وجواب سؤالهم ليس مطابقاً من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان، وأجيب بفعل وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال ما فعل معبودوكم من دون الله معكم {قالوا ضلّوا عنا} . {قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّولَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ}

أي يقول الله لهم أي لكفار العرب وهم المفترون الكذب والمكذبون بالآيات وذلك يوم القيامة وعبر بالماضي لتحقّق وقوعه وقوله ذلك على لسان الملائكة ويتعلق في أمم في الظاهر بادخلوا والمعنى في جملة {أمم} ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال و {قد خلت من قبلكم} أي تقدّمتكم في الحياة الدنيا أو تقدّمتكم أي تقدّم ذخولها في النار وقدّم الجنّ لأنهم الأصل في الإغواء والإضلال ودلّ ذلك على أنّ عصاة الجنّ يدخلون النار، وفي النار متعلق بخلت على أنّ المعنى تقدّم دخولها أو بمحذوف وهو صفة لأمم أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجنّ والإنس كائنة في النار أو بادخلوا على تقدير أن تكون في بمعنى مع وقد قاله بعض المفسرين فاختلف مدلول في إذ الأولى تفيد الصحبة والثانية تفيد الظّرفية وإذا اختلف مدلول الحرف جاز أن يتعلق اللفظان بفعل واحد ويكون إذ ذاك {ادخلوا} قد تعدّى إلى الظرف المختص بفي وهو الأصل وإن كان قد تعدّى في موضع آخر بنفسه لا بوساطة في كقوله {وقيل ادخلا النار} {ادخلوا أبواب جهنم} ويجوز أن تكون في باقية على مدلولها من الظرفية و {في النار} كذلك ويتعلّقان بلفظ {ادخلوا} وذلك على أن يكون {في النار} بدل اشتمال كقوله {قتل أصحاب الأخدود النار} ويجوز أن يتعدّى الفعل إلى حرفي جرّ بمعنى واحد على طريقة البدل. {قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّولَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} حتى غاية لما قبلها والمعنى أنهم يدخلون فوجاً ففوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها.

وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدّال وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضاً، وقرأ حميد أدركوا بضمّ الهمزة وكسر الرّاء أي ادخلوا في إدْراكها، وقال مكي في قراءة مجاهد: إنها ادّركوا بشدّ الدال المفتوحة وفتح الرّاء قال وأصلها ادتركوا وزنها افتعلوا، وقرأ ابن مسعود والأعمش تداركوا ورويت عن أبي عمر انتهى، وقال أبو البقاء، وقرىء إذا {ادّاركوا} بألف واحدة ساكنة والدّال بعدها مشدّدة وهو جمع بين ساكنين وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل، وقد قال: بعضهم اثنا عشر بإثبات الألف وسكون العين انتهى ويعني بقوله كما جاز في المتصل نحو الضالين وجان. وأخرى هنا بمعنى آخرة مؤنّث آخر فمقابل أوّل لا مؤنث له آخر بمعنى غير لقوله {وزر أخرى} واللام في {لأولاهم} لام السبب أي لأجل أولاهم لأنّ خطابهم مع الله لا معهم. {وَقَالَتْ أُولَهُمْ لاٌّخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}

أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة واللام في لأخراهم لام التبليغ نحو قلت لك اصنع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام أي في {لأولاهم} فإنها كما وقال مجاهد: معنى {من فضل} من التخفيف لما قال الله {لكل ضعف} قالت الأولى للأخرى لم تبلغوا أملاً بأنّ عذابكم أخفّ من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف انتهى، والفاء في {فما} قال الزمخشري: عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّلفة {لكلّ ضعف} والذي يظهر أنّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السّفلة في الدّنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتهم لهم في الكفر أي اتباعكم إيانا وعدم اتباعكم سواء لأنكم كنتم في الدّنيا أقل عندنا من أن يكون لكم علينا فضل باتباعكم بل كفرتم اختياراً لا إنّا حملناكم على ذلك إجباراً وأنّ قوله {فما} معطوف على جملة محذوفة بعد القول دلّ عليها ما سبق من الكلام والتقدير قالت أولاهم لأخراهم ما دعاؤكم الله بأنّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم وأن قوله {فذوقوا العذاب} من كلام الأولى خطاباً للأخرى على سبيل التشفي منهم وأنّ ذوق العذاب هو بما كسبت من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم، وقيل: {فذوقوا} من خطاب الله لجميعهم. {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّلِمِينَ} والتنوين في غواش تنوين صرف أو تنوين عوض قولان وتنوين عوض من الياء أو من الحركة قولان كل ذلك مقرّر في علم النحو، وقرىء {غواش} بالرفع كقراءة عبد الله {وله الجوار المنشئات} . {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ}

والذين الجملة من {لا نكلف نفساً} منهم أو الجملة من {أولئك} وما بعده وتكون جملة {لا نكلّف} اعتراضاً بين المبتدأ والخبر، وفائدته أنه لما ذكر قوله وعملوا الصالحات نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أنّ الجنة مع عظم مجالها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة، وقال الزمخشري: جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع العظيم بما هو من الواسع وهو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان والعمل الصالح انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال، {تجري حال قاله الحوفي قال: والعامل فيه {نزعنا} ، وقال أبو البقاء: حال والعامل فيها معنى الإضافة وكلا القولين لا يصح لأن {تجري} ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير {نزعنا} ولا صفات المفعول الذي هو {ما في صدورهم} ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرّد من الإضافة رفعاً أو نصباً فيما بعده والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم. {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأٌّنْهَرُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

قال أبو البقاء: وما كنا الواو للحال ويجوز أن تكون مستأنفة انتهى، والثاني: أظهر. وقرأ ابن عامر ما كنا بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام وهي على هذا جملة موضحة للأولى ومن أجاز فيها الحال مع الواو ينبغي أن يجيزها دونها، والذي تقتضيه أصول العربية أنّ جواب {لولا} محذوف لدلالة ما قبله عليه أي {لولا أن هدانا الله} ما كنا لنهتدي أو لضللنا لأنّ {لولا} للتعليق فهي في ذلك كأدوات الشرط على أنّ بعض الناس خرج قوله {لولا أن رأى برهان ربّه} على أنه جواب تقدم وهو قوله {وهم بها} وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وهذا على مذهب جمهور البصريين في منع تقديم جواب الشرط. {وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ} وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ونودوا بأنه {تلكم الجنة} واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون {أن} مفسرة لوجود شرطها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل: {تلكم الجنة} .

قال ابن عطية {تلكم} إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي {تلكم} هذه {الجنة} وحذفت هذه وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى، وفي كتاب التحرير {وتلكم} إشارة إلى غائب وإنما قال هنا {تلكم} لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد قوله صلى الله عليه وسلّمللصديق في الاستخبار عن عائشة كيف تيكم للعهد السابق انتهى، و {الجنة} جوّزوا فيها أن تكون خبراً لتلكم و {أورثتموها} حال كقوله {فتلك بيوتهم خاوية} . قال أبو البقاء: حال من {الجنة} والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالاً من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال انتهى، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائماً خلاف في النحو وأن يكون نعتاً وبدلاً و {أورثتموها} الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة. عبر بالماضي عن المستقبل لتحقّق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار. وأتى في إخبار أهل الجنة ما وعدناوَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ} بذكر المفعول وفي قصة أهل النار {ما وعد} ولم يذكر مفعول {وعد} لأنّ أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق {وعد} باسم الخطاب فيقولوا: ما {وعدكم} ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة.

ويحتمل أن يكون حذف المفعول الذي للخطاب لدلالة ما قبله عليه وتقديره {فهل وجدتم ما وعد ربكم} ، وقرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي {نعم} بكسر العين، ويحتمل أن تكون تفسيريّة وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله: {أن قد وجدنا} . {وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ} بينهم يحتمل أن يكون معمولاً لأذّن ويحتمل أن يكون صفة لمؤذن فالعامل فيه محذوف، وقرأ الأخوان وابن عامر والبزي أن لعنة الله بتثقيل {أنّ} ونصب {لعنة} وعصمة عن الأعمش إنّ بكسر الهمزة والتثقيل ونصب {لعنة} على إضمار القول أو إجراء أذن مجرى قال، وقرأ باق السبعة أن يفتح الهمزة خفيفة النون ورفع {لعنة} على الابتداء وأن مخففة من الثقيلة أو مفسرة. {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأٌّعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَبَ الْجَنَّةِ أَن سَلَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}

أنّ سلام يحتمل أن {أن} تكون تفسرية ومخففة من الثقيلة ولم يدخلوها حال من المفعول أي ناداهم وهم في هذه الحال يعني أهل الجنة وهم يطمعون جملة خبريّة لا موضع لها من الإعراب أي نادوا أهل الجنة غير داخليها ثم أخبر أنهم طامعون في دخولها قال معناه أبو البقاء، وقيل: المعنى ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة بالسلام وهم قد دخلوا الجنة وأهل الأعراف لم يدخلوها فيكون قوله {لم يدخلوها} حالاً من ضمير ونادوا العائد على أهل الأعراف فقط وهذا تأويل ابن مسعود وقتادة والسدّي وغيرهم، وقيل: {وهم يطمعون} حال من ضمير الفاعل في {يدخلوها} والمعنى لم يدخلوها في حال طمع لها بل كانوا في حال يأس وخوف لكن عمّهم عفو الله. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : ما محل قوله {لم يدخلوها وهم يطمعون} ؟ (قلت) : لا محل له لأنه استئناف كأنّ سائلاً سأل عن أصحاب الأعراف فقيل له {لم يدخلوها وهم يطمعون} يعني أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة فلم يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا ويجوز أن يكون له محل بأن يقع صفة انتهى، وهذا توجيه ضعيف للفصل بين الموصوف وصفته بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض وقرأ ابن النحوي وهم طامعون، وقرأ إياد بن لقيط وهم ساخطون، وقرأ الأعمش وإذا قلبت {أبصارهم} والضمير في أبصارهم عائد على رجال الأعراف يسلّمون على أهل الجنّة وإذا نظروا إلى أهل النّار دعوا الله في التخلّص منها قاله ابن عباس وجماعة، وقال أبو مجلز: الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد {وما أغنى} استفهام توبيخ وتقريع، وقيل: نافية و {ما} في و {ما كنتم} مصدريّة أي وكونكم تستكبرون وقرأت فرقة تستكثرون بالثاء مثلثة من الكثرة.

{أهؤلاء الذين أقستم لا ينالهم الله برحمته ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} الظاهر أنّ هذا من جملة مقول أهل الأعراف وتكون الإشارة إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحقّرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم في الدنيا وكانوا يقسمون بالله تعالى لا يدخلهم الجنة قاله الزمخشري وذكره ابن عطية عن بعض المتأوّلين، قال: الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبوا أهل النار. وقرأ عكرمة دخلوا إخباراً بفعل ماض، وقرأ طلحة وابن وثاب والنخعي {ادخلوا} خيراً مبنيًّا للمفعول وعلى هاتين القراءتين يكون قوله {لا خوف عليكم} على تقدير مقولاً لهم لا خوف عليكم. {وَنَادَى أَصْحَبُ النَّارِ أَصْحَبَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَفِرِينَ} يجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون أفيضوا ضمن معنى ألقوا {علينا من الماء أو مما رزقكم الله} فيصحّ العطف العطف ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكون أضمن فعلاً بعد {أو} يصل إلى {مما رزقكم} وهو ألقوا وهما مذهبان للنحاة فيما عطف على شيء بحرف عطف والفعل لا يصل إليه والصحيح منهما التضمين لا الإضمار على ما قرّرناه في علم العربية ومعنى التحريم هنا المنع كما قال: حرام على عينيّ أن تطعما الكرى وإخبارهم بذلك هو عن أمر الله. {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَتِنَا يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ جِئْنَهُمْ بِكِتَبٍ فَصَّلْنَهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وما كانوا معطوف على ما نسوا وما فيهما مصدرية ويظهر أنّ الكاف في {كما} للتعليل.

{ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على هدى ورحمة لقوم يؤمنون} الضمير في {ولقد جئناهم} عائد على من تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنساً أي {بكتاب} إلهي إذ الضمير عام في الكفار، وقال يحيى بن سلام الضمير لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلّموهو ابتداء كلام وتمّ الكلام عند قوله {يجحدون} والكتاب هو القرآن. و {فصّلناه} صفة لكتاب وعلى علم الظاهر أنه حال من فاعل {فصلناه} وقيل التقدير مشتملاً على علم فيكون حالاً من المفعول وانتصب {هدى ورحمة} على الحال، وقيل مفعول من أجله، وقرىء بالرفع أي هو {هدى ورحمة} ، وقرأ زيد بن عليّ هدى ورحمة بالخفض على البدل من كتاب أو النعت وعلى النعت لكتاب خرّجه الكسائي والفرّاء رحمهما الله. قال الزمخشري: ما يؤول إليه من تبيين صدقه وظهور صحته ما نطق به من الوعد الوعيد والتأويل مادته همزة وواوولام من آل يؤول، وقال الخطابي: أوّلت الشيء رددته إلى أوّله فاللفظة مأخوذة من الأول انتهى وهو خطأ لاختلاف المادتين. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}

وقرأ الجمهور أو نرد برفع الدال فنعمل بنصب اللام عطف جملة قعلية على جملة اسمية وتقدّمهما استفهام فانتصب الجوابان أي هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب أو هل نرد إلى الدّنيا فنعمل عملاً صالحاً، وقرأ الحسن: فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام، وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهما عطف {فنعمل} على {نرد} ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما فنصب {أو نرد} عطفاً على {فيشفعوا لنا} جواباً على جواب فيكون الشفعاء في أحد أمرين إما في الخلاص من العذاب وإما في الرّد إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح وتكون الشفاعة قد انسحبت على الردّ أو الخلاص و {فنعمل} عطف على فنرد ويحتمل أن يكون {أو نرد} من باب لألزمنك أو تقضيني حقي على تقدير من قدّر ذلك حتى تقضيني حقي أو كي تقضيني حقي فجعل اللزوم مغياً بقضاء حقه أو معلولاً له لقضاء حقه وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط وأما على تقدير سيبويه ألا إني لألزمنك إلا أن تقضيني فليس يظهر أنّ معنى {أو} معنى إلا هنا يصير المعنى هل تشفع لنا شفعاء إلا أن نرد وهذا استثناء غير ظاهر. ربكم خطاب عام للمؤمن والكافر، وروى بكار بن إن ربكم اللهإِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَوَتِ وَالأٌّرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} بنصب الهاء عطف بيان والظاهر أنه {خلق السموات والأرض في ستة أيام} وعلى هذا الظاهر فسّر معظم الناس.

هما مفعولان لان التضعيف والهمزة معديان، وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح عثمان بن جني عن حميد بنصب الليليُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} ورفع {النهار} ، قال ابن عطية وأبو الفتح أثبت انتهى وهذا الذي قال من أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات فضلاً عن النحاة الذين ليسوا مقرئي ولا رووا القرآن عن أحد ولا روي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النّقل وعدم التجاسر ووفور الخط من العربية فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلا على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه رحمه الله والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوباً هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيره مفعولاً ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيداً عمراً إذ رتبة التقديم هي الموضّحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثاً ويجوز أن حالاً من النهار وتقديره محثوثاً ويجوز أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوف أي طلباً حثيثاً أي حاثاً أو محثاً ونسبة الطلب إلى الليل مجازفة.

{والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} انتصب {مسخرات} على الحال من المجموع أي وخلق الشمس، وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر، وقرأ أبان بن ثعلب برفع {والنجوم مسخّرات} فقط على الابتداء والخبر ومعنى {بأمره} بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات. والأمر مصدر من أمر. وقال الزّجاج: المعنى اعبدوا وانتصب تضرّعاً وخفيةأَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأٌّمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ * ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأٌّرْضِ بَعْدَ إِصْلَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} على الحال أي متضرّعين ومخفين أو ذوي تضرّع واختفاء في دعائكم. {إنه لا يحب المعتدين} وقرأ ابن أبي عبلة إن الله جعل مكان المضمر المظهر وهذا اللفظ عام. فبدأ أوّلاً بأفعال الجوارح ثم ثانياً بأفعال القلوب وانتصب خوفاً وطمعاًوَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} على انهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان.

فالرحمة في هذه الأقوال بدل عن مذكر. وقيل: التذكير على طريق النسب أي ذات قرب، وقيل: قريب نعت لمذكر محذوف أي شيء قريب، وقيل: قريب مشبّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول نحو خضيب وجريح كما شبه فعيل به فقيل شيئاً من أحكامه فقيل في جمعه قعلاء كأسير وأسراء وقتيل وقتلاء كما قالوا: رحيم ورحماء وعليم وعلماء، وقيل هو مصدر جاء على فعيل كالضغيث وهو صوت الأرنب والنقيق وإذا كان مصدر أصح أن يخبر به عن المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع بنفط المصدر، وقيل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي قاله الجوهري، وهذا ليس بجيد إلا مع تقديم الفعل أما إذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز أطالعه الشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر، وقيل: فعيل هنا بمعنى المفعول أي مقربة فيصير من باب كفّ خضيب وعين كحيل قاله الكرماني، وليس بجيد لأن ما ورد من ذلك إنما هو من الثلاثي غير المزيد وهذا بمعنى مقربة فهو من الثلاثي المزيد ومع ذلك فهو لا ينقاس، وقال الفرّاء إذا استعمل في النسب والقرابة فهو مع المؤنث بتاء ولا بدّ تقول هذه قريبة فلان وإذا استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول دارك مني قريب وفلانة منا قريب، ومنه هذا وقول الشاعر: عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعد فجمع في هذا البيت بين الوجهين، قال ابن عطية: هذا قول الفرّاء في كتابه وقد مرّ في كتب بعض المفسرين مغيراً انتهى، وردّ الزّجاج وقال هذا على الفراء هذا خطأ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقال من احتج له هذا كلام العرب، قال تعالى: وما يدريك لعلّ الساعة تكون قريباًإِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} . وقال الشاعر: له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا وقال أبو عبيدة {قريب} في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع فتجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجمع وكذلك بعيد فإن جعلوها صفة بمعنى مقتربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات. قال علي بن سليمان وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول إنّ زيداً قريباً منك انتهى وليس بخطأ لأنه يكون قد اتسع في الظرف فاستعمله غير ظرف كما تقول هند خلقك وفاطمة أمامك بالرّفع إذا اتسعت في الخلف والأمام وإنما يلزم النصب إذا بقيتا على الظّرفية ولم يتسع فيهما وقد أجازوا أنّ قريباً منك زيد على أن يكون قريباً اسم إنّ وزيد الخبر فاتسع في قريب واستعمل اسما لا منصوباً على الظّرف والظاهر عدم تقييد قرب الرحمة من المحسن بزمان بل هي قريب منه مطلقاً وذكر الطبري أنه وقت مفارقة الأرواح للأجساد تنالهم الرحمة. ثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها ويأتي ذكره في التفسير إن شاء الله. النّاقة الأنثى من الجمال وألفها منقلبة عن الواو وجمعها في القلة أنوق وأنيق وفيه القلب والإبدال وفي الكثرة نياق ونوق واستنوق الجمل إذا صار يشبه الناقة. قال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير، ولما كان سبباً للنحر أطلق العقر على النحو إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب. قال امرؤ القيس: ويوم عقرت للعذارى مطيّتي فيا عجباً من كورها المتحمّل وقال غيره والعقر بمعنى الجرح. قال: تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرؤ القيس فانزل عنا يعتو عتوّاً استكبر. الرجفة الطامّة التي يرجف لها الإنسان أي يتزعزع ويطرب ويتعد ومنه ترجف بوادره وأصل الرّجف الاضطراب، رجفت الأرض والبحر رجاف لاضطرابه، وأرجف الناس بالشر خاضوا فيه واضطربوا، ومنه الأراجيف ورجف بهم الجبل. قال الشاعر: ولما رأيت الحج قد حان وقته

وظلت جمال القوم بالحي ترجف الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض السّاقين كما يرقد الأرنب والطير. غبر بقي. قال أبو ذؤيب: فغبرت بعدهم بعيش ناضب وإخال أني لاحق مستبقع هذا الشمهور في اللغة ومنه غبر الحيض. قال أبو بكر الهذلي: ومبرّأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء معضل وغبر اللبن في الضّرع بقيته وحكى أهل اللغة غبر بمعنى مضى، قال الأعشى: غض بما ألقى المواسي له من أمّه في الزمن الغابر وبمعنى غاب ومنه عبر عنا زماناً أي غاب قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة غبر عمر دهراً طويلاً حتى هرم، المطر معروف. وقال أبو عبيدة يقال في الرّحمة مطر وفي العذاب أمطر وهذا معارض بقوله هذا عارض ممطرناوَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ * لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَلتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي

الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ * وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَذِبِينَ * قَالَ يَقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَلتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَدِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * فَأَنجَيْنَهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحًا قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ

مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلائ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَلِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِىءَامَنتُمْ بِهِ كَفِرُونَ * فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّصِحِينَ * وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَلَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَبِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأٌّرْضِ بَعْدَ إِصْلَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ} فإنهم لم يريدوا إلا الرّحمة وكلاهما متعدّ يقال

مطرتهم السماء وأمطرتهم شعيب اسم نبيّ وسيأتي ذكر نسبه في التفسير إن شاء الله. انتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد وجعل الخبر موصولا في أن ربكم الله الذي وفي وهو الذيوَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} دلالة على كون ذلك معهوداً عند السامع مفروغاً من تحقّق النسبة فيه والعلم به ولم يأتِ التركيب إنّ ربكم خلق ولا وهو يرسل الرياح وقرأ الرّياح نشراً جمعين وبضم الشين جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي كلابن وتامر وقالوا نازل ونزل وشارف وشرف وهو جمع نادر في فاعل أو نشور من الحياة أو جمع نشور كصبور وصبر وهو جمع مقيس لا جمع نشور بمعنى منشور خلافاً لمن أجاز ذلك لأنّ فعولاً كركوب بمعنى مركوب لا ينقاس ومع كونه لا ينقاس لا يجمع على فعل الحسن والسلمي وأبو رجاء واختلف عنهم والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان ونافع وأبو عمرو، وقرأ كذلك جمعاً إلا أنهم سكّنوا الشين تخفيفاً من الضم كرسل عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر، وقرأ نشراً بفتح النون والشين مسروق فيما حكى عنه أبو الفتح وه اسم جمع كغيب ونشىء في غائبة وناشئة، وقرأ ابن كثير الرّيح مفرداً نشراً بالنون وضمّها وضمّ الشين فاحتمل نشراً أن يكون جمعاً حالاً من المفرد لأنه أريد به الجنس كقولهم: العرب هم البيض واحتمل أن يكون مفرداً كناقة سرح، وقرأ حمزة والكسائي نشراً بفتح النون وسكون الشين مصدراً كنشر خلاف طوى أو كنشر بمعنى حيي من قولهم أنشر الله الموتى فنشروا أي حيوا. قال الشاعر: حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجباً للميت الناشر وقرأ {الرياح} جمعاً ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة {بشراً} بضم الباء والشين ورويت عن عاصم وهو جمع بشيرةٍ كنذيرة ونذر، وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفاً من الضم، وقرأ السلمي أيضاً {بشراً} بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشر المخفف ورويت عن عاصم، وقرأ ابن السميقع وابن قطيب بشرى بألف مقصورة كرجعى وهو مصدر فهذه ثماني قراءات أربعة في النون وأربع في الباء فمن قرأ بالباء جمعاً أو مصدراً بألف التأنيث ففي موضع الحال من المفعول أو مصدراً بغير ألف التأنيث فيحتمل ذلك ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل ومن قرأ بالنون جمعاً أو سام جمع فحال من المفعول أو مصدراً فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل وأن كون حالاً من المفعول أو مصدراً ليرسل من المعنى لأنّ إرسالها هو إطلاقها وهو بمعنى النّشر فكأنه قيل ينشر الرياح نشراً ووصف الريح بالنشر بأحد معنيين بخلاف الطي وبالحياة قال أبو عبيدة: في النشر أنها المتفرقة في الوجوه، وقال الشاعر في وصف الرّيح بالإحياء والموت: وهبّت له ريح الجنوب وأحييت له ريدة يحيي المياه نسيمها والرّيدة والمريد أنه الرّيح. وقال الآخر: إني لأرجو أن تموت الرّيح فأقعد اليوم وأستريح ومعنى {بين يدي رحمته} أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً والتعيين عن إمام الرحمة بقوله {بين يدي} من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الإحرام وقال الكرماني: قال هنا {يرسل} لأنّ قبل ذلك {وادعوه خوفاً وطمعاً} فهماً في المستقبل فناسبه المستقبل وفي الفرقان وفاطر {أرسل} لأن قبله {ألم ترَ إلى ربك كيف مدّ الظل} وبعده {وهو الذي مرح} وكذا في الروم {ومن آياته أن يرسل} ليوافق ما قبله من المستقبل وفي فاطر قبله {الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} وذلك ماضٍ فناسبه الماضي انتهى ملخصاً.

والسحاب اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله والسحاب المسخرحَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} كقوله {يزجي سحاباً ثم يؤلّف بينه} ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله {وينشئ السّحاب الثّقال} وكقوله {والنّحل باسقات} وثقله بالماء الذي فيه ونسب السّوق إليه تعالى بنون العظمة التفاتاً لما فيه من عظيم المنة وذكر الضمير في {سقناه} رعياً للفظ كما قلنا إنه يذكر. واللام في {لبلد} عندي لام التبليغ كقولك قلت لك، وقال الزمخشري: لأجل بلد فجعل اللام لام العلة ولا يظهر فرق بين قولك سقت لك مالاً فإنّ الأوّل معناه أوصلته لك وأبلغته والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علّل به السوق ألا ترى إلى صحة قول القائل لأجل زيد سقت لك مالك. {فأنزلنا به الماء} الظاهر أن الباء ظرفية والضمير عائد على بلد ميت أي فانزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور ويحسن عوده إليه فلا يجعل لأبعد مذكور، وقيل الباء سببيّة والضمير عائد على السحاب. وقيل عائد على المصدر المفهوم من سقناه فالتقدير بالسّحاب أو بالسّوق والثالث ضعيف لأنه عائد على غير مذكور مع وجود المذكور وصلاحيته للعود عليه. وقيل: عائد على السحاب والباء بمعنى من أي فأنزلنا منه الماء كقوله {يشرب بها عباد الله} أي منها وهذا ليس بجيد لأنه تضمين من الحروف. {فأخرجنا به من كل الثمرات الخلاف في به} كالخلاف السابق في به. وقيل: الأول عائد على السحاب والثاني على البلد عدل عن كناية إلى كناية من غير فاصل كقوله: {الشيطان سوّل لهم وأملى لهم} وفاعل أملى لهم الله تعالى.

وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافياً حسناً وحذفت لفهم المعنى ولدلالة والبلد الطيبوَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} عليها ولمقابلتها بقوله {إلا نكداً} ولدلالة {بإذن ربه} لأنّ ما أذن الله في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال {بإذن ربه} في موضع الحال وخصّ خروج نبات الطيّب بقوله {بإذن ربه} على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الىسناد الشريفة الطيبة إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى ومعنى {بإذن ربه} بتيسيره وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضاً والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة {والبلد الطيب} عليه فكلّ من الجملتين فيه حذف وغاير بين الموصولين فصاحة وتفنّناً ففي الأولى قال: {الطيّب} وفي الثانية قال: {الذي خبث} وكان إبراز الصّلة هنا فعلاً بخلاف الأوّل لتعادل اللفظ يكون ذلك كلمتين الكلمتين في قوله {والبلد الطيّب} والطيب والخبيث متقابلان في القرآن كثيراً {قل لا يستوي الخبيث والطيّب} و {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث أنفقوا من طيبات ما كسبتم ولا تيمموا الخبيث} إلى غير ذلك والفاعل في {لا يخرج} عائد على {الذي خبث} وقد قلنا إنه صفة لموصوف محذوف والبلد لا يخرج فيكون على حذف مضاف إما من الأوّل أي ونبات الذي خبث أو من الثاني أي لا يخرج نباته فلما حذف استكنّ الضمير الذي كان مجروراً لأنه فاعل، وقيل هاتان الجملتان قصد بهما التمثيل، فقال ابن عباس وقتادة مثال لروح المؤمن يرجع إلى جسده سهلاً طيّباً كما خرج إذا مات ولروح الكافر لا يرجع إلا بالنّكد كما خرج إذ مات انتهى، فيكون هذا راجعاً من حيث المعنى إلى قوله {كذلك نخرج الموتى} أي على هذين الوصفين.

وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر {يخرج نباته} مبنياً للمفعول، وقرأ ابن القعقاع {نكداً} بفتح الكاف، قال الزّجاج: وهي قراءة أهل المدينة، وقرأ ابن مصرّف بسكونها وهما مصدران، أي ذا نكد وكون نبات الذي خبث محصوراً خروجه على حالة النكد مبالغة شديدة في كونه لا يكون إلا هكذا ولا يمكن أن توجد {إلا نكداً} وهي إشارة إلى من استقر فيه وصف الخبيث يبعد عنه النزوع إلى الخير. لقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود والمؤمنون ولقد بواو العطف، لأنه أول من صنعها عطف في السورتين انتهى واللام جواب قسم محذوف أكدّ تعالى هذا الإخبار بالقسم، قال الزمخشري: فإن قلت) : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إا مع قد وقل عنهم قوله: حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا (قلت) : إنما كان ذلك لأنّ الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم انتهى، وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماضٍ مثبت متصرف وكان قريباً من زمان الحال أثبت مع اللام بفد الدالّة على التقريب من زمن الحال ولم تأتِ بقد بل باللام وحدها إن لم يرد التقريب، قال ابن عباس: أرسلنالَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} بعثنا وقال غيره حملناه رسالة يؤدّيها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث وهنا فقال بفاء العطف وكذا في المؤمنون في قصّة عاد وصالح وشعيب هنا قال بغير فاء والأصل الفاء وحذفت في القصتين توسّعاً. واكتفاءً بالرّبط المعنوي وفي قصة نوح في هوذ {إني لكم} على إضمار القول أي فقال إني وفي ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسمّاة ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً وغيرها والجملة المنبهة على الوصف الدّاعي إلى عبادة الله وهو انفراده بالألوهية المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأتِ بحرف عطف لأنها بيان وتفسير لعلّة اختصاصه تعالى بأن يعبد، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو جعفر والكسائي غيره بالجرّ على لفظ {إله} بدلاً أو نعتاً، وقرأ باقي السّبعة غيره بالرفع عطفاً على موضع {من إله} لأنّ من زائدة بدلاً أو نعتاً، وقرأ عيسى بن عمر غيره بالنصب على الاستثناء والجرّ والرفع أفصح {ومن إله} مبتدأ و {لكم} في موضع الخبر، وقيل: الخبر محذوف أي في الوجود و {لكم} تبيين وتخصيص.

ومعنى في ضلال مبينقَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ} أي في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينة واضحة وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام وفي للوعاء فكان الضلال جاء ظرفاً له وهو فيه ولم يأتِ ضالاً ولا ذا ضلال. أبلغكمقَالَ يَقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَلتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} استئناف على سبيل البيان بكونه رسولاً أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبراً لضمير متكلم كما تقول أنا رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى: {بل أنتم قوم تفتنون} بالتاء ولو قرئ بالياء لكان عربيّاً مراعاة للفظ {قوم} لأنه غائب، وقرأ أبو عمرو {أبلغكم} هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه.

قال الزمخشري: الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى، وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون: إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلام معه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله على رجلأَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه إضمار أي على لسلن رجل كما قال {ما وعدتنا على رسلك} ، وقيل: {على} بمعنى مع، وقيل: لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله {على رجل} هو على ظاهره لأن {جاءكم} بمعنى نزل إليكم. يتعلق في الفلكفَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} بما يتعلق به الظرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السّفينة من الطّوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في {سببية} أي بالفلك كقوله «دخلت النار في هرة» أي بسبب هرة و {عمين} من عمي القلب أي غير مستبصرين ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضّيق والثقل قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، وقال معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره وأعمي في البصر. قال: ما في غد عم ولكنني عن علم وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر، وقال الليث: رجل عم إذا كان أعمى القلب. عاد اسم الحي ولذلك صرفه وبعضهم جعله اسماً للقبيلة فمنعه الصرف قال الشاعر:

لو شهدت عاد في زمان عاد لانتزها مبارك الجلاد سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي: المعروف أنّ هوداً عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى، وذكر الشريف النسّابة أبو البركات الجواني أنّ يَعرُب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عرباً به انتهى فعلى هذا لا يكون هود عربيّاً وهود هو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح وأخاهموَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} معطوف على نوحاً ومعناه واحداً منهم. إذوَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول {اذكروا} محذوفاً أي واذكروا آلاء الله عليكم وقت كذا والعامل في {إذا} ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري {إذ} مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم. وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف يترتب عليه رجاء الفلاح وتقديره والله أعلم فاذكروا آلاء اللهفَاذْكُرُواْءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله {أجئتنا لنعبد الله وحده} . بقوله قد وقعقَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} على حقيقته من المضي وإن كان العذاب فيكون من جعل الماضي موضع المستقبل لتحقّق وقوعه. والجملة من قوله ما نزلمَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ} في موضع الصفة والمعنى أنه ليس لكم بذلك حجة ولا برهان وجاء هنا {نزل} وفي مكان غيره أنزل وكلاهما فصيح والتعدية بالتضعيف والهمزة سواء.

وقرأ ابن وثاب والأعمش: وإلى ثمودوَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحًا} بكسر الدال والتنوين مصروفاً في جميع القرآن جعله اسم الحي والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسم القبيلة. وكثر استعمال هذه الصفة استعمال الأسماء في القرآن فولّيت العوامل كقوله حتى جاءتهم البينة وقوله بالبينات والزبرقَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} والمعنى الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكون كالأبطح والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها وقوله {قد جاءتكم بينة من ربكم} كأنه جواب لقولهم {ائتنا بينة} تدلُ على صدقك وأنك مرسل إلينا و {من ربكم} متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف أي من آيات ربكم. وانتصب آيةهَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْءَايَةً} على الحال والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه أو اسم الإشارة بما فيه من معنى الإشارة أو فعل مضمر تدّل عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آية أقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو. لما أضاف الناقة إلى الله أضاف محل إلى الله إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وتأكلفَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ} جزم على جواب الأمر، وقرأ أبو جعفر في رواية {تأكل} بالرفع وموضعه حال. وتتخذونتَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ} حال أو تفسير لقوله {وبوأكم في الأرض} فلا موضع له من الإعراب فيتعدّى {تتخذون} إلى مفعول واحد، وقيل: يتعدى إلى اثنين والمجرور هو الثاني.

انتصب {بيوتاً} على أنها حال مقدّرة إذ لم تكن الجبال وقت النحت بيوتاً كقولك إبرِ لي هذه اليراعة قلماً وخَّط لي هذا قباء، وقيل: مفعول ثانٍ على تضمين {وتنحتون} معنى و {تتخذون} ، وقيل: مفعول بتنحتون و {الجبال} نصب على إسقاط من أي من الجبال، وقرأ الأعمش {تعثوا} بكسر التاء لقولهم أنت تعلم وهي لغة و {مفسدين} حال مؤكدة. قرأ ابن عامر وقال الملأقَالَ الْمَلائ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَلِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} بواو عطف والجمهور قال بغير واو و {الذين استكبروا} وصف للملأ إما للتخصيص لأنّ من أشرافهم من آمن مثل جندع بن عمرو وإما للذم و {استكبروا} وطلبوا الهيبة لأنسهم وهو من الكبر فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو تكون استفعل بمعنى قعل أي كبروا لكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب والذين {استضعفوا} أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم أتباع الرّسل و {لمن} بدل من الذين استضعفوا والضمير في {منهم} إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كلّ ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإن عاد على {قومه} كان بدل كل من كلّ وكان الاستضعاف مقصوراً على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسماً واحداً ومن آمن مفسراً للمستضعفين من قومه واللام في {للذين} للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم {من ربه} اختصاص بصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم. والفاء في فأخذتهمفَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَثِمِينَ * فَتَوَلَّى} للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم {فأتنا بما تعدنا} على تقدير قرب زمان الهلك من زمان طلب الإتيان بالوعد ولقرب ذلك كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصحّ العطف بالفاء عليه أي فواعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت {فأخذتهم الرّجفة} .

وأما فأهلكوا بالطاغية فالباء فيه للسببية أي أهلكوا بالفعلة الطاغية وهي الكفر أو عقر الناقة والطاغية من طغى إذا تجاوز الحدّ وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية وقوله {إنا لما طغى الماء} وقال تعالى: {كذبت ثمود بطغواها} أي بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرّجفة أو الصّيحة لتجاوز كل منهما الحدّ. ظاهر العطف بالفاء أنّ التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم. انتصب لوطاًفَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّصِحِينَ * وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَلَمِينَ} بإضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله و {إذ} معمولة {لأرسلنا} وجوز الزمخشري وابن عطية: نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ {إذ} بدل من لوط أي واذكر وقت قال لقومه، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولاً بها صريحاً لأذكر وأنّ ذلك تصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و {الفاحشة} هنا إتيان ذكران الآدميين في الادبار ولما كان هذا بالفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرفاً بالألف واللام أو تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدّل على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في {من أحد} حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعاً.

{وما سبقكم} جملة حالية من الفاعل أو من {الفاحشة} لأن في {سبقكم بها} ضميرهم وضميرها، وقال الزمخشري: هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله {أتأتون الفاحشة} ثم وبّخهم عليها فقال: أنتم أول من عملها أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال: {ما سبقكم بها أحد} فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به، وقال الزمخشري: والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله عليه السلام «سبقك بها عكاشة» انتهى، ومعنى التعدية هنا قلق جداً لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيداً بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثاني ولا يتأنّى هذا المعنى هنا إذ لا يصحّ أن يقدّر أسبقت زيداً الكرة أي جعلت زيداً يسبق الكرة إلا بمجاز متكلّف وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي تقدّمها في الزمان فلم يجتمعا.

هذا بيان لقوله أتأتون الفاحشةإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} وأتى هنا من قوله أتى المرأة غشيها وهو استفهام على جهة التوبيخ والإنكار، وقرأ نافع وحفص {إنكم} على الخبر المستأنف و {شهوة} مصدر في موضع الحال قاله الحوفي وابن عطية، وجوّزه الزمخشري وأبو البقاء أي مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها أو مفعول من أجله قاله الزمخشري، وبدأ به أبو البقاء أي للاشتهاء لا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمة وأنهم لا داعي لهم من جهة العقل كطلب النسل ونحوه و {من دون النساء} في موضع الحال أي منفردين عن النساء، وقال الحوفي: {من دون النساء} متعلّق بشهوة و {بل} هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبئ بأنهم متجاوزو الحد في الاعتداء، وقيل إضراب عن تقريرهم وتوبيخهم والإنكار أو عن الإخبار عنهم بهذه المعصية الشنيعة إلى الحكم عليهم بالحال التي تنشأ عنها القبائح وتدعو إلى اتّباع الشهوات وهي الإسراف وهو الزيادة المفسدة لما كانت عادتهم الإسارف أسرفوا حتى في باب قضاء الشهوة وتجاوزوا المعتاد إلى غيره ونحوه {بل أنتهم قوم عادون} ، وقيل إضراب عن محذوف تقديره ما عدلتم بل أنتهم، وقال الكرماني بل ردّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم ولا حجّة {بل أنتم} وجاء هنا {مسرفون} باسم الفاعل ليدّل على الثبوت ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء وجاء في النمل {تجهلون} بالمضارع لتجدد فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال.

الضمير في أخرجوهموَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ} عائد على لوط ومن آمن به وقال ابن عطية: والضمير عائد على آل لوط وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم، وقرأ الحسن {جواب} بالرفع انتهى وهنا جاء العطف بالواو والمراد بها أحد محاملها الثلاث من التعقيب المعني في النمل في قوله تجهلون فما وفي العنكبوت {وتأتون في ناديكم المنكر} فما وكان التعقيب. يسمى هذا النوع في علم البيان التعريض بما يوهم الذم وهو مدح كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} {كانت من الغابرين} تفسيراً وتوكيداً لما تضمنه الاستثناء من كونها لم ينجها الله تعالى وقال أبو عبيدة: {إلا امرأته} اكتفى به أنها لم تنجُ ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة وهي أنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة أي متقدّمة في السن كما قال: إلا عجوزاً في الغابرين إلى أن هلكت مع قومها انتهى، وجاء {من الغابرين} تغليباً للذكور على الإناث. وقال الزّجاج: من الغائبين عن النجاة فيكون توكيداً لما تضمنه الاشتثناء انتهى، و {كانت} بمعنى صارت أو كانت في علم الله أو باقية على ظاهرها من تقييد غبورها بالزمان الماضي أقوال. والكيلفَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود {المكيال والميزان} فطابق قوله {والميزان} أو هو باق على المصدرية وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة فتطابقا أو أخذ الميزان على حذف مضاف أي ووزن الميزان والكيل على إرادة المكيال فتطابقا.

ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله وتصدون عن سبيل اللهوَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} كما ذكر بل الظاهر التغابر لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون {بكل صراط} حقيقة في الطرق و {سبيل الله} كجاز عن دين الله والباء في {بكل صراط} ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله {توعدون وتصدون وتبغونها} أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء.

قال أبو منصور الجواليقي: إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا: أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضرب والصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعاد من الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و {من آمن} مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول {توعدون} ضمير محذوف والضمير في {به} الظاهر أنه على {سبيل الله} وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث، وقيل عائد على الله، وقال الزمخشري: (فإن قلت) : إلام يرجع الضمير في آمن به، (قلت) : إلى كلّ صراط تقديره توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل ألله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل {من آمن} منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال الأوّل وهو قليل.

وقد قال النحاة أنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب {وتصدونه} أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ويدّل على {من آمن} منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله: {قل يا أهل الكتاب لمَ تصدون عن سبيل الله من آمن} ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل {ولا تقعدوا} وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو قلت: يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله {وتبغونها عوجاً} في آل عمران. قال الزمخشري إذوَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} مفعول به غير ظرف أي {واذكروا} على جهة الشكر وقت كونكم {قليلاً} عددكم {فكثرتم} الله ووفر عددكم انتهى؛ وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه {واذكروا} لاستقبال اذكروا وكون {إذ} ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا، وقال الزمخشري: إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرة العدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله {فكثرتم} معنى بالعدد ألا ترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ، وقال الشاعر: تعيّرنا أنّا قليل عديدنا فقلت لها إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل ومتعلق لم يؤمنواوَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ} محذوف دلّ عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به والخطاب بقوله {منكم} لقومه وينبغي أن يكون قوله {فاصبروا} خطاباً لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن. عاد (رجع) إلى ما كان عليه وتأتي بمعنى صار. قال: تعد فيكم جزر الجزور رماحنا ويرجعن بالأسياف منكسرات (ضحى) ظرف متصرّف إن كان نكرة وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه وهو وقت ارتفاع الشمس إذا طلعت وهو مؤنث وشذّوا في تصغيره فقالوا: ضحى بغير تاء التأنيث وتقول أتيته ضحى وضحاء إذا فتحت الضّاد مددت، الثعبان ذكر الحيّات العظيم أخذ من ثعبت بالمكان فجرته بالماء والمثعب موضع انفجار الماء لأن الثعبان يجري كالماء عند الانفجار. الإرجاء التأخير، المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا مدائن بالهمزة ولا يحفظ فيه مداين بالياء ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا مدن كما قالوا صحف في صحيفة.

والقسم يكون على فعل المقسم وفعل غيره سوّوا بين نفيه ونفي أتباعه وبين العود في الملّة وهذا يدلّ على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي وعاد كما تقدّم لها استعمالان أحدهما أن تكون بمعنى صار والثاني بمعنى رجع إلى ما كان عليه فعلى الأوّل لا إشكال في قوله أو لتعودنقَالَ الْمَلائ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يشُعَيْبُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَرِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلائ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَلَتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَفِرِينَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى

ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَفِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأًّكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَسِقِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِئَايَتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَفِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَءِيلَ * قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّظِرِينَ * قَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَشِرِينَ

* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَلِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُواْ يَمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَغِرِينَ * وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَجِدِينَ * قَالُواْءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَلَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لائصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُواْ} إذ صار فعلاً مسنداً إلى شعيب وأتباعه ولا يدلّ على أن شعيباً كان في ملتهم وعلى المعنى الثاني يشكل لأنّ شعيباً لم يكن في ملتهم قط لكن أتباعهم كانوا فيها، وأجيب عن هذا بوجوه. أحدها: أن يراد بعود شعيب في الملة حال سكوته عنهم قبل أن يبعث لإحالة الضلال فإنه كان يخفي دينه إلى أن أوحى الله إليه. الثاني: أن يكون من باب تغليب حكم الجماعة على الواحد لما عطفوا أتباعه على ضميره في الإخراج سحبوا عليه حكمهم في العود وإن كان شعيب بريئاً مما كان عليه أتباعه قبل الإيمان. الثالث: أن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل التلبيس على العامّة والإيهام أنه كان منهم.

قال الزمخشري الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملّتكم في حال كراهتنا أو مع كوننا كارهين انتهى، فجعل الاستفهام خاصاً بالعود في ملتهم وليس كذلك بل الاستفهام هو عن أحد الأمرين الإخراج أو العود وجعل الواو واو الحال وقدره أتعيدوننا في حال كراهتنا وليست واو الحال التي يعبّر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله ردّوا السائل ولو بظلف محرق ليس المعنى ردّوه في حال الصدفة عليه بظلف محرق بل المعنى ردّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلف مخرق تقدم لنا إشباع القول في نحو هذا. هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره إن عدنا في ملتكمقَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} فقد افترينا وليس قوله {قد افترينا على الله كذباً} هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عيه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً، قال الزمخشري: فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيث يزعم أن لله ندًّا ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل. وقال ابن عطية: الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال: ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر: بقيت وفري وانحرفت عن العلا

ولقيت أضيافي بوجه عبوس وكما تقول افتريت على الله أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله: إن لم أشن على ابن هند غارة لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع. قال ابن عطية: وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ انّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في فيهاوَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا} يعود على القرية لا على الملة.

قال الزمخشري: (فإن قلت) : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتموَقَالَ الْمَلائ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَسِرُونَ} وجواب الشرط (قلت) : قوله {إنكم إذاً لخاسرون} سادّ مسدّ الجوابين انتهى، والذي تقول النحويون إنّ جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط فإن عنى الزمخشري بقوله سادّ مسدّ الجوابين إنه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب و {إذا} هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون وزعم بعض النحويين أنها في هذا الموضع ظرف العامل فيه {لخاسرون} والنون عوض من المحذوف والتقدير أنكم إذا اتبعتموه لخاسرون فلما حذف ما أضيف إليه عوض من ذلك النون فصادفت الألف فالتقى ساكنان فحذف الألف لالتقائهما والتعويض فيه مثل التعويض في يومئذ وحينئذ ونحوه وما ذهب إليه هذا الزاعم ليس بشيء لأنه لم يثبت التعويض والحذف في {إذا} التي للاستقبال في موضع فيحمل هذا عليه. الذينالَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} مبتدأ والجملة التشبيهية خبره، قال الزمخشري: وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل {الذين كذّبوا شعيباً} المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم لأنّ الذينن اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى انتهى، وجوّز أبو البقاء أن يكون الخبر الذين {كذبوا شعيباً} كانوا هم الخاسرين و {كأن لم يغنوا} حال من الضمير في {كذبوا} وجوّز أيضاً أن يكون {الذين كذبوا} صفة لقول الذين كفروا من قومه وأن يكون بدلاً منه وعلى هذين الوجهين يكون {كأن} حالاً انتهى، وهذه أوجه متكلفة والظاهر أنها جمل مستقلة لا تعلق بما قبلها من جهة الإعراب.

{الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} هذا أيضاً مبتدأ وخبره، وقال الزمخشري: وفيه معنى الاختصاص أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون اتباعه فإنهم هم الرابحون وفي هذا الاستئناف لهذا الابتداء وهذا التكرير مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم انتهى، وهتان الجملتان منبئتان عن ما فعل الله بهم في مقالتهم قالوا {لنخرجنك يا شعيب} فجاء الإخبار بإخراجهم بالهلاك وأي إخراج أعظم من إخراجهم وقالوا: {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} فحكم تعالى عليهم هم بالخسران وأجاز أبو البقاء في إعراب {الذين} هنا أن يكون بدلاً من الضمير في {يغنوا} أو منصوباً بإضمار أعني والابتداء الذي ذكرناه أقوى وأجزل. وجاء بعد إلاوَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ} فعل ماض وهو {أخذنا} ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله {أخذنا} حاليّة أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله {إلا أخذنا} إلى آخره. والحسنةثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} مفعولاً بدل و {مكان} هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ {مكان} إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم {مكان} ظرفاً أي في مكان.

وقال الزمخشري: اللام في القرىوَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} إشارة إلى القرى التي دلّ عليها قوله تعالى {وما أرسلنا في قرية من نبيّ} ، كأنه قال ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} لآتيناهم بالخير من كل وجه.

الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقال الزمخشري: (فإن قلت) : ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو، (قلت) : المعطوف عليه قوله فأخذناهم بغتةأَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ} وقوله {ولو أن أهل القرى إلى يكسبون} وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأنّ المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن {أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً} وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى انتهى. وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرّر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصحّ بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه وأنّ الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير وأنه قدّم الاستفهام اعتناء لأنه له صدر الكلام وقد تقدّم كلامنا معه على هذه المسألة و {بأسنا} عذابنا {وبياتاً} ليلاً وتقدم تفسيره أول السورة، ونصبه على الظرف أي وقت مبيتهم أو الحال وذلك وقت الغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن.

وضحىأَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} منصوب على الظرف أي صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبة من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب وجاء {نائمون} باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائنين وجاء {يلعبون} بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجدّدة شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت، وقرأ نافع والابنان {أو أمن} بسكون الواو جعل {أو} عاطفة ومعناها التنويع لا أنّ معناها الإباحة أو التخيير خلافاً لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة أمن ونقل حركتها إلى الواو الساكنة والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف وتكرر لفظ {أهل القرى} لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء أو أموا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر. جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله أفأمن أهل القرى أو أمنأَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ} وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء و {مكر} مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر، قال ابن عطية: و {مكر الله} هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمى العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله {ومكروا ومكر الله} انتهى وكرّر المكر مضافاً إلى الله تحقيقاً لوقوع جزاء المكر بهم.

والفاعل بيهد يحتمل وجوهاً، أحدها أن يعود على الله ويؤيد قراءة من قرأ يهدأَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} بالنون، والثاني أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم من سياق الكلام السابق أي {أو لم يهد} ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم وعلى هذين الوجهين يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد. والوجه الثالث أن يكون الفاعل بيهد قوله {أن لو نشاء} فينسبك المصدر من جواب {لو} والتقدير أو لم نبين ونوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم والمعنى على التقديرين إذا كانت {أن} مفعولة و {أن} هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر الجملة المصدرية بلو و {نشاء} في معنى شينا لا أن لو التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المضي ومفعول {نشاء} محذوف دلّ عليه جواب {لو} والجواب {أصبناهم} ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله {لو نشاء جعلناه أجاجاً} والأكثر الإتيان باللام كقوله {لو نشاء لجعلناه حطاماً} . الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن نطبع على قلوبهموَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} أي إن يشأ يدل عليه قوله {ويجعل لك قصوراً} انتهى فجعل {لو} شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر: لا يلفك الراجيك إلاّ مظهراً

خلق الكرام ولو تكون عديما وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون {ونطبع} بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب {لو نشاء} فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ، قال الزمخشري: (فإن قلت) : هل يجوز أن يكون {ونطبع} بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على {أصبناهم} ، (قلت) : لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل {ونطبع} على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاتسمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع. وقال أبو عبد الله الرازي: تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهم.

والعطف في {ونطبع} بالواو بمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمته في القلب من نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم: أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم، وقال أبو مسلم: الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو.

وأجاز الزمخشري في عطف {ونطبع} وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ، قال الزمخشري: (فإن قلت) : بم يتعلق قوله تعالى {ونطبع على قلوبهم} ، (قلت) : فيه أوجه أو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو {لم يهد لهم} كأنه قيل يغفلون عن الهداية {ونطبع على قلوبهم} أو على {يرثون الأرض} انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره، وقوله أنه معطوف علي {يرثون} خطأ لأنه إذا كان معطوفاً على {يرثون} كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} سواء قدرنا {أن لو نشاء} في موضع الفاعل ليهدأوا في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة {الذين} وهو لا يجوز ومعنى قوله {أصبناهم بذنوبهم} بعقاب ذنوبهم أو يضمن {أصبناهم} معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له.

الخطاب للرسول والقرىتِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ} هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الرّبط بين هذه وبين قوله {ولو أنّ أهل القرى} و {نقص} يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك {من أنبائها} ونحن نقصّ عليك أيضاً منها مفرقاً في السّور ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي أي {تلك القرى} قصصنا والأنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم، و {تلك} مبتدأ و {القرى} خبر و {نقص} جملة حالية نحو قوله {فتلك بيوتهم خاوية} وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها، كما قيل في قوله تعالى {ذلك الكتاب} وفي قوله عليه السلام «أولئك الملأ من قريش» وكقول أمية. تلك المكارم لا قعبان من لبن ولما كان الخبر مقيّداً بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون {نقص} خبراً بعد خبر وأن يكون خبراً و {القرى} صفة ومعنى {من} التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لم تقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذه الأمة. فالفعل في ليؤمنواوَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} لقوم وفي {بما كذبوا} لقوم آخرين. وقيل {جاءتهم رسلهم} بالمعجزات التي اقترحوها {فما كانوا ليؤمنوا} بعد المعجزات {بما كذبوا} به قبلها كما قال {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.

الضمير في كانوا} وفي {ليؤمنوا} عائد على أهل القرى وأن الباء في {بما} ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئاً وفي الإتيان بلام الجحود في {ليؤمنوا} مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في {بما كذبوا} موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية، قال الكرماني: وجاء هنا {بما كذبوا} فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في {ولو أنّ أهل القرى آمنوا} وقوله {ولكن كذبوا} وفي يونس أبرزه فقال {بما كذبوا به من قبل} لما كان قد أبرز في {فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا} فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى، ملخصاً. ومنوَمَا وَجَدْنَا لأًّكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} في {من عهد} زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد. {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين إنْ هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ومفعول وجدنا} الأولى {لأكثرهم} ومفعول الثانية {لفاسقين} واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّم الكلام على ذلك في قوله {وإن كانت لكبيرة} ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافية واللام بمعنى إلا، وقال الزمخشري: وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إن إذا خففت كان محذوفاً منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاءً لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّ لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.

والضمير في من بعدهمثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِئَايَتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} عائد على الرسل من قوله {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} أو للأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية {فظلموا} بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله {أن الشّرك لظلم عظيم} وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال. إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان، وقيصر في الروم، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علماً شخصيّاً بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة. وقرأ نافع عليّ أن لا أقولوَقَالَ مُوسَى يَفِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَءِيلَ} بتشديد الياء جعل {علي} داخلة على ياء المتكلم ومعنى {حقيق} جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و {أن لا أقول} الأحسن فيه إن يكون فاعلاً بحقيق كأنه قيل يحقّ علي كذا ويجب ويجوز أن يكون {أن لا أقول} مبتدأ و {حقيق} خبره، وقال قوم: ثمّ الكلام عند قوله {حقيق} و {على أن لا أقول} مبتدأ وخبره، وقرأ باقي السبعة على بجرها {أن لا أقول} أي {حقيق} على قول الحق، فقال قوم: ضمن {حقيق} معنى حريص، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي: على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله {ولا تقعدوا بكل صراط} أي على كل صراط.

{على أن لا أقول صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق، وقال ابن مقسم حقيق} من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق {على} برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله {حقيق} انتهى. وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولاً العامل في {على أرسلت} ، وقال آخر: إنهم غفلوا عن تعليق {على} برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأن رسولاً قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتنازل كلام ابن مقسم أخيراً في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبي وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق. وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها مالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة. قال ابن عباس والسدّي: صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً، وقيل: أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى مبينفَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} ظاهر لا تخيل فيه بل هو ثعبان حقيقة.

قال ابن عطية {وإذا} ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثه والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثة ليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله {ثعبان} ولو قلت {فإذا هي} لم يكن كلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذنب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم.

في الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره فأرسل حاشرين وجمعوا السحرة وأمرهم بالمجيء واضطرب الناقلون للإخبار في عددهم اضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحراً فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة وجاءوَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَلِبِينَ} قالوا: بغير حرف عطف لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا {إن لنا لأجراً} أي جعلاً، وقال الحوفي {وقالوا} في موضع الحال من السحرة والعال {جاء} ، وقرأ الحرميان وحفص {إن} على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى لأجراً عظيماً ولهذا قال الزمخشري: والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة وجوّز أبو علي أن تكون {إن} استفهاماً حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو فمنهم من حققهما ومنهم من سهل الثانية ومنهم من أدخل بينهما ألفاً والخلاف في كتب القراءات وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثل علمه و {نحن} إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف، وقال الحوفي في جوابه ما تقدم.l أي نعم إن لكم لأجراً وإنكمقَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد {نعم} التي هي نائبة عنها.

وقرأ الجمهور تأمرونيُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَآءَ} بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاماً وتكون مفعولاً ثانياً لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفاً لفهم المعنى أي أيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاماً مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و {تأمرون} صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي {تأمرون} الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي {تأمرون} ضمير عائد على {الذي} تقديره تأمرون به انتهى، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجروراً بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضاً لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع.

قال أبو البقاء: ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأن الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضاً على توهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيراً ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة. وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوا فألقوا فلما ألقوا والفاء عاطفة على هذا المحذوف، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى، وهو لا يعقل ما قال ونقول وصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصي والحبال حيات وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف. ولما كانت الرّهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها. لقف الشيء لقفاً ولقفاناً أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريع الأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفاً. مهما اسم خلافاً للسهيلي إذ زعم أنها قد تأتي حرفاً وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله: مهما لي الليلة مهماليه أودي بنعلي وسرباليه وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها من ماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر: أما ويّ مه من يستمع في صديقه

أقاويل هذا الناس ما وي يندم على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى أكفف ومن هي اسم الشرط، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجراد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً. القمل قال أبو عبيدة: هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتي أقوال المفسرين فيه. الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا: ضفدعات.

وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبة أي بأن ألق، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها فإذا هي تلقفقَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَلِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُواْ يَمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَغِرِينَ * وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَجِدِينَ * قَالُواْءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَلَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لائصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاّ أَنْءَامَنَّا بِئَايَتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ * وَقَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأٌّرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا

مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأٌّرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَءَايَتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَءِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَفِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَرِقَ الأٌّرْضِ وَمَغَرِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ * وَجَوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ

يَمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وتكون الجملة الفجائية إخباراً بما ترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدة يحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته، وقرأ حفص {تلقف} بسكون اللام من لقف، وقرأ باقي السبعة {تلقف} مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف، وقرأ البزي بإدغام المضارعة في التاء في الأصل، وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة و {ما} موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر. فقالوا في موضع الحال من الضمير في ساجدينقَالُواْءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَلَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَرُونَ} أو من السحرة. {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} قرأ حفص {آمنتم} على الخبر في كل القرآن أي فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم، وقرأ العربيان ونافع والبزي بهمزة استفهام ومدة بعدها مطولة في تقدير ألفين إلا ورشاً فإنه يسهل الثانية ولم يدخل أحد ألفاً بين المحققة والملينة وكذلك في طه والشعراء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر فيهن بالاستفهام وحققا الهمزة وبعدها ألف وقرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واواً الضمة نون فرعون وتحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه وقرأ في طه مثل حفص وفي الشعراء مثل البزي هذا الاستفهام معناه الإنكار والاستبعاد والضمير في {به} عائد على الله تعالى لقولهم {قالوا آمنا برب العالمين} ، وقيل يحتمل أن يعود على موسى وفي طه والشعراء يعود في قوله له على موسى لقوله {إنه لكبيركم} .

تهديد ووعيد ومفعول تعلمون محذوف أي ما يحل بكم أُبهِمَ في متعلق تعلمون. إلا أن آمنافَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لائصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاّ أَنْءَامَنَّا بِئَايَتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ من المفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا} وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذي يظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم الله منه أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله {إلا أن آمنا} مفعولاً من أجله واستثناء مفرّغاً أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء، قال عطاء: أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام ومن جعل لما ظرفاً جعل العامل فيها {أنّ آمنا} ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً لدلالة ما قبله عليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان بالله هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء سبيه بقوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم وابن أبي عبلة {وما تنقم} بفتح القاف مضارع نقم بكسرها وهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور.

ويذركوَقَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأٌّرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} بالرفع عطفاً على {أتذر} بمعنى أتذره ويذرك أي أتطلق له ذلك أو على الاستئناف أو على الحال على تقدير وهو يذرك. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن بخلاف عنه {ويذرك} بالجزم عطفاً على التوهّم كأنه توهم النطق يفسدوا جزماً على جواب الاستفهام كما قال {فأصدّق وأكون من الصالحين} أو على التخفيف من {ويذرك} ، وقرأ أنس بن مالك ونذرك بالنون ورفع الراء توعدوه بتركه وترك آلهته أو على معنى الإخبار أي إنّ الأمر يؤول إلى هذا، وقرأ أبيّ وعبد الله {في الأرض} وقد تركوك أن يعبدوك {وآلهيتك} ، وقرأ الأعمش وقد تركك آلهتك. قال الزمخشري: (فإن قلت) : لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الذي قبلها؟ (قلت) : هي جملة مبتدأة مستأنفة وأما {وقال الملأ} فمعطوفة على ما سبقها من قوله {قال الملأ من قوم فرعون} انتهى. وفي سنين لغتان أشهرهما إعرابها بالواو ورفعا والياء جرًّا ونصباً وقد تكلف النحاة علة لكونها جمعت هذا الجمع والأخرى جعل الإعراب في النون والتزام الياء في الأحوال الثلاثة نقلها أبو زيد والفراء، وقال الفراء: هي في هذه اللغة مصروفة عند بني وغير مصروفة عند غيرهم والكلام على ذلك أمعن في كتب النحو.

وأتى الشرط بإذا في مجيء الحسنة وهي لما تيقن وجوده لأنّ إحسان الله هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أنّ إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاء وأتى الشرط بأن في إصابة السيئة وهي للممكن إبراز أن إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع وجهه رحمة الله أوسع، قال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنةوَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا} بإذا وتعريف الحسنة {وإن تصبهم سيئة} بأن وتنكير السيئة (قلت) : لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا يسير منها ومنه قول بعضهم وقد عددت أيام البلاء فهلا عددت أيام الرجاء انتهى، وقرأ عيسى بن عمرو طلحة بن مصرّف تطيروا بالتاء وتخفيف الطاء فعلاً ماضياً وهو جواب {وإن تصبهم} وهذا عند سيبويه مخصوص بالشعر أعني أن يكون فعل الشرط مضارعاً وفعل الجزاء ماضي اللفظ نحو قول الشاعر: من يكدني بسيىء كنت منه كالشجى بين حلقه والوريد وبعض النحويين يجوزه في الكلام وما روي من أن مجاهداً قرأ تشاءموا مكان {تطيروا} فينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف. وبالغوا في انتفاء الإيمان بأن صدّروا الجملة بنحن وأدخلوا الباء في بمؤمنينوَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي أنّ إيماننا لك لا يكون أبداً و {مهما} مرتفع بالابتداء أو منتصب بإضمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أي أيّ شيء يحضر تأتنا به والمضير في {به} عائد على {مهما} وفي {بها} عائد أيضاً على معنى مهما لأنّ المراد به أية آية كما عاد على ما في قوله {ما ننسخ من آية أو ننسها} ، وكما قال زهير: ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تُعلم فأنث على المعنى، قال الزمخشري: وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها ويحسب مهما بمعنى متى ما ويقول مهما جئتني أعطيتك وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية في شيء ثم يذهب فيفسر {مهما تأتنا به من آية} بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله تعالى وهو لا يشعر وهذا وأمثاله مما يجوب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه انتهى، وهذا الذي أنكره الزمخشري من أن مهما لا تأتي ظرف زمان وقد ذهب إليه ابن مالك ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه إلا أنه لم يقصر مدلولها على أنها ظرف زمان بل قال وقد ترد ما ومهما ظرفي زمان وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافية الكافية: وقد أتت مهما وما ظرفين في

شواهد من يعتضد بها كفى وقال في شرح هذا البيت جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من في لزوم التجرّد عن الظرف مع أنّ استعمالها ظرفين ثابت في استعمال الفصحاء من العرب وأنشد أبياتاً عن العرب زعم منها أنّ ما ومهما ظرفا زمان وكفانا الرّد عليه فيها ابنه الشيخ بدر الدين محمد وقد تأوّلنا نحن بعضها وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا وكفاه ردّاً نقله عن جميع النحويين خلاف ما قاله لكن من يعاني علماً يحتاج إلى مثوله بين يدي الشيوخ وأما من فسّر {مهما} في الآية بأنها ظرف زمان فهو كما قال الزمخشري ملحد في آيات الله وأما قول الزمخشري وهذا وأمثاله إلى آخر كلامه فهو يدلّ على أنه جثا بين يدي الناظر في كتاب سيبويه وذلك صحيح رحل من خوارزم في شيبته إلى مكة شرفها الله تعالى لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا من أهل جزيرة الأندلس كان مجاوراً بمكة وهو الشيخ الإمام العلاّمة المشاور أبو بكر عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله الأندلسي من أهل بابرة من بلاد جزيرة الأندلس فقرأ عليه الزمخشري جميع كتاب سيبويه وأخبره به قراءة عن الإمام الحافظ أبي علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني قال قرأته على أبي مروان عبد الملك بن سراج بن عبد الله بنن سراج القرطبي قال قرأته على أبي القاسم بن الإفليلي عن أبي عبد الله محمد بن عاصم العاصمي عن الرباحي بسنده، وللزمخشري قصيد يمدح به سيبويه وكتابه وهذا يدلّ على أنه ناظر في كتاب سيبويه بخلاف ما كان يعتقد فيه بعض أصحابنا من أنه إنما نظر في نتف من كلام أبي علي الفارسي وابن جني وقد صنف أبو الحجاج يوسف بن معزوز كتاباً في الردّ على الزمخشري في كتاب المفصل والتنبيه على أغلاطه التي خالف فيها إمام الصناعة أبا بشر عمرو بن عثمان سيبويه رحم الله جميعهم.

قال الأخفش الطوفانفَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَءَايَتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} جمع طوفانة عند البصريين وهو عند الكوفيين مصدر كالرجحان، وحكى أبو زيد في مصدر طاف طوفاً وطوافاً ولم يحك طوفاناً وعلى تقدير كونه مصدراً فلا يراد به هنا المصدر. وقال ابن عطية: هو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له أكثر في الماء والمطر الشديد. ومنه قول الشاعر: غير الجدّة من عرفانه خرق الرّيح وطوفان المطر ومد طوفان مبيد مددا شهراً شآبيب وشهراً بردا والظاهر تعلق {بما عهد} بأدع لنا ربك ومتعلق الدعاء محذوف تقديره {ادع لنا ربك بما عهد عندك} في كشف هذا الرّجز {ولئن كشفت} جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا أي قالوا ذلك مقسمين لئن كشفت أو لقسم محذوف معطوف أي وأقسموا لئن كشفت وجوز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن تكون الباء في {بما عهد عندك} باء القسم أي قالوا {أدعُ لنا ربّك بما عهد عندك} في كشف الرجز مقسمين {بما عهد عندك لئن كشفت} .

في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى وهو إسناد مجازي ولما كان إخباراً من الله أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي ولما كان الرجز من جملة أخرى غير مقولة لهم حسن إظهاره دون ضميره وكان جائزاً أن يكون التركيب في غير القرآن فلما كشفنا عنهمفَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَفِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا} ومعنى {إلى أجل هم بالغوه} إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: يريد به غاية كل واحد منهم بما يخصّه من الهلاك والموت هذا اللازم من اللفظ كما تقول أخرت كذا إلى وقت كذا وأنت لا تريد وقتاً بعينه.

{وإلى أجل} قالوا متعلق {بكشفنا} ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تتحقق الغاية ولذلك لا تصحّ الغاية في الفعل عن المتطاول لا تقول لما قتلت زيداً إلى يوم الخميس جرى كذا ولا لما وثبت إلى يوم الجمعة اتفق كذا وجعل بعضهم {إلى أجل} من تمام الرجز أي الرّجز كائناً إلى أجل والمعنى أنّ العذاب كان مؤجلاً ويقوي هذا التأويل كون جواب لما جاء بإذا الفجائية أي فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم إلى أجل فاجأوا بالنكث وعلى معنى تغييته الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلى على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا، فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة، وقال الزمخشري: {إذا هم ينكثون} جواب لما يغيا فلما كشفا عنهم فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخّروه ولكن لما كشف عنهم نكثوا انتهى، ولا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير وهم بالغوه جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد لو قيل في غير القرآن إلى أجل بالغيه ومجيء إذا الفجائية جواباً للما مما يدل على أن لما حرف وجوب لوجوب كما يقول سيبويه لا ظرف كما زعم بعضهم لافتقاره إلى عامل فيه والكلام تام لا يحتمل إضماراً ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وقرأ أبو هاشم وأبو حيوة {ينكثون} بكسر الكاف. أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في بأنهم سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في عنها إلى الآيات.

وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا والتي باركنافَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَفِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا} نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب {مشارق} والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو {يستضعفون} و {التي باركنا} هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومن أجاز أن تكون {التي} نعتاً للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته. وقيل: الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قاله الكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل بما صبرواوَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرهم، وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويت عن عاصم وأبي عمرو، قال الزمخشري: ونظيره {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} انتهى، يعني نظير وصف الجمع بالمفرد المؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولاً لقوله رأى أيّ الآية الكبرى فيكون في الأصل نعتاً لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف.

{وإلى أجل} قالوا متعلق {بكشفنا} ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه والغاية تنافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بدّ من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تتحقق الغاية ولذلك لا تصحّ الغاية في الفعل عن المتطاول لا تقول لما قتلت زيداً إلى يوم الخميس جرى كذا ولا لما وثبت إلى يوم الجمعة اتفق كذا وجعل بعضهم {إلى أجل} من تمام الرجز أي الرّجز كائناً إلى أجل والمعنى أنّ العذاب كان مؤجلاً ويقوي هذا التأويل كون جواب لما جاء بإذا الفجائية أي فلما كشفنا عنهم العذاب المقرر عليهم إلى أجل فاجأوا بالنكث وعلى معنى تغييته الكشف بالأجل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلى على تأويل الكشف بالاستمرار المغيا، فتكون المفاجأة بالنكث إذ ذاك ممكنة، وقال الزمخشري: {إذا هم ينكثون} جواب لما يغيا فلما كشفا عنهم فاجأوا النكث وبادروه ولم يؤخّروه ولكن لما كشف عنهم نكثوا انتهى، ولا يمكن التغيية مع ظاهر هذا التقدير وهم بالغوه جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد لو قيل في غير القرآن إلى أجل بالغيه ومجيء إذا الفجائية جواباً للما مما يدل على أن لما حرف وجوب لوجوب كما يقول سيبويه لا ظرف كما زعم بعضهم لافتقاره إلى عامل فيه والكلام تام لا يحتمل إضماراً ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وقرأ أبو هاشم وأبو حيوة {ينكثون} بكسر الكاف. أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في بأنهم سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في عنها إلى الآيات.

وانتصاب مشارق على أنه مفعول ثان لأورثنا والتي باركنافَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَفِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا} نعت لمشارق الأرض ومغاربها وقول الفرّاء إنّ انتصاب {مشارق} والمعطوف عليها على الظرفية والعامل فيهما هو {يستضعفون} و {التي باركنا} هو المفعول الثاني أي الأرض التي باركنا فيها تكلف وخروج عن الظاهر بغير دليل ومن أجاز أن تكون {التي} نعتاً للأرض فقوله ضعيف للفصل بالعطف بين المنعوت ونعته. وقيل: الكلمة النعمة والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة للكلمة وكانت الحسنى لأنها وعد بمحبوب قاله الكرماني والمعنى على من بقي من مؤمني بني إسرائيل بما صبرواوَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرهم، وقرأ الحسن كلمات على الجمع ورويت عن عاصم وأبي عمرو، قال الزمخشري: ونظيره {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} انتهى، يعني نظير وصف الجمع بالمفرد المؤنث ولا يتعيّن ما قاله من أن الكبرى نعت لآيات ربه إذ يحتمل أن يكون مفعولاً لقوله رأى أيّ الآية الكبرى فيكون في الأصل نعتاً لمفرد مؤنث لا يجمع وهو أبلغ في الوصف. والباء للتعدية يقال جاوز الوادي إذا قطعه، وجاوز بغيره البحر عبر به فكأنه قال وجزنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحر وفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعى واحد، وقرأ الحسن وابراهيم وأبو رجاء ويعقوب وجوزنا وهو مما جاء فيه فعل بمعنى فعل المجرد نحو قدّر وقدر وليس التضعيف للتعدية.

وما في كماوَجَوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْءَالِهَةٌ} قال الزمخشري كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها وقال غيره موصولة حرفية أي كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حدّ ما قال ابن مالك في أنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم لا أكلمك ما إن في السماء نجماً أي ما ثبت أن في السماء نجماً ويكون {آلهة} فاعلاً يثبت المحذوفة، وقيل: موصولة اسمية و {لهم} صلتها والضمير عائد عليها مستكن في المجرور والتقدير كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكنّ. قال الزمخشري: وفي إيقاع هؤلاءإِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إسماً لأن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى ولا يتعيّن ما قاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لأنّ لأن الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون خبر {إن متبر} وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسمِّ فاعله وكذلك {ما كانوا} هو فاعل بقوله {وباطل} فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إنّ بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيداً مضروب غلامه فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعاً على أنه لم يسمّ فاعله ومضروب خبر أن والوجه الآخر وهو أن كون مبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح.

وانتصب غيرقَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَكُمْ مِّنْءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأًّخِيهِ هَرُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} مفعولاً بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله، و {إلهاً} تمييز عن {غير} أو حال أو على الحال و {إلهاً} المفعول والتقدير أبغي لكم إلهاً غير الله فكان {غير} صفة فلما تقدم انتصب حالاً، وقال ابن عطية: و {غير} منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال انتهى، ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرّغ له أو لقوله {إلهاً} فإن تخيّل أنه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصحّ لأنّ الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله أبغيكموه لصحّ ويحتمل وهو {فضلكم} أن يكون حالاً وأن كون مستأنفاً.u

قالوا انتصب ثلاثينوَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين، وقال ابن عطية و {ثلاثين} نصب على تقدير جلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف والهاء في {وأتممناها} عائدة على المواعدة المفهومة من {واعدنا} ، وقال الحوفي الهاء والألف نصب باتممناها وهما راجعتان إلى {ثلاثين} ولا يظهر لأنّ الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر أي عشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها مشدّداً والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ {ربه} ولم يأتِ على {واعدنا} فكان يكون للتركيب قتمّ ميقاتنا لأن لفظ {ربه} دالّ على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه، قيل: والفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء وانتصب {أربعين} على الحال قاله الزمخشري، الحال فيه فقال أتى بنم بالغاً هذا العدد فعلى هذا لا يكون الحال {أربعين} بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله وأربعين ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضاً ويصح أن يكون {أربعين} ظرفاً من حيث هي عدد أزمنة، وقيل {أربعين} مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين، وقيل: إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات. ومعنى اللام للإختصاص. وكلمةوَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} معطوف على {جاء} ، وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله {وكلمه ربه} للمعنى الذي عدل إلى قوله {فتمّ ميقات ربه} و {فلما تجلّى ربه} .

والضمير في لهوَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَمُوسَى إِنى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَلَتِي وَبِكَلَمِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الأٌّلْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْءَايَتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَفِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَلِقَآءِ الأٌّخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَلِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى

أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأٌّلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ * وَاخْتَارَ} عائد على موسى و {الألواح} جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققها فتكون أل فيها للعهد، وقال ابن عطية: عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه السلام تقديره في ألواحه وهذا كقوله تعالى {فإن الجنة هي المأوى} أي مأواه انتهى وكون أل عوضاً من الضمير ليس مذهب البصريين ولا يتعين أن يكون عوضاً من الضمير وليس ذلك كقوله {فإن الجنة هي المأوى} لأنّ الجملة خبر عن من فاحتاجت الجملة إلى رابط، فقال الكوفيون: أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه، وقال البصريون: الرابط محذوف أي هي المأوى له.

والظاهر أن مفعول {كتبنا} أي كتبنا فيها {موعظة من كل شيء وتفصيلاً لكل شيء} قاله الحوفي قال نصب {موعظة} بكتبنا {وتفصيلاً} عطف على {موعظة لكل شيء} متعلق بتفصيلاً انتهى، وقال الزمخشري: {من كل شيء} في محل النصب مفعول {وكتبنا وموعظة، وتفصيلاً} بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول {كتبنا} موضع المجرور كما تقول أكلت من الرّغيف، و {من} للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب {موعظة وتفصيلاً} على المفعول من أجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم. فقلنا خذها عطفاً على كتبنافَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْءَايَتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ} ويجوز أن يكون {فخذها} بدلاً من قوله {فخذ ما آتيتك} ، والضمير في {فخذها} عائد على ما على معنى ما لا على لفظها وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائداً على {الألواح} أي الألوح أو على {كل شيء} لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالات وهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول. {بأحسنها} ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر.

وقال ابن عطية: ولو كان من رؤية القلب لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له: لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصار دونه لأنها داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى انتهى، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيداً عمراً منطلقاً أعلمت زيداً عمراً ويحذف منطلقاً لدلالة الكلام السابق عليه وأما تعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصاراً والثاني والثالث في بام أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصاراً وفي قوله لأنها أي سأريكمسَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْءَايَتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ} داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر، وقرأ الحسن: {سأوريكم} بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين، أحدهما: ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال: ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى، فيكون كقوله أدنوا فانظر رأى فانظر، وهذا التوجيه ضعيف لأن الأشباع بابه ضرورة الشعر والثاني: ما ذكره الزمخشري قال وقرأ الحسن {سأوريكم} وهي لغة فاشية بالحجاز يقال: أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى، وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم،

قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} . ويجوز أن يكون في موضع الحال فيتعلق بمحذوف أي متلبسين بغير الحقّ والمعنى غير مستحقّين لأنّ التكبر بالحق لله وحده لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد. وقرأ ابن أبي عبلة لا يتخذوها ويتخذوها على تأنيث السبيل والسبيل تذكر وتؤنث، قال تعالى: قل هذه سبيليوَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب استعار للرّشد والغي سبيلين فذكر أنهم تاركو سبيل الرشد سالكو سبيل الغي وناسب تقديم جملة الشرط المتضمنة سبيل الرشد على مقابلتها لأنها قبلها. {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} فذكر موجب الإيمان وهو الآيات وترتّب نقيضه عليه وأتبع ذلك بموجب الرشد وترتب نقيضه عليه ثم جاءت الجملة بعدها مصرّحة بسلوكهم سبيل الغي ومؤكدة لمفهوم الجملة الشرطية قبلها لأن يلزم من ترك سبيل الرّشد سلوك سبيل الغي لأنهما إما هدى أو ضلال فهما نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر. والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذّبوا وجوّزوا أن يكون منصوباً فقدّره ابن عطية فعلنا ذلك، وقدّره الزمخشري صرفهم الله ذلك الصّرف بعينه.

والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملونذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَفِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَلِقَآءِ الأٌّخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وإضافة {لقاء} إلى {الآخرة} إضافة المصدر إلى المفعول أي ولقائهم الآخرة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالهم ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى ولقاء ما وعد الله تعالى في الآخرة انتهى. ولا يجيز جلّة النحويين الإضافة إلى الظرف لأنّ الظرف هو على تقدير في والإضافة عندهم إنما هي على تقدي اللام أو تقدير من على ما بين في علم النحو فإنّ اتسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول به وجاز إذ ذاك أن يُضاف مصدره إلى ذلك الظرف المتسع في عامله وأجاز بعض النحويين أن تكون الإضافة على تقدير في كما يفهمه ظاهر كلام الزمخشري، وهو مذهب مردود في علم النحو. و {هل يجزون} استفهام بمعنى التقرير أي يستوجبون بسوء فعلهم العقوبة، قال ابن عطية: والظاهر أنه استفهام بمعنى النفي ولذلك دخلت {إلا} والاستفهام الذي هو بمعنى التقرير هو موجب من حيث المعنى فيبعد دخول إلا ولعله لا يجوز. ومن حليهموَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} متعلق باتخذ وبها يتعلق من بعده وإن كانا حرفي جرّ بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأنّ من الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض وأجاز أبو البقاء أن يكون {من حليهم} في موضع الحال فيتعلق بمحذوف لأنه لو تأخر لكان صفة أي {عجلاً} كائناً {من حليهم} . وأنتصب {جسداً} ، قال الزمخشري على البدل، وقال الحوفي على النعت وأجازهما أبو البقاء وأن تكون عطف بيان.

قال ابن عطية ويحتمل أن تكون الواو واو الحال انتهى يعني في {وكانوا} والوجه الأول أبلغ في الذمّ وهو الإخبار عن وصفهم بالظلم وإنّ شأنهم ذلك فلا يتقيد ظلمهم بهذه الفعلة الفاضحة. ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول وكان أصله متصرّفاً تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم. وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط وسقطوَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ * وَلَمَّا} مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول: جلس في الدار وضحك من زيد، وقيل: {سقط} تتضمن مفعولاً وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال: ذهب بزيد انتهى، وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذيهو السقوط لأنّ سقط ليس مصدره الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بل هو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع سقط في أيديهم مبنياً للفاعل. مصحف أبي قالوا: ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا، بتقديم المنادى وهو ربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدراً منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلاً من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب. أعجلتموَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} استفهام إنكار قال الزمخشري يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته، فيقال: عجلت الأمر.

{قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال: يا ابن أمي ويا شقيق نفسي وقال آخر: يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي وأيضاً فكانت أمهما مؤمنة قالوا: وكان أبوه مقطوعاً عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه السلام: {إنه ليس من أهلك} وأيضاً لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص: {ابن أم} بفتح الميم، فقال الكوفيون: أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفاً كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلاماً وسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن، وقال سيبويه: هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافاً إليه ابن والحركة حركة بناء، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفييّن أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزىء بالكسرة عنها كما اجترؤوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم، وقال سيبويه هي مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفت الياء واجتزؤوا بالكسرة عنها كما اجتزؤوا في {يا قوم} ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّ الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه، وقرىء بإثبات ياء الإضافة وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة على يا الإضافة ثم قلب الياء ألفاً والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي، وقرىء يا ابن أمي بإثبات الياء وابن إمّ بكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصّر في كفّهم من الوعظ والإنذار وما بلغته

طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّ هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله. وقرأ ابن محيصن {تشمت} بفتح التاء وكسر الميم ونصب {الأعداء} ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا، كما قال الله يستهزىء بهم ونحو ذلك ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلاً نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد روي تعدّى شمت لغة يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضاً قوله: {اللَّه يستهزىء بهم} . إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم {إنما نحن مستهزئون} فقال {اللَّه يستهزىء بهم} وكقوله {ويمكرون ويسكر اللَّه} ولا يجوز ذلك ابتداءً من غير مقابلة وعن مجاهد {فلا تشمت} بفتح التاء والميم ورفع {الأعداء} ، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلاً لازماً فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لا أرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروهاً فيشمتوا بي وبدأ أوّلاً بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولا يعتقده واحداً من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهراً لبني إسرائيل أو يكون المعنى {ولا تجعلني} في موجدتك عليّ قريناً له مصاحباً لهم.

لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله قالوا واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل قالوا: ويمكن أن يكون الاستغفار مما لا يعلمه والله أعلم، وقال الزمخشري لما اعتذر إليه أخوه وذكر شماتة الأعداء، قال رب اغفر لي ولأخيقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ} ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرّط في حين الخلافة وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال متضمنة لهما في الدنيا والآخرة انتهى. وقوله ولأخيه أن عسى فرط إن كانت أن بفتح الهمزة فتكون المخففة من الثقيلة ويقرب معناه، وإن كانت بكسر الهمزة فتكون للشرط ولا يصح إذ ذاك دخولها على عسى لأنّ أدوات الشرط لا تدخلعلى الفعل الجامد. الغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات، أو بمعنى العقربة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله في الحياة الدنياإِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} متعلق بقوله {سينالهم} . داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون حالية أي وقد أمنوا أن ربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير في من بعدهاوَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} عائداً على التوبة أي {إن ربك} من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله {ثم تابوا} وهذا عندي أولى لأنك إذا جعلت الضمير عائداً على {السيئات} ، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعد عمل السيئات والتوبة منها وخبر {الذين} قوله {إن ربك} وما بعده والرابط محذوف أي {لغفور رحيم} لهم.

قال الزجاج: مصدر سكتوَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأٌّلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ * وَاخْتَارَ} الغضب سكت ومصدر سكت الرجل سكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حدّه وليس من سكوت الناس، وقيل هو من باب القلب أي ولمّا سكت موسى عن الغضب نحو أدخلت في فيّ الحجر، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لم يقع إلاّ في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس. واللام في {لربهم} تقوية لوصول الفعل إلى مفعوله المتقدم، وقال الكوفّيون: هي زائدة، وقال الأخفش: هي لام المفعول له أي لأجل ربهم {يرهبون} لا رباء ولا سمعة، وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشّء لأنّ فيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضاً فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة.

اختاروَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَفِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأٌّخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ} افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء {واختار} من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر وهي مقصورة على السماع وهي اختار واستغفر وأمر وكنى ودعا وزوج وصدق، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل فيقول اخترت زيداً من الرجال واخترت زيداً الرجال. قال الشاعر: اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم واعتل من كان يرجى عنده السول أي اخترتك من الناس و {سبعين} هو المفعول الأوّل، و {قومه} هو المفعول الثاني وتقديره {من قومه} ومن أعرب {قومه} مفعولاً أوّل و {سبعين} بدلاً من بدل بعض من كلّ وحذف الضمير أي {سبعين رجلاً} منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان وهو المختار منه فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منه.

ومفعول شئتفَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّىَ} محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب {لو أهلكتهم} وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال {لو شئت لاتخذت} {ولو شاء ربك لآمن} ، ولا يحفظ جاء بغير لام في القرآن إلا هذا وقوله {أن لو شاء أصبناهم} و {لو نشاء جعلناه أجاجاً} والمحذوف في {من قبل} أي من قبل الاتيار وأخذ الرّجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهم هم إياه وقوله {وإياي} أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف {وإياي} على الضمير المنصوب في {أهلكتهم} وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنّهم الذين {أخذتهم الرجفة} أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه. اتهلكناأَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} له وللسبعين وقيل الضمير في اتهلكنا له ولبني إسرائيل. الضمير في هي يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتننهم. أنا هدنا إليكإِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَفِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأٌّخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ} من هاد يهود وقال ابن بحر تقرّبنا بالتوبة وقيل ملنا ومنه قول الشاعر: قد علمت سلمى وجاراتها إني من اللَّه لها هائد أي مائل فيكون الضمير فاعلاً ويحتمل أن يكون مفعولاً لم يسَمَّ فاعله أي حركنا إليك واملنا.

أي أقضيها وأقّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرةفَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ} . كون ما بعدها وقع بعدما قبلها، وقيل الدخول حالة مقتضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقيبة فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها ويزعم بعض النحويين أنه أولى بحاملها وأكثر. وقيل ثبت رغداًالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأٌّغْلَلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَقَطَّعْنَهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَمَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ

وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ * وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذّ ولا هم أحوج. وأما التقديم والتأخير في {وقولوا وادخلوا} ، فقال الزمخشريّ: سواء قدّموا الحطة على دخول الباب وأخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما انتهى، وقوله سواء قدّموا وأخّروها تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها

كما قال تعالى: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} ويمكن أن يقال: ناسب تقديم الأمر بدخول الباب {سجّداً} مع تركيب {ادخلوا هذه القرية} لأنه فعل دالّ على الخضوع والذلة و {حطة} قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشيء وهو الدخول ولأنّ قبله {ادخلوا} فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع ولأنّ دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القكرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسّكنى.f وأما {سنزيد} هنا فقال الزمخشري موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرح الواو لا يخلّ بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له: {سنزيد المحسنين} وزيادة {منهم} بيان وأرسلنا وأنزلنا و {يظلمون} ويفسقون من واد واحد، وقرأ الحسن: {حطة} بالنصب على المصدر أي حطّة ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب بقولوا: على حذف التقدير {وقولوا} قولاً {حطّة} أي ذا {حطة} فحذف ذا وصار {حطّة} وصفاً للمصدر المحذوف كما تقول: قلت حسناً وقلت حقّاً أي قولاً حسنا وقولاً حقًّا. واسئلهم عائد على من بحضرة الرسول من اليهود. وقوله عن القرية فيه حذف أي عن أهل القرية. يحتمل أن يريد معنى الحاضرة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير حاضرةوَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} قرى {البحر} أي يحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم.

{إذ} ظرف والعامل فيه. قال الحوفي: {إذ} متعلقة بسلهم انتهى. ولا يتصور لأن {إذ} ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفاً مستقبلاً لم يصحّ المعنى لأن العادين وهم أهل القرية مفقودون فلا يمكن سؤالهم والمسؤول عن أهل القرية العادين. وقال الزمخشري: {إذ يعدون} بدل {من القرية} والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال انتهى، وهذا لا يجوز لأن {إذ} من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلاً يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نيّة تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يجز وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية نحو يوم إذ كان كذا وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرّف فيها بأن تكون مفعولة باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً، وقال أبو البقاء {عن القرية} : أي عن خبر القرية وهذا المحذوف هو الناصب للظرف الذي هو {إذ يعدون} ، وقيل هو ظرف للحاضرة وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت انتهى. وقال الزمخشري: السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله تعالى يوم سبتهم يوم تعظيمهم ويدل عليه قوله {ويوم لا يسبتون وإذ تأتيهم} العامل في {إذ يعدون} أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم لأنّ إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل انتهى، يعني بدلاً من {القرية} بعد بدل {إذ يعدون} وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأضاف {السبت} إليهم لأنهم مخصوصون بأحكام فيه. وقرأ عمر بن عبد العزيز: {حيتانهم} يوم أسباتهم، قال أبو الفضل الرازي في كتاب ج5 ص204 اللوامح وقد ذكر هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز: وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت.

وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف {يسبتون} بضم ياء المضارعة من أسبت دخل في السبت، قال الزمخشري: وعن الحسن {لا يسبتون} بضم الياء على البناء للمفعول أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرون بأن يسبتوا والعامل في {يوم} قوله {لا تأتيهم} وفيه دليل على أنّ ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقاً والمنع مطلقاً والتفصيل بين أن يكون لا جواب قسم فيمتنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح كذلك أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت نبلوهم أي بلوناهم وامتحناهم، وقيل {كذلك} متعلق بما قبله أي {ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك} أي {لا تأتيهم} إتياناً مثل ذلك الإتيان. بئيسفَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا} وقرأ جرية بن عائد ونصر بن عاصم في رواية بأس على وزن ضرب فعلاً ماضياً وعن الأعمش ومالك بن دينار بأس أصله بأس فسكن الهمزة جعله فعلاً لا يتصرف. وقرأت فرقة بيس بفتح الباء والياء والسّين وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة بئس بكسر الباء والهمز همزاً خفيفاً ولم يبيّن هل الهمزة مكسورة أو ساكنة، وقرأت فرقة باس بفتح الباء وسكون الألف. وقرأ خارجة عن نافع وطلحة بيس على وزن كيل لفظاً وكان أصله فيعل مهموزاً إلا أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياء وأدغم ثم حذف كميت، وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه بأس على وزن جبل وأبو عبد الرحمن بن مصرف بئس على وزن كبد وحذر، وقال أبو عبد الله بن قيس الرقيات: ليتني ألقى رقية في خلوة من غير ما بئس وقرأ ابن عباس وأبو بكر عن عاصم والأعمش بيأس على وزن ضيغم وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي: كلاهما كان رئيساً بيأسا

يضرب في يوم الهياج القونسا وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه بيئس على وزن صيقل اسم امرأة بكسر الهمزة وبكسر القاف وهما شاذّان لأنه بناء مختصّ بالمعتل كسيد وميت، وقرأ نصر بن عاصم في رواية بيس على وزن ميت وخرج على أنه من البؤس ولا أصل له في الهمز وخرج أيضاً على أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياءً ثم أدغمت وعنه أيضاً بئس بقلب الياء همزة وإدغامها في الهمزة ورويت هذه عن الأعمش، وقرأت فرقة بأس بفتح الثلاثة والهمزة مشدّدة، وقرأ باقي السبعة ونافع وفي رواية أبي قرة وعاصم في رواية حفص وأبو عبد الرحمن ومجاهد والأعرج والأعمش في رواية وأهل الحجاز {بئيس} على وزن رئيس وخرج على أنه وصف على وزن فعيل للمبالغة من بائس على وزن فاعل وهي قراءة أبي رجاء عن علي أو على أنه مصدر وصف به كالنكير والقدير، وقال أبو الإصبع العدواني: حنقا عليّ ولا أرى لي منهما شراً بئيسا وقرأ هل مكّة كذلك إلا أنهم كسروا الباء وهي لغة تميم في فعيل حلقي العين يكسرون أوله وسواء كان اسماً أم صفة، وقرأ الحسن والأعمش فيما زعم عصمة بيئس على وزن طريم وحزيم فهذه اثنتان وعشرون قراءة وضبطها بالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته فالثلاثي اسما بئس وبيس وبيس وبأس وبأس وبيس وفعلا بيس وبئس وبئس وبأس وبأس وبئس والرباعية اسما بيأس وبيئس وبيئس وبي وبييس وبييس وبئيس وبائس وفعلا باءس.

قال الزمخشري تأذّنوَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} عزم {ربك} وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله وأجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله {ليبعثن} والمعنى وإذا حتم ربك وكتب على نفسه، وقال ابن عطية: بنية {تأذن} هي التي تقتضي التكسّب من أذن أي علم ومكن فإذا كان مسنداً إلى غير الله لحقّه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين وإلى الله كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات فالمعنى وإذا علم {ليبعثن} ويقتضي قوة الكلام، إن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم على الله لأبعثن كذا نحا إليه أبو علي الفارسي، وقال الطبري وغيره تأذّن معناه أعلم وهو فلق من جهة التصريف إذ نسبه {تأذّن} إلى الفاعل غير نسبة أعلم وبين ذلك فرق من التعدي وغيره انتهى وفيه بعض اختصار.

وقرأ زيد بن علي وعاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف معذرةوَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَطَّعْنَهُمْ فِي الأٌّرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَهُمْ بِالْحَسَنَتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأٌّدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ * وَإِذ} بالنصب أي وعظناهم معذرة، قال سيبويه: لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب انتهى، ويختار هنا سيبويه الرفع قال لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل) لهم {لم تعظون} قالوا: موعظتنا معذرة، وقال أبو البقاء: من نصب فعل المفعول له أي وعظنا للمعذرة، وقيل: هو مصدر أي نعتذر معذرة

وقالهما الزمخشري. { الضمير في نسوافَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسياناً مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي. {بئيس} شديد موجع وقال الأخفش: مهلك، وقرأ أهل المدينة، نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهما بيس على وزن جيد، وابن عامر كذلك إلا أنه همز كبئر ووجهتا على أنه فعل سمّي به كما جاء «أنهاكم عن قيل وقال» ويحتمل أن يكون وضع وصفاً على وزن فعل كحلف فلا يكون أصله فعلا، وخرجه الكسائي على وجه آخر وهو أنّ الأصل بيئس فخفف الهمزة فالتفت ياء أن فحذفت إحداهما وكسر أوله كما يقال رغيف وشهيد، وخرجه غيره على أن يكون على وزن فعل فكسر أوله اتباعاً ثم حذفت الكسرة كما قالوا فخذ ثم خففوا الهمزة وقرأ الحسن {بئيس} بهمز وبغير همز عن نافع وأبي بكر مثله إلا أنه بغير همز عن نافع كما تقول بيس الرجل، وضعفها أبو حاتم وقال: لا وجه له اقال لأنه لا يقال مررت برجل بيس حتى يقال بيس الرجل أو بس رجلاً، قال النحاس: هذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فيها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة والتقدير بيس العذاب، وقرىء بئس على وزن شهد.

والضمير في عليهموَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} عائد على اليهود قاله الجمهور أو {عليهم} وعلى النصارى قاله مجاهد، وقيل: نسل الممسوخين والذين بقوا منهم وقيل: يهود خيبر وقريظة والنضير وعلى هذا ترتب الخلاف في من {يسومهم} ، فقيل: بختنصر من أذلهم بعده إلى يوم القيامة، وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلّمفضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، وقيل: العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قاله ابن جبير، وقال السّدي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم، وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد صلى الله عليه وسلّموأمته ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى جباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك للنبي صلى الله عليه وسلّم وقيل: الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال إن الضمير في {عليهم} عائد على أهل خيبر وقريظة والنضير وهذه الآية تدلّ على أن لا دولة لليهود ولا عزّ وأن الذلّ والصغار فيهم لا يفارقهم. وأمماًوَقَطَّعْنَهُمْ فِي الأٌّرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} حال، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قوله هذا في قطعناهم {اثنتي عشرة والصالحون} من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عن الصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي {ومنهم قوم} دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال {ومنهم قوم} دون أولئك، وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون {ذلك} بمعنى أولئك على هذه اللغة.

ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة، وقال ابن عطية: فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد به الكفرة انتهى، فإن أراد أنّ {دون} ترادف غيراً فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيراً فصحيح و {دون} ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعن ومنا أقام. وهذا العطف على التقدير ودرسوا معطوف على قولة ألم يؤخذ. وقال الطبري وغيره: هو معطوف على قوله ورثوا الكتابوَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} وفيه بعد، وقيل هو على إضمار قد أي وقد {درسوا ما فيه} وكونه معطوفاً على التقرير هو الظاهر. وقرأ الجحدري {أن لا تقولوا} بتاء الخطاب، وقرأ علي والسلمي: وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله {فادارأتم} أي تدارأتم وقد مر تقريره في العربية، وهذه القراءة نوضح أن معنى {ودرسوا ما فيه} هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل {ودرسوا ما فيه} أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعد ولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس، وإنما قالوا: ربع دارس وخط دارس بمعنى دائر. وقرأ أبو عمرو وأهل مكة يعقلونوَالدَّارُ الأٌّخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ * وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بالياء جرياً على الغيبة في الضمائر السابقة، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة. وقيل: الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلهية.

وقرأ عمر وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم يمسكونوَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ * وَإِذ} من أمسك والجمهور {يمسكون} مشدّداً من مسك وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير فقال: فتما تمسّك بالعهد الذي زعمت إلا كما يمسك الماء الغرابيل وأمسك متعدّ قال: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض} فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنى تمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّى بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون، وقرأ عبد الله والأعمش: استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوا بالكتاب والظاهر أن قوله {والذين} استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك به فيكونن والذين على هذا مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملاً وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في {المصلحين} ، وقال الحوفي وأبو البقاء: الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو {المصلحين} وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى، وهذا على مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال: زيد قام أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون {والذين} في موضع جرّ عطفاً على {الذين يتّقون} ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا.

الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلاب وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات، وتقدّمت هذه المادة في مكلبينوَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَهُءَايَتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأٌّرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ * مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَفِلُونَ * وَللَّهِ

الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ * مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ * يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * قُل} وكرّرناها لزيادة فائدة، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت، وقال غيره: العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر: ليس الأمير بالشحيح الملحد

ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا: لحده اللاحد، وقيل ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي، متن متانة اشتدّ وقوي، أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعاً بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه قال تعالى: {أيان يبعثون} و {أيان مرساها} قال الشاعر: أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لفعلها إبانا وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قليل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قول الشاعر: إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل وقال غيره: أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا وقال ابن السّكيت: يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحده وجمعه سواء، وقال الشاعر: إنا وجدنا خلفا بئس الخلف عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف انتهى. وقد جمع في الردي بين اللغتين في هذا البيت، وقال النضر بن شميل: التحريك والإسكان معاً في القرآن الردي وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفراء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثني وجمه وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد، قال ابن عباس وابن زيد: هنا هم اليهود، قال الزمخشري: وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وعنه أنهم هؤلاء الأمة. ولناوَرِثُواْ الْكِتَبَ} في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي {سيغفر} هو أي الأخذ {لنا} . {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم.

ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لتسلكنّ سنن من قبلكم» ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومشيبها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق، وقال الزمخشري: الواو للحال يعني في {وإن يأتهم} أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفرا الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصر لا غفران له انتهى، وجملة على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز. وأن لا يقولواأَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب، وقال الزمخشري: هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق علي وإن فسّر {ميثاق الكتاب} بما تقدم ذكره كان {أن لا يقولوا} مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا نهياً، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق. وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا.

وفوقهموَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم، وقال الحوفي وأبو البقاء: {فوقهم} ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا أن ضمن {نتقنا} معنى فعل يمكن أن يعمل في {فوقهم} أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله {ورفعنا فوقهم الطور} والجملة من قوله {كأنه ظلة} في موضع الحال.

(فإن قلت) : بنو آدم وذرياتهم من هم، قلت: عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا: عزير ابن اللهوَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّممن أخلافهم المقتدين بآبائهم والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله {واسألهم عن القرية} و {إذ قالت أمة منهم وإذ تأذن ربّك وإذ نتقنا الجبل فوقهم واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه، قال ابن عطية: قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجد وأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتمله الألفاظ انتهى، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول {أخذ ذرياتهم} قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول {أخذ} محذوفاً لفهم المعنى و {ذرّياتهم} بدل من ضمير {ظهورهم} كما أنّ {من ظهورهم} بدل من قوله {بني آدم} والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال: {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} وتقدير الكلام: وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة.g وقرأ العربيان ونافع: {ذرياتهم} بالجمع وتقدّم إعرابه، وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفرداً بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولاً بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهم.

وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك في ذريتهم. فعلى هذين القولين يكون الذيوَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَهُءَايَتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ} مفرداً أريد به الجمع، وقال الجمهور: هو شخص معين. قال القتبي تبعه من خلفه واتبعه أدركه ولحقه كقوله: {فاتبعوهم مشرقين} أي أدركوهم فعلى هذا يكون متعدياً إلى واحد وقد يكون اتبع متعدّياً إلى اثنين كما قال تعالى: وأتبعناهم ذرّياتهم بإيمان فيقدر هذا {فأتبعه الشيطان} خطواته أي جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان، وقرأ طلحة بخلاف والحسن فيما روى عنه هارون {فاتبعه} مشدّداً بمعنى تبعه، قال صاحب كتاب اللوامح: بينهما فرق وهو أن تبعه إذا مشى في أثره واتبعه إذا واراه مشياً فأما {فأتبعه} بقطع الهمزة فمما يتعدّى إلى مفعولين لأنه منقول من تبعه وقد حذف في العامة أحد المفعولين، وقيل فأتبعه بمعنى استتبعه أي جعله له تابعاً فصار له مطيعاً سامعاً، وقيل معناه: تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال، {فكان من الغاوين} يحتمل أن تكون {كان} باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعاً في الزمان الماضي ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار أي صار من الضالين الكافرين. والضمير في لرفعناهوَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأٌّرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات وإن اختلفوا في الضمير في {بها} على ما يعود وقال قوم الضمير في {لرفعناه} على الكفر المفهوم مما سبق وفي {بها} عائد على الآيات أي ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات وهذا المعنى روي عن مجاهد وفيه بعد وتكلّف. وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثاً في الحالتين قاله الزمخشري وأبو البقاء.

وقال بعض شراح كتاب المصباح: وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال فلا يقال جاءني زيد إن يسأل يععط على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه نحو جاء زيد هو وإن يسأل يعط فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الإسمية لا الشرطية، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط وتلك الجملة لم تخلُ من أن يُعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف والأول ترك الواو مستمرّ فيه نحو أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهمفَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} وأما الثاني فلا بدّ من الواو نحو أتيتك وإن لم تأتني ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة انتهى فقوله {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} من قبيل الأول لأن الحمل عليه والترك نقيضان. واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك أي صفة ذلك صفة الذين كذبوا واحتمل أن تكون محذوفة من {مثل القوم} أي ذلك الوصف وصف المنسلخ أو وصف الكلب كمثل {الذين كذبوا بآياتنا} ويكون أبلغ في ذمّ المكذبين حيث جعلوا أصلاً وشبه بهم.

ساءسَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا} بمعنى بئس وتقدم لنا أن أصلها التعدّي تقول: ساءني الشيء يسوءني ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس {ومثلاً} تمييز للضمير المستكنّ في ساء فاعلاً وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا يثنّي ولا يجمع على مذهب البصريين وعن الكوفيين خلاف مذكور في النحو ولا بد أن يكون المخصوص بالذمّ من جنس التمييز فاحتيج إلى تقدير حذف أما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم وأما في المخصوص أي ساء مثلاً مثل القوم وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش: ساء مثل بالرفع {القوم} بالخفض واختلف على الجحدري فقيل: كقراءة الأعمش، وقيل: بكسر الميم وسكون الثاء وضم اللام مضافاً إلى {القوم} والأحسن في قراءة المثل بالرفع أن يكتفى به ويجعل من باب التعجب نحو لقضو الرجل أي ما أسوأ مثل القوم ويجوز أن يكون كبئس على حذف التمييز على مذهب من يجيزه التقدير ساء مثل القوم أو على أن يكون المخصوص {الذين كذبوا} على حذف مضاف أي بئس مثل القوم مثل {الذين} كذبوا لتكون الذين مرفوعاً إذ قام مقام مثل المحذوف لا مجروراً صفة للقوم على تقدير حذف التميز. يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة ويحتمل أن يكون استئناف إخبار عنهم بأنهم كانوا يظلمون أنفسهم والزمخشري على طريقته في أن تقديم المفعول يدلّ على الحصر فقدره وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، قال: وتقديم المفعول به لاختصاص كأنه قيل وخصُّوا أنفسهم بالظلم ولم يتعدّ إلى غيرها. وقال بعضهم: في الكلام حذف أي من يهد اللهوَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ * مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ} فيقبل ويهتدي بهداه {فهو المهتدي ومن يضلل} بأن لم يقبل فهو الخاسر.

واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى أو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سبباً على جهة المجاز فقد رد ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه، وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم انتهى، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة لأنه تعالى قال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونوَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فإثبات كونها للعلة ينافي قوله: {إلا ليعبدون} وأنشدوا دليلاً على إثبات معنى الصيرورة للام قول الشاعر: ألا كل مولود فللموت يولد ولست أرى حيا لحي يخلد وقول الآخر: فللموت تغدو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّهر تبنى المساكن وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيهههم بالأنعام ولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل في حق الله تعالى وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبّههم بالأنعام فيما ذكر وأنهم أضل من الأنعام فيما وقع التشبيه فيه وهو لا يجوز لما ذكرناه فالمعوّل عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأن هذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة بل هم أضلأُوْلَئِكَ كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} إضراب دال على الانتقال من إخبار إلى إخبار فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدّية إلى امتثال ما جاءت به الرسل والجملة الثانية أثبتت لهم المبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم وحذف التمييز وتقديره: {بل هم أضل} طريقاً منهم ويبين هذا قوله تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام} أي في انتفاء السمع للتدبر والعقل {بل هم أضل سبيلاً} أي بل سبيلهم أضل فالمحكوم عليه أوّلاً غير المحكوم عليه آخراً والمحكوم به أيضاً مختلف.

قال الزمخشري: التي هي أحسن الأسماء لأنها لا تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك انتهى، فالحسنى هي تأنيث الأحسن ووصف الجمع الذي لا يعقل بما يوصف به الواحدة كقوله ولي فيها مآرب أخرىوَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى} وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الأخر كقوله {فعدة من أيام أخر} لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكّراً، وقيل: {الحسنى} مصدر وصف به، قال ابن عطية: و {الأسماء} هاهنا: بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره انتهى. ولا تحرير فيما قال لأنّ التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعى به حسناً هو ما قرره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله ومعنى {فادعوه بها} أي نادوه بها كقولك: يا الله يا رحمن يا مالك وما أشبه ذلك، وقال الزمخشري: فسمّوه بتلك الأسماء جعله من باب دعوت ابني عبد الله أي سميته بهذا الاسم واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله تعالى به فنصّ القاضي أبو بكر الباقلاني على الجواز ونصّ أبو الحسن الأشعري على المنع، وبه قال الفقهاء والجمهور وهو الصواب واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن كقوله تعالى: {اللَّه يستهزىء بهم} و {يمكرون ويمكر اللَّه} هل يطلق عليه منه تعالى اسم فاعل مقيد بمتعلقه فيقال الله مستهزىء بالكافرين

وماكر بالذين يمكرون فجوّز ذلك فرقة ومنعت منه فرقة وهو الصواب وأما إطلاق اسم الفاعل بغير قيده فالإجماع على منعه. لما من ذرأ للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة وممنوَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى} دلالة على التبعيض وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عادلين به، قيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب قاله ابن الكلبي وروي عن قتادة وابن جريج، وقيل: هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان، وقال ابن عباس: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّموعليه أكثر المفسرين. كما أنّ مقابلها في قوله {ولقد ذرأنا لجهنم} لا يدلّ على تعيين أشخاص ولا زمان وإنما هذا تقسيم للمخلوق للنار والمخلوق للجنة ولذلك قيل: إنّ في الكلام محذوفاً تقديره {وممن خلقنا} يدلّ عليه إثبات مقابله في قوله {ولقد ذرأنا لجهنم} . معطوف على سنستدرجهموَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخرهم ملاوة من الدهر. وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل {أنّ كيدي} ، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف.

وهذا الاستفهام قيل: معناه التوبيخ، وقيل: التحريض على التأمل والجنة كما قال تعالى من الجنة والناسأَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} والمعنى من مس جنة أو تخبيط جنة، وقيل: هي هيئة كالجلسة والركبة أريد بها المصدر أي ما بصاحبهم من جنون والظاهر أن {يتفكروا} معلّق عن الجملة المنفيّة وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أعمال القلوب فيجوز تعليقه والمعنى أو لم يتأملوا ويتدبروا في انتفاء هذا الوصف عن الرسول فإنه منتف لا محالة ولا يمكن لمن أنعم الفكر في نسبة ذلك إليه، وقيل ثم مضمر محذوف أي فيعلموا ما بصاحبهم من جنة قالوا الحوفي، وزعم أن تفكّروا لا تعلّق لأنه لا يدخل على الجمل قال: ودلّ التفكر على العلم، وقال أصحابنا: إذا كان فعل القلب يتعدى بحرف جر قدرت الجملة في موضع جر بعد إسقاط حرف الجر ومنهم من زعم أنه يضمن الفعل الذي تعدى بنفسه إلى واحد أو بحرف جر إلى واحد معنى ما يتعدى إلى اثنين فتكون الجملة في موضع المفعولين فعلى هذين الوجهين لا حاجة إلى هذا المضمر الذي قدّره الحوفي، وقيل تمّ الكلام على قوله {يتفكروا} ثم استأنف إخباراً بانتفاء الجنة وإثبات النذارة، وقال أبو البقاء: في {ما} وجهان أحدهما: أنها باقية وفي الكلام حذف تقديره أو لم يتفكروا في قولهم به جنة، والثاني أنها استفهام أي أو لم يتفكروا أي شيء بصاحبهم من الجنون مع انتظام أقواله وأفعاله، وقيل هي بمعنى الذي تقديره أو لم يتفكروا في ما بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم انتهى وهي تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما ثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدل عنه.

وأنوَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} معطوف على {ما} في قوله {وما خلق} وبخوا على انتفاء نظرهم في ملكوت السموات والأرض وهي أعظم المصنوعات وأدلتها على عظمة الصانع ثم عطف عليه شيئاً عاماً وهو قوله {وما خلق الله من شيء} . {وأن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها {عسى} وما تعلقت به وقد وقع خبر الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل {والخامسة أن غضب الله عليها} فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية فلو كانت {أن} مشددة لم تقع {عسى} ولا جملة الدعاء لها لا يجوز علمت أن زيداً عسى أن يخرج ولا علمت أن زيداً لعنه الله وأنت تريد الدعاء وأجاز أبو البقاء أن تكون {أن} هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرّف مطلقاً يعنون ماضياً ومضارعاً وأمراً فشرطوا فيه التصرّف، و {عسى} فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن و {عسى} هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك عسى أن تقوم واسم {يكون} . قال الحوفي: {أجلهم} و {قد اقترب} الخبر، وقال الزمخشري وغيره: اسم {يكون} ضمير الشأن فيكون {قد اقترب أجلهم} في موضع نصب في موضع خبر {يكون} و {أجلهم} فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف فإذا قلت كان يقوم زيد فمن النحويين من زعم أنّ زيداً هو الاسم ويقوم في موضع نصب على الخبر ومنهم من منع ذلك ويجعل في ذلك ضمير الشأن والجواز اختيار ابن مالك والمنع اختيار ابن عصفور وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة التقسيم والدلائل في شرحنا لكتاب التسهيل. والضمير في بعدهفَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} للقرآن أو الرسول وقصته وأمره أو الأجل إذ لا عمل بعد الموت أقوال ثلاثة. قال الزمخشري: (فإن قلت) : بم يتعلق قوله {فبأي حديث بعده يؤمنون} ، (قلت) : بقوله: {عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} .

قرأ الحسن وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة والحرميان وابن عامر ونذرهم بالنون ورفع الراء وأبو عمرو وعاصم بالياء ورفع الراء وهو استئناف إخبار قطع الفعل أو أضمر قبله ونحن فيكون جملة اسمية، وقرأ ابن مصرّف والأعمش والأخوان وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم وروى خارجة عن نافع بالنون والجزم وخرج سكون الراء على وجهين أحدهما أنه سكن لتوالي الحركات كقراءة وما يشعركموَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} وينصركم فهو مرفوع والآخر أنه مجزوم عطفاً على محل {فلا هادي له} فإنه في موضع جزم فصار مثل قوله {فهو خير لكم} ونكفر في قراءة من قرأ بالجزم في راء ونكفر. ومثل قول الشاعر: أنّى سلكت فإنني لك كاشح وعلى انتقاصك في الحياة وازدد ومرساهايَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا} مصدر أي متى إرساها وإثباتها إقرارها والرّسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل وأرسيت السفينة والمرسا المكان الذي ترسو فيه، وقال الزمخشري: {مرساها} إرساؤها أو وقت إرسائها أي إثباتها وإقرارها انتهى، وتقديره أو وقت إرسائها ليس بجيد لأنّ {أيان} اسم استفهام عن الوقت فلا يصحّ أن يكون خبراً عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها {وأيان مرساها} مبتدأ وحكى ابن عطية عن المبرّد أن {مرساها} مرتفع بإضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإضمار {وأيان مرساها} جملة استفهامية في موضع البدل من {الساعة} والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأنّ الجملة فيها استفهام ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الجملة على موضع عن الساعة لأنّ موضع المجرور نصب ونظيره في البدل قولهم عرفت زيداً أبو من هو على أحسن المذاهب في تخريج هذه المسألة أعني في كون الجملة الاستفهامية تكون في موضع البدل.

و {يذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} أي شديداً صعباً وأصله أن يتعدى بعلى تقول ثقل عليّ هذا الأمر، وقال الشاعر: ثقيل على الأعداء فإما أن يدّعي أنّ في بمعنى على كما قال بعضهم في قوله {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي ويضمن {ثقلت} معنى يتعدى بفي. وعنهايَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} إما أن يتعلق بيسألونك أي يسألونك عنها وتكون صلة {حفي} محذوفة والتقدير كأنك حفي بها أي معتن بشأنها حتى علمت حقيقتها ووقت مجيئها أو كأنك حفيّ بهم أو معتن بأمرهم فتجيبهم عنها لزعمهم أن علمها عندك وحفي لا يتعدى بعن قال تعالى: {إنه كان بي حفيًّا} فعداه بالباء وإما أن يتعلق بحفي على جهة التضمين لأنّ من كان حفياً بشيء أدركه وكشف عنه فالتقدير كأنك كاشف بحفاوتك عنها وإما أن تكون عن بمعنى الباء كما تكون الباء بمعنى عن في قوله، فإن تسألوني بالنساء فإنني، أي عن النساء، وقرأ عبد الله كأنك حفيّ بها بالباء مكان عن أي عالم بها بليغ في العلم بها. {قل إنما علمها عند الله} أي علم مجيئها في علم الله وظرفية {عند} مجازية كما تقول النحو عند سيبويه أي في عليه وتكرير السؤال والجواب على سبيل التوكيد ولما جاء به من زيادة قوله {كأنك حفي عنها} .

وقدم هنا النفع على الضرّ لأنه تقدم من يهد الله فهو المهتدي ومن يضللقُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فقدّم الهداية على الضلال وبعده لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء فناسب تقديم النفع وقدم الضرّ في يونس على الأصل لأن العبادة لله تكون خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ولذلك قال {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} فإذا تقدم النفع فلسابقة لفظ تضمنه وأيضاً ففي يونس موافقة ما قبلها ففيها {ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ما لا ينفعنا ولا يضرّنا} لأنه موصول بقوله {ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهاوفي يونس {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} وتقدمه {ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين} وفي الُبياء قال: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم} وتقدمه قول الكفار لإبراهيم في المحاجة {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} وفي الفرقان {ويعبدون من دون الله ما لا ينقعهم ولا يضرهم} وتقدمه {ألم ترى إلى ربك كيف مدّ الظل ونعم كثيرة} وهذا النوع من لطائف القرآن العظيم وساطع براهينه والاستثناء متصل أي إلا ما شاء الله من تمكيني منه فإني أملكه وذلك بمشيئة الله، وقال ابن عطية: وهذا الاستثناء منقطع انتهى، ولا حاجة لدعوى الانقطاع مع إمكان الاتصال.

والظاهر أن قوله وما مسني السوءوَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ} معطوف على قوله {لاستكثرت من الخير} فهو من جواب {لو} ويوضح ذلك أنه تقدم قوله {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً} فقابل النفع بقوله {لاستكثرت من الخير} وقابل الضرّ بقوله {وما مسني السوء} ولأنّ المترتب على تقدير علم الغيب كلاهما وهما اجتلاب النفع واجتناب الضرّ ولم نصحب ما النافية جواب لو لأن الفصيح أن لا يصحبهما كما في قوله تعالى {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} والظاهر عموم الخبر وعدم تعيين {السوء} . وقال مؤرّج السدوسي: {السوء} الجنون بلغة هذيل وهذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لو {لا استكثرت من الخير} فقط وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمر أن لا أحدهما فيكون إذ ذاك جواباً قاصراً. وقيل: أخبر أنه نذير وتمّ الكلام ومعناه أنه نذير للعالم كلهم ثم أخبر أنه بشير للمؤمنين به فهو وعد لمن حصل له الإيمان، وقيل حذف متعلق النذارة ودلّ على حذفه إثبات مقابله والتقدير نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون كما حذف المعطوف في قوله سرابيل تقيكم الحرّإِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي والبرد وبدأ بالنذارة لأن السائلين عن الساعة كانوا كفاراً أما مشركو قريش وأما اليهود فكان الاهتمام بذكر الوصف من قوله {إن أنا إلاّ نذير} آكد وأولى بالتقديم والله تعالى أعلم.m

والضمير في يشركونهُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْءَاتَيْتَنَا صَلِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ * فَلَمَّآءَاتَهُمَا صَلِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآءَاتَهُمَا فَتَعَلَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَمِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّلِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَهِلِينَ * وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ * وَإِذَا

لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالأٌّصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَفِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك انتهى: وأنث في قوله منهالِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ذهاباً إلى لفظ النفس ثم ذكر في قوله {ليسكن} حملاً على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذكر آدم أو غيره على اختلاف التأويلات وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى. أما والحمل فكانا في الأرض والتغشي والغشيان والإتيان كناية عن الجماع ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى ويحتمل أن يكون حملاًفَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} مصدراً.

وقرأ الجمهور {فمرت به} ، قال الحسن: أي استمرت به، وقيل: هذا على القلب أي فمر بها أي استمر بها، وقال الزمخشري: فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، وقيل: {حملت حملاً خفيفاً} يعني النطفة {فمرت به} فقامت به وقعدت فاستمرت به انتهى، وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب {فمرت به} خفيفة الراء من المرية أي فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض، وقيل معناه استمرت به لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه نحو وقرن فيمن فتح من القرار، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي والجحدري: فمارت به بألف وتخفيف الراء أي جاءت وذهبت وتصرفت به كما تقول مارت الريح موراً ووزنه فعل، وقال الزمخشري: من المرية كقوله تعالى {أفتمارونه} ومعناه ومعنى المخففة فمرت وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت به ووزنه فاعل، وقرأ عبد الله فاستمرت بحملها، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك فاستمرت به، وقرأ أبي بن كعب والجرمي فاستمارت به والظاهر رجوعه إلى المرية بني منها استفعل كما بنى منها فاعل في قولك ماريت. متعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أي دعوا اللهفَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْءَاتَيْتَنَا صَلِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ} ورغبا إليه في أن يؤتيَهما {صالحاً} . {لنكونن} جواب قسم محذوف تقديره وأقسما لئن آتيتنا أو مقسمين {لئن آتيتنا} وانتصاب {صالحاً} على أنه مفعول ثان لآتيتنا وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي ابناً صالحاً. من جعل الآية في آدم وحواء جعل الضمائر والإخبار لهما. قال الزمخشري: والضمير في آتيتنافَلَمَّآءَاتَهُمَا صَلِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآءَاتَهُمَا} و {لنكونن} لهما ولكلّ من تناسل من ذريتهما. على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك فيما آتاهما أي آتى أولادهما وقد دلّ على ذلك بقوله تعالى {فتعالى الله عما يشركون} حيث جمع الضمير.

ويكون الضمير في {يشركون} عائداً على آدم وحواء وإبليس لأنه مدبّر معهما تسمية الولد عبد الحرث، وقيل {جعلا} أي جعل أحدهما يعني حواء وأما من جعل الخطاب للناس وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء أو جعل الخطاب لمشركي العرب أو لقريش على ما تقدم ذكره فيتّسق الكلام اتساقاً حسناً من غير تكلف تأويل ولا تفكيك. وقوله {فتعالى الله عما يشركون} كلام منفصل يراد به مشركو العرب، قال ابن عطية: وهذا تحكّم لا يساعده اللفظ انتهى، والضمير في {له} عائد على الله ومن زعم أنه عائد على إبليس فقوله بعيد لأنه لم يجر له ذكر وكذا يبعد قول من جعله عائداً على الولد الصالح وفسّر الشرك بالنصيب من الرزق في الدنيا وكانا قبله يأكلان ويشربان وحدهما ثم استأنف فقال: {فتعالى الله عن ما يشركون} يعني الكفار، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وإبان بن ثعلب ونافع وأبو بكر عن عاصم شركاً على المصدر وهو على حذف مضاف أي ذا شرك ويمكن أن يكون أطلق الشرك على الشريك كقوله: زيد عدل، قال الزمخشري: أو أحدثا لله إشراكاً في الولد انتهى، وقرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمر وشراء على الجمع ويبعد نوجيه الآية أنها في آدم وحواء على هذه القراءة وتظهر باقي الأقوال عليها، وفي مصحف أبيّ {فلما آتاهما صالحاً} أشركا فيه، وقرأ السلمي {عما تشركون} بالتاء التفاتاً من الغيبة للخطاب وكان الضمير بالواو وانتقالاً من لتثنية للجمع وتقدم توجيه ضمير الجمع على من يعود.

وهمأَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} عائد على معنى ما وقد عاد الضمير على لفظ ما في {يخلق} وعبّر عن الأصنام بقوله {وهم} كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائهم. وقيل أتى بضمير من يعقل لأنّ جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم فغلب من يعقل كل مخلوق لله تعالى ويحتمل أن يكون {وهم} عائداً على ما عاد عليه ضمير الفاعل في {أيشركون} أي وهؤلاء المشركون يخلقون أي كان يجب أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلوا إلاههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً. وقرأ السلمي أتشركون بالتاء من فوق فيظهر أن يكون {وهم} عائداً على ما على معناها ومن جعل ذلك في آدم وحواء قال: إنّ إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال إن شئت أن يعيش لك الولد فسمّه عبد شمس فسماه كذلك فإياه عنى بقوله {أتشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون} عائد على آدم وحوّاء والابن المسمى عبد شمس. الظاهر أن الخطاب للكفار انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الالتفات والتوبيخ على عبادة غير الله ويدلّ على أنّ الخطاب للكفار قوله بعد أنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكموَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَمِتُونَ * إِنَّ} وضمير المفعول عائد على ما عادت عليه هذه الضمائر قبل وهو الأصنام. عطفت الجملة الاسمية على الفعلية لأنها في معنى الفعلية والتقدير أم صمتم، وقال ابن عطية: وفي قوله {أدعوتموهم أم أنتم} عطف الاسم على الفعل إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر: سواء عليك النفر أم بت ليلة

بأهل القباب من نمير بن عامر انتهى. وليس من عطف الاسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية وأما البيت فليس من عطف الاسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الاسم المقدّر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت وكانت الجملة الثانية إسمية لمراعاة رؤوس الآي ولأنّ الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار. هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شيء من نفع أو ضرّ. وقرأ ابن جبير إنإِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} خفيفة و {عباداً أمثالكم} بنصب الدال واللام واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أنّ إن هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الاسم ونصبت الخبر فعباداً أمثالكم خبر منصوب.

وإعمال {إن} إعمال ما الحجازية فيه خلاف أجاز ذلك الكسائي وأكثر الكوفيين ومن البصريين ابن السّراج والفارسي وابن جني ومنع من إعماله الفرّاء وأكثر البصريين واختلف النقل عن سيبويه والمبرّد والصحيح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرنا ذلك مشبعاً في شرح التسهيل وقال النحاس: هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها الثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد والثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أن إذا كانت بمعنى ما فيقول: إن زيد منطلق لأن عمل ما ضعيف وإن بمعناها فهي أضعف منها والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها إيجاب انتهى وكلام النحاس هذا هو الذي لا ينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعيّ جليل ولها وجه في العربية وأما الثلاث جهات التي ذكرها فلا يقدح شيء منها في هذه القراءة أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جدًّا لا يضرّ ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا تكون فيه مخالفة للسواد وأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم في كلام سيبويه في {أنّ} وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عن الكسائي أنه حكى إعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أن إن للنفي ليس بصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عباداً أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين الآخر وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى، وقد خرجت هذه القراءة في شرح التسهيل على وجه غير ما ذكروه وهو أن إن هي المخففة من الثقيلة وأعملها عمل المشددة وقد ثبت أن إن المخففة يجوز إعمالها عمل المشدّدة في غير المضمر بالقراءة المتواترة وأن كلا لما وبنقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءة خبرها نصب عمر بن أبي ربيعة المخزومي في قوله: إذا اسود جنح الليل فلتأتِ ولتكن

خطاك خفافاً إن حرّاسنا أسدا وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار إنّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون، فهذه القراءة الشاذة تتخرّج على هذه اللغة أو تتأوّل على تأويل المخالفين لأهل هذا المذهب وهو أنهم تأولوا المنصوب على إضمار فعل كما قالوا في قوله: يا ليت أيام الصّبا واجعا إن تقديره أقبلت رواجعا فكذلك تؤول هذه القراءة على إضمار فعل تقديره {أن الذين تدعون من دون الله} تدعون عباداً أمثالكم، وتكون القراءتان قد توافقتا على معنى واحد وهو الإخبار أنهم عباد، ولا يكون تفاوت بينهما وتخالف لا يجوز في حقّ الله تعالى وقرىء أيضاً إن مخففة ونصب عباداً على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر {أي أن الذين تدعونهم من دون الله} في حال كونهم عباداً أمثالكم في الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونوا آلهة. { هذا استفهام إنكار وتعجيب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها. وأمأَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} هنا منقطعة فتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الأبطال وإنما هو تقدير على نفي كلّ واحدة من هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما هو دونه إلى آخرها. وولا يستطيعونلاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} معطوف على قوله {ما لا يخلق} وهو في حيّز الإنكار والتقريع والتوبيخ على إشراكهم.

تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في وإن تدعوهم هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحسّ وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوّروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر ثم نفى عنهم الإبصار كقوله يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاًوَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} ومعنى إليك أيها الداعي وأفرد لأنه اقتطع قوله: {وتراهم ينظرون إليك} من جملة الشرط. وذهب بعض المعتزلة إلى الاحتجاج بهذه الآية على أن العباد ينظرون إلى ربهم ولا يرونه ولا حجة لهم في الآية لأنّ النظر في الأصنام مجاز محض وجعل الضمير للأصنام اختاره الطبري. وقال مجاهد والحسن والسدّي: الضمير المنصوب {في تدعوهم} يعود على الكفار. وقرأ الجمهور أن وليي اللَّهإِنَّ وَلِيِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّلِحِينَ} بياء مشددة وهي ياء فعيل أدغمت في لام الكلمة وبياء المتكلم بعدها مفتوحة، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بياء واحدة مشددة مفتوحة ورفع الجلالة، قال أبو علي لا يخلو من أن يدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة وهو لا يجوز لأنه ينفك الإدغام الأول أو تدغم ياء فعيل في ياء الإضافة، ويحذف لام الفعل فليس إلا هذا انتهى ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أن لا يكون ولي مضافاً إلى ياء متكلم بل هو اسم نكرة اسم {إن} والخبر {للَّه} وحذف من وليّ التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف من قوله {قل هو اللَّه أحد اللَّه} وقوله: {ولا ذاكر اللَّه إلا قليلاً} والتقدير إنّ وليا حق وليّ اللَّه الذي نزل الكتاب وجعل اسم {إن} نكرة والخبر معرفة في فصيح الكلام. قال الشاعر: وإن حراماً أن أسب مجاشعاً

بآبائي الشمّ الكرام الخضارم وهذا توجيه لهذه القراءة سهل واختلف النقل عن الجحدري فنقل عنه صاحب كتاب اللوامع في شواذ القراءات أن وليّ بياء مكسورة مشدّدة وحذفت ياء المتكلم لما سكنت التقى ساكنان فحذفت، كما تقول: إن صاحبي الرجل الذي تعلم، ونقل عنه أبو عمرو الداني إنّ ولي الله بياء واحدة منصوبة مضافة إلى الله وذكرها الأخفش وأبو حاتم غير منصوبة وضعفها أبو حاتم وخرّج الأخفش وغيره هذه القراءة على أن يكون المراد جبريل، قال الأخفش: فيصير {الذي نزل الكتاب} من صفة جبريل بدلالة {قل نزله روح القدس} ، وفي قراءة العامة من صفة الله تعالى انتهى، يعني أن يكون خبر {إن} هو قوله {الذي نزل الكتاب} ، قال الأخفش: فأما و {هو يتولى الصالحين} فلا يكون إلا من الأخبار عن الله تعالى وتفسير هذه القراءة بأن المراد بها جبريل وإن احتملها لفظ الآية لا يناسب ما قبل هذه الآية ولا ما بعدها ويحتمل وجهين من الإعراب ولا يكون المعنى جبريل أحدهما أن يكون {ولي اللَّه} اسم {إن} والذي نزل الكتاب هو الخبر على تقدير حذف الضمير العائد على الموصول، والموصول هو النبي صلى الله عليه وسلّم والتقدير أنّ ولي الله الشخص الذي نزل الكتاب عليه فحذف عليه وإن لم يكن فيه شرط جواز الحذف المقيس لكنه قد جاء نظيره في كلام العرب. قال الشاعر: وإن لساني شهدة يشتفى بها وهو على من صبه اللَّه علقم التقدير وهو على من صبه الله عليه علقم. وقال الآخر: فأصبح من أسماء قيس كقابض على الماء لا يدري بما هو قابض التقدير بما هو قابض عليه، وقال الآخر: لعلّ الذي أصعدتني أن يردني إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره يريد أصعدتني به. وقال الآخر: فأبلغن خالد بن نضلة والمرء معني بلوم من يثق يريد يثق به. وقال الآخر: ومن حسد يجوز عليّ قومي وأي الدّهر ذر لم يحسدوني يريد لم يحسدوني فيه. وقال الآخر: فقلت لها لا والذي حج حاتم

أخونك عهداً إنني غير خوّان قالوا يريد حج حاتم إليه فهذه نظائر من كلام العرب يمكن حمل هذه القراءة الشاذة عليها، والوجه الثاني أن يكون خبر {إن} محذوفاً لدلالة ما بعده عليه التقدير {إن ولي اللَّه الذي نزل الكتاب} من صالح أو الصالح، وحذف لدلالة وهو يتولى الصالحين عليه وحذف خبر إن وأخواتها لفهم المعنى جائز ومنه قوله تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز. الآية وقوله: إن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللَّه والمسجد الحرام الآية وسيأتي تقدير حذف الخبر فيهما إن شاء الله. { أي من دون الله ويتعين عود الضمير في من دونه على الله وبذلك يضعف من فسر الذي نزل الكتابوَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} بجبريل. وفاعل ينزعنك هو نزع على حدّ قولهم جد جده أو على إطلاق المصدر. وانظر لحسن هذا البيان حيث جاء الكلام للرسول كان الشرط بلفظ إنوَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَنُهُمْ} المحتملة للوقوع ولعدمه، وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقيق أو للترجيح، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمسّ واقع لا محالة أو يرجح وقوعه وهو إلصاق البشرة وهو هنا استعارة وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليه وسلّمبالاستعاذة، وهنا جاءت الجملة خبريّة في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا. و {اتقوا} قيل: عامّة في كل ما يتقى، وقيل: الشرك والمعاصي، وقيل: عقاب الله، وقرأ النحويان وابن كثير: طيف فاحتمل أن يكون مصدراً من طاف يطيف طيفاً أنشد أبو عبيدة: أني ألمّ بك الخيال يطيف

ومطابه لك ذكره وشغوف واحتمل أن يكون مخفّفاً من طيف كميت وميت أو كلين من لين لأنّ طاف المشددة يحتمل أن يكون من طاف يطيف ويحتمل أن يكون من طاف يطوف، وقرأ باقي السبعة {طائف} اسم فاعل من طاف، وقرأ ابن جبير طيف بالتشديد وهو فيعل وإلى أن الطيف مصدر مال الفارسي جعل الطيف كالخطرة والطائف كالخاطر، وقال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان. قال ابن عطية: وكيف هذا؟ وقد قال الأعشى: وتصبح عن غب السّرى وكأنها ألمّ بها من طائف الجن أولق انتهى. ولا يتعجب من تفسير الكسائي الطائف بأنه ما طاف حول الإنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه إن كان تعجبه وإنكاره من حيث خصّص الإنسان والذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال كأنها وإن كان تعجّبه من حيث فسّر بأنه ما طاف حول الإنسان، فطائف الجن يصك أن يقال طاف حول الإنسان وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي عجلة بحالتها إذا ألمّ بها أولق من طائف الجنّ، وقال أبو زيد: طاف أقبل وأدبر يطوف طوفاً وطوافاً وأطاف استدار القوم وأتاهم من نواحيهم، وطاف الخيال ألمّ يطيف طيفاً وزعم السهيلي أنه لم يقل اسم فاعل من طاف الخيال قال: لأنه تخيل لا حقيقة وأما فطاف عليها طائف من ربك فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة انتهى، وقال حسّان: جنّيّة أرّقني طيفها

تذهب صبحاً وتُرى في المنام الضمير في وإخوانهموَإِخْوَنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} عائد على الجاهلين أو على ما دل عليه قوله {إن الذين اتقوا} وهم غير المتقين لأن الشيء قد يدل على مقابله فيضمر ذلك المقابل لدلالة مقابله عليه وعنى بالإخوان على هذا التقدير الشياطين كأنه قيل: والشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدّون الجاهلين أو غير المتقين في الغيّ قالوا وفي {يمدّونهم} ضمير الإخوان فيكون الخبر جارياً على من هو له والضمير المجرور والمنصوب للكفار وهذا قول قتادة، وقال ابن عطية: ويحتمل أن يعودا جميعاً على الشياطين ويكون المعنى وإخوان الشياطين في الغيّ بخلاف الأخوة في الله يمدون الشياطين أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ولا يترتب هذا التأويل على أن يتعلق {في الغيّ} بالإمداد لأنّ الإنس لا يعودون الشياطين انتهى، ويمكن أن يتعلق {في الغيّ} على هذا التأويل بقوله {يمدّونهم} على أن تكون {في} للسببية أي {يمدّونهم} بسبب غوايتهم نحو دخلت امرأة النار في هرة أي بسبب هرة، ويحتمل أن يكون {في الغيّ} حالاً فيتعلق بمحذوف أي كائنين ومستقرين في الغيّ فيبقى {في الغيّ} في موضعه لا يكون منعلقاً بقوله {وإخوانهم} وقد جوز ذلك ابن عطية وعندي في ذلك نظر فلو قلت: مطعمك زيد لحماً تريد مطعمك لحماً زيد فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر لكان في جواز نظر لأنك فصلت بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما الذي هو المبتدأ ويحتمل أن يختلف الضمير فيكون في {وإخوانهم} عائد على الشياطين الدالّ عليهم الشيطان أو على الشيطان نفسه باعتبار أنه يراد به الجنس نحو قوله: {أولياؤهم الطاغوت} المعنى الطواغيت ويكون في {يمدّونهم} عائد على الكفار والواو في {يمدّونهم} عائدة على الشياطين وإخوان الشياطين {يمدّونهم} الشياطين ويكون الخبر جرى على غير من هو له، لأن الإمداد مسند إلى

الشياطين لا لإخوانهم وهذا نظير قوله: قوم إذا الخيل جالوا في كواثيها وهذا الاحتمال هو قول الجمهور وعليه فسّر الطبري، وقال الزمخشري: هو أوجه لأن {إخوانهم} في مقابلة {الذين اتقوا} ، وقرأ نافع {يمدونهم} مضارع أمدّ، وباقي السبعة {يمدونهم} من مدّ وتقدم الكلام على ذلك في قوله {ويمدّهم في طغيانهم يعمهون} ، وقرأ الجحدري يمادّونهم من مادّ على وزن فاعل، وقرأ الجمهور: {لا يقصرون} من أقصر أي كفّ. قال الشاعر: لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ولا مقصر يوماً فيأتيني بقر أي ولا هو نازع عما هو فيه. أخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات، وقيل: هو على حذف مضاف أي ذو بصائر. قال أبو عبد الله الرازي: أصل البصيرة الإبصار لما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلالة التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصيرة تسميةً للسبب باسم المسبّب.k قال جماعة منهم الزجاج: ليس المراد الصلاة ولا غيرها وإنما المراد بقوله فاستمعوا له وأنصتواهَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه، كقولك: سمع الله دعاءك أي أجابك، وقال الحسن: هي على عمومها ففي أي موضع قرىء القرآن وجب على كل حاضر استماعه والسكوت والخطاب في قوله {فاستمعوا} إن كان للكفار فترجى لهم الرحمة باستماعه والإصغاء إليه بأن كان سبباً لإيمانهم وإن كان للمؤمنين فرحمتهم هو ثوابهم على الاستماع والإنصات والعمل بمقتضاه، وإن كان للجميع فرحمة كلّ منهم على ما يناسبه ولعلّ باقية على بابها من توقع الترجي، وقيل: هي للتعليل.

وانتصب تضرّعاً وخيفةوَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالأٌّصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَفِلِينَ} على أنهما مفعولان من أجلهما لأنهما يتسبب عنهما الذكر وهو التضرّع في اتصال الثواب والخوف من العقاب ويحتمل أن ينتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال أي متضرعاً وخائفاً أو ذا تضرُّع وخيفة، وقرىء وخفية والظاهر أن قوله {واذكر} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم وقيل: خطاب لكلّ ذاكر، وقال ابن عطية: خطاب له ويعمّ جميع أمته، والظاهر تعلّق الذكر بالرب تعالى لأنّ استحضار الذات المقدسة استحضار لجميع أوصافها، وقيل: هو على حذف مضاف أي واذكر نعم ربك في نفسك باستدامة الفكر حتى لا تنسى نعمه الموجبة لدوام الشكر، وفي لفظة {ربك} من التشريف بالخطاب والإشعار بالإحسان الصادر من المالك للملوك ما لا خفاء فيه ولم يأت التركيب واذكر الله ولا غيره من الأسماء وناسب أيضاً لفظ الرب قوله {تضرعاً وخيفة} لأنّ فيه التصريح بمقام العبودية والظاهر أن قوله «ودون الجهر من القول» حالة مغايرة لقوله {في نفسك} لعطفها عليها والعطف يقتضي التغاير. قال قتادة: الغدوّ صلاة الصبح {والآصال} : صلاة العصر، وقيل: خصهما بالذكر لفضلهما، وقيل: المعنى جميع الأوقات وعبر بالطرفين المشعرين بالليل والنهار والغدوّ، قيل: جمع غدوة فعلى هذا تظهر المقابلة لاسم جنس بجمع ويكون المراد بالغدوات والعشايا وإن كان مصدر الغداء فالمراد بأوقات الغدوّ حتى يقابل زمان مجموع بزمان مجموع. وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري والإيصال جعله مصدراً لقولهم آصلت أي دخلت في وقت الأصيل فيكون قد قابل مصدراً بمصدر ويكون كأعصر أي دخل في العصر وهو العشي وأعتم أي دخل في العتمة.

سورة الأنفال

وتقديم المجرور يؤذن بالاختصاص أي لا يسجدون إلا له والذي يظهر أنه إنما قدم المجرور ليقع الفعل فاصلة فاخره لذلك ليناسب ما قبله من رؤوس الآي. سورة الأنفال خمس وسبعون آية مدنية الشّوكة قال المبرد السلاح وأصله من الشوك النبت النبت الذي له خربشة السلاح به يقال رجل شاكي السلاح إذا كان حديد السّنان والنّصل وأصله شائك وهو اسم فاعل من الشوكة قال: لديّ أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم وقال أبو عبيدة: الشاكي والشائك جميعاً ذو الشوكة وانجر في سلاحه ويوصف به السلاح كما يوصف به الرجل قال: وألبس من رضاه في طريقي سلاحاً يذهر الأبطال شاكا ويقال: رجل شاكٍ وسلاح شاكٍ وشاك فشاك أصله شوك نحو كبش صاف أي صوف وشاك إما محذوفة أو مقلوب وإيضاح هذا في علم النحو. البنان الأصابع وهو اسم جنس واحده بنانة وقالوا فيه البنام بالميم بدل النون قال رؤبة: يا سال ذات المنطق التمتام وكفك المخضّب البنام وضمير الفاعل في يسألونك} ليس عائداً على مذكور قبله إنما يفسّره وقعة بدر، فهو عائد على من حضرها من الصحابة وكان السائل معلوم معين ذلك اليوم فعاد الضمير عليه والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّموالسؤال قد يكون لاقتضاء معنى في نفس المسؤول فيتعدى إذ ذاك بعن كما قال: سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

وقال تعالى: {يسألونك عن الساعة} {يسألونك عن الشهر الحرام} وكذا هنا {يسألونك عن الأنفال} حكمها ولمن تكون ولذلك جاء الجواب {قل الأنفال لله والرسول} وقد يكون السؤال لاقتضاء مال ونحوه فيتعدى إذ ذاك لمفعولين تقول سألت زياداً مالاً وقد جعل بعض المفسرين السؤال هنا بهذا المعنى وادعى زيادة {عن} ، وأن التقدير يسألونك الأنفال، وهذا لا ضرورة تدعو إلى ذلك، وينبغي أن تحمل قراءة من قرأ بإسقاط عن على إرادتها لأن حذف الحرف، وهو مراد معنى، أسهل من زيادته لغير معنى غير التوكيد وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمد الباقر وولده جعفر الصادق وعكرمة وعطاء والضحاك وطلحة بن مصرف. وقيل {عن} بمعنى من أي يسألونك من الأنفال ولا ضرورة تدعو إلى تضمين الحرف معنى الحرف، وقرأ ابن محيصن علنفال نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وحذف الهمزة واعتدّ بالحركة المعارضة فأدغم نحو، وقد تبين لكم. و {ذات هنا نعت لمفعول محذوف أي وأصلحوا} أحوالاً {ذات} افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسةً للبين أُضيفت صفتها إليه كما تقول اسقني ذا إنائك أي ماء صاحب إنائك لما لابس الماء الإناء وصف بذا وأُضيف إلى الإناء والمعنى اسقني ما في الإناء من الماء. وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال {ذات بينكم} الحال التي بينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء ووجهه الطبري، وهو قول بين الانتقاض انتهى وتلخص أن البين يطلق على الفراق ويطلق على الوصل وهو قول الزجاج هنا قال ومثله {لقد تقطّع بينُكم} ويكون ظرفاً بمعنى وسط، ويحتمل {ذات} أن تضاف لكل واحد من هذه المعاني وإنما اخترنا في أنه بمعنى الفراق لأن استعماله فيه أشهر من استعماله في الوصل ولأن إضافة ذات إليه أكثر من إضافة ذات إلى بين الظرفية لأنها ليست كثيرة التصرف بل تصرّفها كتصرّف أمام وخلف وهو تصرّف متوسط ليس بكثير.

قال: وجواب تلشرط في قوله المتقدم {وأطيعوا} هذا مذهب سيبويه ومذهب أبي العباس أن الجوابَ محذوف متخر يدلّ عليه المتقدم تقديره {إن كنتم مؤمنين أطيعوا} ومذهبه في هذا أن لا يتقدّم الجواب على الشرط انتهى. والذي مخالف لكلام النحاة فإنهم يقولون إن مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح. ويحتمل أن يكون ذكر اللهإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْءَايَتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} على حذف مضاف أي ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه قاله الزجاج. الظاهر أن قوله {وعلى ربهم يتوكلون} داخل في صلة {الذين} كما قلنا قبل، وقيل هو مستأنف. الأحسن أن يكون الذينالَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} صفة للذين السابقة حتى تدخل في حيّز الجزئية فيكون ذلك إخباراً عن المؤمنين بثلاث الصكفة القلبية وعنهم بالصفة البدنية والصفة المالية وجمع أفعال القلوب لأنها أشرف وجمع في أفعال الجوارح بين الصلاة والصدقة لأنهما عموداً أفعال وأجاز الحوفي والبريزي أن يكون {الذين} بدلاً من {الذين} وأن يكون خبر مبتدأ محذوف. قال ابن عطيّة حقًّاأُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه وهو المصدر غير المنتقل والعامل فيه أحقّ ذلك حقاً انتهى، ومعنى ذلك أنه تأكيد لما تضمنته الجملة من الإسناد الخبري وأنه لا مجاز في ذلك الإسناد. وقال الزمخشري {حقاً} صفة للمصدر المحذوف أي {أولئك هم المؤمنون} إيماناً حقًّا وهو مصدر مؤكد للجملة التي هي أولئك هم المؤمنون كقوله هو عبد الله حقاً أي حقّ ذلك حقاً.

وأبعد من زعم أن الكلام ثم عند قوله {أولئك هم المؤمنون} وأنّ {حقاً} متعلق بما بعده أي {حقاً لهم درجات} وهذا لأنّ انتصابَ {حقاً} على هذا التقدير يكون عن تمام جملة الابتداء بمكان التأخير عنها لأنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة فلا يجوز تقديمه وقد أجازه بعضهم وهو ضعيف. وكريملَّهُمْ دَرَجَتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} صفة تقتضي رفع المقام كقوله ثوب كريم وحسب كريم. اختلفوا على خمسة عشر قولاً. أحدها أن الكاف بمعنى واو القسم واو القسم وما بمعنى الذي واقعة على ذي العلم وهو الله كما وقعت في قوله وما خلق الذكر والأنثىكَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ * يُجَدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} وجواب القسم {يجادلونك} ، والتقدير والله الذي أخرجك من بيتك يجادلونك في الحق قاله أبو عبيدة وكان ضعيفاً في علم النحو، وقال الكرماني هذا سهو، وقال ابن الأنباري الكاف ليست من حروف القسم انتهى. وفيه أيضاً أن جواب القسم بالمضارع المثبت جاء بغير لام ولا نون توكيد ولا بدّ منهما في مثل هذا على مذهب البصريين أو من معاقبة أحدهما الآخر على مذهب الكوفيين، أما خلوّه عنهما أو أحدهما فهو قول مخالف لما أجمع عليه الكوفيون والبصريون. القول الثاني أن الكاف بمعنى إذ وما زائدة تقديره أذكر إذ أخرجك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أن الكاف تكون بمعنى إذ في لسان العرب ولم يثبت أن ما تزاد بعد هذا غير الشرطيّة وكذلك لا تزاد ما ادعى أنه بمعناها، القول الثالث الكاف بمعنى على وما بمعنى الذي تقديره امض على الذي أخرجك ربك من بيتك وهذا ضعيف لأنه لم يثبت أنّ الكاف تكون بمعنى على ولأنه يحتاج الموصول إلى عائد وهو لا يجوز أن يحذف في مثل هذا التركيب.

القول الرابع قال عكرمة: التقدير {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} كما أخرجك في الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لهم، القول الخامس قال الكسائي وغيره كما أخرجك ربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودّون غير ذات الشوكة من بعدما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون، قال ابن عطية والتقدير على هذا التأويل {يجادلونك} في الحق مجادلةً لكراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهة وكذا وقع التشبيه في المعنى وقائل هذا المقالة يقول إنّ المجادلين هم المشركون. القول السادس قال الفراء: التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك انتهى. قال ابن عطية: والعبارة بقوله إمضِ لأمرك ونفل من شئت غير محرّرة وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سالهم عن الأنفال كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم فكانت هذه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلّمبإخراجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة وتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ههنا الخروج، وحكم الله في النفل بأنه لله والرسول فهو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلّممن بيته ثم كانت الخيرة في القصتين مما صنع الله وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله {يجادلونك} كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعدما تبين الحقّ فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان وهذا الذي ذكرت من أن يجادلونك في الكفار منصوص، قال ابن عطية: فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن وصف اللفظ انتهى. ونعني بالقولين قول الفراء وقول الكسائي وقد كثر الكلام في هاتين المقالتين ولا يظهران ولا يلتئمان من حيث دلالة العاطف.

القول السابع قال الأخفش: الكاف نعت لحقاً والتقدير هم المؤمنون حقًّا كما أخرجك، قال ابن عطية والمعنى على هذا التأويل كما زاد لا يتناسق. القول الثامن أن الكاف في موضع رفع والتقدير {كما أخرجك ربك} فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر. قال ابن عطية: وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر. القول التاسع قال الزجاج الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لله ثباتاً كما أخرجك ربك وهذا الفعل أخذه الزمخشري وحسنه. فقال ينتصب على أنه صفة مصدر للفعل المقدّر في قوله {الأنفال لله والرسول} أي الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون انتهى، وهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين المشبّه والمشبّه به ولا يظهر كبير معنى لتشبيه هذا بهذا بل لو كانا متقاربين لم يظهر للتشبيه كبير فائدة. القول العاشر أن الكاف في موضع رفع والتقدير {لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} هذا وعد حقّ {كما أخرجك} وهذا في حذف مبتدأ وخبر ولو صرّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن. القول الحادي عشر أنّ الكاف في موضع رفع أيضاً والمعنى {وأصلحوا ذات بينكم} ذلكم خير لكم {كما أخرجك} فالكاف نعت لخبر ابتدأ محذوف وهذا أيضاً فيه حذف وطول فصل بين قوله {وأصلحوا} وبين {كما أخرجك} .

القول الثاني عشر أنه شبه كراهية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمبخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال: يرتفع محلّ الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل القراءة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب وهذا النهي قاله هذا القائل وحسّنه الزمخشري هو ما فسر به ابن عطية قول الفراء بقوله هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال إلى آخر كلامه. القول الثالث عشر أن المعنى قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقاً. القول الرابع عشر أنّ التشبيه وقع بين إخراجين أي إخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخير والنصر والظفر كإخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر. القول الخامس عشر الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مدداً فأمددتك وقويْتُك وأزحت عللك فخذْهم الآن فعاقبهم بكذا وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك ما شكرتني عليه فتقدير الآية {كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق} وغشاكم النعاس أمنه منه يعني به إياه ومن معه وأنزل من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان كأنه يقول قد أزحت عللكم وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتل لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وملخّص هذا القول الطويل أن {كما أخرجك} يتعلق بقوله {فاضربوا} وفيه من الفصل والبعد ما لا خفاء به وقد انتهى ذكر هذه الأقوال الخمسة عشر التي وقفنا عليها.

ثم قلت له ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره، والتقدير فكأنه قيل {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق} أي بسبب إظهار دين الله وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيباً للقتال وخوفاً من الموت إذ كان أمر النبي صلى الله عليه وسلّملخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدّك بملائكته ودلّ على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} الآيات، ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل، ود نص النحويون على أنها قد تحدث فيها معنى التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} وأنشدوا: لا تشتم الناس كما لا تشتم أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع على هذا المعنى كما تطيع الله يدخلك الجنة أي لأجل طاعتك الله يدخلك الجنة. «والواو في {وإن فريقاً} واو الحال» «مقعول» {لكارهون} هو الخروج. والظاهر أن ضمير الرفع في {يجادلونك} عائد على فريق المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام، وقيل الضمير يعود على المشركين وجدالهم في الحق هو في شريعة الإسلام.

وقرأ مسلمة بن محارب بعدكموَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَفِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا} بسكون الدال لتوالي الحركات وابن محيصن {الله إحدى} بإسقاط همزة {إحدى} على غير قياس، وعنه أيضاً أحد على التذكير إذ تأنيث الطائفة مجاز، وأدغم أبو عمرو {الشوكة تكون} ، وقرأ مسلم بن محارب بكلمته على التوحيد وحكاها ابن عطية عن شيبة وأبي جعفر ونافع بخلاف عنهم وأطلق المفر مراداً به الجمع للعلم به أو أريد به كلمة تكوين الأشياء وهو كن. و {الباطل} إبليس وتتعلق هذه اللام بمحذوف تقديره ليحقّ الحقّ {ويبطل الباطل} فعل ذلك. وتقدير ما تعلّق به متأخراً أحسن. قال الزمخشري ويجب أن يقدر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص وينطبق عليه المعنى انتهى، وذلك على مذهبه في أنّ تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص والحصر وذلك عندنا لا يدل على ذلك إنما يدلّ على الاعتناء والاهتمام بما قدّم لا على تخصيص ولا حصر وتقدم الكلام معه في ذلك؛ وقيل يتعلق {ليحق} بقوله {ويقطع} ؛ وقال ابن عطية {ولو كره} أي وكراهتكم واقعة فهي جملة في موضع الحال انتهى، وقد تقدم لنا الكلام معه في ذلك وأن التحقيق فيه أن الواو للعطف على محذوف ذلك المحذوف في موضع الحال والمعطوف على الحال حال ومثّلنا ذلك بقوله أعطوا السائل ولو جاء على فرس على كل حال ولو على هذه الحالة التي تنافي الصدقة على السائل.

والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله وإذ يعدكم وتودّونإِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا} وأن الخطاب في قوله كما {أخرجك ويجادلونك} هو خطاب للرسول ولذلك أفرد فالخطابان مختلفان، وقيل المستغيث هو النبي صلى الله عليه وسلّم {وإذ} بدل من {إذ يعدكم} قاله الزمخشري وابن عطية وكان قد قدم أن العامل في {إذ يعدكم اذكر} ، وقال الطبري هي متعلقة بيحق {ويبطل} وأجاز هو والحوفي أن تكون منصوبة بيعدكم وأجاز الحوفي أن تكون مستأنفة على إضمار واذكروا وأجاز أبو البقاء أن تكون ظرفاً لتودون واستغاث يتعدى بنفسه كما هو في الآية ويتعدى بحرف جر كما جاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة، وفي باب ابن مالك في النحو المستغاث ولا يقول المستغاث به وكأنه لما رآه في القرآن تعدّى بنفسه قال المستغاث ولم يعده بالباء كما عداه سيبويه والنحويون وزعم أن كلام العرب بخلاف ذلك وكلامه مسموع من كلام العرب فما جاء معدى بالباء قول الشاعر: حتى استغاث بماء لا رشاء له من الأباطح في حاجاته البرك مكلّل بأصول النبت تنسجه ريح حريق لضاحي مائه حبك كما استغاث بشيء قبر عنطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك وقرأ الجمهور {أني} بفتح أي بأني وعيسى بن عمر ورواها عن أبي عمرو وإني بكسرها على إضمار القول على مذهب البصريين أو على الحكاية باستجاب لإجرائه مجرى الفعل إذ سوى في معناه وتقدم الكلام في شرح استجاب. وقرأ الجمهور {بألف} على التوحيد والجحدري بآلف على وزن أفلس وعنه وعن السدّي بالآلف والجمع بين الأفراد والجمع أن يحمل الأفراد على من قاتل منهم أو على الوجوه الذين من سواهم اتباع لهم.

والظاهر أن قراءة من قرأ {مردفين} بسكون الراء وفتح الدال أنه صفة لقوله {بألف} أي أردف بعضهم لبعض؛ قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالمردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة فمردفين على هذا حال من الضمير. وملّخصه أنّ اتّبع مشدداً يتعدى إلى واحد واتبع مخففاً يتعدى إلى اثنين وأردف أتى بمعناهما والمفعول لاتبع محذوف والمفعولان لاتبع محذوفان فيقدر ما يصح به المعنى وقوله أو متبعين إياهم المؤمنين هذا ليس من مواضع فصل الضمير بل مما يتصل وتحذف له النون لا يقال هؤلاء كاسون إياك ثوباً بل يقال كاسوك فتصحيحه أن يقول أو بمعنى متبعيهم المؤمنين أو يقول أو بمعنى متبعين أنفسهم المؤمنين. تقدم تفسير نظير هذه الآية والمعنى إلا بشرىوَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} لكم واثبت في آل عمران لأنّ القصة فيها مسهبة وهنا موجزة فناسب هنا الحذف وهنا قدم وأخر هناك على سبيل التفنن والاتساع في الكلام وهنا جاء {أنّ الله عزيز حكيم} مراعاة لأواخر الآي وهناك ليست آخر آية لتعلق يقطع بما قبله فناسب أن يأتي {العزيز الحكيم} على سبيل الصفة وكلاهما مشعر بالعلية كما تقول أكرم زيداً العالم وأكرم زبداً أنه عالم والضمير في {وما جعله} عائد على الإمداد المنسبك من {أني ممدكم} أو على المدد أو على الوعد الدال عليه يعدكم إحدى الطائفتين أو على الألف أو على الاستجابة أو على الإرداف أو على الخبر بالإمداد أو على جبريل أقوال محتملة مقولة أظهرها الأول ولم يذكر الزمخشري غيره.

قال الزمخشري بدل ثان من إذ يعدكمإِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأٌّقْدَامَ} أو منصوب بالنصر أو بما في {عند الله} من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكر انتهى. أما كونه بدلاً ثانياً من {إذ يعدكم} فوافقه عليه ابن عطية فإنّ العامل في إذ هو العامل في قوله {وإذ يعدكم} بتقدير تكراره لأنّ الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف.

وأما كونه منصوباً بالنصر ففيه ضعف من وجوه: أحدها أنه مصدر فيه أل وفي إعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله، الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو {إلا من عند الله} وذلك إعمال لا يجوز لا يقال ضرب زيد شديد عمراً، الثالث أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل {إلا} في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعول مستثنى أو مستنثى منه أو صفة له وإذ ليس واحداً من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش، وأما كونه منصوباً بما في {عند الله} من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه يصير استقرار النصر مقيداً بالظرف والنصر من عند الله مطلقاً في وقت غشي النعاس وغيره وأما كونه منصوباً بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفيّ وهو ضعيف أيضاً لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل {إلا} وليس أحد تلك الثلاثة، وقال الطبري العامل في {إذ} قوله {ولتطمئن} . قال ابن عطية: وهذا مع احتماله فيه ضعف، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ظرفاً لما دلّ عليه {عزيز حكيم} وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية فقال: ولو جعل العامل في {إذ} شيئاً فرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في {إذ حكيم} لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمة حكمة من الله عز وجل انتهى، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلاً.

وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير {يغشاكم النعاس} مضارع غشى و {النعاس} رفع به، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع يغشيكم مضارع أغشى، وقرأ عروة بن الزبير ومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون يغشيكم مضارع غشى و {النعاس} في هاتين القراءتين منصوب والفاعل ضمير الله وناسبت قراءة نافع قوله {يغشى طائفة منكم} وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ومعنى يغشيكم يعطيكم به وهو استعارة جعل ما غلب عليهم من النعاس غشياناً لهم، وتقدم شرح {النعاس وأمنة} في آل عمران والضمير في {منه} عائد على الله وانتصب {أمنة} ، قيل على المصدر أي فأمنتم أمنة والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعل لأنّ المغشى والمؤمن هو الله تعالى، وأما على قراءة {يغشاكم} فالفاعل مختلف إذ فاعل {يغشاكم} هو {النعاس} والمؤمن هو الله وفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف، وقال الزمخشري، (فإن قلت) : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً، قلت بلى ولكن لما كان معنى {يغشاكم النعاس} تتغشون انتصب {أمنة} على أن النعاس والأمنة لهم والمعنى إذ تتغشون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم و {منه} صفة لها أي {أمنة} حاصلة لكم من الله تعالى، (فإن قلت) : هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو {يغشاكم} أي يغشاكم النعاس لأمنه على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة أو على أنه إمامكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غثيابنكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة من الله تعالى لولاها لم يغشاكم على طريقة التمثيل والتخييل، (قلتلله: لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله وله فيه نظائر ولقد ألمّ به من قال: يهاب النوم أن يغشى عيوناً

تهابك فهو نفار شرود وقرأ طلحة {وينزّل} بالتشديد، وقرأ الجمهور ماء بالمد، وقرأ الشعبي ما بغير همز، حكاه ابن جنّي، صاحب اللوامح في شواذ القراءات، وخرّجاه على أنّ ما بمعنى الذي، قال صاحب اللوامح: وصلته حرف الجر الذي هو {ليطهركم} والعائد عليه هو ومعناه الذي هو {ليطهركم} به انتهى، وظاهر هذا التخريج فاسد لأنّ لام كي لا تكون صلة ومن حيث جعل الضمائر هو وقال معناه الذي هو ليطهركم ولا تكون لام كي هي الصلة بل الصلة هو ولام الجر والمجرور، وقال ابن جنّي ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره فكأنه قال ما للطهور انتهى. وهذا فيه ما قلنا من مجيء لام كي صلة ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر وهو أنّ ما ليس موصولاً بمعنى الذي وأنه بمعنى ماء المحدود وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا ما يا هذا بحذف الهمزة وتنوين الميم فيمكن أن تُحرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت شربت ما بحذف التنوين وإبقاء الألف إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة وإما الألف التي هي بدل من التنوين حالة النصب.

والضمير في {به} عائد على المطر، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في {به} عائد على المصدر الدال عليه {وليربط} وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولاً منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة، وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني، وهو فعل محله القلب، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يقرّون وقت الحرب فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبيّ ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولاً بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدي به أفضل العبادات وتحيا به القلوب. وقال الزمخشري: إذ يوحىإِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من {إذ يعدكم} وأن ينتصب بثبت، وقال ابن عطية: العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدّرناه قريباً لكان قوله {ويثبت} على تأويل عود الضمير على الرّبط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي.

وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين أو على إجراء {يوحي} مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمدّ المؤمنون بهم، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم {وينزل عليكم ويطهّركم ويذهب} رجز {وليربط على قلوبكم} إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال {إذ يوحى ربك} ففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحدَه أي مربيك والناظر في مصلحتك. وذكر الثعلبي ونحوه قال: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، وقال ابن عطية نحوه قال: ويحتمل أيضاً أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وأن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد وعلى هذا التأويل يجيء قوله {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} مخاطبة للملائكة ثم يجيء قوله {فاضربوا فوق الأعناق} لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه لقبنا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك، أي هذه كانت صفة الحال ويحتمل أن يكون {سألقي} إلى آخر الآية خبراً يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعاً لهم وحضًّا على نصرة الدين. والذي يظهر أن ما بعد {يوحي ربك إلى الملائكة} هو من جملة الموحى به وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين.

{وفوق} قال الأخفش: زائدة أي فاضربوا الأعناق وهو قول عطية والضحاك {فيكون الأعناق} هي المفعول باضربوا هذا ليس بجيد لأن {فوق} اسم ظرف والأسماء لا تزاد، وقال أبو عبيدة: {فوق} بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ويكون مفعول {فاضربوا} على هذا محذوفاً أي فاضربوهم فوق الأعناق وهذا قول حسن لا بقاء {فوق} على معناها من الظرفية. وقال ابن قتيبة {فوق} بمعنى دون قال ابن عطية: وهذا خطأ بيّن وإنما دخل عليه اللبس من قوله {بعوضة فما فوقها} في القلّة والصغر فأشبه المعنى دون انتهى. وعلى قولابن قتيبة يكون المفعول محذوفاً أي فاضربوهم، وقال عكرمة: {فوق} على بابها وأراد الرؤوس إذ هي {فوق الأعناق} ، قال الزمخشري: يعني ضرب الهام. قال الشاعر: واضرب هامة البطل المشيح وقال آخر: غشيته وهو في جأواه باسلة عضباً أصاب سوء الرأس فانفلقا انتهى. وقال ابن عطية: وهذا التأويل أنبلها ويحتمل عندي أن يريد بقوله {فوق الأعناق} وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل. فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ويكون مفعول {فاضربوا} محذوفاً وإن كان أراد أنّ {فوق} هو المضروب فليس بجيّد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها لا تكون مبتدأة ولا مفعولاً بها ولا مضافاً إليها إنما يتصرف فيها بحرف جر كقوله {من فوقهم ظلل} هذا هو الصحيح في {فوق} وقد أجاز بعضهم أن يكون {فوق} في الآية مفعولاً به وأجاز فيها التصرّف قال: تقول فوقك رأسك بالرفع وفوقك قلنسوتك بالنصب ويظهر هذا القول من الزمخشري قال: {فوق الأعناق} أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها جزّاً وتطييراً للرأس انتهى.

ذلك بأنهم شاقوا الله ورسولهذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن} الإشارة إلى ما حلّ بهم من إلقاء الرعب في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل، والكاف لخطاب الرسول أو لخطاب كل سامع أو لخطاب الكفار على سبيل الالتفات و {ذلك} مبتدأ و {بأنهم} هو الخبر والضمير عائد على الكفار وتقدّم الكلام في المشاقّة في قوله {فإنما هم في شقاق} والمشاقّة هنا مفاعلة فكأنه {ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} أجمعوا على الفكّ في {يشاقق} اتباعاً لخط المصحف وهي لغة الحجاز والإدغام لغة تميم كما جاء في الآية الأخرى {ومن يشاق الله} ، وقيل فيه حذف مضاف تقديره شاقّوا أولياء الله و {من} شرطية والجواب {فإن} وما بعدها والعائد على {من} محذوف أي {شديد العقاب} له. و {ذلكم} مرفوع إما على الابتداء والخبر محذوف أي ذلكم العقاب أو على الخبر والمبتدأ محذوف أي العقاب ذلكم وهما تقديران للزمخشري. وقال ابن عطية: أي ذلكم الضّرب والقتل وما أوقع الله بهم يوم بدر فكأنه قال الأمر {ذلكم فذوقوه} انتهى. وهذا تقدير الزجاج.

وقال الزمخشري ويجوز أن يكون نصباً على عليكم {ذلكم فذوقوه} كقولك زيداً فاضربه انتهى، ولا يجوز هذا التقدير لأنّ عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بقولك زيداً فاضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيداً فاضربه وإنما هذا منصوب على الاشتغال وقد أجاز بعضهم في ذلك أن يكون منصوباً على الاشتغال وقال بعضهم لا يجوز أن يكون ذلك مبتدأ أو فذوقوه خبراً لأنّ ما بعد الفاء لا يكون خبراً لمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكل رجل في الدار فمكرم انتهى، وهذا الذي قاله صحيح ومسألة الاشتغال تنبني على صحة جواز أن يكون {ذلك} يصحّ فيه الابتداء إلا أن قولهم زيداً فاضربه وزيد فاربه ليست الفاء هنا كالفاء في الذي يأتيني فله درهم لأكن هذه الفاء دخلت لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ولذلك شروط ذكرت في النحو والفاء في زيد فاضربه هي جواب لأمر مقدّر ومؤخرة من تقديم والتقدير تنبه فزيداً ضربه وقالت العرب زيداً فاضربه وقدره النحاة تنبه فاضرب زيداً وابتنى الاشتغال في زيداً فاضربه على هذا التقدير فقد بان الفرق بين الفاءين ولولا هذا التقدير لم يجز زيداً فاضرب بل كان يكون التركيب زيداً اضرب كما هو إذا لم يقدر هناك أمر بالتنبيه محذوف. وقرأ الجمهور {وأن} بفتح الهمزة. قال الزمخشري عطف على {ذلكم} في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى مع ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير أي مكان وأنّ لكم {وأنّ للكافرين} . وقال ابن عطية إما على تقدير وحتم {أن} فتقدير ابتداء محذوف يكون خبره. وقال سيبويه التقدير الأمر {ذلكم} وأما على تقدير واعلموا أن فهي في موضع نصب انتهى. وقرأ الحسن وزيد بن علي وسليمان التيمي وإن بكسر الهمزة على استئناف الأخبار.

وقال الفرّاء: الزحف الدّنو قليلاً يقال زحف إليه يزحف زحفاً إذا مشى، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم وكذلك تزحف وتزاحف وازحف لنا عدونا ازحافاً صاروا يزحفون لقتالنا فازدجف القوم ازدحافاً مشى بعضهم إلى بعض، وقال ثعلب ومنه الزّحاف في الشعر وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلى الآخر وسُمّي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته كأنه يزحف إليّ يدبّ دبيباً من زحف الصبي إذا دبّ على إليته قليلاً قليلاً وأصله مصدر زحف وقد جمع أزحف على زحوف. وقال الهذليّ يصف منهلاً: كان مزاحف الحيّات فيه قبيل الصبح آثار السّياط المتحيّز المنضم إلى جانب، وقال أبو عبيدة: التحيّز والتحوّز التنحّي، وقال الليث: ما لك متحوز إذا لم تستقرّ على الأرض وأصله من الحوز وهو الجمع يقال خرته في الطرس فانحار وتحيّز انضمّ واجتمع وتحوّزت الحية انطوت واجتمعت وسمى التنحّي تحيزاً لأن المتنحي عن جانب ينضمّ عنه ويجتمع إلى غيره وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت ياء وواو وسُبقت إحداهم بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمَتْ فيها الياء وتحوّز تفعل ضعفت عينه. الرمي معروف ويكون بالسهم والحجر والتراب. المكاء الصفير. وقال عنترة: وخليل غانية تركت مجندلاً تمسكوا فريصته كشدق الأعلم أي تصوت ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح. وقال السدي: المكاء الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء، قال الشاعر: إذا غرّد المكاء في غير روضة فويل لأهل السّقاء والحمرات وقال أبو عبيدة: وغيره مكا يمكو مكاء إذا صفر والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصّراخ والخوار والدعاء والنباح. التصدية التصفيق صدى يصدي تصدية صفق وهو فعل من الصدى وهو الصوت الركم. قال الليث: جمعك شيئاً فوق شيء حتى تجعله ركاماً مركوماً كركام الرمل والسحاب. مضى تقدم والمصدر المضي.

انتصب زحفاًيَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَفِرِينَ * إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأٌّرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ

الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَنَتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يًّأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ

فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأٌّوَّلِينِ} على الحال، فقيل من المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، وقيل من الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعاراً بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزاموا وهم اثنا عشر ألفاً بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه خال منهما قال {زحفاً} يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض. وقيل انتصب {زحفاً} على المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفاً وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال. الظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد {إذ} وعوض منها التنوين هي قوله {إذ لقيتم الكفار} تعقيل المراد يوم بدر الإشارة بقوله يومئذ إلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصاً به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال. قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله {إذا لقيتم} .

وانتصب متحرفاً ومتحيزاًوَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على {من} . قال الزمخشري: وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن {يولهم} إلا رجلاً منهم {متحرفاً} أو {متحيزاً} انتهى، وقال ابن عطية: وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولا يريد الزمخشري بقوله ولا لغو إنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو {يولهم} وصل إلى العمل فيما بعدها كما قالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير: {ومن يولهم} ملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهم واجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفصلا لأنه يكون استثناء مفرغاً والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب ل قلت ضربت إلا زيداً وقمت إلا ضاحكاً لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ، وقال قوم الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً أو تحيّزاً والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو عين باب خِدَع الحرب ومكائدها. واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم.

قال الزمخشري: والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنانفَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} كان امتثال ما أمروا به للقتل. وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة يلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيهَ بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظاً؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله {وما رميْت إذ رميت} ولم يصرّح في قوله {فلم تقتلوهم} بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمراً خارقاً للعادة مُعجزاً آية من آياتِ الله على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه. وقوله {وما رميت} نفي {وإذ رميت} إثبات فاحتيج إلى تأويل وهو أن يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهو الجرح وهذان القولان متقاربان.

وقيل متعلق المنفي الرّعب ومتعلق المنبت الحصيات أي وما {رميت} الرعب في قلوبهم إذ {رميت} الحصيات، وقال الزمخشري يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمِها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرّمي لرسول الله صلى الله عليه وسلّملأن صورة الرمي وجدت منه ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله فكان الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنها لم توجد من الرسول أصلاً انتهى. قال: ذلكمذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَفِرِينَ} إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع {وأنّ الله موهن} معطوف على {وليبلي} يعني أنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين انتهى، وقال ابن عطية {ذلكم} إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلك من الإعراب رفع قال سيبويه: التقدير الأمر {ذلكم} ، وقال بعض النحويين يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلك {وأنّ} معطوف على {ذلكم} ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ مقدّر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا انتهى، وقال الحوفي {ذلكم} رفع بالابتداء والخبر محذوف والتقدير ذلكم الأمر ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ويجوز أن يكون في موضع نصب تقديره فعلنا ذلكم والإشارة إلى القتل وإلى إبلاء المؤمنين بلاء حسناً وفي فتح {أن} وجهان النصب والرفع عطفاً على {ذلكم} على حسب التقديرين أو على إضمار فعل تقديره واعلموا {أنّ الله موهن} انتهى، وقرأ الحرميان وأبو عمر {وموهن} من وهن والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو ضعفت ووهنت وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته وأوهنته وألحمته، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص.Y

وبقوله {ذلكم} فحمله قوم على أنه خطاب للمؤمنين ويؤيده قوله {فقد جاءكم الفتح} وقال الأكثرون هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم. وكان الضمير ظاهره العود على المؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب لبني إسرائيل لأنه أيضاً يكون أجنبياً من الآيات وأصل ولا تولوايأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} ولا تتولوا، وتقدّم الخلاف في حرف التاء في نحو هذا أهي حرف المضارعة أم تاء تفعل والضمير في {عنه} قال الزمخشري لرسول الله لأنّ المعنى وأطيعوا رسول الله كقوله {والله ورسوله أحق أن ترضوه} ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد من يطع الرسول فقد أطاع الله فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة. وإنما عاد على الرسول لأنّ التولي إنما يصح في حقّ الرسول بأن يعرضوا عنه وهذا على أن يكون التولي حقيقة وإذا عاد على الأمر كان مجازاً، وقيل هو عائد على الطاعة، وقيل هو عائد على الله، وقال الكرماني ما معناه إنه لما لم يطلق لفظ التثنية على الله وحده لم يجمع بينه تعالى وبين غيره في ضميرها بخلاف الجمع فإنه أطلق على لفظة تعظيماً فجمع بينه وبين غيره في ضميره ولهذا نظائر في القرآن منها {إذا دعاكم} ومنها {أن يرضوه} ففي الحديث ذمّ من جمع في التثنية بينهما في الضمير وتعليمه أن يقول: ومن عصى الله ورسوله {وأنتم تسمعون} جملة حالية.

وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة إذ لم تأتِ وهم ما سمعوا لأنّ لفظ المضي لا يدلّ على استمرار الحال ولا ديمومته بخلاف نفي المضارع فكما يدل إثباته على الدّيمومة في قولهم هو يعطي ويمنع كذلك يجيء نفيه وجاء حرف النفي لاوَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ} لأنها أوسع في نفس المضارع من ما وأدلّ على انتفاء السماع في المستقبل أي هم ممن لا يقبل أن يسمع. وقال أبو عبد الله الرازي: التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقدير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهموَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} الله الحجج. وأقول: ظاهر هاتين الملازمتين يحتاج إلى تأويل لأنه أخبر أنه كان يقع إسماع منه لهم على تقدير علمه خيراً فيهم ثم أخبر إنه كان يقع توليهم على تقدير إسماعهم إياهم فأنتج أنه كان يقع توليهم على تقدير علمه تعالى خيراً فيهم وذلك بحرف الواسطة لأكن المرتب على شيء يكون مرتّباً على ما رتب عليه ذلك الشيء وهذا لا يكون لأنه لا يقع التولّي على تقدير علمه فيهم خيراً ويصير الكلام في الجملتين في تقدير كلام واحد فيكون التقدير ولو علم الله فيهم خيراً فأسمعهم لتولّوا ومعلوم أنه لو علم فيهم خيراً ما تولّوا. تقدم الكلام في استجاب في فليستجيبوا لييأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وأفرد الضمير في {دعاكم} كما أفرده في {ولا تولوا عنه} لأنّ ذكر أحدهما مع الآخر إنما هو على سبيل التوكيد. والظاهر تعلق {لما} بقوله {دعاكم} ودعا يتعدى. دعوت لما نابني مسوراً وقال آخر: وإن أدع للحلى أكن من حماتها

وقيل: اللام بمعنى إلى ويتعلّق باستجيبوا فلذلك قدّره بإلى حتى يتغاير مدلول اللام فيتعلق الحرفان بفعل واحد. وقرأ ابن أبي إسحاق: بين المرءوَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} بكسر الميم اتباعاً لحركة الإعراب إذ في المرء لغتان: فتح الميم مطلقاً واتباعها حركة الإعراب، وقرأ الحسن والزهري: بين المرّ بتشديد الراء من غير همز ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء وحذف الهمزة ثم شدّدها كما تشدّد في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف وكثيراً ما تفعل العرب ذلك تُجري الوصل مجرى الوقف، وهذا توجيه شذوذ {وأنه إليه تحشرون} الظاهر أن الضمير في {أنه} عائد إلى الله ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ولما أمرهم بأن يعلموا قدرة الله وحيلولته بين المرء ومقاصد قلبه أعلمهم بأنه تعالى إليه يحشرهم فيثيبهم على أعمالهم فكان في ذلك تذكار لما يؤول إليه أمرهم من البعث والجزاء بالثواب والعقاب. هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختصّ بالظالم بل تعمّ الصالح والطالح. وقيل الخطاب للصحابة، وقيل لأهد بدر، وقيل لعلي وعمار وطلحة والزبير، وقيل لرجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمّهما. وقال الزبير بن العوام يوم الجمل: ما علمت أنا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها في ذلك الوقت والجملة من قوله لا تصيبنوَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} خبريّة صفة لقوله فتنة أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخول نون التوكيد على المنفى بلا مختلف فيه، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنياً بلا مع الفصل نحو قوله: فلاذا نعيم يتركن لنعيمه وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي ولا ذا بئيسن يتركن لبؤسه

فينفعه شكوى إليه إن اشتكى فلان يلحقه مع غير الفصل أولى نحو {لا تصيبنّ} وزعم الزمخشري أنّ الجملة صفة وهي نهي قال وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل {واتقوا} فتن مقولاً فيها {لا تصيبنّ} ونظيره قوله: حتى إذا جنّ الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط أي بمذق مقول فيه هذا القول لأنّ فيه لون الزّرقة التي هي معنى الذئب انتهى. وتحريره أن الجملة معمولة لصفة محذوفة وزعم الفرّاء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك: إنزل عن الدابة لا تطرحنّك أي إن تنزل عنها لا تطرحكّ، قال: ومنه {لا يحطّكمنّكم سليمان} أي إن تدخلوا لا يحطمنّكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء انتهى، وهذا المثال بقوله {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} ليس نظير {واتقوا فتنة} لأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هناك ألا ترى أنه لا يصحّ تقدير إن تتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط مقتضاه من جهة المعنى وأخذ الزمخشري قول الفرّاء وزاده فساداً وخبط فيه فقال وقوله {لا تصيبن} لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر أو نهياً بعد أمر أو صفة لفتنة فإذا كان جواباً فالمعنى إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم انتهى. تقرير هذا القول فانظر كيف قدّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو {اتقوا} ثم قدّر أداة الشرط داخلة على غير مضارع {اتقوا} فقال فالمعنى إن أصابتكم يعني الفتنة وانظر كيف قدّر الفراء في أنزل عن الدابة لا تطرحنك وفي قوله {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} فأدخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جواباً للأمر وزعم بعضهم أن قوله {لا تصيبنّ} جواب قسم محذوف، وقيل {لا} نافية وشبه النفي بالموجب فدخلت النون كما دخلت في لتضربنّ التقدير: والله {لا تصيبن} فعلى القول الأوّل بأنها صفة أو جواب أمر أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفى بلا وذهب بعض النحويين إلى أنها صفة

أو جواب أمر أو جواب قسم تكون النون قد دخلت في المنفى بلا وذهب بعض النحويين إلى أنها جواب قسم محذوف والجملة موجبة فدخلت النون في محلها ومطلت اللام فصارت لا والمعنى لتصيبنّ ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود وعلى وزيد ان ثابت والباقر والربيع بن أنس وأبي العالية لتصيبن وفي ذلك وعيد للظالمين فقط وعلى هذا التوجيه خرّج ابن جنّي أيضاً قرا0ءة الجماعة {لا تصيبن} وكون اللام مطلت فحدثت عنها الألف إشباعاً لأن الإشباع بابه الشعر، وقال ابن جني في قراءة ابن مسعود ومن معه يحتمل أن يراد بهذه القراءة {لا تصيبنّ} فحذفت الألف تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله. قال المهدوي كما حذفت من ما وهي أخت لا في قوله أم والله والله لأفعلنّ وشبهه انتهى وليست للنفي، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ فتنة أن تصيب، وعن الزبير: لتصيبنّ وخرّج المبرّد والفراء والزجاج قراءة {لا تصيبنّ} على أن تكون ناهية. وتمّ الكلام عند قوله {واتقوا فتنة} وهو خطاب عام للمؤمنين. قال الأخفش لا تصيبنّ هو على معنى الدعاء انتهى والذي دعاه إلى هذا والله أعلم استبعاد دخول نون التوكيد في المنفي بلا واعتياض تقريره نهياً فعدل إلى جعله دعاء فيصير المعنى لا أصابت الفتنة الظالمين خاصّة واستلزمت الدعاء على غير الظالمين فصار التقدير لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنه {واتقوا فتنة} ، لا أوقعها الله بأحد، فتلخص في تخريج قوله {لا تصيبن} أقوال الدعاء والنهي على تقديرين وجواب أمر على تقديرين وصفة.

قال الزمخشري، (فإن قلت) : كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر، (قلت) : لأن فيه معنى التمني إذا قلت إنزل عن الدابة لا تطرحك فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبن ولا يحطمنكم انتهى، وإذا قلت لا تطرحك وجعلته جواباً لقولك إنزل وليس فيه نهي بل نفي محض جواب الأمر نفي بلا وجزمه على الجواب على الخلاف الذي في جواب الأمر والستة معه هل ثم شرط محذوف دل عليه الأمر وما ذكر معه معنى الشرط وإذا فرعنا على مذهب الجمهور في أن الفعل المنفي بلا لا تدخل عليه النون للتوكيد لم يجز أنزل عن الدابة لا تطرحنّك، وقال الزمخشري، (فإن قلت) : ما معنى من في قوله {الذين ظلموا منكم خاصّة} ، (قلت) : التبعيض على الوجه الأول فالتبيين على الثاني لأن المعنى لا تصيبكم خاصة على ظلمكم لأن الظلم منكم أقبح من سائر الناس انتهى، ويعني بالأول أن يكون جواباً بعد أمر وبالثاني أن يكون نهياً بعد أمر وخاصة أصله أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في {لا تصيبنّ} ويحتمل أن يكون حالاً من الذين ظلموا أي مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم، وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون خاصة حالاً من الضمير في ظلموا ولا أتعقل هذا الوجه.

قال ابن عطية: هذا التأويل يردّه أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب بهذه الآية في آخر زمان عمر رضي الله عنه فإن تمثّل أحد بهذه الآية بحال العرب فتمثيله صحيح وإما أن يكون حالة العرب هي سبب نزول الآية فبعيد لما ذكرناه انتهى، وهذه الآية تعديل لنعمه تعالى عليهم، قال الزمخشري: إذ أنتموَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأٌّرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نصب على أنه مفعول به لاذكروا ظرف أي {اذكروا} وقت كونكم أقِلّة أذِلّة انتهى، وفيه التصرّف في {إذ} بنصبها مفعولة وهي من الظروف التي لا تتصرّف إلا بأن أضيف إليها الأزمان، وقال ابن عطية: وإذ {ظرف} لمعمول {واذكروا} تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل ولا يجوز أن تكون {إذ} ظرفاً لاذكر وإنما تعمل اذكر في إذ لو قدّرناها مفعوله انتهى، وهو تخريج حسن. وقال الحوفي {إذ أنتم} ظرف العامل فيه {اذكروا} انتهى، وهذا لا يتأتى أصلاً لأنّ اذكر للمستقبل فلا يكون ظرفه إلا مستقبلاً وإذ ظرف ماضٍ يستحيل أن يقع فيه المستقبل {ولعلكم تشكرون} متعلق بقوله {فآواكم} وما بعده أي فعل هذا الإحسان لإرادة الشكر. وأنتم تعلمونيأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَنَتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية أي وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله فكان ذلك أبعد لكم من الوقوع في الخيانة. وجوّزوا في {وتخونوا} أن يكون مجزوماً عطفاً على {لا تخونوا} ومنصوباً على جواب النهي وكونه مجزوماً هو الراجح لأن النصب يقتضي النهي عن الجمع والجزم يقتضي النهي عن كل واحد.

الفرقان مصدر من فرق بين الشيئين حال بينهما، وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار. وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جوازاً فصيحاً بخلاف أدوات الشرط فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر نحو: من يكدني بشيء كنت منه وقرأ الجمهور هو الحقّيًّأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} بالنصب جعلوا {هو} فصلاً، وقرأ الأعمش وزيد بن عليّ بالرفع وهي جائزة في العربية فالجملة خبر كان وهي لغة تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم كما قال: وكنت عليها بالملا أنت أقدر وتقدّم الكلام على الفصل وفائدته في أول البقرة، وقال ابن عطية ويجوز في العربيّة رفع الحقّ على أنه خبر والجملة خبر {كان} . قال الزجاج ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز، وقراءة الناس إنما هي بنصب {الحق} انتهى، وقد ذكر من قرأ بالرفع وهذه الجملة الشرطيّة فيها مبالغة في إنكار الحق عظيمة. ومعنى جوابه أن قوله {من السماء} جاء على سبيل التأكيد كما أن قوله من حديد معناه التأكيد لأنّ المسرودة لا تكون إلا من حديد كما أنّ الأمطار لا تكون إلا من السماء.

قال ابن عطية عن أبي زيد: سمعت من العرب من يقول {وما كان الله ليعذبهم} بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن انتهى، وبفتح اللام في {ليعذبهم} قرأ أبو السّمال، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالفتح في لام الأمر في قوله {فلينظر الإنسان إلى طعامه} ، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد أن من العرب من يفتح كلّ لام إلا في نحو: الحمد لله انتهى، يعني لام الجرّ إذا دخلت على الظاهر أو على ياء المتكلم والظرفية في فيهم مجاز والمعنى: وأنت مقيم بينهم غير راجل عنهم. انظر إلى حُسن مساق هاتين الجملتين لما كانت كينونته فيهم سبباً لانتفاء تعذيبهم أكّد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإرادة المنفية على رأي البصريين وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام بل جاء خبر كانوَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قوله {معذبهم} ، فشتّان ما بين استغفارهم وكينونته صلى الله عليه وسلّمفيهم والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار وهو قول قتادة، وقال ابن عباس وابن أبزي وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله {معذّبهم} عائد على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلّمبمكة. وقال الزّجاج وحكى عن ابن عباس {وهم يستغفرون} عائد على الكفار. الظاهر أن ماوَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا} استفهامية أي أيّ شيء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير.

{وأنْ} مصدرية، وقال الأخفش: هي زائدة، قال النّحّاس: لو كان كما قال لرفع تعذيبهم انتهى، فكان يكون الفعل في موضع الحال كقوله: {وما لنا لا نؤمن بالله} وموضع إن نصب أو جر على الخلاف إذ حذف منه وهي تتعلق بما تعلّق به {لهم} أي أيّ شيء كائن أو مستقرّ لهم في أن لا يعذبهم الله والمعنى لا حظ لهم في انتفاء العذاب وإذا انتفى ذلك فهم معذبون ولا بدّ وتقدير الطبري وما يمنعهم من أن يعذبوا هو تفسير معنى لا تفسير إعراب وكذلك ينبغي أن يتأوّل كلام ابن عطية أنّ التقدير وما قدرتهم ونحوه من الأفعال موجب أن يكون في موضع نصب والظاهر عود الضمير في {أولياءه} على {المسجد} لقربه وصحّة المعنى، وقيل {ما} للنفي فيكون إخباراً أي وليس لهم أن لا يعذبهم الله أي ليس ينتفي العذاب عنم مع تلبّسهم بهذه الحال، وقيل الضمير في {أولياءه} عائد على الله تعالى، وروي عن الحسن والظاهر أن قوله {وما كانوا أولياءه} استئناف إخبار. ومتعلّق {لا يعلمون} محذوف تقديره {لا يعلمون} أنهم ليوا أولياءه بل يظنون أنهم أولياؤه والظاهر استدراك الأكثر في انتفاء العلم إذ كان بينهم وفي خلالهم من جنح إلى الإيمان فكان يعلم أن أولئك الصادّين ليسوا أولياء البيت أو أولياء الله فكأنه قيل {ولكن أكثرهم} أي أكثر المقيمين بمكة {لا يعلمون} لتخرج منهم العباس وأم الفضل وغيرهما ممن وقع له علم أو إذ كان فيهم من يعلمه وهو يعاند طلباً للرياسة أو أريد بالأكثر الجميع على سبيل المجاز فكأنه قيل ولكنهم لا يعلمون كما قيل: قلما رجل يقول ذلك في معنى النفي المحض وإبقاء الأكثر على ظاهره أولى وكونه أريد به الجميع هو تخريج الزمخشري وابن عطية.

وقرأ إبان بن تغلب وعاصم والأعمش بخلاف عنهما صلاتهموَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بالنصب {الإ مكاء وتصدية} بالرفع وخطا قوم منهم أبو علي الفارسي هذه القراءة لجعل المعرفة خبراً والنكرة اسماً قالوا: ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة كقوله: يكون مزاجها عسل وماء وخرّجها أبو الفتح على أنّ المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد انتهى، وهو نظير قول من جعل نسلخ صفة لليل في قوله {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} ويسبني صفة للئيم في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني والإخبار بسين الإستقبال يدل على إنفاق متأخر عن وقعة أحد وبدر وأنّ ذلك إخبار عن علو الإسلام وغلبة أهله. واللام في للذينإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * قُل} الظاهر أنها للتبليغ وأنه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول وسواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وجعل الزمخشري اللام لام العلة، فقال: أي {قل} لأجلهم هذا القول {إن ينتهوا} ولو كان بمعنى خاطبتهم به لقيل إن تنتهوا نغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود ونحوه، {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} خاطبوا به غيرهم ليسمعوه انتهى، وقرىء {يغفر} مبنياً للفاعل والضمير لله تعالى.

وجواب الشرط قالوا: فقد مضت سنة الأولينوَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأٌّوَّلِينِ} ، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلك دليل على الجواب والتقدير {وإن يعودوا} انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنّة الأوّلين في أنا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم. والأعراف في الفصاحة أن يكون مولاكموَقَتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ * وَاعْلَمُوا} خبر {أنّ} ويجوز أن يكون عطف بيان والجملة بعده خبر أنّ والمخصوص بالمدح محذوف أي الله أو هو. القصوّ البعد والقصوى تأنيث الأقصى ومعظم أهل التصريف فصلوا في الفعلى مما لامه واو فقالوا إن كان اسماً أبدلت الواو ياء ثم يمثّلون بما هو صفة نحو الدنيا والعليا والقصيا وإن كان صفة أقرت نحو الحلوى تأنيث الأحلى، ولهذا قالوا شذّ القصوى بالواو وهي لغة الحجاز والقصيا لغة تميم وذهب بعض النحويين إلى أنه إن كان اسماً أقرت الواو نحو حزوى وإن كان صفة أبدلت نحو الدنيا والعليا وشذّ إقرارها نحو الحلوى ونص على ندور القصوى ابن السكيت، وقال الزمخشريّ فأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر مما كثر استعمال استصوب مع مجيء استصاب وأغيلت مع أغالت والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو.

وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد قاله الشافعي، والظاهر أن قوله إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسهوَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَدِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَزَعْتُمْ فِى الأٌّمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ

مِن دِيَرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَنُ أَعْمَلَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِّنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَلِمِينَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ

عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَئِنِينَ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * يَأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّبِرِينَ * مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأٌّرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الأٌّخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} عامّ في كل ما يغنم من حيوان ومتاع ومعدن وأرض وغير ذلك فيخمس جميع ذلك وبه قال الشافعي

إلا الرجال البالغين. والظاهر أنّ {ما} موصولة بمعنى الذي وهي اسم أن وكتبت أن متصلة بما وكان القياس أن تكتب مفصولة كما كتبوا {إن ما توعدون لآت} مفصولة وخبر {إن} هو قوله: {فإنّ لله خمسة} وإن لله في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم إن لله ودخلت الفاء في هذه الجملة الواقعة خبراً لأن، كما دخلت في خبر أن في قوله {إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم} وقال الزمخشري: {فإن لله} مبتدأ خبره محذوف تقديره حقّ أو فواجب أمن لله خمسة انتهى، وهذا التقدير الثاني الذي هو أو فواجب أنّ لله خمسه تكون {أن} ومعمولاها في موضع مبتدأ خبره محذوف وهو قوله فواجب وأجاز الفرّاء أن تكون {ما} شرطية منصوبة بغنمتم واسم {أن} ضمير الشأن محذوف تقديره أنه وحذف هذا الضمير مع أنّ المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر. وانتصاب {يوم الفرقان} على أنه ظرف معمول لقوله {وما أنزلنا} ، وقال الزجاج ويحتمل أن ينتصب {بغنمتم} أي إنّ ما غنمتم {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} فإن خمسه لكذا وكذا، أي كنتم آمنتم بالله أي فانقادوا لذلك وسلّموا، قال ابن عطية: وهذا تأويل حسن في المعنى ويعترض فيه الفضل بين الظرف وبين ما تعلقه به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام انتهى، ولا يجوز ما قاله الزجاج لأنه إن كانت ما شرطية على تخريج الفرّاء لزم فيه الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها وإن كانت موصولة فلا يجوز الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر {أنّ} .a العدوة شطّ الوادي وتسمي شفيراً وضفّة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه أي منعته. وقال الشاعر: عدتني عن زيارتها العوادي وقالت دونها حرب زبون وقال اليزيدي الكسر لغة الحجاز انتهى، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ويحتمل أن يكون الفتح مصدراً سمي به وروي بالكسر والضمّ بيت أوس: وفارس لم يحلّ اليوم عدوته

ولو إسراعاً وما هموا بإقبال وقرىء بالعدية بقلب الواو لكسرة العين ولم يعتدّوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم هو ابن عمي دنيا والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة. والركبإِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} معطوفان على {أنتم} فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال وأسفل ظرف في موضع الخبر، وقرأ زيد بن {علي أسفل} بالرفع اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازاً. قال الزمخشري: ليقضي اللهوَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَدِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} متعلق بمحذوف أي {ليقضي الله أمراً} كان واجباً أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك، وقيل كان بمعنى {صار ليهلك} بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به {ليقضي} ، وقيل يتعلق بقوله {مفعولاً} ، وقيل الأصل و {ليهلك} فحذف حرف العطف والظاهر أن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله وإعذار بالرسالة ويعيش من عاش عن بيان منه وأعذار لا حجة لأحد عليه.

وإذإِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَزَعْتُمْ فِى الأٌّمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ} بدل من {إذ} وانتصب {قليلاً} . قال الزمخشري على الحال وما قاله ظاهر لأنّ أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأوّل كاف خطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم والثاني ضمير الكفار فقليلاً وكثيراً منصوبان على الحال وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم وجعل من ذلك قوله تعالى: {ديريكم الله في منامك قليلاً} فانتصاب قليلاً عنده على أنه مفعول ثالث وجواز حذف هذا المنصوب اقتصاراً يبطل هذا المذهب. تقول رأيت زيداً في النوم وأراني الله زيداً في النوم. وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب وإذ يركيكموهموَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلاً لا حقيقة ولا تخميناً على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من باب تقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيراً بأخيه وإلى قول الشاعر: أروح وأغتدي سفهاً أكثر من أقلّ به فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر، لا من باب تقليل العدد. والأظهر أن يكون فتفشلواوَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ} جواباً للنهي فهو منصبو ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجبن عن لقاء العدو وذهاب الدولة باستيلاء العدو ويجوز أن يكون {فتفشلوا} مجزوماً عطفاً على {ولا تنازعوا} وذلك في قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وجزم الباء.

ولكموَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَنُ أَعْمَلَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِّنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ} ليس متعلقاً بقوله: {لا غالب} لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف و {اليوم} عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله {وإني جار لكم} معطوفاً على {لا غالب لكم اليوم} ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي و {الفئتان} جمعاً المؤمنين والكافرين، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة. ويحتمل أنّ يكون {والله شديد العقاب} معطوفاً على معمول القول قال: ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش. العامل في إذ زيّنإِذْ يَقُولُ الْمُنَفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} أو {نكص} أو {سميع عليم} أو {اذكروا} أقوال وظاهر العطف التغاير. وقيل {والذين في قلوبهم مرض} هو من عطف الصّفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق.

لووَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} التي ليست شرطاً في المستقبل تقلب المضارع للمضي فالمعنى لو رأيت وشاهدت وحذف جواب لو جاز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدلّ على التعظيم أي لرأيت أمراً عجيباً وشأناً هائلاً كقوله {ولو ترى إذ وقفوا على النار} ، والظاهر أنّ {الملائكة} فاعل {يتوفى} ويدلّ عليه قراءة ابن عامر والأعرج تتوفى بالتاء وذكر في قراءة غيرهما لأن تأنيث الملائكة مجاز وحسنه الفضل، وقيل: الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير الله و {الملائكة} مبتدأ والجملة حاليّة، كهي في {يضربون} ، قال ابن عطية: ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا انتهى، ولا يضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله وفي كثير من كلام العرب. {ذلك} أي ذلك العذاب وهو مبتدأ خبره {بما قدّمت أيديكم وأنّ الله} عطف على ما أي ذلك. ذلكذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مبتدأ وخبره {بأن الله لم يكُ} . قال قوم: هذا التكرير للتأكيد، وقال ابن عطية: هذا التكرير لمعنى ليس للأوّل أو الأوّل أو الأوّل دأب في أنْ هلكوا لما كفروا وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم انتهى، وقال قوم: كرّر لوجوه منها أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول لأنّ في ذلك ذكر إجرامهم وفي هذا ذكر إغراقهم وأُريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة.

وقال الكرماني يحتمل أن يكون الضمير في الآية الأولى في كفرواكَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَلِمِينَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ} عائداً على قريش وفي الأخيرة في {كذّبوا} عائداً على {آل فرعون والذين من قبلهم} انتهى. وقيل {فأهلكناهم} هم الذين أهلكوا يوم بدر فيلزم من هذا القول أن يكون {كذّبوا} عائداً على كفار قريش. فيظهر من هذه الكلام أن الضمير في {كذّبوا} و {أهلكناهم} عائد على المشبه والمشبه به في {كدأب} إذ عمّ الضمير القبيلتين. ومراعاة لفظ كلّ إذا حذف ما أضيف إليه ومعناه جائزة واختير هنا مراعاة. المعنى لأجل الفواصل إذ لو كان التركيب وكلّ كان ظالماً لم يقع فاصلة، وقال الزمخشري {وكلهم} من غرقى القبط وقتلى قريش {كانوا ظالمين} أنفسهم بالكفر والمعاصي انتهى، ولا يظهر تخصيص الزمخشري كلاًّ بغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في {كذبوا} وفي {فأهلكناهم} لا يختصّ بهما فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعو والذين من قبلهم أو عموم المشبّه والمشبّه بهم.

والذينإِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} على هذا بدل بعض من كلّ ويحتمل أن يكون {الذين عاهدت} فرقة أو طائفة ثم أخط يصف حال المعاهدين بقوله {ثم ينقضون عهدهم في كل مرة} انتهى، فعل هذا الاحتمال يكون الذين مبتدأ ويكون الخبر قوله {فإما تثقفنهم} ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط فكأنه قيل من يعاهد منهم أي من الكفار فإن تظفر بهم فاصنع كذا أو من للتّبعيض لأنّ المعادين بعض الكفار وهي في موضع الحال أي كائنين منهم، وقيل: بمعنى مع، وقيل: الكلام محمول على المعنى أي أخذت منهم العهد فتكون من على هذا التقدير لابتداء الغاية، وقيل: {من} زائدة أي عاهدتهم وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة وأتى {ثم ينقضون} بالمضارع تنبيهاً على أنّ من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة تقديره {وهم لا يتّقون} لا يخافون عاقبة العدوّ ولا يبالون بما في نقض العهد من العار واستحقاق النار. ولما كان التّشريد وهو التّطريد والإبعاد ناشئاً عن قتل من ظفر به في الحرب من المعاهدين الناقضين جعل جواباً للشرط إذ هو يتسبب عن الجواب. من خلفهمفَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} جاراً ومجروراً ومفعول {فشرد} محذوف أي ناساً {من خلفهم} والضمير في {لعلّهم} يظهر أنه عائد على {من خلفهم} . وقيل: الضمير عائد إلى المثقوفين وفيه بعد لأن من قُتل لا يتذكر.

وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فأنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنينوَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَئِنِينَ} . الظاهر أنّ هذا استئناف كلام أخبره الله تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر. مفعول فانبذ محذوف التقدير فانبذ إليهم عهدهم ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعل في {فانبذ} أي كائناً على طريق قصد أو من الفاعل والمجرور أي كائنين على استواء في العلم أو في العداوة.

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ولا يحسبنّ بالياء أي ولا يحسبنوَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} الرسول أو حاسب أو المؤمن أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكون مفعولاً يحسبنّ {الذين كفروا وسبقوا} القراءة باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول أو للسامع وجوّزوا أن يكون في قراءة الياء فاعل {لا يحسبنّ} هو {الذين كفروا} وخرج ذلك على حذف المفعول الأوّل لدلالة المعنى عليه تقديره أنفسهم سبقوا وعلى إضمار أن قبل سبقوا فحذفت وهي مرادة فسدّت مسدّ مفعولي {يحسبنّ} ويؤيّده قراءة عبد الله أنهم سبقوا، وقيل التقدير ولا تحسبنهم {الذين كفروا} فحذف الضمير لكونه مفهوماً وقد ردّدنا هذا القول في أواخر آل عمران، وعلى أنّ الفاعل هو الذين كفروا خرّج الزمخشري قراءة الياء وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير وإما أنفسهم وإما حذف أن وإما أنّ الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال يعني سابقين أو مفلتين هاربين وعلى {ولا تحسبن} قتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ثم قال وهذه الأقاويل كلّها متمحلة وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة انتهى، ولم يتفرّد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللّحن وقرأ علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش، وتقدم ذكر توجيهها على غير ما نقل مما هو جيّد في العربية فلا التفات لقوله وليست بنيرة وتقدّم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله {يحسبهم الجاهل أغنياء} وأما قوله: وقيل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة فهذا لا يتأتى على قراءة حمزة لأنه يقرأ بكسر الهمزة ولو كان واقعاً عليه لفتح أن وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي.

وقرأ الأعمش ولا يحسب بفتح السين والياء من تحت وحذف النون وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن فيكون كقوله: لا تهين الفقير علّك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه وقرأ ابن محيصن لا تعجزوني بكسر النون وياء بعدها، وقال الزجاج: الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على أن المعنى أنهم لا يعجزونني وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر: تراه كالثّغام يعمل مسكاً يسوء الغالبات إذا فليني البيت لعمرو بن معدي كرب، وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة: ولقد علمت ولا محالة أنّني للحادثات فهل تريني أجزع فهذا يجوز على الاضطرار فقال قوم: حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها في موضع الإعراب، وقال المبرّد أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية وكذا كان يقول في بيت عمرو، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديد ولا ياء، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها أدغم نون الإعراب في نون الوقاية وعنه أيضاً بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون، قال النحاس: وهذا خطأ من وجهين أحدهما إنّ معنى عجزه ضعفه وضعف أمره والآخر أنه كان يجب أن يكون بنونين انتهى، أما كونه بنون واحدة فهو جائز لا واجب وقد قرىء به في السبعة وأما عجزني مشدّداً فذكر صاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط قال وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنى فلا تكون القراءة خطأ كما ذكر النحاس.

والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في لهموَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن} عائد على الكفار المتقدّمي الذكر. وقيل: يعود على الذين ينبذ إليهم العهد والظاهر العموم في كل ما يتوقى به على حرب العدوّ. قال ابن عطية: {ورباط الخيل} جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلاّ وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدراً من رابط. فجوّز في رباط أن يكون جمعاً لربط وأن يكون مصدراً لربط والرابط وقوله: لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل لها مصادر مُنقاسة ذكرها النحويون، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن تسمى بالرّباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّ الراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضاً ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب، قال ابن عطية: وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى، ولا يتعيّن كونه مصدراً ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه من الخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها. والضمير في {به} عائد على ما من قوله {ما استطعتم} ، وقيل: على الإعداد، وقيل: على القوّة، وقيل: على {رباط} و {ترهبون} ، قالوا: حال من ضمير {وأعدّوا} أو من ضمير {لهم} .

وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو و {ترهبون} مشدّداً عدي بالتضعيف كما عدى بالهمزة، قال أبو حاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه {لهم} وهم الكفار. وقرأ السلمي عدوًّا لله بالتنوين ولام الجر، قال صاحب اللوامح: فقيل أراد به اسم الجنس ومعناه أعداء الله وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضاً لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنه اسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما {عدوّكم} فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوز أن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحباً لكم فقال لي صاحبكم والله أعلم انتهى. قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهم أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز. قال ابن عطية: {من دونهم} بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل: وأمر دون عبيدة الوزم. فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومن جعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين الله يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين.

ومنه قيل للأضلاح جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله، وقال النضر بن شميل: جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في جنحواوَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِن} عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير، وقيل على مشركي قريش والعرب، وقيل على قوم سألوا من الرسول صلى الله عليه وسلّمقبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث. فقيل: التأنيث لغة، وقيل على معنى المسالمة، وقيل حملاً على النقيض وهو الحرب، وقال الشاعر: وأفنيت في الحرب آلاتها وعددت للسلم أوزارها وقال ابن جني: القياس في فعل اللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر. والظاهر رفع ومنيَأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عطفاً على ما قبله وعلى هذا فسّره الحسن وجماعة أي {حسبك الله} و {المؤمنون} ، وقال الشعبي وابن زيد معنى الآية: حسبك الله وحسب من اتبعك، قال ابن عطية: فمن في هذا التأويل في موضع نصب عطفاً على موضع الكاف لأنّ موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدّت {حسبك} مسدّها انتهى، وهذا ليس بجيّد لأنّ حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب {وحسبك} مبتدأ مضاف إلى الضمير وليس مصدراً ولا اسم فاعل إلا أنّ قيل إنه عطف على التوهم كأنه توهم أنه قيل يكفيك الله أو كفاك الله، ولكنّ العطف على التوهم لا ينقاس فلا يحمل عليه القرآن ما وجدت مندوحة عنه والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون {ومن} مجرورة على حذف وحسب لدلالة {حسبك} عليه فيكون كقوله: أكل امرىء تحسبين امرأ

ونار توقد بالليل نارا أي وكلّ نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور، وقال ابن عطية: وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بأنه ضرورة الشعر انتهى، وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجاز سيبوبه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح، قال الزمخشري {ومن اتبعك} الواو بمعنى مع وما بعده منصوب تقول وحسبك وزيداً درهم ولا يجرّ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع. قال: فحسبك والضحّاك سيف مهند والمعنى كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً انتهى، وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه، قال سيبويه: قالوا حسبك وزيداً درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ولذلك كفيك انتهى، كفيك هو من كفاه يكفيه وكذلك قطّك تقول كفيك وزيداً درهم وقطّك وزيداً درهم وليس هذا من باب المفعول معه وإنما جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل للدلالة فحسبك يدلّ على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقول حسبي فالناصب في هذا فعل يدلّ عليه المعنى وهو في كفيك وزيداً درهم أوضح لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيداً وفي قطّك وزيداً درهم التقدير فيه أبعد لأنّ قطّك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم والنية بالدرهم التقديم فيصير من عطف الجمل ولا يجوز أن يكون من باب الأعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك، وقال الزّجاج: حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع انتهى، فعلى هذا يكون {الله} فاعلاً لحسبك وعلى هذا التقدير يجوز في {ومن} أن يكون معطوفاً على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور لأن اسم الفعل لا يضاف إلا أنّ مذهب الزُّجاج خطأ لدخول العوامل على {حسبك} تقول بحسبك درهم وقال تعالى: {فإنّ حسبك الله} ، ولم يثبت كونه اسم

فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسماً غير اسم فعل كرويد وأجاز أبو البقاء رفع {ومن} على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وحسبك من اتبعك وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره {ومن اتبعك من المؤمنين} كذلك أي حسبهم الله، وقرأ الشعبي {ومن أتبعك} بإسكان النون وأتبع على وزن أكرم. هاتان الجملتان شرطيّتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبراً محضاً لم يكن فيه النسخ لكنّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النّسخ وهذا من ذلك ولذلك نسخ بقوله الآن خفف الله عنكميَأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّبِرِينَ * مَا} والتقييد بالصبر في أول كلّ شرط لفظاً هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى وتقييد الشرط الثاني بقوله: {من الذين كفروا} لفظاً هو محذوف من الشرط الأول في قوله: {يغلبوا مائتين} فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظره من الثانية وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبيّة أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله {والله مع الصابرين} مبالغةً في شدّة المطلوبيّة ولم يأتِ في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاءً بما قبل ذلك وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضاً لما شقّ

عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرّب أيضاً، وسواء كان فرضاً أم ندباً هو نسخ وقول من قال: إنه تخفيف لا نسخ كمكي بن طالب ضعيف., قال الزمخشري: (فإن قلت) : لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لالأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده، (قلت) : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين للمائتين والمائة للألف فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين انتهى. وقرأ الكوفيون {يكن منكم مائة} على التذكير فيهما ورواها خارجة عن نافع، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث، وقرأ أبو عمر وعلى التذكير في الأول ولحظ يغلبوا والتأنيث في الثانية ولحظ {صابرة} ، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله: {وإن يكن منكم ألف} فإنه على التذكير بلا خلاف، وقرأ المفضل عن عاصم وعلم مبنيًّا للمفعول، وقرأ الحرميان والعربيّان والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق {ضعفاً} وفي الرّوم بضمّ الضاد وسكون العين وعيسى بن عمر بضمّهما وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين وهي كلها مصادر، وعن أبي عمرو بن العلاء ضمّ الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم، وقرأ ابن القعقاع {ضعفاً} جمع ضعيف كظريف وظرفاء وحكاها النّقّاس عن ابن عباس.

وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفاً والمراد به في التنكير والتعريف الرسول ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصاراً ولذلك جاء الجمع في قوله تريدون عرض الدنيامَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأٌّرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الأٌّخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ولم يجيء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه صلى الله عليه وسلّملم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب. وقرأ أبو عمرو أن تكون على تأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى، وقرأ الجمهور والسبعة {أسرى} على وزن فعلى وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلان وكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعاً كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهو جمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنية الجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عندما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطاً، وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضاً أبو الحسن الأخفش، وقال العرب: لا تعرف هذا كلاهما عندهم سواء. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب {حتى يثخن} مشدّداً عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزة إذ كان قبل التعدية ثخن.

وقرأ سليمان بن جمار المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّره {عرض الآخرة} ، قال: وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه، قال بعضهم: وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى. ونعني أنه لما أطلق على الفداء عرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضاً على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسُمّي عرضاً على سبيل التقابل وإن كان لولا التقابل لم يسمَّ عرضاً وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرة وكلهم جعله كقوله: ونار توقد بالليل ناراً ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّ مثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظاً ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل. انتصب حلالاًلَّوْلاَ كِتَبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} على الحال من ما إن كانت موصولة أو من ضميره المحذوف أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاً وجوّزوا في ما إن تكون مصدرية. وجعل الزمخشري قوله {فكلوا} متسبّباً عن جملة محذوفة هي سبب وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا، وقال الزجاج الفاء للجزاء والمعنى قد أحللت لكم الفداء فلكوا. وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد مما أخذ مبنياً للفاعل. الظاهر أن الضمير في وإن يريدوا على الأسرى لأنه أقرب مذكور.

وقيل الضمير في وإن يريدوايَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مِّنَ الأٌّسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عائد على الذين قيل في حقهم: {وإن جنحوا للسلم} أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في {وإن يريدوا} عائد على الأسرى. فمعنى ما لكم من ولايتهم من شيءإِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَليَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} نفي الموالاة في التوارث وكان قوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى} نسخاً لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذ لا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي ذلك حضّ للأعراب على الهجرة، قيل ولا يجوز أن تكون الموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النّصرة انتهى.

سورة التوبة

وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال: ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال: وقرىء {من ولايتهم} بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين، وقال الفرّاء: يريد من مواريثهم فكسر الواو وأجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعاً، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة. إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبيروَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأٌّرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} . الضمير المنصوب في {تفعلوه} عائد على الميثاق. سورة التوبة مائة وتسعة وعشرون آية مدنية المرصد: مفعل من رصد يرصد رقب، يكون مصدراً وزماناً ومكاناً. وقال عامر بن الطفيل: ولقد علمت وما إخالك ناسياً أن المنية للفتى بالمرصد الآل الحلف والجؤار، ومنه قول أبي جهل. لآل علينا واجب لا نضيعه متين قواه غير منتكث الحبل كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل: القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر: أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الآل وأعراق الرحم وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان: لعمرك أن لك من قريش

كل السقب من رأل النعام وسميت إلاَّ لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل: من أل البرق لمع. وقال الأزهري: الأليل البريق، يقال: أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي: مأخوذ من الحدة، ومنه الآلة الحربة. وإذن مؤللة محددة، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه: أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها، والعهد يسمى إلاَّ لصفائه، ويجمع في القلة الآل، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمة فأبدلها ألفاً، وأدغمت اللام في اللام، الذمة؛ العهد. وقال أبو عبيدة: الأمان. وقال الأصمعي: كل ما يجب أن يحفظ ويحمى. أبى يأبى منع، قال: أبى الضيم والنعمان يخرق نابه عليه فافضى والسيوف معاقله وقال: أبى اللَّه إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة. شفاه: أزال سقمه. العشيرة جماعة مجتمعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسد الشيء كساداً وكسوداً بار ولم يكن له نفاق. الموطن: الموقف والمقام، قال الشاعر: وكم موطن لولاي طحت كما هوى بإجرامه من قلة النيق منهوي ومثله الوطن. حنين: وادٍ بين مكة والطائف، وقيل: واد إلى جنب ذي المجاز. العيلة: الفقر، عال يعيل افتقر. قال: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.

المضاهاة: المماثلة والمحاكاة، وثقيف تقول: المضاهأة بالهمز، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها، إلا إنْ كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت: توضيت، وقريت، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصوراً فهمزته زائدة كهمزة عرفىء، أو ممدوداً فهمزته للتأنيث زائدة، أو ممدوداً بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال: جمع بين علامتي تأنيث. ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين، لأصالة همزة المضاهاأة، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث.. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيس بن عمر براءة بالنصب. قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة.

وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللَّه بريء من المشركين ورسولهبَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِى الأٌّرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَفِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأٌّكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ

كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَمُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَسِقُونَ * اشْتَرَوْاْ بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الأٌّيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * مَا كَانَ

لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَلِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَجَهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَنٍ وَجَنَّتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * قُلْ إِن كَانَءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَنُكُمْ وَأَزْوَجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ

الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضَهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَرَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ} قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل: وإذن بكسر الهمة ويكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وزيد بن علي، ورسوله بالنصب، عطفاً على لفظ اسم أنْ. وأجاز الزمخشري أنْ ينتصب على أنه مفعول معه. وقرىء بالجر شاذاً، ورويت عن الحسن. وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار. وقيل: هي واو القسم. وروي أن أعرابياً سمع من يقرأ بالجر فقال: إنْ كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه القارىء إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوف أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في

بريء، وحسنه كونه فصل بقوله: من المشركين، بين متحمله، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك، مع أنّ المفتوحة. ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة، ومنع مع المفتوحة. قال ابن عطية: ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه: أنْ لا موضع لما دخلت عليه إنَّ، إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل، وأنه لا فرق بين إنّ وبين ليت، والإجماع أنَّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيه تعقب، لأنّ علة كون إنّ لا موضع لما دخلت عليه، ليس ظهور عمل العامل، بدليل ليس زيد بقائم، وما في الدار من رجل، فإنه ظهر عمل العامل، ولهما موضع. وقوله: والإجماع إلى آخره يريد: أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع، وليس كذلك، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن، وأنّ حكم في كون اسمهن له موضع. وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد. وأذان إذا أعربناه مبتدأ، بل الخبر قوله: إلى الناس. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله: من الله ورسوله. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله: وأذان، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة، ومن جهة أنه لا يجوز أنْ يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله، وقد أخبر عنه بقوله: إلى الناس. وحكى القرطبي عن ابن سيرين: أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي حجة الوداع، وحج معه الأمم، وهذا يحتاج إلى إضمار، كأنه قال: هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلّمانتهى.

وجملة براءة من الله ورسوله إبخار بثبوت البراءة، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فافترقا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهداً وغيره ناكثاً، وغيره مسلماً وكافراً، هذا هو قول الجمهور. قيل: ويجوز أن يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع. فظاهره أن المخاطب بتلك الجمل الكفار، ولما كان المجرور خبراً عن قوله وأذان، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول: برئت منك، وبرئت من الدين بخلاف مِنْ في قوله: براءة من الله، فإنها في موضع الصفة. قال قوم: هذا استثناء منقطع، التقدير: لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم. وقال قوم منهم الزجاج: هو استثناء متصل من قوله: إلى الذين عاهدتم من المشركين. وقال الزمخشري: وجهه أنْ يكون مستثنى من قوله: فسيحوا في الأرضإِلاَّ الَّذِينَ عَهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} لأنّ الكلام خطاب للمسلمين. الاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر. وقيل: هو استثناء متصل، وقبله جملة محذوفة تقديرها: اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذي عاهدتم، وهذا قول ضعيف جداً، والأظهر أن يكون منقطعاً لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه.

وعن ابن عباس: كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر، فأتم إليهم عهدهم. وعنه أيضاً: إلى مدتهم، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية. وهذا بعيد، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقض وعدم المظاهرة. وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة، وأبو زيد، وابن السميفع: ينقضوكم بالضاد، معجمة وتناسب العهد، وهي بمعنى قراءة الجمهور، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب. وهو على حذف مضاف، أي ولم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني: هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله: فأتموا إليهم. والتمام ضد النقص. وانتصب شيئاً على المصدر، أي: لا قليلاً من النقص ولا كثيراً، ولم يظاهروا عليكم أحداً كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتموا بإلى لتضمنه معنى فأدوا، أيْ: فأدوه تاماً كاملاً.

وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أنْ تذكر بالضمير نحو: لقيت رجلاً فضربته. ويجوز أنْ يعاد اللفظ معرّفاً بل نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل، ولا يجوز أنْ يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت: لقيت رجلاً فضربت الرجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإنْ وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو: لقيت رجلاً فضربت الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها، فليس الحرم وصفاً مشعراً بالمغايرة. وقيل: الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض، وهي التي جاء في الحديث فيها إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب فتكون الأربعة من سنتين. قال الزمخشري: كل مرصد كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله: لأقعدن لهم صراطك المستقيمفَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} انتهى. وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد ظرف، كقولك: ذهب مذهباً ورده أبو علي، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعاً كما حكى سيبويه: دخلت البيت، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول: يصح انتصابه على الظرف، لأن قوله: «واقعدوا لهم» ليس معناه حقيقة القعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ولما كان بهذا المعنى جاز قياساً أن يحذف منه في كما قال: وقد قعدوا منها كل مقعد.

فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه، فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد، فحذف وأعمل الفعل، وحذف على، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا: تحنّ فتبدي ما بها من صبابة وأخفى الذي لولا الأسى لقضائني أي لقضي عليّ. الظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أنْ يكون دليلاً على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمداً غير متسحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره، فلا يتعين القتل. حتى يصح أن تكون للغاية، أي: إلى أن يسمع. ويصح أن تكون للتعليل، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقاً باستجارك أو بفأجره، وذلك لمانع لفظي وهو: أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، وحتى لا تجر المضمر، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعقم المعجزات، علق السماع به، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنت لم تسمع، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه. وقيل: مأممنه مصدر، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدل المعتزلة بقوله: حتى يسمع كلام الله على حدوث كلام الله، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك، وهذا مذكور في علم الكلام.

هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد. قال التبريزي والكرماني: معناه النفي، أي لا يكون لهم عده وهم لكم ضد. ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك. وقال القرطبي: وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى. والاستفهام يراد به النفي كثيراً، ومنه قول الشاعر: فها ذي سيوف يا هدى بن مالك كثير ولكن ليس بالسيف ضارب أي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. قال الحوفي: ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين، لأن معنى ما تقدم النفي، أي: ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.

وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف، لقوله: كيف كان عاقبة مكرهم، وأن يكون الخبر للمشركين. وعند على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو للحال، أو هي وصف للعهد. وأن يكون الخبر عند الله، وللمشركين تبيين، أو متعلق بيكون، وكيف حال من العهد انتهى. والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية، أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله: ما يفتح اللَّه للناس من رحمةفَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَمُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} انتهى. فكان التقدير: ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط ما موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا، لهم الفاء جواب الشرط انتهى. فكان التقدير فأي: وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل، وتأولنا ما اشتهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية: أنّ الله يحب المتقين.

كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها، وحذف للعلم به في كيف السابقة، والتقدير: كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدكَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَسِقُونَ} . وقال الشاعر: وخبرتماني إنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وكثيب أي: فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة: فكيف ولم أعلمهم خذلوكم على معظم وأن أديمكم قدّوا أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله: كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره: كيف لا يقتلونهم؟ والواو في «وإن يظهروا» واو الحال. وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالاً في قوله: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} ومعنى الظهور العلو والظفر، تقول: ظهرت على فلان علوته. والمعنى: وإن يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي: وإنْ يظهروا مبنياً للمفعول. لا يرقبوا. قال مجاهد وأبو مجلز: إلْ اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة، فقال: هذا كلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة: ألا بفتح الهمزة، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة: إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها، فقيل: هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إل أبدل من أحد المضاعفين ياء، كما قالوا في: إما إيما. قال الشاعر: يا ليتما أمنا سالت نعامتها إيما إلى جنة إيما إلى نار قال ابن جني: ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

{اشتروا بآثات اللَّه ثمناً قليلاً قصدوا عن سبيل إنهم ساء ما كانوا يعملون} الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم. الظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل. ومذ هو بابها مذهب بئس، ويجوز أقرارها على وصفها الأول، فتكون متعدية أي: أنهم ساءهم ما كانوا يعملون، فحذف المفهوم لفهم المعنى. {ونفصل الآيات لقوم يعلمون} أي نبيّنها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين، بين قوله: فإن تابوا، وقوله: وإن نكثوا، بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بإبدال الهمزة الثانية ياء. وروي عن نافع مد الهمزة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع: بهمزتين، وأدخل هشام بينهما ألفاً وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف لفظ أئمة؟ (قلت) : همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى. وذلك دأبه في تلحين المقرئين. وكيف يكون ذلك لحناً وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء، وقارىء مكة ابن كثير، وقارىء مدينة الرسول نافع، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم، أو يكون على حذف الوصف أي: لا أيمان لهم يوفون بها. وقرأ الجمهور: بفتح الهمزة. وقرأ الحسن، وعطاء، وزيد بن علي، وابن عامر: لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق. قال أبو علي: وهذا غير قوي، لأنه تكرار وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيماناً.

وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله: فقاتلوا أئمة الكفر. ألا حرف عرض، ومعناه هنا الحض على قتالهم. وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام، ولا النافية، فصار فيها معنى التخصيص. وقال الزمخشري: دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة، ومعناها: الحض عليها على سبيل المبالغة. وقرأ زيد بن علي: بدوكم بغير همز، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء، كما قالوا في قرأت: قريت، فصار كرميت. فلما أسند الفعل إلى الواو الضمير سقطت، فصار بدونكم كما تقول: رموكم. أتخشونهم تقرير للخشية منهم، وتوبيخ عليها. فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق، وأن تخشوه بدل من الله أي: وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر، وتقديره: بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه، والجملة خبر عن الأول. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفة خبراً للنكرة، في نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه. هذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ. وقرأت فرقة: ويذهب فعلاً لازماً غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي: كذلك إلا أنه رفع الباء.

وقرأ الجمهور: ويتوبُ اللَّه رفعاً، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم. قال الفراء والزجاج وأبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى. وقرأ زيد بن علي، والأعرج وابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي، وعمرو بن عبيد، وعمر بن قائد، وأبو عمرو، ويعقوب فيما روي عنهما: ويتوب الله بنصب الباء، جعله داخلاً في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف. قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتاً. وقرأ ابن السميفع: أنْ يُعمِروا بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة بالجمع. وانتصب شاهدين على الحال، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته. ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها. وقرأ زيد بن علي: بالياء نصباً على الحال، وفي النار هو الخبر. كما تقول: في الدار زيد قاعداً.

وقرأ الجمهور: سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي: أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي: كعمل من آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة: سقاة الحاج، وعمرة المسجد، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة. وقرأ ابن جبير كذلك، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة. وقرأ الضحاك: سقاية بضم السين، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال، وظئر وظؤار، وكان المناسب أن يكون بغير هاء، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة.

وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن سقايتهم وعمارتهم فضيلة، فخوطبوا على اتقادهم. أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا. وقيل: أعظم ليست على بابها، بل هي كقوله: أصحاب الجنة يؤمنوا خير مستقراًوَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَلِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَجَهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ

وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . وقول حسان: فشركما لخير كما الفداء وكأنه قيل: عظيمون درجة. وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} . قال التبريزي: ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي: رحمة لا يبلغها وصف واصفل. وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وحميد بن هلال: يَبشُرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: ورُضوان بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معاً. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز، فقد قالت العرب: سُلطان بضم اللام، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء. وقرأ عيسى بن عمران: استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلاً، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطاً. ومعنى استحبوا: آثروا وفضلوا، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل: بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثرو، ولذلك عدي بعلى. وقرأ الجمهور: بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن: بألف على الجمع. وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء. والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان. وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: أحب بالرفع، ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كل ضمير الشأن، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان. وصرف مذ هو بابه مذهب المكان، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال: نصروا نبيهم وشدّوا أزره

بحنين يوم تواكل الأبطال وعطف الزمان على المكان. قال الزمخشري: وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة، ويوم حنين. وقال ابن عطية: ويوم عطف على موضع قوله: في مواطن، أو على لفظه بتقدير: وفي يوم، فحذف حرف الخفض انتهى. وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم. والكثرة بفتح الكاف، ويجمع على كثرات. وتميم تكسر الكاف، وتجمع على كثر كشذرة وشذر، وكسرة وكسر. قرأ زيد بن علي: بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرف. قرأ زيد بن علي: سكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة. نحو شرّيب وطبيخ. وقرأ أبو حيوة: نِجْس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس، أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من نجس، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابن السميفع: أنجاس، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل. قرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: عائلة وهو مصدر كالعاقبة، أو نعت لمحذوف أي: حالاً عائلة، وإنّ هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد: المعنى وإذ خفتم كقولهم: إن كنت ابني فأطعني، أي: إذ كنت. وكون إنْ بمعنى إذ قول مرغوب عنه.

وقرأ عاصم، والكسائي عزيز منوناً على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القراءتين فابن خبر. وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئه عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة: قل هو اللَّه أحد اللَّه الصمديُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَنٍ وَجَنَّتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * قُلْ إِن كَانَءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَنُكُمْ وَأَزْوَجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَفِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يأَيُّهَا

الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضَهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَرَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ} وقول الشاعر: إذا غطيف السلمى فرّا

أو لأنّ ابناً صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلا هنا ومعبودنا. فقوله متمحل، لأنّ الذين أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد، كما قال: {يكتبون الكتاب بأيديهم} {ولا طائري يطير بجناحيه} ولا بد من حذف مضاف في قوله: يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك. أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير، واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف: يضاهئون بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنى يؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله. وقال ابان بن تغلب: قاتلها اللَّه تلحاني وقد علمت إني لنفسي إفسادي وإصلاحي وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباري عاداهم. وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنّى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب. تعدت اتخذ هنا المفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى، والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم. الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا.

ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف، لأنه فعل موجب، والموجب أن يتم قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: جاز هذا في أبي، لأنه منع وامتنع، فضارعت النفي. وقال الكرماني: معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة. وقال الفراء: دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفاً من الجحد. وقال الزمخشري: أجرى أبى مجرى لم يرد. ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله: ويأبى الله، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟. والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه، والدين هنا جنس أي: ليعليه على أهل الأديان كلهم، فهو على حذف مضاف. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج. وقيل: مخصوص بجزيرة العرب، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحداً من الكفار. وقيل: مخصوص بقرب الساعة، فإنه إذا ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم. وقيل: ليظهره بالحجة والبيان. وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلاً أول الأمر. أصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال: لا درّ درّي إن أطعمت ضائعهم قرف الجثى وعندي البر مكنوز وقالوا: رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه. وقال الراجز: على شديد لحمه كناز

بات ينزيني على أوفاز ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة. الكي: معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد. والجبهة: معروفة وهي صفحة أعلى الوجه. والغاز: معروف وهو نفر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه، وقال ابن قارس: الغار الكهف، والغار نبت طيب الريح، والغار الجماعة، والغاران البطن والفرج. طبطه عن الأمر أبطأ به عنه، وناقة ثبطة أي بطيئة السير. وأصل التثبيط التعويق، وهو أو يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه. الزهف: الخروج بصعوبة، قال الزجاج: بالكسر خروج الروح، وقال الكسائي والمبرد: زهقت نفسه وزهقت لغتان، والزهق الهلاك، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر، والزهوق البعد، والزهوق البئر البعيدة المهواة. الملجأ: مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته. جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل. قال: سبوحاً جموحاً وإحضارها كمعمعة السعف الموقد وقال مهلهل: وقد جمحت جماحاً في دمائهم حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا وقال آخر: إذا جمحت نساؤكم إليه اشظ كأنه مسد مغار جمز قفر، وقيل: بمعنى جمح. قال رؤبة: قاربت بين عنقي وجمزي اللمز قال الليث: هو كالغمز في الوجه. وقال الجوهري: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. وقال الأزهري: أصل اللمز الدفع، لمزتُه دفعته. الغرم: أصله لزوم ما يشق، والغرام العذاب الشاق، وسمي العشق غراماً لكونه شاقاً ولازماً.

وقرأ الجمهور: والذين بالواو، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين. وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: فبشرهم. وقيل: والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان. وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية. وقيل: كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين، وروي هذا القول عن السدي، والظاهر العموم كما قلناه، فيقرن بين الكانزين من المسلمين، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظاً ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب. وروي العموم عن أبي ذر وغيره. وقرأ ابن مصرّف: الذين بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم. والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله.

والضمير في: ولا ينفقونها، عائد على الذهب، لأن تأنيثه أشهر، أو على الفضة. وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعاً، فروعي المعنى كقوله: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوااتَّخَذُواْ أَحْبَرَهُمْ وَرُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأٌّحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ * إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَت وَالأٌّرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ

فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَلِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأٌّرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الأٌّخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الأٌّخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا

أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَهِدُواْ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ * لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأّوْضَعُواْ خِلَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُاْ

الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَرِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَفِرِينَ * إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَرِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَرَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا

اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ} أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم، أو على المكنوزات، لدلالة يكنزون. أو على الأموال، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولا ينفقونها، أو على الزكاة أي: ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين: عاد على أحدهما كقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً} وليس مثله، لأن هذا عطف بأو، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن، وهو خلاف الظاهر. يقال: حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمى أضاً فحميت. وقرأ الجمهور: يوم يحمى عليها بالياء، أصله يحمى النار عليها، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى: تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء، لما كان ما أسند إليه ليس تأنيثه حقيقياً، ووقع الفصل أيضاً ذكر. أضمر القول في هذا ما كنزتم أي: يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم، أي: هذا الكي نتيجة ما كنزتم، أو ثمرة ما كنزتم.a

ويجوز أن يتكون ما مصدرية أي: وبال كونكم كانزين. وقرىء يكنزون بضم النون. الشهور: جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة، بخلاف قوله: الحج أشهر معلومات فجاء بلفظ جمع القلة. ومعنى عند الله: أي، في حكمه وتقديره كما تقول: هذا عند أبي حنيفة. وقيل: التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص: بإسكان العين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة، كما روي: التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا. وقرأ طلحة: بإسكان الشين، وانتصب شهراً على لتمييز المؤكد كقولك: عندي من الرجال عشرون رجلاً.

قال ابن عطية: أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليس بمعنى قضائه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض انتهى. وعند الله متعلق بعدة. وقال الحوفي: في كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضاً بعدّة. وقال أبو علي: لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصولة بالخبر الذي هو أثنا عشر شهراً، لأنه لا يجوز انتهى. وهو كلام صحيح. وقال أبو البقاء: عدة مصاراً لا جثة، ويجوز أن يكون جثة، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى. وقيل: انتصب يوم بفعل محذوف أي: كتب ذلك يوم خلق السموات، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله: إن اللَّه عنده علم الساعةيَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ * إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَت وَالأٌّرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} جمع هنا بينهما، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر. الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهراً قاله ابن عباس قال قتادة والفداء هو عائد على الأربعة الحرم.

وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بياناً لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وإن كان ذلك محرماً في سائر الشهور انتهى. ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن، ولم يجىء بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول: الجذوع انكسرت، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول: الأجذاع انكسرن، هذا هو الصحيح. وقد يعكس قليلاً فتقول: الجذوع انكسرن، والأجذاع انكسرت، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال، أو بالبداءة بالقتال، أو بترك المحارم لعددكم أقوال. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول، ومعناه جميعاً. ولا يثني، ولا يجمع، ولا تدخله أل، ولا يتصرف فيها بغير الحال. وتقدم بسط الكلام فيها في قوله: {ادخلوا في السلم كافة} فأغنى عن إعادته. والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.

يقال: نسأله وأنسأه إذا أخَّره، حكاه الكسائي. قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتلو إلى قتيل. ورجل ناسىء وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة انتهى. وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى. فإذا قلت: أنسأ الله؛ الله أجله بمعنى أخَّر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفاً للزيادة، بل قد يكون منفرداً عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدراً كان الإخبار عنه بمصدر واضحاً، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر. وقرأ الجمهور: النسيء مهموز على وزن فعيل. وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني: النسيّ بتشديد الياء من غير همز، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء، وأدغم الياء فيها، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام. وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري. وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل: النسء بإسكان السين. والأشهب: النسي بالياء من غير همز مثل الندى. وقرأ مجاهد: النسوء على وزن فعول بفتح الفاء، وهو التأخير. ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقول أبي وائل: إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف. وقول الشاعر: أنسنا الناسئين على معدّ شهور الحل نجعلها حراما وقال آخر: نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها

من قبلكم والعز لم يتحول وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة. وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يضل مبنياً للمفعول، وهو مناسب لقوله: زين، وباقي السبعة مبنياً للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب: يضل أي الله، أي: يضل به الذين كفروا اتباعهم. ورويت هذه القراءة عن: الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء: يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضلَّ بفتح الضاد منقولاً، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نُضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي: نضل نحن. ومعنى تحريمهم عاماً وتحليلهم عاماً: لا يرادان ذلك، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام. وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفراً بدلاً من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة، وإنَّ هذه كانت حال القوم.

وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولاً للنسيء القلمس. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة. وعن ابن عباس: إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ، وهو أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة. والمواطأة: الموافقة، أي ليوافقوا وقرأ الأعمش وأبو جعفر: ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف، فكنت لاستثقال الضمة عليها، وذهبت لالتقاء الساكنين، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا. وجاء عن الزهري: ليواطيوا بتشديد الياء، هكذا الترجمة عنه. قال صاحب اللوامح: فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهه انتهى. قرأ الجمهور: زين لهم سوء أعمالهم مبنياً للمفعول. والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم. وقرأ زيد بن علي: زيِّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم.

وقرأ الأعمش: تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم، وهو ماض بمعنى المضارع، وهو في موضع الحال، وهو عامل في إذ أي: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا. وقال أبو البقاء: الماضي هنا بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وموضعه نصب. أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه يلزم منه حذف أنْ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل، وحذف أنْ في نحو هذا قليل جداً أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبراً لما. وقرىء: اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام. فقال الزمخشري: يعمل فيه ما دل عليه، أو ما في ما لكم من معنى الفعل، كأنه قال: ما تصنعون إذا قيل لكم، كما تعمله في الحال إذا قلت: ما لك قائماً. والأظهر أن يكون التقدير: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه. ومعنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر. وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله: الزجاج. ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإنكار والتعجب أي: أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي. ومِن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي: بدل الآخرة كقوله: لجعلنا منكم ملائكةإِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَلِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ مَا

لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأٌّرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الأٌّخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الأٌّخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ} أي بدلاً، ومنه قول الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان أي بدلاً من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد. وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هنُّ للبدل. ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير: فما متاع الحياة الدنيا محسوباً في نعيم الآخرة. وقال الحوفي: في الآخر متعلق بقليل، وقليل خبر الابتداء. وصلح أن يعمل في الظرف مقدماً، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف. ولو قلت: ما زيد عمراً إلا يضرب، لم يجز.

وجواب الشرط محذوف تفسيره: فسينصره، ويدل عليه فقد نصره الله أي: ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف يكون قوله تعالى: فقد نصره الله جواباً للشرط؟ (قلت) : فيه وجهان: أحدهما: فسينصره، وذكر معنى ما قدمناه. والثاني: أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى. وهذا لا يظهر منه جواب الشرط، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق، والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي يظهر الوجه الأول. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه: فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإشارة إلى خروج رسول الله من مكة إلى المدينة. ونسب الإخراج إليهم مجازاً، كما نسب في قوله: التي أخرجتكإِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلّموأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على الحال أي: أحد اثنين وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر رضي الله عنه. وقرأت فرقة: ثاني اثنين بسكون ياء ثاني. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف. إذ هما: بدل وإذ يقول: بدل ثان. وقرئ: وكلمة الله بالنصب أي: وجعل. وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار. وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ: وجعل كلمته هي العلياء.

والشّقة بالضم من الثياب، والشقة أيضاً السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري. وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى: الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشِّقِة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى. وحكى الكسائي: شقة وشقة. وقوله: لخرجنا سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أنّ قوله: لخرجنا، سدَّ مسدَّ جواب القسم. ولو جميعاً ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك. إنْ لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سدَّ مسدَّ جواب القسم وجواب لو جميعاً.

وقرأ الأعمش وزيد بن علي: لوُ استطعنا بضم الواو، وفرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن: بفتحها كمتا جاء: اشتروا الضلالةفَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَهِدُواْ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ * لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: لخرجنا أي، لخرجنا معكم وإنْ أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون

بدلاً من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفاً للحلف، ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أنْ يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفاً له أو نوعاً منه. وأما كونه حالاً من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالاً من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلكُ أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنَّ ولأفعلنَّ فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالاً من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائماً لم يجز. وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبراً عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديداً إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالداً، تريد اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالداً، تريد خرج زيد ضارباً خالداً، لم يجز. وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه.

ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي: لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل: متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهم من المفاسد، لأنهم كانوا عيناً للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله: وفيكم سماعون لهمعَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَذِبِينَ * لاَ} . وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي: ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء: حتى يتبين متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره: هلاّ أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين. وقوله: لم أذنت لهم يدل على المحذوف. ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التبيين، وهذا لا يعاتب عليه انتهى. والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا. وقيل: التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا.

قرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية: عُدَّ بضم العين من غير تاء، والفراء يقول: تسقط التاء للإضافة، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة. وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب، ولكن لا يقيس ذلك، إنما نقف فيه مع مورد السماع. قال صاحب اللوامح: لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها، وذلك لأنّ العد بغير تاء، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه. وقال أبو حاتم: هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر، الوجه فيه عدد، ولكن لا يوافق خط المصحف. وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم: عده بكسر العين، وهاء إضمار. قال ابن عطية: وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد، وسمي قتلاً إذ حقه أن يقتل. وقرىء أيضاً: عبة بكسر العين، وبالتاء دون إضافة أي: عدة من الزاد والسلاح، أو مما لهم مأخوذ من العدد. ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد، وجاء بعدها ولكن، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه، لا بين متفقين، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقاً لما قبلها. قال الزمخشري: (فإن فعلت) : كيف موقع حرف الاستدراك؟ (قلت) : لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى. وليست اةية نظير هذا المثال، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى، والانبعاث الانطلاق والنهوض. بنى وقيل للمفعول، فاحتمل أن يكون القول: أذن الرسول لهم في القعود، أو قول بعضهم لبعض إما لفظاً وإما معنى، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه.

هذا الاستثناء متصل وهو مفرغ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير، ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال. وقال الزمخشري: المستثنى منه غير مذكور، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان هو استثناء متصلاً لأنّ بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً. وقيل: هو استثناء منقطع، وهذا قولمن قال: إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال. فالمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً. وقرأ ابن أبي عبلة: ما زادوكم بغير واو، ويعني: ما زادكم خروجهم إلا خبالاً. والإيضاع الإسراع قال: أرانا موضعين لأمر غريب ونسحر بالطعام وبالشراب ويقال: وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً قال: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع قال الحسن: معناه لأسرعوا بالنميمة. وقرأ محمد بن القاسم: لأسرعوا بالفرار. ومفعول أوضعوا محذوف تقديره: ولا وضعوا ركائبكم بينكم، لأن الراكب أسرع من الماشي. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: ولا وفضوا أي أسرعوا كقوله: إلى نصب يوفضونلَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأّوْضَعُواْ خِلَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ} وقرأ ابن الزبير: ولا رفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضاً ورفضاناً قال حسان: بزجاجة رفضت بما في جوفها رفض القلوص براكب مستعجل وقال غيره: والرافضات إلى منى فالقبقب والخلاف جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين. وقال الأصمعي: تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي: بينها، ويبغون حال أي: باغين. فاللام في القول الأول للعليل، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله: {فعال لما يريد} . {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين

متعلق الإذن محذوف تقديره: في القعود وفي مجاورته الرسول على نفاقه. وقرأ ورش: بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واواً لضمة ما قبلها. وقال النحاس ما معناه: إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون، والفرق أنَّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما. وقرأ عيسى بن عمرو: لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن. قال أبو حاتم هي لغة تميم، وهي أيضاً قراءة ابن السميقع، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي.5 وجمع الشاعر بين اللغتين فقال: لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيداً فأمسى قد قلا كل مسلم قرأ ابن مسعود وابن مصرف: هل يصيبنا مكان لن يصيبنا. وقرأ ابن مصرف أيضاً وأعين قاضي الرّي: هل يصيبنا بتشديد الياء، وهو مضارع فيعل نحو: بيطر، لا مضارع فعل، إذ لو كان كذلك لكان صوّب مضاعف العين. قالوا: صوب رأيه لما بناه على فعل، لأنه من ذوات الواو. وقالوا: صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة، وبعض العرب يقول: صاب السهم يصيب، جعله من ذوات الياء، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين. وقال عمرو بن شقيق: سمعت أعين قاضي الري يقول: قل لن يصيبنا بتشديد النون. قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك، لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرف الحارث، لأنها مع هل. قال تعالى: هل يذهبن كيده ما يغيطقُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} انتهى. ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد، وهذا توجيه شذوذ. أي: ما أصابنا فليس منكم ولا بكم، بل الله هو الذي أصابنا.

وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد. وقرأ ابن محيصن الأحدي: بإسقاط الهمزة. قال ابن عطية: فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس، وهذا نحو قول الشاعر: يابا المغيرة رب أمر معضل ونحو قول الآخر: إن لم أقاتل فالبسني برقعا انتهى. قرأ الأعمش وابن وثاب: كرهاً بضم الكاف، ويعني: في سبيل الله ووجوه البر. قيل: وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ. وقال الزمخشري: هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداًقُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَسِقِينَ} . قوله: أسيىء بنا أو أحسنى لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى. وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي: إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى. قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير: إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم. وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى. ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء، فكذلك ما ضمن معناه. ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيداً يحسن إليك، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال.

في هذه القراءات الفعل مبني للمفعول. وقرأت فرقة: أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة. قال الزمخشري: وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل لله تعالى انتهى. والأولى أن يكون فاعل منع قوله: ألا أنهم أي كفرهم، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي: وما منعهم الله، ويكون إلا أنهم تقديره: إلا لأنهم كفروا. وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه، وإما على تقدير حذف حرف الجر، فوصل الفعل إليه. والمغارات جمع مغارة وهي الغار، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم: مزرعة. وقيل: المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع. وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف: مغارات بضم الميم، فيكون من أغار. قيل: وتقول العرب: غار الرجل وأغار بمعنى دخل، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم. ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم. وقال الزجاج: ويصح أن يكون من قولهم: جبل مغار أي مفتول. ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أموراً مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلاً لولوا إليه. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى. يكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفتء الإعجاب. للرسول وضمير ومنهم للمنافقين والكاف. الظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه. وقيل: التقدير فإن أعطوا منها كثيراً يرضوا، وإن لم يعطوا منها كثيراً بل قليلاً، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين، لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه، بل قد يجوز أن يتأخر نحو: إن أسلمت دخلت الجنة، فإنما يقتضي مطلق الترتب. وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوا محذوف أي: رضوا ما أعطوه.

وقرأ الجمهور: يلمزك بكسر الميم. وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم: بضمها، وهي قراءة المكيين، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش: يلمزك. وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير: يلامزك، وهي مفاعلة من واحد. وجواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعل دليلاً على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون: سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل: جواب لو هو قوله: وقالوا على زيادة الواو، وهو قول كوفي. وقيل: ما آتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولاً بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثاً بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعمُ الله مترادفة عليه حالاً ومآلاً، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعاً بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم: حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما.

ولفظه إنما إنْ كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير، فتكون الفقراء عين المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائماً، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها. والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجوداً، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر. وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير: وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق، أو تخليص مكاتب أو أسير. انتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد، لأن قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء، معناه فرض من الله الصدقات لهم. وقرىء فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى. وقال الكرماني وأبو البقاء: فريضة حال من الضمير في الفقر، أي مفروضة. قال الكرماني: كما تقول هي لك طلقاً انتهى. وذكر عن سيبويه أنها مصدر، والتقدير: فرض الله الصدقات فريضة. وقال الفراء: هي منصوبة على القطع. والله عليم حكيم، لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة، أو عليم بمقادرير المصالح، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح. الاعتذار التنصل من الذنب، فقيل: أصله المحو، من قولهم: اعتذرت المنازل ودرست، فالمعتذر يحاول إزالة ذنبه. قال ابن أحمر: قد كنت تعرف آيات فقد جعلت إطلال إلفك بالوعساء تعتذر وعن ابن الأعرابي: إنّ الاعتذار هو القطع، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع، واعتذرت المياه انقطعت، والعذر سبب لقطع الذم. عدن بالمكان يعدن عدونا أقام، قاله: أبو زيد وابن الأعرابي. قال الأعشى: وإن يستضيفوا إلى حلمه

يضافوا إلى راجح قد عدن وتقول العرب: تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه. وسمي المعدن معدناً لا نبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت. وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن اليمن قطاناً ودوراً. وقال الزمخشري: الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للرئية: عين. وقال الشاعر: قد صرت أذناً للوشاة سميعة ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا وهذا منهم تنقيص للرسول، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع. وقيل: المعنى ذو أذن، فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس. وقيل: أذن حديد السمع، ربما سمع مقالتنا. وقيل: أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذناً إذا استمع، نحو أنف وشلل وارتفع. أذن على إضمار مبتدأ أي: قل هو أذن خير لكم. وهذه الإضافة نظيرها قولهم: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الإذن. ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله، وليس بإذن في غير ذلك. ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفاً على خير أي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في رواية قل: أذن بالتنوين خير بالرفع. وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وخير خبر ثان لذلك المحذوف أي: هو أذن هو خير لكم. وتعدية يؤمن أولاً بالباء، وثانياً باللام. قال ابن قتيبة: هما زائدان، والمعنى: يصدق الله، ويصدق المؤمنين.

وقال الزمخشري: قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدى بالباء، وقصد الاستماع للمؤمنين، وإن يسلم لهم ما يقولون فعدى باللام. ألا ترى إلى قوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقينوَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَرِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَرَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ

إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * الْمُنَفِقُونَ وَالْمُنَفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ هُمُ الْفَسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَفِقِينَ وَالْمُنَفِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَلاً وَأَوْلَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَهِيمَ وِأَصْحَبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتِ بَعْضُهُمْ

أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَمَسَكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ما أنباه عن الباء ونحوه {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه أنؤمن لك واتبعك الأرذلون آمنتم له قبل أن آذن لكم} انتهى. وقال ابن عطية: يؤمن بالله يصدق بالله، ويؤمن للمؤمنين. قيل: معناه ويصدق المؤمنين، واللام زائدة كما هي في {ردف لكم} وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل، كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين أي: وتصديقه. وقيل: يقال آمنت لك بمعنى صدقتك، ومنه قوله: {وما أنت بمؤمن لنا} وعندي أنّ هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى: ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى. وقرأ أبي، وعبد الله، والأعمش، وحمزة: ورحمة بالجر عطفاً على خبر، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين، وباقي السبعة بالرفع عطفاً على يؤمن، ويؤمن صفة لأذن خير. وابن أبي عبلة: بالنصب مفعولاً من أجله حذف متعلقه التقدير: ورحمة يأذن لكم، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه. وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيماً لشأنه، وجمعاً له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوّة والرسالة، وإضافته إليه زيادة في تشريفه، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم، وحق لهم ذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم.

الظاهر أنّ الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون: هو أذن أنكره وحلفوا أنهم ما قالوه. وقيل: عائد على الذين قالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن شر من الحمير، وتقدم ذكر ذلك. وقيل: عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. اللام في ليرضوكم لام كي، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضي واحد، إذ رضا الله هو ضا الرسول، أو يكون في الكلام حذف. قال ابن عطية: مذهب سيبويه أنهما جملتان، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وهذا كقول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومذهب المبرد: أنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله. وقيل: الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق انتهى. فقوله: مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليها أنْ كان الضمير في أنهما عائداً على كل واحدة من الجملتين، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى؟ إنما حذف خبرها، وإن كان الضمير عائداً على الخبر وهو أحق أن يرضوه، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أنْ يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره، لكن لا يتعين هذا القول: إذ يجوز أن يكون الخبر مفرداً بأن يكون التقدير: أحق بأن يرضوه. ورسوله كذلك. إن كانوا مؤمنين كما يزعمون، فأحق من يرضونه الله ورسوله بالطاعة والوفاق.

أي ألم يعلم المنافقون؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار. وقرأ الحسن والأعرج: بالتاء على الخطاب، فالظاهر أنه التفات، فهو خطاب للمنافقين. قيل: ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين، فيكون معنى الاستفهام التقرير. وإن كان خطاباً للرسول فهو خطاب تعظيم، والاستفهام فيه للتعجب، والتقدير: ألا تعجب من جهلهم في محادّة الله تعالى: وفي مصحف أبيّ ألم يعلم. قال ابن عطية: على خطاب النبي عليه السلام انتهى. والأولى أن يكون خطاباً للسامع، قال أهل المعاني: ألم تعلم، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئاً مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له: ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي معه، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله. قال بعضهم: المحادّة المخالفة، حاددته خالفته، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك: شاقة، كان في شق غير شقه. وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد، حديد السلاح. والمحادة هنا، قال ابن عباس: المخالفة. وقيل: المحاربة. وقيل: المعاندة. وقيل: المعادة. وقيل: مجاوزة الحد في المخالفة. وهذه أقوال متقاربة. وقرأ الجمهور فإنّ له بالفتح، والفاء جواب الشرط. فتقتضي جملة وإنّ له مفرد في موضع رفع على الابتداء، وخبره محذوف قدره الزمخشري: مقدماً نكرة أي: فحق أن يكون وقدره غيره: متأخراً أي فإن له نار جهنم واجب، قاله: الأخفش، ورد عليه بأن أنْ لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر، وهذا مذهب سيبويه والجمهور. وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر، فالأخفش خرج ذلك على أصله. أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب أنّ له النار. قال علي بن سليمان: وقال الجرمي والمبرد: إن الثانية مكررة للتوكيد، كان التقدير: فله نار جهنم، وكرر أنّ توكيداً. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه، على أن جواب من محذوف تقديره:

ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى، فيكون فإنّ له نار جهنم في موضع نصب. وهذا الذي قدره لا يصح، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ، أو مضارعاً مجزوماً بلم، فمن كلامهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز أن تفعل، وهنا حذف جواب الشرط، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعاً مقروناً بلم، وذلك إنْ جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة. وأيضاً فتجد الكلام تاماً دون تقدير هذا الجواب. ونقلوا عن سيبويه أنّ أنّ بدل من أنه. قال ابن عطية: وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى. والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر. وأيضاً فإنّ الفاء مانع البدل وأيضاً، فهي معنى آخر غير الأول، فيقلق البدل. وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى. وقال أبو البقاء: وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين: أحدهما: أن الفاء التي معها تمنع من ذلك، والحكم بزيادتها ضعيف. والثاني: أن جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب الكلام انتهى. وقيل: هو على إسقاط اللام أي: فلأن له نار جهنم، فالفاء جواب الشرط، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي: فمحادته لأن له نار جهنم. وقرأ ابن أبي عبلة: فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني، وهي قراءة محبوب عن الحسن، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو، ووجهه في العربية قوي لأنّ الفاء تقتضي الاستئناف، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار، بخلاف الفتح. وقال الشاعر: فمن يك سائلاً عني فإني

وجروة لا ترود ولا تعار وعلى هذا يجوز في أنّ بعد فاء الجزاء وجهان: الفتح، والكسر. ذلك لأن كينونة النار له خالداً فيها هو الهوان العظيم كما قال: ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيتهيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ} . وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عناداً: هو مضارع في معنى الأمر أي: ليحذر المنافقون، ويبعده مخرج ما تحذرون، وأن تنزل مفعول يحذر، وهو متعد. قال الشاعر: حذر أموراً لا تضرّ وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار وقال تعالى: ويحذركم الله نفسهيَحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} لما كان قبل التضعيف متعدياً إلى واحد، عداه بالتضعيف إلى اثنين. وقال المبرد: حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع، والتقدير: يحذر المنافقون من أن تنزل، ولا يلزم ذلك: ألا ترى أنّ خاف من هيئات النفس وتتعدى؟ والظاهر أن قوله عليهم: وتنبئهم، الضمير أنّ فيهما عائدان على المنافقين، وجاء عليهم لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهم قاله: الكرماني، والزمخشري. قال الكرماني: ويحتمل أنه من قولك: هذا عليك لا لك. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم: تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة، فكأنها تخبرهم بها. وقال الزمخشري: والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، وصح ذلك لأنّ المعنى يعود إليه انتهى. والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله: {اعلموا ما شئتم} .

وقرأ باقي السبعة: إن تعف تعذب طائفة، مبنياً للمفعول. وقرأ الجحدري: أن يعف بعذب مبنياً للفاعل فيهما، أي: أن يعف الله. وقرأ مجاهد: أن تعف بالتاء مبنياً للمفعول، تعذب مبنياً للمفعول بالتاء أيضاً. قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير لأنّ المسند إليه الظرف كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة فأنث لذلك، وهو غريب. والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى. مجرمين: مصرين على النفاق غير تائبين. الكفر والانسلاخ من كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين. الكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة، لأن الخلود لم يقارن الوعد. وحسبهم كافيهم، وذلك مبالغة في عذابهم، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين. مقيم: مؤبّد لا نقلة فيه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق. والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين، وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم. هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. قال الفراء: التشبيه من جهة الفعل أي: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب. وقال الزجاج: المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم، فهو متعلق بوعد. وقال ابن عطية: وفي هذا قلق. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وهذا فيه بعد. وقيل: في موضع رفع التقدير أنتم كالذين. والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض. وقوله: كانوا أشد، تفسير لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم.

وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى. وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياًلاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ * الْمُنَفِقُونَ وَالْمُنَفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ هُمُ الْفَسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَفِقِينَ وَالْمُنَفِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَلاً وَأَوْلَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ} وكقوله: {إن المنافقين هم الفاسقون} . وقيل: النون محذوفة أي: كالذين خاضوا، أي كخوض الذين. وقيل: الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي: كخوضهم. والظاهر أنّ أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدّة وكثرة الأموال والأولاد.

الظاهر أنّ الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة، والجملة شرح للنبأ. وقيل: يعود على المؤتفكات خاصة، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحداً، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولاً داعياً، فهم رسول رسول الله، ذكره الطبري. وقال الكرماني: قيل: يعود على المؤتفكات أي: أتاهم رسول بعد رسول. والبينات المعجزات، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق، لا بالنسبة إلى المكذبين. يظهر أن بين قوله بالبينات. وقوله: فما كان كلاماً محذوفاً تقديره والله أعلم فكذبوا فأهلكهم الله، فما كان الله ليظلمهم.

قال ابن عطية: السين مدخلة في الوعد مهلة، لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى. وقال الزمخشري: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً يعني: إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك. ونحوه: سيجعل لهم الرحمن وداً ولسوف يعطيك ربك سوف نؤتيهم أجورهمأَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَهِيمَ وِأَصْحَبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} انتهى. وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، يشير إلى أنه يجب على الله تعالى إثابة الطائع، كما تجب عقوبة العاصي. وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط. ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة، أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أنّ الله عزيز غالب على كل شيء، قادر عليه، حكيم واضع كلاًّ موضعه.

وقال الزمخشري: وعدن علمٌ لقوله تعالى: جنات عدن التي وعد الرحمن عبادهوَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَمَسَكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ويدل عليه ما روى أبو الدرداء، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء، وإنما استدل بالآية على أنّ عدناً علم، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً بإضمار أعني: أو أمدح، أو بدلاً من جنات. ويبعد أن تكون صفة لقوله: الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت، وجيء بعده بالبدل. وقرأ الأعمش ورضوان: بضمتين. قال صاحب اللوامح: وهي لغة، ورضوان مبتدأ. وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله: من الله، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي: وشيء من رضوانه أكبر من كل ما ذكر. ما نقموا الجملة كلام أجرى مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاماً. وقال الشاعر: ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا يصلح إلا عليهم العرب وقال الآخر وهو نظير البيت السابق: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وإنا لا نحط على النمل والظاهر عود الضمير في: يلقونه، على الله تعالى. وقيل: يلقون الجزاء. فقيل: جزاء بخلهم. وقيل: جزاء أفعالهم. وقرأ الأعمش: لنصدقن ولنكوننّ بالنون الخفيفة فيهما والظاهر أن الضمير في فأعقيهم هو عائد على الله وقال الحسن وقتادة: الضمير في فأعقبهم للبخل.

وإذا كان الضمير عائداً على الله فلا يكون اللقاء متضمناً رؤية الله لإجماع العلماء على أنّ الكفار لا يرون الله، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى: تحيتهم يوم يلقونه سلاميَأَيُّهَا النَّبِىُّ جَهِدِ الْكُفَّرَ وَالْمُنَفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأٌّرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْهُمْ مَّنْ عَهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّلِحِينَ * فَلَمَّآءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ * فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَفَ رَسُولِ اللَّهِ

وَكَرِهُواْ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَتِلُواْ مَعِىَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَلِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَأَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَلِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ جَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأٌّعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ

حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} ليس بظاهر، ولقوله: {من حلف على يمين كاذبة ليقطع حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان} وأجمعوا على أنّ المراد هنا لقي ما عند الله من العقاب. ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع. وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن: تعلموا بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير. وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال: لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله. وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وفي قوله: فيهما فاكهة ونخل ورمانالَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ} وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني، وأكثر الناس على خلافهما.

والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون. وذكر أبو البقاء أن قوله: والذين لا يجدون، معطوف على الذين يلمزون، وهذا غير ممكن، لأنن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين، وهذا بعيد جداً. قال: وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان: أحدهما فيسخرون. ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه. وهذا بعيد، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ، لأنّ من عاب وغمز أحداً هو ساخر منه، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها، وهو لا يجوز. قال: والثاني: أن الخبر سخر الله منهم، قال: وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر، تقديره عاب الذين يلمزون. وقيل: الخبر محذوف تقديره: منهم الذين يلمزون. وقال أبو البقاء أيضاً: من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى. وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر، وإذا كان حالاً جاز الفصل بها بين العامل فيها، وبين المعمول أخر، لذلك العامل نحو: جاءني الذي يمر راكباً بزيد. والسخرية: الاستهزاء. والظاهر أن قوله: سخر الله منهم خبر لفظاً ومعنى، ويرجحه عطف الخبر عليه. وقيل: صيغته خبر، ومعناه الدعاء. فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم، أو على جميع المنافقين قولان. والخطاب بالأمر للرسول، والظاهر أنّ المراد بهذا الكلام التخيير.

وقيل: لفظه أمر ومعناه الشرط، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله، فيكون مثل قوله: قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكماسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} وبمنزلة قول الشاعر: أسيء بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت ومر الكلام في هذا في قوله: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره، وهو اختيار الزمخشري قال: وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى. يعني في تفسير قوله تعالى: {قل أنفقوا} وكان قال هناك. (فإن قلت) : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: لن يتقبل؟ (قلت) : هو أمر في معنى الخبر كقوله: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًّا} ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله: أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وقوله: أسيء بنا أو أحسنيي لا ملومة أي: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت. فإن قيل: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك: غفر الله لزيد ورحمة. (فإن قلت) : لم فعل ذلك؟ (قلت) : لنكتة وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي، وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة والإحْسان، وانظري هل تتفاوت خالي معك مسيئة كنت أو محسنة. وفي معناه قول القائل: أحول الذي إن قمت بالسيف عامداً

لتضربه لم يستغشك في الودّ وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة: السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة، لا السبعة التي فوق الستة انتهى. والعرب تستكثر في الآحار بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، وفي المئين بسبعمائة. قال الزمخشري: والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير. قال عليّ رضي الله تعالى عنه: لأصبحن العاص وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي قال ابن عطية: وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الإعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية ومقنعاً في الكثرة. ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى، وإلى أصحاب العقبة؟ وقد قال بعض اللغويين: إنّ التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة، فإنها عدد مقنع هي في السموات وفي الأرض، وفي خلق الإنسان، وفي بدنه، وفي أعضائه التي بها يطيع الله، وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي: عيناه، وأذناه، وأسنانه، وبطنه، وفرجه، ويداه، ورجلاه. وفي سهام الميسر، وفي الأقاليم، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس، والعنبس، ونحو هذا من القول انتهىى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأنّ التخصيص بالعدد يدل على أنّ الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال: «والله لأزيدن على السبعين» ولم ينصرف حتى نزل: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} فكف عنه. ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان، والمصدر وهو هنا للمصدر أي: بقعودهم، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة. وانتصب خلاف على الظرف، أي بعد رسول الله يقال: فلان أقام خلاف الحي، أي بعدهم. إذا ظعنوا ولم يظعن معهم. قاله أبو عبيدة، والأخفش، وعيسى بن عمرو. قال الشاعر: عقب الربيع خلافهم فكأنما بسط السواطب بينهنّ حصيرا ومنه قول الشاعر: فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تأهب لأخرى مثلها وكأن قد ويؤيد هذا التأويل: قراءة ابن عباس، وأبي حيوة، وعمرو بن ميمون خلف رسول الله. وقال قطرب، ومؤرج، والزجاج، والطبري: انتصب خلاف على أنه مفعول لأجله أي: لمخالفة رسول الله، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خُلف بضم الخاء، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثواباً، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقاباً. وفي قوله: فرح وكرهوا مقابلة معنوية، لأن الفرح من ثمرات المحبة. الأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره. انتصب قليلاً وكثيراً على المصدر، لأنهما نعت للمصدر أي: ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً. وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت، ويقوم نعته مقامه، وذلك لدلالة الفعل عليه. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا نعتاً لظرف محذوف أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً انتهى. والأول أجود، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته، فدلالته على المصدر أقوى. وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله، وهو متعلق بقوله: وليبكوا كثيراً. ومرة مصدر كأنه قيل: أو خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان. وقال أبو البقاء: أول مرة ظرف، ونعني ظرف زمان، وهو بعيد. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ (قلت) : أكثر اللغتين هند. أكبر النساء، وهي أكبرهن. ثم إنّ قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة انتهى.

والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر. غلب المذكر، فجمع بالواو والنون، وإن كان ثمّ نساء وهو جمع خالف. وقال قتادة: الخالفون النساء، وهذا مردود. وقال ابن عباس: هم الرجال. وقال الطبري: يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد، ومنه خلوف فم الصائم. وقرأ مالك بن دينار وعكرمة: مع الخلفين، وهو مقصور من الخالفين كما قال: عدداً وبدداً يريد عاددا وباددا، وكما قال الآخر: مثل النقي لبده ضرب الظلل يريد الظلال. ومات صفة لا حد، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة، وهو ماض بمعنى المستقبل، لأن الموت غير موجود لا محالة.

وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه قاله: الزمخشري. وقال ابن عطية: ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى. وقال أبو علي: ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير، لأن الآيتين في فريقين من المنافقين، ولو كان تكريراً لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير. وقيل: أراد بالأولى لا تعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق. وقد تغايرت الآيتان في ألفاظ هنا، ولا، وهناك، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله: ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي: للإنفاق، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب. ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله. ولا تصل، ولا تقم، ولا تعجبك، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك، ولا أولادهم، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد. ويتضمن ذلك النهي عن المجموع، وهنا سقطت، فكان نهياً عن إعجاب المجموع. ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحد. فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين. وهنا أن يعذبهم، وهناك ليعذبهم، فأتى باللام مشعرة بالتعليل. ومفعول يريد محذوف أي: إنما يريد الله ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم. وأتى بأن لأنّ مصب الإرادة هو التعذيب أي: إنما يريد الله تعذيبهم. فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر، وإن كان يحتمل زيادة اللام. والتعليل بأنّ وهناك الدنيا، وهنا في الحياة الدنيا، فأثبت في الحياة على الأصل، وحذفت هنا تنبيهاً على خسة الدنيا، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين، فناسب أنْ لا تسمى حياة. ليست هنا إذاً تفيد التعليق فقط، بل انجرَّ معها معنى التكرار سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال، لا الوضع. وهي مسألة خلاف في النحو، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر:

إذا وجدت أوار النار في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد ألا ترى أنّ المعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أنْ أنْ تكون تفسيرية، لأن قبلها شرط ذلك؟ ويحتمل أن تكون مصدرية أي: بأن آمنوا أي: بالإيمان. والظاهر أنّ الخطاب للمنافقين أي: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. قيل: ويحتمل أن يكون خطاباً للمؤمنين. وقال النحاس: يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، وهذا جمعه بحسب اللفظ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم. وقالت فرقة: الخوالف جمع خالف، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، والظاهر أن قوله: وطبع خبر من الله بما فعل بهم. وقيل: هو استفهام أي: أو طبع على قلوبهم، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والضلال. والخيرات: جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان. وقال الشاعر: ولقد طعنت مجامع الربلات ربلات هند خيرة الملكات وقيل: المراد بالخيرات هنا الحور العين. وقيل: المراد بها الغنائم من الأموال والذراري. وقيل: أعدّ الله لهم جنات، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم.

ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الإعراب. قرأ الجمهور: المعذبون بفتح العين وتشديد الذال، فاحتمل وزنين: أحدهما: أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه: تكلف العذر ولا عذر له، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل، وأصله اعتذر كاختصم، فأدغمت التاء في الذال. ونقلت حركتها إلى العين، فذهبت ألف الوصل. ويؤيده قراءة سعيد بن جبير: المعتذرون بالتاء من اعتذر. وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل. الأخفش، والفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزجاج، وابن الأنباري. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، والأعرج، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، ويعقوب، والكسائي، في رواية المعذرون من أعذر. وقرأ مسلمة: المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: أراد المتعذرين، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج، وهي غلط منه أو عليه. يحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين. ويكون الضمير في منهم عائداً على الإعراب، أو يكون المعنى: سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقرأ الجمهور: كذبوا بالتخفيف أي: في إيمانهم فاظهروا ضد ما أخفوه. وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه: ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم. وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي: من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم، وقيل: المحسنين هنا المعذورون الناصحون، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس. معطوف على ما قبله.

وقرأ معقل بن هارون: لنحملهم بنون الجماعة، وإذا تقتضي جواباً. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب، ويكون قوله: تولوا جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض. وقيل: جواب إذا تولوا، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف، أي: إذا ما آتوك قائلاً لا أجد، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله: حصرت صاورهم قاله الزمخشري. أو على حذف حرف العطف أي: وقلت، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره: فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية. قال الزمخشري: (فإن قلت) : فهل يجوز أن يكون قوله: قلت لا أجد استئنافاً مثله يعني: مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف؟ كأنه قيل: إذا ما أتوك لنحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملهم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض (قلت) : نعم، ويحسن انتهى. ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب، فيكف في كلام الله وهو فهم أعجمي؟ وتقدّم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب لتجدنفَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَهِدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَتِلُواْ مَعِىَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَلِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ

وَأَوْلَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَفِرُونَ * وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَلِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ جَهَدُواْ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأٌّعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} من سورة المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض. ومن للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى. ولا يجوز ذلك لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضاً فإنه معرفة، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة. وانتصب حزناً على المفعول

له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. وأن لا يجدوا مفعول له أيضاً، والناصب له حزناً قال أبو البقاء: ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزناً مفعولاً له والعامل فيه تفيض، لأنّ العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: أن لا يجدوا ما ينفقون فيه دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما نفقون حرج.k الإعراب صيغة جمع، وفرق بينه وبن العرب. فالعربي من له نسب في العرب، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ، ما كان من العرب أو من مواليهم. فالعربي من له نسب في العرب، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ، كان من العرب أو من مواليهم. وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل: الأعرابي، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع. أجدر أحق وأحرى، قال الليث: جدر جدارة فهو جدير وأجدر، به يؤنث ويثني ويجمع. قال الشاعر: نخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا أسس على وزن فعل مضعف العين، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف، ويقال فيه: أس. والجرف: البئر التي لم تطوه، وقال أبو عبيدة: الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. هار: منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض، وفعله هار يهور ويهار ويهير، فعين هار يحتمل أن تكون واواً أو ياءً، فاصله هاير أو هاور فقلبت، وصنع به ما صنع بقاضٍ وغازٍ، وصار منقوصاً مثل شاكي السلاح ولاث قال: لاث به الآشاء والعبريّ. وقيل: هار محذوف العين لفرعله فتجري الراء بوجوه الإعراب. وحكى الكسائي: تهور وتهير. أواه كثير قول أوّه، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع، ووزنه فعال للمبالغة. فقيال الفعل أن يكون ثلاثياً، وقد حكاه قطرب: حكى آه يؤوه أوهاً كقال يقول قولاً ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا: ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي، إنما يقال: أوّه تأويها وتأوّه تأوهاً. قال الراجز: فأوه الداعي وضوضأ أكلبه.

وقال المثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم لنحو. الظمأ: العطش الشديد، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن، ويمد فيقال ظماء. الوادي: ما انخفض من الأصل مستطيلاً كمحاري السيول ونحوها، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه، قال تعالى: فسالت أودية بقدرهاإِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ * الأٌّعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ

اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّبِقُونَ الأٌّوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأٌّعْرَابِ مُنَفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ

إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَلِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأٌّمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ

بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّئِبُونَ الْعَبِدُونَ الْحَمِدُونَ السَّئِحُونَ الركِعُونَ السَّجِدونَ الأٌّمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لأًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَجِرِينَ وَالأٌّنصَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

الرَّحِيمُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ * مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأٌّعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمَا} وقياسه فواعل، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. قال النحاس: ولا أعرف فاعلاً أفعلة سواه، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر: وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل والنادي: المجلس، وحكى الفراء في جمعه أو داء، كصاحب وأصحاب قال جرير: عرفت ببرقة الأوداء رسماً مجيلاً طال عهدك من رسوم وقال الزمخشري: الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودي إذا سال، ومنه الودى. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول: لا تصل في وادي غيرك. وليست إنما للحصر، إنما هي للمبالغة في التوكيد، والمعنى: إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت: هل من سبيل إلى خمر فاشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه، ففرق بين لا سبيل لي على زيد، ولا سبيل لي إل زيد. وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد، فقيل: رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف. وعطف وطبع تنبيهاً على أنّ السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا. نبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف، نحو قوله: من أنبأك هذا؟ والثاني هو من أخباركم أي: جملة من أخباركم، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم. وقيل: نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة، والثالث محذوف اختصاراً لدلالة الكلام عليه أي: من أخباركم كذباً أو نحوه. وسيرى الله توعد أي: سيراه في حال وجوده، فيقع الجزاء منه عليه إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر.

وهنا حذف المحلوف به، وفي قوله: سيحلفون باللهإِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَسِقِينَ} أثبت كقوله: {إذا أقسموا ليصرمنها} وقوله: {وأقسموا بالله} فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يميناً.

وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة، ويجوز أن تكون صفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: والسوء هنا. وفي سورة الفتح ثانية بالضم، وباقي السبعة بالفتح، فالفتح مصدر. قال الفراء: سوأته سوأ ومساءة وسوائية، والضم الاسم وهو الشر والعذاب، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وصت الدائرة بالمصدر كما قالوا: رجل سوء في نقيض رجل صدق، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان، وفي ذلك الفساد. ومنه ما كان أبوك امرأ سوءوَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي امرأً فاسداً. وقال المبرد: لسوء بالفتح الرداءة، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء، قاله أكثرهم. وقد حكي بالضم وقال الشاعر: وكنت كذيب السوء لما رأى دماً بصاحبه يوماً أحال على الدم والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم. والظاهر عطف وصلوات على قربات. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفاً على ما ينفق. والضمير في أنها قيل: عائد على الصلوات. وقيل: عائد على النفقات. وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها، والمعنى: قربة لهم عند الله. وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه، وهو ألا وحرف التوكيد وهو أنّ. قال الزمخشري: وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى. وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد. وقرأ ورش: قربة بضم الراء، وباقي السبعة بالسكون، وهما لغتان. ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعاً لما قبله، كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة.

وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، وعيسى الكوفي، وسلام، وسعيد بن أبي سعيد، وطلحة، ويعقوب، والأنصار: برفع الراء عطفاً على والسابقون، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ. وعلى قراءة الجمهور وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول. ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار. والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر، وجوّزوا في الخبر أنْ يكون الأولون أي: هم الأولون من المهاجرين. وجوزوا في قوله: والسابقون، أن يكون معطوفاً على قوله: من يؤمن أي: ومنهم السابقون. وجوزوا في الأنصار أنْ يكون مبتدأ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم، وذلك على وجهين. والسابقون وجه العطف، ووجه أنْ لا يكون الخبر رضي الله، وهذه أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن. وقرأ ابن كثير: من تحتها بإثبات من الجارة، وهي ثابتة في مصاحف مكة. وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر أنه كان يرى: والذين اتبعوهم بإحسان، بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو فقال: ائتوني بأبيّ فقال: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهموَمِنَ الأٌّعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّبِقُونَ الأٌّوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالأَنْصَرِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وأوسط الحشر: {والذين جاؤوا من بعدهم} وآخر الأنفال: {والذين آمنوا من بعد} . وروي

أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو فقال: من أقرأك؟ فقال: أني فدعاه فقال: أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا وقعتا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا. والذين كانوا حول المدينة جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ومزينة، وعصية، ولحيان، وغيرهم ممن جاوز المدينة. ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات، فيكون معطوفاً على من في قوله: وممن، فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون، ويكون مردوا استئنافاً، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق. ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل، وقد أجازه الزمخشري تابعاً للزجاج. ويجوز أن يكون من عطف الجمل، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي: ومن أهل المدينة قوم مردوا، أو منافقون مردوا. قال الزمخشري: كقوله: أنا ابن جلا. انتهى. فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه، وهي في تقدير الاسم، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم: منا ظعن ومنا أقام. وأما أنا ابن رجلاً فضرورة شعر كقوله: يرمي بكفي كان من أرمى البشر أي بكفي رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره: أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور. وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملاً للنوعين، وعلى الوجه الثاني يكون مختصاً بأهل المدينة.

وفي قوله: نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله: سنعذبهم مرتين. والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد، بل يكون المعنى على التكثير كقوله: ثم ارجع البصر كرتينوَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأٌّعْرَابِ مُنَفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي كرة بعد كرة. كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة. وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذاب القبر. وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء، وسكن عياش عن أبي عمر والياء. وعطف أحدهما على الآخر دليل على أنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، كقولك: خلطت الماء واللبن، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن، فليس فيه إلا أنّ الماء خلط باللبن، قال معناه الزمخشري: ومتى لطت شيئاً بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به، من حيث مدلولية الخلط، لأنها أمر نسبي. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهماً، بمعنى شاة بدرهم. الخطاب للرسول، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلقتنا عنك فتصدق بها وطهرنا.

من أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حال من ضمير خذ، فالفاعل ضمير خذ. وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدم كان حالاً، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة، وأن يكون استئنافاً، وأن يكون ضمير تطهرهم عائداً على صدقة، ويبعد هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضمير أن، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ، فقدر ردّ بأنّ الواو للعطف، فيكون التقدير: صدقة مطهرة ومزكياً بها، وهذا فاسد المعنى، ولو كان بغير واو جاز انتهى. ويصح على تقدير مبتدأ محذوف، والواو للحال أي: وأنت تزكيهم، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب. وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه: ألم تعلموا بالتاء على الخطاب، فاحتمل أن يكون خطاباً للمتخلفين الذين قالوا: ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى: قل لهم يا محمد، وأن يكون خطاباً على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء. وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب. وقيل: كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان، إلا أنّ عن تفيد البعد. فإذا قيل: جلس عن يمين الأمير أفاد أن جلس في ذلك الجانب، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته. فلفظه عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى. والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة. فإن قلت: أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد دل على ابتداء الغاية، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد. وعن أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع من.

وقرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله: وآخرون مرجون، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي: الخبر لا تقم فيه أبد. قال ابن عطية: ويتجه بإضمار إما في أول الآية، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم. وقال النحاس والحوفي: الخبر لا يزال بنيانهم. وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه.

وقرأ جمهور القراء: والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي: ومنهم الذين اتخذوا، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ (قلت) : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى: والمقيمين الصلاةوَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَلِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأٌّمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وقيل: هو مبتدأ وخبره محذوف، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى: {والسارق والسارقة} وانتصب ضراراً على أنه مفعول من أجله أي: مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء، ومعازّة وكفراً وتقوية

للنفاق، وتفريقاً بين المؤمنين، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلفم كلمتهم، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان. ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موع الحال. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياً لاتخذوا. ومن هنا دخلت على الزمان، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان، وتحقيق ذلك في علم النحو. قال ابن عطية: ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة، كأنه قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى. وأحق بمعنى حقيق، وليست أفعل تفضيل، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم وقرأ عبد الله بن يزيد: فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين، والأصل الضم، وفيه رفع توهم التوكيد، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد، والحال، والاستئناف. وقرأ ابن مصرف والأعمش: يطهروا بالإدغام، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين.

قرأ نافع وابن عامر: أسس بنيانه مبنياً للمفعول في الموضعين. وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنياً للفاعل، وبنصب بنيان. وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضاً، أساس جمع أسّ. وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إساس بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة، وأُس بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفاً إلى البنيان، فهذه تسع قراءات. وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم: أفمن أسس بالتخفيف والرفع، بنيانه بالجرّ على الإضافة، فأسس مصدر أس: الحائط يؤسة أساً وأسساً. وعن نصر أيضاً أساس بنيانه كذلك، إلا أنه بالألف، وأسّ وأس وأساس كلّ مصادر انتهى. والبنيان مصدر كالغفران، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق. وقيل: هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر: كبنيانة القاريّ موضع رحلها وآثار نسعيها من الدفّ أبلق وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين، وحكى هذه القراءة سيبويه، وردها الناس. قال ابن جني: قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي. وقرأ جماعة منهم: حمزة، وابن عامر، وأبو بكر، جرف بإسكان الراء، وباقي السبعة وجماعة بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم. وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم. يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي: لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان، ويحتمل أن يراد به المبني، فيكون على حذف مضاف أي: لا يزال بناء المبنى. وقال قتادة: في الكلام حذف تقديره: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم.

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص: إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي: يتقطع، وباقي السبعة بالضم، مضارع قطع مبنياً للمفعول. وقرىء يقطع بالتخفيف. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، ويعقوب: إلى أن نقطع، وأبو حيوة إلى أن تُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي: تقتلهم، أو فيه ضمير الريبة. وفي مصحف عبد الله: ولو قطعت قلوبهم، وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو هذه القراءة: إن قطعت بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة: ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي: حتى الممات، وفيه حتى تقطع. فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى: بالقتل. وأما على من قرأه مبنياً للمفعول، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم: بالموت. على الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون، في موضع الحال. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، والحرميان، وعاصم: أولاً على البناء للفاعل، وثانياً على البناء للمفعول. وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك، والمعنى واحد.

قال الزمخشري: يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى: تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكمأَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} انتهى. فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالاً. وانتصب وعداً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة. قط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال: فاستبشروا، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد، ومحيل على البيع السابق.

وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى: {أن الله اشترى} الآية وقال: لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون، فقيل: هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي: التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف، وتقديره: من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} ولذلك جاء: {وبشر المؤمنين} وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها. وقيل: التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون، أي الذين بايعوا الله هم التائبون، فيكون صفة مقطوعة للمدح، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش: التايبين بالياء إلى والحافظين نصباً على المدح. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين، وقاله أيضاً: ابن عطية. وقيل: يجوز أن يكون التائبون بدلاً من الضمير في يقاتلون. والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف. ولما كان الأمر مبايناً للنهي، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل، حسن العطف في قوله: والناهون ودعوى الزيادة، أو واو الثمانية ضعيف. ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها. ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم: قراءة الحسن، وحماد الراوية، وابن السميقع، وأبي نهيك، ومعاذ القارىء، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم.

والأوّاه: الدعاء، أو المؤمن، أو الفقيه، أو الرحيم، أو المؤمن التواب، أو المسيح، أو الكثير الذكر له، أو التلاء لكتاب الله، أو القائل من خوف الله، أواه المكثر ذلك، أو الجامع المتضرع، أو المؤمن بالحبشية، أو المعلم للخير، أو الموفى، أو المستغفر عند ذكر الخطايا، أو الشفيق، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله، أقوال للسلف، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات. وقال الزمخشري: أوّاه فقال: من أوّه كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه. وقوله: لأرجمنك انتهى. وتشبيه أوّاه من أوّه بلأل من اللؤلؤ ليس بجيد، لأنّ مادة أوّه موجودة في صورة أوّاه، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لأل ثلاثي، ولؤلؤ رباعي، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية. اتبعوه: أي اتبعوا أمره، فهو من مجاز الحذف. ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي: في وقت العسرة، والتباعة مستعارة للزمان المطلق، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم. قال: غداة طفت علماء بكر بن وائل عشية قارعنا جذام وحميرا وآخر: إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغنى

قرأ حمزة وحفص: يزيغ بالياء، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر، لأنّ النية به التأخير. ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرأ باقي السبعة: بالتاء، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد، وتزيغ الخبر وسط بينهما، كما فعل ذلك بكان. قال أبو علي: ولا يجوز ذلك في عسى، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار، أي من بعد ما كاد هو أي: الجمع. وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء، كأنه قال: من بعد ما كاد القوم. وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو: من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعاً رافعاً ضمير اسمها. فبعضهم أطلق، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة، ولا يكون سبباً، وذلك بخلاف كان. فإنّ خبرها يرفع الضمير، والسبي لاسم كاد، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر، والمرفوع ليس ضميراً يعود على اسم كادبل ولا سبباً له، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضاً. وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان: يقوم زيد، وفيه خلاف، والصحيح المنع. وأما توجيه الآخر فضعيف جداً من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر كاد واقعاً سببياً، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة، ومعناها مراد، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكون مثل كان إذا زيدت، يراد معناها ولا عمل لها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: من بعد ما زاغت، بإسقاط كاد. وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى: لم يكد يراها مع تأثيرها للعامل، وعملها هي. فأحرى أن يدعي زيادتها، وهي ليست عاملة ولا معمولة.

وقرأ الأعمش والجحدري: تزيغ برفع التاء. وقرأ أبي: من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم، الضمير في عليهم عائد على الأولين، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيداً. أو يراد بالأول إنشاء التوبة، وبالثاني استدامتها. وقرأ الجمهور: خلفوا بتشديد اللام مبنياً للمفعول. وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي، وذر ابن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القاري، وحميد: بتخفيف اللام مبنياً للفاعل، ورويت عن أبي عمرو أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة. وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدَّد اللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد، ومحمد الباقر، وابنه جعفر الصادق: خالفوا بألف أي: لم يوافقوا على الغزو. وقال الباقر: ولو خلفوا لم يكن لهم. وقرأ الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف. وإذاً إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره: تاب عليهم، ويكون قوله: ثم تاب عليهم، نظير قوله: ثم تاب عليهم، بعد قوله لقد تاب الله على النبي الآية. ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جداً، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم. ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله: خلفوا أي: خلفوا إلى هذا الوقت، ثم تاب عليهم ليتويوا.

وقال صاحب اللوامح: ومن أعم من مع، لأنّ كل ن كان من قوم فهو معهم في المعنى المأمور به، ولا ينعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي، وابن السميقع، وأبو المتوكل، ومعاذ القاري: مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله تعالى: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسولهمَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَهِيمَ لأًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَجِرِينَ وَالأٌّنصَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ} ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، أمروا بأنْ يكونوا مع الله

ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال: كن مع الله يكن معك. وموطئاً مفعل من وطىء، فاحتمل أنْ يكون مكاناً، واحتمل مصدراً. والفاعل في يغيظ عائد على المصدر، إما على موطىء إن كان مصدراً، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكاناً، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار. وقرأ زيد بن علي: يغيظ بضم الياء. والنيل مصدر، فاحتمل أن يبقى على موضوعه، واحتمل أن يراد به المنيل. وأطلق نيلاً ليعمّ القليل والكثير مما يسوءهم قتلاً وأسراً وغنيمة وهزىمة، وليست الياء في نيل بدلاً من واو خلافاً لزاعم ذلك، بل نال مادتان: إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولاً ونوالاً من العطية، ومنه التناول. والأخرى: هذه من ذوات الياء، نلته ناله نيلاً إذا أصابه وأدركه. وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضاً وهو الوطء، ثم ثنى بالنيل من العدو. جاء العموم في الكفار بالألف واللام، وفي من عدو لكونه في سياق النفي، وبدىء أولاً بما يحض المافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانياً بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو. والجملة من كتب في موضع الحال، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي: بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل.

ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع، ويجوز أن يعود على قوله: عمل صالح المتقدم الذكر. وتأخرت هاتان الجملتان وقدّمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأنّ، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيهاً على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين. وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير: أحسن جزاء الذي كانوا يعملون، لأنّ عملهم له جزاء حسن، وله جزاء أحسن، وهنا الجزاء أحسن جزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان: الأول: أن أحسن من صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى. هذا الوجه فاحتمل أن يكون أحسن بدلاً من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال، كأنه قيل: ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء، أو بما شاء من الجزاء. ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير: ليجزيهم جزاءاً أحسن أفعالهم. والثاني: أن الأحسن صفة للجزاء أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل، وهو الثواب انتهى، هذا الوجه، وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال، ولم يصرح فيه بمن؟. كان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة مقعدت أخرى ليتفقهوا. وقيل: على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائداً على الكافرين.

وقوله تعالى: ليتفقهوا، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة، ولينذروا قومهم، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه. يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين، ويحتمل أن يقولوا: ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق. ومعنى قولهم ذلك: هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها، كما تقول: أي غريب في هذا وأي دليل في هذا، وفي الفتيان قيل: هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه. وقرأ الجمهور: رأيكم بالرفع. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير: أيكم بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو: أريد اضربته. والتقسيم يقتضي أنّ الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين. الضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض، وذلك على قراءة الجمهور بالياء. وقرأ حمزة: بالتاء خطاباً للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب، ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابن مسعود، والأعمش: أو لا نرى أي أنت يا محمد؟ وعن الأعمش أيضاً: أو لم تروا؟ الظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت. وقيل: ثم صفة محذوفة أي: سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم. صرف الله قلوبهم صيغته خبر، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان، قاله الفراء. وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي، ويعقوب من بعض طرقه: من أنفسكم بفتح الفاء. ورويت هذه القراءة عن رسول الله، وعن فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما، والمعنى: من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء. والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي: يعز عليه مشقتكم كما قال: يسر المرء ما ذهب الليالي

سورة يونس

وكان ذهابهن له ذهابا أي يسر المرء ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي: عنتكم عزيز عليه، وقدم خبره، والأول أعرب. وأجاز الحوفي أن كون عزيز مبتدأ، وما عنتم الخبر، وأن تكون ما بمعنى لذي، وأن تكون مصدرية، وهو إعراب دوب الإعرابين السابقين. وقال ابن القشيري: عزيز صفة للنبي، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته، ثم استأنف فقال: عليه ما عنتم أي: يهمه أمركم انتهى. قيل: حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة. وقال الفراء: الحريص هو الشحيح، والمعنى: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار. وقيل: حريص على دخولكم الجنة. وإنما احتيج إلى الإضمار، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات. ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برؤوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فيكون من باب التنازع. وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول: زيداً ضربت وشتمت على التنازع، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين. قرأ ابن محيصن: العظيم برفع الميم صفة للرب، ورويت عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إليّ، لأنّ جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش. سورة يونس واسم كان أن أوحينا، وعجباً الخبر، وللناس فقيل: هو في موضع الحال من عجباً لأنه لو تأخر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول. وقيل: هو تبيين أي أعنى للناس. وقيل: يتعلق بكان وإن كانت ناقصة، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها. وقرأ عبد الله: عجب، فقيل: عجب اسم كان، وأن أوحينا هو الخبر، فيكون نظير: يكون مزاجها عسل وماء، وهذا محمول على الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية. وقيل: كان تامة، وعجب فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا، وهذا التوجيه حسن.

وأن أنذر: أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس، قالهما الزمخشر: ويجوز أن تكون أنْ المصدرية الثانية الوضع، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر، فوصلت هنا بالأمر، وينسبك منها معه مصدر تقديره: بإنذار الناس. وهذا الوجه أولى من التسير به، لأنّ الكوفيين لا يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية. ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر، ولأنّ التأصيل خبر من دعوى الحذف بالتحفيف. وقال أبو البقاء: يدبر الأمر، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً. وانتصب وعد الله وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير: وعد الله وعداً، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله: صبغة الله وصنع الله والتقدير: في حقاً حق ذلك حقاً. وقيل: انتصب حقاً بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق. وقال علي بن سليمان التقدير: وقت حق وأنشد: أحقاً عباد الله أن لست خارجاً ولا والجاً إلا عليّ رقيب وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، والأعمش، وسهل بن شعيب: أنه يبدأ بفتح الهمزة. قال الزمخشري: هو منصوب بالفعل، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادة الخلق بعد بدنة. وعد الله على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي: حق حقاً بدء الخلق كقوله: أحقاً عباد الله أن لست جائياً

ولا ذاهباً إلا عليّ رفيت انتهى. وقال ابن عطية: وموضعها النصب على تقدير أحق أنه. وقال الفراء: موضعها رفع على تقدير لحق أنه. قال ابن عطية: ويجوز عندي أن يكون أنه بدلاً من قوله: وعد الله. قال أبو الفتح: إن شئت قدرت لأنه يبدأ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت قدرت وعد الله حقاً أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله. وقرأ ابن أبي عبلة: حق بالرفع، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى. وكون حق خبر مبتدأ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول: صحيح إنك تخرج، لأنّ اسم أنّ معرفة، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة. وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً. ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالاً، والقمر نواً أي: ذا نور، أو منور أو نفس النور مبالغة، أو هما مصدران. وقيل: يجوز أن يكون ضياء جمع كحوض وحياض، وهذا فيه بعد. ولما كانت الشمس أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم من النور. وقرأ قنبل: ضياء هنا، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء. ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً، فكانت همزة. وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل، والظاهر عود الضمير على القمير أي: مسيره منازل، أو قدره ذا منازل، أو قدر له منازل، فحذف وأوصل الفعل، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله: والقمر قدرناه منازل} . والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة، ويحتمل أن يكون واو الحال أي: وقد اطمأنوا بها. في جنات النعيم أن يتعلق بتجري، وأن يكون حالاً من الأنهار، وأن يكون خبراً بعد خبر.

وقال القاضي: طريقهم في تقديس الله وتحميده. وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضاً، فيكون مصدراً مضافاً للمجموع لا على سبيل العمل، بل يكون كقوله: وكنا لحكهم شاهدينإَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيوةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْءَايَتِنَا غَفِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأٌّنْهَرُ فِي جَنَّتِ النَّعِيمِ * دَعْوَهُمْ فِيهَا سُبْحَنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ} وقيل: يكون مضافاً إلى المفعول، والفاعل الله تعالى أو الملائكة. وأن المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف، والجملة بعدها خبر إنْ، وأن وصلتها خبر قوله: وآخر. وقرأ عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وابن محيصن، ويعقوب: إن الحمد بالتشديد ونصب الحمد. قال ابن جني: ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف، ورفع الحمد هي على أنْ هي المخففة كقول الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف. وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة، وزعم صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة، والحمد لله خبر، وآخر دعواهم. وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين، وليس هذا من محال زيادتها. وقرأ ابن عامر: لقضي مبنياً للفاعل أجلهم بالنصب، والأعمش لقضينا، وباقي السبعة مبنياً للمفعول، وأجلهم بالرفع. وقضى أكمل، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره: فنحن نذر قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره: ولكن نمهلهم فنذر.

ولجنبه حال أي: مضطجعاً، ولذلك عطف عليه الحالان، واللام على بابها عند البصريين والتقدير: ملقياً لجنبه، لا بمعنى على خلافاً لزاعمه. وذو الحال الضمير في دعانا، والعامل فيه دعانا أي: دعانا ملتبساً بأحد هذه الأحوال. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان، والعامل فيه مس. ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل في دعانا، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان. والجملة من قوله: كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال، أي إلى كشف ضر مسه. قال ابن عطية: وقوله مر، يقتضي أنّ نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقة توكله عليه انتهى. والكاف من كذلك في موضع نصب أي: مثل ذلك. وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك، وزين مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إمّا على سبيل الخلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته. قيل: أو النفس. لفظة لما مشعرة بالعلية، وهي حرف تعليق في الماضي. ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره، فإنما يدل إذْ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية. لو قلت: جئت حين قام زيد، لم يكن مجيئك مستبباً عن قيام زيد، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسبباً عما بعدها، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب. وجاءتهم ظاهرة أنه معطوف على ظلموا أي: لما حصل هذان الأمران: مجيء الرسل بالبينات، وظلمهم أهلكوا.

وقال الزمخشري: والواو في وجاءتهم للحال أي: ظلموا بالتكذيب، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى. وقال مقاتل: البينات مخوفات العذاب، والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون، وأنه معطوف على قوله: ظلموا. وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا معطوفاً قال: واللام لتأكيد النفي بمعنى: وما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى: أنّ السبب في إهلكهم تعذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى. وقال مقاتل: الضمير في قوله: وما كانوا ليؤمنوا، عائد على أهل مكة، فعلى قوله يكون التفاتاً، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، ويكون متسقاً مع قوله: وإذا تتلى عليهم. والكاف في كذلك في موضع نصب. وكيف معموله لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر، لأنها معلقة. وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم. ومفعول شاء محذوف أي: قل لو شاء الله أن لا أتلوه، وجاء جواب على الفصيح من عدم إتيان اللام، لكونه منفياً بما، ويقال: دريت به، وأدريت زيداً به، والمعنى: ولا أعلمكم به على لساني. وقراءة الجمهور: ولا أدراكم به فلا مؤكدة، وموضحة أنّ الفعل منفي لكونه معطوفاً على منفي، وليست لا هي التي نفي الفعل بها، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً، والمعطوف على الجواب جواب. وأنت لا تقول: لو كان كذا لا كان كذا، إنما يكون ما كان كذا.

قرأ ابن عباس، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء: ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما: أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من قال: لبأت بالحج، ورثأت زوجي بأبيات، يريد: لبيت ورثيت. وجاز هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم، وفي المشتاق المشتأق. والوجه الثاني: أن الهمزة أصل وهو من الدر، وهو الدفع يقال: درأته دفعته، كما قال: ويدرأ عنها العذاب ودرأته جعلته دارئاً، والمعنى: ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم، فقلب الياء ألفاً لا نفتاح ما قبلها، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك: أعطأتك. الفاعل بيعلم هو الله، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما. والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله، وذلك على حذف مضاف. وقيل: أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب. وفي بنائ التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب: المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقاً، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز، نحو: أشكل الأمر وأظلم الليل، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السواد والبياض فقط. وقرأ باقي السبعة والجمهور: يسيركم من التيسير. قال أبو علي: هو تضعيف مبالغة، لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل وسيرته، ومنه قول الهذلي: فلا تجز عن من سنة أنت سرتها

فأول راض سنه من يسيرها قال ابن عطية: وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكونن شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول: سرت الطريق انتهى. وما ذكره أبو علي لا يتعين، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشأ عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل. وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول: سرت الطريق، فهذا لا يجوز عند الجمهور، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد، فلا يصل إليه الفعل غيره. دخلت عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل. وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في. وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص، فيصل إليه الفعل يغر وساطة في، وهو زعم مردود في النحو. والباء في بهم وبريح قال العكبري: تتعلق الباآن بجرين انتهى. والذي يظهر أنّ الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو: مررت بزيد. وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب، فاختلف المدلول في البائين، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد، ويجوز أن تكون الباء للحال أي: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتتعلق بمحذوف كما تقول: جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها. وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: وجرين بهم، ويحتمل أن يكون حالاً أي: وقد فرحوا بها. كما احتمل قوله: وجرين أن يكون معطوفاً على كنتم، وأن يكون حالاً. والظاهر أنّ قوله: جاءتها ريح عاصف، هو جواب إذا. والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك، لأنه هو المحدث عنه في قوله: وجرين بهم، وقاله مقاتل. وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء، وبدأ به الزمخشري. ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.

والجملة من قوله: دعوا الله قال أبو البقاء: هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره: لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى، وهو كلام لا يتحصل منه شيء. وقال الطبري: جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف، وجواب قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى. وهو مخالف للظاهر، لأنّ قوله: وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا، لأنه معطوف على كنتم، لكنه محتمل. كما تقول: إذا زارك فلان فأكرمه، وجاءك خالد فأحسن إليه، وكأن أداة الشرط مذكورة. وقال الزمخشري: هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك، فهو ملتبس به انتهى. وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخرّج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول: هو جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فما كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الله مخلصين له الدين انتهى. وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها، ومجيء إذا وما بعدها جواباً لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لمّا، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي، وأنها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره أنها ظرف، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي.

فقوله: على أنفسكم، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم، فيتعلق بمحذوف. وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص، وابن أبي إسحاق، وهارون، عن ابن كثير: على أنه مصدر في موضع الحال أي: متمتعين، أو باقياً على المصدرية أي: يتمتعون به متاع، أو نصباً على الظرف نحو: مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا. وكل هذه التوجيهات منقولة. والعامل في متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي: كائن على أنفسكم، ولا ينتصبان ببغيكم، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر، وهو غير جائز. وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف. وأجاز النحاس، وتبعه الزمخشري، أن يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله: بغيكم، كما تعلق في قوله، فبغى عليهم، ويكون الخبر متاع إذا رفعته. قال الحوفي: مِن متعلقه باختلط. وقال أبو البقاء: مما يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً. وقول أبي البقاء: هو الظاهر، وتقديره: كائناً مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية. فأما أن يقدر قبلها محذوف أي: فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.

والضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف أي: أهل نباتها. وقيل: الضمير عائد على الغلة. وقيل: على الزينة، وهو ضعيف. وجواب إذا قوله: أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد. وقيل: أتاها أمرنا بإهلاكها، وأبهم في قوله: ليلاً أو نهاراً، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره، أو تكون أو للتنويع، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما. والحصيد: فعيل بمعنى مفعول أي: المحصود، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج. وقال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل انتهى. وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً العلامة ما بينهما من الطرح على الأرض. وقيل: يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير: فجعلناها كالحصيد. وقوله: كأن لم تغن بالأمس، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها. وقرأ الحسن وقتادة: كأن لم يغن بالياء على التذكير. فقيل: عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله: عليها، وفي قوله: أتاها فجعلناها. وقيل: عائد على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد أي: كأن لم يغن الحصيد. وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر: كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل. وقال الأعشى: طويل الثواء طويل التغني، وهو من غنى بكذا أقام به. قال الزمخشري: والأمس مثل في الوقت. كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً انتهى.

والظاهر أنّ والذين مبتدأ، وجوزوا في الخبر وجوهاً أحدها: أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها، وجزاء مبتد فقيل: خبره مثبت وهو بمثلها. واختلفوا في الباء فقيل: زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها، كما قال: وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما زيدت في الخبر في قوله: فمنعكها بشيء يستطاع أي شيء يستطاع. وقيل: ليست بزائدة، والتقدير: مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها. وقيل: محذوف، فقدّره الحوفي: لهم جزاء سيئة قال: ودل على تقدير لهم قوله: للذين أحسنوا الحسنىوَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَإِذَا مَسَّ الإِنسَنَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَكُمْ خَلَئِفَ فِى الأٌّرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * فَمَنْ

أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَتِ وَلاَ فِى الأٌّرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأٌّرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأٌّنْعَمُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأٌّرْضُ

زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأٌّمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ

وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأٌّبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأٌّمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ

الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ

يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الظَّلِمِينَ * وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَءَامَنْتُمْ بِهِءَآلئْنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ

إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأٌّرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} حتى تشاكل هذه بهذه. وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع، والباء في قولهما متعلقة بقوله: جزاء، والعائد من هذه الجملة الواقعة خبراً عن الذين محذوف تقديره: جزاء سيئة منهم، كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم. وعلى تقدير الحوفي: لهم

جزاء يكون الرابط لهم. الثاني: أنّ الخبر قوله: ما لهم من الله من عاصم، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي، والصحيح جوازه. الثالث: أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً. الرابع: أن يكون الخبر أولئ وما بعده، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة، وفي القول الثالث بثلاث جمل، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفاً على قوله: للذين أحسنوا، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله: والذين على إسقاط حرف الجر أي: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، فيتعادل التقسيم، كما تقول: في الدار زيد، والقصر عمرٌ، وأي: وفي القصر عمرو. وهذا التركيب مسموع من لسان العرب، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين. وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو.

قال الزمخشري: (فإن قلت) : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل، فما العامل فيه؟ (قلت) : لا يخلو إما أن يكون أغشيت، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله: قطعاً، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى. أما الوجه الأوّل فهو بعيد، لأنّ الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن، وأغشيت عامل في قوله: قطعاً الموصوف بقوله: من الليل، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي: قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه. وقيل: مظلماً حال من قوله: قطعاً، أو صفة. وذكر في هذين التوجيهين لأنّ قطعاً في معنى كثير، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير. وجوزوا أيضاً في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلماً حالاً من قطع، وحالاً من الضمير في من. قال ابن عطية: فإذا كان نعتاً يعني: مظلماً نعتاً لقطع، فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة، قطعاً استقر من الليل مظلماً على نحو قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك انتهى. ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير: كائناً من الليل مظلماً. وانتصب يوم على فعل محذوف أي: ذكرهم أو خوفهم ونحوه. وجميعاً حال. ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال، وقدر بأثبتوا وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي أي اثبتي. ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله: أنتم وشركاؤكم. والحركة التي في مكانك ودونك، أهي حركة إعراب، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال؟ ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فمن قال: هي في موضع نصب جعل الحركة إعراباً، ومن قال: لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء. وعلى الأول عول الزمخشري فقال: مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. واختلفوا في أنتم، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال: وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله: الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى. يعني عطفاً على الضمير المستكن، وتقديره: الزموا، وأنّ مكانكم قام مقامه، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا. ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازماً كان اسم الفعل لازماً، وإذا كان متعدياً كان متعدياً مثال ذلك: عليك زيداً لما ناب مناب، الزم تعدى. وإليك لما ناب مناب تنح، لم يتعد. ولكون مكانك لا يتعدى، قدره النحويون اثبت، واثبت لا يتعدى. قال الحوفي: مكانكم نصب بإضمار فعل أي: الزموا مكانكم أو اثبتوا. وقال أبو البقاء: مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر، أي الزموا انتهى. وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه، كما تعدى الزم. وقال ابن عطية: أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى. فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه، ولقوله: فزيلنا بينهم، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق. ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم

بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول: كل رجل وضيعته بالرفع، ولا يجوز فيه النصب. وقال ابن عطية أيضاً: ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى. وهذا ليس بجيد، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره عنه، وهو غير جائز لا تقول: أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم. والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا، لأن التأكيد ينافي الحذف. وليس من كلامهم: أنت زيداً لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تريد ضرب أنت زيد، إنما كلام العرب زيداً تريد اضرب زيداً. يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله. قال الفراء: تقول العرب: زلت الضأن من المعز فلم تزل. وقال الواحدي: التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى. وزيل مضاعف للتكثير، وهو لمفارقة الحبث من ذوات الياء، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة. وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول، وتبعه أبو البقاء. وقال أبو البقاء: فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول، وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي: زيولنا مثل بيطر وبيقر، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى. وليس بجيد، لأنّ فعل أكثر من فيعل، ولأنّ مصدره تزييل. ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله، فكان يكون زيلة كبيطرة، لأنّ فيعل ملحق بفعلل، ولقولهم في قريب من معناه: زايل، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط. وقال العذارى إنما أنت عمنا وكان الشباب كالخليط يزابله وقال آخر: لعمري لموت لا عقوبة بعده

لذي البث أشفى من هوى لا يزايله والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده. وقيل: فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية، وفزيلنا. وقال: هنا ماضيان لفظاً، والمعنى: فنزيل بينهم ونقول: لأنهما معطوفان على مستقبل، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم: إياكم كنا نعبد، والمعنى: إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أنداداً فأطعتموهم، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى. وانتصب شهيداً، قيل: على الحال، والأصح على التمييز لقبوله مِن. وتقدم الكلام في كفى وفي الياء، وأنْ هي الخفيفة من الثقيلة. وعند القراء هي النافية، واللام بمعنى إلا، وقد تقدم الكلام في ذلك. وروي عن عاصم: نبلوا بنون وباء أي: نختبر. وكل نفس بالنصب، وما أسلفت بدل من كل نفس، أو منصوب على إسقاط الخافض أي: ما أسلفت. وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو: الحمد لله أهل الحمد. وقال الزمخشري: كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل، على تأكيد قوله: ردوا إلى الله انتهى.

وأم هنا تقتضي تتدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى: أم ماذا كنتم تعملونوَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأٌّبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأٌّمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} فلا تتقدّر ببل، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء. وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً، كأنه قيل: أي شيء. والخبر بعد الحق، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما، كأنه قيل: الذي بعد الحق؟ وبعد صلة كذا. كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب، والإشارة بذلك قيل: إلى المصدر المفهوم من تصرفون. هدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين، وإلى الثاني بإلى وباللام. ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول، ولا يصح أن يكون لازماً بمعنى يهتدي، لأن مقابله إنما هو متعد، وهو قوله قل: الله يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق. وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى، وقال: لا نعرف هذا، وأحق ليست أفعل تفضيل، بل المعنى حقيق بأن يتبع.

الظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي: افتراء، أي: ذا افتراء، أو مفتري. ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك: ما كان زيد ليفعل، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ. والصحيح أنهما لا يتعاقبان، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك. وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ يفتري خبراً لكان، بل الخبر محذوف. وأن يفتري معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام. قرأ الجمهور: تصديق وتفصيل بالنصب، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي: ولكن كان تصديق أي مصدقاً ومفصلاً. وقيل: انتصب مفعولاً من أجله، والعامل محذوف، والتقدير: ولكن أنزل للتصديق. وقيل: انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: تفصيل وتصديق بالرفع، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي: ولكن هو تصديق. كما قال الشاعر: ولست الشاعر السفساف فيهم ولكن مده الحرب العوالي أي ولكن أنا. وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف. وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي: أيقولون اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد. وقالت فرقة: أم هذه بمنزلة همزة استفهام. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير أيقولون. وقيل: أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت الجملة قبلها والتقدير: أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال: قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن.

قال ابن عطية: قال الزجاج: كيف، في موضع نصب على خبر كان، لا يجوز أن يعمل فيه انظر، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض.6 في قولك: كيف زيد؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية، وينخلع معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، وانظر قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، فإنه لم يستقيم انتهى. وقول الزجاج: لا يجوز أن يعمل فيه انظر، وتعليله: يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً، لكنّ الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة، وهي من نظر القلب. وقولابن عطية: هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله، ليس كما ذكر، بل لكيف كعنيان: أحدهما: الاستفهام المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل. والثاني: الشرط. لقول العرب: كيف تكون أكون وقوله: ولكيف تصرفات إلى آخره، ليس كيف تحل محل المصدر، ولا لفظ كيفية هو مصدر، إنما ذلك نسبة إلى كيف. وقوله: ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، لا يحتمل أن يكون منها، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية. وأما كن كيف شئت، فكيف ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها. وجوابها محذوف التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: قم متى شئت، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم، والجواب محذوف تقديره: متى شئت فقم، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم: هضرب زيداً إنْ أساء إليك، التقدير: إن أساء إليك فاضربه، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه. وأما قول البخاري: كيف كان بدء الوحي؟ فهو استفهام محض، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلاً سأله فقال: كيف كان بدء الوحي؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك.

قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. قال ابن عطية: ويوم ظرف، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره: واذكر. ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار، ويصح نصبه بيتعارفون، والكاف من قوله: كأن، يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال: ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله: كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى. أما قوله: ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا، ولعله أراد ما قاله الحوفي: من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى. فيكون التقدير: ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا، وأما قوله: والكاف من قوله كأن، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة، والجمل نكرات، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. لا يقال: إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة، فهن ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليه انكرة، تقول: مررت في يوم قدم زيد الماضي، فتصف يوم بالمعرفة، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا. وأيضاً فكأن لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره: كأن لم يلبثوا قبله، فحذف قبله أي قبل اليوم،

وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز. فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء. قال الزمخشري: (فإن قلت) : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ (قلت) : أما الأولى فحال منهم أي: نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني: فتكون حالاً، وإما أن تكون مبينة لقوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى. وقال الحوفي: يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل، كأنه قال: متعارفين، المعنى: اجتمعوا متعارفين. ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى. وأما قول ابن عطية: ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال: ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، فقد حكاه أبو البقاء فقال: وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله انتهى. وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز. وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها، وأن يكون جملة مستأنفة، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم. وما كانوا مهتدين: الظاهر أنه معطوف على قوله: قد خسر، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا: إنّ قوله قد خسر من كلامهم، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة الذين أي: كذبوا بلقاء الله، وانتفت هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن تكون الجملة كالتوحيد بجملة الصلة، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد.

إما هي أنْ الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة. ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى. يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه. قال ابن خروف: أجاز سيبويه الإتيان بما، وأن لا يؤتى بها، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها، والإراءة هنا بصرية، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين. قال الزمخشري: فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه، فنحن نريك في الآخرة انتهى. فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف، لأن قوله: فإلينا مرجعهم صالح أنْ يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه. وأيضاً فقول الزمخشري: فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد. وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل، إلا ما شاء الله أنْ أملكه وأقدر عليه. وقال الزمخشري: هو استثناء منقطع أي: ولكن ما شاء الله من ذلك كائن. تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها ما قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ المعنى: أخبرني عن زيد ما صنع. وقبل دخول أرأيت كان الكلام: زيد ما صنع؟ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف، والمسألة من باب الإعمال تنازع. أرأيت وإن أتاكم على قوله: عذابه، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين، وهو الذي ورد به السماع أكثر من إعمال الأول. فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر، لأنّ إضماره مختص بالشعر، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك.

وقال الحوفي: الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير. وجواب الشرط محذوف، وتقدير الكلام: أرأيتم ما تستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى. فظاهر كلام الحوفي: إن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني، وأنها بمعنى أعلمتم، وأن جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، وأنه استفهام معناه التقرير، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف. قال الزمخشري: (فإن قلت) : بم يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ (قلت) : تعلق بأريأتم، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف: وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى. وما قدره الزمخشري غير سائغ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول: أنت ظالم إن فعلت، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم. وكذلك وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير: إن شاء الله نهتد. فالذي يسوغ أن يقدر إنْ أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل.

وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً والمعنى: إن أتاكم عذابه أأمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان؟ انتهى. أما تجويزه أن يكون ماذا جواباً للشرط فلا يصح، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء، تقول: إنْ زارنا فلان فأي رجل هو، وإن زارنا فلان فأي يدله بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة، والمثال الذي ذكره وهو: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ هو من تمثيله، لا من كلام العرب. وأما قوله: ثم تتعلق الجملة بأرأيتم، إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني، وأخبرني تطلب متعلقاً مفعولاً، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني. وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً فلا يصح أيضاً، لما ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاء الجواب. وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها، فالجملة الاستفهامية معطوفة، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط. وأيضاً فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة الشرط موقعه.

وتقدم الكلام في قوله: بياتاًفَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الظَّلِمِينَ * وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ

يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَءَامَنْتُمْ بِهِءَآلئْنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الأعراف مدلولاً وإعراباً.

ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره، وهو بمعنى الذي، ويستعجل صلته، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي: شيء يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولاً كأنه قيل: أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون. وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ، وخبره الجملة بعده. وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ. والظاهر عود الضمير في منه على العذاب، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل. ثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في: {أفلم يسيروا} وفي {أو لم يسيروا} وتقدم الكلام على ذلك. وخلاف الزمخشري للجماعا في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف. وقال الطبري في قوله: أثم بضم الثاء، أنّ معناه أهنالك قال: وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى. وما قاله الطبري من أنّ ثم هنا ليست للعطف دعوى، وأما قوله: إن المعنى أهنالك، فالذي يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى، لا أنْ ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك. وقرأ طلحة والأعرج: بهمزة الاستفهام بغير مد، وهو على إضمار القول أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به، فالناصب لقوله: الآن هو آمنتم به، وهو محذوف. قيل: تقول لهم ذلك الملائكة. وقيل: الله، والاستفهام على طريق التوبيخ. وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة: آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام، بل على الخبر، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور. وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى. وقد كنتم جملة حالية. وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن. ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة.

أي يستخبرونك. وأحق هو الضمير عائد على العذاب. وقيل: على الشرع والقرآن. وقيل: على الوعيد، وقيل: على أمر الساعة، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري: بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد. وقال ابن عطية: معناه يستخبرونك، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين: أحدهما الكاف، والآخر في الابتداء، والخبر فعلى ما قال: يكون يستنبئونك معلقة. وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بعن، تقول: استنبأت زيداً عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو، والظاهر أنها معلقة عن المفعول الثاني. قال ابن عطية: وقيل هي بمعنى يستعلمونك. قال: فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة: أحدها: الكاف، والابتداء، والخبر سد مسد المفعولين انتهى. وليس كما ذكر، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة، لا يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أنْ تتعدى إلى ثلاثة، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا. وارتفع هو على أنه مبتدأ، وحق خبره. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعلى به سد مسد الخبر، وحق ليس اسم فاعلى ولا مفعول، وإنما هو مصدر في الأصل، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت.

وإي تستعمل في القسم خاصة، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة. قال معناه الزمخشري قال: وسمعتهم يقولون في التصديق أي، وفيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى. ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة. وقال ابن عطية: هي لفظة تتقدّم القسم، وهي بمعنى نعم، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء، تقول: أي ربي أي وربي انتهى. وقد كان يكتفي في الجواب بقوله: أي وربي، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله: وربي، مسوقة مؤكدة بأنّ. واللام مبايعة في التوكيد في الجواب، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب، وكان سؤالاً عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع. قيل: وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه، بل هو لاحق بكم. واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم، فتكون معطوفة على الجواب قبلها. واحتمل أن تكون إخباراً، معطوفاً على الجملة المقولة لا على جواب القسم. وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال: ولن نعجزه هرباً، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب: أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه. وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى، فلا يتعدى تقول: فديته فافتدى، وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين. والظاهر أنّ قوله: وقضى بينهم بالقسط، جملة أخبار مستأنفة، وليست معطوفة على ما في حيز لما، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت. وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهاً للغافل.

والظاهر أن قوله: قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا جملتان، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير: قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد. قال الزمخشري: والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك، فليفرحوا. ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي: فمجيئهما فليفرحوا انتهى. أما إضمار فليعنتوا فلا دليل عليه، وأما تعليقه بقوله: قد جاءتكم، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفاً بعد قل، ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل. وقال الحوفي: الباء متعلقة بما دل على المعنى أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله. وقيل: الفاء الأولى زائدة، ويكون بذلك بدلاً قبله، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة. وقيل: كررت الفاء الثانية للتوكيد، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا.

وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني. وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولاً أولا لأرأيتم، والعائد عليها محذوف، والمفعول الثاني قوله: آلله أذن لكم، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره: آلله أذن لكم فيه، وكرر قلْ قبل الخبر على سبيل التوكيد. وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله: الحوفي والزمخشري. وقيل: ما استفهامية مبتدأة، والضمير من الخبر محذوف تقديره: آلله أذن لكم فيه أو به، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد. وجعل ما موصولة هو الوجه، لأن فيه إبقاء. أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه، بخلاف جعلها استفهامية، فإنْ أرأيت إذ ذاك تكون معلقة، ويكون ما قد سدّت مسد المفعولين، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى: أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم.

وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى بل، أتفترون على الله تقريراً للافتراء انتهى، وأنزل هنا قيل معناه: خلق كقوله: وأنزلنا الحديد وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجوَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأٌّرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . وقيل: أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي: من سبب رزق وهو المطر. وقال ابن عطية: أنزل لفظة فيها تجوز، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراماً وحلالاً. ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى: أي شي ظن المفترين يوم القيامة. وقرأ عيسى بنن عمر: وما ظن جعله فعلاً ماضياً أي ظن ظن الذين يفترون، فما في موضع نصب على المصدر، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول: ما تضرب زيداً تريد أي: رب تضرب زيداً. وقال الشاعر: ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما

لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا وجيء بلفظ ظنّ ماضياً لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن، لكونه عاملاً في يوم القيامة. وهو ظرف مستقبل. وما في الجملتين نافية، والضمير في منه عائد على شأن. وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد، لأنه قد تقدم الأفعل. والجملة بعد إلا حال وشهوداً رقباء نحصي عليكم، وإذ معمولة لقوله: شهوداً. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً، وكان المعنى: وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه. وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي. وقرأ الجمهور: لا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ. وقرأ حمزة وحده: برفع الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. وقال الزمخشري نابعاً لاختيار الزجاج: والوجه النصب على نفي الجنس، والرفع على الابتداء، يكون كلاماً مبتدأ. وفي العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحاً في موضع الجر أشكال، لأنّ قولك: لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى. وإنما أشكل عنده، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب، وهذا كلام لا يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره: لكن هو في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الإشكال.

وقال الجرجاني صاحب النظم: إلا بمعنى الواو أي: وهو في كتاب مبين. والعرب تضع إلاّ موضع واو النسق كقوله: إلا من ظلم إلا الذين ظلموا منهموَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} انتهى. وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو، وتقدم الكلام على قوله: {إلا الذين ظلموا منهم} وسيأتي على قوله: إلا من ظلم إن شاء الله تعالى. والذين يحتمل أن يكون منصوباً على الصفة قاله الزمخشري، أو على البدل قاله ابن عطية، أو بإضمار أمدح، ومرفوعاً على إضمارهم، أو على الابتداء، والخبر لهم البشرى. وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتاً، أو بدلاً، وأجيز فيه الخبر بدلاً من ضمير عليهم. قرأ أبو حيوة: أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولاً لقولهم: لأن ذلك لا يحزن الرسول، إذ هو قول حق. وخرجت هذه القراءة على التعليل أي: لا يقع منك حزن لما يقولون، لأجل أنّ العزة لله جميعاً. ووجهت أيضاً على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا يظهر هذا التوجيه.

قال الزمخشري: ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن. وقال القاضي: فتحها شاذ يقارب الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. وقال ابن قتيبة: لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما على أن أن معمولة لقولهم، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح. وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع، وشركاء منصوب بيدعون أي: وأي شيء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل: من يدعو شريكاً لله لا يتبع شيئاً. وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من، والعائد محذوف أي: والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي: وله شركاؤهم. وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والذي يتبعه المشركون باطل.

كقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَفِى الأٌّخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَوَت وَمَنْ فِى الأٌّرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَنَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَوَت وَمَا فِى الأٌّرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ

بِآيَتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} انتهى. وأنّ نافية أي: ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء. قال الحوفي: وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني: الذي تعلق به الظرف. وتبعه الزمخشري فقال: الباء حقها أن تتعلق بقوله: إن عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك: ما عندكم بأرضكم نور، كأنه قيل: إنّ عندكم فيما تقولون سلطان. وقال أبو البقاء: وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له. وجواب الشرط محذوف تقديره: فافعلوا ما شئتم. وقيل: الجواب فعلى الله توكلت. وفأجمعوا معطوف على الجواب، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائماً. وقال الأكثرون: الجواب فأجمعوا، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله: أما تريني قد نحلت ومن يكن غرضاً لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل ثقلك بادن ضخم على ظهر الجواد مهبل وقرأ الجمهور: فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه. قال الشاعر: أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء وقال آخر: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أعذرت يوماً وأمري مجمع وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي: ك وأمر شركائكم، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف. لأنه يقال أيضاً: أجمعت شركائي، أو منصوباً بإضمار فعل أي: وادعوا شركاءكم، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر، فيكون نظير قوله: فعلفتها تبناً وماء بارداً

حتى شئت همالة عيناها في أحد المذهبين أي: وسقيتها ماء بارداً، وكذا هي في مصحف أبي. وادعوا شركاءكم، وقال أبو علي: وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا: جاء البرد والطيالسة. ولم يذكر الزمخشري في نصب، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع، وينبغي أن يكون هذا التخريج عل أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في فاجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم، وذلك على أشهر الاستعمالين. لأنه يقال: أجمع الشركاء، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا قليلاً، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلاً. وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولاً معه خلاف، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى. وقرأ الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبو رجاء، والأعرج، والأصمعي عن نافع، ويعقوب: بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جميع، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال: شركائي، أو على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف أي: ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف، لو ثبت قاله أبو علي. وفي كتاب اللوامح: أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً، وجمعت الأموال جميعاً، فكان الإجماع في الإحداث والجمع في الإعيان، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر. وفي التنزيل: فجمع كيده انتهى. وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وسلام، ويعقوب فيما روي عنه: وشركاؤكم بالرفع، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي: وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم. وقرأت فرقة: وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم أي: وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر: أكل امرىء تحسبين أمراً وتار توقد بالليل ناراً أي وكل نار، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه. ومفعول اقضوا محذوف أي: اقضوا إليّ ذلك الأمر.

قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو: أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي: من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى. والظاهر أنّ ما موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: بما كذبوا به. ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. والظاهر أنّ معمول أتقولون محذوف تقديره: ما تقدم ذكره وهو أنّ هذا لسحر، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر: لنحن الألى قلتم فإني ملتئم برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا ومسألة الكتاب متى رأيت، أو قلت زيداً منطلقاً. وقيل: معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره.

وقرأ أبو عمرو، ومجاهد وأصحابه، وابن القعقاع: بهمزة الاستفهام في قوله: آلسحر ممدودة، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل، فعلى الاستفهام قالوا: يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ، والسحر بدل منها،. وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به، والسحر خبر مبتدأ محذوف. ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة، وجملة الاستفهام خبر، إذ التقدير: أهو السحر، أو آلسحر هو، فهو الرباط كما تقول: الذي جاءك أزيد هو؟ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة، والخبر السحر، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش: سحر. وقراءة أبيّ ما أتيتم به سحر. ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصب على الاشتغال، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاؤوا به، والسحر خير مبتدأ محذوف أي: هو السحر. قال ابن عطية: والتعريف هنا في السحر ارتب، لأنه قد تقدم منكراً في قولهم: إن هذا لسحر، فجاء هنا بلام العهد كما يقال: أول الرسالة سلام عليك، وفي آخرها والسلام عليك انتهى. وهذا أخذه من الفراء. قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى. وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأن شرط هذا أن يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم، ولا يكون غيره كما قال تعالى: كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول وتقول: زارني رجل فأكرمت الرجل، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول: فأكرمته. والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قوله: أنّ هذا لسحر، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به.

وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي: فتنته، فكون في موضع جر، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل، وإما على أنه في موضع المفعول به، أي: على خوف لأجل فتنته، أو على خوف فتنته. واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى: آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج، فكان الإتيان لكي يضلوا. ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً وكما قال الشاعر: وللمنايا تربي كل مرضعة وللخراب يجد الناس عمراناً وقال الحسن: هو دعاء عليهم، وبهذا بدأ الزمخشري قال: كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونوا ضلالاً، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا. ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم، وهي قراءة الكوفيين، وقتادة والأعمش، وعيسى، والحسن، والأعرج بخلاف عنهما. وقرأ الحرميان، والعربيان، ومجاهد، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وأهل مكة: بفتحها. وقرأ الشعبي بكسرها، ولى بين الكسرات الثلاث. وقيل: لا محذوفة، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله: أبو علي الجبائي. فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء، كما قال الأعشى: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تُلْقَينّ إلا وأنفك راغم ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله: الأخفش وغيره. وما بينهما اعتراض، أو على أنه مجزوم عل قول من قال: إن لام ليضلوا لام الدعاء، وقرأ الجمهور: تتبعان بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون، وروى ذلك الأخفش الدمشق عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورة فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة، وكسرت كما كسرت الشديدة. وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة، ويونس والفراء يريان ذلك. وقيل: النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع، والفعل منفي، والمراد منه النهي، أو هو خبر في موضع الحال أي: غير متبعين قاله الفارسي. وقرأ الجمهور: أنه بفتح الهمزة على حذف الباء. وقرأ الكسائي وحمزة: بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام، أو بدلاً من آمنت، أو على إضمار القول أي: قائلاً أنه. فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر. وقيل: هو استفهام فيه تهديد أي: أفاليوم ننجيك؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله: لتكون لمن خلفك لآية، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام. انتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله: لنبوئنهم من الجنة غرفاً} وقيل: يجوز أن يكون مصدراً.

الظاهر أنّ إنْ شرطية. وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أنّ إنْ نافية. قال الزمخشري: أي مما كنت في شك فسئل، يعني: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى. وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده، أو المحقق وجوده، المنبهم زمان وقوعه، كقوله تعالى: أفإن مت فهم الخالدونفَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَسِرِينَ} والذي أقوله: إنّ إنْ الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} ومستحيل أن يكون له ولد، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية} أي فافعل. لكنّ وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل، وهذه الآية من ذلك. ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج في تخريج هذه الآية. لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ، وكثيراً ما جاءت في القرآن للتحضيض، فهي بمعنى هلا.

قوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. وقال ابن عطية: هو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسب المعنى متصل، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس، والنصب هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وذلك مع انقطاع الاستثناء. وقالت فرقة: يجوز فيه الرفع، وهذا مع اتصال الاستثناء. وقال المهدوي: والرفع على البدل من قرية، وقال الزمخشري: وقرىء بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها، وذكر جواز فتحها. قرىء: وما تغني بالتاء، وهي قراءة الجمهور وبالياء. وماذا يحتمل أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، والخبر في السموات. ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي، وصلته في السموات. وانظروا معلقة، فالجملة الابتدائية في موضع نصب، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، ويكون مفعولاً لقوله: انظروا، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى، وإن كانت قلبية تعدت بفي. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما في قوله: وما تغني، مفعولة لقوله: انظروا، معطوفة على قوله: ماذا أي: تأملوا نذر غنى الآيات. وفي قوله: مفعولة معطوفة على قوله ماذا، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا، فيكون ماذا موصولة. وانظروا بصرية لما تقدم.

والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم، ننجي من آمن بك يا محمد، ويكون حقاً على تقدير: حق ذلك حقاً. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حقاً بدلاً من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره: إنجاء مثل ذلك حقاً. وأجاز أن يكون كذلك، وحقاً منصوبين بننجي التي بعدهما، وأن يكون كذلك منصوباً بننجي الأولى، وحقاً بننجي الثانية، وأجاز هو تابعاً لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع، وقدره الأمر كذلك: وحقاً منصوب بما بعدها.

وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له، المفرد له بالعبادة، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر. قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه. وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه، أأثبت أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونفَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ * وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأٌّرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ * قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا

وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّلِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وأمرت أن أكون أصله: بأن أكون، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة، مع أنّ وأنّ وأن يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير {فاصدع بما تؤمر} انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي: اختار، واستغفر، وأمر، وسمى، ولبى، ودعا بمعنى سمى، وزوّج، وصدّق، خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو: بريت القلم بالسكين، فيجيز السكين بالنصب. وجواب إن كنتم في شك قوله: فلا أعبد، والتقدير: فأنا لا أعبد، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ. وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله.

سورة هود

وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعى فيها المعنى. لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر. وقد أجاز ذلك النحويون، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو. ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي: وأوحي إليّ أن أقم، فاحتمل أن تكون مصدرية، واحتمل أن تكون حرف تفسير، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى، ليزول قلق العطف لوجود الكاف، إذ لو كان وأنّ أقم عطفاً على أن أكون، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى. وحنيفاً: حال من الضمير في أقم، أو من المفعول. وأجاز الزمخشري أن تكون حالاً من الدين، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية، وكونها حرف تفسير. اسم إنّ والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة. قال الحوفي: الفاء جواب الشرط، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى. وقال الزمخشري: إذا جواب الشرط، وجواب لجواب مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان. سورة هود وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطة كقوله: الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له.

قال الزمخشري: وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي: أحكمتها أنا نائم، فصلتها. (فإن قلت) : ما معنى؟ ثم (قلت) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى. يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة. ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر. أن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل: التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولاً من أجله، ووصلت أنْ بالنهي. وقيل: أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي. وقيل: إنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير: من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي: إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي: كائن من جهته. أو تعلق بنذير أي: أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. وقيل: يعود على الكتابة أي: نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا. انتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل، أو على أنه فمعول به. لأنك تقول: متعت زيداً ثوباً.

والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي: وإنْ تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين، والتقدير قيل لهم: إني أخاف عليكم. وقرأ اليماني، وعيسى بن عمر: وإن تولوا بضم التاء واللام، وفتح الواو، مضارع وليّ، والأولى مضارع تولى. وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة: وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً للمفعول به. ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور. وقرأ سعيد بن جبير: يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب. قال صاحب اللوامح: ولا يعرف الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل البعض من الكل. وقال أبو البقاء: ماضية أثنى، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه: عرضوها للاثناء، كما يقال: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع. وقال أبو البقاء: ألا حين العامل في الظرف محذوف أي: ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم. ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله. فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف. وقيل: ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا التأوي أنّ هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر. وقيل: تقدير الفعل، وخلقكم ليبلوكم. وقيل: في الكلام جمل محذوفة، التقدير: وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى، وفعل ذلك ليبلوكم.

وقرىء: أيكم بفتح الهمزة. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق إنك تشتري لحماً، بمعنى علك أي: ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا: ويجوز أن يضمن. قلت معنى ذكرت انتهى يعني: فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت. والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله: مصروفاً، فهو معمول لخبر ليس. وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين. وذهب الكوفيون والمبرد: إلى أنه لا يجوز ذلك، وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل. وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: إن اليوم زيداً مسافر، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها، ولا بمعموله، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر: فيأبى فما يزداد إلا لجاجه وكنت أبياً في الخفا لست أقدم وتقدم تفسير جملة وحاق بهم. والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس، والمعنى إن هذا الخلق في سجايا الناس، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إلا الذين صبروا متصلاً. وقيل: المراد هنا بالإنسان الكافر. وقيل: المراد به إنسان معين، فقال ابن عباس: هو الوليد بن المغيرة، وفيه نزلت. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً. الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل، والهمزة أي: أيقولون افتراه. وقال ابن القشيري: أم استفهام توسط الكلام على معنى: أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن، أم يقولون إنه ليس من عند الله، فإن قالوا: إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى. فجعل أم متصلة، والظاهر الانقطاع كما قلنا، والضمير في افتراه عائد على قوله: ما يوحى إليك، وهو القرآن.

وقرأ الجمهور: نوفّ بنون العظمة، وطلحة بن ميمون: يوف بالياء على الغيبة. وقرأ زيد بن علي: يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى. وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول، وأعمالهم بالرفع، وهو على هذه القراآت مجزوم جواب الشرط، كما انجزم في قوله: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثهالر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأٌّرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَنَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ

كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ

شَىْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأٌّحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأٌّشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالأٌّخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الأٌّخْسَرُونَ * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ

وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأٌّعْمَى وَالأٌّصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَذِبِينَ * قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَرِهُونَ * وَيَقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * قَالُواْ ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ

هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ * وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْءَامَنَ وَمَآءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ} وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة، ولهذا جزم الجواب. ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد، وكان يكون مجزوماً، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب مضارعاً ليس مخصوصاً بكان، بل هو جائز في غيرها. كما روي في بيت زهير: ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم وقرأ الحسن: نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال: ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب، واحتمل أن يكون مرفوعاً كما ارتفع في قول الشاعر: وإن شل ريعان الجميع مخافة

يقول جهاراً ويلكم لا تنفروا والضمير في قوله: ما صنعوا فيها، الظاهر أنه عائد على الآخرة، والمحرور متعلق بحبط، والمعنى: وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن تتعلق بقوله: صنعوا، فيكون عائداً على الحياة الدنيا، كما عاد عليها في فيها قبل. وما في صنعوا بمعنى الذي. أو مصدرية، وباطل وما بعده توكيداً لقوله: وحبط ما صنعوا، وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل، وما كانوا هو المبتدأ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية. وقرأ زيد بن علي: وبطل جعله فعلاً ماضياً. وقرأ أبي، وابن مسعود: وباطلاً بانلصب، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون، فهو معمول خبر كان متقدماً. وما زائدة أي: وكانوا يعملون باطلاً، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين. وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها، ويشهد للجواب قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} ومن منع تأول. وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون، فتكون ما فاعلة، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر. والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه. وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره: كتاب موسى بالنصب عطفاً على مفعول يتلوه، أو بإضمار فعل. وقيل: الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي: فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء. ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً، وما على هذه الأقوال نفي. وقيل: ما مصدرية أي: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم، والمعنى: أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد. وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع أنْ وأن أختيها، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى.

لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم، وبنيا، والمعنى: حق، وما بعده رفع به على الفاعلية. وقال الحوفي: جرم منفي بلا بمعنى حق، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم. وقال قوم: إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك: لا رجل، ومعناها لا بد ولا محالة. وقال الكسائي: معناها لا ضد ولا منع، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله، وتكون جرم هنا من معنى القطع، نقول: جرمت أي قطعت. وقال الزجاج: لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم. ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا: إن الأصنام تنفعهم. وجرم فعل ماض معناه كسب، والفاعل مضمر أي كسب، هو أي: فعلهم، وإنّ وما بعدها في موضع نصب على المفعول به، وجرم القوم كاسبهم. وقال الشاعر: نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا وقال آخر: جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا ويقال: لا جرم بالكسر، ولا جر يحذف الميم. قال النحاس: وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، قال: ونا سمن فزارة يقولون: لا جرم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين، قال: بنو عامر يقولون: لا ذا جرم، وناس من العرب يقولون: لا جرم بضم الجمي. وقال الجبائي في نوادره: حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك، قال: ويقال لا ذا جرم، ولا ذو جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا أن جرم، ولا عن جرم، ولا ذا جر، والله بغير ميم لا أفعل ذاك. وحكى بعضهم بغير لا جرم: أنك أنك فعلت ذاك، وعن أبي عمرو: لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا: سو ترى يريدون سوف ترى. انتصب مثلاً على التمييز، قال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالاً انتهى. وفيه بعد، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله: هل يستوي مثلاهما.

وقرأ النحويان وابن كثير: أني بفتح الهمزة أي: بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول. وأَنْ بدل من أي لكم في قراءة من فتح، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة. وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة، والمراعى قبلها: أما أرسلنا وإما نذير مبين، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا. وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي: بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه: أول الرأي. وقرأ باقي السبعة: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي. وقيل: بادي بالياء معناه بادىء بالهمز، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها. وذكروا أنه منصوب على الظرف، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي: وما نراك فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم.

وقال الزمخشري: اتبعوك أول الرأي، أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك، وأقيم المضاف إليه مقامه، أرادوا أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى. وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان، لأنّ في مقدرة فيه أي: في ظاهر الأمر، أو في أول الأمر. وعلى هذين التقديرين أعني أنْ يكون العامل فيه نراك، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك، لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو: قام إلا زيداً القوم، أو مستثنى نحو: جاء القوم إلا زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو، وبادىء الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة. وأجيب بأنه ظرف، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب، أي أنك ذاهب في جهد رأي، والظروف يتسع فيها. وإذا كان العامل أراذل فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم. وقيل: بادي الرأي نعت لقوله: بشراً. وقيل: انتصب حالاً من ضمير نوح في اتبعك، أي: وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك. وقيل: انتصب على النداء لنوح أي: يا بادي الرأي، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، قالوا: ذلك تعجيزاً له. وقيل: انتصب على المصدر، وجاء الظرف والمصدر على فاعل، وليس بالقياس. (قلت) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة، وإما على الرحمة، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد. ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له الغمام لأنه يغمه. وقيل: هذا من المقلوب، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

قال أبو علي: وهذا مما يقلب، هذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن: فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسلهأَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأٌّحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأٌّشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالأٌّخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الأٌّخْسَرُونَ * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأٌّعْمَى وَالأٌّصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ

إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَذِبِينَ * قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَرِهُونَ * وَيَقَوْمِ} انتهى. والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة، وأما قول الشاعر: فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف. وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على. ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا، ولا تقول عميت على كذا؟

وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على {أرأيتم} مشبعاً، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين: أحدهما منصوب، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية. تقول: أرأيتك زيداً ما صنع، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة. وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني، وقررنا هناك أن قوله: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله} أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله. أرأيتكم يطلبه منصوباً، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً، فأعمل الثاني، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير: أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله: أرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها ونحوه، فسيكفيكهم الله، ويجوز فسيكفيك إياهم، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل. قال: وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه. وقال ابن أبي الربيع: إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير، تقول: أعطيتكه. قال تعالى: أنلزمكموها؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له، قال سيبويه: فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطباً وغائباً، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك: أعطيتكه وقد أعطاكه. قال الله تعالى: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون، فهذا كهذا، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى. فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك. وقال الزمخشري: وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل

وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى. وأخذه الزمخشري من الزجاج، قال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق. وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرىء القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفاً. وقرىء: بطارد بالتنويو، قال الزمخشري: على الأصل يعني: أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا يضاف، وهذا ظاهر كلام سيبويه. ويمكن أن يقال: إن الأصل الإضافة لا العمل، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه. والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه. وتزدري تفتعل، والدال بدل من التاء قال: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور وأنشد الفراء: يباعده الصديق وتزدريه حليلته وينهره الصغير والعائد على الموصول محذوف أي: تزدرونهم. وما معنى الذي والعائد محذوف أي بما تعدناه أو مصدرية.

وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: نصحي بفتح النون، وهو مصدر. وقراءة الجماعة بضمها، فاحتمل أن يكون مصدراً كالشكر، واحتمل أن يكون اسماً. وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره: إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، والشرط الثاني: اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي، تقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وصار الشرط الثاني شرطاً في الأول، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر متقدّماً، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إنْ كان الله يريد أن يغويكم. فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي. ونظيره: وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحهاوَيَقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * قَالُواْ ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ} .

قرأ الجمهور وأوحي مبنياً للمفعول، أنه بفتح الهمزة. وقرأ أبو البر هشيم: وأوحي مبنياً للفاعل، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء أوحى مجرى قال: على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى. واصنع عطف على فلا تبتئس. وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال: مستأنف على تقدير سؤال سائل. وجوزوا أن يكون العامل قال: وسخروا صفة لملا، أو بدل من مرّ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه. ومن يأتيه مفعول بتعلمون، وما موصولة، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد. وقال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحد انتهى. ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً، لأنّ أصله خبر مبتدأ، ولا اختصاراً هنا، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله: من يأتيه. وقيل: مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء، ويأتيه الخبر، والجملة في موضع نصب، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين. وقرأ حفص: من كل زوجين بتنوين، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول، واثنين نعت توكيد، وباقي السبعة بالإضافة، واثنين مفعول احمل، وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل، وعلى اثنين إن أضيف.

وعدي اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها، أو معنى ادخلوا فيها. وقيل: التقدير اركبوا الماء فيها. وقيل: في زائدة للتوكيد أي: اركبوها. والباء في بسم الله في موضع الحال، أو متبركين بسم الله. ومجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان، لأنهما يجيئان لذلك. أو ظرفا زمان على جهة الحذف، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاح، أي: وقت قدوم الحاج، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل. ويجوز أن يكون باسم الله حالاً من ضمير فيها، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية، أي: اركبوا فيها ملتبساً باسم الله إجراؤها وإرساؤها أي: ببركة اسم الله. أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء، وباسم الله الخبر، والجملة حال من الضمير في فيها. وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة، والحال مقدرة. ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالاً. ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولاً بالركوب، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر الله أو بأمره وقدرته، فالجملتان كلامان محكيان. يقال: كما أن الجملة الثانية محكية أيضاً بقال.

وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي، وزيد بن عليّ، والأعمش، ومجراها ومرساها بفتح الميمين، ظرفي زمان أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة. وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جند، والكلبي، والجحدري، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم الله، فهما في موضع خبر، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين. وقال ابن عطية: وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم الله انتهى. ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ يكونا معرفتين. وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرّف. بهم حال أي: ملتبسة بهم. وقرأ الجمهور: بوصل هاء الكناية بواو، وقرأ ابن عباس: أنه بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي: وهذا على لغة الازد الشراة، يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر: ونضواي مشتاقان له أرقان وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون: وأشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت. قال أبو الفتح: ذلك على النداء. وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء. وقرأ عليّ، وعروة، وعليّ بن الحسين، وابنه أبو جعفر، وابنه جعفر: ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي: ابنها مضافاً لضمير امرأته، فاكتفى بالفتحة عن الألف. قال ابن عطية: وهي لغة، ومنه قول الشاعر: إما تقود بها شاة فتأكلها أو أن تبيعه في بعض الأراكيب وأنشد ابن الأعرابي على هذا: فلست بمدرك ما فات مني

بلهف ولا بليت ولا لواني انتهى. يريد تبيعها وتلهفاً، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف، قال ابن عطية: وليس كما قال انتهى. وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء، وأجاز ذلك الأخفش. والضمير الفاعل يعود على الله تعالى، وضمير الموصول محذوف، ويكون الاستثناء منقطعاً أي: لكنْ من رحمة الله معصوم، وجوزوا أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة، كما قالوا لاين أي: ذو لبن، وذو عصمة، مطلق على عاصم وعلى معصوم، والمراد به هنا المعصوم.m أو فاعل بمعنى مفعول، فيكون عاصم بمعنى معصوم، كماء دافق بمعنى مدفوق. وقال الشاعر: بطيء الكلام رخيم الكلام

أمسى فؤادي به فاتنا أي مفتوناً. ومن للمعصوم أي: لا ذا عصمة، أو لا معصوم إلا المرحوم. وعلى هذين التجويزين يكون استثناء متصلاً، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق أخرى: وهو حذف مضاف وقدره: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة انتهى. والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، لأنه لما قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح: لا عاصم، أي لا عاصم موجود. ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل يدل عليه عاصم، أي: لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف. ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بقوله: لا عاصم، ولا أن يكون من أمر الله متعلقاً به، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولاً، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه وإعرابه، ولا يبنى وهو مبنى، فبطل ذلك. وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبراً لقوله: لا عاصم. قال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم. وقال ابن عطية: واليوم ظرف وهو متعلق بقوله: من أمر الله، أو بالخبر الذي تقديره: كائن اليوم انتهى. وردّ ذلك أبو البقاء فقال: فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم، لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجنة، بل الخبر من أمر الله، واليوم معمول من أمر الله. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم نعتاً لعاصم ومن الخبر انتهى. ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث، كما لا يكون خبراً.

واللام في للقوم من صلة المصدر. وقيل: تتعلق بقوله: وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز. ومعنى ونادى نوح ربه أي: أراد أن يناديه، ولذلك أدخل الفاء، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والأخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال: ولسقطت كما لم تدخل في قوله: إذ نادى ربه نداء خفياً قال ربوَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْءَامَنَ وَمَآءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ * قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَيَسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِىَ الأٌّمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ

الظَّلِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَكِمِينَ * قَالَ ينُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَلِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَسِرِينَ * قِيلَ ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلَمٍ مِّنَّا وَبَركَتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِلَى عَادٍ أَخَهُمْ هُودًا قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ * قَالُواْ يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ

رَبِّى عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة. قرأ الكسائي: إعمل غير صالح جعله فعلاً ناصباً غير صالح. والباء للحال أي: مصحوباً بسلامة وأمن وبركات، وهي الخيرات النامية في كل الجهات. ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي: اهبط مسلماً عليك مكرماً. وارتفع أمم على الابتداء. قال الزمخشري: وسنمتعهم صفة، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله: ممن معك، والمعنى: أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى. ويجوز أن يكون أمم مبتدأ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، والتقدير: وأمم منهم أي ممن معك، أي ناشئة ممن معك، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه، فحذف منه وهو صفة لمنوان، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة. ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، فكان مثل قول الشاعر: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول وقال القرطبي: ارتفعت وأمم على معنى: ويكون أمم انتهى. فإنْ كان أراد تفسير معنى فحسن، وإن أراد الإعراب ليس بجيد، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول كلمت: زيداً وعمر وجالس انتهى. فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، واحتمل أنْ تكون الواو للحال، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء: وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره: اهبط أنت وأمم، وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى. وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله: أرسلنا نوحاً إلى قومه، عطف الواو على المجرور، والمنصوب على المنصوب، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو: ضرب زيد عمراً، وبكر خالداً، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو: ضربت زيداً، وفي البيت عمراً، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين: هل يجوز في الكلام، أو يختص بالشعر؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف، وقراءة الكسائي غيره بالخفض، وقيل: ثم فعل محذوف أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل، والأول من عطف المفردات، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين. وهوداً بدل أو عطف بيان.

وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: صادرين عن قولك، قاله الزمخشري. وقيل: عن للتعليل كقوله تعالى: إلا عن موعدة وعدها إياهقِيلَ ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلَمٍ مِّنَّا وَبَركَتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِلَى عَادٍ أَخَهُمْ هُودًا قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ * قَالُواْ يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} فتتعلق بتاركي، كأنه قيل لقولك.

واعتراك جملة محكية بنقول، فهي في موضع المفعول، وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو: قام وضربت زيداً. وما في ما تشركون موصولة، إما مصدرية، وإما بمعنى الذي أي: بريء من إشراككم آلهة من دونه، أو من الذين تشركون، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل. وقرأ الجمهور: فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى. وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي: تولوا بضم التاء، واللام مضارع وليّ، وقيل: تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول، أي: فقل لهم قد أبلغتكم، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضياً وإضمار القول. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تولوا فعلاً ماضياً، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي: فقد أبلغتكم انتهى. فلا يحتاج إلى إضمار، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل. وجواب الشرط هو قوله: فق أبلغتكم، وصح أن يكون جواباً، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل، فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب. ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله: ويستخلف ربي قوماً غيركم. وقرأ الجمهور: ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي: يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم. وقرأ حفص في رواية هبيرة: بجزمها عطفاً على موضع الجزاء، وقرأ عبد الله كذلك، وبجزم ولا تضروه. وأصل جحد أن يتعدى بنفسه، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء، كما عدى كفر بنفسه في قوله: إلا أن عادا كفروا ربهم، إجراء له مجرى جحد. وقيل: كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر. قرأ ابن وثاب والأعمش: وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي، والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة.

وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية، وأنا وإننا لغتان لقريش. قال الفراء: من قال إننا أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين نا، فاجتمعت ثلاث نونات. ومن قال: أنا استثقل، اجتماعها، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى. والذي أختاره أن نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين، ولم يعهد حذف نون نا، فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة. تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح، والمفعول الثاني هنا لا رأيتم محذوف يدل عليه قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، والتقدير: أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة. وقال ابن عطية: أرأيتم هو من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة، وهي كان على بينة من ربه، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أو أمره، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية: وفي الكلام محذوف تقديره: أيضرني شككم، أو أيمكنني طاعتكم، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى. وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما تزيدونني غير تخسير.

وانتصب آية على الحال، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقاً، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان نعتاً لآية، فلما تقدم على النكرة كان حالاً، والعامل فيها محذوف. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : فبم يتعلق لكم؟ (قلت) : بآية حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى. وهذا متناقض، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف، فتناقض هذا الكلام، لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة، ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية. وقرأت فرقة: تأكل بالرفع على الاستئناف، أو على الحال. الوعد بالعذاب غير مكذوب، أي صدق حق. والأصل غيره مكذوب فيه، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول. والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود. قيل: الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي: ونجيناهم من خزي، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ. وقرأ طلحة وأبان بن تغلب: ومن خزي بالتنوين، ونصب يومئذ على الظرف معمولاً لخزي. وقرأ الجمهور بالإضافة، وفتح الميم نافع والكسائي، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ، وهو غير متمكن. وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي: ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم.

وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي: سلمنا عليك سلاماً، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا، قال ابن عطية: ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله: مجاهد، والسدي. ولذلك عمل فيه القول، كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله قلت: حقاً وإخلاصاً، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى. ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول، يعني في اللفظ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي: أمري أو أمركم سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: عليكم سلام، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال: إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة أي طعمه طعم مدامة. ونصب سلاماً يدل على التجدد، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية، ولبث معناه تأخر وأبطأ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله: الفراء. وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن، وبفي، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي. وأن تكون ما مصدرية، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء، وأن تكون بمعنى الذي أي: فلبثه، أو الذي لبثه، أو الذي لبثه، والخبر أن جاء على حذف أي: قدر مجيئه. امرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء: في موضع الحال، قال أبو البقاء: من ضمير الفاعل في أرسلنا، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل. وقال الحوفي: والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته. والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل: ومن بعد إسحاق، أو من خلف إسحاق، وبمعنى بعد.

وقرأ الحرميان، والنحويان، وأبو بكر يعقوب: بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب كائن، وقدره الزمخشري مولود أو موجود. قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي: فبشرناها بإسحاق متصلاً به يعقوب. وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور، كما أجازه الأخفش أي: واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب. وقالت فرقة: رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب. وقال النحاس: ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب. قال ابن عطية: وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى. ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي: يعقوب بالنصب. قال الزمخشري: كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله: ليسوا مصلحين عشيرة، ولا ناعب، انتهى. يعني أنه عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره: ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب، ودل عليه قوله: فبشرناها لأن البشارة في معنى الهبة، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق، أو على موضعه. فقوله ضعيف، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، فإن جاء ففي شعر. فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً، ففي جواز ذلك خلاف نحو: قام زيد واليوم عمرو، وضربت زيداً واليوم عمراً والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة نحو: يا لهفا ويا عجباً، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو عمرو والأعشى، إذ هي بدل من الياء. وقرأ الحسن: يا ويلتي بالياء على الأصل. وقيل: الألف ألف الندبة، ويوقف عليها بالهاء.

أنا عجوز وما بعده جملتا حال، وانتصب شيخاً على الحال عند البصريين، وخبر التقريب عند الكوفيين. ولا يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر عروفاً عند المخاطب، لأنّ الفائدة إنما تقع بهذه الحال، أما إذا كان مجهولاً عنده فأردت أن تفيد المخاطب ما كان يجهله، فتجيء الحال على بابها مستغنى عنها. وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش، شيخ بالرفع. وجوزوا فيه. وفي بعلي أن يكونا خيرين كقولهم: هذا حلو حامض، وأن يكون بعلى الخبر، وشيخ خبر محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلاً أو عطف بيان، وشيخ الخبر. وأهل منصوب على النداء، أو على الاختصاص، وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح، كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله: بنا تميماً يكشف الضباب. وقوله: ولا الحجاج عيني بنت ماء.

وجواب لما محذوف كما حذف في قوله: فلما ذهبوا بهوَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ * وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحاً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأٌّرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ * قَالُواْ يصَلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّى وَءَاتَنِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَلِحاً وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ *

وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَماً قَالَ سَلَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يوَيْلَتَاءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَدِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يإِبْرَهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ *

فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّلِمِينَ بِبَعِيدٍ} وتقديره: اجترأ على الخطاب اذ فطن للمجادلة، أو قال: كيت وكيت. ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا، قال معناه الزمخشري. وقيل: الجواب يجادلنا وضع المضارع موضع الماضي، أي جادلنا. وجاز ذلك لوضوح المعنى، وهذا أقرب الأقوال. وقيل: يجادلنا حال من إبراهيم، وجاءته حال أيضاً، أو من ضمير في جاءته. وجواب لما محذوف تقديره: قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا، واختار هذا التوجيه أبو علي. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ظل أو أخذ يجادلنا، فحذف اختصاراً لدلالة ظاهر الكلام عليه. وقرأ عمرو بن هرم: وإنهم أتاهم بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله {أتى أمر الله} .

وقيل: أحل وأطهر بيتاً ليس أفعل التفضيل، إذ لا طهارة في اتيان الذكور. وقرأ الجمهور: أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر. وجوز في بناتي أنْ يكون بدلاً، أو عطف بيان، وهن فصل وأطهر الخبر. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: أطهر بالنصب. وقال سيبويه: هو لحن. وقال أبو عمرو بن العلاء: احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني: تربع. ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخرجت هذه القراءة على أنَّ نصب أطهر على الحال. فقيل: هؤلاء مبتدا، وبناتي هنّ مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء، وروي هذا عن المبرد. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن مبتدأ ولكم خبره، والعامل قيل: المضمر. وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن فصل، وأطهر حال. ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال. وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب، لكنه قليل. قال: لو أنّ لي بكم قوة، قال ذلك على سبيل التفجع. وجواب لو محذوف كما حذف في: ولو أن قرآناً سيرت به الجبالوَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وتقديره: لفعلت بكم وصنعت.

وقال الحوفي، وأبو البقاء: أو آوى عطف على المعنى تقديره: أو أني آوي. والظاهر أن أو عطف جملة فعلية، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي: لو ثبت أن لي بكم قوة، أو آوى. ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعاً موقع الماضي، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ ومعمولاها. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون أو آوى مستأنفاً انتهى. ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد، وكنى به عن جناب الله تعالى. وقرأ شيبة، وأبو جعفر: أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد، أو فتتقدر بالمصدر عطفاً على قوله: قوة. ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر: ولولا رجال من رزام أعزة وآل سبيع أو يسوؤك علقما أي أو ومساءتك علقماً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إلا امرأتك بالرفع، وباقي السبعة بالنصب، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله بأهلك، إذ قبله أمر، والأمر عندهم كالواجب. ويتعين النصب على الاستثناء من أهلك في قراءة عبد الله، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه: ولا يلتفت منكم أحد. وجوزوا أن يكون منصوباً على الاستثناء من أحد وإن كان قبله نهى، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء، كقراءة ابن عامر: ما فعلوه إلا قليلاً منهم بالنصب، وإن كان قبله نفي. ووجه الرفع على أنه بدل من أحد، وهو استثناء متصل.

وقيل: الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الأخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا. ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناء ألبتة قال تعالى: فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، فم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى. فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، ففيه النصب والرفع. فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القرّاء انتهى. وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهييين عن الالتفات، وجعل استثناء منقطعاً كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع من العرب، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه.h وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ ذاك النصب قولاً واحداً. والضمير في أنه ضميرالشأن، ومصيبها مبتدأ، وما أصابهم الخبر. ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن، وما أصابهم فاعل به، لأنهم يجيزون أنه قائم أخواك. ومذهب البصريين أنّ ضمير الشان لا يكون خبره إلا جملة مصرحاً بجزءيها، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم.

وقوله: إن كنتم مؤمنين، شرط في أن يكون البقية خيراً لهم، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال. وجواب هذا الشرط متقدم. ونيس جواب الشرط متقدماً كما ذكر، وإنما الجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه على مذهب جمهور البصريين. وقرأ الجمهور: أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء بالنون فيهما. وقرأ الضحاك بن قيس، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي: بالتاء فيهما على الخطاب، ورويت عن أبي عبد الرحمن. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة: نفعل بالنون، ما نشاء بالتاء على الخطاب، ورويت عن ابن عباس. فمن قرأ بالنون فيهما فقوله: أو أن نفعل معطوف على قوله: ما يعبد أي: أن نترك ما يعبد آباؤنا وفعلنا في أموالنا ما نشاء. ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما فمعطوف على أن نترك أي: تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا، وفعلك في أموالنا ما تشاء، أو وفعلنا في أموالنا ما تشاء. وأو للتنويع أي: تأمرك مرة بهذا، ومرة بهذا. وقيل: بمعنى الواو.

قال الزمخشري: (فإن قلت) : أين جواب أرأيتم، وما له لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ (قلت) : جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في الصفتين دل على مكانه، ومعنى الكلام يناوي عليه، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي، وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك انتهى. وتسمية هذا جواباً لأرأيتم ليس بالمصطلح، بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المقعول الثاني لأرأيتم، لأنّ أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت إلى مفعولين، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية تنعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب: أرأيتك زيداً ما صنع. وقال الحوفي: وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: فاعدل عن ما أنا عليه من عبادته على هذه الحال. وقال ابن عطية: وجواب الشرط الذي في قوله: إن كنت على بينة من ربي محذوف تقديره: أضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ الرسالة ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة انتهى. وليس قوله: أضل جواباً للشرط، لأنّه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة، فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب الشرط محذوف تدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها.

والمعنى أنّ أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستيد بها دونكم، فعلى هذا الظاهر أن قوله: أن أخالفكم في موضع المفعول لأريد، أي وما أريد مخالفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو: جاوز وجاز أي: وما أريد أن أخلفكم أي: أكون خلفاً منكم. وتتعلق إلى باخالفكم، أو بمحذوف أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال بعضهم: فيه حذف يقتضيه إلى تقديره: وأميل إلى، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من المخالفة، ويكون في موضع المفعول به بأريد، وتقدر: مائلاً إلى، أو يكون أن أخالفكم مفعولاً من أجله، وتتعلق إلى بقوله وما أريد بمعنى، وما أقصد أي: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكناً منه لا آلوا فيه جهداً. وأجاز الزمخشري في ما وجوهاً أحدها: أن يكون بدلاً من الإصلاح أي: المقدر الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، فهذان وجهان في البدل. والثالث: أن يكون مفعولاً كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم، وهذا الثالث ضعيف، لأن المصدر المعرّف بأل لا يجوز إعماله في المفعول به عند الكوفيين، وأما البصريون فإعماله عندهم فيه قليل.

وجرم في التعدية مثل كسب يتعدى إلى واحد. جرم فلان الذنب، وكسب زيد المال، ويتعدى إلى اثنين جرمت زيداً الذنب، وكسبت زيداً المال. وبالألف يتعدى إلى اثنين أيضاً، أجرم زيد عمراً الذنب، وأكسبت زيداً المال، وتقدم الكلام في جرم في العقود. وقرأ مجاهد، والجحدري، وابن أبي إسحاق، ورويت عن نافع: مثل بفتح اللام، وخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون الفتحة فتحة بناء، وهو فاعل كحاله حين كان مرفوعاً، ولما أضيف إلى غير متمكن جاز فيه البناء، كقراءة من قرأ أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون. والثاني: أن تكون الفتحة فتحة إعراب، وانتصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي: إصابة مثل إصابة قوم نوح. والفاعل مضمر يفسره سياق الكلام أي: ان يصيبكم هو أي العذاب. في من يأتيه أن تكون موصولة مفعولة بقوله: تعلمون أي: تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب، واستفهامية في موضع رفع على الابتداء، وتعلمون معلق كأنه قيل: أين يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب. قال ابن عطية: والأول أحسن، يعني كونها مفعولة قال: لأنها موصولة، ولا يوصل في الاستفهام، ويقضي بصلتها إن المعطوفة عليها موصولة لا محالة انتهى. وقوله: ويقضي بصلتها الخ لا يقضي بصلتها، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا محالة كما قال، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من الاستفهامية، كما قدّرناه وأينا هو كاذب. قال الزمخشري: (فإن قلت) : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون؟ (قلت) : أدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، يوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، كما هو عادة البلغاء من العرب. وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه.

ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال الثاني لأنه تنازعه يقدم أي: إلى النار وفأوردهم، فأعمل الثاني وحذف معمول الأول. والهمزة في فأوردهم للتعدية، ورد يتعدى إلى واحد، فلما أدخلت الهمزة تعدى إلى اثنين، فتضمن وارداً وموروداً. ويطلق الورد على الوارد، فالورد لا يكون المورود، فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم، فالتقدير: وبئس مكان الورد المورود ويعني به النار. فالورد فاعل ببئس، والمخصوص بالذم المورود وهي النار. ويجوز في إعراب المورود ما يجوز في زيد من قولك: بئس الرجل زيد، وجوز ابن عطية وأبو البقاء أن يكون المورود صفة للورد أي: بئس مكان الورد المورود النار، ويكون المخصوص محذوفاً لفهم المعنى، كما حذف في قوله: فبئس المهاد وهذا التخريج يبتني على جواز وصف فاعل نعم وبئس، وفيه خلاف. ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز، ويوم القيامة، لأنه الآخرة. فيوم معطوف على موضع في هذه، وذهب قوم إلى أنّ التقسيم هو أنّ لهم في الدنيا لعنة، ويوم القيامة يرفدون به فهي لعنة واحدة أولاً، وقبح ارفاد آخر انتهى. وهذا لا يصح لأنّ هذا التأويل يدل على أنّ يوم القيامة معمول لبئس، وبئس لا يتصرف، فلا يتقدم معمولها عليها، فلو تأخر يوم القيامة صح كما قال الشاعر: ولنعم حشو الدرع أنت إذا دعيت نزال ولج في الذعر. وقال الزمخشري: بئس الرفد المرفود رفدهم، أي: بئس العون المعان، وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى انتهى. ويظهر من كلامه أنّ المرفود صفة للرفد، وأنّ المخصوص بالذم محذوف تقديره: رفدهم.

وقال الأخفش: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد، مثل: مرضى ومراض، وباب فعلى جمعاً لفعيل بمعن مفعول، أن يكون فيمن يعقل نحو: قتيل وقتلى. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها انتهى. وقال أبو البقاء: منها قائم ابتداء، وخبر في موضع الحال من الهاء في نقصه، وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي: ومنها حصيد انتهى. قال الزمخشري: ولما منصوب بما أغنت انتهى. وهذا بناء على أنّ لما ظرف، وهو خلاف مذهب سيبويه، لأنّ مذهبه أنها حرف وجوب لوجوب. وإذ ظرف لما مضى، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه المصدر وهو: أخذ ربك، وأخذ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة حالية. الناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع، وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ، ومجموع خبر مقدم، وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع، وقياسه على إعرابه مجموعون. والظاهر أنّ الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في نؤخره وهو قوله: ذلك يوم، والناصب له لا تكلم.

وأجاز الزمخشري أن يكون فاعل يأتي ضميراً عائداً على الله قال: كقوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله أو يأتي ربكقَالُواْ يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّلِمِينَ بِبَعِيدٍ * وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُواْ يَشُعَيْبُ أَصَلَوَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لأّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَلِحٍ وَمَا قَوْمُ

لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُواْ يشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَرِهِمْ جَثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَتِنَا وَسُلْطَنٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ

الأٌّخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأًّجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وجاء ربك، ويعضده قراءة وما يؤخره بالياء، وقوله: {بإذنه} وأجاز أيضاً أن ينتصب يوم يأتي باذكر أو بالانتهاء المحذوف في قوله: إلا لأجل معدود، أي ينتهي الأجل يوم يأتي. وأجاز الحوفي أن يكون لا تكلم حالاً من ضمير اليوم المتقدم في مشهود، أو نعتاً لأنه نكره، والتقدير: لا تكلم نفس فيه يوم يأتي إلا بإذنه. وقال ابن عطية: لا تكلم نفس، يصح أن يكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في يأتي، وهو العائد على قوله ذلك يوم، ويكون على هذا عائد محذوف تقديره: لا تكلم نفس فيه إلا بإذنه. ويصح أن يكون قوله: لا تكلم نفس، صفة لقوله: يوم يأتي. وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة، وما مصدرية ظرفية أي: مدة دوام السموات والأرض. والظاهر أنّ قوله: إلا ما شاء ربك استثناء من الزمان الدال عليه قوله: خالدين فيهما ما دامت السموات والأرض. والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى.

ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أو في خالدين، وقيل: إلا بمعنى الواو، وفمعنى الآية: وما شاء الله زائداً على ذلك. وقيل: في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع كما تقول: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك الألف. فكأنه قال: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، سوى ما شاء الله زائداً على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا: عطاء غير مجذوذ، وهذا قول الفرّاء. وقال الثعلبي: سعد وأسعد بمعنى واحد، وانتصب عطاء على المصدر أي: أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله: والله أنبتكم من الأرض نباتاًفَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي إنباتاً. وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي. وغير منقوص حال من نصيبهم، وهو عندي حال مؤكدة، لأنّ التوفية تقتضي التكميل. وقال الزمخشري: التنوين عوض من المضاف إليه يعني: وإن كلهم.

وقرأ الحرميان وأبو بكر: وإن كلا بتخفيف النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: لما بالتشديد هنا وفي يسفَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأٌّرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} و {الطارق} وأجمعت السبعة على نصب كلا، فتصور في قراءتهم أربع قراآت: إحداها: تخفيف أن ولما، وهي قراءة الحرميين. والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. والثالثة: تخفيف إنْ وتشديد لما وهي قراءة أبي بكر. والرابعة: تشديد أنْ وتخفيف لمّا، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو. وقرأ أبيّ والحسن بخلاف عه، وإبان بن ثعلب وإنْ بالتخفيف كل بالرفع لمّا مشدداً. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا لمّا بتشديد الميم

وتنوينها، ولم يتعرضوا لتخفيف إنْ ولا تشديدها. وقال أبو حاتم: الذي في مصحف أبيّ وإن من كل إلا ليوفينهم. وقرأ الأعمش: وإن كل إلا، وهو حرف ابن مسعود، فهذه أربعة وجوه في الشاذ. فأما القراءة الأولى فأعمال أنْ مخففة كأعمالها مشددة، وهذا المسألة فيها خلاف: ذهب الكوفيون إلى أنّ تخفيف أن يبطل عملها، ولا يجوز أن تعمل. وذهب البصريون إلى أنّ إعمالها جائز، لكنه قليل إلا مع المضمر، فلا يجوز إلا أن ورد في

شعر، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان العرب. حكى سيبويه أن الثقة أخبره أنه سمع بعض العرب أنّ عمر المنطلق، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون. وأما لما فقال الفراء: فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر إنّ، وما موصولة بمعن الذي كما جاء: {فانكحوا ما طاب لكم} والجملة من القسم المحذوف وجوابه الذي هو ليوفينهم صلة، لما نحو قوله تعالى: {وأن منكم لمن ليبطئن} وهذا وجه حسن، ومن إيقاع ما على من يعقل قولهم: لا سيما زيد بالرفع، أي لاسي الذي هو زيد. وقيل: ما نكرة موصوفة وهي لمن يعقل، والجملة القسمية وجوابها قامت مقام الصفة، لأن المعنى: وإنْ كلا لخلق موفى عمله، ورجح الطبري هذا القول واختاره. وقال أبو عليّ: العرف أن تدخل لام الابتداء على الخير، والخبر هنا هو القسم وفيه لام تدخل على جوابه، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف، واتفقا في اللفظ، وفي تلقي القسم فصل بينهما بما كما فصلوا بين أن واللام انتهى. ويظهر من كلامه أنّ اللام في لما هي اللام التي تدخل في الخبر، ونص الحوفي على أنها لام إنْ، إلا أنّ المنقول عن أبي علي أنّ الخبر هو ليوفينهم، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم وجوابه. وقيل: اللام في لما موطئة للقسم، وما مزيدة، والخبر الجملة القسمية وجوابها، وإلى هذا القول في التحقيق يؤول قول أبي علي. وأما القراءة الثانية فتشديد إنّ وإعمالها في كل واضح. وأما تشديد لمّا فقال المبرد: هذا لحن، لا تقول العرب إنّ زيداً لما خارج، وهذه جسارة من المبرد على عادته. وكيف تكون قراءة متواترة لحناً وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال: وهو أنّ زيداً لما خارج هذا المثال لحن، وأما في الآية فليس لحناً، ولو سكت وقال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة لكن قد وفق، وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها. فقال أبو عبيد: أصله لما منونا وقد قرىء كذلك، ثم بني منه فعلى، فصار كتتري نون إذ جعلت ألفه

للإلحاق كارطي، ومنع الصرف إذ جعلت ألف تأنيث، وهو مأخوذ من لممته أي جمعته، والتقدير: وإنْ كلاًّ جميعاً ليوفينهم، ويكون جميعاً فيه معنى التوكيد ككل، ولا يقال لما هذه هي لما المنونة وقف عليها بالألف، لأنها بدل من التنوين، وأجرى الأصل مجرى الوقف، لأنّ ذلك إنما يكون في الشعر. وما قاله أبو عبيد بعيد، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم، ولما يلزم لمن أمال، فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع، ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها، وقيل: لما المشدّدة هي لما المخففة، وشدّدها في الوقف كقولك: رأيت فرّحاً يريد فرحاً، وأجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا بعيد جداً، وروي عن المازني. وقال ابن جني وغيره: تقع إلا زائدة، فلا يبعد أن تقع لما بمعناها زائدة انتهى. وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا. وقال المازني: إنْ هي المخفف ثقلت، وهي نافية بمعنى ما، كما خففت إنْ ومعناها المثقلة، ولما بمعنى إلا، وهذا باطل لأنه لم يعهد تثقيل إن النافية، ولنصب كل وإن النافية لا تنصب. وقيل: لما بمعنى إلا كقولك: نشدتك بالله لما فعلت، تريد إلا فعلت، وقاله الحوفي، وضعفه أبو علي قال: لأن لما هذه لا تفارق القسم انتهى. وليس كما ذكر، قد تفارق القسم. وإنما يبطل هذا الوجه، لأنه ليس موضع دخول إلا، لو قلت: إنْ زيداً إلا ضربته لم يكن تركيباً عربياً. وقيل: لما أصلها لمن ما، ومن هي الموصولة، وما بعدها زائدة، واللام في لما هي داخلة في خبر إن، والصلة الجملة القسمية، فلما أدغمت من في الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون، فاجتمع المثلان، فأدغمت ميم من في ميم ما، فصار لمّا وقاله المهدوي. وقال الفراء، وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: أصل لمّا لمن ما دخلت من الجارة على ما، كما في قول الشاعر: وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقى اللسان من الفمفعمل بها ما عمل في الوجه الذي قبله. وهذان الوجهان ضعيفان جداً لم يعهد حذف نون من، ولا حذف نون من إلا في الشعر، إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال. وهذه كلها تخريجات ضعيفة جداً ينزه القرآن عنها. وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية، وهو أنّ لمّا هذه هي لما الجارمة حذف فعلها المجزوم لدلة المعنى عليه، كما حذفوه في قولهم قاربت المدينة، ولما يريدون ولما أدخله. وكذلك هنا التقدير وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل عليه قوله تعالى: ليوفينهم ربك أعمالهم، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال: ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت اعتقدت إني سبقت إلى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ عليّ فقال: قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب، ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال: لما هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما سافرت، ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح، فيكون التقدير: لما يتركوا، لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله: {فمنهم شقي وسعيد} ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم، ثم بين ذلك بقوله: ليوفينهم ربك أعمالهم، قال: وما أعرف وجهاً أشبه من هذا، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن.

وأما القراءة الثالثة والرابعة فتخريجهما مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما، وأما قراءة أبي ومن ذكر معه فإنْ نافية، ولمّا بمعنى إلا، والتقدير: ما كل إلا والله ليوفينهم. وكل مبتدأ الخبر الجملة القسمية وجوابها التي بعد لما كقراءة من قرأ {وأن كل لما جميع إن كل نفس لما عليها حافظ} ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون بمعنى إلا. قال أبو عبيد: لم نجد هذا في كلام العرب، ومن قال هذا لزمه أن يقول: رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك، وهذا غيره موجود. وقال الفراء: أما من جعل لما بمعنى إلا، فإنه وحجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا، وإلا قمت عنا، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر. ألا ترى أنّ ذلك لو جاز لسمع في الكلام: ذهب الناس لما زيدا؟ والقراءة المتواترة في قوله: وإنْ كل لما، وإن كل نفس لما، حجة عليهما. وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي، وكون العرب خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب الاستثناء، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه. وأما قراءة الزهري، وابن أرقم: لما بالتنوين والتشديد، فلما مصدر من قولهم: لممت الشيء جمعته، وخرج نصبه على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة لكلا وصف بالمصدر وقدر كل مضافاً إلى نكرة حتى يصح الوصف بالنكرة، كما وصف به في قوله: {أكلاً لما} وهذا تخريج أبي علي. والوجه الثاني: أن يكون منصوباً بقوله: ليوفينهم، على حد قولهم: قياماً لأقومن، وقعوداً لا قعدن، فالتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم. وهذا تخريج ابن جني وخبر إنّ على هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه.

وأما ما في مصحف أبي فإنْ نافية، ومن زائدة. وأما قراءة الأعمش فواضحة، والمعنى: جميع ما لهم. قيل: وهذه الجملة تضمنت توكيدات بأن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم، وبما إذا كانت زائدة، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة في وعد الطائع ووعيد العاصي، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي: أنه بما يعملون خبير. ومن تاب معطوف على الضمير المستكن في فاستقم، وأغنى الفاصل عن التوكيد. وقرأ زيد بن علي: ثم لا تنصروا بحذف النون، والفعل منصوب عطفاً على قوله: فتمسكم، والجملة حال، أو اعتراض بين المتعاطفين.l وانتصب طرفي النهار على الظرف. والظاهر عطف وزلفاً من الليل على طرفي النهار، عطف طرفاً على طرف.

إلا قليلاً استثناء منقطع أي: لكن قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، ولا يصح أن يكون استثناء متصلاً مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب، وغيره يراه منفياً من حيث معناه: أنه لم يكن فيهم أولو بقية، ولهذا قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلاً: (فإن قلت) : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلاً، كان استثناء متصلاً، ومعنى صحيحاً، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى. وقرأ زيد بن علي: إلا قليل بالرفع، لحظ أنّ التحضيض تضمن النفي، فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقال الفراء: المعنى فلم يكن، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعاً، والظاهر أنّ الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه أي: ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم. واتبع استئناف أخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي: ذوي جرائم غير ذلك. وقال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه: واتبعوا جزاء الإتراف. قالوا وللحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقال: وكانوا مجرمين، عطف على أترفوا، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى. فجعل ما في قوله: ما أترفوا، فيه مصدرية، ولهذا قدره: اتبعوا الإتراف، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضاً أنْ يكون معطوفاً على

اتبعوا أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. قال: ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى. ولا يسمى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو، لأنه آخر آية، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر. إلاّ من رحم استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن، فيكون استثناء منقطعاً كما ذهب إليه الحوفي، والإشارة بقوله: ولذلك خلقهم، إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال: إذا نهى السفيه جرى إليه. فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قيل: وللاختلاف خلقهم، ويكون على حذف مضاف أي: لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم.

وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف، أي: خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. ولا يتعارض هذا مع قوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونفَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأٌّرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأّمْلأّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأٌّمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} لأنّ معنى هذا

الأمر بالعبادة. واللام في لأملأن، هي التي يتلقى بها القسم، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} ثم قال: {لتؤمنن به} . الظاهر أن كلاً مفعول به، والعامل فيه نقص، والتنوين عوض من المحذوف، والتقدير: وكل نبأ نقص عليك. ومن أنباء الرسل في موضع الصفة لقوله: وكلاً إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة، وما صلة كما هي في قوله: قليلاً ما تذكرونوَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل} قيل: أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو ما نثبت، فتكون ما بمعنى الذي، أو مصدرية. وأجازوا أن ينتصب كلاً على المصدر، وما نثبت مفعول به بقولك نقص، كأنه قيل: ونقص علك الشيء الذي نثبت به فؤادك كل قص. وأجازوا أن يكون كلاً نكرة بمعنى جميعاً، وينتصب على الحال من المفعول الذي هو ما، أو من المجرور الذي هو الضمير في به على مذهب من يجوز تقديم حال المجرور بالحرف عليه، التقدير: ونقص عليك من أنباء الرسل الأشياء الت نثبت بها فئادك جميعاً أي: المثبتة فؤادك جميعاً.

سورة يوسف

سورة يوسف مائة وإحدى عشرة آية مكية وانتصب قرآناً، قيل: على البدل من الضمير، وقيل على الحال الموطئة. القصص: مصدر قص، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر، وأما لكون الفعل يكون للمفعول، كالقبض والنقص. وقيل: أحسن هنا ليست أفعل التفضيل، بل هي بمعنى حسن، كأنه قيل: حسن القصص، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي: القصص الحسن. وما في بما أوحينا مصدرية أي: بإيحائنا. وإذا كان القصص مصدراً فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن، إلا أنه من باب الإعمال، إذ تنازعه نقص. وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء. وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين. والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية: اذكر. وأجاز الزمخشري أن تكون بدلاً من أحسن القصص قال: وهو بدل اشتمال، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قص وقته فقد قص. وقال ابن عطية: ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى: نقص عليك الحال، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية. وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين، والذي يظهر أن العامل فيه قال: يا بني، كما تقول: إذ قام زيد قام عمر، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى. ويوسف اسم عبراني، وتقدمت ست لغات فيه. ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب، لامتناع أن يكون أعجمياً غير أعجمي. لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى.

فيكيدوا لك: منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي، وعدي فيكيدوا باللام، وفي فكيدون بنفسه، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد، واحتمل أن يكون من باب التضمين، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال: فيحتالوا لك بالكيد، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين، وللمبالغة أكد بالمصدر. واللام في ليوسف لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. وأحب أفعل تفضيل، وهي مبني من المفعول شذوذاً، ولذلك عدى بإلى، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدى إليه بإلى، وإذا كان مفعولاً عدى إليه بفي، تقول: زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى، وعمرو هو المحب. وإذا قلت: زيد أحب إلى عمرو من خالد، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب. ومن خالد في المثال الأول محبوب، وفي الثاني فاعل، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة، فيكون الخبر محذوفاً وهو عامل في عصبة، وانتصب عصبة على الحال، وهذا كقول العرب: حكمك مسمطاً حذف الخبر. قال المبرد: قال الفرزدق: يا لهمذم حكمك مسمطا أراد لك حكمك مسمطاً، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك: الهلال والله أي: هذا الهلال، والمسمط المرسل غير المردود. وقال ابن الأنباري: هذا كما تقول العرب: إنما العامري عمته، أي يتعمم عمته انتهى. وليس مثله، لأنّ عصبة ليس مصدراً ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطاً. وقدره بعضهم: حكمك ثبت مسمطاً.

ويجوز أن تكون أو للتنويع أي: قال بعض: اقتلوا يوسف، وبعض اطرحوه، وانتصب أرضاً على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية، أي: في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها، قريب من أرض يعقوب. وقيل: مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه، كما تقول: أنزلت زيداً الدار. وقالت فرقة: ظرف، واختاره الزمخشري، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس، ولا يهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة. وقال ابن عطية: وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال: لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك، فزال بذلك إبهامها. واحتمل تكونوا أن. يكون مجزوماً عطفاً على مجزوم، أو منصوباً على إضمار أنْ. ولا تأمنا جملة حالية، وهذا الاستفهام صحبة التعجب. وانتصب غداً على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك. وأصله: غدو، فحذفت لامه وقد جاء تاماً. ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي: وهو يلعب. وقرأ زيد بن علي: يرتع ويلعب بضم الياءين مبنياً للمفعول، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف واتسع، فعدى الفعل للضمير، فكان التقدير: يرتعه ويلعبه، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوباً لكونه ناب عن الفاعل. وإنا له لحافظون جملة حالية، والعامل فيه الأمر أو الجواب، ولا يكون ذلك من باب الإعمال، لأن الحال لا تضمر، وبأنّ الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول، وليحزنني مضارع مستقبل لا حال، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال.

وأن يجعلوه مفعول أجمعوا، يقال: أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء، وبمعنى التصيير. واختلفوا في جواب لمّا أهو مثبت؟ أو محذوف؟ فمن قال: مثبت، قال: هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي: لما كان كيت وكيت، قالوا وهو تخريج حسن. وقيل: هو أوحينا، والواو زائدة، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما، وحتى إذا. وعلى ذلك خرجوا قوله: فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي: ناديناه وقوله: حتى إذا جاؤوها وفتحت أي: فتحت. وقول امرىء القيس: فلما أحربا ساحة الحي وانتحى أي: انتحى. ومن قال: هو محذوف، وهو رأي البصريين، فقدره الزمخشري: فعلوا به ما فعلوا من الأذى. وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله: لتنبئنهم بهذا أي: غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج. ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالاً من قوله: وأوحينا أي: وهم لا يشعرون. عشاء نصب على الظرف، أو من العشوة والعشوة: الظلام، فجمع على فعال مثل راع ورعاء، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا على وزن دجى، جمع عاش، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك، وأصله مالكة.

قال الزمخشري: (فإن قلت) : على قميصه ما محله؟ (قلت) : محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. (فإن قلت) : هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة؟ (قلت) : لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى. ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا، وليس الفوق ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم. وقال الحوفي: على متعلق بجاؤوا، ولا يصح أيضاً. وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل، ويكون بأحمال في موضع الحال أي: مصحوباً بأحمال. وقال أبو البقاء: على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم، لأن التقدير: جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى. وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى: يرشد إلى ما قاله أبو البقاء. وقرأ الجمهور: كذب وصف لدم على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف أي: ذي كذب، لما كان دالاً على الكذب وصف به، وإن كان الكذب صادراً من غيره. وقرأ زيد بن علي: كذباً بالنصب، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال، وأن يكون مفعولاً من أجله. فصبر جميل أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وقرأ أبي، والأشهب، وعيسى بن عمر: فصبراً جميلاً بنصبهما، وكذا هي في مصحف أبيّ، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي. ونصبه على المصدر الخبري أي: فاصبر صبراً جميلاً. قيل: وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يحسن النصب في قوله: شكا إلي جملي طول السرى

صبراً جميلاً فكلانا مبتلي ويروى صبر جميل في البيت. وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال: فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً. وفي الحديث: أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه أي: إلى الخلق. شرى بمعنى باع، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري: وشيت برداً ليتني من بعد برد كنت هامه أي بعت برداً، وبرد غلامه. وقال الآخر: ولو أن هذا الموت يقبل فدية شريت أبا زيد بما ملكت يدي أي اشتريت أبا زيد.

وفيه تقدم نظيره في إني لكما لمن الناصحينالر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ * إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأًّبِيهِ يأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ * قَالَ يبُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَنَ لِلإِنْسَنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأٌّحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَتٌ لِّلسَّآئِلِينَ * إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَلِحِينَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ * قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ * قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَفِلُونَ * قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ

وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَدِقِينَ * وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ * وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يبُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأٌّرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأٌّحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأٌّبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ

سُوءًا إِلاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّدِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَطِئِينَ} وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمره، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين. أي: وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين، أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف. فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما. وقال الجوهري: هوت وهيت به صاح به فدعاه، ولا يبعد أن يكون مشتقاً من اسم الفعل، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك. ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو: هيت لك، وهيت لك، وهيت لكما، وهيت لكم، وهيت لكن. وانتصب معاذ الله على المصدر أي: عياذاً بالله من فعل السوء.

والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول: إنّ جواب لولا متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد. بل نقول: إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل. وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان موجداً لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي الهم. ولا التفات إلى قول الزجا. ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيداً فكيف مع سقوط اللام؟ لأنه يوهم أن قوله: وهمّ بها هو جواب لولا، ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام، وبغير لام تقول: لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد أكرمتك. فمن ذهب إلى أن قوله: وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله: ولقد همت به، وإن جواب لولا في قوله وهم بها، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى. أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى: إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنينوَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأٌّبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ

مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا} فقوله: إنْ كادت لتبدي به، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. قال الزمخشري: الكاف منصوب المحل أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي: الأمر مثل ذلك. وقال ابن عطية: والكاف من قوله: كذلك، متعلة بمضمر تقديره: جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف. ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته، كذلك لنصرف. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: همت به وهم بها كذلك، ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه ما هم به انتهى. وقال الحوفي: كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: أريناه البراهين كذلك. وقيل: في موضع رفع أي: أمر البراهين كذلك، والنصب أجود لمطالبة حروف الحر للأفعال أو معانيها. وقال أبو البقاء: كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك. وقيل: في موضع نصب أي: نراعيه كذلك، انتهى. وأقول: إن التقدير مثل تلك الرؤية، أو مثل ذلك الرأي، نرى براهيننا لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصب للكاف ما دل عليه قوله: لولا أن رأي برهان ربه. ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف. ومصدر رأى رؤية ورأي قال: ورأى عيني الفتى أباكا يعطي الجزيل فعليك ذاكا وأصل استبق أن يتعدى بإلى، فحذف اتساعاً. وقدت يحتمل أن يكون معطوفاً على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالاً. وما الظاهر أنها نافية، ويجوز أن تكون استفهامية أي: أيّ شيء جزاؤه إلا السجن؟

وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط؟ أو المعنى: أن يتبين كونه. فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر. وجواب الشرط فصدقت وفكذبت، وهو على إضمار قد أي: فقد صدقت، وفقد كذبت. ولو كان فعلاً جامداً أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارىء، والجار ودبن أبي سبرة بخلاف عنه: من قبل، ومن دبر، بثلاث سمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضاً في رواية عنهم: بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوها غاية نحو: من قبل. ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما لأنهما إسمان متمكنان، وليسا بظرفين. وقال أبو حاتم: وهذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف. وعن ابن أبي إسحاق: أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح، كان جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. حاش: قال الفراء من السرب من يتمها، وفي لغة الحجاز: حاش لك، وبعض العرب: حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد، وهي في أهل الحجاز انتهى. وقال الزمخشري: حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشى زيد. قال: حاشى أبي ثوبان أن لنا

ضنا عن الملحاة والشتم وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاش الله: براءة الله، وتنزيه الله انتهى. وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرق بين قولك: قام القوم إلا زيداً، وقام القوم حاشى زيد. ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع. وأما ما أنشده من قوله: حاشى أبي ثوبان، فكذا ينشده ابن عطية، وأكثر النحاة. وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر، وهما من بيتين وهما: حاشى أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببُكْمَة قَدْمِ عمرو بن عبد الله إن به ضنًّا عن الملحاة والشتَم وانتصب حباً على التمييز المنقول من القاعل كقوله: ملأت الإناء ماء، أصله ملأ الماء الإناء.

وقرأ أبو السمأل: حاشا لله بالتنويو كرعياً لله، فأما القراآت لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمأل فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى، أو حاش، أو حشى، أو حاش حرف جر، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرف فيهما بالحذف، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرد وغيره كابن عطية: أنه يتعين فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي: حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به. ومعنى لله: لطاعة الله، أو لمكانة من الله، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به، أو يذعن إلى مثله، لأنّ ذلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك. وعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي: جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله، أو لما ذهب قبل. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال: تنزيهاً لله. ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا منوناً، وعلى هذا القول يتعلق الله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف. ألا تراهم قالوا: من عن يمينه، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه؟ وقالوا: من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر، بل أبقوا عن على بنائه، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها، وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا: سبحان الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي: إن حاشى حرف استثناء، كما قال الشاعر: حاشى أبي ثوبان انتهى.

وانتصاب بشراً على لغة الحجاز، ولذا جاء: ما هن أمهاتهنّ إنّ أمهاتهموَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّدِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَطِئِينَ * وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى

حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالأٌّخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَءَابَآءِي إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يصَاحِبَىِ السِّجْنِءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يصَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الأٌّخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الأٌّمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَنُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ * وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَتٍ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا

تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَثُ أَحْلَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأٌّحْلَمِ بِعَلِمِينَ * وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ} وما منكم من أحد عنه حاجزين، ولغة تميم الرفع. قال ابن عطية: ولم يقرأ به. وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع، وهي قراءة ابن مسعود انتهى. قال: وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية، وبها ورد القرآن انتهى. وإنما قال القدمي، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء، فتقول: ما زيد بقائم، وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر: وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها أبناؤها متكنفون أباهم حنقو الصدور وما هم أولادها والضمير في آمره عائد على الموصول أي: ما آمر به، فحذف الجار، كما حذف في أمرتك الخير. ومفعول آمر الأول محذوف، وكان التقدير ما آمره به. وإن جعلت ما مصدرية جاز، فيعود الضمير على يوسف أي: أمري إياه. فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي: أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله: أصب. والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي: بدا لهم هو أي رأى أو بدا. كما قال: بدا لك من تلك القلوص بداء هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله: ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي: سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو. وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين.

ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل، وكلاهما لمدلول واحد. ولا يجوز أن يقول: اضربني ولا أكرمني. والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: بتأويل ذلك. واحتمل قوله: يا صاحبي، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف، والمعنى: يا صاحبي في السجن، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل: يا ساكني السجن، كقوله أصحاب النار وأصحاب الجنةقَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالأٌّخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَءَابَآءِي إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ

بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يصَاحِبَىِ السِّجْنِءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} . وأرى حكاية حال، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت. وسمان صفة لقوله: بقرات، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن. ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع. لم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر، إنما تتبعه الصفة. وثلاثة فرسان، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء. ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً على سنبلات خضر، لأنه من حيث العطف عليه كان جملة مميز سبع، ومن جهة كونه أخر كان مبايناً لسبع، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات، فإنه كان يصح العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات.

واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول: زيد ضارب لعمر وفصيحاً. والظاهر أن خبر كنتم هو قوله: تعبرون. وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة أحدها: أن تكون الرؤيا للبيان قال: كقوله: وكانوا فيه من الزاهدين، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها. والثاني: أن تكون الرؤيا خبر كان قال: كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً. والثالث: أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي: هي أضغاث أحلام. والجملة من قوله واذكر حالية، وأصله: وذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال فيها فصار اذكر. وقرأ حفص: دأباً بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وهما مصدران لدأب، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي: تدابون داباً، فهو منصوب على المصدر. وعند المبر بتزرعون بمعنى تدأبون، وهي عنده مثل قعد القرفصاء. وقيل: مصدر في موضع الحال أي: دائبين، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون. وما في قوله: فما حصد ثم شرطية أو موصولة، بذروه في سنبله. وحذف المميز في قوله: سبع شداد أي: سبع سنين شداد، لدلالة قوله: سبع سنين عليه.

بالغيب يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي: غائباً عنه، أو من المفعول أي: غائباً عني، أو ظرفاً أي بمكان الغيب. والظاهر أنّ إلا ما رحم ربي استصناء متصل من قوله: لأمارة بالسوء، لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس، فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة. ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير: لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء. وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير: لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي. وجوزوا أن يكون استثناء منقطعاً، وما مصدرية. وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي: فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته. ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي: فلما كلم يوسف الملك. والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف. تنكر أخ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم، ولا أنه يدري من هو. ألا ترى فرقاً بين مررت بغلامك، ومررت بغلام لك؟ إنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام، وفي التنكير أنت جال به. فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، والتنكير لا عهد فيه البتة. وجائز أن نخبر عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول: قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة. واحتمل قوله: ولا تقربون، أن يكون نهياً، وأن يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي. وحذفت النون وهو مرفوع، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي، فيكون مجزوماً والمعنى: أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة.

وقرأ الأخوان وحفص: حافظاً اسم فاعل، وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز، والمنسوب له الخير هو حفظ الله، والحافظ الذي من جهة الله. وأجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً، وليس بجيد، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال. وقرأ الأعمش: خير حافظ على الإضافة.. وقال الزجاج: يحتمل أن تكون ما نافية أي: ما بقي لنا ما نطلب. ويحتمل أيضاً أن تكون نافية من البغي أي: ما افترينا فكذبنا على هذا الملك، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم: ما نبغي، والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير: فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه. وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب، جاز أن يكون ونمير معطوفاً على ما نبغي أي: لا نبغي فيما نقول، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت. وجاز أن يكون كلاماً مبتدأ.

وقال مجاهد: إلا أن تهلكوا. وعنه أيضاً: إلا أن تطيقوا ذلك. وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله: لتأتنني، وإن كان مثبتاً معنى النفي، لأن المعنى: لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم. ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم: أنشدك الله إلا فعلت أي: ما أنشدك إلا الفعل. ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً، فيكون التقدير: لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي: محاطاً بكم، لأنهم نصوا على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالاً. فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان، ويكون التقدير: لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي: إلا وقت إحاطة بكم. قلت: منع ذلك ابن الأنباري فقال: ما معناه: يجوز خروجنا صياح الديك أي: وقت صياح الديك، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك. وإن كانت أنْ وما مصدريتين، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه. وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً، كما يقع صريح المصدر، فأجاز في قول تأبط شراً: وقالوا لها لا تنكحيه فإنه لأول فصل أن يلاقي مجمعا وقول أبي ذؤيب الهذلي: وتالله ما أن شهلة أم واحد بأوجد مني أن يهان صغيرها أنْ يكون أنْ تلاقي تقديره: وقت لقائه الجمع، وأن يكون أنْ يهان تقديره: وقت إهانة صغيرها. فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات، ولا يقدر فيه معنى النفي.

وجواب لما قوله: ما كان يغني عنهم من الله من شيء، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا، ظرف زمان بمعنى حين، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية. لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو، فدل ذلك على أنّ لما حرف يترتب جوابه على ما بعده. وقال ابن عطية: ويجوز أنْ يكون جواب لما محذوفاً مقدراً. وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: في رحل أخيه، فاحتمل أن تكون الواود زائدة على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره: فقدها حافظها. وأقبلوا جملة حالية أي: وقد أقبلوا عليهم. واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما، وتفقدون صلة لذا، والعائذ محذوف أي: تفقدونه. فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد، ثم استأنفوا الأخبار عن نفي صفة السرقة عنهم، وأن ذلك لم يوجد منهم قط. ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم، فيكون معطوفاً على قوله: لقد علمتم. قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل من واو، كما أبدلت في تراث، وفي التوراة، والتخمة، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول: تالرحمن، ولا تالرحيم انتهى. أما قوله: والتاء في تالله بدل من واو، فهو قول أكثر النحويين. وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو. وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل. ووراه من ورى الزند. ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة، وذلك مذكور في النحو. وأما قوله: ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب، وعلى الرحمن، وعلى حياتك، قالوا: ترب الكعبة، وتالرحمن، وتحياتك.

وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوه: أحدها: أن يكون جزاؤه مبتدأ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، فهو جزاؤه جواب الشرط، أو خبر ما الموصولة، والجملة من قوله: من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول، والضمير في قالوا: جزاؤه للسارق قاله ابن عطية: وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط. الثاني: أنّ المعنى قالوا: جزاء سرقته، ويكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو. فموضع الجزاؤ موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فتقول: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ. ثم تقول: فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري. ووضع الظاهر موضع المضمر للرربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو: زيد قام زيد. وينزه القرآن عنه. قال سيبويه: لو قلت كان زيد منطلقاً زيد، لم يكن ضد الكلام، وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقاً هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمر. الثالث: أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي لنسؤل عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول: من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم، ثم تقول: ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعموَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَتٍ يأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَثُ أَحْلَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأٌّحْلَمِ بِعَلِمِينَ * وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى

سَبْعِ بَقَرَتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَبِسَتٍ لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ

ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّدِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَئِنِينَ * وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأٌّرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأٌّرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأّجْرُ الأٌّخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا

انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَفِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ

قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِى هَذِهِ بِضَعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يبَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ * قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا كُنَّا سَرِقِينَ * قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَذِبِينَ * قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّلِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا

لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَلِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأٌّرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ * ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَفِظِينَ * وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَدِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَلِكِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * يبَنِىَّ اذْهَبُواْ

فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ} قاله الزمخشري. وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله: المسؤول عنه جزائه، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة، إذ قد علم من قوله: فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته، فأي فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي. الرابع: أن يكون جزاؤه مبتدأ أي: جزاء سرقة الصاع، والخبر من وجد في رحله أي: أخذ من وجد في رحله. وقولهم: فهو جزاؤه، تقرير لحكم أي: فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤوه، أو فهو حقه، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال: ويصح أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من، ويكون قوله: فهو جزاؤه، زيادة بيان وتأكيد. ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه. وهذا القول هذا الذي قبله، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بد من تقديره، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله جزائه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف. وقال ابن عطية: والاستثناء حكاية حال التقدير: إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى. والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي: لكن بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك. وأن نأخذ تقديره: من أن نأخذ، وإذن جواب وجزاء أي: إن أخذنا بدله ظلمنا.

وما زائدة أي: ومن قبل هذا فرطتم في يوسف. ومن قبل متعلق بفرطتم، وقد جوزوا في إعرابه وجوهاً: أحدها: أن تكون ما مصدرية أي: ومن قبل تفريطكم. قال الزمخشري: على أن محل المصدر الرفع على الابتداء، وخبره الظرف، وهو ومن قبل ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. وقال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون قوله: من قبل، متعلقاً بما فرطتم، وإنما تكون على هذا مصدرية، التقدير: من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر. وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل انتهى. وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو: إن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، ومن قبل في موضع الخبر، وذهلاً عن قاعدة عربية، وحق لهما أن يذهلا وهو أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا ثببتت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرت أو لم تجر، تقول: يوم السبت مبارك والسفر بعده، ولا يجوز والسفر بعد وعمر وزيد خلفه. ولا يقال: عمر وزيد خلف. وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ، ومن قبل خبر، وهو مبني، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية. ولهذا ذهب أبو علي إلى أنّ المصدر مرفوع بالابتداء، وفي يوسف هو الخبر أي: كائن أو مستقر في يوسف. والظاهر أنّ في يوسف معمول لقوله: فرطتم، لا أنه في موضع خبر. وأجاز الزمخشري وابن عطية: أن تكون ما مصدرية، والمصدر المسبوك في موضع نصب، والتقدير: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً من قبل وتفريطكم في يوسف. وقدره الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأكن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد، وبين المعطوف، فصار نظير: ضربت زيداً وبسيف عمراً. وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر. وأما تقدير الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز. وأجاز أيضاً أن تكون موصولة بمعنى الذي. قال الزمخشري: ومحله الرفع أو النصب على

الوجهين انتهى. يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز. ويعني بالنصب أن يكون عطفاً على المصدر. المنسبك من قوله: إن أباكم قد أخذ، وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو، وبين المعطوف. وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر، ومنه برح الخفاء أي ظهر. وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق، فانتصب الأرض على أنه مفعول به. ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر، لأنه لا يصل إلا بحرف في. لو قلت: زيد الأرض لم يجز. والظاهر أن ويحكم معطوف على يأذن. وجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن بعد أو في جواب النفي، وهو: فلن أبرح الأرض أي: إلا أن يحكم الله لي، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي: إلا أن تقضيني، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان. ألا ترى إلى قول يعقوب: يا أسفي، ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى: هذا زمانك فاحضر. والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفاً، كما قالوا: في يا غلامي يا غلاماً. وقيل: هو على الندبة، وحذف الهاء التي للسكت. وجواب القسم تفتؤ حذفت منه، لا لأنّ حذفها جائز، والمعنى: لا تزال. وقرأ أبي: أئنك أو أنت يوسف. وخرجه ابن جني على حذف خبر إن وقدره: أئنك لأنت يوسف، أو أنت يوسف. وقدره الزمخشري: أئنك يوسف، أو أنت يوسف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. في قراءة الجمهور: أئنك لأنت، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت، وهو فصل: وخبر أنّ يوسف كما تقول: إنْ كان زيد لهو الفاضل. ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ، ويوسف خبره، والجملة في موضع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت توكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما.

وقرأ قنبل: من يتقي، فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع. وقيل: جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول: لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغة. وقيل: هو مرفوع، ومن موصول بمعنى الذي، وعطف عليه مجزوم وهو: ويصبر، وذلك على التوهم. كأنه توهم أن من شرطية، ويتقي مجزوم. وقيل: ويصبر مرفوع عطفاً على مرفوع، وسكنت الراء لا للجزم، بل لتوالي الحركات، وإن كان ذلك من كلمتين، كما سكنت في يأمركم، ويشعركم، وبعولتهن، أو مسكناً للوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف. والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوماً على لغة، وإن كانت قليلة، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال: وهذا مما لا يحمل عليه، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة.

ولا تثريب: لا لوم ولا عقوبة. وتثريب اسم لا، وعليكم الخبر، واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي: لا تثريب مستقر عليكم اليوم. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : بم تعلق اليوم؟ (قلت) : بالتثريب، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار، أو بيغفر. والمعنى: لا أثربكم اليوم، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام. ثم ابتدأ فقال: يغفر الله لكم، قد عالهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال: غفر الله لك، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعاً، ومنه قول المشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم. أو اليوم يعغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى. أما قوله: إن اليوم يتعلق بالتثريب، فهذا لا يجوز، لأنّ التثريب مصدر، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله: عليكم. إما أن يكون خبراً، أو صفة لتثريب، ولا يجوز الفصل بينهما، لأنّ معمول المصدر من تمامه. وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب لم يجز بناؤه، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف، وهو الذي يسمى المطول، ويسمى الممطول، فكان يكون معرباً منوناً. وأما تقديره الثاني فتقدير حسن، ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء. وابتدأوا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري. وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فمقول، وقد وقف بعض القراء على عليكم، وابتدأ اليوم يغفر الله لكم.

وأجاز الحوفي أن يكون عليكم في موضع الصفات لتثريب، ويكون الخبر اليوم، وهو وجه حسن. وقيل: عليكم بيان كلك في قولهم: سقياً لك، فيتعلق بمحذوف. ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بتثريب، لأنه كان يعرب، فيكون منوناً لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف. ولو قيل: إن الخبر محذوف، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب، وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره: لا تثريب عليكم اليوم، كما قدروا في لا عاصم اليوم من أمر اللهفَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَلِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأٌّرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ * ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَفِظِينَ * وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا

فِيهَا وَإِنَّا لَصَدِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَلِكِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * يبَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَهِلُونَ * قَالُواْ أَءِنَّكَ لأّنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ * قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ * اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ

أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُءَامِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأٌّحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنُيَا وَالأٌّخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّلِحِينَ} أي: يعصم اليوم، لكان وجهاً قوياً، لأنّ خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز، ولم يلفظ به بنو تميم. والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي: مصحوبين أو ملتبسين به. وقيل: للتعدية أي: اذهبوا قميصي، أي احملوا قميصي. وانتصب بصيراً على الحال. ولولا هنا حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف. قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى. وقد يقال: تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت، لأن وجداني ريحه دال على حياته.

وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان، والصحيح أنها ليست من أخواتها، فانتصب بصيراً على الحال والمعني: أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر. ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن، لأنّ فعيلاً من صيغ المبالغة، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى. وليس كذلك لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى. وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء، فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً، لأنّ فعيلاً بمعنى ليس للمبالغة نحو: أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع. قال الزمخشري: التقدير ادخلوا مصر إن شائ الله آمنين، إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام، ثم اعتراض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال.

أحسن أصله أن يتعدى بإلى قال: وأحسن كما أحسن الله إليكوَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُءَامِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأٌّحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنُيَا وَالأٌّخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّلِحِينَ} وقد يتعدى بالباء قال تعالى: {وبالوالدين إحساناً} كما يقال أساء إليه، وبه قال الشاعر: أسيء بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف، فعداه بالباء. وانتصب فاطر على الصفة، أو على النداء. جواب لو محذوف أي: ولو حرصت لم يؤمنوا.

وتقدم قراءة ابن كثير وكأين. قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى. وهذا شيء يروي عن يونس، وهو قول مرجوح في النحو. والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات. وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد: والأرض بالرفع على الابتداء، وما بعده خبر. ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات. وقرأ السدي: والأرض بالنصب، وهو من باب الاشتغال أي: ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها، وما أودع فيها من الدلالات. والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض. وهم مشركون جملة حالية. وقرأ عبد الله: قل هذا سبيلي على التذكير. والسبيل يذكر ويؤنث، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره: أدعو الناس. والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى: أدعو أنا إليها من اتبعني. ويجوز أن يكون على بصيرة خبراً مقدماً، وأنا مبتدأ، ومن معطوف عليه. ويجوز أن كون على بصيرة حالاً من ضمير ادعو، فيتعلق بمحذوف، ويكون أنا فاعلاً بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف، ومن اتبعني معطوف على أنا. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك ففي هذه الإضافة تخريجان: أحدهما: أنها من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله: ولدار الآخرة. والثاني: أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة. والأول: تخريج كوفي، والثاني: تخريج بصرى. حتى غاية لما قبلها، وليس في اللفظ ما يكون له غاية، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر.

ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع، وقرأهما في المشهور، وباقي السبعة فتنتجي بنونين مضارع أنجي. وقرأت فرقة: كذلك إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: رواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلط من هبيرة انتهى. وليست غلطاً، ولها وجه في العربية وهو أنّ الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء، كقراءة من قرأ: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ * وَكَأَيِّن مِّنءَايَةٍ فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الأٌّخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ} بنصب يغفر بإضمار أنْ بعد الفاء. ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة، أو غير جازمة.

سورة الرعد

وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية: تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي: ولكن هو تصديق، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي: ولكن تصديق أي: كان هو، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه. وينشد قول ذي الرمة: وما كان مالي من تراب ورثته ولا دية كانت ولا كسب ماثم ولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السوارق خضرم بالرفع في عطاء ونصبه أي: ولكن هو عطاء الله، أو ولكن كان عطاء الله. ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص: وإني بحمد الله لا مال مسلم أخذت ولا معطي اليمين محالف ولكن عطاء الله من مال فاجر قصى المحل معور للمقارف سورة الرعد ثلاث وأربعون آية مكية ومدنية والظاهر أن قوله: والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل. وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر، والحق مبتدأ محذوف، أو هو خبر بعد خبر، أو كلاهما خبر واحد انتهى. وهو إعراب متكلف. وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون والذي في موضع رفع عطفاً على آيات، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض. وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي: هو الحق، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول: جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصاً واحداً. ومن ذلك قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهام وليث الكتيبة في المزدحم وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني: إذا جعلت والذي معطوفاً على آيات.

والجلالة مبتدأ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى: وهو الذي مد الأرض ويجوز أن يكون صفة. وقوله: يدبر الأمر يفصل الآيات خبراً بعد خبر، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور: عمد بفتحتين. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: بضمتين، وبغير عمد في موضع الحال أي: خالية عن عمد. والضمير في ترونها عائد على السموات أي: تشاهدون السموات خالية عن عمد. واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً، واحتمل أن يكون جملة حالية أي: رفعها مرئية لكم بغير عمد. وهي حال مقدرة، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين. وقيل: ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي: بغير عمد مرئية، فترونها صفة للعمد. ويدل على كنه صفة لعمد قراءة أبي: ترونه، فعاد الضمير مذكراً على لفظ عمد، إذ هو اسم جمع. قال أي ابن عطية: اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى. وهو وهم، وصوابه: بضم الحرفين، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع. ثم استوى على العرش} قال ابن عطية: ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب، لأنّ الاستواء على العرش قبل رفع السموات. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض» انتهى. وكل مضافة في التقدير، والظاهر أنّ المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي: كليهما يجري إلى أجل مسمى. وقيل: يدبر حال من الضمير في وسخر، ونفصل حال من الضمير في يدبر. والمعنى: جبالاً رواسي، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث. وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تعني عن الموصوف، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل. وقيل: رواسي جمع راسية، والهاء للمبالغة، وهو وصف الجبل.

وفي بعض المصاحف: قطعاً متجاورات بالنصب على جعل. وقرأ الجمهور: وجنات بالرفع، وقرأ الحسن: بالنصب، بإضمار فعل. وقيل: عطفاً على رواسي. وقال الزمخشري: بالعطف على زوجين اثنين، أو بالجر على كل الثمرات انتهى. والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج، والفصل بينهما بجمل كثيرة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص: وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع. وقال ابن عطية: عطفاً على أعناب، وليست عبارة محررة أيضاً، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله: صنوان. وقرأ باقي السباعة: بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب. والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله: صنوان، صفة لقوله: ونخيل. ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفاً لجميع ما تقدم أي: أشكال، وغيره إشكال.

واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعاً، هنا موضع، وكذا في المؤمنين، وفي العنكبوت، وفي النمل، وفي السجدة، وفي الواقعة، وفي والنازعات، وفي بني إسرائيل موضعان، وكذا في والمصافات. وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاماً، والثاني خيراً، إلا في العنكبوت والنمل يعكس نافع. وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نوناً فقرأ: إننا لمخرجونوَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأٌّرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِى الأٌّرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَوِرَتٌ وَجَنَّتٌ مِّنْ أَعْنَبٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَنٌ وَغَيْرُ صِنْوَنٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاٍّكُلِ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأٌّغْلَلُ فِى أَعْنَقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدونَ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبراً، والثاني استفهاماً، إلا في النمل والنازعات فعكس، وزاد في النمل نوناً كالكسائي. وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب، إلا ابن كثير وحفصاً قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه. وقولهم: فعجب، هو خبر

مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره ـ والله أعلم ـ: فعجب أي عجب، أو فعجب غريب. وإذا قدرناه موصوفاً جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف، وقد وقعت موقع الابتداء، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك. كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام، وفي نحو: اقصد رجلاً خير منه أبوه، لمسوغ الابتداء أيضاً، وهو كونه عاملاً فيما بعده. وقال أبو البقاء: وقيل عجب بمعنى معجب، قال: فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى. وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه، فمعجب يعمل، وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلاً كذبح، وفعلاً كقبض، وفعلة كغرفة، هي بمعنى مفعول، ولا يعمل عمله، فلا تقول: مررت برجل ذبح كبشه، ولا برجل قبض ماله، ولا برجل غرف ماءه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه. وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول. وقد حضر النحويون ما يرفع الفاعل، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به. وقال الزمخشري: أئذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم انتهى. هذا إعراب متكلف، وعدول عن الظاهر. وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره: أنبعث، أو أنحشر. على ظلمهم في موضع الحال والمعنى: أنه يغفر لهم مع ظلمهم. وهاد: يحتمل أن يكون قد عطف على منذر، وفصل بينهما بقوله لكل قوم، وبه قال: عكرمة، وأبو الضحى.

والله يعلم: كلام مستأنف مبتدأ وخبر، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي: هو الله تعالى، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال: يعلم. ويعلم هنا متعدية إلى واحد، لأنه لا يراد هنا النسبة، إنما المراد تعلق بالمفردات. وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي، والعائد عليها في صلاتها محذوف، ويكون تغيض متعدياً. وأن تكون مصدرية، فيكون تغيض وتزداد لا زمان. وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب. وأن تكون استفهاماً مبتدأ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه، والجملة في موضع المفعول. وأثبت ابن كثير وأبو عمر وفي رواية: ياء المتعال وقفاً ووصلاً، وهو الكثير في لسان العرب، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، لأنها كذلك رسمت في الخط. واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي، وأجاز غيره حذفها مطلقاً. ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين، وإن تعاقب التنوين، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب. وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر، والمعطوف عليه مبتدأ. ويجوز أن يكون سوا مبتدأ لأنه موصوف بقوله: منكم، ومن المعطوف الخبر. وكذا أعرب سيبويه قول العرب: سواء عليه الخير والشر. وقول ابن عطية: إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة، وهو لا يصح. وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من، لكنه حذف للعلم به، إذ تقدم قوله: من أسرّ القول ومن جهر به، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين، وأجازه الكوفيون. ويجوز أن يكون: وسارب، معطوفاً على من، لا على مستخف، فيصح التقسيم. كأنه قيل: سواء شخص هو مستخف بالليل، وشخص هو سارب بالنهار. ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف. وأريد بمن اثنان، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو، وعلى لفظ من في إفراد هو. والمعنى: سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار، وليرى نصرفه في الناس.

وقال الزمخشري: والأصل معتقبات، فأدغمت التاء في القاف كقوله: وجاء المعذرونوَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ * اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأٌّرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يعني المعتذرون. ويجوز معقبات بكسر العين، ولم يقرأ به انتهى. وهذا وهم فاحش، لا تدغم التاء في القاف، ولا القاف في التاء، لا من كلمة ولا من كلمتين. وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما. وأما تشبيهه بقوله: وجاء المعذرون، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون، وقد تقدم في براءة توجيهه، وأنه لا يتعين ذلك فيه. وأما قوله: ويجوز معقبات بكسر العين، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات، فأدغمت التاء في القاف. وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش.

على أنه مراد به: لا يحفظونه، فحذف لا. وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة ـ كما ذكرنا ـ بيحفظونه، وهي في موضع نصب. وقال الفراء وجماعة: في الكلام تقديم وتأخير أي: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. وروي هذا عن مجاهد، والنخعي، وابن جريج، فيكون من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي: كائنة من أمر الله تعالى، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر: أحدها: من بين يديه ومن خلفه أي: كائنة من بين يديه. والثانية: يحفظونه أي: حافظات له. والثالثة: كونها من أمر الله، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله: يحفظونه، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين: إحداهما: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثانية: قوله: من أمر الله أي: كائنة من أمر الله. غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور، وذلك شائع فصيح، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة، في الحفظ آكد، فلذلك قدم الوصف بها. وما موصولة صلتها بقوم، وكذا ما بأنفسهم. وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها: إلا بسياق الكلام، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى، والتقدير: لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته. قال الحوفي: خوفاً وطمعاً مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب، وجوزه الزمخشري أي: خائفين وطامعين.

وأجاز الزمخشري أن يكونا منصوبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع، أو على ذا خوف وطمع. وقال أبو البقاء: خوفاً وطمعاً مفعول من أجله. وقال الزمخشري: لا يصح أن يكون مفعولاً لهما، لأنهما ليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي: إرادة خوف وطمع، أو على معنى إخافة وإطماعاً انتهى. وإنما لم يكونا على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن الإرادة فعل الله، والخوف والطمع فعل للمخاطبين، فلم يتحد الفاعل في الفعل في المصدر. وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعاً عليه، بل من النحويين من لا يشترط ذلك، وهو مذهب ابن خروف. ومن مفعول فيصيب، وهو من باب الإعمال، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيب يطلبه، ولو أعمل الأول لكان التركيب: ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني. ومفعول يشاء محذوف تقديره: من يشاء إصابته. وقيل: وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي: فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي. وكذلك الجبار، ولا ربد. وهو شديد المحال، جملة حالية من الجلالة. الذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله: ولدار الآخرة على أحد الوجهين، والتقدير: لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة. فالضمير في يدعون عائد على الكفار، والعائد على الذين محذوف أي: يدعونهم. ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر. وقيل: الذين أي: الكفار الذين يدعون، ومفعول يدعون محذوف أي: يدعون الأصنام. والعائد على الذين الواو في يدعون، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف، وعلى القول الأول على الذين.

الكاف في موضع نصب أي: مثل استجابة، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط، وهي إضافة المصدر إلى المفعول. وفاعل المصدر محذوف تقديره: كإجابة الماء من يبسط كفيه إليه، فلما حذف أظهر في قوله: إلى الماء، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير إليه، فكان يكون التركيب كفيه إليه. هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا التشبيه، وتبعه أبو البقاء. وفاعل ليبلغ ضمير الماء، وليبلغ متعلق بباسط. وقرأ الأخوان وأبو بكر: أم هل يستوي بالياء، والجمهور بالتاء، أم في قوله: أم، هل منقطعة تتقدر ببل؟ والهمزة على المختار، والتقدير: بل أهل تستوي؟ وهل وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر: أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأنّ تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله: أم مّن يملك السمع والأبصار ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة، لأن أم تتضمنها، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة لذلك. وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها: هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته إثر الأحبة يوم البين مشكوم عرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شراً له أي: كان الكذب شراً له، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت.

في النار متعلق بمحذوف تقديره: كائناً، أو ثابتاً. ومنعوا تعليقه بقوله: توقدون، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى. ولو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقاً بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله: يطير بجناحيه، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه. وقال الحوفي: هو مصدر في موضع الحال أي: مبتغين حلية. ومِن الظاهر أنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن. وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغاية أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. فالحسنى مبتدأ، وخبره في قوله: للذين. والذين لم يستجيبوا مبتدأ، خبره ما بعده. وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي: لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم. ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال، ويبتدئون للذين. وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي السني مبتدأ، وللذين خبره، وفسر ابن عطية وفهم السلف.

والفاء للعطف، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير: فأمن يعلم، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل، كما قدره الزمخشري في قوله: أفلم يسيرواهُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَدِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ * لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ إِلاَّ كَبَسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَلٍ * وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَلُهُم بِالْغُدُوِّ وَالأٌّصَالِ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأٌّعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَتُ وَالنُّورُ

أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَلِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّرُ * أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأٌّرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأٌّمْثَالَ * لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَبِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْءَابَائِهِمْ وَأَزْوَجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ

أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأٌّرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فِى الأٌّخِرَةِ إِلاَّ مَتَعٌ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ * كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ * وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأٌّرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأٌّمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَءَامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأٌّرْضِ أَم بِظَهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ

السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الأٌّخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَفِرِينَ النَّارُ * وَالَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأٌّحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَبِ * وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأٌّرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَبِ} وقوله: {أفلا يعقلون} وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أو لو، أو صفة له، وصفة

لمن من قوله: أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله: {والذين ينقضون عهد الله} ثم قال: {أولئك لهم اللعنة} . والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيد به لقوله: يوفون بعهد الله، لأن العهد هو الميثاق. وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به، والأول محذوف تقديره: ما أمرهم الله به. وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي: بوصله. وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، وميثاق التكليف. وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون، والذين يصلون، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط، فكذلك فيما أشبهه، ولذلك قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي، وأن يراد به الاستقبال. فمن المراد به المضي في الصلاة {الذين قال لهم الناس} ومن المراد به الاستقبال {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} . ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين، وما عطف عليهما، لأنّ حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم. وانتصب ابتغا قيل: على أنه مصدر في موضع الحال، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي: إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً. وجنات عدن بدل من عقبى الدار، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف.

والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول. وقيل: يجوز أن يكون مفعولاً معه أي: يدخلونها مع من صلح. وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي: يقولون سلام عليكم. والظاهر أن قوله تعالى: سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى: بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي: بدل صبركم. وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي: قلوب الذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده.

وطوبى: فعل من الطيب، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، وطوبى: مبتدأ، وخبره لهم. فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوع الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال: ابن مالك. ويرده أنه قرىء: وحسن مآب بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوفى، وأنها في موضع نصب، وحسن مآب معطوف عليها. قال ثعلب: وطوبى على هذا مصدر كما قالوا: سقيا. وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال: بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب. فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال: يا أسفي على الفوت والندبة انتهى. ويعني بقوله: معطوف على المنادى المضاف، أنّ طوبى مضاف للمضير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله: يا بؤس للجهل ضراراً لأقام، وقول الآخر: يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم وحسن مآب أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم، كما تقول: يا طيبها ليلة أي: ما أطيبها ليلة. وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلي، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلاً كحمر. وقال الزمخشري: أصبت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع كقولك: طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله: وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك. وقرىء: وحسن مآب بفتح النون، ورفع مآب. فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدباً.

وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يفعل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أبو البقاء: كذلك التقدير الأمر كذلك. وهم يكفرون أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية. لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها، أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. كما قال: لو أنزلنا هذا القرآن على جبلوَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ * كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ * وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأٌّرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الأٌّمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَءَامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الآية فجواب لو

محذوف وهو ما قدرناه، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ولو ترى إذ وقفوا على النار وقال الشاعر: وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا وقيل: تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا} قال الزجاج. وقال الفراء: هو متعلق بما قبله، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن. ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وعلى قول الفراء: يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً، وإنما هو دليل على الجواب. وقيل: معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً. ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله: بل لله الأمر جميعاً أي: الإيمان والكفر، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما. وأما على تقدير لكان هذا القرآن، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر: لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف. وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي: وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر: أما والله أن لو كنت حراً وما بالحر أنت ولا القمين وقول الآخر: فاقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلم وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي: أنه لو يشاء الله.

من موصولة صلتها ما بعدها، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره: كمن ييئس، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، كما حذف من قوله: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربهأَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأٌّرْضِ أَم بِظَهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الأٌّخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} تقديره: كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة. ودل عليه قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، كما دل على القاسي {فويل للقاسية قلوبهم} ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف، وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} {أفمن يعلم} ثم قال: {كمن هو أعمى} . والظاهر أنّ قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي: وجعلوا، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه، وجعلوا له شركاء، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى. وف يهذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: وجعلوا لله أي: وجعلوا له، وفيه حذف الخبر عن المقابل، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلاً. وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال: الشديد صاحب العقد، الواو في قوله تعالى: وجعلوا واو الحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود، والحال أنهم جعلوا له شركاء، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديراً لألوهيته وتصريحاً بها، كما تقول: معطي الناس ومغنيهم موجود، ويحرم مثلي انتهى.

وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله: أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم، حكاه القرطبي عن الضحاك. والخبر أيضاً محذوف تقديره: كغيره من المخلوقين. وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن قوله: وجعلوا معطوفاً على استهزىء، أي: استهزؤوا وجعلوا، أم في قوله: أم تنبؤونه منقطعة. جعل الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائداً على الله. والعائد على بما محذوف أي: بما لا يعلمه الله. وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائد على ما، وقررنا ذلك هناك، وهو يتقرر هنا أيضاً. الظاهر في أم في قوله: أم، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة. وقيل: أم متصلة والتقدير: أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له. وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه، والخبر محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل. فقال غيرهما: الخبر تجري، كما تقول: صفة زيد اسمر، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً عن الصفة، وإنما يتأول تجري على إسقاط أن ورفع الفعل، والتقدير: أنْ تجري خبر ثان الأنهار. وقرأ أبو جليد عن نافع: ولا أشرك بالرفع على القطع أي: وأنا لا أشرك به. وجوز أن يكون حالاً أي: أنْ أعبد الله غير مشرك به. انتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه، والضمير عائد على القرآن. وقال الحوفي وغيره: فإنما عليك البلاغ جواب الشرط، والذي تقدم شرطان، لأنّ المعطوف على الشرط شرط. فأما كونه جواباً للشرط الأول فليس بظاهر، لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ. وأما كونه جواباً للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك، لأنه يصير التقدير: إن ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ. والجملة من قوله إلا معقب لحكمة في موضع الحال أي: نافذ حكمة وهو سريع الحسبا تقدم الكلام على مثل هذه الجملة.

وعن الحسن: لا والله ما يعني إلا الله، والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز، وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى. وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف، لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما، وذو وذوات الطائيتين. وقوله: وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه، بل له شرط وهو أن تختلف مدلولاتها. ويعني ابن عطية: لا تقوم مررت بزيد. والعالم فتعطف، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة، وكذلك الله علم. ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفاً على الله قدر قوله: بالذي يستحق العبادة، حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض، لا من عطف الصفة على الاسم. ومن في قراءة الجمهور في موضع خفض عطفاً على لفظ الله، أو في موضع رفع عطفاً على موضع الله، إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولاً ونحو هذا مما يدل عليه لفظة شهيداً ويراد بذلك الله تعالى. وقرىء: وبمن بدخول الباء على من عطفاً على بالله. وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بن أبي إسحاق، ومجاهد، والحكم، والأعمش: ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر، وجر ما بعده به، وارتفاع علم بالابتداء، والجار والمجرور في موضع الجر. وقرأ علي أيضاً وابن السميقع، والحسن بخلاف عنه. ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب، بجعل علم فعلاً مبنياً للمفعول، والكتاب رفع به. وقرىء ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشدداً مبنياً للمفعول، والضمير في عنده في هذه القراءات الثلاث عائد على الله تعالى. وقال الزمخشري في القراءة التي وقع

فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً، لأن الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل على الفعل كقولك، مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين، إما في الأصل، وإما في الناسخ، أو تقدمهما أداة نفي، أو استفهام، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو الأجود، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ، والظرف أو الجار والمجرور في موضع رفع خبره، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل. فكما جاز ذلك في اسم الفاعل، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور. وقد نص سيبويه على وقد نصّ سيبويه على إجازة ذلك في نحو امررت برجل حسن وجهه فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم، وهكذا تلقفنا هذه المسألة من الشيوخ. وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه بتمتم إعماله في الظاهر وليس كذلك.

سورة ابراهيم

وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأً وخبراً في صلة مَن. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون خبراً يعني {عنده} والمبتدأ علم الكتاب. انتهى. سورة ابراهيم مائتان وخمسة وخمسون آية مكية

{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الأٌّخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَتِ

وَالأٌّرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَنٍ مُّبِينٍ} وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وكتاب الخبر، أو في موضوع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وفي موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر. وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين، وكتاب مبتدأ. وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي: كتاب أي: عظيم أنزلناه إليك. وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب، وأنزلناه جملة في موضع الصفة. والظاهر أن قوله: إلى صراط، بدل من قوله إلى النور، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل، لأن بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج، وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف.

وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل: متبدأ محذوف أي: هو الله. وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله، وتفلته على التقدير الأول. وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع: الله بالجر على البدل في قول ابن عطية، والحوفي، وأبي البقاء. وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال: لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة، كما غلب النجم على الثريا انتهى. وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير: أن يكون أصله الإله، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة، والتزم فيه النقل والحذف، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد الحسن بن عصفور: تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما: أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما: إعرابه نعتاً مقدماً، والثاني: أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً. والوجه الثاني: أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى. فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين، ويعرب لفظ الله موصوفاً متأخراً. ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفاً قول الشاعر: والمؤمن العائذات الطير يمسحهاركبان مكة بين الغيل والسعد فلو جاء على الكثير لكان التركيب: والمؤمن الطير العائذات، وارتفع ويل على الابتداء، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكر الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة.

وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفاً على الذم، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم، وأن يكون بدلاً، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهو لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد، سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل، أم تعلقاً بفعل محذوف أي: بضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيح أن تقول: الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة. {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . وأن أخرج يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، ويضعف زعم من زعم أنها زائدة. ويحتمل وذكرهم أن يكون أمراً مستأنفاً، وأن يكون معطوفاً على أن أخرج.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} . {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} : وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء وتفسير هذه الآية، إلا أنَّ هنا: ويذبحون بالواو، وفي البقرة بغير واو، وفي الأعراف} {يقتلون فحيث لم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيراً لقوله: يسومونكم. واحتمل إذ أن يكون منصوباً ذكروا، وأن يكون معطواً على إذ أنجاكم. وجواب أنْ تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير: فإنما ضرر كفركم لاحق بكم.

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} والظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه. وقيل: ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة، وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه، وتقدم في الأعراف وهود، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ. والظاهر أنّ والذين في موضع خفض عطفاً على ما قبله، إما على الذين، وإما على قوم نوح وعاد وثمود. قال الزمخشري: والجملة من قوله: لا يعلمهم إلا الله، اعتراض والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى. وليست جملة اعتراض، لأنّ جملة الاعتراض تكون بين جزءين، يطلب أحدهما الآخر. وقال أبو البقاء: تكون هذه الجملة حالاً من الضمير في من بعدهم، فإن عنى من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن. وقال أبو البقاء: أيضاً ويجوز أن يكون مستأنفاً، وكذلك جاءتهم. وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء: أن يكون والذين مبتدأ، وخبره لا يعلمهم إلا الله. وقال الزمخشري: والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضاً انتهى. وليست باعتراض، لأنها لم تقع بين جزءين: أحدهما يطلب الآخر. والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلكم، والجملة تفسيرية للنبأ. والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح، وأنّ الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم الرسل.

وقيل: الضمير في أفواههم على هذا القول عائد على الكفار، وفي بمعنى الباء أي: بأفواههم، والمعنى: كذبوهم بأفواههم. وفي بمعنى الباء يقال: جلست في البيت، وبالبيت. وقال الفراء: قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباء فتقول: أدخلك الله الجنة، وفي الجنة. وأنشد: وارغب فيها من لقيط ورهطهولنني عن شنبس لست أرغب يريد: أرغب بها. ومريب صفة توكيدية، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ. وفاطر صفة لله، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ، فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي: فاطر نصباً على المدح. وقرأ طلحة: إن تصدونا بتشديد النون، جعل إن هي المخففة من الثقيلة، وقدر فصلاً بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها، كما ألغاها من قرأ {لمن أراد أن يتم الرضاعة برفع يتم حملاً على ما المصدرية أختها.

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَنٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّلِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأٌّرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} : ولنصبرن جواب قسم، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى. وما مصدرية، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي. والضمير محذوف أي: ما آذيتموناه وكان أصله به، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمي قولان؟ ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء: مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي: قيامي عليه بالحفظ لأعماله. واستفتحوا بكسر التاء، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي: أوحى إليهم ربهم وقال لهم: ليهلكن، وقال لهم: استفتحوا. وخاب معطوف على محذوف تقديره: فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل، وتقدم شرح جبار. والعنيد: المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائداً على الكفار، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا.

ويسقى معطوف على محذوف تقديره: يلقى فيها ويسقى، أو معطوف على العامل في من ورائه، وهو واقع موقع الصفة. وارتفاع جهنم على الفاعلية، والظاهر إرادة حقيقة الماء. وصديد قال ابن عطية: هو نعت لماء، كما تقول: هذا خاتم حديد وليس بماء، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء. وقيل: هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل أسد التقدير: مثل صديد. فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة، وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه بالصديد. وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال: ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاماً، ثم بينه بقوله: صديد انتهى. والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي، فأعرب {زيتونة عطف بيان لشجرة مباركة فعلى رأي لبصريين لا يجوز أن يكون قوله: صديد، عطف بيان. وقال الحوفي: صديد نعت لماء. ويتجرعه صفة لما قبله، أو حال من ضمي ويسقى، أو استئناف.

{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَنُ لَمَّا قُضِىَ الأٌّمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَمٌ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأٌّرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ

الثَّابِتِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الأٌّخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَلٌ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَرَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} : ارتفاع مثل على الابتداء، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه. فيما على عليكم، أو يقص. والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد، كما تقول: صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول. وقال ابن عطية: ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل، وأنّ المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد. وقال الحوفي: مثل رفع بالابتداء، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال. كما قال الشاعر:

ما للجمال مشيها وئيداًأجند لا يحملن أم حديدا وكرماد الخبر. وقال الزمخشري: أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل الذين كفروا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد الخبر. وقال ابن عطية: وقيل هو ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خبر للثاني، والجملة خبر الأول. وهذا عندي أرجح الأقوال. وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي، وهو لا يجوز، لأن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل، وليست نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى رابط. وقرأ نافع، وأبو جعفر: الرياح على الجمع، والجمهور على الأفراد. ووصف اليوم بقوم عاصف، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز، كما قالوا: يوم ما حل وكيل نائم. وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر: إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف يريد كاسف الشمس. وقيل: عاصف من صفة الريح، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، يعني: إنه خفض على الجوار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} وقيل: بالحق حال أي محقاً.

وقال الزمخشري: من الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله أي: بعض بعض عذاب الله انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله: من شيء على قوله: من عذاب الله، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله: من عذاب الله. ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وهو بعض شيء، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلاً، فيكون بدل عام من خاص، لأنّ من شيء أعم من قوله: من عذاب الله، وإن عنى بشيء شيئاً من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر، وهو بعض بعض عذاب الله. وهذا لا يقال، لأنّ بعضية الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض. ونص الحوفي، وأبو البقاء: على أنّ مِن في قوله: من شيء، زائدة. قال الحوفي: من عذاب الله متعلق بمغنون، ومن في من شيء لاستغراق الجنس، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء: ومِن زائدة أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون شيء واقعاً موقع المصدر أي: غنى فيكون من عذاب الله متعلقاً بمغنون انتهى. ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب: هل تغنون. {وَقَالَ الشَّيْطَنُ لَمَّا قُضِىَ الأٌّمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي: الوعد الحق. وإلا أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع، لأنّ دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان. وقيل: هو استثناء متصل، لأنّ القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة: بمصرخي بكسر اللياء، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم القراء، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنّ الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، ظنوا أنّ الباء تكسر لما بعدها. وقال الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب، ولا من النحويين. وقال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس: صار هذا إجماعاً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: قال لها هل لك يا تافيّقالت له ما أنت بالمرضي

وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عصاي فما بالها، وقبلها باء. (فإن قلت) : جرت الياء الأولى مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحركت بالكسر على الأصل. (قلت) : هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى. أما قوله: واستشهدوا لها ببيت مجهول، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلى، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم، يقول القائل: ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء. وأما التقدير الذي قال: فهو توجيه الفراء، ذكره عنه الزجاج. وأما قوله، في غضون كلامه حيث قبلها ألف، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو: قعد زيد حيث أمام عمر وبكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع. وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روى سكون الياء بعد الألف. وقرأ بذلك القراء نحو: محياي، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتت إليه. واقتفى آثارهم فيها الخلاف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ، أو قبيحة، أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة، لكنه قلَّ استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني يرفوع. وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويين الكوفيين: هي صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو فقال: هي جائزة. وقال أيضاً: لا تبالي إلى أسفل حركتها، أو إلى فوق. وعنه أنه قال: هي بالخفض حسنة. وعنه أيضاً أنه قال: هي جائزة. وليست عند الإعراب بذلك، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام نحو، وإمام قراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد رووا بيت النابغة: عليّ لعمرو نعمة بعد نعمةلوالدة ليست بذات عقارب

بفخض الياء من عليّ. وما في بما أشركتموني مصدرية، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله: {أنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وقال: ويوم القيامة يكفرون بشرككم. وقيل: موصولة بمعنى الذي، والتقدير: كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه، فحذف العائد. وقيل: من قبل متعلق بكفرت، وما بمعنى الذي أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل. تقول: شركت زيداً، فإذا أدخلت همزة النقل قلت: أشركت زيداً عمراً، أي جعلته له شريكاً. إلا أن في هذا القول إطلاق ما على الله تعالى، وما الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم. وقال الزمخشري: ونحو ما هذه يعني في إطلاقها على الله ما في قولهم: سبحان ما سخركن لنا انتهى. ومن منع ذلك جعل سبحان علماً على معنى التسبيح، كما جعل برة علماً للمبرة. وما مصدرية ظرفية، ويكون ذلك من إبليس إقراراً على نفسه بكفره الأقدم. {وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَمٌ} : وقال الزمخشري: (فإن قلت) : فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم؟ (قلت) : الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي: تحيتهم فيها سلام. بإذن ربهم يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى. فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله: تحيتهم، ولذلك قال: يعني أنّ الملائكة يحيونهم بإذن ربهم، وهذا لا يجوز، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل عليه، وهو غير جائز.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأٌّرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الأٌّخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّلِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلاً مفعولا بضرب، وكلمة بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تريع، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد. وقال ابن عطية: وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب، وكلمة مفعول أول تفريعاً على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين، لأنها بمعنى جعل. وعلى هذا تكون شجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي: الكلمة كشجرة طيبة، وعلى البدل تكون كشجرة نعتاً للكلمة. وأجاز الزمخشري: وبدأ به أنْ تكون كلمة نصباً بمضمر أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله: ضرب الله مثلاً، كقولك: شرف الأمير زيداً كساه حلة، وحمله على رس انتهى. وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه. وقرىء شاذاً كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء: على الابتداء، وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكمة. وقرأ أبي: وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة، وقرىء: ومثل كلمة بنصب مثل عطفاً على كلمة طيبة. والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله: يثبت. وقيل: يتعلق بآمنوا.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} ونعمة الله هو المفعول الثاني، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي: بنعمة الله، وكفراً هو المفعول الأول كقوله: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات أي بسيئاتهم حسنات. فالمنصوب هو الحاصل، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب، على هذا لسان العرب، وهو على خلاف ما يفهمه العوام، وكثير ممن ينتمي إلى العلم. وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة: ومن يتبدل الكفر بالإيمان وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر نعمة الله، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت. وأحلوا قومهم أي: من تابعهم على الكفر. وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول ثان لبدلوا، وليس بصحيح، لأنّ بدل من أخوات اختار، فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول. وأعرب الحوفي وأبو البقاء: جهنم بدلاً من دار البوار، والزمخشري عطف بيان.

أعرب ابن عطية وأبو البقاء: جهنم منصوب على الاشتغال أي: يصلون جهنم يصلونها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة: جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهذا التأويل أولى، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه، ولا ما يكون مساوياً، وجمهور القراء على النصب. ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته أفصح من زيداً ضربته، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحاً، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم، أو حالاً من دار البوار، أو حالاً من قومهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وبئس القرار هي أي: جهنم. ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع. وخبر إنّ هو قوله: إلى النار، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل، ولذلك تعدى بإلى أي: فإنّ انتقالكم إلى النار، لأنه تبقى إنّ بلا خبر، ولا ينبغي أن يدعي حذفه، فيكون التقدير: فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن، لأنّ حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة، والخبر جار ومجرور. وقد أجاز الحوفي: أن يكون إلى النار متعلقاً بمصيركم، فعلى هذا يكون الخبر محذوفاً.

قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَلٌ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَرَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ومعمول قل، محذوف تقديره: أقيموا الصلاة يقيموا. ويقيموا مجزوم على جواب الأمر، وهذا قول: الأخفش، والمازني. ورد بأنه لا يلزم من القول إنْ يقيموا، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله: قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى. وهذا قريب مما قبله، إلا أن في ما قبله معمول القول: أقيموا، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة. وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله: يقيموا، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر: محمد تفد نفسك كل نفس

أنشده سيبويه إلا أنه قال: إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر. وقال الزمخشري في هذا القول: وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل، عوض منه. ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز انتهى. وذهب المبرد إلى أنّ التقدير: قل لهم أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل. وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما. فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك: قم يقم، والتقدير على هذا الوجه: أن يقيموا يقيموا. والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. وقيل: التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية. وقال الفراء: جواب الأمر معه شرط مقدر تقول: أطع الله يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة. ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط. وقيل: هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر، والمعنى: أقيموا، قاله أبو علي فرقة. ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر، لبقي على إعرابه بالنون كقوله: {هل أدلكم على تجارة ثم قال: تؤمنون والمعنى: آمنوا. واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني: على حذف النون، لأن المراد أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك: يا زيد، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة. قال ابن عطية: ويظهرأن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله: الله الذي خلق السموات والأرض انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام، يخالفه ترتيب التركيب، ويكون قوله: يقيموا

الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله، أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله، ولا يترتب أن يكون جواباً، لأن قوله: الله الذي خلق السموات والأرض، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً. وتقدم إعراب سراً وعلانية} وشرحها في أواخر البقرة. والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم، ومِنْ للتبعيض. ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى: إن الرزق هو بعض جنى الأشجار، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات. ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه قال: فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات. وهذا ليس بجيد، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقاً حالاً من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق. وقيل: من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأنّ ما قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش.

وما موصولة مفعول ثان أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به. وقيل: ما نافية، والمفعول الثاني هو من كل كقوله: {وأوتيت من كل شيء أي غير سائليه. أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه. والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا القول بدأ به الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال: إنه تفسير الضحاك. وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية، فيكونون لم يسألوه. وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه، وما بمعنى الذي. وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول. ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال: ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال. فتأول سألتموه بقوله: ما احتجتم إليه. والضمير في سألتموه إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به المسؤول. وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها، والتقدير: من كل الذي سألتموه إياه. ولا يجوز أن يكون عائداً على الله. والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنك إن قدرته متصلاً فيكون التقدير: ما سألتموهوه، فلا يجوز. أو منفصلاً فيكون التقدير: ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذفه.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأٌّصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ * الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ * رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلوةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ * وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَرُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِى مَسَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ

تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأٌّرْضُ غَيْرَ الأٌّرْضِ وَالسَّمَوَتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأٌّصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ} {رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وقال الزمخشري: بواد هو وادي مكة، غير ذي ذرع: لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله: {قرآناً عربياً غير ذي عوج بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاً لقوله: لا يكون، وليس هو ماضياً، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات. والظاهر أنّ من للتبعيض، إذ التقدير: أفئدة من الناس. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك: القلب مني سقيم يريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى. ولا يظهر كونها لابتداء الغاية، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس، وإنما الظاهر في من التبعيض.

رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ * الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ * رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلوةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} على الكبر في موضع الحال لأنه قال: وأنا كبير. والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه. وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول، وفعال، ومفعال، وفعل، وهذا مذكور في علم النحو. ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو: هذا ضارب زيد أمس. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي، والمراد: سماع الله انتهى. وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب السفة المشبهة، والصفة متعدية، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس. وأما هنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول، لا من إضافته إلى الفاعل. وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل: زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً ظالمين.

{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِى مَسَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} ويوم منصوب على أنه مفعول ثان لا نذر، ولا يصح أن يكون ظرفاً، لأنّ ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار. وقرأ الجمهور: وتبين فعلاً ماضياً، وفاعله مضمر يدل عليه الكلام أي: وتبين لكم هو أي حالهم، ولا يجوز أن يكون الفاعل كيف، لأنّ كيف إنما تأتي اسم استفهام أو شرط، وكلاهما لا يعمل فيه ما قبله، إلا ما روي شاذاً من دخول على علي كيف في قولهم: على كيف تبيع الأحمرين، وإلى في قولهم: أنظر إلى كيف تصنع، وإنما كيف هنا سؤال عن حال في موضع نصب بفعلنا. وقرأ السلمي فيما حكى عنه أبو عمرو الداني: ونبين بضم النون، ورفع النون الأخيرة مضارع بين، وحكاها صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية. وقال المهدوي عن السلمي: إنه قرأ كذلك، إلا أنه جزم النون عطفاً على أو لم تكونوا.

{ «ِوَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأٌّرْضُ غَيْرَ الأٌّرْضِ وَالسَّمَوَتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأٌّصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ} والظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل، كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل: وعند الله ما مكروا أي مكرهم. وقال الزمخشري: أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه، يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون انتهى. وهذا لا يصح إلا إن كان مكر يتعدى بنفسه كما قال هو، إذ قدر يمكرهم به، والمحفوظ أنّ مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه. قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا وتقول: زيد ممكور به، ولا يحفظ زيد ممكور بسبب كذا. وقرأ الجمهور: وإن كان بالنون. وقرأ عمرو، وعلي، وعبد الله، وأبي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السبيعي، وزيد بن علي: وإن كاد بدال مكان النون لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وروي كذلك عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن وثاب، والكسائي كذلك، إلا أنهم قرؤوا وإن كان بالنون، فعلى هاتين القراءتين تكون إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وذلك على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فإن نافية، واللام بمعنى إلا.

فعن الحسن وجماعة أنّ إنْ نافية، وكان تامة، والمعنى: وتحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: وما كان بما النافية: لكنّ هذا التأويل، وما روي عن ابن مسعود من قراءة وما بالنفي، يعارض ما تقدم من القراءات، لأنّ فيها تعظيم مكرهم، وفي هذا تحقيره. ويحتمل على تقدير أنها نافية أن تكون كان ناقصة، واللام لام الجحود، وخبر كان على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين: أهو محذوف؟ أو هو الفعل الذي دخلت عليه اللام؟ وعلى أنّ إنْ نافية وكان ناقصة، واللام في لتزول متعلقة بفعل في موضع خبر كان، خرجه الحوفي. وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده، ونصب رسله. واختلف في إعرابه فقال الجمهور. الفراء، وقطرب، والحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء: إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيداً، لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما، فينتصب ما تأخر. وأنشد بعضهم نظيراً له قول الشاعر: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسهوسائره باد إلى الشمس أجمع وقال أبو البقاء: هو قريب من قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. وقال الفراء وقطرب: لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم والتأخير. مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله: لا يخلف الميعاد فأضيف إليه، وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال: مخلف ما وعد رسله، وما مصدرية، لا بمعنى الذي. وقرأت فرقة: مخلف وعده رسله بنصب وعده، وإضافة مخلف إلى رسله، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهو كقراءة. قتل أولادهم شركائهم، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام. وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى، وأنه مما تعدى فيه مخلف إلى مفعولين.

سورة الحجر

وانتصاب يوم على أنه بدل من يوم يأتيهم قاله الزمخشري، أو معمولا لمخلف وعده. وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون ظرفاً فالمخلف ولا لوعده، لأنّ ما قبل أنْ لا يعمل فيما بعدها، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلام ما يعمل في الظرف أي: لا يخلف وعده يوم تبدل انتهى. وإذا كان إن وما بعدها اعتراضاً، لم يبال أنه فصلاً بين العامل والمعمول، أو معمولاً لانتقام قاله: الزمخشري، والحوفي، وأبو البقاء، أولاً ذكر قاله أبو البقاء. وقرىء: نبدل بالنون الأرض بالنصب، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السموات، حذف لدلالة ما قبله عليه. والظاهر استئناف. وبرزوا. وقال أبو البقاء يجوز أن يكون حالاً من الأرض، وقد معه مزادة. والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله: مقرنين أي: يقرنون في الأصفاد. ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمقرنين، وفي موضع الحال، فيتعلق بمحذوف كأنه قيل: مستقرين في الأصفاد. الجكلة من قوله: وترى، معترضة. وقال ابن عطية: اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره: فعل هذا. قيل: اللام لام الأمر. قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله: وليذكر، فإنه منصوب لا غير انتعهى. ولا يخدش ذلك، إذ يكون وليذكر ليس معطوفاً على الأمر، بل يضمر له فعل يتعلق به. وقال ابن عطية: المعنى هذا بلاغ للناس، وهو لينذروا به انتهى. فجعله في موضع رفع خبراً لهو المحذوفة. وقال الزمخشري: ولينذروا معطوف على محذوف أي: لينصحوا ولينذروا به بهذا البلاغ انتهى. سورة الحجر تسعة وتسعون آية مكية

الرَ تِلْكَ ءايَتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأٌّمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَبٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ * وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَئِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأٌّوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأٌّوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ * وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّهَا لِلنَّظِرِينَ * وَحَفِظْنَهَا مِن كُلِّ شَيْطَنٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ * وَالأٌّرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَزِقِينَ * وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَزِنِينَ * وَإنَّا

لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَرِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَئْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} {الرَ تِلْكَ ءايَتُ الْكِتَبِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأٌّمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَبٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ} والظاهر أنّ ما في ربما مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها. وجوزوا في ما أنْ تكون نكرة موصوفة، ورب جازة لها، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره: رب شيء يوده الذين كفروا. ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أنّ لو مصدرية. وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود، ومن لا يرى أنْ لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفاً. ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجواب لو محذوف أي: ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ودّ، ولما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي، فكأنه قيل: ود، وليس ذلك بلازم، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي. ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري: ومعتصم بالجبن من خشية الردىسيردي وغاز مشفق سيؤب وقول هند أم معاوية: يا رب قائلة غداًيا لهف أم معاوية وقول جحدر: فإن أهلك فرب فتى سيبكيعليّ مهذب رخص البنان

في عدة أبيات. وقول أبي عبد الله الرازي: أنهم اتفقوا على أنّ كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح، فعلى هذا لا يكون يودّ محتاجاً إلى تأويل. وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي: ربما كان يودّ فقوله ضعيف، وليس هذا من مواضع إضمار كان. ولما كان عند الزمخشري وغيره أنّ رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا، وطول الزمخشري في تأويل ذلك. ومن قال: إنها للتكثير، فالتكثير فيها هنا ظاهر، لأنّ ودادتهم ذلك كثيرة. ومن قال: إنّ التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب.

والواو في قوله: ولها، واو الحال. وقال بعضهم: مقحمة أي زائدة، وليس بشيء. وقرأ ابن أبي عبلة: بإسقاطها وقال الزمخشري: الجملة واقعة صفة لقرية، والقياس أنْ لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب انتهى. ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال: الجملة نعت لقرية كقولك: ما لقيت رجلاً إلا عالماً قال: وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله: وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحداً قاله من النحويين، وهو مبني على أنّ ما بعداً لا يجوز أن يكون صفة، وقد منعوا ذلك. قال: الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم، قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قبح بجعلك الصفة كالإسم. وقال أبو علي الفارسي: تقول ما مررت بأحد إلا قائماً، فقائماً حال من أحد، ولا يجوز إلا قائم، لأنّ إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. وقال ابن مالك: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله: في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، أنّ الجملة بعد إلا صفة لأحد، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه. وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أنّ الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وقال القاضي منذر بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أنّ الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: إذا جاؤها وفتحت أبوابها انتهى.

وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَئِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأٌّوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ} وقال الزمخشري: وادن جواب وجزاء، لأنه جواب لهم، وجزاء بالشرط مقدر تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذبهم. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأٌّوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأٌّوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} ومفعول أرسلنا محذوف أي: رسلاً من قبلك. وقال الفراء: في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله: حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي: في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون. وقال الزمخشري: وما يأتيهم حكاية ماضية، لأنّ ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى. وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مراداً به الحال، وتدخل عليه مراداً به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب: أودي بني وأودعوني حسرةعند الرقاد وعبرة ما تقلع وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام:

له نافلات ما يغب نوالهاوليس عطاء اليوم مانعه غدا وقال تعالى: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري. قوله: لا يؤمنون به في موضع الحال. وجاء جواب ولو، قوله: لقالوا. وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّهَا لِلنَّظِرِينَ * وَحَفِظْنَهَا مِن كُلِّ شَيْطَنٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} والظاهر أن جعلنا بمعنى خلقنا، وفي السماء متعلق بجعلنا. ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، وفي السماء المفعول الثاني، فيتعلق بمحذوف. والظاهر أنّ قوله: إلا من استرق، استثناء متصل والمعنى: فإنها لم تحفظ منه، ذكره الزهراوي وغيره والمعنى: أنه سمع من خبرها شيئاً وألقاه إلى الشياطين. وقيل: هو استثناء منقطع والمعنى: أنها حفظت منه، وعلى كلا التقديرين فمِن في موضع نصب. وقال الحوفي: من بدل من كل شيطان، وكذا قال أبو البقاء: حر على البدل أي: إلا ممن استرق السمع. وهذا الإعراب غير سائغ، لأن ما قبله موجب، فلا يمكن التفريغ، فلا يكون بدلاً، لكنه يجوز أن يكون إلا من استرق نعتاً على خلاف في ذلك. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون من في موضع رفع على الابتداء، وفأتبعه الخبر. وجاز دخول الفاء من أجل أنّ مِن بمعنى الذي، أو شرط انتهى.

{وَالأٌّرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَزِقِينَ * وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَزِنِينَ * وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَرِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَئْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} والظاهر أنّ مِن في موضع جر عطفاً على الضمير المجرور في لكم، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش. وقد استدل القائل على صحة هذا المذهب في البقرة في قوله: {وكفر به والمسجد الحرام} وقال الزجاج: من منصوب بفعل محذوف تقديره: وأعشنا من لستم أي: أمما غيركم، لأنّ المعنى أعشناكم.u وقيل: عطفاً على معايش أي: وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع. وقيل: والحيوان. وقيل: عطفاً على محل لكم. وقيل: من مبتدأ خبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي: ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش. وهذا لا بأس به، فقد أجازوا ضربت زيداً وعمرو بالرفع على الابتداء أي: وعمرو ضربته، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه. وتقدم شرح الخزائن. وإنْ نافية، ومن زائدة. وجاء الضمير هنا متصلاً بعد ضمير متصل كما تقدم في قوله: {أنلزمكموها} وتقدم أنّ مذهب سيبويه فيه وجوب الاتصال.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّى خَلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّجِدِينَ * قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَلٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأٌّرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} ومن حمإ قال الحوفي بدل من صلصال، بإعادة الجار. وقال أبو البقاء: من حمإ في موضع جر صفة لصلصال.

الإضافة في قوله: إنّ عبادي، إضافة تشريف أي: أنّ المختصين بعبادتي، وعلى هذا لا يكون قوله: إلا من اتبعك، استثناء متصلاً، لأنّ من اتبعه لم يندرج في قوله: إنّ عبادي: وإنْ كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون: إلاّ من اتبعك استثناء من عموم، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر، وبقاء المستثنى منه أقل، وهي مسألة اختلف فيها النحاة. فأجاز ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍءَامِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَبِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأٌّلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَمٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَنِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاّءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَبِرِينَ * فَلَمَّا جَآءَءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَآتَيْنَكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَدِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ * وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَلَمِينَ * قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى

سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ * وَإِن كَانَ أَصْحَبُ الأٌّيْكَةِ لَظَلِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَبُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَءَاتَيْنَهُمْءَايَتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًاءَامِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ ءاتَيْنَكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًاءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} {

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍءَامِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَبِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأٌّلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} وبسلام في موضع نصب على الحال، واحتمل أن يكون المعنى. مصحوبين بالسلامة، وأن يكون المعنى: مسلماً عليكم. قيل: وانتصب إخواناً على الحال، وهي حال من الضمير، والحال من المضاف إليه إذا لم يكن معمولاً لما أضيف على سبيل الرفع أو النصب تندر، فلذلك قال بعضهم: إنه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه كهذا، لأنّ الصدور بعض ما أضيفت إليه وكالجزء كقوله: واتبع ملة إبراهيم حنيفاً جاءت الحال من المضاف. وقد قررنا أنّ ذلك لا يجوز. وما استدلوا به له تأويل غير ما ذكروا، فتأويله هنا أنه منصوب على المدح، والتقدير: أمدح إخواناً. لما لم يمكن أن يكون نعتاً للضمير قطع من إعرابه نصباً على المدح، وقد ذكر أبو البقاء أنه حال من الضمير في الظرف في قوله: في جنات، وأن يكون حالاً من الفاعل في: ادخلوها، أو من الضمير في: آمنين. {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَمٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَنِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} .

والضيف أصله المصدر، والأفصح أن لا يثني ولا يجمع للمثنى والمجموع، ولا حاجة إلى تكلف إضمار كما قاله النحاس وغيره من تقدير: أصحاب ضيف. وسلاماً مقتطع من جملة محكية بقالوا، فليس منصوباً به، والتقدير: سلمت سلاماً من السلامة، أو سلمنا سلاماً من التحية. وقيل: سلاماً نعت لمصدر محذوف تقديره: فقالوا قولاً سلاماً. وقرأ الأعرج: بشرتموني بغير همزة الاستفهام، وعلى أنّ مسني الكبر في موضع الحال. وقرأ الحسن: تبشروني بنون مشددة وياء المتكلم، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. وابن كثير: بشدها مكسورة دون ياء. ونافع يكسرها مخففة، وغلّطه أبو حاتم وقال: هذا يكون في الشعر اضطراراً، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية وكسر نون الرفع للياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها. وقالوا هو مثل قوله: يسوء القاليات إذا قليني وقول الآخر: لا أباك تخوفيني {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاّءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَبِرِينَ * فَلَمَّا جَآءَءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَآتَيْنَكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَدِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَرَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأٌّمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} .

وإلا آل لوط: يحتمل أن يكون استثناء من الضمير المستكن في مجرمين والتقدير: أجرموا كلهم إلا آل لوط، فيكون استثناء متصلاً، والمعنى: إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا. ويكون قوله: إنا لمنجوهم أجمعين، استئناف إخبار عن نجاتهم، وذلك لكونهم لم يجرموا، ويكون حكم الإرسال منسحباً على قوم مجرمين وعلى آل لوط لإهلاك هؤلاء، وإنجاء هؤلاء. والظاهر أنه استثناء منقطع، لأن آل لوط لم يندرج في قوله: قوم مجرمين، لا على عموم البدل، لأنّ وصف الإجرام متنف عن آل لوط، ولا على عموم الشمول لتنكير قوم مجرمين، ولانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط. وإذا كان استثناء منقطعاً فهو مما يجب فيه النصب، لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن بوجه العامل على المستثنى فيه، لأنهم لم يرسلوا إليهم أصلاً، وإنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة. ويكون قوله: إنا لمنجرهم جرى مجرى خبر، لكن في اتصاله بآل لوط، لأن المعنى: لكن آل لوط منجون. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدر بلكن إذا لم يكن بعده ما يصح أن يكون خبراً أنّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان إلا وتقديرها بلكن.

قال الزمخشري: (فإن قلت) : فقوله إلا امرأته استثنى، وهل هو استثناء من استثناء؟ (قلت) : استثنى من الضمير المجرور في قوله: لمنجوهم، وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان: عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً. فأما في الآية فقد اختلف الحكمان، لأنّ إلا لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء: انتهى. ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء. ومن قال: إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين: أحدهما: أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط، وقد استثنى منه المرأة، صار كأنه مستثنى من آل لوط، لأنّ المضمر هو الظاهر في المعنى. والوجه الآخر: أن قوله: إلا آل لوط، لما حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم، فجاء قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى إلا آل لوط، فلم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك: قام القوم إلا زيداً، فإنه لم يقم وإلا زيداً لم يقم. فهذه الجملة تأكيد لما تضمنته الاستثناء من الحكم على بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه، فإلا امرأته على هذا التقدير الذي قررناه استثناء من آل لوط، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد.

وحيث على بابها من أنها ظرف مكان، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله: فأسر بأهلك بقطع من الليل، ثم قيل له: حيث تؤمر ضعيف. ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم، وحيث من الظروف المكانية المبهمة، ولذلك يتعدّى إليها الفعل وهو: امضوا بنفسه، تقول: قعدت حيث قعد زيد، وجاء في الشعر دخول في عليها. قال الشاعر: فأصبح في حيث التقينا شريدهمطليق ومكتوف اليدين ومرعف مصبحين داخلين في الصباح، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد: إذا كانوا مصبحين، كما تقول: أنت راكباً أحسن منك ماشياً، فإن كان تفسير معنى فصحيح، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير. {وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَلَمِينَ * قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} واللام في لعمرك لام الابتداء. وقال الزجاج: ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بالعمرى ولعمرك فلزموا الأخف، وارتفاعه بالابتداء، والخبر محذوف أي: ما أقسم به.

{وَإِن كَانَ أَصْحَبُ الأٌّيْكَةِ لَظَلِمِينَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ * وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَبُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَءَاتَيْنَهُمْءَايَتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًاءَامِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ليكة ممنوع الصرف. وإنْ عند البصريين هي لمخففة من الثقيلة، وعند الفراء نافية، واللام بمعنى ألا. وتقدم نظير ذلك في: {وإن كانت لكبيرة} في البقرة. {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَبُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَءَاتَيْنَهُمْءَايَتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًاءَامِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} والظاهر أنّ ما في قوله فما أغنى نافية، وتحتمل الاستفهام المراد منه التعجب. وما في كانوا يحتمل أن تكون مصدرية، والظاهر أنها بمعنى الذي، والضمير محذوف أي: يكسبونه.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ ءاتَيْنَكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًاءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} قرأت فرقة: والقرآن العظيم بالخفض عطفاً على المثاني. وأبعد من ذهب إلى أنّ الواو مقحمة. والكاف قال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق بقوله: ولقد آتيناك. الثاني: أن يتعلق بقوله تعالى: وقل أني أنا النذير المبين. أما الوجه الأول وهو تعلق كما بآتيناك فذكره أبو البقاء على تقدير وهو وأن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالاً كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك.

وأما قوله ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين فلا يجوز أن يكون منصوباً بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقوله شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية تذكر دلائلها في علم النحو. وقال ابن عطية والكاف من قوله كما متعلقه بفعل محذوف تقديره وقل أني أنا النذير عذاباً كالذي أنزلنا على المقتسمين فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلّمبل هو من قول الله تعالى فينفصل الكلام. أما قوله وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا وإن كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الملك هو الآمر. وقيل الكاف زائدة التقدير أنا النذير المبين ما أنزلنا عل المقتسبين. أمره تعالى بأن يقول لهم إني أنا النذير المبين لكم ولغيركم كما قال تعالى إنما أنت منذر من يخشاها وتكون الكاف نعتاً لمصدر محذوف تقديره وقل قولاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم. والظاهر أن الذين صفة للمقتسمين وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن ينتصب على الذم وتقدم تجويز الزمخشري له أن يكون مفعولاً بالنذير. قوله فاصدع بما تؤمر وما في بما بمعنى الذي والمفعول الثاني محذوف تقديره بما تؤمره وكان أصله تؤمر به من الشرائع فحذف الحرف فتعدى الفعل إليه. وقال الأخفش ما موصولة والتقدير فاصدع بما تؤمر بصدعه فحذف المضاف ثم الجار ثم الضمير. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول انتهى وهذا ينبني على مذهب من يجوز أن المصدر يراد به أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز.

سورة النحل

سورة النحل أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَنَهُ وَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ بِالْحَقِّ تَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإِنْسَنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأٌّنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأٌّرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِى الأٌّرْضِ

رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلهٌ وَحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ * قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَفِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

ومِنْ للتبعيض، أو لبيان الجنس. ومن يشاء: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنْ مصدرية، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم: كتبت إليه بأنْ قم، وهو بدل من الروح. أو على إسقاط الخافض: بأن أنذروا، فيجري الخلاف فيه: أهو في موضع نصب؟ أو في موضع خفض؟ وقال الزمخشري: وأن أنذروا بدلاً من الروح أي: ننزلهم بأن أنذروا، وتقديره: أنذروا أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أنه لا إله إلا أنا انتهى. فجعلها المخفف من الثقيلة، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن، وقدر إضمار القول: حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع. وجوّز ابن عطية، وأبو البقاء، وصاحب الغنيان: أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب. ودفء مبتدأ وخبره لكم، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار. وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالاً من دفء، إذ لو تأخر لكان صفة. وجوز أيضاً أن يكون لكم حالاً من دفء وفيها الخبر، وهذا لا يجوز لأنّ الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها، لا يجوز: فائماً في الدار زيد، فإنْ تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش، ومنعه الجمهور. وأجاز أيضاً أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بال، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى. ولا تسمى جملة، لأنّ التقدير: خلقها لكم فيها دفء، أو خلقها لكم كائناً فيها دفء، وهذا من قبيل المفرد، لا من قبيل الجملة. وجوزوا أن يكون لكم متعلقاً بخلقها، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام. والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام. وقال الزمخشري، وابن عطية: يجوز أن يكون قد عطف على البيان، وعلى هذا كون لكم استئناف، أو متعلق بخلقها. الظاهر أنّ مِن للتبعيض كقولك: إذا أكلت من الرغيف.

وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: حيناً فيهما بالتنوين، وفك الإضافة. وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله: {واتقوا يوماً لا تجزى} ويكون العامل في حيناً على هذا، إمّا المبتدأ لأنه في معنى التجمل، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار. وقرأ الجمهور: والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفاً على والأنعام. وانتصب وزينة، ولم يكن باللام، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف، وكلاهما مفعول من أجله، لأن التقدير: خلقها، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب، وهو: اتحاد الفاعل، فعدى باللام. والزينة من وصف الخالق، فاتحد الفاعل، فوصل الفعل إليه بنفسه. وقال ابن عطية: وزينة نصب بإضمارفعل تقديره: وجعلناها زينة. وروى قتادة عن ابن عباس: لتركبوها زينة بغير واو. قال صاحب اللوامح: والزينة مصدر أقيم مقام الاسم، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها، أو من لتركبوها. قال ابن عطية: ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع، وتكون مِن للتبعيض. ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي: ولو شاء هدايتكم. {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأٌّرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائناً لكم منه شراب. ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ.

وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوباً، وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول، وهو إعراب الجمهور. وقرأ ابن عامر: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما. والظاهر في قراءة نصب الجميع أنّ والنجوم معطوف على ما قبله. وقال الأخفش: والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره: وجعل النجوم مسخرات، فأضمر الفعل. وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالاً مؤكدة، بل مفعولاً ثانياً لجعل إن كان جعل المقدرة بمعنى صير، وحالاً مبينة إن كان بمعنى خلق. {وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِى الأٌّرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن} والظاهر عطف، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه. وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي: لتبتغوا بذلك. ولتبتغوا، وأن يكون على إضمار فعل أي: وفعل ذلك لتبتغوا. وقال ابن عطية أيضاً: وقوله: وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل، أو خلق أنهاراً. وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر.

{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلهٌ وَحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أموات خبر مبتدأ ومحذوف أي هم أموات ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر. والظاهر أنّ قوله: إيان، معمول ليبعثون، والجملة في موضع نصب بيشعرون، لأنه معلق. إذ معناه العلم. وقيل: تم الكلام عند قوله: وما يشعرون. وأيان يبعثون ظرف لقوله: إلهكم إله واحد، أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد انتهى. ولا يصح هذا القول لأنّ إيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً، إما استفهاماً، وإما شرطاً. وفي هذا التقدير تكون ظرفاً بمعنى وقت مضافاً للجملة بعدها، معمولاً لقوله: واحد، كقولك: يوم يقوم زيد قائم.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ * قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَفِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . وماذا كلمة استفهام مفعول بأنزل، أو مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي، وعائده في أنزل محذوف أي: أي شيء الذي أنزله. وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعاً بالابتداء قال: بمعنى أي شيء أنزله ربكم. وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر، والضمير في لهم عائد على كفار قريش، وماذا أنزل ليس معمولاً لقيل على مذهب البصريين، لأنه جملة، والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله، كما لا تقع موقع الفاعل. وقرىء شاداً: أساطير بالنصب على معنى ذكر ثم أساطير، أو أنزل أساطير على سبيل التهكم والسخرية.

وقرأ الجمهور: برفع أساطير، فاحتمل أن يكون التقدير المذكور: أساطير، أو المنزل أساطير، جعلوه منزلاً على سبيل الاستهزاء، وإن كانوا لا يؤمنون بذلك. واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم، أو لام التعليل من غير أن يكون غرضاً كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر، وهي التي يعبر عنه بلام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بقولهم: أساطير الأولين، أن يحملوا الأوزار. ولما قال ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون لام العاقبة قال: ويحتمل أن يكون صريح لام كي على معنى قدر هذا لكذا، وهي لام التعليل، لكنه لم يعلقها بقوله. قالوا: بل أضمر فعلاً آخر وهو: قدر هذا، وكاملة حال أي: لا ينقص منها شيء، ومن للتبعيض. وقال الأخفش: من زائدة أي: وأوزار الذين يضلونهم، والمعنى: ومثل أوزار الذين يضلونهم كقوله: «فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . ويجوز أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون منصوباً على الذم، فاحتمل أن يكون مقولاً لأهل العلم، واحتمل أن يكون غير مقول، بل من إخبار الله تعالى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله، وخبره في قوله: فألقوا السلم، فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا انتهى. وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، فإنه يجيز: زيد فقام، أي قام. ولا يتوهم أنّ الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولاً، وضمن معنى الشرط، لأنه لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح الشرط، فلا يجوز فيما ضمن معناه. واظاهر عطف فألقوا على تتوفاهم، وأجاز أبو البقاء أن يكون معطوفاً على قوله: الذين، وأن يكون مستأنفاً. واللام في فلبئس لام تأكيد، ولا تدخل على الماضي المنصرف، ودخلت على الجاخد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء. والمخصوص بالذم محذوف أي: فلبئس مثوء المتكبرين هي أي جهنم.

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الأٌّخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَلَةُ فَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّصِرِينَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَذِبِينَ *

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَالَّذِينَ هَجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأّجْرُ الأٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأٌّرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَفُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ}

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الأٌّخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقدم إعراب ماذا، إلا أنه إذا كانت ذا موصولة لم يكن الجواب على وفق السؤال، لكون ماذا مبتدأ وخبر، أو الجواب نصب وهو جائز، ولكن المطابقة في الإعراب أحسن. وقرأ الجمهور: خيراً بالنصب أي: أنزل خيراً. وقرأ زيد بن علي: خير بالرفع أي: المنزل فتطابق هذه القراءة تأويل من جعل إذا موصولة، ولا تطابق من جعل ماذا منصوبة، لاختلافهما في الإعراب، وإن كان الاختلاف جائزاً كما ذكرنا.

والظاهر أن المخصوص بالمدح هو جنات عدن. وقال الزمخشري: ولنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذف المخصص بالمدح لتقدم ذكره، وجنات عدن خبر مبتدأ محذوف انتهى. وقاله ابن عطية، وقبلهما الزجاج وابن الأنباري، وجوزوا أن يكون جنات عدن مبتدأ، والخبر يدخلونها. وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات عدن بالنصب على الاشتغال أي: يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر. وقرأ زيد بن علي: ولنعمت دار، بتاء مضمومة، ودار مخفوض بالإضافة، فيكون نعمت مبتدأ ونات الخبر. وقرأ السلمي: تدخلونها بتاء الخطاب. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع: يدخلونها بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة: تجري. قال ابن عطية: في موضع الحال، وقال الحوفي: في موضع نعت لجنات انتهى. فكان ابن عطية لحظ كون جنات عدن معرفة، والحوفي لحظ كونها نكرة، وذلك على الخلاف في عدن هل هي علم؟ أو نكرة بمعنى إقامة؟ والكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف أي: جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا يجزي، وطيبين حال من مفعول تتوفاهم. ويقولون نصب على الحال من الملائكة. وقال مقاتل والحسن: عند دخول الجنة وهو قول خزنة الجنة لهم في الآخرة: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار. فعلى هذا القول يكون يقولون حالاً مقدرة، ولا يكون القول وقت التوفي. وعلى هذا يحتمل أن يكون الذين مبتدأ، والخبر يقولون.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَغُ الْمُبِينُ} . الكاف في موضع نصب أي مثل فعلهم. وقوله: فأصابهم معطوف على فعل. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَلَةُ فَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّصِرِينَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَذِبِينَ}

وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابن سيرين: لا يهدي مبنياً للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله. والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره: من يضله الله. وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة: يهدي مبنياً للفاعل. والظاهر أنّ في يهدي ضميراً يعود على الله، ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازماً، والفاعل من انتصب وعداً وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه. وقال الحوفي: حقاً نعت لو عدا. وقرأ الضحاك: بلى وعد حق، والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد. وقال الزمخشري: وأقسموا بالله معطوف على وقال الذي أشركوا. واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي: نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل: ما ضربت أحداً فيقول: بلى زيداً أي: ضربت زيداً. ويعود الضمير في يبعثهم المقدار، وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت. {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَالَّذِينَ هَجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأّجْرُ الأٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَآ} الظاهر أن اللام في الشيء وفي له للتبليغ كقولك قلت لزيد قم وقال الزجاج هي لام السبب آي: الأجل إيجاد شيء وكذلك له أي لأجله.

وقوله: أن نقول، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية. وكقوله تعالى: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وغير ذلك انتهى. وقوله: ولكن أن مع الفعل يعني المضارع، وقوله: في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها. والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي: تبوئة حسنة. وقيل: انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحساناً. وقال أبو لابقاء: حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأنّ معناه لنعطينهم، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي: دار حسنة انتهى. وقرأ عليّ، وعبد الله، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم: لنثوينهم بالثناء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض أي: في حسنة. وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ، خلافاً لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوز زيداً لأضربن، فلا يجوز زيداً لأضربنه.

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأٌّرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أن النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظاً ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرفة. والوجه الثاني: أن لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلنا داخلاً تحت حكم الاستثناء مع رجالاً أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيداً بالسوط، لأن أصله ضربت زيداً بالسوط انتهى. وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما بيليها، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال الشاعر: ليتهم عذبوا بالنار جارهمولا يعذب إلا اللَّه بالنار

انتهى. وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعاً، وما ظن من غير الثلاثة معمولاً لما قبل إلاّ قدر له عامل. وأجاز الكسائي أن تقع معمولاً لما قبلها منصوب نحو: ما ضرب إلا زيداً عمراً، ومخفوض نحو: ما مرّ إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو. ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال. فالقول الذي قاله الحوقي والزمخشري بتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو. وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي: رجالاً ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد: إلا، فوصف رجالاً بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول: ما أكرمت إلا رجلاً مسلماً ملتبساً بالخير. وأجاز أيضاً أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون. والسيئات نعت لمصدر محذوف أي: المكرات السيئات قاله الزمخشري: أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة: أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية. وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلاً من السيئات. وعلى القولين. قبله مفعول بأمن. {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَفُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ} والجملة من قوله: تتفيئوا، في موضع الصفة قاله الحوفي، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري.

قال الزمخشري: سجداً حال من الظلال وهم داخرون حال من الضمير في ضلالة. فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجداً حالاً من الظلال، ووهم داخرون حالاً من الضمير في سجداً، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول: جاء زيد راكباً وهو ضاحك، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً، ويجوز أن يكون حالاً من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل في الحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي. وقيل: في موضع الحال، وقاله أبو البقاء. وقيل: عن اسم أي: جانب اليمين، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف. وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله: وهم داخرون، حال من الضمير في ظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء جاز.

{وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّيَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِى الْسَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأٌّعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ * تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ

وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأٌّنْعَمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} {وَمِن ثَمَرَتِ النَّخِيلِ وَالأٌّعْنَبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأٌّمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}

الظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد. وقيل: هو متعد إلى مفعولين، فقيل: تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: حذف الثاني للدلالة تقديره معبوداً واثنين على هذا القول تأكيد. انتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره: وإياي ارهبوا. وقول ابن عطية: فإياي، منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميراً منفصلاً والفعل متعدياً إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك: إياي نعبد ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله: إليك حين بلغت إياكا

قال ابن عطية: والواو في وله ما في السموات والأرض عاطفة على قوله: إله واحد، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى. ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنما هي عاطفة: فإما على الخبر كما ذكر أولاً فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملة بأسرها التي هي: إنما هي إله واحد، فيكون من عطف الجمل. وانتصب واصباً على الحال، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور. أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي: بعدما عرفتم وحدانيته، وأن ما سواه له ومحتاج إليه، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه؟ ثم أخبر تعالى بأنّ جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية. ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} . وما موصولة، وصلتها بكم، والعامل فعل الاستقرار أي: وما استقر بكم، ومن نعمة تفسير لما، والخبر فمن الله أي: فهي من قبل الله، وتقدير الفعل العامل بكم خاصاً كحلّ أو نزل ليس بجيد. وأجاز الفرّاء والحوفي: أن تكون ما شرطية، وحذف فعل الشرط. قال الفراء: التقدير. وما يكن بكم من نعمة، وهذا ضعيف جداً لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال، أو متلوة بما النافية مدلولاً عليه بما قبله، نحو قوله: فطلقها فلست لها بكفءوإلا يعل مفرقك الحسام أي: وإلا تطلقها، حذف تطلقها الدلالة طلقها عليه، وحذفه بعد أنْ متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله: قالت بنات العم يا سلمى وإنكان فقيراً معدماً قالت وإن أي: وإن كان فقيراً معدماً، وأما غير إن من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولاً عليه في باب الاشتغال مخصوصاً بالضرورة نحو قوله: أينما الريح تميلها تمل. التقدير: أينما تميلها الريح تميلها تمل.

وقرأ قتادة: كاشف، وفاعل هنا بمعنى فعل، وإذا الثانية للفجاءة. وفي ذلك دليل على أنّ إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها. منكم في موضع الصفة، ومِنْ للتبعيض، وأجاز الزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال: كأنه قال فإذا فريق كافروهم أنتم. قال: ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} انتهى واللام في ليكفروا، إن كانت للتعليل كان المعنى: أنّ إشراكهم بالله سببه كفرهم به، أي جحودهم أو كفران نعمته، وبما آتيناهم من النعم، أو من كشف الضر، أو من القرآن المنزل إليهم. وإن كانت للصيرورة فالمعنى: صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، بل آل أمر ذلك الجوار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به. وإن كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد. وقرأ أبو العالية: فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومة مبنياً للمفعول، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففاً، وهو معطوف على ليكفروا، وحذفت النون إما للنصب عطفاً إنْ كان يكفروا منصوباً، وإما للجزم إن كان مجزوماً أن كان عطفاً، وأن للنصب إن كان جواب الأمر. {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأٌّعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

ولهم ما يشتهون: وهم الذكور، وهذه الجملة مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي. وقال أبو البقاء: وقد حكاه، وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدّى إلى ضميره المتصل المنصوب، فلا يجوز زيد ضربه زيد، تريد ضرب نفسه إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد، وعدم، فيجوز: زيد ظنه قائماً وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. قالوا: وضمير مرفوع، ولهم مجرور باللام، فهو نظير: زيد غضب عليه. وفي قوله: على هون قولان: أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس. قال ابن عباس: إنه صفة للأب، والمعنى: أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه؟ وقيل: حال من المفعول أي: أيمسكها مهانة ذليلة.

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ * تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب، أو على إسقاط الحرف أي: بأن لهم. فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة. وأل في اليوم للعهد. وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله، وانتصباً لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم. ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأن المنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلّم وقول الزمخشري: معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأنّ محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه. ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل؟. {وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأٌّنْعَمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ}

وقرأ أبو رجاء: يسقيكم بالياء مضمومة، والضمير عائد على الله أي: يسقيكم الله. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون مسنداً إلى النعم، وذكر لأنّ النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه: وأنّ لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي: يجعل لكم سقياً انتهى. وقرأت فرقة: بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر. قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى. وضعفها عنده ـ والله أعلم ـ من حيث أنث في تسقيكم، وذكر في قوله مما في بطونه، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين، وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراً كقولهم: هو أحسن الفتيان وأنبله، لأنه يصح هو أحسن فتى، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب. وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفرداً. كقوله: مثل الفراخ نبقت حواصله وقيل: أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال: فيها خطوط من سواد وبلقكأنه في الجلد توليع البهق

فقال: كأنه وقدر بكان المذكور. قال الكسائي: أي في بطون ما ذكرنا. قال المبرد: وهذا سائغ في القرآن قال تعالى: {إن هذه تذكرةوَمِن ثَمَرَتِ النَّخِيلِ وَالأٌّعْنَبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ} {فمن شاء ذكره} أي ذكر هذا الشيء. وقال: {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي} أي هذا الشيء الطالع. ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازى، لا يجوز جاريتك ذهب. وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها فكأنّ العبرة إنما هي في بعض الأنعام. وقال الزمخشري: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم: ثواب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان: أحدهما: أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله: في كل عام نعم تحوونهيلقحه قوم وينتجونه

وإذا أنّث ففيه وجهان: إنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع انتهى. وأما ما ذكره عن سيبويه ففي كتابه في هذا في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها، لأنها ضارعت الواحد. ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل، وإعراب وأعاريب، وأيد وأياد، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت. ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعاً لأخرجته إلى فعائل، كما تقول: جدود وجدائد، وركوب وركائب، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء. ويقوي ذلك أنّ بعض العرب يقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد تقع للواحد من العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه وعز: نسقيكم مما في بطونه. وقال أبو الخطاب: سمعت العرب يقولون: هذا ثواب أكياس انتهى. والذي ذكره سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفعول، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث أنّ مفاعل ومفاعيل لا يجمعان، وأفعال وفعول قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد، من حيث أنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع، ثم قوى شبههما بالمفرد بأنّ بعض العرب قال في أتى: أتى بضم الهمزة يعني أنه قد جاء نادراً فعول من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول: هو الأنعام، وإنما يعني أن ذلك على سبيل المجاز، لأنّ الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر: تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي

ولذلك قال سيبويه: وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع. فقول الزمخشري: إنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدل على ما قلناه أنّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنّ أفعالاً ليس من ابنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام: أفعيل، ولا أفعول، ولا أفعال، ولا أفعيل، ولا أفعال إلا أنْ تكسر عليه اسماً للجميع انتهى. فهذا نص منه على أنّ أفعالاً لا يكون في الأبنية المفردة. ومِن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما. ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال، فتتعلق بمحذوف، لأنه لو تأخر لكان صفة أي: كائناً من بين فرث ودم. ويجوز أن يكون من بين فرث بدلاً من ما في بطونه. والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون، وكررت من للتأكيد، وكان الضمير مفرداً راعياً لمحذوف أي: ومن عصير ثمرات، أو على معنى الثمرات وهو الثمر، أو بتقدير من المذكور. وقيل: تتعلق بنسقيكم، فيكون معطوفاً على مما في بطونه، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة، فيكون من عطف الجمل، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على الأنعام أي: ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة، ثم بين العبرة بقوله: تتخذون. وقال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. فحذف ما هو لا يجوز على مذهب البصريين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله: بكفي كان من أرمي البشر. تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه انتهى. وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال: أي وإن من ثمرات، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء، ومن ثمرات خبره انتهى.

وأن تفسيرية، لأن تقدم معنى القول وهو: وأوحى. أو مصدرية أي: باتخاذ، قال أبو عبد الله الرازي: أن هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر. وتقتضي ثم المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخر منه العسل، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على اتخذي، وهو أمر معطوف على أمر، وقيل: سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي: في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به. وقال مجاهد: ذللاً عير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللاً حال من سبيل ربك كقوله تعالى: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً وقال قتادة: أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد: يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللاً حال من النحل كقوله: وذللناها لهم. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأٌّمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}

واللام في لكي قال الحوفي: هي لام كي دخلت على كي للتوكيد، وهي متعلقة بيرد انتهى. والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أنّ كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن، واللام جارة، فينسبك من كي والمضارب بعدها مصدر مجرور باللام تقديراً، فاللام على هذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما، لأن اللام بالتعليل، وكي حرف مصدري، واللام جارة، وكي ناصبة. وقال ابن عطية: يشبه أن تكون لام صيرورة. وانتصب شيئاً إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق. وحفدة منصوب بجعل مضمرة. وأجازوا في شيئاً انتصابه بقوله: رزقاً، أجاز ذلك أبو عليّ وغيره. ورد عليه ابن الطراوة بأنّ الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد على ابن الطراوة بأنّ الرزق بالكسر يكون أيضاً مصدراً، وسمع ذلك فيه، فصح أنْ يعمل في المفعول به والمعنى: ما لا يملك أن يرزق من السموات والأرض شيئاً. ومن السموات متعلق إذ ذاك بالمصدر. قال ابن عطية بعد أن ذكر أعمال المصدر منوناً: والمصدر يعمل مضافاً باتفاق، لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية. وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر: ضعيف النكاية أعداءه البيت وقوله: لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا

انتهى. أما قوله: يعمل مضافاً بالاتفاق إنْ عنى من البصريين فصحيح، وإن عنى من النحويين فغير صحيح، لأنّ بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل، وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر. وأما قوله: لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان، وأبو الحسين بن الطراوة، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف، وتوكيده بالمعرفة. وأما قوله: ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قول أخيراً: وقد جاء عاملاً مع الألف واللام. وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين، ومذهب سيبويه جواز أعماله. قال سيبويه: وتقول عجبت من الضرب زيداً، كما تقول: عجبت من الضارب زيداً، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين. وإذا كان رزقاً يراد به المرزوق فقالوا: انتصب شيئاً على أنه بدل من رزقاً، كأنه قيل: ما لا يملك لهم من السموات والأرض شيئاً، وهو البدل جارياً على جهة البيان لأنه أعم من رزق، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفاً، فينبغي أن لا يجوز، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين. إما البيان، وإما التوكيد. وأجازوا أيضاً أن يكون مصدراً أي: شيئاً من الملك كقوله: ولا تضرونه شيئاً أي شيئاً من الضرر. وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السموات بقوله: لا يملك، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأٌّبْصَرَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأٌّنْعَمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَمَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَثاً وَمَتَعاً إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَفِرُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ

كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأٌّبْصَرَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ} والظاهر كون ومن موصولة أي: والذي رزقناه، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر. وقال أبو البقاء: موصوفة. قال الزمخشري: الظاهر أنها موصوفة كأنه قال: وحراً رزقناه ليطابق عبداً، ولا يمتنع أن تكون موصولة. وقال الحوفي: مَن بمعنى لذي، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصفا متباينة تعيينهما.

وقرأ عبد الله، وعلقمة، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنياً، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه. ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الأبكم، ويكون الفعل لازماً وجه بمعنى توجه، كان المعنى: أينما يتوجه. وعن عبد الله أيضاً: توجهه بهاءين، بتاء الخطاب، والجمهور بالياء والهاءين. وعن علقمة وابن وثاب، وطلحة، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، والفعل مبني للمفعول. وعن علقمة، وطلحة: يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة. قال صاحب اللوامح: فإنْ صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف، أو لم يرد به الشرط، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه، وقد حذف منه ضمير المفعول به، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو: يوم يأت. وإذا يسر انتهى. ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام. وقال أبو حاتم: هذه القراءة ضعيفة، لأن الجزم لازم انتهى. والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أنّ أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفاً، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد. ولا تعلمون جملة حالية أي: غير عالمين. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأٌّنْعَمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَمَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَثاً وَمَتَعاً إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَفِرُونَ} والظاهر أنّ أثاثاً مفعول، والتقدير: وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً. وقيل: أثاثاً منصوب على الحال على أنّ المعنى: جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً، فيكون ذلك معطوفاً على من جلود الأنعام، كما تقول: جعلت لك من الماء شراباً ومن اللبن، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجروراً على مجرور، ومنصوباً على منصوب كما تقول: ضربت في الدار زيداً وفي القصر عمراً. فإن تولوا، يحتمل أن يكون ماضياً أي: فإن أعرضوا عن الإسلام. ويحتمل أن يكون مضارعاً أي: فإن تتولوا، وحذفت التاء، ويكون جارياً على الخطاب السابق والماضي على الالتفات، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة، والجواب حقيقة محذوف أي: فأنت معذور إذ أدّيت ما وجب عليك.

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله: الحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء. وقال الزمخشري: أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه: ثم ينكرونها، أي ينكرونها اليوم. ويوم نبعث.

والظاهر أنّ جواب إذا قوله فلا يخفف، وهو على إضمار هو أي: فهو لا يخفف، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء، لأن جواب إذا إذا كان مضارعاً لا يحتاج إلى دخول الفاء، سواء كان موجباً أم منفياً، كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} وتقول: إذا جاء زيد لا يجيء عمرو. قال الحوفي: فلا يخفف جواب إذا، وهو العامل في إذا، وقد تقدم لنا أنّ ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعمل فيما قبله، وبينا أنّ العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط، وإن كان ليس قول الجمهور. وجعل الزمخشري جواب إذا محذوفاً فقال: وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوماً قال: ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. والظاهر أنّ الذين مبتدأ وزدناهم الخبر. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون قوله: الذين، بدلاً من الضمير في يفترون. وزدناهم فعل مستأنف إخباره. والظاهر أنّ تبياناً مصدر جاء على تفعال، وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء. وقد جوّز الزجاج فتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية: تبياناً اسم وليس بمصدر، وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين: أنه مصدر ولم يجيء على تفعال من المصادر إلا ضربان: تبيان وتلقاء.

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأٌّيْمَنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ

وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَآءَايَةً مَّكَانَءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ

إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَوةَ الْدُّنْيَا عَلَى الأٌّخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَفِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الْخَسِرونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَلِمُونَ * فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَلَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ إِبْرَهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لانْعُمِهِ اجْتَبَهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَءاتَيْنَهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّبِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} {

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأٌّيْمَنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ودخلاً مفعول ثان. وقيل: مفعول من أجله، وأن تكون أي: بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر. وأجاز الكوفيون أن تكون هي عماداً يعنون فضلاً، فيكون أربى في موضع نصب، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة. والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي: بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك.

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وما مصدرية في بما صددتم، أي: بصدودكم أو بصدكم غيركم. وروي عن نافع: وليجزينهم بالياء بدل النون، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفاً على فلنحيينه، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفتان. ولا يكون من عطف جواب على جواب، لتغاير الإسناد، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب، وذلك لا يجوز. فعلى هذا لا يجوز: زيد قلت والله لأضربن هنداً ولينفينها، ويريد ولينفيها زيد. فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي: وقال زيد لينفينها لأن، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه، وأن تحكى على المعنى. فمن الأول: وليحلفن باللَّه إن أردنا إلا الحسنى ومن الثاني: يحلفون باللَّه ما قالوا ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا. وهو مؤمن: جملة حالية.

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَآءَايَةً مَّكَانَءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ * إِنَّ} وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه ويحتمل أن يكون حال. وقرىء: ليثبت مخففاً من أثبت. قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى. وتقدم الرد عليه في نحو هذا، وهو قوله: لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير: لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي: وهو هدى وبشرى.

قال الزمخشري: (فإن قلت) : الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها؟ (قلت) : لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قول الله: أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله} انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي: يقولون ذلك والحالة هذه أي: علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول: تشتم فلاناً وهو قد أحسن إليك أي: علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه. وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجزوح جداً، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.

{إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَوةَ الْدُّنْيَا عَلَى الأٌّخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَفِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَفِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الْخَسِرونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَوْمَ} والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب.

وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره: الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين، فعليهم غضب. ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي: فعليهم غضب، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطاً. وقال ابن عطية: وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء، وقوله: من شرح تخصيص منه، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه. ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله: فعليهم، خبر عن مَن الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله: من كفر، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى. وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} وقوله: {فروح وريحان} جواب لأما، ولأنّ هذا وهما أدانا شرط، إحداهما تلي الأخرى، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط. إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطاً حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله: ولكن متى يسترقد القوم أرقد

أي: ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد. وكذلك تقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدراً أي: منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري: أن تكون بدلاً من الذين لا يؤمنون، ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلاً من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلاً من أولئك، فإذا كان بدلاً من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك هم الكاذبون، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. وإذا كان بدلاً من الكاذبون فالتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، وإذا كان بدلاً من أولئك فالتقدير: ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير: وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضاً بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى

وقال أبو البقاء: خبر أن الأولى قوله: إن ربك لغفور، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى. وإذا كانت أنّ الثانية واسمها تكريراً للتوكيد كما ذكر، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر أنّ الأولى هو قوله: لغفور، ويكون للذين متعلقاً بقوله: لغفور، أو برحيم على الأعمال، لأنّ إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب. كما أنك إذا قلت: قام قام زيد، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى. وقيل: لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدم، ولا يجوز. {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَلِمُونَ * فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ} يوم منصوب على الظرف، وناصبه رحيم، أو على المفعول به، وناصبه اذكر.

(فإن قلت) : لم لم يتعد الفعل إلى الضمير، لا إلى لفظ النفس؟ (قلت) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله، ولا مضمره إلى مضمره المتصل، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها، ولذلك لا يجوز: ضربتها هند ولا هند ضربتها، وإنما تقول: ضربت نفسها هند، وضربت هند نفسها، ما عملت أي: جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة، وأنث الفعل في تأتي، والضمير في تجادل وفي عن نفسه، وفي توفي، وفي عملت، حملاً على معنى كل، ولو روعي اللفظ لذكر. وقال الشاعر: جادت عليها كل عين ثرةفتركن كل حديقة كالدرهم فأنث على المعنى. والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع. وروي العباس عن أبي عمرو: والخوف بالنصب عطفاً على لباس. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف. {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَلَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}

وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي: ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي. وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب، أو على إضمار فعل أي: فتقولوا هذا حلال وهذا حرام. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما، كما تقول: جاءني الذي ضربت جخاك، أي ضربته أخاك. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني. وقال الكسائي والزجاج: ما مصدرية، وانتصب الكذب على المفعول به أي: لوصف ألسنتكم الكذب. ومعمول: ولا تقولوا، الجملة من قوله: هذا حلال وهذا حرام، والمعنى: ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً، لا بحجة وبينة. وهذا معنى بديع. وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلاً من ما، والمعنى الذي: تصفه ألسنتكم الكذب. وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية. قال الزمخشري: كأنه قيل: لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى: {بدم كذب} والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى. وهذا عندي لا يجوز، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل، ولا يوجد من كلامهم: يعجبني أنْ قمت السريع، يريد قيامك السريع، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي: من خروجك السريع. وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا، من ما ولا، من كي، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب. واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض، قاله الزمخشري، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة. قيل: ذلك الافتراء.

الواحدي: لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله: لما تصف ألسنتكم الكذب، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى. وهو على تقدير ما مصدرية، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل، فيبدل منها ما يقتضي التعليل، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك: لا تقولوا، لما أحل الله هذا حرام أي: لا تسموا الحلال حراماً، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم. {إِنَّ إِبْرَهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لانْعُمِهِ اجْتَبَهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَءاتَيْنَهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} «أن تفسيرية أو في موضع المفعول»

وقال مكي: ولا يكون ـ يعني حنيفاً ـ حالاً من ابراهيم لأنه مضاف إليه، وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك: مررت بزيد قائماً انتهى. أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب، جازت الحال منه نحو: يعجبني قيام زيد مسرعاً، وشرب السويق ملتوتاً. وقال بعض النحاة: ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} إخواناً أو كالجزء منه كقوله: {ملة ابراهيم حنيفاً} وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل، وعلى الألفية لابن مالك. وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً، وإنما العامل في الحال مررت، والباء وإن عملت الجر في زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجروراً بالحرف. {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّبِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي: لصبركم وللصابرين أي: لكم أيها المخاطبون، فوضع الصابرين.

سورة الإسراء

وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين. وقال أبو عبيدة: بفتح الضاد مخفف من ضيق أي: ولا تك في أمر ضيق كلين في لين. وقال أبو علي: الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر، لأنه إنْ كان مخففاً من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف، وليس هذا موضع ذلك، والصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول: رأيت ضاحكاً، فإنما تخصص الإنسان. ولو قلت: رأيت بارداً لم يحسن، وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف. سورة الإسراء مائة واحدى عشر آية مكية {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأٌّقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْءْايَتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَبَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَءِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} {وأسرى} بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى، فهو كقوله: {لذهب بسمعهم} أي لأذهب سمعهم، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد، ولذلك قال المفسرون معناه سرى بعبده. وقال ابن عطية: ويظهران {أسرى} معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده.

قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} يعني أن يكون التقدير لسرت ملائكته بعبده، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضاً فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد، ألا ترى أن قوله: {فأسر بأهلك} {وأن أسْرِ بعبادي} قرىء بالقطع والوصل، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع، فيستدل بالمصرح على المحذوف. انتصب ليلاً على الظرف وقال ابن عطية: عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده من تقدير الخبر كأنه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا. وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى. ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولا نهي وأن تكون مصدرية تعليلاً أي لأن لا يتخذوا ولا نفي، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوا معمولاً لقول محذوف خلافاً لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن. وانتصب {ذرية} على النداء أي يا ذرّية أو على البدل من وكيلاً، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلاً وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاء ذرية، أو على إضمار أعني. وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلاً من الضمير في يتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة. وقال ابن عطية: ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيداً على البدل لم يجز انتهى. وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل، وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف، نحو: مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد، فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب، وقد استدللنا على صحية ذلك في شرح كتاب التسهيل.

{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ فِى الْكِتَبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأٌّرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَكُم بِأَمْوَلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأٌّخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَفِرِينَ حَصِيرًا * إِنَّ} {قضى} يتعدّى بنفسه إلى مفعول كقوله: {فلما قضى موسى الأجل} ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدّى بإلى واللام في {لتفسدن} جواب قسم، فإما أن يقدر محذوفاً ويكون متعلق القضاء محذوفاً تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة، فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف. ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدنّ جوابه. وقرأ زيد بن علي علياً كبيراً في الموضعين بكسر اللام والياء المشدّدة. وقراءة الجمهور {علواً} والصحيح في فعول المصدر أكثر كقوله: {وعتوا عتواً كبيراً} بخلاف الجمع، فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو نهو ونهوّ خلافاً فاللفراء إذ جعل ذلك قياساً.

جواب وإن أسأتم قوله: {فلها} على حذف مبتدأ محذوف ولها خبره تقديره فالإساءة لها. قال الكرماني: جاء فلها باللام ازدواجاً انتهى. يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى أي فإليها ترجع الإساءة. وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قوله: فخر صريعاً لليدين وللقم واللام في {وليدخلوا} لام كي معطوفاً على ما قبلها من لام كي، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمراً، وجاز أن تكون لام كي أي وبعثناهم ليدخلوا. والظاهر أن {ما} مفعولة بيتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم. {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الإِنْسَنُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَنُ عَجُولاً * وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً * وَكُلَّ إِنْسَنٍ أَلْزَمْنَهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ كِتَابًا يَلْقَهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كَتَبَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَآ}

و {أقوم} هنا أفعل التفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال، والذي يظهر من حيث المعنى أن {أقوم} هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها، وفضلت هذه عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال: {وذلك دين القيمة} . {وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة} عطف على قوله: {أن لهم أجراً كبيراً} . والظاهر أن {الليل والنهار} مفعول أول لجعل بمعنى صير، و {آيتين} ثاني المفعولين. وقيل: هو على حذف مضاف فقدره بعضهم وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، وقدّره بعضهم و: جعلنا ذوي الليل والنهار أي صاحبي الليل والنهار، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر، ويظهر أن {آيتين} هو المفعول الأول، و {الليل والنهار} ظرفان في موضع المفعول الثاني، أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين. وقال الكرماني: ليس جعل هنا بمعنى صير لأن ذلك يقتضي حالة تقدّمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى، ولا بمعنى سمى وحكم. وقيل: معنى {مبصرة} مضيئة. وقيل: هو من باب أفعل، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقولهم: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء، وأضعف إذا كان دوابه ضعافاً فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء. والظاهر أن نصب {وكل شيء} على الاشتغال، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله: {وجعلنا الليل والنهار} وأبعد من ذهب إلى أن {وكل شيء} معطوف على قوله: {والحساب} . يلقاه و {منشوراً} صفتان لكتاب، ويجوز أن يكون {منشوراً} حالاً من مفعول يلقاه {اقرأ كتابك} معمول لقول محذوف أي يقال له: {اقرأ كتابك} . و {بنفسيك} فاعل {كفى} انتهى. وهذا مذهب الجمهور والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى. قال الشاعر. كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً وقال الآخر:

ويخبرني عن غائب المرء هديهكفى الهدي عما غيب المرء مخبرا وقيل: فاعل {كفى} ضمير يعود على الاكتفاء، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك. وقيل: {كفى} اسم فعل بمعنى اكتف، والفاعل مضمر يعود على المخاطب، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة. وإذا فرعنا على قول الجمهور أن {بنفسك} هو فاعل {كفى} فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق مع زيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثاً، كقوله تعالى: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} وقوله: {وما تأتيهم من آية} ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثاً مجروراً بالباء. {واليوم} منصوب بكفى و {عليك} متعلق بحسيباً. وقال الكلبي: محاسباً يعني فعيلاً بمعنى مفاعل كجليس وخليط. وقيل: حاسباً كضريب القداح أي ضاربها، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ. وقال الأنباري: وإنما قال {حسيباً} والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبهت بالسماء والأرض قال تعالى: {السماء منفطر به} . وقال الشاعر: ولا أرض أبقل ابقالها

{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا * مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الأٌّخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلأٌّخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً * لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً * وَقَضَى} وقال الحوفي: {من بعد نوح} من الثانية بدل من الأولى انتهى. وهذا ليس بجيد. وقال ابن عطية: هذه الباء يعني في {وكفى بربك} إنما تجيء في الأغلب ف يمدح أو ذم انتهى. و {جلعنا} بمعنى صيرنا، والمفعول الأول {جهنم} والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر، فنقول: جهنم للكافرين كما قال هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة و {يصلاها} حال من جهنم. وقال أبو البقاء: أو من الضمير الذي في {له} . وقال صاحب الغنيان: مفعول {جعلنا} الثاني محذوف تقديره مصيراً أو جزاءً انتهى. والظاهر أن {انظر} بصرته لأن التفاوت في الدنيا مشاهد {وكيف} في موضع نصب بعد حذف حرف الجر، لأن نظر يتعدى به.

وانتصب {مذموماً مخذولاً} على الحال، وعند الفراء والزمخشري على أنه خبر لتقعد كلا لمذكرين مثنى معنى اتفاقاً مفرداً لفظاً عند البصريين على وزن فعل كمعي فلامه ألف منقلبة عن واو عند الأكثر، مثنى لفظاً عند الكوفيين، وتبعهم السهيلي فألفه للتثنية لا أصل ولامه لام محذوفة عند السهيلي ولا نص عن الكوفيين فيها، ويحتمل أن تكون موضوعة على حرفين على أصل مذهبهم، ولا تنفك عن الإضافة وإن أضيف إلى مظهر فألفه ثابتة مطلقاً في مشهور اللغات، وكنانة تجعله كمشهور المثنى أو إلى مضمر، فالمشهور قلب ألفه ياء نصباً وجراً، والذي يضاف إليه مثنى أو ما في معناه. وجاء التفريق في الشعر مضافاً فالظاهر وحفظ الكوفيون كلاي وكلاك قاماً ويستعمل تابعاً توكيداً ومبتدأ ومنصوباً ومجروراً، ويخبر عنه إخبار المفرد فصيحاً، وربما وجب، وإخبار المثنى قليلاً وربما وجب.

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأٌّوَّابِينَ غَفُوراً * وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَنَ الشَّيَطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ

تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى الأٌّرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأٌّرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا * أَفَأَصْفَكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَتُ السَّبْعُ وَالأٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَرِهِمْ نُفُوراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأٌّمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً * وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَماً وَرُفَتاً أَءِنَّا

لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} { أف} اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلاً نحو: أف وأوه بمعنى أتوجع، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأٌّوَّابِينَ غَفُوراً} وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: وقضاء ربك مصدر {قضى} مرفوعاً على الابتداء و {أن لا تعبدوا} الخبر. قال الحوفي: الباء متعلقة بقضى، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى {بالوالدين إحساناً} و {إحساناً} مصدر أي تحسنوا إحساناً. وقال ابن عطية: قوله {وبالوالدين إحساناً} عطف على أن الأولى أي أمر الله {أن لا تعبدوا إلا إياه} وأن تحسنوا {بالوالدين إحساناً} . وقال الزمخشري: لا يجوز أن تتعلق الباء في {بالوالدين} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في البسيط: الباء في قوله {بالوالدين} من صلة الإحسان، وقدمت عليه كما تقول: بزيد فامرر، انتهى. وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى: {وقد أحسن بي} وقال الشاعر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

وكأنه تضمن أحسن معنى لطف، فعدّي بالباء و {إحساناً} إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً، فيجوز تقديم معموله عليه، والذي نختاره أن تكون {أن} حرف تفسير و {لا تعبدوا} نهي و {إحساناً} مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في: يقولون لا تهلك أسى وتجمل وقال الزمخشري: {إما} هي الشرطية زيدت عليها ما توكيداً لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداً يكرمك، ولكن إما تكرمنه انتهى. وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد. وقال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها، وعندك ظرف معمول ليبلغن، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل {يبلغن} و {أو كلاهما} معطوف على {أحدهما} .

وقرأ الأخوان: إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري. فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، وأحدهما فاعل و {أو كلاهما} عطف عليه، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز، والصحيح جوازه و {أحدهما} ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد. وقيل: الألف ضمير الوالدين و {أحدهما} بدل من الضمير و {كلاهما} عطف على {أحدهما} والمعطوف على البدل بدل. وقال الزمخشري. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان {كلاهما} كان {كلاهما} توكيداً لا بدلاً، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للأثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل {كلاهما} فحسب فلما قيل {أحدهما أو كلاهما} علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول. وقال ابن عطية: وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله {أحدهما} بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر:

وكنت كذي رجلين رجل صحيحةوأخرى رمى فيها الزمان فشلت انتهى. ويلزم من قوله أن يكون {كلاهما} معطوفاً على {أحدهما} وهو بدل، والمعطوف على البدل بدل، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً، وإذا جعلت {أحدهما} بدلاً من الضمير فلا يكون إلاّ بدل بعض من كل، وإذا عطفت عليه {كلاهما} فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل، لأن {كلاهما} مرادف للضمير من حيث التثنية، فلا يكون بدل بعض من كل، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من {كلاهما} فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه. وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر: وكنت كذي رجلين البيت فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و {كلاهما} يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه، فليس من المقسم. ونقل عن أبي علي أن {كلاهما} توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب {أحدهما} بدل بعض من كل، ويضمر بعده فعل رافع الضمير، ويكون {كلاهما} توكيداً لذلك الضمير، والتقدير أو يبلغا {كلاهما} وفيه حذف المؤكد. وقد أجازه سيبويه والخليل قال: مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه، والذي نختاره أن يكون {أحدهما} بدلاً من الضمير و {كلاهما} مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ {كلاهما} فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ {كلاهما} {عندك الكبر} . وجواب الشرط {فلا تقل لهما أف} .

والظاهر أن الكاف في {كما} للتعليل أي {رب ارحمهما} لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيراً. وقال أبو البقاء: {كما} نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما. {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَنَ الشَّيَطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ} وأجاز الزمخشري أن يكون {ابتغاء رحمة من ربك} علة لجواب الشرط فهو يتعلق به، وقدم عليه. وما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن يقم فاضرب خالداً أن تقول: إن يقم خالداً فاضرب، وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل إن يقم يضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز، فتقول: إن يقم خالداً نضرب، ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو إن تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بيفعل، هذا وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت: إن تفعل يفعل زيد يفعل، ومنع ذلك الكسائي والفراء.

{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال ابن عطية: و {سبيلاً} نصب على التمييز التقدير، وساء سبيله انتهى. وإذا كان {سبيلاً} نصباً على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في {ساء} ، وهو من المضمر الذي يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مفسراً بالتمييز، ويبقى التقدير أيضاً عارياً عن المخصوص بالذم. {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِى الأٌّرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأٌّرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} {كل} مبتدأ والجملة خبره، واسم {كان} عائد على {كل} وكذا الضمير في {مسؤولاً} . والضمير في {عنه} عائد على ما من قوله {ما ليس لك به علم} .

وقال الزمخشري: و {عنه} في موضع الرفع بالفاعلية، أي كل واحد منها كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله {غير المغضوب عليهم} يقال للإنسان: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت ما لم يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من أن {عنه} في موضع الرفع بالفاعلية، ويعني به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطهما جار مجرى الفاعل، فكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه، فإذا قلت غضب على زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت. وقد حكي الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه، فليس {عنه مسؤولاً} كالمغضوب عليهم لتقدّم الجار والمجرور في {عنه مسؤولاً} وتأخيره في {المغضوب عليهم} وقول الزمخشري: ولم نظرت ما لم يحل لك أسقط إلى، وهو لا يجوز إلاّ إن جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدّى بإلى فكان التركيب، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى. وانتصب {مرحاً} على الحال أي {مرحاً} كما تقول: جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح، وأجاز بعضهم أن يكون مفعولاً من أجله أي {ولا تمش في الأرض} للمرح ولا يظهر ذلك. والأجود انتصاب قوله {طولاً} على التمييز، أي لن يبلغ طولك الجبال. وقال الحوفي: {طولاً} نصب على الحال، والعامل في الحال {تبلغ} ويجوز أن يكون العامل تخرق، و {طولاً} بمعنى متطاول انتهى. وقال أبو البقاء: {طولاً} مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول، ويجوز أن يكون تمييزاً ومفعولاً له ومصدراً من معنى تبلغ انتهى.

وجوزوا في {مكروهاً} أن يكون خبراً ثانياً لكان على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لكان، وأن يكون بدلاً من سىئة والبد بالمشتق ضعيف، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف قبله والظرف في موضع الصفة. قيل: ويجوز أن يكون نعتاً لسيئة لما كان تأنيثها مجازياً جاز أن توصف بمذكر، وضعف هذا بأن جواز ذلك إنما هو في الإسناد إلى المؤنث المجازي إذا تقدم، أما إذا تأخر وأسند إلى ضميرها فهو قبيح، تقول: أبقل الأرض إبقالها فصيحاً والأرض أبقل قبيح، وأما من قرأ {سيئة} بالتذكير والإضافة فسىئه اسم {كان} و {مكروهاً} الخبر. والكاف من كماأَفَأَصْفَكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَتُ السَّبْعُ وَالأٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا * وَإِذَا} في موضع نصب. وقال الحوفي: متعلقة بما تعلقت به مع وهو الاستقرار و {معه} خبر كان. (انتصب {علوّاً} على أنه مصدر على غير الصدر) .

قال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة ووحدهوَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَرِهِمْ نُفُوراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأٌّمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً * وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَماً وَرُفَتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى. وما ذهب إليه من أن {وحده} مصد ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و {وحده} عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد، وإيحاد موضوع موضع موحد. وذهب يونس إلى أن {وحده} منصوب على الظرف، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو. وإذا ذكرت {وحده} بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي موحداً له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير {وإذا ذكرت ربك} موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحداً بالذكر. و {نفوراً} حال جمع نافر كقاعد وقعود، أو مصدر.

وبما متعلق بأعلم، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول: ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام، تقول: ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر. وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول: يستمعون بالهزء أي هازئين {وإذا يستمعون} نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به ىستمعون وبما به يتناجون، إذ هم ذوو نجوى {إذ يقول} بدل من {إذ هم} انتهى.u وقال أبو البقاء: يستمعون به. قيل: الباء بمعنى اللام، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى، والنجوى مصدر، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى، وإذ بدل من {إذ} الأولى. وقيل: التقدير إذ كر إذ تقول.

والذيقُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً * وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَنَ كَانَ لِلإِنْسَنِ عَدُوًّا مُّبِينًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَفُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا * وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذلِك فِى الْكِتَبِ مَسْطُورًا * وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالأٌّيَتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأٌّوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالأٌّيَتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا * وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ

طُغْيَانًا كَبِيرًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الأٌّمْوَلِ وَالأٌّوْلَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَنُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً * رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَنُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} مبتدأ وخبره محذوف التقدير {الذي فطركم أول مرة} يعيدكم فيطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي معيدكم الذي فطركم و {أول مرة} ظرف العامل فيه {فطركم} قاله الحوفي.

احتمل أن يكون في {عسى} إضمار أي {عسى} هو أي العود، واحتمل أن يكون مرفوعها {أن يكون} فتكون تامة. و {قريباً} يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفاً بالقرب، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً. وقال أبو البقاء: {يوم بدعوكم} ظرف ليكون، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى. أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف. وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمر وقبيح، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروي بعمرو قبيح. والظاهر أن {وتظنون} معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: أي وأنتم {تظنون} والجملة حال انتهى. وأن هنا نافية، {وتظنون} معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية، ويظهر أن انتصاب قليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً. كقوله {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية.

وقلوَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَنَ كَانَ لِلإِنْسَنِ عَدُوًّا مُّبِينًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم وهو أمر، ومعمول القول محذوف تقديره قولوا {التي هي أحسن} وانجزم {يقولوا} على أنه جواب للأمر الذي هو قل قاله الأخفش، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا {التي هي أحسن} . وعن سيبويه إنه انجزم على جواب لشرط محذوف، أي إن يقل لهم {يقولوا} فيكون في قوله حذف معمول القول وحذف الشرط الذي {يقولوا} جوابه. وقال المبرد: انجزم جواباً للأمر الذي هو معمول {قل} أي قولوا {التي هي أحسن} {يقولوا} . وقيل معمول {قل} مذكور لا محذوف وهو {يقولوا} على تقدير لام الأمر وهو مجزوم بها قاله الزجاج. وقيل: {يقولوا} مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني. وقال ابن الأنباري: {أو} دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يراد عنهما، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون قد وسعنا لك الأمر. وقال الكرماني: {أو} للإضراب ولهذا كرر {إن} .

وفي قوله: زعمتمقُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَفُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا * وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذلِك فِى الْكِتَبِ مَسْطُورًا * وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالأٌّيَتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأٌّوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالأٌّيَتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} ضمير محذوف عائد على {الذين} وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله، و {أولئك} مبتدأ و {الذين} صفته، والخبر {يبتغون} . والعائد على {الذين} منصوب محذوف أي يدعونهم. واختلفوا في إعراب {أيهم أقرب} وتقديره. فقال الحوفي: {أيهم أقرب} ابتداء وخبر، والمعنى ينظرون {أيهم أقرب} فيتوسلون به ويجوز أن يكون {أيهم أقرب} بدلاً من الواو في {يبتغون} انتهى. ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق، و {أيهم أقرب} في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدّى بفي، وإن كانت بصرية تعدّت بإلى، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله {فلينظر أيها أزكى طعاماً} وفي إضمار الفعل المعلق نظر، والوجه الثاني قاله الزمخشري قال: وتكون أي موصولة، أي يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب انتهى. فعلى الوجه يكون {أقرب} خبر مبتدأ محذوف، واحتمل {أيهم} أن يكون معرباً وهو الوجه، وأن يكون مبنياً لوجود مسوغ البناء. (قال ابن عطية: و {أيهم} ابتدأ و {أقرب} خبر) .

فإن جعلت {أيهم أقرب} في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر، وإن جعلت {أيهم أقرب} هو الخبر فلا يصح لأن نظرهم ليس هو {أيهم أقرب} وإن جعلت التقدير نظرهم في {أيهم أقرب} أي كائن أو حاصل فلا يصح ذلك لأن كائناً وحاصلاً ليس مما تعلق. وقال أبو البقاء: {أيهم} مبتدأ و {أقرب} خبره، وهو استفهام في موضع نصب بيدعون، ويجوز أن يكون {أيهم} بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في {يدعون} والتقدير الذي هو أقرب انتهى. ففي الوجه الأولى علق {يدعون} وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية، ولا يضر ذلك لأنها معمولة للصلة. و {إن من قرية} {إن} نافية و {من} زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس، والجملة بعد {إلاّ} خبر المبتدأ. وقرأ الجمهور {ثمود} ممنوع الصرف. وقال هارون: أهل الكوفة ينونون {ثمود} في كل وجه. وقال أبو حاتم: لا تنون العامة والعلماء بالقرآن {ثمود} في وجه من الوجوه. وانتصب {مبصرة} على الحال وهي قراءة الجمهور. وقرأ زيد بن عليّ {مبصرة} بالرفع على إضمار مبتدأ. وقرأ زيد بن عليّ برفع والشجرة الملعونةوَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} على الابتداء، والخبر محذوف تقديره كذلك.

{:60 وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الأٌّمْوَلِ وَالأٌّوْلَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَنُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وقال أبو البقاء: والعامل فيه {خلقت} يعني إذا كان حالاً م العائد المحذوف وأجاز الحوفي أن يكون نصباً على حذف من التقدير من طين كما صرح به في قوله {وخلقته من طين} وأجاز الزجاج أيضاً وتبعه ابن عطية أن يكون تمييزاً ولا يظهر كونه تمييز. وقال ابن عطية: والكاف في {أرأيتك} حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة. ما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في {أرأيتك} هنا هو الصحيح، ولذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته عليّ فقد انعقد من قوله: {هذا الذي كرمته عليّ} لم كرمته عليّ جملة من مبتدأ وخبر، وصار مثل: زيد أيؤمن هو دخلت عليه {أرأيتك} فعملت في الأول، والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستقر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاماً، فإن صرح به فذلك واضح وإلاّ قدر. وقال الزمخشري: الكاف للخطاب وهذا مفعول به.

وقال الفراء: هناا للكاف محل من الإعراب وهو النصب أي أرأيت نفسك قال: وهذا كما تقول أتدبرت آخر أمرك. فإني صانع فيه كذا، ثم ابتدأ {هذا الذي كرمت عليّ} انتهى. والرد عليه مذكور في علم النحو، ولو ذهب ذاهب إلى أن هذا مفعول أول لقوله: {أرأيتك} بمعنى أخبرني والثاني الجملة القسمية بعده لانعقادهما مبتدأ وخبراً قبل دخول {أرأيتك} لذهب مذهباً حسناً، إذ لا يكون في الكلام إضمار، وتلخص من هذا كله الكاف إما في موضع نصب وهذا مبتدأ، وإما حرف خطاب وهذا مفعول بأرأيت بمعنى محذوف، وهو الجملة الاستفهامية أو مذكور وهو الجملة القسمية. وانتصب {جزاء} على المصدر والعامل فيه {جزاؤكم} أو يجاوز مضمره أو على الحال الموطئة. وقيل: تمييز ولا يتعقل {واستفزز} معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر. قال أبو البقاء: {من استطعت} من استفهام في موضع نصب باستطعت، وهذا ليس بظاهر لأن {استفزز} ومفعول {استطعت} محذوف تقديره {من استطعت} أن تستقزه. وانتصب {غروراً} وهو مصدر على أنه وصف لمصدر محذوف أي وعداً غروراً على الوجوه التي في رجل صوم، ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله. {رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَنُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}

والظاهر أن {إلا إياه} استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله {من تدعون} وقيل هو استثناء متصل. والهمزة في {أفأنتم} للإنكار. قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فامنتم انتهى. وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير، وأن التقدير فأمنتم. وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة. وانتصب {جانب} على المفعول به بنخسف كقوله {فخسفنا به وبداره الأرض} . وقال الحوفي {جانب البد} منصوب على الظرف. {أم} في {أم أمنتم} منقطعة تقدر ببل، والهمزة أي بل {أمنتم} والضمير في {فيه} عائد على البحر، وانتصب تارة على الظرف أي وقتاً غير الوقت الأول، والباء في {بما كفرتم} سببية وما مصدرية.

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءَادَمَ وَحَمَلْنَهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً * يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَمِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَبَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً * وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَكَ ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأٌّرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً * أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَناً نَّصِيرًا * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى

شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً * وَيَسْئَلُونَكَ} {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءَادَمَ وَحَمَلْنَهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً * يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَمِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَبَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} واختلفوا في العامل في {يوم} . فقيل: العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو. وقيل: فتستجيبون. وقيل: هو بدل من يوم يدعوكم وهذه أقوال في غاية الضعف، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحاً وهي في هذه الأقوال ظرف. وقال الحوفي وابن عطية انتصب على الظرف والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفاً بل هو مفعول. وقال ابن عطية أيضاً بعد قوله هو ظرف: والعامل فيه أذكر أو فعل يدل عليه قوله {ولا يظلمون} ، وحكاه أبو البقاء وقدره {ولا يظلمون} يوم ندعو. وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يعمل فيه {وفضلناهم} .

وقال ابن عطية أيضاً: ويصح أن يكون {يوم} منصوباً على البناء لما أضيف إلى غير متمكن، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله: {فمن أوتي كتابه} إلى قوله {ومن كان} انتهى. وقوله منصوباً على البناء كان ينبغي أن يقول مبنياً على الفتح، وقوله: لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين. وأما قوله: والخبر في التقسيم فالتقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا أن قدر محذوفاً، فقد يمكن أي ممن {أوتي كتابه} فيه {بيمينه} وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف. وقال بعض النحاة: العامل فيه {وفضلناهم} على تقدير {وفضلناهم} بالثواب، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل. وقال الزجاج: هو ظرف لقوله ثم لا تجد. وقال الفراء: هو معمول لقوله نعيدكم مضمرة أي نعيدكم {يوم ندعو} والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوباً على المفعول به بأذكر مضمرة. والحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني يُدعى مبنياً للمفعول {كل} مرفوع به، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واواً على لغة من يقول: أفعو في الوقف على أفعى، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به، وعلى أن تكون الواو ضميراً مفعولاً لم يسم فاعله، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله: أبيت أسرى وتبيتى تدلكيوجهك بالعنبر والمسك الزكي أي تبيتين تدلكين وكل بدل من واو الضمير. {وأناس} اسم جمع لا واحد له من لفظه، والباء في {بإمامهم} الظاهر أنها تتعلق بندعو، أي باسم إمامهم. وقيل: هي باء الحال أي مصحوبين {بإمامهم} .

{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَكَ ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأٌّرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} {أن} هذه هي المخففة من الثقيلة، وليتها الجملة الفعلية وهي {كادوا} لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو، واللام في {ليفتنونك} هي الفارقة بين أن هذه وأن النافية {وإذاً} حرف جواب وجزاء، ويقدر قسم هنا تكون {لا تخذوك} جواباً له، والتقدير والله {إذاً} أي إن افتتنت وافتريت {لا تخذوك} . وجواب {لولا} يقتضي إذا كان مثبتاً امتناعه لوجود ما قبله، فمقاربة الركون لم تقع منه فضلاً عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق وابن مصرف: {تركن} بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وانتصب {شيئاً} على المصدر. واللام في {لأذقناك} جواب قسم محذوف قبل {إذاً} أي والله إن حصل ركون ليكونن كذا، والقول في {لأذقناك} كالقول في {لا تخذوك} من وقوع الماضي موضع المضارع الداخل عليه اللام والنون، وممن نص على أن اللام في {لا تخذوك} و {لأذقناك} هي لام القسم الحوفي.

{ولا يلبثون} جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت {لا يلبثون} ولذلك لم تعمل {إذاً} لأنها توسطت بين قسم مقدر، والفعل فلا يلبثون ليست منصبة عليه من جهة الإعراب، ويحتمل أن تكون {لا يلبثون} خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره، وهم {إذاً لا يلبثون} فوقعت إذاً بين المبتدأ وخبره فألغيت. وقرأ أبي وإذا لا يلبثوا بحذف النون أعمل إذاً فنصب بها على قول الجمهور، وبأن مضمرة بعدها على قول بعضهم وكذا هي في مصحف عبد الله محذوفة النون. قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبيّ ففيها الجملة برأسها التي هي وإذاً لا يلبثوا عطف على جملة قوله {وإن كادوا ليستفزونك} انتهى. وهذه الظروف التي هي قبل وبعد ونحوهما اطّرد إضافتها إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله، في نحو خلفك أي خلف إخراجك، وجاء زيد قبل عمرو أي قبل مجيء عمرو، وضحك بكر بعد خالد أي بعد ضحك خالد. وانتصب {سنة} على المصدر المؤكد أي سنّ الله سنة. وقال الفراء: انتصب {سنة} على إسقاط الخافض لأن المعنى كسنة فنصب بعد حذف الكاف، وعلى هذا لا يقف على قوله {إلاّ قليلاً} . وقال أبو البقاء: {سنة} منصوب على المصدر أي سننا بك سنة من تقدم من الأنبياء، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي اتبع {سنة من قد أرسلنا} كما قال تعالى: {فبهداهم اقتده} انتهى.

{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً * وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً * وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا * قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأٌّرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأٌّنْهَرَ خِلَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَنَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِى الأٌّرْضِ مَلَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَمَن

يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّلِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا * قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَنُ قَتُورًا * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَءَايَتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يمُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يفِرْعَونُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأٌّرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَءِيلَ اسْكُنُواْ الأٌّرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأٌّخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا * وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَهُ تَنْزِيلاً * قُلْءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأٌّذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا

لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأٌّذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا * قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأٌّسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} { أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَناً نَّصِيرًا * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا * وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً * وَيَسْئَلُونَكَ} وانتصب {وقرآن الفجر} عطفاً على {الصلاة} . وقال الأخفش: انتصب بإضمار فعل تقديره وآثر {قرآن الفجر} أو عليك {قرآن الفجر} انتهى.

وقال ابن عطية {ومن} للتبعيض التقدير وقتاً من الليل أي وقم وقتاً من الليل. وقال الزمخشري: {ومن الليل} وعليك بعض الليل {فتهجد به} والتهجد ترك الهجود للصلاة انتهى. فإن كان تفسيره وعليك بعض الليل تفسير معنى فيقري، وإن كان أراد صناعة النحو والإعراب فلا يصح لأن المغري به لا يكون حرفاً، وتقدير من ببعض فيه مسامحة لأنه ليس بمرادفه البتة، إذ لو كان مرادفه للزم أن يكون اسماً ولا قائل بذلك، ألا ترى إجماع النحويين على أن واو مع حرف وإن قدّرت بمع. وقال ابن عطية: والضمير في {به} عائد على وقت المقدر في وقم وقتاً من الليل انتهى. فتكون الباء ظرفية أي {فتهجد} فيه وانتصب {نافلة} . قال الحوفي: على المصدر أي نفلناك نافلة قال: ويجوز أن ينتصب {نافلة} بتهجد إذا ذهبت بذلك إلى معنى صل به نافلة أي صل نافلة لك. وقال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: هو مصدر بمعنى تهجد أي تنفل نفلاً و {نافلة} هنا مصدر كالعاقبة والثاني هو حال أي صلاة نافلة انتهى. وهو حال من الضمير في {به} . {وعسى} هنا تامة وفاعلها {أن يبعثك} ، و {ربك} فاعل بيبعثك و {مقاماً} الظاهر أنه معمول ليبعثك هو مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك تقول أقيم من قبره وبعث من قبره. وقال ابن عطية: منصوب على الظرف أي في مقام محمود. وقيل: منصوب على الحال أي ذا مقام. وقيل: هو مصدر لفعل محذوف التقدير فتقوم {مقاماً} ولا يجوز أن تكون {عسى} هنا ناقصة، وتقدّم الخبر على الاسم فيكون {ربك} مرفوعاً اسم {عسى} و {أن يبعثك} الخبر في موضع نصب بها إلا في هذا الإعراب الأخير. وأما في قبله فلا يجوز لأن {مقاماً} منصوب بيبعثك و {ربك} مرفوع بعسى فيلزم الفصل بأجنبي بين ما هو موصول وبين معمول. وهو لا يجوز.

وقرأ الجمهور: {مدخل} و {مخرج} بضم ميمهما وهو جار قياساً على أفعل مصدر، نحو أكرمته مكرماً أي إكراماً. وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة بفتحهما. وقال صاحب اللوامح: وهما مصدران من دخل وخرج لكنه جاء من معنى {أدخلني} {وأخرجني} المتقدمين دون لفظهما ومثلهما {أنبتكم من الأرض نباتاً} ويجوز أن يكونا اسم المكان وانتصابهما على الظرف، وقال غيره: منصوبان مصدرين على تقدير فعل أي {أدخلني} فأدخل {مدخل صدق} {وأخرجني} فأخرج {مخرج صدق} . وقرأ زيد بن عليّ: {شفاءً ورحمةً} بنصبهما. ويتخرج النصب على الحال وخبر هو قوله {للمؤمنين} والعامل فيه ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظيره قراءة من قرأ {والسموات مطويات بيمينه} بنصب مطويات. وقول الشاعر: رهط ابن كوز محقي أدراعهمفيهم ورهط ربيعة بن حذار وتقديم الحال على العامل فيه من الظرفل أو المجرور لا يجوز إلاّ عند الأخفش، ومن منع جعله منصوباً على إضمار أعني. {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأٌّرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأٌّنْهَرَ خِلَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَنَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً}

{ولا يأتون} جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في {لئن} وهي الداخلة على الشرط كقوله {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعاً. فأما قول الأعشى: لئن منيت بنا عن غب معركةلأتلفنا عن دماء القوم ننتفل فاللام في {لئن} زائدة وليست موطئة لقسم قبلها. فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة. وقال الزمخشري: {ولا يأتون} جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط. كقوله. يقول لا غائب مالي ولا حرم لأن الشرط وقع ماضياً انتهى. يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت وإن أتاه خليل يوم مسألة فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري. الظاهر أن مفعول {صرفنا} محذوف تقديره البينات والعبر و {من} لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد {صرفنا} {كل مثل} انتهى. يعني فيكون مفعول {صرفنا} {كل مثل} وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين. (أنتصب {خلالها} على الظرف) .

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِى الأٌّرْضِ مَلَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّلِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا} و {أن يؤمنوا} في موضع نصب و {أن قالوا} : في موضع رفع، و {إذا} ظرف العامل فيه منه. {رسولاً} ظاهره أنه نعت، ويجوز أن يكون {رسولاً} مفعول بعث، و {بشراً} حال متقدمة عليه أي {أبعث اللَّه رسولاً} في حال كونه {بشراً} ، وكذلك يجوز في قوله {ملكاً رسولاً} أي {لنزلنا عليهم من السماء} {رسولاً} في حال كونه {ملكاً} . ومن مفعول بيهد وبيضلل. وعطف قوله {وجعل لهم} على قوله {أو لم يروا} لأنه استفهام تضمن التقرير.

{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَنُ قَتُورًا * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَءَايَتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يمُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يفِرْعَونُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأٌّرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَءِيلَ اسْكُنُواْ الأٌّرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأٌّخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} والمستقرأ في {لو} التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً. كقوله {لو نشاء لجعلناه حطاماً} أو منفياً أو ان وهنا في قوله {قل لو أنتم تملكون} وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله:. وإن هو لم يحمل على النفس ضميها. التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار {أنتم} ، وهذا التخريج بناء على أن {لو} يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام، وهذا ليس بمذهب البصريين. قال الاستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهر أو لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل: ما جاء في المثل من قولهم: لو ذات سوار لطمتني وقال شيخنا الاستاذ أبو الحسن بن الصائغ: البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح، ويجيزونه شاذاً كقولهم. لو ذات سوار لطمتني

وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} فهو من باب الاشتغال انتهى. وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان، والتقدير {قل لو} كنتم {أنتم} تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي {أنتم} توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها، والتقدير {قل لو} كنتم {تملكون} فلما حذف الفعل انفصل المرفوع، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد {لو} معهود في لسان العرب. وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل. والظاهر أن {إذ} معمولة لآتينا أي {آتينا} حين جاء أتاهم. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم نعلق {إذ جاءهم} ؟ قلت: أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر ويخبرونك انتهى. ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض. وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس. قال ابن عباس: كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى. وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل {بني إسرائيل} أي سل فرعون إطلاق بين إسرائيل. وقال أبو عبد الله الرازي: فسل {بني إسرائيل} اعتراض في الكلام والتقدير، {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} إذ جاء {بني إسرائيل} فسلهم. وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون {بني إسرائيل} يكون المفعول الأول السأل مجذوفاً، والثاني هو {بني إسرائيل} . والظاهر أن قوله {مسحوراً} اسم مفعول. وقال الفراء والطبري: مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً. و {ما أنزل} جملة في موضع نصب علق عنها {علمت} .

وانتصب {بصائر} على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء، وقالا: حال من {هؤلاء} وهذا لا يصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة. ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة، وكذلك يقدرون هنا أنزلها {بصائر} وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَهُ تَنْزِيلاً * قُلْءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأٌّذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأٌّذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} والظاهر تعلق على مكث بقوله {لتقرأه} ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به حرفاً جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال. (وانتصب {سجداً} على الحال) . {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأٌّسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّي إلى اثنين ثانيهما بحرف جر، تقول: دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء. وقال الشاعر في دعا هذه:

سورة الكهف

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكنأخاها ولم أرضع لها بلبان وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر، يحفظ ويقتصر فيها على السماء وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله {ادعوا} لفظ الجلالة، ولفظ {الرحمن} وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير {ادعوا} معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري: المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير، فمعنى {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} . وأي هنا شرطية. والتنوين قيل عوض من المضاف و {ما} زائدة مؤكدة. وقيل: {ما} شرط ودخل شرط على شرط. وقرأ طلحة بن مصروف. {أياً} من {تدعوا} فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعي زيادتها في قوله: يا شاة من قنص لمن حلت له واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر: فأصبحن لا يسألنني عن بما به وذلك لاختلاف اللفظ. والضمير في {فله} عائد على مسمى الأسمين وهو واحد، أي فلمسماهما {الأسماء الحسنى} ، وتقدم الكلام على قوله {الأسماء الحسنى} في الأعراف. وقوله: {فله} هو جواب الشرط. أي {ولي من} أهل {الذل} ، فعلى هذا وما تقدّم يكون {من} في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض. سورة الكهف مائة وإحدى عشرة آية مكية

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَبَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءَاثَرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأٌّرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} واختلفوا في هذه الجملة المنفية، فزعم الزمخشري أنها معطوفة على {أنزل} فهي داخلة في الصلة، ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب {قيماً} أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالاً من {الكتاب} لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وقدره جعله {قيماً} . وقال ابن عطية: {قيماً} نصب على الحال من {الكتاب} فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ، أي أنزل الكتاب {قيماً} واعترض بين الحال وذي الحال قوله {ولم يجعل له عوجاً} ذكره الطبري عن ابن عباس، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مضمر تقديره أنزله أو جعله {قيماً} . أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز، ويفصل بجمل للإعتراض بين الحال وصاحبها.

وقال الكرماني: إذا جعلته حالاً وهو الأظهر فليس فيه تقديم ولا تأخير، والصحيح أنهما حالان من {الكتاب} الأولى جملة والثانية مفرد انتهى. وهذا على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف، وكثير من أصحابنا على منع ذلك انتهى. واختاره الأصبهاني وقال: هما حالان متواليان والتقدير غير جاعل له {عوجاً قيماً} وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قوله قيماً بدلاً من قوله: {ولم يجعل له عوجاً} أي جعله مستقيماً {قيماً} انتهى. ويكون بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيداً أبو من أنه بدل جملة من مفرد وفيه خلاف. وقيل: {قيماً} حال من الهاء المجرور في {ولم يجعل له} مؤكدة. وأنذر يتعدى لمفعولين قال: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} وحذف هنا المفعول الأول. {أبداً} وهو ظرف دال على زمن غير متناه، وانتصب {ماكثين} على الحال وذو الحال هو الضمير في {لهم} . وقرأ الجمهور: {كلمة} بالنصب والظاهر انتصابها على التمييز، وفاعل {كبرت} مضمر يعود على المقالة المفهومة من قوله: {قالوا اتخذ اللَّه ولداً} ، وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة، والجملة بعدها صفة لها. وقال أيضاً: وقرأ الجمهور بنصب الكلمة كما تقول نعم رجلاً زيد، وفسر بالكلمة ووصفها بالخروج من أفواههم فقال بعضهم: نصبها على التفسير على حد نصب قوله تعالى: {وساءت مرتفقاً} . وقالت فرقة: نصبها على الحال أي {كبرت} فربتهم ونحو هذا انتهى. فعلى قوله كما تقول نعم رجلاً زيد يكون المخصوص بالذم محذوفاً لأنه جعل {تخرج} صفة لكلمة. والضمير في {كبرت} ليس عائداً على ما قبله بل هو مضمر يفسره ما بعده، وهو التمييز على مذهب البصريين، ويجوز أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً وتخرج صفة له أي {كبرت كلمة} كلمة {تخرج من أفواههم} . وقال أبو عبيدة: نصب على التعجب أي أكبر بها {كلمة} أي من {كلمة} . و {أن} نافية أي ما {يقولون} ، و {كذباً} نعت لمصدر محذوف أي قولاً {كذباً} .

وانتصب {أسفاً} على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال. وانتصب {زينة} على الحال أو على المفعول من أجله إن كان {جعلنا} بمعنى خلقنا، واوجدنا، وإن كانت بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان. {وأيهم} يحتمل أن يكون الضمير فيها إعراباً فيكون {أيهم} مبتدأ و {أحسن} خبره. والجملة في موضع المفعول {لنبلوهم} . ويحتمل أن تكون الضمة فيها بناء على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي. وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها، فأحسن خبر مبتدأ محذوف فتقديره هو {أحسن} ويكون {أيهم} في موضع نصب بدلاً من الضمير في {لنبلوهم} ، والمفضل عليه محذوف ممن ليس {أحسن عملاً} . {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْءَايَتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَىءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} . {أم} هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة. قيل: للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال، والهمزة للإستفهام. وزعم بعض النحويين أن {أم} هنا بمعنى الهمزة فقط. {عجباً} نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله، وتقديره آية {عجباً} ، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب. والعامل في {إذ قيل: أذكر

وقال الزمخشري: واجعل أمرنا رشداً} كله كقولك رأيت منك أسداً. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري: وهي ويهيي بياءين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء. وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم: وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوماً. ومفعول ضربنا محذوف أي حجاباً. وانتصب {سنين} على الظرف والعامل فيه {فضربنا} ، و {عدداً} مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي بعد {عدداً} وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض. وفي الكشاف وقرىء ليعلم وهو معلق عنه لأن ارتفاعه بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أن مفعول يعلم انتهى. وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير ليعلم الله الناس {أي الحزبين} . والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث، وليعلم معلق. وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه. وللكوفيين مذهبان: أحدهما: أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقاً. والثاني: أنه لا يجوز إلاّ إن كان مما يصح تعليقه. و {أحصى} جوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون فعلاً ماضياً، وما مصدرية و {أمداً} مفعول به، وأن يكون أفعل تفضيل و {أمداً} تمييز. واختار الزجاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري وابن عطية أن تكون فعلاً ماضياً، ورجحوا هذا بأن {أحصى} إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي.

وهذه كلها أفعل من الرباعي انتهى. وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي. وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبني منه مطلقاً وهو ظاهر كلام سيبويه، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبني منه مطلقاً وما ورد حمل على الشذود والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل. فلا يجوز، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول ما أشكل هذه المسألة، وما أظلم هذا الليل. وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو، وإذا قلنا بأن {أحصى} اسم للتفضيل جاز أن يكون {أي الحزبين} موصولاً مبيناً على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه، وهو كون {أي} مضافة حذف صدر صلتها، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو {أحصى} {لما لبثوا أمداً} من الذين لم يحصوا، وإذا كان فعلاً ماضياً امتنع ذلك لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل {أي} موصولة فلا يجوز بناؤها لأنه فات تمام شرطها، وهو أن يكون حذف صدر صلتها. وقال: فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، ونحو أعدي من الجرب، وأفلس من ابن المذلق شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به، ولأن {أمداً} لا يخلو إما أن ينصب بأفعل فأفعل لا يعمل، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل علىه {أحصى} كما أضمر في قوله: واضرب منا بالسيوف القوانسا

على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون {أحصى} فعلاً ثم رجعت مضطراً إلى تقديره وإضماره انتهى. أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي عليّ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقاً وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره. والهمزة في {أحصى} ليست للنقل. وأما قوله فافعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز، و {أمداً} تمييز وهكذا أعربه من زعم أن {أحصى} أفعل للتفضيل، كما تقول: زيداً أقطع الناس سيفاً، وزيد أقطع للهام سيفاً، ولم يعر به مفعولاً به. وأما قوله: وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديداً فقد ذهب الطبري إلى نصب {أمداً} بلبثوا. قال ابن عطية: وهذا غير متجه انتهى. وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث أن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، وما بمعنى الذي و {أمداً} منتصب على إسقاط الحرف، وتقديره لما {لبثوا} من أمد أي مدة، ويصير من أمد تفسيراً لما أنهم في لفظ {ما لبثوا} كقوله {ما ننسخ من آية ما يفتح الله للناس من رحمة} ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل. وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره فيقول: لا يحتاج إلى هذا الزعم لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله {أعلم من يضل} من منصوبة بأعلم نصب المفعول به، ولو كثر وجود مثل. واضرب منا بالسيوف القوانسا لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحاً لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا. فشططاً نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه، وإما على الوصف به على جهة المبالغة. وقيل: مفعول به بقلنا. اللم في {لقد لام توكيد وإذا} حرف جواب وجزاء.

و {قومنا} قال الحوفي: خبر و {اتخذوا} في موضع الحال. وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء: {قومنا} عطف بيان و {اتخذوا} في موضع الخبر. والضمير في {من دونه} عائد على الله. وما معطوف على المفعول في {اعتزلتموهم} أي واعتزلتم معبودهم و {إلاّ الله} استثناء متصل. {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذلِكَ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذلِكَ} والظاهر أن قوله {وتحسبهم أيقاظاً} إخبار مستأنف وليس على تقدير. وقيل: في الكلام حذف تقديره لو رأيتهم لحسبتهم {أيقاظاً} . وقرأ الحسن فيما حكي ابن جنيّ: وتقلبهم مصدر تقلب منصوباً، وقال: هذا نصب بفعل مقدر كأنه قال: وترى أو تشاهد تقلبهم، وعنه أيضاً أنه قرأ كذلك إلاّ أنه ضم الياء فهو مصدر مرتفع بالابتداء قاله أبو حاتم. وقال الزمخشري: {باسط ذراعيه} حكاية حال ماضية، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي، وإضافته إذا أضيف حقيقة معرفة كغلام زيد إلاّ إذا نويت حكاية الحال الماضية انتهى. وقوله لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ليس إجماعاً، بل ذهب الكسائي وهشام، ومن أصحابنا أبو جعفر بن مضاء إلى أنه يجوز أن يعمل، وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو.

وانتصب {فراراً} على المصدر إما لفررت محذوفة، وإما {لوليت} لأنه بمعنى لفررت، وإما مفعولاً من أجله. وانتصب {رعباً} على أنه مفعول ثان، وأبعد من ذهب إلى أنه تمييز منقول من المفعول كقوله {وفجرنا الأرض عيوناً} على مذهب من أجاز نقل التمييز من المفعول، لأنك لو سلطت عليه الفعل ما تعدى إليه تعدى المفعول به بخلاف، {وفجرنا الأرض عيوناً} . {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَنًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً * وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لأًّقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} ومفعول {أعثرنا} محذوف تقديره {أعثرنا عليهم} أهل مدينتهم. إذ معمولة لأعثرنا أو ليعلموا. وانتصب {رجماً} على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك، أو لتضمين {سيقولون} و {يقولون} معنى يرجمون، أو لكونه مفعولاً من أجله. ثلاثة خبر مبتدأ محذوف، والجملة بعده صفة. والواو في {وثامنهم} للعطف على الجملة السابقة أي {يقولون} هم {سبعة وثامنهم كلبهم} .

وقال الزمخشري: فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله عز وعلا {وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم} وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر، وهي الواو التي آذنت بأن الدين قالوا {سبعة وثامنهم كلبهم} قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى. وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلاّ إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالاً على المغايرة، وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه، وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة. وأما قوله تعالى {إلاّ ولها} فالجملة حالية ويكفي رداً لقول الزمخشري: إنّا لا نعلم أحداً من علماء النحو ذهب إلى ذلك. وقرأ الجمهور: مائة بالتنوين. قال ابن عطية: على البدل أو عطف البيان. وقيل: على التفسير والتمييز. وقال الزمخشري: عطف بيان لثلاثمائة. وحكي أبو البقاء أن قوماً أجازوا أن يكون بدلاً من مائة لأن مائة في معنى مئات، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلاّ بمفرد مجرور.

والضمير في {به} عائد على الله تعالى، وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل {أسمع} و {أبصر} أمران حقيقة أم أمران لفظاً معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا} {ولا تعد} . قال الزمخشري: نقلاباً بالهمزة وبنقل الحشو ومنه قوله. فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له لأن معناه فعد همك عما ترى انتهى. وكذا قال صاحب اللوامح. قال: وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا كان مجرداً متعد وقد أقر بذلك الزمخشري فإنه قال: يقال عداه إذا جاوزه، ثم قال: وإنما عدّي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف، ولو عدِّي بهما وهو متعد لتعدي إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولاً واحداً، فدل على أنه ليس معدى بهما.

وقال الزمخشري: {تريد زينة الحياة الدنيا} في موضع الحال انتهى. وقال صاحب الحال: إن قدر {عيناك} فكان يكون التركيب تريدان، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزأً أو كالجزء. قال الزمخشري: {الحق} خبر مبتدأ محذوف. وقرأ أيضاً {الحق} بالنصب. قال صاحب اللوامح: هو على صفة المصدر المقدر لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة، وتقديره {وقل} القول {الحق. إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأٌّرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً * وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَبٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا} وخبر {إن} يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم. وقوله {إنّا لا نضيع} الجملة اعتراض. قال ابن عطية: ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر:

إن الخليفة إن الله ألبسهسربال ملك به ترجى الخواتيم انتهى ولا يتعين في قوله إن الله ألبسه أن يكون اعتراضاً هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر، ويحتمل أن يكون الخبر قوله {إنّا لا نضيع أجر} والعائد محذوف تقديره {من أحسن عملاً} منهم. أو هو قوله {من أحسن عملاً} على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى، لأن {من أحسن عملاً} هم {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فكأنه قال: إنّا لا نضيع أجرهم، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعداً من غير شرط أن يكونا، أو يكن في معنى خبر. واحد. وإذا كان خبر {إن} قوله {إنّا لا نضيع} كان قوله {أولئك} استئناف أخبار موضح لما انبهم في قوله {إنّا لا نضيع} من مبهم الجزاء. وقال الزمخشري: و {من} الأول للابتداء والثانية للتبيين. ويحتمل أن تكون {من} في قوله {من ذهب} للتبعيض لا للتبيين. وقرأ ابن محيصن {واستبرق} بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلاً ماضياً على وزن استفعل من البريق، ويكون استفعل فيه موافقاً للمجرد الذي هو برق كما تقال: قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن. قال ابن محيصن. وحده: {واستبرق} بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه انتهى. فظاهره أنه ليس فعلاً ماضياً بل هو اسم ممنوع الصرف. وقال ابن خالويه: جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح. وقرأ ابن محيصن: {على الأرائك} بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على {فيها} فتنحذف ألف {على} لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر: فما أصبحت علرض نفس بريةولا غيرها إلاّ سليمان بالها

{وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَبٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَلَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَحِبُهُ وَهُوَ يُحَوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}

{قَالَ لَهُ صَحِبُهُ وَهُوَ يُحَوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} وانتصب {رجلاً} على الحال. وقال الحوفي {رجلاً} نصب بسوى أي جعلك {رجلاً} فظاهره أنه عدي سوي إلى اثنين. (وهو يحاوره حال من الفاعل) {ربي} نعت أو عطف بيان أو بدل، ويجوز أن لا يقدر. أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ، و {هو} ضمير الشأن مبتدأ ثان و {الله} مبتدأ ثالث، و {ربي} خبره والثالث خبر عن الثاني، والثاني وخبره خبر عن أنا، والعائد عليه هو الياء في {ربي} ، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها. وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك، ويجوز أن يكون فصلاً لوقوعه بين معرفين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبراً.

يحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء، والجواب محذوف أي أي شاء الله كان، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي مرفوعة على الابتداء، أي الذي شاءه الله كائن، أو على الخبر أي الأمر ما شاء الله {ولولا} تحضيضية، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله: {قلت} . وقرأ الجمهور {أقل} بالنصب مفعولاً ثانياً لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع {أنا} فصلاً، ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب في ترني، ويجوز أن تكون بصرية و {أنا} توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون {أقل} حالاً. وقرأ عيسى بن عمر {أقل} بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ، و {أقل} خبره، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية، وفي موضع الحال إن كانت بصرية. {الولاية للَّه} على هذا مبتدأ وخبر. وقيل: {هنالك الولاية للَّه} مبتدأ وخبر، والوقف على قوله: {منتصراً} . وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني {الحق} برفع القاف صفة للولاية. وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفاً لله تعالى. وقرأ أبي {هنالك الولاية} الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله {للَّه} . وقرأ أبو حيوة وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو {للَّه الحق} بنصب القاف. قال الزمخشري: على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة. {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأٌّرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْبَقِيَاتُ الصَّلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً * „

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأٌّرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَبُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا * وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّلِمِينَ بَدَلاً * مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَنُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأٌّوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَدِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ

بِئَايِتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأٌّرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْبَقِيَاتُ الصَّلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً * „ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأٌّرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَبُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} {كماء} قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف، أي هي أي {الحياة الدنيا كماء} . وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضرباً {كماء أنزلناه} وأقول إن {كماء} في موضع المفعول الثاني لقوله: {واضرب} أي وصير {لهم مثل الحياة الدنيا} .

وانتصب {ويوم} على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله {لقد جئتمونا} أي قلنا يوم كذا لقد. وانتصب {صفاً} على الحال. أو انتصب على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين. {لقد جئتمونا} معمول لقول محذوف أي وقلنا {وكما خلقناكم} نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم. و {أنْ} هنا مخففة من الثقيلة. وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو. {لن} كما فصل في قوله {أيحسب الإنسان أن لن نجمع} و {بل} للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال. (لا يغادر جملة في موضع الحال) . {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَنُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأٌّوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَدِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِئَايِتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (انتصب جدلاً على التمييز) .

{وتلك} مبتدأ و {القرى} صفة أو عطف بيان والخبير {أهلكناهم} ويجوز أن تكون {القرى} الخبر و {أهلكناهم} جملة حالية كقوله {فتلك بيوتهم خاوية} ويجوز أن تكون {تلك} منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا {تلك القرى أهلكناهم} و {تلك القرى} على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله {أهلكناهم} . وقوله {لما ظلموا} إشعار بعلة الإهلاك وهي الظلم، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية {لما} وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية. وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدراً أو زماناً. وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام، واحتمل أن يكون مصدراً مضافاً إلى المفعول وأن يكون زماناً. وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل. وقيل: هلك يكون لازماً ومتعدياً فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول، وأنشد أبو عليّ في ذلك: ومهمه هالك من تعرجاً ولا يتعين ما قاله أبو عليّ في هذا البيت، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجاً. فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه، وانتصب {من} على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة؟ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب. قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة: أسيلات أبدان دقاق خصورهاوثيرات ما التفت عليها الملاحف وقال آخر:

فعجتها قبل الأخيار منزلةوالطيبي كل ما التاثت به الأزر {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَهُءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىءَاثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ

تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا} {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَهُءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىءَاثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}

وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر {لا أبرح} وهي من أخوات كان، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله: لهفي عليك للهفة من خائفيبغي جوارك حين ليس مجير أي حين ليس في الدنيا. وقال الزمخشري: فإ ن قلت: {لا أبرح} إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت: هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معاً يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله {حتى أبلغ مجمع البحرين} غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري {حتى أبلغ} على أن {حتى أبلغ} هو الخبر، فاما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى. وهما وجهان خلطهما الزمخشري: أما الأول: فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم وهو وجه وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و {حتى أبلغ} فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له. والوجه الثاني جعل {لا أبرح} مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله {لا أبرح} هو {حتى أبلغ} فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر {أبرح} . والظاهر أن قوله أو أمضى معطوف على أبلغ.

وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش: إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال: وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى، ولا تقول فيها أبداً أراني زيد عمراً ما صنع، وتقول هذا على معنى أعلم. وشذت أيضاً فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت} فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه، والمعنى أما {إذ أوينا إلى الصخرة} فالأمر كذا، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبداً بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله {فإني نسيت الحوت معناه أما إذ أوينا} {فإني نسيت الحوت} أو تنبه {إذ أوينا} وليست الفاء إلاّ جواباً لأرأيت، لأن إذ لا يصح أن يجازي بها إلاّ مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش. وفيه إن {أرأيت} إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقود إن في تقدير الزمخشري. و {أن أذكره} بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت. وقرأ أبو حيوة: واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في {أذكره} و {ما} موصولة والعائد محذوف أي نبغيه. {قصصاً} فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله {فارتدا} . وانتصب {رشداً} على أنه مفعول ثان لقوله {تعلمني} أو على أنه مصدر في موضع الحال، وذو الحال الضمير في {أتبعك} .

{ولا أعصي} يحتمل أن يكون معطوفاً على {صابراً} أي {صابراً} وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله {صافات ويقبض} أي وقابضات، ويجوز أن يكون معطوفاً على {ستجدني} فلا محل له من الإعراب. {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا} اللام في لتغرق أهلها قيل: لام العاقبة. وقيل: لام العلة.

وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل {خرقها} بغير فاء و {فقتله} بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء قال {أقتلت} : فإن قلت: {فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الْغُلَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَوةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَلِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} وانتصب {رحمة} على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال: لأنه في معنى رحمهما، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف.

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأٌّرْضِ وَآتَيْنَهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} وانتصب {جزاء} على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد. وقال أبو علي قال أبو الحسن: هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر. وقيل: انتصب على المصدر أي يجزي {جزاء} . وقال الفراء: ومنصوب على التفسير. و {جزاء} مبتدأ وله خبره. وقرأ عبد الله بن إسحاق {فله جزاء} مرفوع وهو مبتدأ وخبر و {الحسنى} بدل من {جزاء} . وقرأ ابن عباس ومسروق {جزاء} نصب بغير تنوين {الحسنى} بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدإ لدلالة المعنى عليه، أي {فله} الجزاء {جزاء الحسنى} وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين.

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُواْ يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأٌّرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَعُواْ لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَهُمْ جَمْعاً * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَفِرِينَ عَرْضاً * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَفِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأٌّخْسَرِينَ أَعْمَلاً} وانتصب {بين} على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في {لقد تقطع بينكم} وانجر بالإضافة في {هذا فراق بيني وبينك} و {بين} من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها، نحو قولهم همزة بين بين. وهما ممنوعاً الصرف، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين.

وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججب، ومأجوج من مججت. وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج، ويأجوج فاعول من يج. وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا: الظاهر أنه عربي وأصله الهمز، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} أو من الأج وهو سرعة العدو، قال تعالى: {وهم من كل حدب ينسلون} وقال الشاعر: يؤج كما أج الظليم المنفر أو من الأجة وهو شدة الحرّ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذاك ان ملحاً مراً انتهى. وانتصب {زبر} بأيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر {الحديد} . عطراً منصوب بأفرغ على إعمال الثاني، ومفعول {آتوني} محذوف لدلالة الثاني عليه. الظاهر أن {جعله} بمعنى صيره فدك مفعول ثان. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى. وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى، ووعد بمعنى موعود لا مصدر.

سورة مريم

وارتفع حسب على الابتداء والخبر {أن يتخذوا} . وقال الزمخشري: أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك: أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى. والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسباً ليس باسم فاعل فتعمل، ولا يلزم من تفسير شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع. ثم قال: وذلك مررت برجل خير منه أبوه، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر، ومررت برجل أب له صاحبه، ومررت برجل حسبك من رجل، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى. ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة. {الذين} يصح رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم {الذين} وكأنه جواب عن سؤال، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على لوصف أو البدل {ضل سعيهم} . انتصب {أعمالاً} على التمييز. {ذلك جزاؤهم} مبتدأ وخبر و {جهنم} بدل. وقال أبو البقاء: {ذلك} أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و {جزاؤهم} مبتدأ ثان و {جهنم} خبره. والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى. ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال: ويجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و {جزاؤهم} بدل أو عطف بيان و {جهنم} الخبر. ويجوز أن يكون {جهنم} بدلاً من جزاء أو خبر لابتداء محذوف، أي هو جهنم و {بما كفروا} خبر ذلك، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و {اتخذوا} يجوز أن يكون معطوفاً على {كفروا} وأن يكون مستأنفاً انتهى. وجواب لو محذوف لدلالة المعنى عليه تقديره لنفد. وأنتصب {مدداً} على التمييز عن مثل كقوله. فإن الهوى يكفيكه مثله صبراً ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمداداً ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتاً. سورة مريم ثمان وتسعون آية مكية

{كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً * يزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِىءَايَةً قَالَءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً * ييَحْيَى خُذِ الْكِتَبَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً * وَسَلَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً * وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأًّهَبَ لَكِ غُلَماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ

هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُءَايَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يأُخْتَ هَرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِءَاتَانِىَ الْكِتَبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً * وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} و {ذكر} خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو من هذا القرآن {ذكر} . وقيل {ذكر} خبر لقوله {كهيعص} وهو مبتدأ ذكره الفرّاء. قيل: وفيه بُعد لأن الخبر هو المبتدأ في المعنى وليس في الحروف المقطعة ذكر الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها. وقيل: {ذكر} مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى {ذكر} .

وقرأ الحسن وابن يعمر {ذكر} فعلاً ماضياً {رحمة} بالنصب، وحكاه أبو الفتح وذكره الزمخشري عن الحسن أي هذا المتلو من القرآن {ذكر رحمة ربك} وذكر الداني عن ابن يعمر {ذكر} فعل أمر من التذكير {رحمة} بالنصب و {عبده} نصب بالرحمة أي {ذكر} أن {رحمة ربك عبده} . وذكر صاحب اللوامح أن {ذكر} بالتشديد ماضياً عن الحسن باختلاف وهو صحيح عن ابن يعمر، ومعناه أن المتلو أي القرآن {ذكر برحمة ربك} فلما نزع الباء انتصب، ويجوز أن يكون معناه أن القرآن ذكر الناس تذكيراً أن رحم الله عبده فيكون المصدر عاملاً في {عبده زكريا} . و {إذ} ظرف العامل فيه قال الحوفي: {ذكر} وقال أبو البقاء: و {إذ} ظرف لرحمة أو لذكر انتهى. وأخرج الشيب مميزاً وبعضهم أعرب {شيباً} مصدراً قال: لأن معنى {واشتعل الرأس} شاب فهو مصدر من المعنى. وقيل: هو مصدر في موضع نصب على الحال. وقرأ الجمهور: {يرثني ويرث} برفع الفعلين صفة للولي. وقرأ النحويان والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني وابن محيصن وقتادة بجزمهما على جواب الأمر. والظاهر أن {يحيى} ليس عربياً لأنه لم تكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة، وإن كان عربياً فيكون مسمى بالفعل كيعمر ويعيش. {قال: كذلك} أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ {قال ربك} فالكاف رفع أو نصب بقال. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن {علي أن لا تكلم} برفع الميم جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم. وقرأ الجمهور بنصبها جعلوا أن الناصبة للمضارع. قال الزمخشري وابن عطية و {أن} مفسرة. وقال الحوفي {أن سبحوا} {أن} نصب بأوحى. وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى أي انتهى.d {عصياً} أي عاصياً كثير العصيان، وأصله عصوى فعول للمبالغة، ويحتمل أن يكون فعيلاً وهي من صيغ المبالغة.

{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأًّهَبَ لَكِ غُلَماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُءَايَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}

و {إذ} قيل ظرف زمان منصوب باذكر، ولا يمكن ذلك مع بقائه على الظرفية لأن الاستقبال لا يقع في الماضي. وقال الزمخشري: {إذ} بدل من {مريم} بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وقته، إذ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيها انتهى. ونصب {إذ} باذكر على جهة البدلية يقتضي التصرف في {إذ} وهي من الظروف التي لم يتصرف فيها إلاّ بإضافة ظرف زمان إليها. فالأولى أن يجعل ثم معطوف محذوف دل المعنى عليه وهو يكون العامل في {إذ} وتبقى على ظرفيتها وعدم تصرفها، وهو أن تقدر مريم وما جرى لها {إذ انتبذت} واستبعد أبو البقاء قول الزمخشري قال: لأن الزمان إذا لم يكن حالاً عن الجثة ولا خبراً عنها ولا وصفاً لها لم يكن بدلاً منها انتهى. واستبعاده ليس بشيء لعدم الملازمة. قال: وقيل التقدير خبر مريم فإذ منصوبة لخبر. وقيل: حال من هذا المضاف المحذوف. وقيل: {إذ} بمعنى أن المصدرية كقولك: أكرمك إذ لم تكرمني أي إن لم تكرمني. قال أبو البقاء: فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي {واذكر} {مريم} انتباذها انتهى. وتعليقها الاستعادة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعادة ولا تجدي إلاّ عند من يتقي الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وجواب الشرط محذوف أي فإني أعوذ. وقال الزجاج: فستتعظ بتعويذي بالله منك. وقيل: فاخرج عني. وقيل: فلا تتعرض لي وقول من قال تقي اسم رجل صالح أو رجل فاسد ليس بسديد. وقيل: {إن} نافية أي ما {كنت تقياً} .

والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي. قيل: ولو كان فعيلاً لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية. وقال ابن جنيّ في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولاً لقيل بغوكما قيل فلان نهو عن المنكر انتهى. قيل: ولما كان هذا اللفظ خاصاً بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار كحائض وطالق، وإنما يقال للرجل باغ. وقيل: بغى فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل أي مبغية بطلبها أمثالها. {ولنجعله} يحتمل أن يكون معطوفاً على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا {ولنجعله} أو محذوف متأخر فعلنا ذلك.

ومعنى {فأجاءها} أي جاء بها تارة فعدي جاء بالباء وتارة بالهمزة، قال الزمخشري: إلا أن استعماله قد يغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء الإتراك، لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول: بلغته أبلغنيه، ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلاّ في الإعطاء ولم يقل آتيت المكان وآتانيه فلان انتهى. أما قوله وقول غيره إن الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين ذلك عن لسان العرب، والإجاءة تدل على المطلق فتصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت: أقمت زيداً فإنه قد يكون مختاراً لذلك وقد يكون قد قسرته على القيام. وأما قوله الإتراك لا تقول إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز لك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياساً فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا: أجاء فيجيز ذلك، وأما تنظيره ذلك بأتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية، وأن أصله أتى وليس كذلك بل آتى مما بُني على أفعل وليس منقولاً من أتى بمعنى جاء، إذ لو كان منقولاً من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأول إذا عديته بالهمزة تقول: أتى المال زيداً، وأتى عمراً زيداً المال، فيختلف التركيب بالتعدية لأن زيداً عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني. وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس فدل على أنه ليس على ما قاله. وأيضاً فآتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى. وقوله: ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال: أتيت المكان كما تقول: جئت المكان. وقال الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتمفقالوا الجن قلت عموا ظلاماً ومن رأى النقل بالهمزة قياساً قال: أتانيه. وقرأ الجمهور {فأجاءها} أي ساقها. وقال الشاعر: وجار سار معتمداً إليكمأجاءته المخافة والرجاء

وقال ابن عطية: وقرأ بكر بن حبيب نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض والنفض. قال الفراء نسي ونسي لغتان كالوتر والوتر والفتح أحب إليّ. وقال أبو علي الفارسي الكسر أعلى اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر فهو اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض، ومنه فتح فمصدر نائب عن اسم كما يقال: رجل دنف ودنف والمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر يسد مسد الوصف، ويمكن أن يكونا لمعنى كالرطل والرطل والإشارة بقوله هذا إلى الحمل. قرأ البراء بن عازب وابن عباس والحسن وزيد بن عليّ والضحاك وعمرو بن ميمون ونافع وحمزة والكسائي وحفص {من} حرف جر. وقرأ الابنان والأبوان وعاصم وزر ومجاهد والجحدري والحسن وابن عباس في رواية عنهما {من} بفتح الميم بمعنى الذي و {تحتها} ظرف منصوب صلة لمن. وإلى حرف بلا خلاف ويتعلق بقوله {وهزي} وهذا جاء على خلاف ما تقرر في علم النحو من أن الفعل لا يتعدى إلى الضمير المتصل، وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا علم وهما لمدلول واحد لا يقال: ضربتك ولا زيد ضربه أي ضرب نفسه ولا ضربني إنما يؤتى في مثل هذه التراكيب بالنفس فتقول: ضربت نفسك وزيد ضرب نفسه وضربت نفسي والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا تقول: هززت إليك ولا زيد هز إليه ولا هززت إلى ولهذا زعموا في قول الشاعر: دع عنك نهياً صيح في حجراتهولكن حديثاً ما حدثت الرواحل وفي قول الآخر: وهوّن عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها إنّ عن وعلى ليسا حرفين وإنما هما اسمان ظرفان، وهذا ليس ببعيد لأن عن وعلى قد ثبت كونهما اسمين في قوله: من عن يمين الحبيا نظرة قبل وفي قوله: غدت من عليه بعدما تم ظمؤها

وبعض النحويين زعم أن على لا تكون حرفاً البتة، وأنها اسم في كل مواردها ونسب إلى سيبويه، ولا يمكن أن يدعي أن إلى تكون اسماً لإجماع النحاة على حرفىتها كما قلنا. ونظير قوله تعالى {وهزي إليك} قوله تعالى {واضم إليك جناحك} وعلى تقرير تلك القاعدة ينبغي تأويل هذين، وتأويله على أن يكون قوله {إليك} ليس متعلقاً بهزي ولا باضم، وإنما ذلك على سبيل البيان والتقدير أعني إليك فهو متعلق بمحذوف كما قالوا في قوله {إني لكما لمن الناصحين} وما أشبهه على بعض التأويلات. والباء في {بجذع} زائدة للتأكيد كقوله {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} . قال أبو عليّ كما يقال: ألقى بيده أي ألقى يده. وكقوله: سود المحاجر لا يقرأن بالسور أي لا يقرأن السور. وأنشد الطبري: فؤاد يمان ينبت السدر صدرهوأسفله بالمرخ والسهان وقال الزمخشري أو على معنى أفعلي الهز به. كقوله: يخرج في عراقيبها نصلي وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه أنه قرأ رطب جني بالرفع على الفاعلية، وأما النصب فإن قرأ بفعل متعد نصبه على المفعول أو بفعل لازم فنصبه على التمييز. وأجاز المبرد في قوله {رطباً} أن يكون منصوباً بقوله {وهزي} أي {وهزي إليك بجذع النخلة} رطباً تساقط عليك، فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال فيكون قد حذف معمول {تساقط} فمن قرأه بالياء من تحت فظاهر، ومن قرأ بالتاء من فوق فإن كان الفعل متعدياً جاز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان لازماً فلا لاختلاف متعلق هزي إذ ذاك والفعل اللازم.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يأُخْتَ هَرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِءَاتَانِىَ الْكِتَبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً * وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} و {كان} قال أبو عبيدة: زائدة. وقيل: تامّة وينتصب {صبياً} على الحال في هذين القولين، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله {وكان الله غفوراً رحيماً} وفي قوله {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} والمعنى {كان} وهو الآن على ما كان، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن {كان} هذه بأنها ترادف لم يزل وما ردّ به ابن الأنباري كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها، وهذه نصبت {صبياً} خبراً لها ليس بشيء لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال، والعامل فيها الاستقرار. وقال الزمخشري: كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام وأنه مسوق للتعجب، ووجه آخر أن يكون {نكلم} حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس {صبياً} . والظاهر أن {من} مفعول بنكلم. ونقل عن الفراء والزجاج أن {من} شرطية و {كان} في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف {نكلم} وهو قول بعيد جداً.

{وأينما كنت} شرط وجزاؤه محذوف تقديره {جعلني مباركاً} وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولاً لجعلني السابق لأن {أين} لا يكون إلاّ استفهاماً أو شرطاً لا جائز أن يكون هنا استفهاماً، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه. و {ما} في {ما دمت} مصدرية ظرفية. {وبراً} بفتح الباء فقال الحوفي وأبو البقاء: إنه معطوف على {مباركاً} وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي {أوصاني} ومتعلقها، والأولى إضمار فعل أي وجعلني {براً} . {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَنَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأٌّحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّلِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأٌّمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأٌّرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} و {ذلك} مبتدأ و {عيسى} خبره و {ابن مريم} صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل، وقال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل انتهى. وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال: بألف جعله فعلاً ماضياً {الحق} برفع القاف على الفاعلية، والمعنى قال الحق وهو الله. وهذا الذي ذكر لا يكون إلا على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن اللفظ لا يكون الذات.

وقرأ الجمهور {وإن اللَّه} بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ أبي بالكسر دون واو. وقرأ الحرميان وأبو عمرو {وإن} بالواو وفتح الهمزة، وخرجه ابن عطية على أن يكون معطوفاً على قوله هذا {قول الحق} {وإن اللَّه ربي} كذلك. وخرجه الزمخشري على أن معناه ولأنه ربي وربكم فأعبدوه كقوله: {وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً} انتهى. وهذا قول الخليل وسيبويه وفي حرف أبي أيضاً، وبأن {اللَّه} بالواو وباء الجر أي بسبب ذلك فاعبدوه. وأجاز الفراء في {وإن} يكون في موضع خفض معطوفاً على والزكاة، أي {وأوصاني بالصلاة والزكاة} وبأن الله ربي وربكم انتهى. وهذا في غاية البعد للفصل الكثير، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى الأمر {إن اللَّه ربي وربكم} . وقرأ زيد بن عليّ وابن عامر وعاصم وحمزة وابن أبي إسحاق والحسن ويعقوب {قول الحق} بنصب اللام، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن {عيسى} أنه {ابن مريم} ثابت صدق ليس منسوباً لغيرها. وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال: بألف جعله فعلاً ماضياً {الحق} برفع القاف على الفاعلية، والمعنى قال الحق وهو الله. وقال ابن عطية: {وهم في غفلة} يريد في الدنيا الآن {وهم لا يؤمنون} كذلك انتهى. وعلى هذا يكون حالاً والعامل فيه {وأنذرهم} .

{وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِبْرَهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً * يأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَنَ إِنَّ الشَّيْطَنَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَنِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يإِبْرَهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً * قَالَ سَلَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهٍّمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً * وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَنَدَيْنَهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأٌّيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَرُونَ نَبِيّاً * وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِسْمَعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَدِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً * وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ

وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَهِيمَ وَإِسْرَءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً * إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّتِ

عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً * رَّبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً * وَيَقُولُ الإِنْسَنُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً * وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّلِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بِيِّنَتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً * قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَتُ الصَّلِحَتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً

وَخَيْرٌ مَّرَدّاً * أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَتِنَا وَقَالَ لائوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً * وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً * أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَطِينَ عَلَى الْكَفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأٌّرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَرْداً * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} {

وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِبْرَهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً * يأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَنَ إِنَّ الشَّيْطَنَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَنِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يإِبْرَهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً * قَالَ سَلَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهٍّمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} (إنه كان صديقاً نبياً) . وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني {إبراهيم} .

و {إذ. قال} نحو قولك: رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك، ويجوز أن تتعلق {إذ} بكان أو بـ {صديقاً نبياً} أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات انتهى. فالتخريج الأول يقتضي تصرف {إذ} وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف، والتخريج الثاني مبني على أن كان لنا قصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف. والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلاّ إلى لفظ واحد، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا، وجائز أن يكون معمولاً لصديقاً لأنه نعت إلاّ على رأي الكوفيين، ويحتمل أن يكون معمولاً لنبياً أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد. و {ما لا يسمع} الظاهر أنها موصولة، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول {يسمع} و {يبصر} منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق. و {شيئاً} . إما مصدر أو مفعول به. قال الزمخشري: وقدم الخبر على المبتدأ في قوله {أراغب أنت عن آلهتي} لأنه كان أهم عنده وهو عنده. والمختار في إعراب {أراغب أنت} أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، و {أنت} فاعل سد مسد الخبر، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون {أراغب} خبراً و {أنت} مبتدأ بوجهين: أحدهما: أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ. والثاني: أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو {أراغب} وبين معموله الذي هو {عن آلهتي} بما ليس بمعمول للعامل، لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ بخلاف كون {أنت} فاعلاً فإن معمول {أراغب} فلم يفصل بين {أراغب} وبين {عن آلهتي} بأجنبي إنما فصل بمعمول له. {لأرجمنك} جواب القسم المحذوف قبل {لئن} .

قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف {وأهجرني} ؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه {لأرجمنك} أي فاحذرني {واهجرني} لأن {لأرجمنك} تهديد وتقريع انتهى. وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية. فقوله {واهجرني} معطوف على قوله {لئن لم تنته لأرجمنك} وكلاهما معمول للقول. وانتصب {ملياً} على الظرف. كلا: حرف ردع وزجر عند الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين، وذهب الكسائي ونصر بن يوسف وابن واصل وابن الأنباري إلى أنها بمعنى حقاً، وذهب النضر بن شميل إلى أنها حرف تصديق بمعنى نعم، وقد تستعمل مع القسم. وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أن كلا رد لما قبلها فيجوز الوقف عليها وما بعدها استئناف، وتكون أيضاً صلة للكلام بمنزلة إي والكلام على هذه المذاهب مذكور في النحو. {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَنَدَيْنَهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأٌّيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَرُونَ نَبِيّاً * وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِسْمَعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَدِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً * وَاذْكُرْ فِى الْكِتَبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَهِيمَ وَإِسْرَءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً}

والظاهر أن {الأيمن} صفة للجانب لقوله في آية أخرى {جانب الطور الأيمن} بنصب الأيمن نعتاً لجانب الطور. قال الزمخشري: و {أخاه} على هذا الوجه بدل و {هارون} عطف بيان كقولك رأيت رجلاً أخاك زيداً انتهى. والذي يظهر أن أخاه مفعول بقوله {ووهبنا} ولا تراردف من بعضاً فتبدل منها. وقرأ الجمهور {رضياً} وهو اسم مفعول أي مرضو وفاعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين فكأنها وليت حركة، ولو بنيت من ذوات الواو مفعلاً لصار مفعلاً لأن الواو لا تكون طرفاً وقبلها متحرك في الأسماء المتمكنة غير المتقيدة بالإضافة، ألا ترى أنهم حين سموا بيغزو الغازي من الضمير قالوا: بغز حين صار اسماً، وهذا الإعلال أرجح من التصحيح، ولأنه اعتل في رضي وفي رضيان تثنية رضي. و {إدريس} اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة، ولا جائز أن يكون إفعيلاً من الدرس كما قال بعضهم لأنه كان يجب صرفه إذ ليس فيه إلاّ واحد وهو العلمية. {وممن هدينا} يحتمل العطف على {من} الأولى أو الثانية، والظاهر أن {الذين} خبر لأولئك. {وإذا تتلى} كلام مستأنف، ويجوز أن يكون {الذين} صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر. وانتصب {سجداً} على الحال المقدرة قاله الزجاج لأنه حال خروره لا يكون ساجداً. وقرأ الجمهور {بكياً} بضم الباء وعبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي بكسرها اتباعاً لحركة الكاف كعصي ودلي، والذي يظهر أنه جمع لمناسبة الجمع قبله. قيل: ويجوز أن يكون مصدر البكا بمعنى بمكاء، وأصله بكو وكجلس جلوساً. وقال ابن عطية: و {بكياً} بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك انتهى. وقوله ليس بسديد لأن اتباع حركة الكاف لا تعين المصدرية، ألا تراهم قروؤا {جثياً} بكسر الجيم جمع جاث، وقالوا عصي فاتبعوا.

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً * إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} {إلا من تاب} استثناء ظاهره الاتصال. وقال الزجاج: منقطع {وآمن} هذا يدل على أن تلك الإضاعة كفر. وقرأ الجمهور جنات نصباً جمعاً بدلاً من {الجنة} {ولا يظلمون شيئاً} اعتراض أو حال. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمر و {جنات} رفعاً جمعاً أي تلك جنات وقال الزمخشري الرفع على الابتداء انتهى يعني والخبر {التي} . وقرأ الحسن بن حي وعليّ بن صالح جنة عدن نصباً مفرداً ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله. وقرأ اليماني والحسن وإسحاق الأزق عن حمزة جنة رفعاً مفرداً و {عدن} إن كان علماً شخصياً كان التي نعتاً لما أضيف إلى {عدن} وإن كان المعنى إقامة كان {التي} بدلاً. (إلا سلاماً: استثناء منقطع) . وتنزل تفعل وهي للمطاوعة وهي أحد معاني تفعل، تقول: نزلته فتنزل فتكون لمواصلة العمل في مهلة، وقد تكون لا يلحظ فيه ذلك إذا كان بمعنى المجرد كقولهم: تعدى الشيء وعداه ولا يكون مطاوعاً فيكون تنزل في معنى نزل. كما قال الشاعر: فلست لأنسى ولكن لملاكتنزل من جو السماء يصوب

وقال ابن عطية: وهذه الواو التي في قوله {وما نتنزل} هي عاطفة جملة كلام على أخرى واصلة بين القولين، وإن لم يكن معناهما واحداً. وارتفع {رب السموات} على البدل أو على خبر مبتدأ محذوف. {وَيَقُولُ الإِنْسَنُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً * وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّلِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بِيِّنَتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} وقرأ الجمهور {لسوف} باللام. وقرأ طلحة بن مصرف سأخرج بغير لام وسين الاستقبال عوض سوف، فعلى قراءته تكون إذا معمولاً لقوله سأخرج لأن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده من الفعل فيما قبله، على أن فيه خلافاً شاذاً وصاحبه محجوج بالسماع. قال الشاعر: فلما رأته آمناً هان وجدهاوقالت أبونا هكذا سوف يفعل فهكذا منصوب بفعل وهو بحرف الاستقبال. وحكى الزمخشري أي طلحة بن مصرف قرأ لسأخرج، وأما على قراءة الجمهور وما نقله الزمخشري من قراءة طلحة فاللام لام الابتداء فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فيقدر العالمل محذوفاً من معنى {لسوف أخرج} تقديره إذا ما مت أبعث.

وقال الزمخشري: فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلت: لم تجامعها إلاّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضمحل عنها معنى التعريف انتهى. وما ذكر من أن اللام تعطي معنى الحال مخالف فيه، فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال، وأما قوله كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلاّ على مذهب من يزعم أن الأصل فيه إله، وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا إن أصله إله وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض، إذ لو كانت للعوض من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذ. قال الزمخشري: الواو عاطفة لا يذكر على يقول، ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف انتهى. وهذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها، وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام، وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف على ما بعد الواو فيقر الهمزة على حالها، وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة. وقرأ الجمهور {أيهم} بالرفع وهي حركة بناء على مذهب سيبويه، فأيهم مفعول بننزعن وهي موصولة: و {أشد} خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة لأيهم وحركة إعراب على مذهب الخليل ويونس على اختلاف في التخريج. و {أبهم أشد} مبتدأ وخبر محكي على مذهب الخليل أي الذين يقال فيهم {أيهم أشد} . وفي موضع نصب فيعلق عنه {لننزعن} على مذهب يونس، والترجيج بين هذه المذاهب مذكور في علم النحو. قيل: {عتياً} جمع عات فاتصابه على الحال.

{صلياً} دخولاً. وقيل: لزوماً. وقيل: جمع صال فانتصب على الحال وبها متعلق بأولى. والواو في قوله {وإن منكم} للعطف. وقال ابن عطية: {وإن منكم إلاّ واردها} قسم والواو تقتضيه، ويفسره قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم «من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلاّ تحلة القسم» . انتهى. وذهل عن قول النحويين أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلاّ إذا كان الجواب باللام أو بأن، والجواب هنا جاء على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله والواو تقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار، ولا يجوز ذلك إلاّ إن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم: نعم السير على بئس العير، أي على عير بئس العير. وقول الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه أي برجل نام صاحبه. وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه. ومفعول {اتقوا} محذوف أي الشرك. وقال الزمخشري: و {هم أحسن} في محل النصب صفة لكم. ألا ترى أنك لو تركت {هم} لم يكن لك بد من نصب {أحسن} على الوصفية انتهى. وتابعه أبو البقاء على أن {هم أحسن} صفة لكم، ونص أصحابنا على أن {كم} الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها، فعلى هذا يكون {هم أحسن} في موضع الصفة لقرن. وقرأ الجمهور {ورئياً} بالهمزة من رؤية العين فعل بمعنى مفعول كالطحن والسقي.

{قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَتُ الصَّلِحَتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً * أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَتِنَا وَقَالَ لائوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً * وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَدَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً * أَلَمْ} وقرىء ورياءً بياء بعدها ألف بعدها همزة، حكاهها اليزيدي وأصله ورئاء من المراءاة أي يرى بعضهم بعضاً حسنه. وقرأ ابن عباس، فيما روي عنه طلحة ورياً من غير همز ولا تشديد، فتجاسر بعض الناس وقال هي لحن وليس كذلك بل لها توجيه بأن تكون من الرواء، وقلب فصار {ورئياً} ثم نقلت حركة الهمزة إلى الياء وحذفت، أو بأن تكون من الريّ وحذفت إحدى الياءين تخفيفاً كما حذفت في لا سيما، والمحذوفة الثانية لأنها لام الكلمة لأن النقل إنما حصل للكلمة بانضمامها إلى الأولى فهي أولى بالحذف. وقال الزمخشري: {يزيد} معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في الضلالة مداً ويمد له الرحمن {ويزيد} .

ولا يصح أن يكون {ويزيد} معطوفاً على موضع {فليمدد} سواء كان دعاء أم خبراً بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر إن كانت {من} موصولة أو في موضع الجواب إن كانت {من} شرطية، وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ أو جملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على الخبر خبر، والمعطوف على جملة الجزاء جزاء، وإذا كانت أداة الشرط اسماً لا ظرفاً تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقول مقامه، وكذا في الجملة المعطوفة عليها. وجاء التركيب في أرأيت على الوضع الذي ذكره سيبويه من أنها تتعدى لواحد تنصبه، ويكون الثاني استفهاماً فأطلع وما بعده في موضع المفعول الثاني لأرأيت. وقرأ أبو نهيك {كلا} بالتنوين فيهما. هنا وهو مصدر من كلّ السيف كلاً إذا نبا عن الضريبة، وانتصابه على إضمار فعل من لفظه وتقديره كلوا كلاً عن عبادة الله أو عن الحق. و {يقول} صلة {ما} مضارع، والمعنى على الماضي أي ما قال. واللام في ليكونوا لام كي.

وفي محتسب ابن جنيّ {كلا} بفتح الكاف والتنوين، وزعم أن معناه كل هذا الرأي والإعتقاد كلاً، ولقائل أن يقول إن صحت هذه الرواية فهي {كلا} التي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريراً انتهى. فقوله وقرأ ابن نهيك الذي ذكر ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية وأبو نهيك بالكنية وهو الذي يحكى عنه القراءة في الشواذ وأنه قرأ {كلا} بفتح الكاف والتنوين وكذا حكاه عنه أبو الفتح. وقال ابن عطية وهو يعني {كلا} نعت للآلهة قال: وحكى عنه أي عن أبي نهيك أبو عمر والداني {كلا} بضم الكاف والتنوين وهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه {سيكفرون} تقديره يرفضون أو يتركون أو يجحدون أو نحوه. وأما قول الزمخشري ولقائل أن يقول إلى آخره فليس بجيد لأنه قال إنها التي للردع، والتي للردع حرف ولا وجه لقلب ألفها نوناً وتشبيهه بقواريراً ليس بجيد لأن قواريراً اسم رجع به إلى أصله، فالتنوين ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف. وهذا الجمع مختلف فيه أيتحتم منع صرفه أم يجوز؟ قولان، ومنقول أيضاً أن لغة للعرب يصرفون ما لا ينصرف عند غيرهم، فهذا التنوين إما على قول من لا يرى بالتحتم أو على تلك اللغة. وذكر الطبري عن أبي نهيك أنه قرأ كل بضم الكاف ورفع اللام ورفعه على الابتداء والجملة بعده الخبر، وتقدم ظاهر وهو الآلهة وتلاه ضمير في قوله ليكونوا فالأظهر أن الضمير في {سيكفرون} عائد على أقرب مذكور محدث عنه.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَطِينَ عَلَى الْكَفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأٌّرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَرْداً * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} والضمير في {لا يملكون} عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه، والاستثناء متصل و {من} بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء {ولا يملكون} استئناف إخبار. وقيل: موضه نصب على الحال من الضمير في {لا يملكون} ويكون عائداً على المجرمين. والمعنى غير مالكين أن يشفع لهم، ويكون على هذا الاستثناء منقطعاً. وقيل: الضمير في {لا يملكون} عائد على المتقين والمجرمين، والاستثناء متصل.

وقال بعض من جعل الضمير للمتقين: المعنى لا يملك المتقون {الشفاعة} إلاّ لهذا الصنف، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني {لا يملكون الشفاعة لأحد إلاّ من اتخذ} فيكون في موضع نصب كما قال: فلم ينج إلاّ جفن سيف ومئزرا. أي لم ينج شيء إلا جفن سيف. وعلى هذه الأقوال الواو ضمير. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون يعني الواو في {لا يملكون} علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث، والفاعل من {اتخذ} لأنه في معنى الجمع انتهى. ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميراً. وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة. وأيضاً قالوا: والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلاّ بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلاّ بسماع. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلاّ شفاعة من {اتخذ} . وقرأ الجمهور {إداً} بكسر الهمزة وعليّ بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن بفتحها أي شيئاً أداً حذف المضاف وأقيم المصدر مقامه. وانتصب {هدّاً} عند النحاس على المصدر قال: لأن معنى {تخرّ} تنهد انتهى. وهذا على أن يكون {هداً} مصدراً لهد الحائط يهد بالكسر هديداً وهداً وهو فعل لازم. وقيل {هداً} مصدر في موضع الحال أي مهدودة، وهذا على أن يكون {هداً} مصدر هد الحائط إذا هدمه وهو فعل متعد، وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولاً له أي لأنها تهد، وأجاز الزمخشري في {أن دعوا} ثلاثة أوجه. قال أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه كقوله:

على حالة لو أن في القوم حاتماًعلى جوده لضن بالماء حاتموهذا فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه لجملتين، قال: ومنصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي {هداً} لأن دعوا علل الخرور بالهد، والهد بدعاء الولد للرحمن، وهذا فيه بعد لأن الظاهر أن {هداً} لا يكون مفعولاً بل مصدر من معنى {وتخر} أو في موضع الحال، قال: ومرفوعاً بأنه فاعل {هداً} أي هدها دعاء الولد للرحمن، وهذا فيه بعد لأن ظاهر {هداً} أن يكون مصدراً توكيدياً، والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيد لم يعمل بقياس إلاّ إن كان أمراً أو مستفهماً عنه، نحو ضرب زيداً، واضربا زيداً على خلاف فيه. وأما إن كان خبراً كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الرحمن فلا ينقاس بل ما جاء من ذلك هو نادر كقوله. وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم أي وقف صحبي. وقال الحوفي وأبو البقاء {أن دعوا} في موضع نصب مفعول له، ولم يبينا العامل فيه. وقال أبو البقاء أيضاً: هو في موضع جر على تقدير اللام، قال: وفي موضع رفع أي الموجب لذلك دعاؤهم، ومعنى {دعوا} سموا وهي تتعدّى إلى اثنين حذف الأول منهما، والتقدير سموا معبودهم ولداً للرحمن أي بولد لأن دعا هذه تتعدى لاثنين، ويجوز دخول الباء على الثاني تقول: دعوت ولدي بزيد، أو دعوت ولدي زيداً. وقال الشاعر: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكنأخاها ولم أرضع لها بلبان وقال آخر ألا رب من يدعي نصيحاً وإن يغبتجده بغيب منك غير نصيح و {ينبغي} ليس من الأفعال التي لا تتصرف بل سمع لها الماضي قالوا: أنبغى وقد عدّها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط و {من} موصولة بمعنى الذي أي ما كل الذي. وقال الزمخشري: {من} موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله: رب من أنضجت غيظاً صدره

سورة طه عليه السلام

انتهى. والأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل. وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب إلاّ آتٍ بالتنوين {الرحمن} بالنصب والجمهور بالإضافة و {آتي} خبر {كل} وانتصب {عبداً} على وانتصب {فرداً} على الحال أي منفرداً. وخير {كلهم آتيه} {فرداً} وكلّ إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفرداً على لفظ كل، فتقول: كلكم ذاهب، ويجوز أن يعود جمعاً مراعاة للمعنى فتقول: كلكم ذاهبون. وحكى إبراهيم ابن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الإتفاق على جواز الوجهين، وعلى الجمع جاء لفظ الزمخشري في تفسير هذه الآية في الكشاف {وكلهم} متقلبون في ملكوته مقهورون بقهره، وقد خدش في ذلك أبو زيد السهيلي فقال: كل إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني إلى معرفة فلا يحسن إلاّ إفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول: كلكم ذاهب أي كل واحد منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح فإن قلت: في قوله {وكلهم آتيه} إنما هو حمل على اللفظ لأنه اسم مفرد قلنا: بل هو اسم للجمع واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول: القوم ذاهبون، ولا تقول: القوم ذاهب وإن كان لفظ القوم كلفظ المفرد، وإنما حسن كلكم ذاهب لأنهم يقولون كل واحد منكم ذاهب فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى انتهى. ويحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب، أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان. سورة طه عليه السلام مائة وخمس وثلاثون آية مكية

{طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأٌّرْضَ وَالسَّمَوَتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَمَا فِي الأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأٌّسْمَآءُ الْحُسْنَى} و {لتشقى} و {تذكرة} علة لقوله {ما أنزلنا} وتعدى في {لتشقى} باللام لاختلاف الفاعل إذ ضمير {ما أنزلنا} هو لله، وضمير {لتشقى} للرسول صلى الله عليه وسلّم ولما اتحد الفاعل في {أنزلنا} و {تذكرة} إذ هو مصدر ذكر، والمذكر هو الله وهو المنزل تعدى إليه الفعل فنصب على أن في اشتراط اتحاد الفاعل خلافاً والجمهور يشترطونه. وقال الزمخشري: فإن قلت: أما يجوز أن تقول: ما أنزلنا عليك القرآن أن تشقى كقوله {أن تحبط أعمالكم} قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في {واختار موسى قومه} وأما النصبة في {تذكرة} فهي كالتي في ضربت زيد لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها انتهى. وليس كون أن تشقى إذا حذف الجار منصوب متفقاً عليه بل في ذلك خلاف. أهو منصوب تعدى إليه الفعل بعد إسقاط الحرف أو مجرور بإسقاط الجار وإبقاء عمله؟ وقال ابن عطية: {إلا تذكرة} يصح أن ينصب على البدل من موضع {لتشقى} ويصح أن ينصب بإضمار فعل تقديره لكن أنزلناه تذكرة انتهى. وقد ردّ الزمخشري تخريج ابن عطية الأول فقال: فإن قلت: هل يجوز أن يكون {تذكرة} بدلاً من محل {لتشقى} ؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلاّ فيه بمعنى لكن انتهى. ويعني باختلاف الجنسين أن نصب {تذكرة} نصبة صحيحة ليست بعارضة والنصبة التي تكون في {لتشقى} بعد نزع الخافض نصبة عارضة والذي نقول أنه ليس له محل البتة فيتوهم البدل منه.

وكون {إلاّ تذكرة} بدل من محل {لتشقى} هو قول الزجاج. وقال النحاس: هذا وجه بعيد وأنكره أبو عليّ من قبل أن التذكرة ليست بشقاء. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون {تذكرة} بدلاً من {القرآن} ويكون {القرآن} هو {التذكرة} وأجاز هو وأبو البقاء أن يكون مصدراً أي لكن ذكرنا به {تذكرة} . قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأنزلنا المذكور لأنه قد تعدى إلى مفعول وهو {لتشقى} ولا يتعدى إلى آخر من جنسه انتهى. والخشية باعثة على الإيمان والعمل الصالح. وانتصاب {تنزيلاً} على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل {تنزيلاً ممن خلق} . وقال الزمخشري: في نصب {تنزيلاً} وجوه أن يكون بدلاً من {تذكرة} إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له، لأن الشيء لا يعلل بنفسه، وأن ينصب بنزل مضمراً، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى {ما أنزلنا} {إلاّ تذكرة} أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله {تذكرة لمن يخشى} تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى. والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة. وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل {تذكرة} و {تنزيلاً} حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس، وأيضاً فمدلول {تذكرة} ليس مدلول {تنزيلاً} ولا {تنزيلاً} بعض {تذكرة} فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها. وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة، وأما نصبه على المدح فبعىد، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة.

وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمار هو، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف. والظاهر رفع {الرحمن} على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو {الرحمن} . وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير المستتر في {خلق} انتهى. وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه، و {الرحمن} لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و {خلق} صلة، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط. وأجاز الزمخشري أن يكون رفع {الرحمن} على الابتداء قال يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق. وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر. قال الزمخشري: صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الاسماء النواقص التي لا تتم إلاّ بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلاّ الذي والتي فيجوز نعتهما، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون {الرحمن} صفة لمن فالأحسن أن يكون {الرحمن} بدلاً من من، وقد جرى {الرحمن} في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل. وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو {على العرش استوى} وعلى قراءة الرفع إن كان بدلاً كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر، فكيون {الرحمن} والجملة خبرين عن هو المضمر. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف. والجلالة مبتدأ و {لا إله إلاّ هو} الخبر و {له الأسماء الحسنى} خبر ثان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من ذا الذي يعلم السر وأخفى؟ فقيل: هو {الله} .

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأًّهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّىءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ يمُوسَى * إِنِّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى * إِنَّ السَّاعَةَءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يمُوسَى * قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يمُوسَى * فَأَلْقَهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاٍّولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍءَايَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْءَايَتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} والظاهر أن {إذ} ظرف للحديث لأنه حدث. وأجاز الزمخشري أن تكون ظرفاً لمضمر أي {ناراً} كان كيت وكيت، وأن تكون مفعولاً لأذكر. وانتصب {هدى} على أنه مفعول به على تقدير محذوف أي ذا {هدى} أو على تقدير حذف لأنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى هدى الطريق. والجمهور {وأنا اخترتك} بضمير المتكلم المفرد غير المعظم نفسه. وقرأ أُبَيّ وأني بفتح الهمزة وياء المتكلم {اخترتك} بتاء عطفاً على {إني أنا ربك} ومفعول {اخترتك} الثاني المتعدي إليه بمن محذوف تقديره من قومك. والظاهر أن {لما يوحى} من صلة استمع وما بمعنى الذي.

وقال الزمخشري وغيره: {لما يوحي} للذي يوحى أو للوحي، فعلق اللام باستمع أو باخترتك انتهى. ولا يجوز التعليق باخترتك لأنه من باب الأعمال فيجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون فاستمع له لما يوحى فدل على أنه إعمال الثاني. والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي ليذكرني فإن ذكري أن اعبدو يصلي لي أو ليذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، ويحتمل أن تضاف إلى المفعول أي لأن أذكرك بالمدح والثناء. ولام {لتجزَى} على هذه القراءة متعلقة بأخفيها أي أظهرها {لتجزَى} كل نفس. وقرأ الجمهور {أُخْفِيها} بضم الهمزة وهو مضارع أخفي بمعنى ستر. واللام على قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامح متعلقة بآتية كأنه قال {إن الساعة آتية} لنجزي انتهى، ولا يتم ذلك إلاّ إذا قدرنا {أكاد أخفيها} جملة اعتراضية، فإن جعلتها في موضع الصفة لآتية فلا يجوز ذلك على رأي البصريين لأن أسم الفاعل لا يعمل إذا وصف قبل أخذ معموله. وقيل: {أخفيها} بضم الهمزة بمعنى أظهرها فتتحد القراءتان، وأخفى من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى الستر. قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه أبو الخطاب وهو رئيس من رؤساء اللغة لا شك في صدقه و {أكاد} من أفعال المقاربة لكنها مجاز هنا، ولما كانت الآية عبارة عن شدة إخفاء أمر القيامة ووقتها وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس بالغ في إبهام وقتها فقال {أكاد أخفيها} حتى لا تظهر ألبتة، ولكن لا بد من ظهورها. وقالت فرقة {أكاد} بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقاله الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم. قال أبو مسلم: ومن أمثالهم لا أفعل ذلك: ولا أكاد أي لا أريد أن أفعله. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف تقديره {أكاد} أتى بها لقربها وصحة وقوعها كما حذف في قول صابيء البرجمي: هممت ولم أفعل وكذت وليتنيتركت على عثمان تبكي حلائله أي وكدت أفعل.

{فتردى} يجوز أن يكون منصوباً على جواز النهي وأن يكون مرفوعاً أي فأنت تردى. وقرأ يحيى فَتِردى بكسر التاء. و {ما} استفهام مبتدأ و {تلك} خبره و {يمينك} في موضع الحال كقوله {وهذا بعلي شيخاً} والعامل اسم الإشارة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون {تلك} أسماً موصولاً صلته بيمينك، ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهباً للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون، قالوا: يجوز أن يكون اسم الإشارة موصولاً حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل: وما التي بيمينك؟ واختلفوا في إعراب {سيرتها} فقال الحوفي مفعول ثان لسنعيدها على حذف الجار مثل {واختار موسى قومه} يعني إلى {سىرتها} قال: ويجوز أن يكون بدلاً من مفعول {سنعيدها} . وقال هذا الثاني أبو البقاء قال: بدل اشتمال أي صفتها وطريقتها. وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب على الظرف أي {سنعيدها} في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا انتهى. و {سيرتها} وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلاّ بواسطة، في ولا يجوز الحذف إلاّ في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون مفعولاً من عاده بمعنى عاد إليه. ومنه بيت زهير: وعادك أن تلاقيها عداء فيتعدى إلى مفعولين انتهى. وهذا هو الوجه الأول الذي ذكره الحوفي. قال: ووجه ثالث حسن وهو أن يكون {سنعيدها} مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها، بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية، فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولاً ونصب {سيرتها} بفعل مضمر أي تسير {سيرتها الأولى} يعني {سنعيدها} سائرة {سيرتها الأولى} . وانتصب {بيضاء} على الحال.

انتصب {آية} على الحال وهذا على مذهب من يجيز تعداد الحال لذي حال واحد. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوباً على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام كذا قال، فأما تقدير خذ فسائغ وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب عنه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه، وأجاز أبو البقاء والحوفي أن يكون {آية} بدلاً من {بيضاء} وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في {بيضاء} أي تبيض {آية} . وقيل منصوب بمحذوف تقديره جعلناها {آية} أو آتيناك {آية} . نعني أنه جاز أن يكون مفعول {لنريك} الثاني {الكبرى} أو يكون {من آياتنا} في موضع المفعول الثاني. وتكون {الكبرى} صفة لآياتنا على حد {الأسماء الحسنى} و {مآرب أخرى} . بجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة، وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. والذي نختاره أن يكون {من آياتنا} في موضع المفعول الثاني، و {الكبرى} صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون إياته تعالى كلها هي الكبر لأن ما كان بعض الآيات الكبر صدق عليه أنه {الكبرى} . وإذا جعلت {الكبرى} مفعولاً لم تتصف الآيات بالكبر لأنها هي المتصفة بأفعل التفضيل، وأيضاً إذا جعلت {الكبرى} مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً لأنهما كان يلزم التثنية في وصفيهما فكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلاً منهما فيها معنى التفضيل.

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى * وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى * هَرُونَ أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى * إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يمُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} و {من لساني} صفة للعقدة كأنه قيل {عقدة من} عقد {لساني} انتهى. ويظهر أن {من لساني} متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي. وأجاز أبو البقاء الوجهين. وقال الأصمعي: هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة، والقياس أزير وكذا قال الزمخشري: قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيأ صالحاً كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلب في أخيه قلبت فيه. وجوزوا أن يكون {لي وزيراً} مفعولين لاجعل و {هارون} بدل أو عطف بيان، وأن يكون {وزيراً} و {هارون} مفعولية، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و {أخي} بدل من {هارون} في هذين الوجهين.

قال الزمخشري: وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى. ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة، والأمر هنا بالعكس. وجوزوا أن يكون {وزيراً من أهلي} هما المفعولان و {لي} مثل قوله {ولم يكن له كفواً أحد} يعنون أنه به يتم المعنى. و {هارون} على ما تقدم. وجوزوا أن ينتصب {هارون} بفعل محذوف أي اضم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف. وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وابن عامر {أَشدد} بفتح الهمزة {وأُشِّرِكْهُ} بضمها فعلاً مضارعاً مجزوماً على جواب الأمر وعطف عليه {وأشركه} . وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل {أخي} مرفوعاً على الابتداء {وأشدد به} خبره ويوقف على {هارون} انتهى. و {كثيراً} نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه. قال الزمخشري: و {أن} هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول. وقال ابن عطية: و {أن} في قوله {أن اقذفيه} بدل من ما يعني أنّ {أن} مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب. والوجهان سائغان. وقال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك {ولتصنع} أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك. والعامل في {إذا} قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ. وقال الزمخشري العامل في {إذ تمشي} {ألقيت} أو تصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من {إذ أوحينا} فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك. وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى. وقال الحوفي: {إذ} متعلقة بتصنع، ولك أن تنصب {إذ} بفعل مضمر تقديره واذكر.

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى * اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَكَ بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاٍّولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَبٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَتٍ شَتَّى * كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَمَكُمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لأيَتٍ لاٌّوْلِى النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَهُءَايَتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يمُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى

* فَتَنَزَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى * قَالُواْ إِنْ هَذَنِ لَسَاحِرَنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى * اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَكَ بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاٍّولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَبٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى} و {أخوك} معطوف على الضمير المستكن في {اذهب أنت وربك} في سورة المائدة وقول بعض النحاة، أن {وربك} مرفوع على إضمار فعل، أي وليذهب ربك وذلك البحث جار هنا. قال القشيري: والخلق المخلوق لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء، وعلى هذا مفعول {أعطى} الأول {كل شيء} والثاني {خلقه} .

وقيل {كل شيء} هو المفعول الثاني لأعطى و {خلقه} المفعول الأول أي {أعطى} خليقته {كل شيء} يحتاجون إليه ويرتفقون به. وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّموأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام خَلَقَهُ بفتح اللام فعلاً ماضياً في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء، ومفعول {أعطى} الثاني حذف اقتصاراً أي {كل شيء خلقه} لم يخله من عطائه وإنعامه. وقرأ السلمي لا يُضِلُّ ربِيَ ولا يُنْسَى مبنيتين للمفعول، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه. وقيل: هما في موضع وصف لقوله {في كتاب} والضمير العائد على الموصوف محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه.

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَتٍ شَتَّى * كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَمَكُمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لأيَتٍ لاٌّوْلِى النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَهُءَايَتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يمُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَزَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى * قَالُواْ إِنْ هَذَنِ لَسَاحِرَنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى {فأخرجنا} وقوله {كلوا وارعوا أنعامكم} وقوله {ولقد أريناه} فيكون قوله {فأخرجنا} و {أريناه} التفاتاً من الضمير الغائب في {أعل} وسلك إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله {ربي} فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله {فأخرجنا} {ولقد أريناه} .

والأجود أن يكون {شتى} في موضع نصب نعتاً لقوله {أزواجاً} لأنها المحدث عنها. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة للنبات. وقال القشيري: الأظهر أنه مصدر ولذلك قال {لا نخلفه} أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه. وقال الزمخشري: إن جعلته زماناً نظراً في قوله {موعدكم يوم الزينة} مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب {مكاناً} وإن جعلته مكاناً لقوله {مكاناً سُويّ} لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله {موعدكم يوم الزينة} وقراءة الحسن غير مطابقة له {مكاناً} جميعاً لأنه قرأ {يوم الزينة} بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد. ويجعل الضمير في {نخلفه} و {مكاناً} بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: كيف طابقته قوله {موعدكم يوم الزينة} ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل {بيننا وبينك} وعداً {لا نخلفه} فإن قلت: فبم ينتصب {مكاناً} ؟ قلت: بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر، فإن قلت: كيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة.

ويجوز على قراءة الحسن أن يكون {موعدكم} مبتدأ بمعنى الوقت و {ضحىخبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله لا نخلفه} وهو موصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. وقوله و {ضحى} خبره على نية التعريف فيه، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة. ولو قلت: جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه.

وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلُفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأم. وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد. وقال الحوفي {موعداً} مفعول اجعل {مكاناً} طرف العامل فيه اجعل. وقال أبو علي {موعداً} مفعول أولا لأجعل و {مكاناً} مفعول ثان، ومنع أن يكون {مكاناً} معمولاً لقوله {موعداً} لأنه قد وصف. قال ابن عطية: وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل {ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان} فقوله إذ متعلق بقوله لمقت. وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون {مكاناً} نصباً على المفعول الثاني لنخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يحلف الموعد انتهى. وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون. {ولا أنت} معطوف على الضمير المستكن في {تخلفه} المؤكد بقوله {نحن} . وقال الأخفش {سوى} مقصور إن كسرت سينه أو ضممت، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل، ووسط بين الفريقين. وقال الشاعر: وإن أبانا كان حل بأهله سوىبين قيس قيس غيلان والفزر قال: وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس. وقالت فرقة: معنى مكاناً سُوًى: مكاننا.

هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة. قال صاحب اللوامح {وأن يحشر} الحاشر {الناس ضحى} فحذف الفاعل للعلم به انتهى. وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين. وقال غيره {وأن يحشر} القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله {موعدكم} وجعل {يحشر} لفرعون ويجوز أن يكون {وأن يحشرْ} في موضع رفع عطفاً على {يوم الزينة} وأن يكون في موضع جر عطفاً على {الزينة} وانتصب {ضحًى} على الظرف وهو ارتفاع النهار. وقال الزجاج: اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد. وقيل: ها ضمير القصة وليس محذوفاً، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها {إن هذان لساحران} وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف. وقيل {إنْ} بمعنى نعم، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و {هذان لساحران} مبتدأ وخبر واللام في {لساحران} على ذينك التقديرين في هذا التخريج، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حُكِي ذلك عن الكسائي، ولبني العنبر وبنى الهجيم ومراد وعذرة. وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً.

وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير {إنْ} بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون {هذان} ابن كثير، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هي المخففة من الثقيلة و {هذانمبتدأ ولساحران} الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ. وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمر وإن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله {فذانك برهانان إحدى ابنتي هاتين} بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً. انتصب {صفاً} على الحال أي مصطفين أو مفعولاً به.

{قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأٌّعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَرُونَ وَمُوسَى * قَالَءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنْيَآ * إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَيَنَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّلِحَتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَتُ الْعُلَى * جَنَّتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى * وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى * يبَنِى إِسْرَءِيلَ قَدْ

أَنجَيْنَكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأٌّيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَلِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى * وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَنَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى * قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ * أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى * قَالُواْ}

{قَالُواْ يمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأٌّعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَرُونَ وَمُوسَى * قَالَءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنْيَآ * إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَيَنَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّلِحَتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَتُ الْعُلَى * جَنَّتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى}

وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعاً وإما أن يكون منصوباً والمعنى أنك تختار أحد الأمرين، وقدّر الزمخشري الرفع الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبر المبتدأ محذوف، واختار أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله {وإما أن نكون أول من ألقى} فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإن كان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدّرنا إلقاؤك أول، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزم من ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية. وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه. وقدّر الزمخشري النصب اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، وتفسير الإعراب {إما} نختار {أن تلقي} وتقدم نحو هذا التركيب في الأعراف. قال أبو البقاء: {فإذا حبالهم} الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان، والعامل فيه ألقوا انتهى. فقوله {فإذا} الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا ليست هذه فاء جواب لأن فألقوا لا تجاب، وإنما هي للعطف عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف. وقوله وإذا في هذا ظرف مكان يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان وهو مذهب المبرد وظاهر كلام سيبويه، وقوله: والعامل فيه ألقوا ليس بشيء لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو {حبالهم وعصيهم} إن لم يجعلها هي في موضع الخبر، لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال، وهذا نظير: خرجت فإذا الأسد رابض ورابضاً فإذا رفعنا رابضاً كانت إذا معمولة، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان، وإذا نصبتا كانت خبراً ولذلك تكتفي بها، وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد.

وقال الزمخشري: يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى {فإذا حبالهم وعصيهم} ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى. فقوله: والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب الرياشي أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضاً وقوله الطالبة ناصباً لها صحيح، وقوله: وجملة تضاف إليها هذا عند أصحابنا ليس بصحيح لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض لجملة أو معمولة لبعضها، فلا تمكن الإضافة. وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها، وقوله والجملة ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية تقول: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك سأله الاشتغال خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو، برفع زيد ونصبه، وأما قوله: والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدّر له بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه. فإذا قلت: خرجت فإذا السبع، فالمعنى أنه فاجني السبع وهجم ظهوره.

و {أنها تسعى} بدل اشتمال من ذلك الضمير. وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء أي تتخيل وفيها أيضاً ضمير ما ذكر و {وأنها تسعى} بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى. وقال ابن عطية: إنها مفعول من أجله. وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل، و {أنها تسعى} في موضع نصب على المفعول به. وقرأ الجمهور تَلَقَّف بفتح اللام وتشديد القاف مجزوماً على جواب الأمر. وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى. {وأينا أشد} جملة استفهامية من مبتدإ وخبر في موضع نصب لقوله {ولتعلمنّ} سدّت مسد المفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كان {لتعلمنّ} معدى تعدية عرف، ويجوز على الوجه أن يكون {أينا} مفعولاً {لتعلمن} وهو مبني على رأي سيبويه و {أشد} خبر مبتدأ محذوف، و {أينا} موصولة والجملة بعدها صلة والتقدير و {لتعلمنّ} من هو {أشد عذاباً وأبقى} . و {ما} موصولة بمعنى الذي وصلته {أنت قاض} والعائد محذوف أي ما أنت قاضيه. قيل: ولا يجوز أن تكون {ما} مصدرية لأن المصدرية توصل بالأفعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر انتهى. وهذا ليس مجمعاً عليه بل قد ذهب ذاهبون من النحاة إلى أن {ما} المصدرية توصل بالجملة الاسمية. وانتصب {هذه الحياة} على الظرف وما مهيئة ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك كائن في {هذه الحياة الدنيا} لا في الآخرة. وقرأ الجمهور {تقضي} مبنياً للفاعل خطاباً لفرعون.h وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة تُقْضَى مبنياً للمفعول هذه الحياة بالرفع اتسع في الظرف فاجْرِي مجرى المفعول به، ثم بُني الفعل لذلك ورفع به كما تقول: صم يوم الجمعة وولد له ستون عاماً.

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى * يبَنِى إِسْرَءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأٌّيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَلِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى * وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى * قَالَ} وقرأ الجمهور: لا تخاف وهي جملة في موضع الحال من الضمير {فاضرب} وقيل في موضع الصفة للطريق، وحذف العائد أي لا تخاف فيه. وقرأ الأعمش: وحمزة وابن أبي ليلى {لا تخف} بالجزم على جواب الأمر أو على نهي مستأنف قاله الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش، دَرْكاً بسكون الراء والجمهور بفتحها، والدرك والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك {ولا تخشى} أنت ولا قومك غرقاً وعطفه على قراءة الجمهور لا تخاف ظاهر، وأما على قراءة الجزم فخرج على أن الألف جيء بها لأجل أواخر الآي فاصلة نحو قوله {فأضلونا السبيلا} وعلى أنه إخبار مستأنف أي وأنت {لا تخشيْ} وعلى أنه مجزوم بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال: ألم يأتيك وهي لغة قليلة. وقال الشاعر: إذا العجوز غضبت فطلقولا ترضاها ولا تملق

وقرأ الجمهور: {فَأَتْبَعَهمْ} بسكون التاء، وأتبع قد يكون بمعنى تبع فيتعدى إلى واحد كقوله {فاتبعه الشيطان} وقد يتعدى إلى اثنين كقوله: وأتبعناهم ذرياتهم فتكون التاء زائدة أي جنوده، أو تكون للحال والمفعول الثاني محذوف أي رؤساؤه وحشمه. وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن فاتَّبعَعهم بتشديد التاء وكذا عن الحسن في جميع ما في القرآن إلا {فأتبعه شهاب ثاقبه} والباء في بجنوده في موضع الحال كما تقول: اخرج زيد بسلاحه أو الباء للتعدي لمفعول ثان بحرف جر، إذ لا يتعدى اتبع بنفسه إلا إلى حرف واحد. وقرأ الجمهور {فغشيهم من اليم ما غشيهم} على وزن فعل مجرد من الزيادة. وقرأت فرقة منهم الأعمش فغشاهم من اليم ما غشاهم بتضعيف العين فالفاعل في القراءة الأولى {ما} وفي الثانية الفاعل الله أي فغشاهم الله. وقرىء {الأيمن} قال الزمخشري بالجر على الجواز نحو جحر ضب خرب انتهى. وهذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرّج القراءة عليه، والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن. {غضبي} في موضع نصب مفعول به. وقد يجوز أن يسند الفعل إلى {غضبي} فيصير في موضع رفع بفعله، وقد حذف منه المفعول للدليل عليه وهو العذاب أو نحوه انتهى.

{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يمُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَنَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى * قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ * أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى * قَالُواْ} و {على أثري} يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال. وقرأ الجمهور: {وأضلهم} فعلاً ماضياً. وقرأ أبو معاذ وفرقة وأضَلُهم برفع اللام مبتدأ والسامري خبره. وانتصب {وعداً} على المصدر والمفعول الثاني ليعدكم محذوف أو أطلق الوعد ويراد به الموعود فيكون هو المفعول الثاني. {موعدي} مصدر يحتمل أن يضاف إلى الفاعل أي أوجدتموني أخلفت ما وعدتكم من قول العرب. فلان أخلف وعد فلان إذا وجد وقع فيه الخلف قاله المفضل، وأن يضاف إلى المفعول. والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي {يملكنا} الصواب.

{أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} وهذا كقول إبراهيم ليه {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} والرؤية هنا بمعنى العلم، ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء {ألم يروا أنه لا يكلمهم} بأن الثقيلة وبرفع يرجع قرأ الجمهور. وقرأ أبو حيوة {أن لا يرجع} بنصب العين قاله ابن خالويه وفي الكامل ووافقه على ذلك وعلى نصب {ولا يملك} الزعفراني وابن صبيح وأبان والشافعي محمد بن إدريس الإمام المطلبي جعلوها أن الناصبة للمضارع وتكون الرؤية من الإبصار. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى * قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يسَمِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً * إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً * كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً *

مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وِزْراً * خَلِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً * وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً * وَكَذلِكَ أَنزَلْنَهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً * وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يئَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ

تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَنُ قَالَ يئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الأٌّخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَتٍ لاٌّوْلِى النُّهَى * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْءَانَآءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَقِبَةُ لِلتَّقْوَى * وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ

الاٍّولَى * وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَءَايَتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَبُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى * قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يسَمِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً * إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً} وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر {إن ربكم الرحمن} فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن. وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقاً.

دلالة على أن {لن} لا تقتضي التأييد خلافاً للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملاً فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية. وقرأ الجمهور {لا مساس} بفتح السين والميم المكسورة و {مساس} مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. فقال صاحب اللوامح: هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها إلا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى. وظاهر هذا أن مساس اسم فعل. وقال الزمخشري {لا مساس} بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء: إن وردن الماء فلا عبابوإن فقدنه فلا إباب وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب. وقال ابن عطية {لا مساس} هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه، والشبه صحح من حيث هي معدولات، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر. ومن هذا قول الشاعر: تميم كرهط السامري وقولهألا لا يريد السامري مساس انتهى. فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة، كفجار معدولاً عن الفجرة.

وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر {ظَلْتَ} بظاء مفتوحة ولام ساكنة. وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أظله ظللت. وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل. وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراً ثم حذف اللام، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر. وقرأ الجمهور {وسع} فانتصب علماً على التمييز المنقول من الفاعل، وتقدم نظيره في الأنعام. وقرأ مجاهد وقتادة وسَّع بفتح السين مشددة. قال الزمخشري: وجهه أن {وسعْ} متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء. وأما {عِلماً} فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول: خاف زيد عمراً خوّفت زيداً عمراً، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً.

{كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً * مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وِزْراً * خَلِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً * وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً * وَكَذلِكَ أَنزَلْنَهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً}

وقرأ الجمهور {يحمل} مضارع حمل مخففاً مبنياً للفاعل. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع: يُحَمِّل مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعاً و {وزراً} مفعول ثان و {وزراً} ثقلاً باهظاً يؤده حمله وهو ثقل العذاب. وقال مجاهد: إثماً. وقال الثوري شركاً والظاهر أنه عبَّر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال {خالدين فيه} أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين، والضمير في {لهم} حملاً على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل، والمخصوص بالذم محذوف أي وزرهم و {لهم} للبيان كهي في {هيت لك} لا متعلقة بساء {وساء} هنا هي التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى. ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة. وقرأ الجمهور {يُنفخ} مبنياً للمفعول {ونحشر} بالنن مبنياً للفاعل بنون العظمة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد: ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمرية، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و {الصور} تقدم الكلام فيه في الأنعام. وقرىء يَنْفُخُ ويَحْخشرُ بالياء فيهما مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة {في الصور} على وزن درر والحسن: يُحْشَرُ، بالياء مبنياً للمفعول، ويَحْشُرُ مبنياً للفاعل، وبالياء أي ويحشر الله. و {إذ} معمولة لأعلم. و {أمثلهم} أعدلهم. و {طريقة} منصوبة على التمييز. يومئذ بدل من {يومئذ يتبعون} أو يكون التقدير يوم إذ {يتبعون} ويكون منصوباً بلا تنفع و {منْ} مفعول بقوله {لا تنفع} و {له} معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلاّ شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز، ورفع على لغة تميم.

وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام، أو نحدث بالنون وجزم الثاء، وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالاً لحركته نحو قول جرير: أو نهر تيري فلا تعرفكم العرب وقرأ الجمهور: {يقضى إليك} مبنياً للمفعول {وجيه} مرفوع به. وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي. قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفاً انتهى.

{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يئَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَنُ قَالَ يئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الأٌّخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه لا له عزماً) . {فتشقى} يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي، وأن يكون مرفوعاً على تقدير فأنت تشقى.

وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك، والفتح عطف على المصدر المنسبك من أن لا تجوع، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك، وجاز عطف {أنك} على أن لاشتراكهما في المصدر، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كان على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن، وهو أن لا تجوع لكنه في العطف ما لا يجوز في المباشرة. وضنك: مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع. وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك. وقرأ الجمهور {ضنكاً} بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب. وقرأ الجمهور {ونحشره} بالنون، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً، ويجوز أن يكون جرماً بالعطف على موضع {فإن له معيشة ضنكاً} لأنه جواب الشرط، وكأنه قيل {ومن أعرض عن ذكري} تكن له معيشة ضنك {ونحشره} ومثله {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم} في قراءة من سكن ويذرهم.

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَتٍ لاٌّوْلِى النُّهَى * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْءَانَآءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَقِبَةُ لِلتَّقْوَى * وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاٍّولَى * وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَءَايَتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَبُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} والفاعل ليهد ضمير عائد على الله تعالى، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج. وقيل: الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء والنظر والاعتبار. وقال ابن عطية: وهذا أحسن ما يقدر به عندي انتهى. وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره {يهذ} هو أي الهدى. وقال أبو البقاء: الفاعل ما دل عليه {أهلكنا} والجملة مفسرة له.

وقال الزمخشري: فاعل {لم يهذ} الجملة بعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى {وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين} أي تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكون الجملة فاعلاً هو مذهب كوفي، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله {ولو تركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين} فإن تركنا عليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكي بمعنى القول كما تحكى بلفظه، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله كأنه قال {أفلم} يبين الله ومفعول يبين محذوف، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال {كم أهلكنا} أي كثيراً أهلكنا، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ليهد. وقال الحوفي: قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل {يهد} وأنكر هذا على قائله لأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها انتهى. وليست كم هنا استفهاماً بل هي خبرية. وقال أبو البقاء: {يهد لهم} في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم الله تعالى أي ألم يبين الله لهم وعلق {يهد} هنا إذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} انتهى. و {كم} هنا خبرية والخبرية لا تعلق العامل عنها، وإنما تعلق عنه الاستفهامية. و {يمشون في مساكنهم} جملة في موضع الحال من ضمير {لهم} والعامل {يهذ} أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار. وقيل: حال من مفعول {أهلكنا} أي أهلكناهم غارين آمنين متصرّفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهم به.

والظاهر عطف {وأجل مسمى} على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه، وفصل بينهما بجواب {لولا} لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي، وأجاز الزمخشري أن يكون {وأجل} معطوفاً على الضمير المستكن في كان قال أي {لكان} الأخذ العاجل {وأجل مسمى} . وقرأ الجمهور: {وأطراف} بنصب الفاء وهو معطوف على {ومن آناء الليل} . وقيل: معطوف على {قبل طلوع الشمس} وقرأ الحسن وعيسى بن عمر {وأطراف} بخفض الفاء عطفاً على {آناء} . وانتصب {أزواجاً} على أنه مفعول به، والمعنى أصنافاً من الكفرة و {منهم} في موضع الصفة لأزواجاً أي أصنافاً وأقواماً من الكفرة. كما قال: {وآخر من شكله أزواج} . وأجاز الزمخشري أن ينتصب {أزواجاً} عن الحال من ضمير {به} و {متعنا} مفعوله منهم كأنه قيل إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم، وناساً منهم. و {زهرة} منصوب على الذم أو مفعول ثان لمتعنا على تضمينه معنى أعطينا أو بدل من محل الجار والمجرور، أو بدل من {أزواجاً} على تقدير ذوي زهرة، أو جعلهم {زهرة} على المبالغة أو منصوب بفعل محذوف يدل عليه {متعنا} أي جعلنا لهم {زهرة} أو حال من الهاء، أو ما على تقدير حذف التنوين من {زهرة} لالتقاء الساكنين وخبر {الحياة} على البدل من {ما} وكل هذه الأعاريب منقول والأخير اختاره مكي، وردّ كونه بدلاً من محل {ما} لأن فيه الفصل بالبدل بين الصلاة وهي {متعنا} ومعمولها وهو {لنفتنهم} فالبدل وهو {زهرة} . وقرأ الجمهور بإضافة {بينة} إلى {ما} وفرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو بالتنوين و {ما} بدل. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون ما نفياً وأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب. وقرأت فرقة بنصب {بينة} والتنوين و {ما} فاعل بتأتهم و {بينة} نصب على الحال.

سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

و {من أصحاب} مبتدأ وخبر علق عنه فستعلمون وأجاز الفراء أن تكون ما موصولة بمعنى الذي فتكون مفعولة بفستعلمون و {أصحاب} خبر مبتدأ محذوف تقديره الذي هم أصحاب، وهذا جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف مثل هذا الضمير مطلقاً سواء كان في الصلة طول أم لم يكن وسواء كان الموصول أياً أم غيره. وقرأ الجحدري وابن يعمر السوأى على وزن فعلى أنث لتأنيث {الصراط} وهو مما يذكر ويؤنث تأنيث الأسواء من السوأى على ضد الاهتداء قوبل به {ومن اهتدى} على الضد ومعناه {فستعلمون} أيها الكفار من على الضلال ومن على الهدى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس الصراط السوء وقد روي عنهما أنهما قرآ السوأى على وزن فعلى، فاحتمل أن يكون أصله السووي إذ روي ذلك عنهما فخفف الهمزة بإبدالها واواً وأدغم، واحتمل أن يكون فعلى من السواء أبدلت ياؤه واواً وأدغمت الواو وفي الواو، وكان القياس أنه لما بني فعلى من السواءان يكون السويا فتجتمع واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فتقلب الواو ياء وتدغم في الياء، فكان يكون التركيب السيا. وقرىء السُوَيّ بضم السين وفتح الواو وشد الياء تصغير السوء. قاله الزمخشري، وليس بجيد إذ لو كان تصغير سوء لثبتت همزته في التصغير، فكنت تقول سؤيي والأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطاء عطي. سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مائة واثنتا عشرة آية مكية

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَبُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُواْ أَضْغَثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِئَايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأٌّوَّلُونَ * مَآءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَلِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ * لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}

و {للناس} متعلق باقترب. وقال الزمخشري: هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كما تقول أزف للحي رحيلهم، الأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي رحيلهم ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثني فيه المستقر توكيداً عليك زيد حريص عليك، وفيك زيد راغب فيك ومنه قولهم: لا أبا لك لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة، وهذا الوجه أغرب من الأول انتهى يعني بقوله صلة أنها تتعلق باقترب، وأما جعله اللام تأكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحداً يقول ذلك، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به ولا يمكن تعلقها بحسابهم لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه، وأيضاً فالتوكيد يكون متأخراً عن المؤكد وأيضاً فلو أخر في هذا التركيب لم يصح. وأما تشبيهه بما أورد سيبويه فالفرق واضح لأن عليك معمول لحريص، وعليك الثانية متأخرة توكيداً وكذلك فيك زيد راغب فيك يتعلق فيك براغب، وفيك الثانية توكيد، وإنما غره في ذلك صحة تركيب حساب الناس. وكذلك أزف رحيل الحي فاعتقد إذا تقدّم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب فيك زيد راغب فيك وليس مثله، وأمّا لا أبا لك فهي مسألة مشكلة وفيها خلاف، ويمكن أن يقال فيها ذلك لأن اللام جاورت الإضافة ولا يقاس على مثلها غيرها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة، وقد أمعنّا الكلام عليها في شرح التسهيل والواو في {وهم} واو الحال.

وقرأ الجمهور {محدث} بالجر صفة لذكر على اللفظ، وابن أبي عبلة بالرفع صفة لذكر على الموضع، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال {من ذكر} إذ قد وصف بقوله {من ربهم} ويجوز أن يتعلق {من ربهم} بيأتيهم. و {استمعوه} جملة حالية وذو الحال المفعول في {ما يأتيهم} {وهم يلعبون} جملة حالية من ضمير {استمعوه} و {لاهية} حال من ضمير {يلعبون} أو من ضمير {استمعوه} فيكون حالاً بعد حال، واللاهية من قول العرب لهي عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهياً ولهياناً، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى {لاهية} بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله {وهم} . وجوزوا في إعراب {الذين ظلموا} وجوهاً الرفع والنصب والجر، فالرفع على البدل من ضمير {وأسروا} إشعاراً أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل، والواو في {أسروا} علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما. قيل: وهي لغة شاذة. قيل: والصحيح أنها لغة حسنة، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله {ثم عموا وصموا كثير منهم} وقال شاعرهم: يلومونني في اشتراءالنخيل أهلي وكلهم ألوم أو على أن {الذين} مبتدأ {وأسروا النجوى} خبره قاله الكسائي فقدّم عليه، والمعنى: وهؤلاء {أسروا النجوى} فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم أنه ظلم، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول {الذين ظلموا} والقول كثيراً يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم. وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا. وقيل: {الذين} خبر مبتدأ محذوف، أي هم {الذين} والنصب على الذم قاله الزجاج، أو على إضمار أعني قاله بعضهم. والجر على أن يكون نعتاً للناس أو بدلاً في قوله {اقترب للناس} قاله الفراء وهو أبعد الأقوال.

وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله: {وأسروا النجوى} وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى. وقال الزمخشري: في محل نصب بدلاً من {النجوى} أي {وأسروا} هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً انتهى. والكاف في {كما أرسل} يجوز أن يكون في موضع النعت لآية، وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال {الأولين} ، ويجوز أن يكون في النعت لمصدر محذوف أي إتياناً مثل إرسال {الأولين} أي مثل إتيانهم بالآيات. و {صدقناهم الوعد} من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف أي في {الوعد} وهو باب لا ينقاس عند الجمهور، وإنما يحفظ من ذلك أفعال قليلة ذكرت في النحو ونظير {صدقناهم الوعد} قولهم: صدقوهم القتال وصدقني سن بكره وصدقت زيداً الحديث. وعن ابن عباس: {ذكركم} شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَلِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماًءَاخَرِينَ * فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُواْ يوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ * فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَهُمْ حَصِيداً خَمِدِينَ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} جواب لما {إذاً} الفجائية وما بعدها، وهذا أحد الدلائل على أن لما في هذا التركيب حرف لا ظرف، وقد تقدم لنا القول في ذلك. واسم {زالت} هو اسم الإشارة وهو {تلك} وهو إشارة إلى الجملة المقولة أي فما زالت تلك الدعوى {دعواهم}

وقال الحوفي: وتبعه الزمخشري وأبو البقاء: {تلك} اسم {زالت} و {دعواهم} الخبر ويجوز أن يكون {دعواهم} اسم {زالت} و {تلك} في موضع الخبر انتهى. وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء قاله الزجاج قبلهم، وأما أصحابنا المتأخرون فاسم كان وخبرها مشبه بالفعل والمفعول، فكما لا يجوز في باب الفاعل والمفعول إذا ألبس أن يكون المقتدم الخبر والمتأخر الاسم لا يجوز ذلك في باب كان، فإذا قلت: كان موسى صديقي لم يجز في موسى إلا أن يكون اسم كان وصديقي الخبر، كقولك: ضرب موسى عيسى، فموسى الفاعل وعيسى المفعول، ولم ينازع في هذا من متأخري أصحابنا إلاّ أبو العباس أحمد بن عليّ عُرِّف بابن الحاج وهو من تلاميذ الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ونبهائهم، فأجاز أن يكون المتقدم هو المفعول والمتأخر هو الفاعل وأن ألبس فعلى ما قرره جمهور الأصحاب يتعين أن يكون {تلك} اسم {زالت} و {دعواهم} الخبر. و {حصيداً} مفعول ثان. قال الحوفي: و {خامدين} نعت لحصيداً على أن يكون {حصيداً} بمعنى محصودين يعني وضع المفرد ويراد به الجمع، قال: ويجوز أن يجعل {خامدين} حالاً من الهاء والميم. وقال الزمخشري: {جعلناهم} مثل الحصيد شبههم في استئصالهم واصطلامهم كما تقول: جعلناهم رماداً أي مثل الرماد، والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليهما جعل نصبهما جمعياً على المفعولية. فإن قلت: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد لأن معنى قولك: جعلته حلواً حامضاً جعلته للطعمين، وكذلك معنى ذلك {جعلناهم} جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، والخمود عطف على المماثلة لا على الحصيد انتهى. والظاهر أن {أن} هنا شرطية وجواب الشرط محذوف، يدل عليه جواب {لو} أي إن كنا فاعلين اتخذناه إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله. وقال الحسن: وقتادة وجريج {أن} نافية أي ما كنا فاعلين.

ثم أخبر تعالى أن من في السموات والأرض ملك له فاندرج فيه من سموه بالصاحبة والولد ومن عنده هم الملائكة، واحتمل أن يكون معطوفاً على {من} فيكونون قدر اندرجوا في الملائكة بطريق العموم لدخولهم في {من} وبطريق الخصوص بالنص على أنهم من عنده، ويكون {لا يستكبرون} جملة حالية منهم أو استئناف إخبار، واحتمل أن يكون ومن عنده مبتدأ وخبره {لا يستكبرون} . {أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الأٌّرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِءَالِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَنَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ * وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّلِمِينَ} {أم} هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة ففيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر، واستفهام معناه التعجب والإنكار أي. والضمير في {فيهما} عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم. و {إلا} صفة لآلهة أي آلهة غير {الله} وكون {إلا} يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله: وكل أخ مفارقه أخوهلعمر أبيك إلا الفرقدان

قال الزمخشري: فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه. وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون بدلاً لأن المعنى يصير إلى قولك {لو كان فيهما} الله {لفسدتا} ألا ترى أنك لو قلت: ما جاءني قومك إلاّ زيد على البدل لكان المعنى جاءني زيد وحده. وقيل: يمتنع البدل لأن ما قبله إيجاب ولا يجوز النصب على الاسثناء لوجهين، أحدهما أنه فاسد في المعنى وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القوم إلاّ زيداً لقتلهم كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، فلو نصب في الآية لكان المعنى فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله مع الآلهة، وفي ذلك إثبات الإله مع الله، وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مثل ذلك لأن المعنى {لو كان فيهما} غير {الله لفسدتا} . والوجه الثاني أن {آلهة} هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء انتهى. وأجاز أبو العباس المبرد في {إلاّ الله} أن يكون بدلاً لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى، والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف. وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل. وقال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين في مسألة سيبويه: لو كان معنا رجل إلاّ زيد لغلبنا أن المعنى لو كان معنا رجل مكان زيد لغلبنا فإلا بمعنى غير التي بمعنى مكان. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ: لا يصح المعنى عندي إلاّ أن تكون {إلاّ} في معنى غير الذي يراد بها البدل أي {لو كان فيهما آلهة} عوض واحد أي بدل الواحد الذي هو {الله لفسدتا} وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة انتهى. وقرأ الجمهور: بإضافة {ذكر} إلى {من} فيهما على إضافة المصدر إلى المفعول كقوله {بسؤال نعجتك} .

وقرىء بتنوين {ذكر} فيهما و {من} مفعول منصوب بالذكر كقوله {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} . وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب والظاهر نصبه على المفعول به فلا يعلمون أي أصل شرهم وفسادهم هو الجهل وعدم التمييز بين الحق والباطل، ومن ثم جاء الإعراض عنه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على معنى التوكيد لمضمون الجملة السابقة كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل، فأكد نسبة انتفاء العلم عنهم. وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري: والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم، وذلك على مذهب البصريين. {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِى الأٌّرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْءَايَتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَرَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَلِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}

وقرأ الجمهور {رتْقاً} بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور وعدل فوقع خبراً للمثنى. وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وأبو حيوة وعيسى {رتقاً} بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم. فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي {كانتاً} شيئاً {رتقاً} . وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسماً بمعنى المفعول والساكن مصدر، أو قد يكونان مصدرين لكن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لكن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين، ألا ترى أنه قال {كانتا رتقاً} فلو جعلت أحدهما اسماً لوجب أن تثنيه فلما قال {رتقاً} كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى. وقرأ الجمهور {حي} بالخفض صفة لشيء. وقرأ حميد حياً بالنصب مفعولاً ثانياً لجعلنا، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولاً ثانياً {لجعلنا} . والظاهر أن الضمير في {فيها} عائد على الأرض. وقيل يعود على الرواسي، وجاء هنا تقديم {فجاجاً} على قوله {سبلاً} وفي سورة نوح {لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً} . فقال الزمخشري: وهي يعني {فجاجاً} صفة ولكن جعلت حالاً كقوله: لمية موحشاً ظلل يعني أنها حال من سبل وهي نكرة، فلو تأخر {فجاجاً} لكان صفة كما في تلك الآية ولكن تقدم فانتصب على الحال. (التنوين في {كلٌّ} عوض من المضاف إليه) .

وهذه الجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار فلا محل لها، أو محلها النصب على الحال من {الشمس والقمر} والفاء في {أفإن متّ} العطف قدّمت عليها همزة الاستفهام لأن الاستفهام له صد الكلام، دخلت على إن الشرطية والجملة بعدها جواب للشرط، وليست مصب الاستفهام فتكون الهمزة داخلة عليها، واعترض الشرط بينهما فحذف جوابه هذا مذهب سيبويه. وزعم يونس أن تلك الجملة هي مصب الاستفهام والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف. قال ابن عطية: وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط انتهى. وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه إذ لو كان على ما زعم يونس لكان التركيب {أفإن مت} هم {الخالدون} بغير فاء، وللمذهبينن تقرير في علم النحو. وانتصب {فتنة} على أنه مفعول له أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى {نبلوكم} . {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَفِرُونَ * خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْءَايَتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ}

و {إن} نافية بمعنى ما، والظاهر أن جواب {إذا} هو {أن يتخذونك} وجواب إذا بان النافية لم يرد منه في القرآن إلا هذا وقوله في القرآن {وإذا رأوك أن يتخذونك إلاّ هزواً} ولم يحتج إلى الفاء في الجواب كما لم تحتج إليه ما إذا وقعت جواباً كقوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} ما كان حجتهم بخلاف أدوات الشرط، فإنها إذا كان الجواب مصدراً بما النافية فلا بد من الفاء، نحو إن تزورنا فما نسيء إليك. وفي الجواب لاذا بأن وما النافيتين دليل واضح على أن {إذا} ليست معمولة للجواب، بل العامل فيها الفعل الذي يليها وليست مضافة للجملة خلافاً لأكثر النحاة. وقد استدللنا على ذلك بغير هذا من الأدلة في شرح التسهيل. وقيل: جواب {إذا} محذوف وهو يقولون المحكي به قولهم {أهذا الذي يذكر آلهتكم} وقوله {أن يتخذونك إلاّ هزواً} كلام معترض بين {إذا} وجوابه و {يتخذونك} يتعدى إلى اثنين، والثاني {هزواً} . والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير في يقولون المحذوف. وقال الزمخشري: والجملة في موضع الحال أي {يتخذونك هزواً} وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله انتهى. فجعل الجملة الحالية العامل فيها {يتخذونك هزواً} المحذوفة وكررهم على سبيل التوكيد. وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم {خَلَقَ} مبنياً للفاعل {الإنسان} بالنصب أي {خلق} الله {الإنسان} وقوله {متى هذا الوعد} استفهام على جهة الهزء، وكان المسلمون يتوعدونهم على لسان الشرع و {متى} في موضع الجر لهذا فموضعه، ونقل عن بعض الكوفيين أن موضع {متى} نصب على الظرف والعامل فيه فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء، وجواب {لو} محذوف لدلالة الكلام عليه، وحذفه أبلغ وأهيب من النص عليه فقدره ابن عطية لما استعجلوا ونحوه، وقدره الزمخشري لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال.

قال: ويجوز أن يكون {يعلم} متروكاً فلا تعدية بمعنى {لو} كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين، و {حين} منصوب بمضمر أي {حين لا يكفون عن وجوههم النار} يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم أي لا يكفونها انتهى. والذي يظهر أن مفعول {يعلم} محذوف لدلالة ما قبله أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستنبطوه. و {حين} منصوب بالمفعول الذي هو مجيء ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف، وأعمل الثاني والمعنى لو يعلمون مباشرة النار حين لا يكفونها عن وجوههم. حين قال الزمخشري: مفعول به، ليعلم. {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأٌّرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَلِبُونَ * قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}

وقرأ الجمهور {يَسمع} بفتح الياء والميم {الصم} رفع به و {الدعاء} نصب. وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم {الصم الدعاء} بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلّم وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من نحت أي {ولا يسمع} الرسول وعنه أيضاً {ولا يسمع} مبنياً للمفعول {الصم} رفع به ذكره ابن خالويه. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو {يُسمِع} بضم الياء وكسر الميم {الصم} نصباً {الدعاء} رفعاً بيسمع، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعاً والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: ولا يسمع النداء الصم شيئاً. والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط، أو على حذف مضاف أي ذوات {القسط} ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي لأجل {القسط} . وقرىء القصط بالصاد. واللام في {ليوم القيامة} قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة: ترسمت آيات لها فعرفتهالستة أعوام وذا العام سابع انتهى. وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين، وجعل من ذلك قوله {القسط ليوم القيامة} أي في يوم، وكذلك لا يجليها لوقتها إلاّ هو أي في وقتها وأنشد شاهداً على ذلك لمسكين الدارمي: أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع وقول الآخر: وكل أب وابن وإن عمرا معاًمقيمين مفقود لوقت وفاقد وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف، أي لحساب يوم القيامة و {شيئاً} مفعول ثان أو مصدر. وقرأ الجمهور: {مثقال} بالنصب خبر {كان} أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان، وقرأ زيد بن عليّ وأبو جعفر وشيبة ونافع {مثقال} بالرفع على الفاعلية و {كان} تامة. وأنت الضمير في بها وهو عائد على مذكر وهو مثقال لإضافة إلى مؤنث الذين صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل.

واحتمل أن يكون قوله {وهم من الساعة مشفقون} استئناف إخبار عنهم، وأن يكون معطوفاً على صلة {الذين} ، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدّد دائماً كأنها إحالتهم فيما يتعلق بالدنيا، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة. والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بنى قبلوَلَقَدْءَاتَيْنَآ إِبْرَهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَلِمِينَ * إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَكِفُونَ * قَالُواْ وَجَدْنَآءَابَآءَنَا لَهَا عَبِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ الَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلِكُمْ مِّنَ الشَّهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَمَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُواْ} أي {من قبل} موسى وهارون قاله الضحاك كقوله في الأنعام {ونوحاً هدينا من قبل} أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقيل {لها} هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله {وإن أسأتم فلها} والظاهر أن اللام في {لها} لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة {عاكفون} محذوفة أي على عبادتها. وقيل: ضمن {عاكفون} معنى عابدين فعداه باللام. وقال الزمخشري: لم ينو للعاكفين محذوفاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى.

و {أنتم} توكيد للضمير الذي هو اسم {كان} قال الزمخشري: و {أنتم} من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه {اسكن أنت وزوجك الجنة} انتهى، وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل المرفوع، ولا فصل وتنظيره ذلك: باسكن أنت وزوجك الجنة مخالف لمذهبه في {اسكن أنت وزوجك} لأنه يزعم أن وزوجك ليس معطوفاً على الضمير المستكن في {اسكن} بل قوله: {وزوجك} مرتفع على إضمار، وليسكن فهو عنده من عطف الجمل وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه. وقال ابن عطية: {فطرهن} عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل. وقال غير {فطرهن} أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله {قالتا أتينا طائعين} وقوله صلى الله عليه وسلّم «أطلت السماء وحق لها أن تئط» . انتهى. وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلاً أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} والضمير عائد على الأربعة الحرم. و {على ذلكم} متعلق بمحذوف تقديره {وأنا} شاهد {على ذلكم من الشاهدين} أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في {إني لكما لمن الناصحين} .

وقرأ الجمهور {وتالله} بالتاء. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل. قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين التاء والباء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يبده وتأتيه لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتوّه واستكبار وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن. إذا الله سنى عقد شيء تيسرا انتهى. أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلاً لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة، ولا يقوم على ذلك دليل وقدر هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصفلا لآخر. وأما قوله: إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم. وقال اليزيدي {جذاذاً} بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة. وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام. وقيل: الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين. وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع. وقرأ يحيى بن وثاب جذذاً بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد. وقرىء جُعذذاً بضم الجيم وفتح الذال مخففاً من فعل كسر رفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب، أو جمع جذة كقبة وقبب.

{قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّلِمِينَ * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُواْءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِئَالِهَتِنَا يإِبْرَهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ * فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّلِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ * قُلْنَا ينَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَمَا عَلَى إِبْرَهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَهُمُ الأٌّخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَهُ}

{يذكرهم} أي بسوء. قال الفراء: يقول الرجل للرجل لئن ذكرتني لتندمن أي بسوء. قال الزمخشري: فإن قلت: ما حكم الفعلين بعد {سمعنا فتى} وأي فرق بينهما؟ قلت: هما صفتان لفتى إلا أن الأول وهو يذكرهم لا بد منه لسمع لأنك لا تقول: سمعت زيداً وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع، وأما الثاني فليس كذلك انتهى. وأما قوله: هما صفتان فلا يتعين ذلك لما أذكره إما سمع فإما أن يدخل على مسموع أو غيره إن دخلت على مسموع فلا خلاف أنها تتعدى إلى واحد نحو: سمعت كلام زيد ومقالة خالد، وإن دخلت على غير مسموع فاختلف فيها. فقيل: إنها تتعدى إلى اثنين وهو مذهب الفارسي، ويكون الثاني مما يدل على صوت فلا يقال سمعت زيداً بركب، ومذهب غيره أن سمع يتعدى إلى واحد والفعل بعده إن كان معرفة في موضع الحال منها أو نكرة في موضع الصفة، وكلا المذهبين يستدل لهما في علم النحو فعلى هذا المذهب الآخر يتمشى قول الزمخشري أنه صفة لفتى، وأما على مذهب أبي عليّ فلا يكون إلاّ في موضع المفعول الثاني لسمع وأما {يقال له إبراهيم} فيحتمل أن يكون جواباً لسؤال مقدر لما قالوا {سمعنا فتى يذكرهم} وأتوا به منكراً قيل: من يقال له فقيل له إبراهيم، وارتفع {ابراهيم} على أنه مقدر بجملة تحكى بقال، إما على النداء أي {يقال له} حين يدعى يا {ابراهيم} وإما على خبر مبتدأ محذوف أي هو {ابراهيم} أو على أنه مفرد مفعول لما لم يسم فاعله، ويكون من الإسناد للفظ لا لمدلوله، أي يطلق عليه هذا اللفظ وهذا الآخر هو اختيار الزمخشري وابن عطية، وهو مختلف في إجازته فذهب الزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى تجويز نصب القول للمفرد مما لا يكون مقتطعاً من جملة نحو قوله: إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة

ولا مفرداً معناه معنى الجملة نحو قلت: خطبة ولا مصدراً نحو قلت قولاً، ولا صفة له نحو: قلت حقاً بل لمجرد اللفظ نحو قلت زيداً. ومن النحويين من منع ذلك وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال: فلان زيداً ولا قال ضرب ولا قال ليت، وإنما وقع القول في كلام العرب لحكاية الجمل وذهب الأعلم إلى أن {ابراهيم} ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه، إذ القول لا يؤثر إلاّ في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملاً والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم: واحد واثنان إذا عدّوا ولم يدخلوا عاملاً لا في اللفظ ولا في التقدير، وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض، والكلام على مذهب الأعلم وإبطاله مذكور في النحو. فعلى أعين الناس في موضع الحال و {على} معناها الاستعلاء المجازي. وارتفاع {أنت} المختار أنه بفعل محذوف يفسره {فعلت} ولما حذف انفصل الضمير، ويجوز أن يكون مبتدأ وإذا تقدم الاسم في نحو هذا التركيب على الفعل كان الفعل صادراً واستفهم عن فاعله وهو المشكوك فيه، وإذا تقدم الفعل كان الفعل مشكوكاً فيه فاستفهم عنه أوقع أو لم يقع، والظاهر أن {بل} للإضراب عن جملة محذوفة أي قال لم أفعله إنما الفاعل حقيقة هو الله. و {علمت} هنا معلقة، والجملة المنفية في موضع مفعولي علمت إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد.

{قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ * قُلْنَا ينَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَمَا عَلَى إِبْرَهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَهُمُ الأٌّخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَهُ وَلُوطاً إِلَى الأٌّرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَلَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَلِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَتِ وَإِقَامَ الصَّلوة وَإِيتَآءَ الزَّكَوةِ وَكَانُواْ لَنَا عَبِدِينَ * وَلُوطاً آتَيْنَهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَئِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَهُ فِى رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّلِحِينَ * وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَهُمْ أَجْمَعِينَ * وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَهِدِينَ * فَفَهَّمْنَهَا سُلَيْمَنَ وَكُلاًّءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأٌّرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَفِظِينَ}

وقيل: النافلة ولد الولد فعلى الأول يكون مصدراً كالعاقبة والعافية وهو من غير لفظ {وهبنا} بل من معناه، وعلى الآخرين يراد به {يعقوب} فينتصب على الحال. وكان الزمخشري لما رأى أن {فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون، بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافاً من حيث المعنى إلى ضمير الموحى، فلا يكون التقدير فعلهم الخيرات وإقامهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل مع الصمدر محذوف، ويجوز أن يكون مضافاً من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم، أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون ذلك مضافاً إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإذا كانوا قد أُوحِي إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، فليس ما اختاره الزمخشري مختاراً. وقال ابن عطية: والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى. وأي نظر في هذا وقد نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة، وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن ذلك هنا أنه قابل {وإيتاء} وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} وقال الزجاج: فحذفت الهاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها انتهى. وهذا قول الفراء زعم أن تاء التأنيث قد تحذف للإضافة وهو مذهب مرجوح. انتصبْ الخبائث على معنى تعمل لأعمال أو الفعلات الخبيثة. وانتصب نوحاً على إضمار اذكر أي واذكر نوحاً. و {أجمعين} تأكيد للضمير المنصوب وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل، وأن الكثير استعماله تابعاً لكلهم.

{وداود وسليمان} عطف على {ونوحاً} . قال الزمخشري: {وإذا} بدل منهما انتهى. والأجود أن يكون التقدير واذكر {داود وسليمان} أي قصتهما وحالهما {إذ يحكمان} وجعل ابن عطية {وداود وسليمان} معطوفين على قوله {ونوحاً} معطوفاً على قوله {ولوطاً} فيكون ذلك مشتركاً في العامل الذي هو {آتينا} المقدرة الناصبة للوط المفسرة بآتينا فالتقدير وآتينا نوحاً وداود وسليمان أي آتيناهم {حكماً وعلماً} ولا يبعد ذلك وتقدير اذكر قاله جماعة. والضمير في {لحكمهم} عائد على الحاكمين والمحكوم لهما وعليهما، وليس المصدر هنا مضافاً إلى فاعل ولا مفعول، ولا هو عامل في التقدير فلا ينجل بحرف مصدري. والظهر أن {يسجن} جملة حالية من {الجبال} أي مسبحات. وقيل: استئناف كأن قائلاً قال: كيف سخرهن؟ فقال: {يسبحن} . وانتصب {والطير} عطفاً على {الجبال} ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح. وقيل: هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير. وقرىء {والطيرُ} مرفوعاً على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه، أو على الضمير المرفوع في {يسبحن} على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شاذة. واللام في {لكم} يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه، أي لأجلكم وتكون {لتحصنكم} في موضع بدل أعيد معه لام الجراذ الفعل منصوب بإضمار إن فتتقدّر بمصدر أي {لكم} لإحصانكم {من بأسكم} ويجوز أن تكون {لكم} صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم. وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا، والرفع على الابتداء و {عاصفة} حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب {الريح} وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع و {من} في موضع نصب أي وسخرنا {من الشياطين من يغوصون} أو في موضع رفع على الابتداء، والخبر في الجار والمجرور قبله. والظاهر أن {من} موصولة. وقال أبو البقاء: هي نكرة موصوفة.

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَبِدِينَ * وَإِسْمَعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّبِرِينَ * وَأَدْخَلْنَهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّلِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّلِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَرِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خشِعِينَ * وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَهَا وَابْنَهَآءَايَةً لِّلْعَلَمِينَ} وقرأ الجمهور {أني} بفتح الهمزة وعيسى بن عمر بكسرها إما على إضمار القول أي قائلاً {أني} وإما على إجراء {نادى} مجرى قال وكسر إني بعدها وهذا الثاني مذهب الكوفيين، والأول مذهب البصريين. وانتصب {رحمة} على أنه مفعول من أجله أي لرحمتا إياه. و {أن} في {أن لا إله إلا أنت} تفسيرية لأنه سبق {فنادى} وهو في معنى القول، ويجوز أن يكون التقدير بأنه فتكون مخففة من الثقيلة حصر الألوهية فيه تعالى ثم نزهه عن سمات النقص ثم أقر بما بعد ذلك.

وقرأ الجمهور: {ننجي} مضارع أنجى، والجحدري مشدداً مضارع نجّى. وقرأ ابن عامر وأبو بكر نجى بنون مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة، وكذلك هي في مصحف الإمام ومصاحف الأمصار بنون واحدة، واختارها أبو عبيد لموافقة المصاحف فقال الزجاج والفارسي هي لحن. وقيل: هي مضارع أدغمت النون في الجيم ورد بأنه لا يجوز إدغام النون في الجيم التي هي فاء الفعل لاجتماع المثلين كما حذفت في قراءة من قرأ ونزل الملائكة يريد وننزل الملائكة، وعلى هذا أخرجها أبو الفتح. وقيل: هي فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء كما سكنها من قرأ وذر وإما بقي من الربا والمقام مقام الفاعل ضمير المصدر أي نجى، هو أي النجاء المؤمنين كقراءة أبي جعفر {ليجزي قوماً} أي وليجزي هو أي الجزاء، وقد أجاز إقامة غير المفعول من مصدر أو ظرف مكان أو ظرف زمان أو مجرور الأخفش والكوفيون وأبو عبيد، وذلك مع وجود المفعول به وجاء السماع في إقامة المجرور مع وجود المفعول به نحو قوله: أتيح لي من العدا نذيراًبه وقيت الشر مستطيرا وقال الأخفش: في المسائل ضرب الضرب الشديد زيداً، وضرب اليومان زيداً، وضرب مكانك زيداً وأعطى إعطاء حسن أخاك درهماً مضروباً عبده زيداً. وقيل: ضمير المصدر أقيم مقام الفاعل و {المؤمنين} منصوب بإضمار فعل أي {وكذلك نجى} هو أي النجاء {ننجي المؤمنين} والمشهور عند البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره إلا أن صاحب اللباب حكى الخلاف في ذلك عن البصريين، وأن بعضهم أجاز ذلك.

قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها، ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي {فنفخنا في} ابنها {من روحنا} وقوله قلت معناه نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعدياً، والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى جماع وغير متعد استعمله هو في قوله أي نفخت في المزمار في بيته انتهى. ولا إشكال في ذلك. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَجِعُونَ * فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَتِبُونَ * وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَخِصَةٌ أَبْصَرُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَلِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَلِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} وقرأ الجمهور {أمتكم} بالرفع خبر {إن أمة واحدة} بالنصب على الحال، وقيل بدل من {هذه} وقرأ الحسن {أمتكم} بالنصب بدل من {هذه} . وقرأ أيضاً هو وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو والزعفراني {أمتكم أمة واحدة} . في {لا يرجعون} صلة وهو قول أبي عبيد كقولك: ما منعك أن لا تسجد.

والمعنى {وحرام عليّ} أهل {قربة} قدرنا إهلاكهم لكفرهم عمل صالح ينجون به من الإهلاك ثم أكد ذلك وعلله بأنهم {لا يرجعون} عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك فالمحذوف مبتدأ والخبر {وحرام} وقدره بعضهم متقدماً كأنه قال: والإقالة والتوبة حرام. وقراءة الجمهور بالفتح تصح على هذا المعنى وتكون {لا} نافية على بابها والتقدير لأنهم لا يرجعون. و {حتى} قال أبو البقاء متعلقة في المعنى بحرام أي يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ولا عمل لها في {إذا} . وقال الحوفي {حتى} غاية، والعمل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلقت {حتى} واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة بحرام، وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة، وهي {حتى} التي تحكي الكلام، والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني إذا وما في حيزها انتهى. وقال ابن عطية: هي متعلقة بقوله {وتقطعوا} ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تعلق بيرجعون، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب {إذا} لأنها تقتضي جواباً هو المقصود ذكره انتهى. جواب {إذا} محذوف تقديره {قالوا يا ويلنا} قاله الزجاج وجماعة أو تقديره، فحينئذ يبعثون {فإذا هي شاخصة} . أو مذكور وهو واقترب على زيادة الواو قاله بعضهم، وهو مذهب الكوفيين وهم يجيزون زيادة الواو والفاء في فإذا هي قاله الحوفي. وقال الزمخشري: وإذا هي المفاجأة وهي تقع في المفاجأت سادة مسد الفاء لقوله تعالى: {إذا هم يقنطون} فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكد ولو قيل {إذا هي شاخصة} كان سديداً.

وضمير {هي} للقصة كأنه قيل: فإذا القصة والحادثة {أبصار الذين كفروا} {شاخصة} ويلزم أن تكون {شاخصة} الخبر و {أبصار} مبتدأ، ولا يجوز ارتفاع أبصار شاخصة لأنه يلزم أن تكون بعد ضمير الشأن، أو القصة جملة تفسر الضمير مصرح بجزأيها، ويجوز ذلك على مذهب الكوفيين. وقال الزمخشري: {هي} ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره كما فسر الذين ظلموا وأسروا انتهى. ولم يذكر غير هذا لوجه وهو قول للفراء. قال الفراء: {هي} ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام ومجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك قول الشاعر: فلا وأبيها لا تقول خليلتيإلاّ قرّ عني مالك بن أبي كعب وذكر أيضاً الفراء أن {هي} عماد يصلح في موضعها هو وأنشد: بثوب ودينار وشاة ودرهمفهل هو مرفوع بما ههنا رأس وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي في إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ أجاز هو القائم زيد على أن زيد هو المبتدأ والقائم خبره، وهو عماد وأصل المسألة زيد هو القائم، ويقول: أصله هذه فإذا {أبصار الذين كفروا} هي {شاخصة} فشاخصة خبر عن {أبصار} وتقدم مع العماد، ويجيء على مذهب من يجيز العماد قبل خبره نكرة، وذكر الثعلبي وجهاً آخر وهو أن الكلام ثم عند قوله: {فإذا هي} أي بارزة واقعة يعني الساعة. {يا ويلنا} معمول لقول محذوف. قال الزمخشري: تقديره يقولون وهو في موضع الحال من الذين كفروا وتقدم قول الزجاج أن هذا القول جواب {إذا} . وقرأ الجمهور {آلهة} بالنصب على خبر {كان} وقرأ طلحة بالرفع على أن في {كان} ضمير الشأن.

وقرأ أبو جعفر {لا يحزنهم} مضارع أحزن وهي لغة تميم، وحزن لغة قريش، والعامل في {يوم لا يحزنهم} و {تتلقاهم} وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من العائد المحذوف في {توعدون} فالعامل فيه {توعدون} أي أيوعدونه أو مفعولاً باذكر أو منصوباً بأعني. وأجاز الزمخشري أن يكون العامل فيه {الفزع} وليس بجائز لأن {الفزع} مصدر وقد وصف أخذ معموله فلا يجوز ما ذكر. وطي مصدر مضاف إلى المفعول، أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، والأصل {كطي} الطاوي {السجل} فحذف الفاعل وحذفه يجوز مع المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل، وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول أي كما يُطْوَى السجل. وقال الزمخشري: {أول خلق} مفعول نعيد الذي يفسره {نعيده} والكاف مكفوفة بما. {أول خلق} أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر، وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة، أي نعيد مثل الذي بدأناه {نعيده} و {أول خلق} ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى انتهى. والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة كما ذكر بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف. و {أول خلق} مفعول {بدأنا} والمعنى نعيد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له، أي كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود. في ما قدره الزمخشري تهيئة {بدأنا} لأن ينصب {أول خلق} على المفعولية. وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك وارتكاب إضمار يعيد مفسراً بنعيده وهذه عجمة في كتاب الله، وأما قوله: ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره {نعيده} فهو ضعيف جداً لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف، فليس مذهب الجمهور إنما ذهب إلى ذلك الأخفش وكونها اسماً عند البصريين غير مخصوص بالشعر. وانتصب {وعداً} على أنه مفعول مصدر مؤكداً لمضمون الجملة الخبرية قبله.

ولا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد {إلا} بالفعل قبلها إلا أن كان العامل مفرغاً له نحو ما مررت إلاّ بزيد. وقال الزمخشري: إنما تقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع المثلان في هذه الآية لأن {إنما يوحى إليّ} مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد و {إنما إلهكم إله واحد} بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلّممقصور على استئثار الله بالوحدانية انتهى. وأما ما ذكره في {إنما} إنها لقصر ما ذكر فهو مبني على إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر، وإنما مع أن كهي مع كان ومع لعل، فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذلك لا تفيده مع أن وأما جعله {أنما} المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها يدل على القصر، فلا نعلم الخلاف إلاّ في {إنما} بالكسر، وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منع مع ما بعدها مصدر، فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة، ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال إنه لم يوح إليه شيء إلاّ التوحيد. وذلك لا يصح الحصر فيه إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد وفي الآية دليل على تظافر المنقول للمعقول وأن النقل أحد طريقي التوحيد، ويجوز في ما من {إنما} أن تكون موصولة. و {إن} نافية و {أدري} معلقة والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري، وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب {أقريب ما توعدون أم بعيد} لم تكن فاصلة وكثيراً ما يرجح الحكم في الشيء لكونه فاصلة آخر آية. وعن ابن عامر في رواية {وإن أدري} بفتح الياء في الآيتين تشبيهاً بياء الإضافة لفظاً، وإن كانت لام الفعل ولا تفح إلا بعامل.

سورة الحج

وقرأ الجمهور {قل رب} أمروا بكسر الباء. وقرأ حفص قال وأبو جعفر {رب} بالضم. قال صاحب اللوامح: على أنه منادى مفرد وحذف حرف النداء فيما جاز أن يكون وصفاً لأي بعيد بابه الشعر انتهى. وليس هذا من نداء النكرة المقبل عليها بل هذا من اللغات الجائزة في يا غلامي، وهي أن تبنيه على الضم وأنت تنوي الإضافة لما قطعته عن الإضافة وأنت تريدها بنيته، فمعنى {رب} يا ربي. وقرأ الجمهور {احكم} على الأمر من حكم. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن ربي بإسكان الياء أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر. وقرأت فرقة أحكم فعلاً ماضياً. سورة الحج سبع وسبعون آية مدنية

{يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى وَمَا هُم بِسُكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَنٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الأٌّرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأٌّرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ} والمصدر مضاف للفاعل فالمفعول المحذوف وهو الأرض يدل عليه {إذا زلزلت الأرض زلزالها} والناس ونسبة الزلزلة إلى {الساعة} مجاز، ويجوز أن يضاف إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف، فتكون {الساعة} مفعولاً بها. والناصب ليوم {تذهل} والظاهر أن الضمير المنصوب في {ترونها} عائداً على الزلزلة لأنها المحدث عنها.

والظاهر أن ما في قوله {عما أرضعت} بمعنى الذي، والعائد محذوف أي أرضعته، ويقويه تعدي وضع إلى المفعول به في قوله {حملها} لا إلى المصدر. وقيل: ما مصدرية أي عن إرضاعها. وقال الزمخشري: المرضعة هي التي في حال الإرضاع تلقم ثديها الصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به. فقيل {مرضعة} ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبيّ بمرضعة والمستأجرة بمرضع وهذا باطل بقول الشاعر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت البيت فهذه {مرضعة} بالتاء وليست أمَّا للذي ترضع. وقول الكوفيين إن الوصف الذي يختص بالمؤنث لا يحتاج فيه إلى التاء لأنها إنما جيء بها للفرق مردود بقول العرب مرضعة وحائضة وطالقة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا {الناس} دّى {ترى} إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الضمير المستكن في {ترى} وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله، والثاني والثالث {الناس سكارى} أثبت أنهم {سكارى} . والظاهر أن الضمير في {عليه} عائد على {من} لأنه المحدث عنه، وفي {أنه} و {تولاه} وفي {فإنه} عائد عليه أيضاً، والفاعل يتولى ضمير {من} وكذلك الهاء في {يضله} ويجوز أن تكون الهاء في هذا الوجه أنه ضمير الشأن. وقرأ الجمهور: {أنه} بفتح الهمزة في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، {فأنه} بفتحها أيضاً، والفاء جواب {من} الشرطية أو الداخلة في خبر {من} إن كانت موصولة. و {فأنه} على تقدير فشأنه أنه {يضله} أي إضلاله أو فله أن يضله.

وقال الزمخشري: فمن فتح فلأن الأول فاعل {كتب} بعني به مفعولاً لم يسم فاعله، قال: والثاني عطف عليه انتهى. وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت {فأنه} عطفاً على {أنه} بقيت بلا استيفاء خبر لأن {من تولاه} من، فيه مبتدأة، فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى يستقل خبراً لأنه وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت {فأنه} عطفاً على {أنه} ومثل قول الزمخشري قال ابن عطية قال {وأنه} في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، وأنه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وخطا خطأ لما بيناه. وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمر و {إنه فإنه} بكسر الهمزتين. وقال ابن عطية: وقرأ أبو عمرو {إنه من تولاه فإنه يضله} بالكسر فيهما انتهى، وليس مشهوراً عن أبي عمرو. والظاهر أن ذلك من إسناد {كتب} إلى الجملة إسناداً لفظياً أي {كتب} عليه هذا الكلام كما تقول: كتب أن الله يأمر بالعدل. وقال الزمخشري: أو عن تقدير قبل أو على المفعول الذي لم يسم فاعله الكتب، والجملة من {أنه من تولاه} في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل المقدرة، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولاً لم يسم فاعله، وأما الثاني فلا يجوز أيضاً على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعد ما هو بمعنى القول، بل بعد القول صريحة. وقرأ ابن أبي عبلة {مخلقة} بالنصب وغير بالنصب أيضاً نصباً على الحال من النكرة المتقدمة، وهو قليل وقاسه سيبويه. وقرأ يعقوب وعاصم في رواية {ونقر} بالنصب عطفاً على {لنبين} . وعن عاصم أيضاً ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفاً على {ونقر} إذا نصب. والظاهر أن قوله {وأن الساعة آتية} ليس داخلاً في سبب ما تقدم ذكره، فليس معطوفاً على أنه الذي يليه، فيكون على تقدير. والأمر {أن الساعة} وذلك مبتدأ وبأن الخبر. وقيل ذلك منصوب بمضمر أي فعلنا ذلك.

{ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَبٍ مُّنِيرٍ * ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلعَبِيدِ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَنُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلَلُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جَنَتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذلِكَ أَنزَلْنَهُءَايَتٍ بَيِّنَتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ * إِنَّ} {ومن الناس} مع ذلك {من يجادل} فكان الواو واو الحال، والآية المتقدمة الواو فيها واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها، والآية على معنى الإخبار وهي ههنا مكررة للتوبيخ انتهى. ولا يتخيل أن الواو في {ومن الناس من يجادل} واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدّرها قبله لو كان مصرحاً بها لم يتقدّر بإذ فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف. وانتصب {ثاني عطفه} على الحال من الضمير المستكن في {يجادل} .

وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم خاسر الدنيا اسم فاعل نصباً على الحال. وقرىء خاسر اسم فاعل مرفوعاً على تقدير وهو خاسر. وقال الزمخشري: والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير وهو وجه حسن انتهى. وقرأ الجمهور: {خسر} فعلاً ماضياً وهو استئناف إخبار، ويجوز أن يكون في موضع الحال ولا يحتاج إلى إضمار قد لأنه كثر وقوع الماضي حالاً في لسان العرب بغير قد فساغ القياس عليه، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون بدلاً من قوله: {انقلب على وجهه} كما كان يضاعف بدلاً من يلق. وتكلف المعربون وجوهاً فقالوا {يدعو} إما أن يكون لها يضاعف بدلاً من يلق. وتكلف المعربون وجوهاً فقالوا {يدعو} إما أن يكون لها تعلق بقوله {لمن ضره} أولاً إن لم يكن لها تعلق فوجوه. أحدها: أن يكون توكيداً لفظياً ليدعو الأولى، فلا يكون لها معمول. الثاني: أن تكون عاملة في ذلك من قوله: {ذلك هو الضلال} وقدم المفعول الذي هو {ذلك} وجعل موصولاً بمعنى الذي قاله أبو علي الفارسي، وهذا لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة أن يكون موصولاً، والبصريون لا يجيزون ذلك إلاّ في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من. الثالث: أن يكون {يدعو} في موضع الحال، {وذلك} مبتدأ وهو فضل أو مبتدأ وحذف الضمير من {يدعو} أي يدعوه وقدره مدعواً وهذا ضعيف، لأن يدعوه لا يقدر مدعواً إنما يقدر داعياً، فلو كان يدعى مبنياً للمفعول لكان تقديره مدعواً جارباً على القياس. وقال نحوه الزجاج وإن كان له تعلق بقوله: {لمن ضره} فوجوه.

أحدها: ما قاله الأخفش وهو أن {يدعو} بمعنى يقول و {من} مبتدأ موصول صلته الجملة بعده. وهي {ضره أقرب من نفعه} وخبر المبتدأ محذوف، تقديره إله وإلهي والجملة في موضع نصب محكية بيدعو التي هي بمعنى يقول، قيل: هو فاسد المعنى لأن الكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها. وقيل: في هذا القول يكون {لبئس} مستأنفاً لأنه لا يصح دخوله في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم {لبئس المولى} . الثاني: أن {يدعو} بمعنى يسمي، والمحذوف آخراً هو المفعول الثاني ليسمى تقديره إلهاً وهذا لا يتم إلاّ بتقدير زيادة اللام أي يدعو من ضره. الثالث: أن يدعو شبه بأفعال القلوب لأن الدعاء لا يصدر إلاّ عن اعتقاد، والأحسن أن يضمن معنى يزعم ويقدر لمن خبره، والجملة في موضع نصب ليدعو أشار إلى هذا الوجه الفارسي. الرابع: ما قاله الفراء وهو أن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير {يدعو} من لضره أقرب من نفعه، وهذا بعيد لأن ما كان في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول. الخامس: أن تكون اللام زائدة للتوكيد، و {من} مفعول بيدعو وهو ضعيف لأنه ليس من مواضع زيادة اللام، لكن يقويه قراءة عبد الله يدعو من ضره بإسقاط اللام، وأقرب التوجيهات أن يكون {يدعو} توكيداً ليدعو الأول؛ واللام في {لمن} لام الابتداء، والخبر الجملة التي هي قسم محذوف، وجوابه {لبئس المولى} .

{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئِينَ وَالنَّصَرَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَتِ وَمَن فِى الأٌّرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ * هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَطِ الْحَمِيدِ} قال الزمخشري: ودخلت {إن} على كل واحد جزأي الجملة لزيادة التأكيد، ونحوه قول جرير:

إنّ الخليفة إن اللَّه سربلهسربال ملك به ترجى الخواتيم وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية، وكذلك قرنه الزجاج بالآية ولا يتعين أن يكون البيت كالآية لأن البيت يحتمل أن يكون خبر إن الخليفة قوله: به ترجى الخواتيم، ويكون إن الله سربله سربال ملك جملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله: {إن الله يفصل} وحسن دخول {إن} على الجملة الواقعة خبراً طول الفصل بينهما بالمعاطيف، ولا تعارض بين قوله: {ومن في الأرض} لعمومه وبين قوله: {وكثير من الناس} لخصوصه لأنه لا يتعين عطف {وكثير} على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار {يسجد له} كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره {يسجد} الأول لاختلاف الاستعمالين، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز يجيز عطف {وكثير من الناس} على المفردات قبله، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولم يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي {وكثير من الناس} مثاب. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {من الناس} خبراً له. قال ابن عطية: {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي {وكثير حق عليه العذاب} . الظاهر عطف {والجلود} على {ما} من قوله: {يصهر به ما في بطونهم} وأن {الجلود} تذاب كما تذاب الأحشاء. وقيل: التقدير وتخرق {الجلود} لأن الجلود لا تذاب إنما تجتمع على النار وتنكمش وهذا كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً أي وسقيتها ماء. والظاهر أن الضمير في {ولهم} عائد على الكفار، واللام للاستحقاق. {ومن غم} بدل من منها بدل اشتمال، أعيد معه الجار وحذف الضمير لفهم المعنى أي من غمها، ويحتمل أن تكون من للسبب أي لأجل الغم الذي يلحقهم.

وقرأ ابن عباس {يحلون} بفتح الياء واللام وسكون الحاء من قولهم: حلى الرجل وحليت المرأة إذا صارت ذات حلي والمرأة ذات حلي والمرأة حال. وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حلي بعيني يحلى إذا استحسنته، قال فتكون {من} زائدة فيكون المعنى يستحسنون فيها الأساورة الملبوسة انتهى. وهذا ليس بجيد لأنه جعل حلى فعلاً متعدياً ولذلك حكم بزيادة {من} في الواجب وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز لأنه لا يحفظ لازماً فإن كان بهذا المعنى كانت {من} للسبب أي بلباس أساور الذهب يحلون بعين من يراهم أي يحلى بعضهم بعين بعض. قال أبو لافضل الرازي: ويجوز أن تكون {من} حليت به إذا ظفرت به، فيكون المعنى {يحلون فيها} بأساور فتكون {من} بدلاً من الباء، والحلبة من ذلك فإما إذا أخذته من حليت به فإنه من الحلية، وهو من الياء وإن أخذته من حلي بعيني فإنه من الحلاوة من الواو انتهى. ومن معنى الظفر قولهم: لم يحل فلان بطائل، أي لم يطفر. والظاهر أن {من} في {من أساور} للتبعيض وفي {من ذهب} لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب.

وقال ابن عطية: {من} في {من أساور} لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبيعض. وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف. وقرأ ابن عباس من أسور بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرفه لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف. وقرأ عاصم ونافع والحسن والجحدري والأعرج وأبو جعفر وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب {ولؤلؤاً} هنا وفي فاطر بالنصب وحمله أبو الفتح على إضمار فعل وقدره الزمخشري ويؤتون {لؤلؤاً} ومن جعل {من} في {من أساور} زائدة جاز أن يعطف {ولؤلؤاً} على موضع {أساور} وقيل يعطف على موضع {من أساور} لأنه يقدر و {يحلون} حلياً {من أساور} . وقرأ باقي السبعة والحسن أيضاً وطلحة وابن وثاب والأعمش. وأهل مكة ولؤلؤ بالخفض عطفاً على {أساور} أو على {ذهب} لأن السوار يكون من ذهب ولؤلؤ، يجمع بعضه إلى بعض. قال الجحدري: الألف ثابتة بعد الواو في الإمام. وقال الأصمعي: ليس فيها ألف، وروى يحيى عن أبي بكر همز الأخير وإبدال الأولى. وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك. وقرأ الفياض: ولولياً قلب الهمزتين واواً صارت الثانية واواً قبلها ضمة، عمل فيها ما عمل في أدل من قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس وليلياً أبدل الهمزتين واوين ثم قلبهما ياءين اتبع الأولى للثانية. وقرأ طلحة ولول مجروراً عطفاً على ما عطف عليه المهموز.

{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّبِئِينَ وَالنَّصَرَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَتِ وَمَن فِى الأٌّرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ * هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَطِ الْحَمِيدِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ

عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأٌّنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأٌّنْعَمُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأٌّوْثَنِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه {ويصدون على سبيل اللَّه} كقوله: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللَّه} وقيل: هو مضارع أريد به الماضي عطفاً على {كفروا} وقيل: هو على إضمار مبتدأ أي وهم {يصدون} وخبر إن محذوف قدره ابن عطية بعد {والباد} خسروا أو هلكوا وقدره الزمخشري بعد قوله: {الحرام} نذيقهم {من عذاب أليم} ولا يصح تقديره بعده لأن الذي صفة {المسجد الحرام} فموضع التقدير هو بعد {والباد} لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ، وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك. وقيل: الواو في {ويصدون} زائدة وهو خبر إن تقديره إن الذين كفروا يصدون. قال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود انتهى. ولا يجيز البصريون زيادة الواو ولما وأما هو قول كوفي مرغوب عنه.

وقرأ الجمهور {سواء} بالرفع على أن الجملة من مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني، والأحسن أن يكون {العاكف والبادي} هو المبتدأ و {سواء} الخبر، وقد أجيز العكس. وقال ابن عطية: والمعنى {الذي جعلناه للناس} قبلة أو متعبداً انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلاّ إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير. وقرأ حفص والأعمش {سواء} بالنصب وارتفع به {العاكف} لأنه مصدر في معنى مستو اسم الفاعل. ومن كلامهم: مررت برجل سواء هو والعدم، فإن كانت جعل تتعدى إلى اثنين فسواء الثاني أو إلى واحد فسواء حال من الهاء. وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي {سواء} بالنصب {العاكف فيه} بالجر. قال ابن عطية: عطفاً على الناس انتهى. وكأنه يريد عطف البيان والأولى أن يكون بدل تفصيل. ومفعول {برد} قال أبو عبيدة هو {بإلحاد} والباء زائدة في المفعول. قال الأعمش: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق وكذا قراءة الحسن منصوباً قرأ {ومن يرد} إلحاده بظلم أي إلحاداً فيه فتوسع. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون التقدير {ومن يرد فيه} الناس {بإلحاد} . وقال الزمخشري: {بإلحاد بظلم} حالان مترادفتان ومفعول {يرد} متروك ليتناول كل متناول. قيل: واللام زائدة أي بوّأنا إبراهيم مكان البيت أي جعلنا يبوء إليه كقوله: {لتبوأنهم من الجنة غرفاً} وقال الشاعر: كم صاحب لي صالحبوّأته بيدي لحدا وقيل: مفعول {بوأنا} محذوف تقديره بوّأنا الناس، واللام في {لإبراهيم} لام العلة أي لأجل إبراهيم كرامة له وعلى يديه.

{وأن} مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية، والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير. قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول و {بوّأنا} ليس فيه معنى القول، والأولى عندي أن تكون {أن} الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ما ض ومضارع وأمر النهي كالأمر. وقرأ عكرمة وأبو نهيك: أن لايشرك بالياء على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى أن {لا تشرك} . وقرأ الحسن وابن محيصن وآذن بمدة وتخفيف الذال. قال ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني فإنه حكى عهما {وأذن} على فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على {بوّأنا} انتهى. وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه. وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وأبن محيصن. قال صاحب اللوامح: وهو عطف على {وإذ بوّأنا} فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير {يأتوك} جزماً على جواب الأمر الذي هو {وطهر} انتهى. {ذلك} خبر مبتدأ محذوف قدّره ابن عطية فرضكم {ذلك} أو الواجب {ذلك} وقدّره الزمخشري الأمر أو الشأن {ذلك} قال كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا انتهى. وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي {ذلك} الأمر الذي ذكرته. وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا {ذلك} ونظير هذه الإشارة البليغة قول زهير وقد تقدم له جمل في وصف هرم: هذا وليس كمن يعيا بخطبتهوسط الندى إذا ما ناطق نطقا وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة، ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال: هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته. والظاهر أن خيراً هنا ليس أفعل تفضيل.

و {من} في {من الأوثان} لبيان الجنس، ويقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان، ومن أنكر أن تكون {من} لبيان الجنس جعل {من} لابتداء الغاية فكأنه نهاهم عن الرجس عاماً ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وعلى القول الأول يكون النهي عن سائر الأرجاس من موضع غير هذا. قال ابن عطية: ومن قال أن {من} للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده انتهى. {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَفِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأٌّنْعَمِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّبِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِى الصَّلَوةِ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَهَا لَكُمْ مِّن شَعَئِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَنِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} وقال الزمخشري: فإن تعظيمها {من} أفعال ذوي {تقوى القلوب} فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلاّ بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى {من} ليتربط به، وإنما ذكرت {القلوب} لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء انتهى.

وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى {من} ألا ترى أن قوله فإن تعظيمها من أفعال القلوب ليس في شيء منه ضمير يعود إلى {من} يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أدانه {من} وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فأي تعظيمها منه، فيكون الضمير في منه عائداً على من فيرتبط الجزاء بالشرط. وقرىء {القلوب} بالرفع على الفاعلية بالمصدر الذي هو {تقوى} والضمير في {فيها} عائد على البدن على قول الجمهور. ثم للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال. وقياس بناء مفعل مما مضارعه يفعل يضم العين مفعل بفتحها في المصدر والزمان والمكان، وبالفتح قرأ الجمهور. وقرأ بكسرها الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث إلا القصبي عنه. قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب. وقال الأزهري: منسك ومنسك لغتان. وقرأ الجمهور {والمقيمي الصلاة} بالخفض على الإضافة وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن أبي إسحاق والحسن وأبو عمرو في رواية {الصلاة} بالنصب وحذفت النون لأجلها. وقرأ ابن مسعود والأعمش والمقيمين بالنون {الصلاة} بالنصب. والجمهور على نصب {والبدن} على الاشتغال أي وجعلنا {البدن} وقرىء بالرفع على الابتداء و {لكم} أي لأجلكم و {من شعائر} في موضع المفعول الثاني.

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَتٌ وَمَسَجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاٍّمُورِ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَبُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأٌّبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَلِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ

وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءَايَتِنَا مُعَجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُءَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى

قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَءَامَنُواْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فِى جَنَّتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأٌّرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَّهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى

الأٌّرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَنَ لَكَفُورٌ * لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَزِعُنَّكَ فِى الأٌّمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَدَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِى كِتَبٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَدُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْءَايَتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّمُورُ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَدِهِ هُوَ اجْتَبَكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَتٌ وَمَسَجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاٍّمُورِ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَبُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ}

{الذين أخرجوا} في موضع جر نعت للذين، أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع على إضمارهم. و {إلا أن يقولواد استثناء منقطع فإن يقولوا} في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل عليه، فهو مقدر بلكن من حيث المعنى لأنك لو قلت {الذين أخرجوا من ديارهم} {إلا أن يقولوا ربنا الله} لم يصح بخلاف ما في الدار أحد إلاّ حمار، فإن الاستثناء منقطع ويمكن أن يتوجه عليه العامل فتقول: ما في الدار إلاّ حمار فهذا يجوز فيه النصب والرفع النصب للحجاز والرفع لتميم بخلاف مثل هذا فالعرب مجمعون على نصبه. وأجاز أبو إسحاق فيه الجر على البدل واتّبعه الزمخشري فقال {أن يقولوا} في محل الجر على الإبدال من {حق} أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتبشير، ومثله {هل تنقمون منا إلاّ أن آمنا} انتهى.

وما أجازاه من البدل لا يجوز لأن البدل لا يكون إلاّ إذا سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي، نحو: ما قام أحد إلاّ زيد، ولا يضرب أحد إلاّ زيد، وهل يضرب أحد إلاّ زيد، وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل: لا يقال قام القوم إلاّ زيد على البدل، ولا يضرب القوم إلاّ زيد على البدل، لأن البدل لا يكون إلاّ حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت قام إلاّ زيد، وليضرب إلاّ عمر ولم يجز. ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلاّ بأن يقولوا لا إله إلاّ الله لم يكن كلاماً هذا إذا تخيل أن يكون {إلاّ أن يقولوا} في موضع جر بدلاً من غير المضاف إلى {حق} وإما أن يكون بدلاً من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب بغير {إلاّ أن يقولوا} وهذا لا يصح، ولو قدرت {إلاّ} بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلاّ زيد فتجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب بغير غير قولهم {ربنا الله} فتكون قد أضفت غيراً إلى غير وهي هي فصار بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلاّ زيد أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل إلاّ بمعنى سوى، ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول: مررت بالقوم إلاّ زيد على الصفة لا على البدل. والظاهر أنه يجوز في إعراب {الذين إن مكناهم في الأرض} ما جاز في إعراب {الذين أخرجوا} وقال الزجاج: هو منصوب بدل ممن ينصره. {فكأين} للتكثير، واحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال.

{وهي ظالمة} جملة حالية {فهي خاوية على عروشها} تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة في قوله {أو كالذي مر على قرية} وقال الزمخشري: فإن قلت: ما محل الجملتين من الإعراب؟ أعني {وهي ظالمة فهي خاوية} قلت: الأولى في محل نصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على {هلكناها} وهذا الفعل ليس له محل انتهى. وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن {فكأين} الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله {أهلكناها} فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر، فيكون قوله {فهي خاوية} في موضع رفع، لكن يتجه قول الزّمخشري على الوجه القليل وهو إعراب {فكأين} منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، فتكون الجملة من قوله {وأهلكناها} مفسرة لذلك الفعل، وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له. {وبئر} {وقصر} معطوفان على {من قرية} {ومن قرية} تمييز لكأين. وجعل {وبئر معطلة وقصر مشيد} معطوفين على {عروشها} جهل بالفصاحة. {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأٌّبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَلِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءَايَتِنَا مُعَجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ}

{فتكون} منصوب على جواب الاستفهام قاله ابن عطية، وعلى جواب التقرير قاله الحوفي. وقيل: على جواب النفي، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار إن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم، ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على {يسير} ، وموردوه إلى أخي الجزم وهو النصب هذا معنى الصرف عندهم، ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها. ومتعلق {يعقلون بها} محذوف أي ما حل بالأمم السابقة حين كذبوا أنبياءهم و {يعقلون} ما يجب من التوحيد، وكذلك مفعول {يسمعون} أي يسمعون أخبار تلك الأمم أو ما يجب سماعه من الوحي. والضمير في {فإنها} ضمير القصة وحسن التأنيث هنا ورجحه كون الضمير وليه فعل بعلامة التأنيث وهي التاء في {لا تعمى} ويجوز في الكلام التذكير وقرأ به عبد الله فإنه لا تعمى. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره {الأبصار} وفي {تعمى} راجع إليه انتهى. وما ذكره لا يجوز لأن الذي يفسره ما بعده محصور، وليس هذا واحداً منها وهو في باب رب وفي باب نعم. وبئس، وفي باب الأعمال، وفي باب البدل، وفي باب المتبدأ والخبر على خلاف في هذه الأربعة على ما قرر ذلك في أبوابه. وعطفت {فكأين} الأولى بالفاء وهذه الثانية بالواو. وقال الزمخشري: الأولى وقعت بدلاً عن قوله {فكيف كان نكير} وما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله {لن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة} .

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُءَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَءَامَنُواْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فِى جَنَّتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} ومفعول ألقى محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر.

{من} فيه لابتداء الغاية و {من} في {من رسول} زائدة تفيد استغراق الجنس. وعطف {ولا نبي} على {من رسول} دليل على المغايرة. وقد تقدم لنا الكلام على مدلوليهما فأغنى عن إعادته هنا، وجاء بعد {إلا} جملة ظاهرها الشرط وهو {إذا تمنى ألقى الشيطان} وقاله الحوفي، ونصوا على أنه يليها في النفي مضارع لا يشترط فيه شرط، فتقول: ما زيد إلاّ بفعل كذا، وما رأيت زيداً إلاّ بفعل كذا، وماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله {وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا} أو يكون الماضي مصحوباً بقدر نحو: ما زيد إلاّ قد قام، وما جاء بعد {إلاّ} في الآية جملة شرطية ولم يلها مرض مصحوب بقد ولا عار منها، فإن صح ما نصوا عليه تؤول على أن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين {إلاّ} والفعل الذي هو {ألقي} وهو فصل جائز فتكون إلاّ قد وليها ماض في التقدير ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل {إلاّ} وهو {وما أرسلنا} وعاد الضمير في {تمني} مفرداً وذكروا أنه إذا كان العطف بالواو عاد الضمير مطابقاً للمتعاطفين، وهذا عطف بالواو وما جاء غير مطابق أولوه على الحذف فيكون تأويل هذا {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} {ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه و {تمنى} تفعل من المنية. والجملة بعد {إلاّ} في موضع الحال أي {وما أرسلناه} إلاّ، وحاله هذه. وقيل: الجملة في موضع الصفة وهو قول الزمخشري في نحو: ما مررتَ بأحد إلاّ زيد خير منه، والصحيح أن الجملة حالية لا صفة لقبولها واو الحال، واللام في {ليجعل} متعلقة بيحكم قاله الحوفي. وقال ابن عطية: بينسخ. وقال غيرهما: ألقى، والظاهر أنها للتعليل. وقيل: هي لام العاقبة و {ما} في {يلقي} الظاهر أنها بمعنى الذي، وجوز أن تكون مصدرية.

والتنوين في {يومئذ} تنوين العوض، والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد الغاية أي {الملك} يوم تزول مريتهم وقدره الزمخشري أولاً يوم يؤمنون وهو لازم لزوال المرية. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأٌّرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَّهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأٌّرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَنَ لَكَفُورٌ * لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَزِعُنَّكَ فِى الأٌّمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَدَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل فأصبحت ولم صرف إلى لفظ المضارع؟ قلت: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثرر المطر زماناً بعد مان. كما تقول أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح وأغذو شاكراً له. ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما باله رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام؟ قلت: لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنتم ثبت للشكر هذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله.

ووقع قوله {فتصبح} من حيث الآية خبراً، والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله {ألم تر فاسد المعنى انتهى. ولم يبين هو ولا الزمخشري كيف يكون النصب نافياً للاخضرار، ولا كون المعنى فاسداً. وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} فقال: هذا واجب وهو تنبيه. كأنك قلت: أتسمع {أنزل الله من السماء ماء} فكان كذا وكذا. قال ابن خروف، وقوله فقال هذا واجب، وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان، وفسر الكلام بأتسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه، ووقع في الشرقية عوض أتسمع انتبه انتهى. ومعنى في الشرقية في النسخة الشرقية من كتاب سيبويه. وقال بعض شراح الكتاب {فتصبح} لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى {أن الله أنزل} فالأرض هذا حالها. وقال الفراء {ألم تر} خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا انتهى. ويقول إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى إلى قوله {ألست بربكم قالوا بلى} وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محمداً إنما يأتي ولا يحدث، ويجوز أن يكون المعنى إنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة، وينتفي الجواب فيلزم من هذا الذي قررناه إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار وهو خلاف المقصود. وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء فقوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم

يتقدر أن تسأل فتخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر أن ترى إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك، إنما هو مترتب على الإنزال، وإنما عبر بالمضارع لأن فيه تصويراً للهيئة التي الأرض عليها، والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء. وقرأ الجمهور {والفلك} بالنصب وضم اللام ابن مقسم والكسائي عن الحسن، وانتصب عطفاً على {ما} ونبه عليها وإن كانت مندرجة في عموم ما تنبيهاً على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها، وهذا هو الظاهر. وجوز أن يكون معطوفاً على الجلالة بتقدير وأن {الفلك} وهو إعراب بعيد عن الفصاحة و {تجري} حال على الإعراب الظاهر. وفي موضع الجر على الإعراب الثاني. وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني بضم الكاف مبتدأ وخبر، ومن أجاز العطف على موضع اسم إن أجازه هنا فيكون {تجري} حالاً. والظاهر أن {أن} تقع في موضع نصب بدل اشتمال، أي ويمنع وقوع السماء على الأرض. وقيل هو مفعول من أجله يقدره البصريون كراهة {أن تقع} والكوفيون لأن لا تقع. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِى كِتَبٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَدُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْءَايَتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

وقرأ الجمهور {النار} رفعاً على إضمارمبتدأ كأن قائلاً يقول قال: وما هو؟ قال: النار، أي نار جهنم. وأجاز الزمخشري أن تكون {النار} مبتدأ و {وعدها} الخبر وأن يكون {وعدها} حالاً على الإعراب الأول، وأن تكون جملة إخبار مستأنفة وأجيز أن تكون خبراً بعد خبر، وذلك في الإعراب الأول، وروي أنهم قالوا: محمد وأصحابه شر خلق فقال الله قل لهم يا محمد {أفأنبئكم بشر} ممن ذكرتم على زعمكم أهل النار فهم أنتم خشر خلق الله. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي {النار} بالنصب. قال الزمخشري: على الاختصاص ومن أجاز في الرفع أن تكون {النار} مبتدأ فقياسه أن يجيز في النصب أن يكون من باب الاشتغال. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة {النار} بالجر على البدل من {شر} والظاهر أن الضمير في {وعدها} هو المفعول الأول على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قولها هل من مريد، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني {والذين كفروا} هو الأول كما قال {عد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم} .

{يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّمُورُ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَدِهِ هُوَ اجْتَبَكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وقال الزمخشري {لن} أخت لا في نفي المستقبل إلاّ أن تنفيه نفياً مؤكداً، وتأكيده هنا الدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم كأنه قال: محال أن يخلقوا انتهى. وهذا القول الذي قاله في {لن} هو المنقول عنه أن {لن} للنفي على التأييد، ألا تراه فسر ذلك بالاستحالة وغيره من النحاة يجعل {لن} مثل لا في النفي ألا ترى إلى قوله {أفمن يخلق كمن لا يخلق} كيف جاء النفي بلا وهو الصحيح، والاستدلال عليه مذكور في النحو. وموضع {ولو اجتمعوا له} قال الزمخشري: نصب على الحال كأنه قال مستحيل: أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه، وتعاونهم عليه انتهى.

وتقدم لنا الكلام على نظير {ولو} هذه، وتقرر أن الواو فيه للعطف على حال محذوفة، كأنه قيل {لن يخلقوا ذباباً} على كل حال ولو في هذه الحال التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم، ولكنه ليس في مقدورهم ذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن يتسع ويوم شهدناه سليماً وعامراً انتهى. يعني بالظرف الجار والمجرور، كأنه كان الأصل حق جهاد فيه فاتسع بأن حذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى الضمير. وانتصب {ملة أبيكم} بفعل محذوف. وقدره ابن عطية جعلها {ملة} وقال الزمخشري: نصب الملة بمضمون ما تقدّمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أو على الاختصاص أي أعني بالدين {ملة أبيكم} كقوله: الحمد لله الحميد، وقال الحوفي وأبو البقاء: اتبعوا ملة إبراهيم. وقال الفراء: هو نصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قيل كلمة {أبيكم} بالإضافة إلى أبيه الرسول.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مائة وتسع عشرة آية مكية جمهور العرب على فتح سين سيناء فالألف فيه للتأنيث كصحراء فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم، وكنانة تكسر السين فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم أيضاً عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث، وعند البصريين يمتنع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث، لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق كعلباء ودرحاء. هيهات: اسم فعل يفيد الاستبعاد فمعناها بعد، وفيها لغات كثيرة ذكرناها في كتاب التكميل لشرح التسهيل، ويأتي منها ما قرىء به إن شاء الله. وقال غيره: المواترة التتابع بغير مهلة، وتاؤه مبدلة من واو على غير قياس، إذ أصله الوتر كتاء تولج وتيقور الأصل وولج وويقور لأنه من الولوج والوقار، وجمهور العرب على عدم تنوينه فيمتنع الصرف للتأنيث اللازم وكنانة تنونه، وينبغي أن تكون الألف فيه للإلحاق كهي في علقي المنون، وكتبه بالياء يدل على ذلك، ومن زعم أن التنوين فيه كصبراً ونصراً فهو مخطىء لأنه يكون وزنه فعلاً ولا يحفظ فيه الإعراب في الراء، فتقول تتر في الرفع وتتر في الجر لكن ألف الإلحاق في المصدر نادر، ولا يلزم وجود النظير. وقيل: تترى اسم جمع كأسرى وشتى.

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأًّمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَفِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَنَ مِن سُلَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَماً فَكَسَوْنَا الْعِظَمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقاًءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ تُبْعَثُونَ} وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوي تعديته باللام كالفعل، وكذلك إذا تأخر لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء {للزكاة} باللام ولو جاء منصوباً لكان عربياً.

وحفظ لا يتعدى بعلى. فقيل: على بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله {ونصرناه من القوم} أي على القوم قاله الفراء، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن {حافظون} معنى ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله {أمسك عليك زوجك} وتكلف الزمخشري هنا وجوهاً. فقال {على أزواجهم} في موضع الحال أي الأوّالين على أزواجهم أو قوّامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلاناً، ونظيره كان زياد على البصرة أي والياً عليها. ومنه قولهم: فلان تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشاً. ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى أي خلاف ذلك. وقيل: لا يكون وراء هنا إلاّ على حذف تقدير ما وراء ذلك. و {من} الأولى لابتداء الغاية و {من} الثانية قال الزمخشري للبيان كقوله {من الأوثان} انتهى. ولا تكون للبيان إلاّ على تقدير أن تكون السلالة هي الطين. وتبارك فعل ماض لا يتصرف. ومعناه تعالى وتقدس و {أحسن الخالقين} أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل إضافتها محضة أم غير محضة؟ فمن قال محضة أعرب {أحسن} صفة، ومن قال غير محضة أعربه بدلاً. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن الخالقين. وتمييز أفعل التفضيل محذوف لدلالة الخالقين عليه، أي {أحسن الخالقين} خلقاً أي المقدرين تقديراً. وكنت سئلت لم دخلت اللام في قوله {لميتون} ولم تدخل في {تبعثون} فأجبت: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالباً فلا تجامع يوم القيامة، لأن أعمال {تبعثون} في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال فتنافي الحال، وإنما قلت غالباً لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل كقوله تعالى {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة} على أنه يحتمل تأويل هذه الآية وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال بأن يقدر عامل في يوم القيامة.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَفِلِينَ * وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأٌّرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَدِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأٌّنْعَمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} و {ذهاب} مصدر ذهب، والباء في {به} للتعدية مرادفة للهمزة كقوله {لذهب بسمعهم} أي لأذهب سمعهم. وعطف {وشجرة} على جنات. وقرأ الجمهور {تنبت} بفتح التاء وضم الباء والباء في {بالدهن} على هذا باء الحال أي {تنبت} مصحوبة {بالدهن} أي ومعها الدهن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء، فقيل {بالدهن} مفعول والباء زائدة التقدير تنبت الدهن. وقيل: المفعول محذوف أي {تنبت} جناها و {بالدهن} في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل: أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير: قطينا بها حتى إذا أنبت البقل بلفظ أنبت. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنياً للمفعول و {بالدهن} حال. وقرأ الأعمش وصبغاً بالنصب. وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف، فالنصب عطف على موضع {بالدهن} كان في موضع الحال أو في موضع المفعول.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأّنزَلَ مَلَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِىءَابَآئِنَا الأٌّوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} {ما لكم من إله غيري} جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفرداً بالإلهية فكأنها تعليل لقوله {اعبدوا الله} . وقرأ الجمهور {مُنزلاً} بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدراً ومكاناً أي إنزالاً أو موضع إنزال. و {إن} في {أن اعبدوا الله} يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية.

والظاهر أن ما موصولة في قوله {مما تشربون} وأن العائد محذوف تقديره {مما تشربون} منه لوجود شرائط الحذف، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله: مررت بالذي مررت، وحسن هذا الحذف ورجحه كون {تشربون} فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله {مما تأكلون} وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله {ويشرب مما تشربون} على حذف أي {مما تشربون} منه، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة لأن ما إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى. يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه، فيكون المحذوف ضميراً متصلاً وشروط جواز الحذف فيه موجودة، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلاّ أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال {مما تأكلون منه} فعداه بمن التبعيضية، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير {مما تشربون} منه، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح. وقال الزمخشري: حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه انتهى. فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم.

وقال الزمخشري {إذاً} واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى. وليس {إذا} واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين {إنكم} والخبر و {إنكم} والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة، ولو كانت {إنكم} والخبر جواباً للشرط للزمت الفاء في {إنكم} بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلاّ عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ. واختلف المعربون في تخريج {أنكم} الثانية، والمقتول عن سيبويه أن {أنكم} بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد، وخبر {إنكم} الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره {إنكم} تبعثون {إذا متم} وهذا الخبر المحذوف هو العامل في {أذلة} وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن {أنكم} الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار، وعلى هذا يكون {مخرجون} خبر {أنكم} الأولى، والعامل في {إذا} هو هذا الخبر، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى. وذهب الأخفش إلى أن {أنكم مخرجون} مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره: يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبراً لأنكم، ويكون جواب {إذا} ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر {إنكم} ويكون عاملاً في {إذا} .

وذكر الزمخشري قول المبرد بادئاً به فقال: شيء {إنكم} للتوكيد، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و {مخرجون} خبر عن الأول وهذا قول المبرد. قال الزمخشري: أو جعل {إنكم مخرجون} مبتدأ و {إذا متم} خبراً على معنى إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن {أنكم} انتهى. وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه. قال: أو رفع {إنكم مخرجون} بفعل هو جزاء الشراط كأنه قيل {إذا متم} وقع إخراجكم انتهى. وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبراً عن {أنكم} ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه، وأن يكون خبر {إنكم} ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في {إذا} . وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضاً بإسكانهما، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعباً كبيراً بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعاً لهيهات، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون {هيهات} إلاّ أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد، فقال واحد: هيهات هيهة، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالباً إلاّ مكررة، وجاءت غير مكررة في قول جرير: وهيهات خل بالعقيق نواصله وقول رؤبة: هيهات من متحرق هيهاؤه

و {هيهات} اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهراً أو مضمراً، وهنا جاء التركيب {هيهات هيهات لما توعدون} لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقياً لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في {هيت لك} لبيان المهيت به. وقال الزجاج: البعد {لما توعدون} أو بعد {لما توعدون} وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية {هيهات} وقول الزمخشري: فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر. وقال ابن عطية: طوراً تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود {لما توعدون} انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولا يجيز البصريون شيئاً من هذا. وقال ابن عطية أيضاً في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل، وخبره {لما توعدون أي البعد لوعدكم كما تقول: النجح لسعيك. وقال صاحب اللوامح: فأما من قال هيهات} فرفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد {لما توعدون} والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة {هيهات هيهات} ما {توعدون} بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات. وهي قراءة واضحة.

واللام في {ليصبحن} لام القسم و {عما قليل} متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها، ألا ترى أنه لو كان مفعولاً به لم يجز تقديمه لو قلت: لأضربن زيداً لم يجز زيداً لأضربن، وهذا الذي قررناه من أن {عما قليل} يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفاً أو مجروراً أو غيرهما، فعلى قول هو لا يكون {عما قليل} يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره {عما قليل} تنصر لأن قبله قال {رب انصرني} . وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقاً.

{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناًءَاخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الأٌّخِرَةِ وَأَتْرَفْنَهُمْ فِى الْحَيوةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَدِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّلِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناًءَاخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَرُونَ بِئَايَتِنَا وَسُلْطَنٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَلِينَ * فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَبِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ

* وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُءَايَةً وَءَاوَيْنَهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * يأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَتِ وَاعْمَلُواْ صَلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِئَايَتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشيبه وابن محيصن والشافعي {تترى} منوناً وباقي السبعة بغير تنوين، وانتصب على الحال أي متواترين واحداً بعد واحد.

وما في {أنما} إما بمعنى الذي أو مصدرية أو كافة مهيئة إن كانت بمعنى الذي فصلتها ما بعدها، وخبر إن هي الجملة من قوله {نسارع لهم في الخيرات} والرابط لهذه الجملة ضمير محذوف لفهم المعنى تقديره: نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه استطالة الكلام مع أمن اللبس. وتقدم نظيره في قوله {إنما نمدهم به} وقال هشام بن معونة: الضرر الرابط هو الظاهر وهو {في الخيرات} وكان المعنى {نسارع لهم} فيه ثم أظهر فقال {في الخيرات} فلا حذف على هذا التقدير، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، فالخيرات من حيث المعنى هي الذي مدُّوا به من المال والبنين وإن كانت ما مصدرية فالمسبوك منها ومما بعدها هو مصدر اسم إن وخبر إن هو {نسارع} على تقدير مسارعة فيكون الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل، والتقدير أيحسبون أن إمدادنا لهم بالمال والبنين مسارعة لهم في الخيرات. وإن كانت ما كافة مهيئة فهو مذهب الكسائي فيها هنا فلا تحتاج إلى ضمير ولا حذف، ويجوز الوقف على {وبنين} كما تقول حسبت إنما يقوم زيد، وحسبت أنك منطلق، وجاز ذلك لأن ما بعد حسبت قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى، وإن كان في ما يقدر مفرداً لأنه ينسبك من أن وما بعدها مصدر. وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة يسارع بالياء وكسر الراء فإن كان فاعل {نسارع} ضمير يعود على ما بمعنى الذي، أو على المصدر المنسبك من ما نمد فنسارع خبر لأن ولا ضمير ولا حذف أي يسارع هو أي الذي يمد ويسارع، هو أي إمدادنا. وعن ابن أبي بكرة المذكور بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول. وقرأ الحر النحوي نسرع بالنون مضارع أسرع {بل لا يشعرون} إضراب عن قوله {أيحسبون} .

{إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِئَايَتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَهُمْ لَهَا سَبِقُونَ * وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَلٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَمِلُونَ * حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ * لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَمِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِءَابَآءَهُمُ الأٌّوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ} أولئك يسارعون جملة في موضع خبر أن. {وهم لها سابقون} الظاهر أن الضمير في {لها} عائد على {الخيرات} أي سابقون إليها تقول: سبقت لكذا وسبقت إلى كذا، ومفعول {سابقون} محذوف أي سابقون الناس، وتكون الجملة تأكيداً للتي قبلها مفيدة تجدد الفعل بقوله {يسارعون} وثبوته بقوله {سابقون} وقيل اللام للتعليل أي لأجلها سابقون الناس إلى رضا الله. ويجوز أن كون {لها سابقون} خبراً بعد خبر ومعنى وهم لها كمعنى قوله أنت لها انتهى.

وقال الحوفي {حتى} غاية وهي عاطفة، {إذا} ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط {إذا} الثانية في موضع جواب الأولى، ومعنى الكلام عامل في {إذا} والتقدير جأروا، فيكون جأروا العامل في {إذا} الأولى، والعامل في الثانية {أخذنا} انتهى وهو كلام مخبط ليس أهلاً أن يرد. وقال ابن عطية و {حتى} حرف ابتداء لا غير، و {إذا} الثانية التي هي جواب يمنعان من أن تكون حتى غاية لعاملون انتهى. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِءَابَآءَهُمُ الأٌّوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرزِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأٌّخِرَةِ عَنِ الصِّرَطِ لَنَكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} {وَلَقَدْ أَخَذْنَهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأٌّبْصَرَ وَالأٌّفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأٌّرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ} وزن استكان استفعل أي انتقل من كون إلى كون كما تقول: استحال انتقل من حال إلى حال، وقول من زعم أن استكان افتعل من السكون وأن الألف إشباع ضعيف لأن الإشباع بابه لشعر كقوله:

أعوذ بالله من العقرابالشائلات عقد الأذناب ولأن الإشباح لا يكون في تصاريف الكلمة، ألا ترى أن من أشبع في قوله: ومن ذم الزمان بمنتزاح لا تقول انتزاح ينتزيح فهو منتزيح، وأنت تقول: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان ومجيء مصدره استكانة يدل على أن الفعل وزنه استفعل كاستقام استقامة، وتخالف {استكانوا} و {يتضرعون} في الصيغة فلم يكونا ماضيين ولا مضارعين. {وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأٌّبْصَرَ وَالأٌّفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأٌّرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِى يُحَىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأٌّوَّلُونَ * قَالُواْ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * قُل لِّمَنِ الأٌّرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى

الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَدِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَلِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَلِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ * قَلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأٌّرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ

* فَتَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَفِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ} { وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأٌّبْصَرَ وَالأٌّفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأٌّرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِى يُحَىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأٌّوَّلُونَ * قَالُواْ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * قُل لِّمَنِ الأٌّرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقرأ ابن محيصن {العظيم} برفع الميم نعتاً للرب.

قالوا: فالشرط محذوف تقديره، ولو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله {وما كان معه من إله} عليه وهذا قول الفراء: زعم أنه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجاً لها على غير هذا في قوله {وإذاً لاتخذوك خليلاً} في سورة الإسراء: والظاهر أن ما في {بما خلق} بمعنى الذي وجوز أن تكون مصدرية. وقرأ الإبنان وأبو عمرو وحفص {عالم} بالجر. قال الزمخشري: صفة لله. وقال ابن عطية: اتباع للمكتوبة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو بحرية بالرفع. قال الأخفش: الجر أجود ليكون الكلام من وجه واحد. قال أبو عليّ الرفع أن الكلام قد انقطع، يعني أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو {عالم} . وقال ابن عطية: والرفع عندي أبرع. والفاء في قوله {فتعالى} عاطفة فالمعنى كأنه قال {عالم الغيب والشهادة فتعالى} كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته أي شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى {عما يشركون} على إخبار مؤتنف.

{قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَدِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَبَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَلِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَلِحُونَ} وقال ابن عطية: {حتى} في هذا الموضع حرف ابتداء، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف والأول أبين لأن ما بعدها هو المعنى به المقصود ذكره انتهى. فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر. وقال أبو البقاء {حتى} غاية في معنى العطف، والذي يظهر لي أن قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير: فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم {حتى إذا جاء أحدهم الموت} ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر: فياً عجباً حتى كليب تسبني أي يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها.

وقال الزمخشري؛ {في جهنم خالدون} بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف انتهى. جعل {في جهنم} بدلاً {من خسروا} وهذا بدل غريب، وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به {في جهنم} أي استقروا في جهنم، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم. وأجاز أبو البقاء أن يكون {الذين} نعتاً لأولئك، وخبر {أولئك} {في جهنم} والظاهر أن يكون خبراً لأولئك لا نعتاً.

{أَلَمْ تَكُنْءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَلِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ * قَلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأٌّرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَفِرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ} قرأ أبيّ وهارون العتكي {أنه} بفتح الهمزة أي لأنه، والجمهور بكسرها والهاء ضمير الشأن وهو محذوف مع أن المفتوحة الهمزة. ومفعول {جزيتهم} الثاني محذوف تقديره الجنة أو رضواني. وقال الزمخشري: في قراءة من قرأ {أنهم} بالفتح هو المفعول الثاني أي {جزيتهم} فوزهم انتهى. والظاهر أنه تعليل أي {جزيتهم} لأنهم، والكسر هو على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الإعراب لا ضطرار المفتوحة إلى عامل.

سورة النور

وقرأ الجمهور {عدد سنين} على الإضافة و {كم} في موضع نصب على ظرف الزمان وتمييزها عدد. وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم عدداً بالتنوين. فقال أبو الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح {سنين} نصب على الظرف والعدد مصدر أقيم مقام الأسم فهو نعت مقدم على المنعوت، ويجوز أن يكون معنى {لبثتم} عددتم فيكون نصب عدداً على المصدر و {سنين} بدل منه انتهى. وانتصب {عبثاً} على الحال أي عابثين أو على أنه مفعول من أجله. وقرأ الأخوان {لا تَرجعون} مبنياً للفاعل، وباقي السبعة مبنياً للمفعول، والظاهر عطف {وأنكم} على {أنما} فهو داخل في الحسبان. وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير {الكريم} بالرفع صفة لرب العرش أو {العرش} ، ويكون معطوفاً على معنى المدح. و {من} شرطية والجواب {فإنما} و {لا برهان له به} صفة لازمة لا للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله {يطير بجناحيه} ويجوز أن تكون جملة اعتراض إذ فيها تشديد وتأكيد فتكون لا موضع لها من الإعراب كقولك: من أساء إليك لا أحق بالإساءة منه، فأسيء إليه. ومن ذهب إلى أن جواب الشرط هو {لا برهان له به} هروباً من دليل الخطاب من أن يكون ثم داع له برهان فلا يصح لأنه يلزم منه حذف الفاء في جواب الشرط، ولا يجوز إلاّ في الشعر وقد خرجناه على الصفة اللازمة أو على الاعتراض وكلاهما تخريج صحيح. خبر {حسابه} الظرف و {أنه} استئناف. سورة النور أربع وستون آية مدنية

{سُورَةٌ أَنزَلْنَهَا وَفَرَضْنَهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآءَايَتٍ بَيِّنَتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَدَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّدِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَذِبِينَ * وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّدِقِينَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} وقرأ الجمهور {سورة} بالرفع فجوّزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه {سورة} أو مبتدأ محذوف الخبر، أي فيما أوحينا إليك أو فيما يتلى عليكم. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون مبتدأ أو الخبر {الزانية والزاني} وما بعد ذلك. و {أنزلناها} في هذه الأعاريب في موضع الصفة انتهى.

قال الزمخشري: أو على دونك {سورة} فنصب على الإغراء، ولا يجوز حذف أداة الإغراء وأجازوا أن يكون من باب الاشتغال أي أنزلنا {سورة أنزلناها} فأنزلناها مفسر لأنزلنا المضمرة فلا موضع له من الإعراب إلاّ أنه فيه الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلاّ إن اعتقد حذف وصف أي {سورة} معظمة أو موضحة {أنزلناها} فيجوز ذلك. وقال الفراء: {سورة} حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدّم عليه انتهى. فيكون الضمير المنصوب في {أنزلناها} ليس عائداً على {سورة} . وقرأ الجمهور {الزانية والزاني} بالرفع، وعبد الله والزان بغير ياء، ومذهب سيبويه أنه مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم {الزانية والزاني} وقوله {فاجلدوا} بيان لذلك الحكم، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر {فاجلدوا} وجوزه الزمخشري، وسبب الخلاف هو أنه عند سيبويه لا بد أن يكون المبتدأ الداخل الفاء في خبره موصولاً بما يقبل أداة الشرط لفظاً أو تقديراً، واسم الفاعل واسم المفعول لا يجوز أن يدخل عليه أداة الشرط وغير سيبويه ممن ذكرنا لم يشرط ذلك، وتقرير المذهبين والترجيح مذكور في النحو. وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن فأئد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس {الزانية والزاني} بنصبهما على الاشتغال، أي واجلدوا {الزانية والزاني} كقولك زيداً فضربه، ولدخول الفاء تقرير ذكر في علم النحو والنصب هنا أحسن منه في {سورة أنزلناها} لأجل الأمر.

والجمهور على إضافة {أربعة} إلى {شهداء} . وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم {بأربعة} بالتنوين وهي قراءة فصيحة، لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة، ولذلك رجح ابن جني هذه القراءة على قراءة الجمهور من حيث أخذ مطلق الصفة وليس كذلك، لأن الصفة إذا جرت مجرى الأسماء وباشرتها العوامل جرت في العدد وفي غيره مجرى الأسماء، ومن ذلك شهيد ألا ترى إلى قوله {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} وقوله {واستشهدوا شهيدين} وكذلك: عبد فثلاثة شهداء بالإضافة أفصح من التنوين والاتباع، وكذلك ثلاثة أعبد. وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى. وليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو: ثلاثة رجال، وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفصيل الذي ذكرناه، وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقية، ويضعف قول من قال أنه حال أو تمييز. وهذه الشهادة تكون بالمعاينة البليغة كالمرود في المكحلة، والظاهر أنه لا يشترط شهادتهم أن تكون حالة اجتماعهم بل لو أتى بهم متفرقين صحت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: شرط ذلك أن يشهدوا مجتمعين، فلو جاؤوا متفرقين كانوا قذفه. والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شهداء ولقوله {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا أجنبيين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وتحد المرأة، وروي ذلك عن الحسن والشعي. وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي مثله عن ابن عباس.

{فاجلدوهم} أمر للإمام ونوابه بالجلد، والظاهر وجوب الجلد وإن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلاّ بمطالبته. وقال مالك كذلك إلاّ أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف، والظاهر أن العبد القاذف حرّاً إذا لم يأت بأربعة شهداء حد ثمانين لاندراجه في عموم {والذين يرمون} وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي: يجلد أربعين وهو قول عليّ وفعل أبي بكر وعمر وعليّ ومن بعدهم من الخلفاء قاله عبد الله بن ربيعة، ولو قذف واحد جماعة بلفظ واحد أو أفرد لكل واحد حد حدّاً واحداً وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والليث. وقال عثمان البتي والشافعي لكل واحد حد. وقال الشعبي وابن أبي ليلى: إن كان بلفظ واحد نحو يا زناة فحدوا حد، أو قال: لكل واحد يا زاني فلكل إنسان حد، والظاهر من الآية أنه لا يجلد إلاّ القاذف ولم يأت جلد الشاهد إذا لم يستوف عدد الشهود، وليس من جاء للشهادة للقاذف بقاذف وقد أجراه عمر مجرى القاذف. وجلد أبا بكرة وأخاه نافعاً وشبل بن معبد البجلي لتوقف الرابع وهو زيادة في الشهادة فلم يؤدها كاملة، ولو أتى بأربعة شهداء فساق. فقال زفر: يدرأ الحد عن القاذف والشهور. وعن أبي يوسف يحد القاذف ويدرأ عن الشهود. وقال مالك وعبيد الله بن الحسن: يحد الشهود والقاذف.

{ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} الظاهر أنه لا يقبل شهادته أبداً وإن أكذب نفسه وتاب، وهو نهي جاء بعد أمر، فكما أن حكمه الجلد كذلك حكمه رد شهادته وبه قال شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح: لا تقبل شهادة المحدود في القذف وإن تاب، وتقبل شهادته في غير المقذوف إذا تاب. وقال مالك: تقبل في القذف بالزنا وغيره إذا تاب وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعي والقاسم بن محمد وسالم والزهري، وقال: لا تقبل شهادة محدود في الإسلام يعني مطلقاً، وتوبته بماذا تقبل بإكذاب نفسه في القذف وهو قول الشافعي وكذا فعل عمر بنافع وشبل أكذبا أنفسهما فقبل شهادتهما، وأصر أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات. {وأولئك هم الفاسقون} الظاهر أنه كلام مستأنف غير داخل في حيز الذين يرمون، كأنه إخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبداً. {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ}

والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملة يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصاً في الجملة الأخيرة، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره، وقد استدللنا على صحة ذلك في كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: وجعل يعني الشافعي الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية وحق المستثنى عنده أن يكون مجرور بدلاً من {هم} في {لهم} وحقه عند أبي حنيفة النصب لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط يعني الموصول المضمن معنى الشرط كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه أي اجمعوا له الحد والرد والفسق. وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلاّ عند الحاجة. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ} وقرأ الجمهور بالياء وهو الفصيح لأنه إذا كان العامل مفرغاً لما بعد إلاّ وهو مؤنث فالفصيح أن يقول ما قام إلاّ هند، وأماما قامت إلاّ هند فأكثر أصحابنا يخصه بالضرورة، وبعض النحويين يجيزه في الكلام على قلة.

وقرأ الجمهور {أربع شهادات} بالنصب على المصدر. وارتفع {فشهادة} خبراً على إضمار مبتدأ، أي فالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدماً أي فعليه أن يشهد أو مؤخراً أي كافيه أو واجبه. و {بالله} من صلة {شهادات} ويجوز أن يكون من صلة {فشهادة} قاله ابن عطية، وفرغ الحوفي ذلك على الأعمال، فعلى رأي البصريين واختيارهم يتعلق بشهادات، وعلى اختيار الكوفيين يتعلق بقوله {فشهادة} . وقرأ الأخوان وحفص والحسن وقتادة والزعفراني وابن مقسم وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وأبان وابن سعدان {أربع} بالرفع خبر للمبتدإ، وهو {فشهادة} و {بالله} من صلة {شهادات} على هذه القراءة، ولا يجوز أن يتعلق بفشهادة للفصل بين المصدر ومعموله بالجر ولا يجوز ذلك.

وقرأ الجمهور {والخامسة} بالرفع فيهما. وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن أياس ويقال ابن إلياس بالنصب فيهما.k وقرأ حفص والزعفراني بنصب الثانية دون الأولى، فالرفع على الابتداء وما بعده الخبر، ومن نصب الأولى فعطف على {أربع} في قراءة من نصب {أربع} ، وعلى إضمار فعل يدل علىه المعنى في قراءة من رفع {أربع} أي وتشهد {الخامسة} ومن نصب الثانية فعطف على {أربع} وعلى قراءة النصب في {الخامسة} يكون {أن} بعده على إسقاط حرف الجر، أي بأن، وجوّز أن يكون {أن} وما بعده بدلاً من {الخامسة} . وقرأ نافع {أن لعنة} بتخفيف {أنَّ} ورفع {لعنة} و {أن غضب} بتخفيف {أن} و {غضب} فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة، وهي ان المخففة من الثقيلة لما خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن. وقرأ أبو رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما، والحسن {أن لعنة} كقراءة نافع، و {أن غضب} بتخفيف {أن} و {غضب} مصدر مرفوع وخبر ما وبعده وهي أن المخففة من الثقيلة. وقرأ باقي السبعة {أن لعنة الله} و {أن غضب الله} بتشديد {أن} ونصب ما بعدهما اسماً لها وخبر ما بعد. قال ابن عطية: و {أن} الخفيفة على قراءة نافع في قوله {أن غضب} قد وليها الفعل. قال أبو علي: وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلاّ أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله {علم أن سيكون} وقوله {أفلا يرون أن لا يرجع} وأما قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى} فذلك لعلة تمكن ليس في الأفعال. وأما قوله {أن بورك من في النار} فبورك على معنى الدعاء فلم يجر دخول الفواصل لئلا يفسد المعنى انتهى. ولا فرق بين {أن غضب الله} و {أن بورك} في كون الفعل بعد أن دعاء، ولم يبين ذلك ابن عطية ولا الفارسي، ويكون غضب دعاء مثل النحاة أنه إذا كان الفعل دعاء لا يفصل بينه وبين أن بشيء، وأورد ابن عطية {أن غضب} في قراءة نافع مورد المستغرب.

{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ * لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَنَكَ هَذَا بُهْتَنٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأٌّيَتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَحِشَةُ فِى الَّذِينَءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} والظاهر أن خبر {إن} هو {عصبة منكم} و {منكم} في موضع الصفة وقاله. الحوفي وأبو البقاء. و {لا تحسبوه} : مستأنف. وقال ابن عطية {عصبة} رفع على البدل من الضمىر في {جاؤوا} وخبر {إن} في قوله و {لا تحسبوه} التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون {عصبة} خبر {إن} انتهى.

والضمير في {لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك، وعلى إعراب ابن عطية. يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم {إن} . قيل: ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من {جاؤوا} وعلى ما نال المسلمين من الغم. {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم {خيراً} وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لولا} و {قلتم} ؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لايتسع في غيرها انتهى. وما ذكره من أدوات التحضىض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول: لولا زيداً ضربت وهلا عمراً قتلت. قال الزمخشري: فإن قلت: فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم. فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلّمكما قيل فيها انتهى. وقيل: {أن تعودوا} مفعول من أجله أي كراهة {أن تعودوا} . وجواب {لولا} محذوف أي لعاقبكم.

والضمير في فإنهيأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَكِينَ وَالْمُهَجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ الْغَفِلَتِ الْمُؤْمِنتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَتِ وَالطَّيِّبَتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} عائد على {من} الشرطية. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم. وقال الحوفي: العامل فيه عذاب، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته. والظاهر أن {الخبيثات} وصف للنساء، للرجال {الخبيثين} .

{أولئك} إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء. {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَآئِهِنَّ أَوْءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

{ذلكم} إشارة إلى المصدر المفهوم من {تستأنسوا} و {تسلموا} أي {ذلكم} الاستئناس والتسليم {خير لكم} من تحية الجاهلية. {لعلكم تذكرون} أي شرعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه {لعلكم تذكرون} اعتناء بمصالحكم. {فإن لم تجدوا فيها أحداً} أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم {حتى يؤذن لكم} إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه. {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا} وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه. و {من} في {من أبصارهم} عند الأخفش زائدة أي {يغضوا} {أبصارهم} عما يحرم، وعند غيره للتبعيض. وقال ابن عطية: يصح أن تكون {من} لبيان الجنس، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم يتقدم مبهم فتكون {من} لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ} وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف {أو الطفل} على {من الرجال} قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم، ولذلك وصف بالجمع في قوله {الذين لم يظهروا} ومن ذلك قول العرب: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال: أو الأطفال. {الطِّفْلِ}

وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه {يخرجكم طفلاً} انتهى. ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله: {الطفل} من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله: {إن الإنسان لفي خسر} ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو. وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلاً نكره، ولا يتعين حمل طفلاً هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى: {واعتدت لهن متكأ} أي لكل واحدة منهن. وكما تقول: بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف. وروي عن ابن عباس تحريك واو {عورات} بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركه. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ {عورات} بالفتح. قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن وإنما جعل لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون: روضات وجورات وعروات، وسائر العرب بالإسكان وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلاّ هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو. وأنشدني بعضهم: أبو بيضات رائح متأوبرفيق بمسح المنكبين سبوح

{وَأَنْكِحُواْ الأَيَمَى مِنْكُمْ وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ فَكَتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِىءَاتَكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْءَايَتٍ مُّبَيِّنَتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} . وقال الزمخشري: {الأيامى} واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى. وفي التحرير قال أبو عمر: وأيامى مقلوب أيائم، وغيره من النحويين ذكر أن أيماً ويتيماً جمعاً على أيامي ويتامى شذوذاً يحفظ ووزنه فعالى، وهو ظاهر كلام سيبويه. قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات. وقالوا: وج ووجياً كما قالوا: زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا: يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى. {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَبَ} و {الذين} يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط، ويحتمل أن يكون منصوباً كما تقول: زيداً فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيداً فاضرب، وزيداً اضرب، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيداً فالفاء في جواب أمر محذوف، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا. {إِنْ أَرَدْنَ} وقال بعضهم: هذا الشرط ملغى.

وقوله {فإن اللَّه} جواب للشرط والصحيح أن التقدير {غفور رحيم} لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا {فإن اللَّه} {غفور رحيم} لهن أي للمكرهات، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط. وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال: فيه وجهان أحدهما: فإن اللَّه غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل، والثاني: فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار. وعلى الثاني يحتاج إلى انتهى. وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب. فإن قلت: قوله {إكراههن} مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة قلت: لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف، تقول: هند عجبت من ضربها زيداً فتجوز المسألة، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيداً لم تجز.

{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأٌّمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ * فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالأٌّصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَوةِ يَخَفُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأٌّبْصَرُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . ونور فعلا ماضياً والأرض بالنصب ويؤيد هذا التأويل قراءة علي بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي بالنصب. والظاهر أن الضمير في {مثل نوره} عائد على الله تعالى.

وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش {توقد} بضم التاء أي {الزجاجة} مضارع أوقدت مبيناً للمفعول، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي {المصباح} وابن كثير وأبو عمرو {توقد} بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي {المصباح} والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع {توقد} وأصله تتوقد أي {الزجاجة} . وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت، وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن، وأصله يتوقد أي {المصباح} إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف. وفي {يوقد} شاذ جداً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة، وله جوه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذا لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً. و {زيتونة} بدل من {شجرة} وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات. و {لا شرقية} {ولا} على {غربية} على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة. وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية، والجملة في موضع الصفة. والجملة من قوله: {ولو لم تمسسه نار} حالية معطوفة على حال محذوفة أي {يكاد زيتها يضيء} في كل حال ولو في هذه الحال التي تقضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق» .

{في بيوت} متعلق بيوقد قاله الرماني، أو في موضع الصفة لقوله: {كمشكاة} أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي، وتبعه الزمخشري قال {كمشكاة} في بعض بيوت الله وهي المساجد. وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح {في بيوت} قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم. وقيل: {في بيوت} مستأنف والعامل فيه: {يسبح} حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري. فقال: وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال: أو بما بعده وهو {يسبح} أي {يسبح له} رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله: {في تسع آيات} أي سبحوا في بيوت انتهى. على هذه الأقوال الثلاثة يوقف على قوله: {عليم} والذي اختاره أن يتعلق {في بيوت} بقوله: {يسبح} . {يُسَبِّحُ} وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه {تسبح} أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا: {ليجزي قوماً} في قراءة من بناه للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء. وقرأ أبو جعفر تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء. وقرأ أبو مجلز: والإيصال وتقدم نظيره. وارتفع {رجال} على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي {يسبح} أو يسبح له رجال. واختلف في اقتياس هذا، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسيح رجال. {وَأَقَامَ الصَّلَوةَ} قال الزمخشري: التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه: وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

انتهى. وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على {وإقام الصلاة} في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا {للهوَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} . وقال ابن عطية: يحتمل أن يعيد الضمير في {جاءه} على السراب. ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله {أعمالهم} . والضمير في {عنده} عائد على العمل انتهى. فأما الضمير في قوله: {إذا أخرج يده} فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده. {أَوْ كَظُلُمَتٍ} والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن {أو} للشك. وقال الكرماني: {أو} للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت. والظاهر أن الضمير في {يغشاه} عائد على {بحر لجى} . وقرأ الجمهور {سحاب} بالتنوين {ظلمات} بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف، أي هذه أو تلك {ظلمات} وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و {بعضها فوق بعض} مبتدأ وخبره في موضع خبر {ظلمات} والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة {بعضها فوق بعض} . وقرأ البزي {سحاب ظلمات} بالإضافة. وقرأ قنبل {سحاب} بالتنوين {ظلمات} بالجر بدلاً من {ظلمات} و {بعضها فوق بعض} مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات.

قال الحوفي: ويجوز على رفع {ظلمات} أن يكون {بعضها} بدلاً منها، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة. وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله: {وما كادوا يفعلون} فأغنى عن إعادته. {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وقال ابن عطية ما معناه: إذا كان الفعل بعد كاد منفياً دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول: المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون. وتقول: رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأٌّبْصَرِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى الأٌّبْصَرِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * لَّقَدْ أَنزَلْنَآءَايَتٍ مُّبَيِّنَتٍ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . وقرأ الجمهور {والطير} مرفوعاً عطفاً على {من} و {صافات} نصب على الحال. وقرأ الأعرج {والطير} بالنصب على أنه مفعول معه. وقرأ الحسن وخارجة عن نفاع {والطير صافات} برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن. والظاهر أن الفاعل المستكن في {علم} وفي {صلاته وتسبيحه} عائد على {كل} وفاعله. وقا الزجاج: الضمير في {علم} وفي {صلاته وتسبيحه} لكل. وقيل: الضمير في {علم} لكل وفي {صلاته وتسبيحه} لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خلق إلى خالق. {مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ}

واتفقوا على أن {من} الأولى لابتداء الغاية. وأما {من جبال} . فقال الحوفي: هي بدل من {السماء} ثم قال: وهي للتبعيض، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه، وإذا كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية، لو قلت: خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية. وقال الزمخشري وابن عطية: هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل. قال الحوفي والزمخشري: والثانية للبيان انتهى. فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول {ينزل} {من جبال} . قال الزمخشري: أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى. فيكون {من جبال} بدلاً {من السماء} .

وقيل: {من} الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال: وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال. وقال الفراء: هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره. والضمير في {فيها} عائد على {الجبال} أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال. وقيل: {من} الأولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة أي {وينزل من السماء من جبال} السماء برداً. وقال الزجاج: معناه {وينزل من السماء من جبال} برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت، ولأنك إذا قلت: هذا خاتم من حديد كان المعنى واحداً انتهى. فعلى هذا يكون {من برد} في موضع الصفة لجبال، كما كان من في من حديد صفة لخاتم، فيكون في موضع جر ويكون مفعول {ينزل} هو {من جبال} وإذا كان الجبال {من برد} لزم أن يكون المنزل برداً. والظاهر إعادة الضمير في {به} على البرد، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة. وكأنه قال: فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان. وقرأ الجمهور {خلق} فعلاً ماضياً. {كل} نصب. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى {كل} . والظاهر أن {من ماء} متعلق بخلق. و {من} لابتداء الغاية، أي ابتدأ خلقها من الماء. وقال القفال: ليس {من ماء} متعلقاً بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة. ونكر الماء هنا وعرف في {وجعلنا من الماء كل شيء حي} لأن المعنى هنا {خلق كل دابة} من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو {من ماء} مخصوص وهو النطفة.

{وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأٌّرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَسِقُونَ * وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَآتُواْ الزَّكَوةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى

الأٌّرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وأفرد الضمير في {ليحكم بينهم} وقد تقدم قوله: {إلى اللَّه ورسوله} لأن حكم الرسول هو عن الله. قال الزمخشري: كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه: ومنهل من الفلافي أوسطهغلسته قبل القطا وفرطه أراد قبل فرط القطا انتهى أي قبل تقدم القطا إليه وقرأ أبو جعفر {ليحكم} في الموضعين مبنياً للمفعول و {إذا} الثانية للفجاءة. جواء {إذا} الأولى الشرطية، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقد أحكم ذلك في علم النحو. والظاهر أن {إليه} متعلق بيأتوا. والضمير في {إليه} عائد على الرسول صلى الله عليه وسلّم وأجاز الزمخشري أن يتعلق {إليه} بمذعنين قال: لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف. {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون} {أم} هنا منقطعة والتقدير: بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم. قول الشاعر: ألست من القوم الذين تعاهدواعلى اللؤم والفحشاء في سالف الدهر ومن المبالغة في المدح. قول جرير:

ألستم خير من ركب المطاياوأندى العالمين بطون راح وقرأ عليّ وابن إسحاق {إنما كان قول} بالرفع والجمهور بالنصب. قال الزمخشري: والنصب أقوى لأن الأولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما في التعريف و {أن يقولوا} أو غل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين. وكان هذا من قبيل كان في قوله: {ما كان للَّه أن يتخذ من ولد} {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} انتهى. ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار. وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس {ليحكم بينهم} مبنياً للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي {ليحكم} هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم {بينهم} ومثله قولهم: جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى: {وحيل بينهم} . قال الزمخشري: ومثله {لقد تقطع بينكم} فيمن قرأ {بينكم} منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى. ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه. وقرىء {ويتقه} بشكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السلم: قالت سليمى اشتر لنا سويقاً يريد اشتر لنا. و {طاعة} مبتدأ و {معروفة} صفة والخبر محذوف، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب {طاعة معروفة} . وقال أبو البقاء: ولو قرىء بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى. وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن {طاعة معروفة} ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل، إلاّ إذا كان ثم مشعر به نحو {رجال} بعد {يسبح} مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال، أو يجاب به نفي نحو: بلى زيد لمن قال: ما جاء أحد. أو استفهام نحو قوله:

ألا هل أتى أم الحويرث مرسلبلى خالد إن لم تعقه العوائق أي أتاها خالد. {إن اللَّه خبير بما تعملون} أي مطلع على سرائركم ففاضحكم والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم. و {من} للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء. وقرىء {كما استخلف} مبنياً للمفعول. واللام في {ليستخلفنهم} جواب قسم محذوف، أي وأقسم {ليستخلفنهم} أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم. وعلى لتقدير حذف القسم بكون معمول {وعد} محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم. ودل عليه جواب القسم المحذوف. و {الذي ارتضى لهم} صفة مدح. {يعبدونني} الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل: ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال {يعبدونني} قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: {يعبدونني} فعل مستأنف أي هو {يعبدونني} ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال: ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم أي هم {يعبدونني} . وقال الزمخشري: وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى. وقال الحوفي قبله. وقال أبو البقاء: {يعبدونني} حال من {ليستخلفنهم} و {ليبدلنهم} {لا يشركون} بدل من {يعبدونني} أو حال من الفاعل في {يعبدونني} موحدين انتهى. وقال الزمخشري: {وأقيموا الصلاة} معطوف على {أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول} وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه. فاصل. وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه.

وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة، والتقدير لا يحسبن حاسب، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا: يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في {وأطيعوا الرسول} قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء. وقال النحاس: ما علمت أحداً من أهل العربية بصرباً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطىء قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى. وقال الفرّاء: هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم. و {معجزين} المفعول الثاني. وقال عليّ بن سليمان: {الذين كفروا} في موضع نصب قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر {الذين كفروا معجزين في الأرض} . وقال الكوفيون: {معجزين} المفعول الأول. و {في الأرض} الثاني قيل: وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في {الأرض} تعلقه بمعجزين، فلا يكون مفعولاً ثانياً. وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين. فقال {معجزين في الأرض} هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيد انتهى. وقال أيضاً: يكون الأصل: لا يحسبنهم {الذين كفروا معجزين} ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله: {لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا} في قراءة من قرأ بياء الغيبة، وجعل الفاعل {الذي يفرحون} وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذلا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه. {ومأواهم النار} قال الزمخشري: عطف على {لا تحسبن} كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله {ومأواهم النار} .

واستبعد العطف من حيث إن {لا تحسبن} نهي {ومأواهم النار} جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم. ولما أحس الزمخشري بهذا قال: كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبوه. {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَبَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأٌّيَتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأٌّطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَى الأٌّعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأٌّعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَلَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ

أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَرَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأٌّيَتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . و {من} في {من الظهيرة} قال أبو البقاء: لبيان الجنس أي حين ذلك هو الظهيرة، قال: أو بمعنى من أجل حر الظهيرة و {حين} معطوف على موضع {من قبل} و {من بعد صلاة العشاء} لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. وقرأ حمزة والكسائي {ثلاث} بالنصب قالوا: بدل من {ثلاث عورات} وقدره الحوفي والزمخشري وأبو البقاء أوقات {ثلاث عورات} وقال ابن عطية: إنما يصح يعني البدل بتقدير أوقات {عورات} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرأ باقي السبعة بالرفع أي هن {ثلاث عورات} وقرأ الأعمش {عورات} بفتح الواو وتقدم أنها لغة هذيل بن مدركة وبني تميم وعلى رفع {ثلاث} . قال الزمخشري: يكون {ليس عيكم} الجملة في محل رفع على الوصف والمعنى هن {ثلاث عورات} مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. {بعدهن} أي بعد استئذانهم فيهن حذف الفاعل وحرف الجر بفي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر.

{طوافون عليكم} يمضون ويجيؤون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم وجوّزوا في {بعضكم على بعض} أن أيكون مبتدأ وخبراً لكن الجر قدروه طائف على بعض وهو كون مخصوص فلا يجوز حذفه. قال الزمخشري: وحذف لأن طوافون يدل عليه وأن يكون مرفوعاً بفعل محذوف تقديره يطوف بعضكم. وقال ابن عطية {بعضكم} بدل من قوله: {طوافون} ولا يصح لأنه إن أراد بدلاً من {طوافون} نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم {بعضكم على بعض} وهذا معنى لا يصح. وإن جعلته بدلاً من الضمير في {طوافون} فلا يصح أيضاً إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقدير المبتدأ هم لأنه يصير التقدير هم يطوف {بعضكم على بعض} وهو لا يصح. فإن جعلت التقدير أنتم يطوف {عليكم بعضكم على بعض} فيدفعه أن قوله {عليكم} بدل على أنهم هم المطوف عليهم، وأنتم طوافون، يدل على أنهم طائفون فتعارضا. وقرأ ابن أبي عبلة طوافين بالنصب على الحال من ضمير {عليهم} . وانتصب {جميعاً أو أشتاتاً} على الحال أي مجتمعين أو متفرقين.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَئْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ} . وذلك مع تصدير الجملة بإنما وارتفاع المؤمنين مبتدأ ومخبر عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين.

وقرأ الحسن ويعقوب في رواية نبيكم بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء مشددة بدل قوله {بينكم} ظرفاً قراءة الجمهور. قال صاحب اللوامع: وهو النبيّ عليه السلام على البدل من {الرسول} فإنما صار بدلاً لاختلاف تعريفهما باللام مع الإضافة، يعني أن الرسول معرفة باللام ونبيكم معرفة بالإضافة إلى الضمير فهو في رتبة العلم، فهو أكثر تعريفاً من ذي اللام فلا يصح النعت به على المذهب المشهور، لأن النعت يكون دون المنعوت أو مساوياً له في التعريف. ثم قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نعتاً لكونهما معرفتين انتهى. وكأنه مناقض لما قرر من اختياره البدل وينبغي أن يجوز النعت لأن الرسول قد صار علماً بالغلبة كالبيت للكعبة إذ ما جاء في القرآنة والسنة من لفظ الرسول إنما يفهم منه أنه محمد صلى الله عليه وسلّم فإذا كان كذلك فقد تساويا في التعريف. وانتصب {لو إذاً} على أنه مصدر في موضع الحال أي متلاودين و {لو إذاً} مصدر لاوذ صحت العين في الفعل فصحت في المصدر، ولو كان مصدر لاذ لكان لياذاً كقام قياماً. وقرأ يزيد بن قطيب {لواذاً} بفتح اللام، فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم يقبل لأنه لا كسرة قبل الواو فهو كطاف طوافاً. واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وكانت فتحة اللام لأجل فتحة الواو وخالف يتعدى بنفسه تقول: خالد أمر زيد وبالي تقول: خالفت إلى كذا فقوله {عن أمره} ضمن خالف معنى صدّ وأعرض فعداه بعن. قال أبو عبيدة والأخفش {عن} زائدة أي {أمره} . وقال الزمخشري: ادخل {قد} ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التنكير في نحو قوله: فإن يمس مهجور الفناء فربماأقام به بعد الوفود وفود ونحو من ذلك قول زهير:

سورة الفرقان

أخي ثقة لا يهلك الخمر مالهولكنه قد يهلك المال نائله انتهى وكون قد إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة وليس بصحيح، وإنما التكثير مفهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في رب إنها لتقليل الشيء أو تقليل نظيره فإن فهم تكثير فليس ذلك من رب. ولا قد إنما هو من سياقة الكلام، وقد بين ذلك في علم النحو. والتفت من ضمير الخطاب في {أنتم} إلى ضمير الغيبة في يرجعون. والظاهر عطف {ويوم} على {ما أنتم عليه} فنصبه نصب المفعول. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون التقديم والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف. سورة الفرقان سبع وسبعون آية مكية {و {تبارك} تفاعل مطاوع بارك وهو فعل لا يتصرف ولم يستعمل في غيره تعالى فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مصدر. وقال الطرماح: تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع والضمير في {ليكون} . قال ابن زيد: عائد على {عبده} ويترجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل وهو من وصفه تعالى كقوله: {إنا كنا منذرين} . والظاهر أن {نذيراً} بمعنى منذر. وجوز أن يكون مصدراً بمعنى لإنذار كالنكير بمعنى الإنكار، ومنه {فكيف كان عذابي ونذر} . والذي مقطوع للمدح رفعاً أو نصباً أو نعت أو بد من {الذي نزل} وما بعد {نزل} من تمام الصلة ومتعلق به فلا يعد فاصلاً بين النعت أو البدل ومتوبعه. {واتخذوا من دونه إلهة} الضمير في {واتخذوا} عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله: {ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك} دلالة على ذلك لم ينف إلاّ وقد قيل به. وقال الكرماني: الواو ضمير للكفار وهم مندرجون في قوله {للعالمين} . والظاهر أن الضمير في {فقد جاؤوا} عائد على {الذين كفروا} . فيكون جاء متعدياً بنفسه قاله الكسائي، ويجوز أن يحذف الجار أي بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه. وقيل: الضمير عائد على قوم آخرين وهو من كلام الكفار، والضمير في {وقالوا} للكفار.

و {أساطير الأولين} خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذه {أساطير} و {اكتتبها} خبر ثان، ويجوز أن يكون {أساطير} مبتدأ و {اكتتبها} الخبر. وقرأ الجمهور {اكتتبها} مبنياً للفاعل. وقراءة طلحة مبنياً للمفعول والمعنى {اكتتبها} كاتب له لأنه كان أمّياً لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار {اكتتبها} إياه كاتب كقوله {واختار موسى قومه} ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان بارزاً منصوباً وبقي ضمير الأساطير على حاله، فصار {اكتتبها} كما ترى انتهى. وهو من كلام الزمخشري ولا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن {اكتتبها} له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير، والآخر مقيد وهو ضميره عليه السلام. ثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار {اكتتبها} إياه مقيد وهو ضميره عليه السلام. ثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار {اكتتبها} إياه كاتب فإذا بني هذا الفعل للمفعول إنما ينوب عن الفاعل المفعول المسرح لفظاً وتقديراً لا المسرح لفظاً المقيد تقديراً، فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبته لا {اكتتبها} وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع عن العرب في هذا النوع الذي أحد المفعولين فيه مسرح لفظاً وتقديراً والآخر مسرح لفظاً لا تقديراً. قال الشاعر وهو الفرزدق: ومنا الذي اختير الرجال سماحةوجوداً إذا هب الرياح الزعازع ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختير من الرجال. {وقالوا} الضمير لكفار قريش.

وقرىء فتكون بالرفع حكاه أبو معاذ عطفاً على {أنزل} لأن {أنزل} في موضع رفع وهو ماض وقع موضع المضارع، أي هلا ينزل إليه ملك أو هو جواب التحضيض على إضمار هو، أي فهو يكون. وقراءة الجمهور بالنصب على جواب التحضيض. وقوله {أو يلقى} {أو} يكون عطف على {أنزل} أي لولا ينزل فيكون المطلوب أحد هذه الأمور أو مجموعها باعتبار اختلاف القائلين، ولا يجوز النصب في {أو يلقى} ولا في {أو تكون} عطفاً على {فيكون} لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب لقوله {لولا أنزل} . وقرأ الجمهور {ويجعل} بالجزم قالوا عطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام {لك} لكن ذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو. قال ابن عطية: والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله {جعل} لأن جواب الشرط؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً ما قبله انتهى. وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف. وقال الزمخشري: وقرىء: {ويجعل} بالرفع عطفاً على {جعل} لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله: وإن أتاه خليل يوم مسألةيقول لا غائب مالي ولا حرم

انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي. وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على لتقديم، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه، وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام. وقال بعض أصحابنا: هو ضرورة إذ لم يجىء إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو. وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان {ويجعل} بالنصب على إضمار أن. وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو، وهي قراءة ضعيفة انتهى. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلكربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيشأجب الظهر ليس له سنام يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه. وانتصب {مكاناً} على الظرف أي في مكان ضيق. {مُّقَرَّنِينَ} قال ابن عطية: وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل مقرنون بالواو وهي قراءة شاذة، والوجه قراءة الناس ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير {ألقوا} بدل نكرة من معرفة ونصب على الحال.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً * وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الأٌّسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً * وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً * وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً * أَصْحَبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً * وَيَوْمَ} وقرأ الجمهور: {أن نتخذ} مبنياً للفاعل و {من أولياء} مفعول على زيادة {من} وحسن زيادتها انسحاب النفي على {نتخذ} لأنه معمول لينبغي. وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ وليّ من دون الله.

وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن عليّ وأخوه الباقر ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني أن يُتخذ مبنياً للمفعول واتخذ مما يتعدى تارة لواحد كقوله {أم اتخذوا آلهة من الأرض} وعليه قراءة الجمهور وتارة إلى اثنين كقوله {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} فقيل: هذه القراءة منه فالأول الضمير في {نتخذ} والثاني {من أولياء} و {من} للتبعيض أي لا يتخذ بعض أولياء وهذا قول الزمخشري. وقال ابن عطية: ويضعف هذه القراءة دخول {من} في قوله {من أولياء} اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. وقال أبو الفتح {من أولياء} في موضع الحال ودخلت {من} زيادة لمكان النفي المتقدم كما تقول: ما اتخذت زيداً من وكيل. وقيل {من أولياء} هو الثاني على زيادة {من} وهذا لا يجوز عند أكثر النحويين إنما يجوز دخولها زائدة على المفعول الأول بشرطه. ومفعول {أرسلنا} عند الزجاج والزمخشري ومن تبعهما محذوف تقديره أحداً. وقدره ابن عطية رجالاً أو رسلاً. وعاد الضمير في {إنهم} على ذلك المحذوف كقوله {وما منا إلاّ له مقام} أي وما منا أحد والجملة عند هؤلاء صفة أعني قوله {إلاّ إنهم} كأنه قال إلاّ آكلين وماشين. وعند الفراء المفعول محذوف وهو موصول مقدر بعد إلاّ أي إلاّ من. {إنهم} والضمير عائد على {من} على معناها فيكون استثناء مفرغاً وقيل: إنهم قبله قول محذوف أي {إلاّ} قيل {إنهم} وهذان القولان مرجوحان في العربية. وقال ابن الأنباري: التقدير إلاّ وإنهم يعنى أن الجملة حالية وهذا هو المختار. قد ردّ على من قال إن ما بعد إلاّ قد يجيء صفة وإما حذف الموصول فضعيف وقد ذهب إلى حكاية الحال أيضاً أبو البقاء قال: وقيل لو لم تكن اللام لكسرت لأن الجملة حالية إذ المعنى إلاّ وهم يأكلون. وقيل: في قوله {أتصبرون} أنه استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا. {رَبَّنَا لَقَدِ}

واللام في لقد جواب قسم محذوف. {يوم يرون الملائكة} {يوم} منصوب باذكر وهو أقرب أو بفعل يدل عليه {لا بشري} أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه {لا بشرى} لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الداخلة على الأسماء عاملة عمل ليس، ودخول {لا} على {بشرى} لانتفاء أنواع البشرى. واحتمل {بشرى} أن يكون مبنياً مع {لا} واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ، ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنياً مع {لا} احتمل أن يكون الخبر {يومئذ وللمجرمين} خبر بعد خبر أو نعت لبشرى، أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون {يومئذ} صفة لبشرى، والخبر {للمجرمين} ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس {لا} أو الخبر للمبتدأ الذي هو مجموع {لا} وما بني معها؟ وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون {يومئذ} معمولاً لبشرى، وأن يكون صفة، والخبر من الخبر. وأجاز أن يكون {يومئذ} و {للمجرمين} خبر وجاز أن يكون {يومئذ} خبراً و {للمجرمين} صفة، والخبر إذا كان الاسم ليس مبنياً لنفس لا بإجماع. وقال الزمخشري: و {يومئذ} للتكرير وتبعه أبو البقاء، ولا يجوز أن يكون تكريراً سواء أريد به التوكيد اللفظي أم أريد به البلد، لأن {يوم} منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يعدمون البشرى وما بعد {لا} العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبل إلاّ والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم. قيل: ويجوز أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير، والظاهر أن الضمير في {ويقولون} عائد على القائلين لأن المحدث عنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة، ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلاّ بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ونزول الشدة. وذكر سيبويه {حجراً} في المصادر المنصوبة غير المتصرفة. وقال بعض الرجاز:

قالت وفيها حيرة وذعرعوذ يرى منكم وحجر وأنه واجب إضمار ناصبها. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجراً. وقيل: الضمير في {ويقولون} عائد على الملائكة أي تقول الملائكة للمجرمين {حجراً محجوراً} عليكم البشرى و {محجوراً} صفة يؤكد معنى {حجراً} كما قالوا: موت مائت، وذيل ذائل. {وَقَدِمْنَآ} قيل: أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا وأسند ذلك إليه لأنه عن أمر. و {منثوراً} صفة للهباء شبهه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به، ثم وصفه بمنثوراً لأن الهباء تراه منتظماً مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب. وقال الزمخشري: أو جعله يعني {منثوراً} مفعولاً ثالثاً لجعلناه أي {فجعلناه} جامعاً لحقارة الهباء والتناثر. كقوله {كونوا قردة خاسئين} أي جامعين للمسخ والخسء انتهى. وخالف ابن درستويه فخالف النحويين في منعه أن يكون لكان خبران وأزيد. وقياس قوله في جعل أن يمنع أن يكون لها خبر ثالث.

{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً * وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً * أَصْحَبُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَمِ وَنُزِّلَ الْمَلَئِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَفِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّلِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِلإِنْسَنِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً * الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} وقرأ الجمهور: {ونُزِّل} ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول، وابن مسعود وأبو رجاء {ونزل} ماضياً مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً وأنزل مبنياً للفاعل وجاء مصدره {تنزيلاً} وقياسه إنزالاً إلاّ أنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحداً جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر: حتى تطوّيت انطواء الخصب

كأنه قال: حتى انطويت. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضياً رباعياً مبنياً للمفعول مضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو {ونزل} ثلاثىاً مخففاً مبنياً للفاعل، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو {ونزل الملائكة} بضم النون وشد الزاي، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشدداً مبنياً للفاعل. ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده قال: وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو. وعن أبيّ أيضاً وتنزلت. وقرأ أبيّ ونزلت ماضياً مشدداً مبنياً للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو: {ونُزَل} مخففاً مبنياً للمفعول {الملائكة} رفعاً، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره: ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى {الملائكة} بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى. وقال أبو الفتح: وهذا غير معروف لأن {نزل} لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه. وهذا باب سماع لا قياس انتهى. {بِالْغَمَمِ} والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله {السماء منفطر به} أو بمعنى عن أقوال ثلاثة. والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له. و {الحق} صفة للملك وخبر {الملك} {يومئذ} . و {الرحمن} متعلق بالحق أو للبيان أعني {للرحمن} . وقيل: الخبر {للرحمن} و {يومئذ} معمول للملك. وقيل: الخبر {الحق} و {للرحمن} متعلق به أو للبيان.

{يقول} في موضع الحال {وفلان} كناية عن العلم وهو متصرف وقل كناية عن نكرة الإنسان نحو: يا رجل وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخماً من فلان خلافاً للفراء. ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان. وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب. وانتصب {هادياً} و {نصيراً} على الحال أو على التمييز. {لنثبت به فؤادك} تعليلاً لمحذوفل أي فرقناه في أوقات {لنثبت به فؤادك} . وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم، ولما تضمن كلامهم. واللام في {لنثبت به} لام العلة. وقال أبو حاتم: هي لام القسم والتقدير والله ليثبتن فحذفت النون وكسرت اللام انتهى. وهذا قول في غاية الضعف وكان ينحو إلى مذهب الأخفش أن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه ولتصغي إليه أفئدة وهو مذهب مرجوح. وأعربوا {الذين} مبتدأ والجملة من {أولئك} في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون {الدين} خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا قال إبعاداً لهم وتسميعاً بما يؤول إليه حالهم هم {الذين يحشرون} ثم استأنف إخباراً أخبر عنهم فقال: {أولئك شر مكاناً} .

{وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَرُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا فَدَمَّرْنَهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَهُمْ وَجَعَلْنَهُمْ لِلنَّاسِءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّلِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَبَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأٌّمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً * وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً * أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأٌّنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} {هارون} بدل أو عطف بيان، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا. وانتصب {وقوم نوح} على الاشتغال وكان النصب أرجح لتقدم الجمل الفعلية قبل ذلك، ويكون {لما} في هذا الإعراب ظرفاً على مذهب الفارسي. وأما إن كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن {أغرقناهم} جواب لما فلا يفسر ناصباً لقوم فيكون معطوفاً على المفعول في {فدمرناهم} أو منصوباً على مضمر تقديره اذكر. وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي.

والظاهر عطف {وعاداً} على و {قوم} وقال أبو إسحاق: يكون معطوفاً على لهاء والميم في {وجعلناهم للناس آية} . قال: ويجوز أن يكون معطوفاً على {الظالمين} لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا {عاداً وثموداً} . {ذلك} إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول {بين} عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة. ثم يشير إليها وانتصب {كلا} الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلا أو حذرنا كلا والثاني على أن مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولاً وهذا من واضح الإعراب. و {كلا} منصوب بضربنا و {الأمثال} بدل من {كلا} . والضمير في {ولقد أتوا} لقريش. وقال مكي: الضمير في {أتوا} عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوراً انتهى. وهم قريش وانتصب {مطر} على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء. {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} وهو استفهام مهناه التعجب. {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} و {أن} نافية جواب {إذا} وانفردت {إذا} بإنه إذا كان جوابها منفياً بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من الفاء كما النافية. {أهذا} قبله قول محذوف أي يقولون وقال: جواب {إذا} ما أضمر من القول أي {وإذا رأوك} قالوا {أهذا الذي بعث اللَّه رسولاً} و {أن يتخذونك} جملة اعتراضية بين {إذا} وجوابها. {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول {يعلمون} إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين، ويجوز أن تكون {من} موصولة مفعولة بيعلمون و {أضل} خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء.

و {أرأيت} استفهام تعجب من جهل من هذه حاله و {إلهه} المفعول الأول لاتخذ، و {هواه} الثاني أي أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو جار على ما يكون في {هواه} . وقرأ ابن هرمز: إلاهه على وزن فعالة وفيه أيضاً تقديم أي هواه إلاهه بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة. فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت. ويقال لها أُلاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح. ومفعول {أرأيت} الأول هو {من} والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. و {أم} منقطعة تتقدر ببل والهمزة على لمذهب الصحيح.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً * لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَفِرِينَ وَجَهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً * وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَفِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً * وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}

بمد والجملة في موضع متعلق {ألم تروَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً * الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} لأن {تر} معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام. {مَآءً طَهُوراً} والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر، وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور والفطور، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه. والظاهر في قوله {ماء طهوراً} أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر. وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} . وقال الشاعر: إلى رحج الأكفال غيد من الظباعذاب الثنايا ريقهنّ طهور وقرأ عيسى وأبو جعفر {ميِّتاً} بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون في معنى البلد في قوله {فسقناه إلى بلد ميت} ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلاً من المصادر، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للثاء إلاّ فيما خص المؤنث نحو طامث. {وأناسي} جمع إنسان في مذهب سيبويه. وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة. وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين. والضمير في {صرفناه} عائد على الماء المنزل من السماء.

وقال ابن عباس أيضاً: عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده {وجاهدهم به} لتوافق الضمائر، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن. وقال أبو مسلم: راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة. {جِهَاداً} مصدر وصف بكبيراً. والظاهر أن {حجراً محجوراً} معطوف على {برزخاً} عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه {حجراً محجوراً} . والظاهر أن {الكافر} اسم جنس فيعم. والضمير في {عليه} عائد على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أو على إبلاغ الرسالة أقوال. والظاهر في {إلاّ من شاء} أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور. واحتمل {الذي} أن يكون صفة للحي الذي لا يموت. ويتعين على قراءة زيد بن عليّ {الرحمن} بالجر وأما على قراءة الجمهور {الرحمن} بالرفع فإنه يحتمل أن يكون {الذي} صفة للحي و {الرحمن} خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يكون {الذي} مبتدأ و {الرحمن} خبره. وأن يكون {الذي} خبر مبتدأ محذوف، و {الرحمن} صفة له. أو يكون {الذي} منصوباً على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون {الرحمن} مبتدأ. و {فاسأل} خبره تخريجه على حد قول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم وجوزوا أيضاً في {الرحمن} أن يكون بدلاً من الضمير المستكن في {استوى} . والظاهر تعلق به بقوله {فاسال} وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن. وإن جعلت {به} متعلقاً بخبيراً كان المعنى {فاسأل} عن الله الخبراء به. وقال الزمخشري: الباء في {به} صلة سل كقوله {سأل سائل بعذاب} كما يكون عن صلته في نحو {ثم التسألن يومئذ عن النعيم} أو صلة {خبيراً} به فتجعل {خبيراً} مفعولاً. ومفعول {تأمرنا} الثاني محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو قولهم: أمرتك الخير.

{تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً * وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأٌّرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يًّبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَلِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً * وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِئَايَتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَماً * خَلِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} الضمير في {فيها} الظاهر أنه عائد على {السماء} . وقيل: على البروج. وانتصب {خلفة} على الحال. فقيل: هو مصدر خلف خلفة. وقيل: هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالاً اسم الهيئة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} هذه إضافة تشريف وتفضل. وقيل: أولئك الخبر و {الذين} صفة. وقال: وانتصب {هوناً} على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت. مجاهد: قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا. وقيل: هو على إضمار فعل تقديره سلمنا {سلاماً} فهو جزء من متعلق الجملة المحكية. قال ابن عطية: والذي أقوله أن {قالوا} هو العامل في {سلاماً} لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال الزمخشري: تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم. و {ساءت} احتمل أن يكون بمعنى بئست. والمخصوص بالذم محذوف وفي {ساءت} ضمير مبهم ويتعين أن يكون {مستقراً ومقاماً} تمييز. والتقدير {ساءت مستقراً ومقاماً} هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبراً لأن. ويجوز أن يكون {ساءت} بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفاً أي ساءتهم. والفاعل ضمير جهنم وجاز في {مستقراً ومقاماً} أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر. ويظهر أن قوله {ومقاماً} معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان.

وقيل: {قواماً} بالكسر مبلغاً وسداداً وملاك حال، و {بين ذلك} و {قواماً} يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر {كان} وأن يكون {بين} هو الخبر و {قواماً} حال مؤكدة، وأن يكون {قواماً} خبراً و {بين ذلك} إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف، وأن يكون حالاً من {قواماً} لأنه لو تأخر لكان صفة، وأجاز الفراء أن يكون {بين ذلك} اسم {كان} وبُني لإضافته إلى مبني كقوله {ومن خزي يومئذ} في قراءة من فتح الميم و {قواماً} الخبر. (يضاعف) و (يخلد) . والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً. والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من {يلق} . كما قال الشاعر: متى تأتنا تلمم بنافي ديارناتجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً والضمير في {فيه} عائد على العذاب. {إلاّ من تاب} استثناء متصل من الجنس، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه {يضاعف له العذاب} فيصير التقدير {إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} فلا يضاعف له العذاب. ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعاً أي لكن من تاب وآمن عمل صالحاً {فأولئك يبدل الله سىئاتهم حسنات} و {سيئاتهم} هو المفعول الثاني، وهو أصله أن يكون مقيداً بحرف الجر أي بسيئاتهم. و {حسنات} هو المفعول الأول وهو المسرح كما قال تعالى {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} . وقال الشاعر: تضحك مني أخت ذات النحيينأبد لك الله بلون لونين سواد وجه وبياض عينين (صماً وعمياناً) هي صفة للكفار. وتقدم لنا أن {من} التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين. ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس. والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن.

سورة الشعراء

وجاء {أعين} بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري. وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جداً وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد. {أولئك} إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة. {بما صبروا} للسبب. وقيل: للبدل أي بدل صبرهم كما قال: فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا أي فليت لي بدلهم قوماً ولم يذكر متعلق الصبر مخصصاً ليعم جميع متعلقاته. والظاهر أن {ما} نفي أي ليس {يبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي، أي عبء يعبأ بكم، و {دعاؤكم} مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلها. وقيل: أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته. ونقل ابن خالويه عن أبي السماك أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار معدول عن الفجرة.j سورة الشعراء مائتان وسبعة وعشرون آية مكية وقال ابن عطية: كبكب مضاعف من كب، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح، لأن معناهما واحد، والتضعيف في الفعل نحو: صرصر وصرصر. انتهى. وقول الزمخشري وابن عطية هو قول الزجاج، وهو أنه يزعم أن نحو كبكبه مما يفهم المعنى بسقوط ثالثه، هو مما ضوعف فيه الباء. وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني، فكان أصله كبب، فأبدل من الباء الثانية كاف. وقرأ الجمهور: فظلت، ماضياً بمعنى المستقبل، لأنه معطوف على ينزل.

فقال ابن عبسى: هو على حذف مضاف، أي أصحاب للأعناق. وروعي هذا المحذوف في قوله: {خاضعين} ، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل، أولاً حذف، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه، فأخبر عنه إخباره، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو: كما شرقت صدر القناة من الدم أولاً حذف، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع، جمعت جمعه كما جاء: {أتينا طائعين} . {إلا كانوا: جملة حالية، أي إلا يكونوا عنها. إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} والعامل في إذ، قال الزجاج، اتل مضمرة، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى، ودليل ذلك {واتل عليهم نبأ إبراهيم} إذ. وقيل: العامل اذكر، وهو مثل واتل. وأن: يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون تفسيرية. و {قوم فرعون} ، وقيل: بدل من {القوم الظالمين} ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، وسوغه مستقل بالإسناد. ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك، أتى عطف البيان بإزالته، إذ هو أشهر. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: {ألا يتقون} ؟ قلت: هو كلام مستأنف.

ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاً من الضمير في الظالمين، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. انتهى. وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين، وقد أعرب هو {قوم فرعون} عطف بيان، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما، لأن قوم فرعون معمول لقوله: {ائت} والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين، وذلك لا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله: قوم فرعون. لم يجز أن تكون الجملة حالاً، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها. وقولك: جئت أمسرعاً؟ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز، فلو أضمرت عاملاً بعد الهمزة جاز. والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح، وكذلك قول الزمخشري: إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار. {ويضيق ولا ينطلق} ، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف. فالمعنى: إنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بن عليّ، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب: بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. ومعكم، قيل: من وضع الجمع موضع المثنى، أي معكما. وقيل: هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال: لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال الله معه. وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع، إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته. {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون، وأن يكون خبراً ومستمعون خبر ثان.

{وإن أرسل:} يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول، وأن تكون مصدرية. {وأنت من الكافرين:} يجوز أن يكون حالاً، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون. ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد. {فَعَلْتُهَآ إِذاً} قال ابن عطية: إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري: فإن قلت: إذاً جواب وجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: {وفعلت فعلتك} فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها، مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملوا قوله: {فعلتها إذاً} من المواضع التي جاءت فيها جواباً بالآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين. {قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأّ يَأْتَمِرُونَ} وقرأ الجمهور: لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفاً بمعنى حين، على مذهب الفارسي. {وتلك نعمة تمنها عليّ:} وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: {ألم نربك فينا وليداً} .

فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} ، والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي: {أن عبدت بني إسرائيل} في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل. وجاء قوله: {وما بينهما} على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله: بين رماحي مالك ونهشل اعتباراً للجنسين: قال الزمخشري: أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} ، فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي: واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟. وقدره الزمخشري: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقوله: أنت ظالم إن فعلت، تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي: إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه، وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به.

قال ابن عطية: وانتصب حوله على الظرف، وهو في موضع الحال، أي كائنين حوله، فالعامل فيه محذوف، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له، قال: لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر، نحو: مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً، فكأنه قيل: قال للذي حوله، فلا موضع للعامل في الظرف، لأنه وقع صلة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، وذلك استقروا حوله، وهذا يقدر في جميع الظروف، والعامل في النصب المحلي، وهو النصب على الحال. انتهى. {وبعزة فرعون} : الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلق به الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً، كما يقال للملوك: أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب. قال الزمخشري: فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلاً، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى. وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقول ذاهب عن الصواب. وقال ابن عطية: قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير: بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن حذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى.

قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: {إن كنا أول المؤمنين} فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوقني حقي، ومنه قوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيل وابتغاء مرضاتي} ، مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميحب العسل» ، أي ليحب. وقال الشاعر: ونحن أباة الضيم من آل مالكوإن مالك كانت كرام المعادن أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن. وقال أبو عبيدة: رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد. وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة، وأنه يعمل كما يعمل حاذر، فينصب المفعول به، وأنشد: حذر أموراً لا تضير وآمنما ليس منجيه من الأقدار وقد توزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن الفراء أيضاً، والكسائي: رجل حذر، إذا كان الحذر في خلقته، فهو متيقظ منتبه. وقرأ سميط بن عجلان، وابن أبي عمار. قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك. انتهى. فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه.

{ثم:} أي هناك، وثم ظرف مكان للبعد. والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل. قيل: مشرقين: أي في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر، فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من المفعول. وقرأ الجمهور: {يسمعونكم} ، من سمع؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد، نحو: سمعت كلام زيد، وإن دخلت على غير مسموع، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع، نحو: سمعت زيداً يقرأ والصحيح أنها تتعدى إلى واحد، وذلك الفعل في موضع الحال، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وهنا لم تدخل إلا على واحد، ولكنه بمسموع، فتأولوه على حذف مضاف تقديره: هل يسمعوانكم، تدعون؟ وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر: بضم الياء وكسر الميم من أسمع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: الجواب، أو الكلام. وإذ: ظرف لما مضى، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي، فيكون التقدير: هل سمعوكم هذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إلى جملة مصدرة بالمضارع، ومثلوا بقوله: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه} ، أي وإذ قلت. وقال الزمخشري: وجاء مضارعاً مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى.

قال ابن عطية: ويجوز فيه قياس مذكر، ولم يقرأ به أحد؛ والقياس أن يكون اللفظ به، إذ ددعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل، فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز، لأن ذلك الإبدال، وهو إبدال التاء دالاً، لا يكون إلا في افتعل، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال، نحو: إذذكر، وازدجر، وادهن، أصله: اذتكر، وازتجر، وادتهن؛ أو جيم شذوذ، قالوا: اجد مع في اجتمع، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت: فزد، وفي جلدت: جلدّ، ومن تاء تولج شذوذاً قالوا: دولج، وتاء المضارعة ليست شيئاً مما ذكرنا، فلا تبدل تاءه. وقول ابن عطية: والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره، يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء، المضارعة دالاً وإدغام الذال فيها، فكنت تقول: إذ تخرج: ادّخرج، وذلك لا يقوله أحد، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء، فتقول: اتخرج. والكاف في موضع نصب بيفعلون. وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً وإقراراً بالعجز. وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال: {هم العدو فاحذرهم} ، قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع.

الظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير. وقال الجرجاني: تقديره: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين، فإنهم عدو لي، وإلا: بمعنى دون وسوى. انتهى. فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله: {فإنهم عدو لي} . وجعله جماعة منهم الفراء، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً، أي لكن رب العالمين، لأنهم فهموا من قوله: ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام. وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله، وأجازوا في {الذي خلقني} النصب على الصفة لرب العالمين، أو بإضمار، أعني: والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون {الذي خلقني} رفعاً بالابتداء، {فهو يهدين:} ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. انتهى. وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص، ولا يتخيل فيه العموم، فليس نظير: الذي يأتيني فله درهم، وأيضاً ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم. وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا، لكنه لم يقل: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. فإن كان أراد ذلك، فليس بجيد لما ذكرناه، وإن لم يرده، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء، على مذهب الأخفش في نحو: زيد فاضربه؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته. و {يوم الدين:} ظرف، والعامل فيه يعفر. {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}

والظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال الزمخشري: ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف، وهو الحال المراد بها السلامة، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب، ولو لم يقدر المضاف ثم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف، كما ذكر، إذ قدرناه، لكن {من أتى الله بقلب سليم} ينفعه ذلك، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلاً بتأويل قال: إلا من أتى الله: إلا حال من أتى الله بقلب سليم، وهو من قوله: تحية بينهم ضرب وجيع وما ثوابه إلى السيف، ومثاله أن يقال: هل لزيد مال وبنون؟ فيقول: ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغاً، فمن مفعول، والتقدير: لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا من أتى الله بقلب سليم، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر. {الجحيم} بالرفع، بإسناد الفعل إليها اتساعاً. {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} وقوله: إن كنا إلا ضالين، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح، وإن أراد أن هنا نافية، واللام في لفي بمعنى إلا، فليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.

{فنكون} معطوفاً على كرة، أي فكونا من المؤمنين، وجواب لو محذوف، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء، أو لخلصنا من العذاب. والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من حال قومه. وكان ابن عطية قد أعرب {يوم لا ينفع} بدلاً من {يوم يبعثون} ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام، وجعل بعضه من كلام إبراهيم، وبعضه من كلام الله، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخرمن لفظ الأول، أو الأول. وعلى كلا التقديرين، لا يصح أن يكون من كلام الله، إذ يصير التقدير: ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون.

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَلَمِينَ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأٌّرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ ينُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَقِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لأّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَلَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍءَايَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَمٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلاَّ

خُلُقُ الأٌّوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَلِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَلَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآءَامِنِينَ * فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَرِهِينَ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الأٌّرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَدِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَلَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَلَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يلُوطُ لَتَكُونَنَّ

مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَلِينَ * رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَبِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الأٌّخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لأّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَ أَصْحَبُ لْئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَلَمِينَ * أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأٌّوَّلِينَ * قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لأّيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأٌّمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأٌّوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَءِيلَ

* وَلَوْ نَزَّلْنَهُ عَلَى بَعْضِ الأٌّعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ} وقوله: {واتبعك الأرذلونالْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأٌّلِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَلِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ * فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاًءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأٌّقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَذِبُونَ * وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ} ، جملة حالية.

ومتعلق التقوى محذوف، القوم: مؤنث مجازي التأنيث، ويصغر قويمة، فلذلك جاء: {كذبت قوم نوح} ولما كان مدلوله أفراداً ذكوراً عقلاء، عاد الضمير عليه، كما يعود على جمع المذكر العاقل. وقيل: قوم مذكر، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة. وقرأ الجمهور: واتبعك فعلاً ماضياً. وقرأ عبد الله، وابن عباس، والأعمش، وأبو حيوة، والضحاك، وابن السميفع، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري، وطلحة، ويعقوب: واتباعك جمع تابع، كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع تبيع، كشريف وأشراف. وقيل: جمع تبع، كبرم وإبرام، والواو في هذه القراءة للحال. وقيل: للعطف على الضمير الذي في قوله: {أنؤمن لك} ، وحسن ذلك للفصل بلك، قاله أبو الفضل الرازي وابن عطية وأبو البقاء. وعن اليماني: واتباعك بالجر عطفاً على الضمير في لك، وهو قليل، وقاسه الكوفيون. وقال الحوفي: وما علمي، والباء متعلقة بعلمي. انتهى. وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة. {لعلكم تخلدون:} الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود. وفي قراءة عبد الله: كي تخلدون. {وبأنعام:} ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله: {بما تعملون} ، وأعيد العامل كقوله: {اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم} . والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلاً وإنما هو عندهم من تكرار الجمل، وإن كان المعنى واحداً، ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به، نحو: مررت بزيد بأخيك. {أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآءَامِنِينَ} وما موصولة، وههنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب، أي في الذي استقر في مكانكم هذا من النعيم. وفي جنات: بدل من ما ههنا. مجاهد: متفرهين، اسم فاعل من تفرده. {أتأتون} : استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ. وساء: بمعنى بئس، والمخصوص بالذم محذوف. {كَذَّبَ أَصْحَبُ لْئَيْكَةِ}

ثم مادّة ل ي ك لم يوجد منها تركيب، فهي مادّة مهملة. كما أهملوا مادّة خ ذ ج منقوطاً. القسطاس في سورة الإسراء. وقال الزمخشري: إن كان من القسط، وهو العدل، وجعلت الغين مكررة، فوزنه فعلاء، وإلا فهو رباعي. انتهى. ولو تكرر ما يماثل العين في النطق، لم يكن عند البصريين إلا رباعياً. وقال ابن عطية: هو مبالغة من القسط. {وإن نظنك لمن الكاذبين:} إن هي المخففة من الثقيلة، واللام في لمن هي الفارقة، خلافاً للكوفيين، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا. {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأٌّمِينُ} وبه قال ابن عطية: في موضع الحال كقوله: {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} . انتهى. والظاهر تعليق على {قلبك} و {لتكون} بنزل. وقال الزمخشري: {بلسان،} إما أن يتعلق بالمنذرين، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد صلى الله عليه وسلّموعليهم؛ وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي المبين لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي، لتجافوا عنه أصلاً وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وقرأ الجمهور: {أو لم يكن،} بالياء من تحت، {آية:} بالنصب، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن، و {أن يعلمه:} هو الاسم. وقرأ ابن عامر، والجحدري: تكن بالتاء من فوق، آية: بالرفع. قال الزمخشري: جعلت آية اسماً، وأن يعلمه خبراً، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك فقيل: في تكن ضمير القصة، وآية أن يعلمه جملة واقعة الخبر، ويجوز على هذا أن يكون لهم آية جملة الشأن، وأن يعلمه بدلاً من آية. انتهى. (فيأتيهم العذاب) وقرأ الحسن، وعيسى: بتاء التأنيث، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة.

وقال أبو الفضل الرازي: أنث العذاب لاشتماله على الساعة، فاكتسى منها التأنيث، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيباً بها، فلذلك أنث. ولا يكتسى المذكر من المؤنث تأنيثاً إلا إن كان مضافاً إليه نحو: اجتمعت أهل اليمامة، وقطعت بعض أصابعه، وشرقت صدر القناة، وليس كذلك. {يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن} وتقرر في علم العربية أن أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني، تعدت إلى مفعولين، أحدهما منصوب والآخر جملة استفهامية. في الغالب تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في أوائل سورة الأنعام. وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوباً بأرأيت على إعمال الأول، وأضمر الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله: {ما أغنى عنهم،} وما استفهامية، أي: أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول، أي: أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل، أي الموعود به، وهو العذاب؟ وظاهر ما فسر به المفسرون ما أغنى: أن تكون ما نافية، والاستفهام قد يأتي مضمناً معنى النفي كقوله: {هل يهلك إلا القوم الظالمون؟} بعد قوله: {أرأيتكم} في سورة الأنعام، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاماً وننافية. وقرىء: يمتعون، بإسكان الميم وتخفيف التاء. {يُمَتَّعُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا}

والجملة من قوله: {لها منذرون} ، في موضع الحال {من قرية،} والإعراب أن تكون لها في موضع الحال، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائناً لها منذرون، فيكون من مجيء الحال مفرداً لا جملة، ومجيء الحال من المنفي كقول: ما مررت بأحد إلا قائماً، فصيح. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنها في قوله: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم؟} قلت: الأصل عزل الواو، لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: {سبعة وثامنهم كلبهم} . انتهى. ولو قدر نالها منذرون جملة، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا. ومذهب الجمهور، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو: ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا، خرجوه على البدل، أي: إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائماً، ولا يحفظ من كلامها: ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة، لو رد المفرد بعد إلا صفة لها. فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة، جاءت الصفة بعد إلا نحو: ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو، التقدير: ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد. وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف، فغير معهود في كلام النحويين. لو قلت: جاءني رجل وعاقل، على أن يكون وعاقل صفة لرجل، لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازاً إذا عطف بعضها على بعض، وتغاير مدلولها نحو: {مررت} بزيد الكريم والشجاع والشاعر. وأما {وثامنهم كلبهم} فتقدم الكلام عليه في موضعه.

{وذكرى:} منصوب على الحال عند الكسائي، وعلى المصدر عند الزجاج. فعلى الحال، إما أن يقدر ذوي ذكرى، أو مذكرين. وعلى المصدر، فالعامل منذرون، لأنه في معنى مذكرون ذكرى، أي تذكرة. وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولاً له، قال: على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية. قال الزمخشري: ووجه آخر، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له. وهذا لا معوّل عليه، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى، أو مستثنى مه، أو تابعاً له غير معتمد على الأداة نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو. والمفعول له ليس واحداً من هذه الثلاثة، فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته. وقرأ الجمهور: {وتقلبك} مصدر تقلب، وعطف على الكاف في {يراك. قل: هل أنبئكم} : أي قل يا محمد: هل أخبركم؟ وهذا استفهام توقيف وتقرير. وعلى من متعلق بتنزل، والجملة المتضمنة معنى الاستفهام في موضع نصب لأنبئكم، لأنه معلق، لأنه بمعنى أعلمكم، فإن قدرتها متعدية لاثنين، كانت سادة مسد المفعول الثاني؛ وإن قدرتها متعدية لثلاثة، كانت سادة مسد الاثنين. والاستفهام إذا علق عنه العامل، لا يبقى على حقيقة الاستفهام وهو الاستعلام، بل يؤول معناه إلى الخبر. ألا ترى أن قولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو، كان المعنى: علمت أحدهما في الدار؟ فليس المعنى أنه صدر منه علم، ثم استعلم المخاطب عن تعيين من في الدار من زيد وعمرو، فالمعنى هنا: هل أعلمكم من تنزل الشياطين عليه؟ لأنه استعلم المخاطبين عن الشخص الذي تنزل الشياطين عليه.

سورة النمل

ولما كان المعنى هذا، جاء الإخبار بعده بقوله: {تنزل على كل أفاك أثيم،} كأنه لما قال: هل أخبركم بكذا؟ قيل له: أخبر، فقال: {تنزل على كل أفاك. وأكثرهم} : أي وأكثر الشياطين الملقين {كاذبون.} فعلى معنى الإنصات يكون استئناف إخبار، وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف، واحتمل أن يكون حالاً من الشياطين، أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا. ويحتمل أن يعود الضمير في يلقون على كل أفاك أثيم، وجمع الضمير، لأن كل أفاك فيه عموم وتحته أفراد. (تنزل على كل أفاك) . وعلى كون الضمير عائداً على كل أفاك، احتمل أن يكون يلقون استئناف إخبار عن الأفاكين، واحتمل أن يكون صفة لكل أفاك، ولا تعارض بين قوله: {كل أفاك. وسيعلم} هنا معلقة، وأي منقلب: استفهام، والناصب له ينقلبون، وهو مصدر. والجملة في موضع المفعول لسيعلم. وقال أبو البقاء: أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف، والعامل ينقلبون انقلاباً، أي منقلب، ولا يعمل فيه يعلم، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. انتهى. وهذا تخليط، لأن أياً، إذا وصف بها، لم تكن استفهاماً، بل أي الموصوف بها قسم لأي المستفهم بها، لا قسم. فأي تكون شرطية واستفهامية وموصولة، ووصفاً على مذهب الأخفش موصوفة بنكرة نحو: مررت بأي معجبلك، وتكون مناداة وصلة لنداء ما فيه الألف واللام نحو: يا أيها الرجل. والأخفش يزعم أن التي في النداء موصولة. ومذهب الجمهور أنها قسم برأسه، والصفة تقع حالاً من المعرفة، فهذه أقسام أي؛ فإذا قلت: قد علمت أي ضرب تضرب، فهي استفهامية، لا صفة لمصدر محذوف. سورة النمل وهي خمس وتسعون آية مكية {الْقُرْءَانِ وَكِتَبٍ}

وإذا أريد به القرآن، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة، فحيث جاء بلفظ التعريف، فهو العلم، وحيث جاء بوصف النكرة، فهو الوصف، وقيل: هما يجريان مجرى العباس، وعباس فهو في الحالين اسم العلم. انتهى. وهذا خطأ، إذ لو كان حاله نزع منه علماً، ما جاز أن يوصف بالنكرة. ألا ترى إلى قوله: {وكتاب مبين} ، وقرآن مبين، وأنت لا تقول: مررت بعباس قائم، تريد به الوصف؟ وقرأ ابن أبي عبلة: وكتاب مبين، برفعهما، التقدير: وآيات كتاب، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بإعرابه. وهنا تقدم القرآن على الكتاب، وفي الحجر عكسه، ولا يظهر فرق، وهذا كالمعاطفين في نحو: ما جاء زيد وعمرو. فتارة يظهر ترجيح كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} ، وتارة لا يظهر كقوله: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً} . (هدى) و (بشرى) وهدى وبشرى مقصوران، فاحتمل أن يكونا منصوبين على الحال، أي هادية ومبشرة. قيل: والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة، واحتمل أن يكونا مصدرين، واحتملا الرفع على إضمار مبتدأ. أي هي هدى وبشرى.

{وهم بالآخرة هم يوقنون} : تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة {الذين} . ولما كان: {يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} مما يتجدد ولا يستغرق الأزمان، جاءت الصلة فعلاً. ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة، جاءت الجملة اسمية، وأكدت المسند إليه فيها بتكراره، فقيل: {هم يوقنون} وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، واحتمل أن تكون الجملة استئناف إخبار. قال الزمخشري: ويحتمل أن تتم الصلة عنده، أي عند قوله: {وهم} ، قال: وتكون الجملة اعتراضية، كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم، حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق. انتهى. وقوله: وتكون الجملة اعتراضية، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من كونها لا تقع إلا بين شيئين متعلق بعضهما ببعض، كوقوعها بين صلة وموصولة، وبين جزأي إسناد، وبين شرط وجزائه، وبين نعت ومنعوت، وبين قسم ومقسم عليه، وهنا ليست واقعة بين شيئين مما ذكر وقوله الخ. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند تزين أعمالهم إلى ذاته، وأسنده إلى الشيطان في قوله: {وزين لهم الشيطان أعمالهم؟} قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله تعالى مجاز، وله طريقان في علم البيان: أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة. والثاني: أن يكون من المجاز المحكي. والظاهر أن {الأخسرون} أفعل التفضيل.

قال الكرماني: أفعل هنا للمبالغة لا للشركة، كأنه يقول: ليس للمؤمن خسران ألبتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة. وقال ابن عطية: والأخسرون جمع أخسر، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف، فتقوى رتبته في الأسماء، وفي هذا نظر. انتهى. ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير. إذا كان بأل، بل لا يجوز فيه إلا ذلك، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول: الزيدون هم الأفضلون، والأفاضل، والهندات هنّ الفضليات والفضل. وأما قوله: لا يجمع إلا أن يضاف، فلا يتعين إذ ذاك جمعه، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو. (وانك لتُلقى القرآن) وبنى الفعل للمفعول، وحذف الفاعل، وهو جبريل عليه السلام، للدلالة عليه في قوله: {نزل به الروح الأمين} . ولقي يتعدى إلى واحد، والتضعيف فيه للتعدية، فيعدى به إلى اثنين. {عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَى لأًّهْلِهِ إِنِّى آنَسْتُ نَاراً} قيل: وانتصب {إذ} باذكر مضمرة، أو بعليم؛ وليس انتصابه بعليم واضحاً، إذ يصير الوصف مقيداً بالمعمول. وجاء هنا: {سآتيكم منها بخبر،} وهو خبر، وفي طه: {لعلي آتيكم منها بقبس} ، وفي القصص: {لعلي آتيكم منها بخير} ، وهو ترج، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر. ولكن الرجاء إذا قوي، جاز للراجي أن يخبر بذلك، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع. وأتى بسين الاستقبال، إما لأن المسافة كانت بعيدة، وإما لأنه قد يمكن أن تبطىء لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه. {ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ} وقرأ الكوفيون: بشهاب منوناً، فقبس بدل أو صفة، لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة: بالإضافة، وهي قراءة الحسن. قال الزمخشري: أضاف الشهاب إلى القبس، لأنه يكون قبساً وغير قبس، واتبع في ذلك أبا الحسن. قال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول: دار آجر، وسوار ذهب.

و {نودي} المفعول الذي لم يسم فاعله، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام. و {أن} على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها، ويجوز أن تكون مصدرية. أما الثنائية التي تنصب المضارع، وبورك صلة لها، والأصل حرف الجر، أي بأن بورك، وبورك خبر. وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وتقديره بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن والقصة؟ قلت: لا، لأنه لا بد من قد. فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة ولا تحذف. انتهى. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وبورك فعل دعاء، كما تقول: بارك الله فيك. وإذا كان دعاء، لم يجز دخول قد عليه، فيكون كقوله تعالى: {والخامسة أن غضب الله عليها} في قراءة من جعله فعلاً ماضياً، وكقول العرب: إما أن جزاك الله خيراً، وإما أن يغفر الله لك، وكان الزمخشري بنى ذلك على {أن بورك} خبر لا دعاء، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأجاز الزجاج أن تكون {أن بورك} في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو على إسقاط الخافض، أي نودي بأن بورك، كما تقول: نودي بالرخص. ويجوز أن تكون أن الثنائية، أو المخففة من الثقيلة، فيكون بورك دعاء. وقيل: المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء، أي نودي هو، أي النداء، ثم فسر بما بعده. {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم} والظهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن، وأنا الله: جملة في موضع الخبر، والعزيز الحكيم: صفتان، وأجاز الزمخشري أن يكون الضمير في إنه راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله، يعني: إن مكلمك أنا، والله بيان لأنا، والعزيز الحكيم صفتان للبيان. انتهى. وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول، فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف، إذ قد غير الفعل عن بنائه له، عزم على أن لا يكون محدثاً عنه. فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك، إذ يصير مقصوداً معتنى به.

وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: {وألق عصاك} ؟ قلت: على بورك، لأن المعنى: {نودي أن بورك من في النار} . وقيل له: ألق عصاك، والدليل على ذلك قوله: {وأن ألق عصاك} ، بعد قوله: {أن يا موسى إني أنا الله} ، على تكرير حرف التفسير، كما تقول: كتبت إليه أن حج واعتمر، وإن شئت أن حج وأن اعتمر. انتهى. وقوله: {إنه} ، معطوف على بورك مناف لتقديره. وقيل له: ألق عصاك، لأن هذه جملة معطوفة على بورك، وليس جزؤها الذي هو. وقيل: معطوفاً على بورك، وإنما احتيج إلى تقدير. وقيل له: ألق عصاك، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين، والصحيح أنه لا يشترط ذلك، بل قوله: {وألق عصاك} معطوف على قوله: {إنه أنا الله العزيز الحكيم،} عطف جملة الأمر على جملة الخبر. وقد أجاز سيبويه: جاء يد ومن عمرو. والأظهر أن قوله: {إلا من ظلم،} استثناء منقطع، والمعنى: لكن من ظلم غيرهم، قاله الفراء وجماعة، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم. وعن الفراء: إنه استثناء متصل من جمل محذوفة، والتقدير: وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس وقال: الاستثناء من محذوف محال، لو جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيداً، بمعنى: وإنما أضرب غيرهم إلا زيداً، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه. انتهى. وقالت فرقة: إلا بمعنى الواو، والتقدير: ولا من ظلم، وهذا ليس بشيء، لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة، إذ الواو للإدخال، وإلا للإخراج، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر. وروي عن الحسن، ومقاتل، وابن جريج، والضحاك، ما يقتضي أنه استثناء متصل. وقال الزمخشري: وإلا بمعنى لكن. وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: ألا من ظلم، بفتح الهمزة وتخفيف اللام، حرف استفتاح. ومن: شرطية. {بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ}

وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني: كذلك، إلا أنه لم ينون، جعله فعلى، فامتنع الصرف. انتصب {مبصرة} على الحال، أي بينة واضحة ونسب الإبصار إليها على سبيل المجاز. والأبلغ في: {واستيقنتها} أن تكون الواو واو الحال. {ظلماً} : مجاوزة الحد، {وعلواً} : ارتفاعاً وتكبراً عن الإيمان، وانتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال، أي ظالمين عالين؛ أو مفعولان من أجلهما، أي لظلمهم وعلوهم، أي الحامل لهم على الإنكار والجحود، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم والعلو. واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو: استكبر في معنى تكبر. {الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ} وبنى علمنا وأوتينا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى. وجاء الخطاب بالأمر، كخطاب من يعقل في قوله: {ادخلوا} وما بعده، لأنها أمرت النمل كأمر من يعقل. وقال الزمخشري: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون هنا بدلاً من الأمر، والذي جوز أن يكون بدلاً منه، لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا، أرادت لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاءت بما هو أبلغ ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها. انتهى. وأما تخريجه على أنه أمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، إذ هو مجزوم، مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نفي، وأما مع وجود نون التوكيد، فإنه لا يجوز ذلك إلا إن كان في الشعر. وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر، فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر. وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في النحو، ومثال مجيء نون التوكيد في جواب الشرط، قول الشاعر: نبتم نبات الخيزرانة في الثرىحديثاً متى يأتك الخير ينفعا وقول الآخر:

مهما تشا منه فزارة يعطهومهما تشا منه فزارة يمنعا قال سيبويه: وذلك قليل في الشعر، شبهوه بالنفي حيث كان مجزوماً غير واجب. انتهى. وقد تنبه أبو البقاء لشيء من هذا قال: وقيل هو جواب الأمر، وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول {لا يحطمنكم} مخالف لمدلول {ادخلوا} . وأما قوله: لأنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، والبدل من صفة الألفاظ. نعم لو كان اللفظ القرآني لا تكونوا حيث أنتم لا يحطمنكم لتخيل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكن نهى عن كونهم في ظاهر الأرض. وأما قوله: أنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخر، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إليه وإلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي خيل سليمان وجنوده، أو نحو ذلك مما يصح تقديره. {وهم لا يشعرون:} جملة حالية، أي إن وقع حطم، فليس ذلك بتعمد منهم، إنما يقع وهم لا يعلمون بحطمنا، كقوله: {فتصيبكم منهم معرّة بغير علم} . {يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَلِحاً تَرْضَهُ} وقرأ ابن السميفع: ضحكاً، جعله مصدراً، لأن تبسم في معنى ضحك، فانتصابه على المصدر به، أو على أنه مصدر في موضع الحال، كقراءة ضاحكاً.

قال ابن عطية وقوله: {ما لي لا أرى الهدهد،} مقصد الكلام الهدهد، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه، وهو أن لا يراه، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله: {ما لي،} ناب مناف ألف الاستفهام، فمعناه عنده: أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته؟ وقال الزمخشري: أم هي المنقطعة، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال: {ما لي لا أرى الهدهد؟} على معنى: أنه لا يراه، وهو حاضر، لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه سأل صحة ما لا ح له، ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء؟ انتهى. والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة، لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة، كانت أم منقطعة، وهنا تقدم ما، ففارت شرط المتصلة. وقيل: يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره: ما للهدهد لا أراه؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب. (وجئتك من سبأ) وقرأ الجمهور: من سبأ، مصروفاً، هذا وفي: {لقد كان لسبأ} ، وابن كثير، وأبو عمرو: بفتح الهمزة، غير مصروف فيهما، وقنبل من طريق النبال: بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسماً للحي أو الموضع أو للأب. ومن منعه الصرف جعله اسماً للقبيلة أو البقعة، وأنشدوا على:

الواردون وتيم في ذرى سبأقد عض أعناقهم جلد الجواميس ومن سكن الهمزة، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف، وإجراء للوصل مجرى الوقف. وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي. انتهى. وقرأ الأعمش: من سبأ، بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، ويبعد توجيهها. وقرأ ابن كثير في رواية: من سبأ، بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصوراً مصروفاً. وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ: بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناه على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب، عن اليزيدي: من سبأ، بألف ساكنة، كقولهم: تفرقوا أيدي سبا. وقرأت فرقة: بنبأ، بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: لسبا، بالألف، لتتوازن الكلمتان، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين. وقال في التحرير: إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد، وفي كتاب التفريع بفنون البديع. إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني، ويسمى أيضاً التصدير، فمثال الأول قوله: وقرأ عيسى: والشعراء: نصباً على الاشتغال؛ والجمهور: رفعاً على الابتداء والخبر. سريع إلى ابن العم يجبر كسرهوليس إلى داعي الخنا بسريع ومثال الثاني قوله: والليالي إذا نأيتم طوالوالليالي إذا دنوتم قصار وذكر أن مثل: {من سبأ بنبأ} ، يسمى تجنيس التصريف، قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ومنه قوله تعالى: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} ، وما ورد في الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير» . وقال الشاعر:

لله ما صنعت بناتلك المعاجر والمحاجر وقال الزمخشري: وقوله: {من سبأ بنبأ} ، من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعاً، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى وسداده. ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة، فحسن وبدع لفظاً ومعنى. ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحاً؟ وهو كما جاء أصح، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال. انتهى. والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن، ولفظ الخبر مطلق، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن. {يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}

وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله: {ألا يسجدوا} في موضع نصب، على أن يكون بدلاً من قوله: {أعمالهم،} أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا. وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر، على أن يكون بدلاً من السبيل، أي قصدهم عن أن لا يسجدوا. وعلى هذا التخرج تكون لا زائدة، أي فصدهم عن أن يسدجوا لله، ويكون {فهم لا يهتدون} معترضاً بين المبدل منه والبدل، ويكون التقدير: لأن لا يسجدوا. وتتعلق اللام إما بزين، وإما بقصدهم، واللام الداخلة على أن داخلة على مفعول له، أي علة تزيين الشيطان لهم، أو صدهم عن السبيل، هي انتفاء سجودهم لله، أو لخوفه أن يسجدوا لله. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون لا زميدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. انتهى. وأما قراءة ابن عباس ومن وافقه، فخرجت على أن تكون ألا حرف استفتاح، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، واسجدوا فعل أمر، وسقطت ألف يا التي للنداء، وألف الوصل في اسجدوا، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألف لما سقط لفظاً سقطا خطاً. ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب. قال الشاعر: ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد وقال: ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال وقال: ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى وقال: فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبةفقلت سمعنا فانطقي وأصيبي وقال: ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدروإن كان جباناً عدا آخر الدهر وسمع بعض العرب يقول: ألا يا ارحمونا ألا تصدّقوا علينا

ووقف الكسائي في هذه القراءة على يا، ثم يبتدىء اسجدوا، وهو وقف اختيار لا اختبار، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يافية للنداء، وحذف المنادى، لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء، وانحذف فاعله لحذفه. ولو حذفنا المنادى، لكان في ذلك حذف جملة النداء، وحذف متعلقه وهو المنادي، فكان ذلك إخلالاً كبيراً. وإذا أبقينا المنادي ولم نحذفه، كان ذلك دليلاً على العامل فيه جملة النداء. وليس حرف النداء حرف جواب، كنعم، ولا، وبلى، وأجل؛ فيجوز حذف الجمل بعدهنّ لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين، ولقصد المبالغة في التوكيد، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به والمتفق اللفظ العاملين في قوله: ولا للما بهم أبداً دواء وجاز ذلك، وإن عدوه ضرورة أو قليفلا، فاجتماع غير العاملين، وهما مختلفا اللفظ، يكون جائزاً، وليس يا في قوله: يا لعنة الله والأقوام كلهم حرف نداء عندي، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه. والظاهر أن {في السموات} متعلق بالخب، أي المخبوء في السموات. {شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ} وقرأ ابن محيصن وجماعة: العظيم بالرفع، فاحتمل أن تكون صفة للعرش، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى. واحتمل أن تكون صفة للرب؟ وأصدقت: جملة معلق عنها سننظر، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، لأن نظر، بمعنى التأمل والتفكر، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في. {فَانْظُرْ مَاذَا}

وماذا: إما كلمة استفهام في موضع نصب، وإما أن تكون ما استفهاماً وذا موصول بمعنى الذي. فعلى الأول يكون يرجعون خبراً عن ماذا، وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر ويرجعون صلة ذا. وإن كان معنى فانظر: فانتظر، فليس فعل قلب فيعلق، بل يكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، أي فانتظر الذي يرجعون، والمعنى: فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول. {كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان، بزيادة واو عطفاً على {إني ألقي.} وقرأ عكرمة، وابن أبي عبلة: بفتحهما، وخرج على البدل من كتاب، أي ألقى إليّ أنه، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها. عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله. وقرأ أبي: أن من سليمان وأن بسم الله، بفتح الهمزة ونون ساكنة، فخرج على أن أن هي المفسرة، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة، وحذفت الهاء. وأن في قوله: {أن لا تعلوا،} قيل: في موضع رفع على البدل من كتاب. وقيل: في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل. وقال الزمخشري: وأن في {أن لا تعلوا عليّ مفسرة، فعلى هذا تكو لا في لا تعلوا للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه. وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا، فيكون خبر مبتدأ محذوف. وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري، فهي في موضع مفعول لا نظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام. وفناظرة} معطوف على {مرسلة.} و {بم} متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن البائ متعلقة بناظرة، وهو وهم فاحش، والنظر هنا معلق أيضاً. والجملة في موضع مفعول به. {بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ}

والضمير في {بها} عائد على الجنود، وهو جمع تكسير، فيجوز أن يعود الضمير عليه، كما يعود على الواحدة، كما قالت العرب: الرجال وأعضادها. وانتصب {أذلة} على الحال. {وهم صاغرون: حال أخرى. وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد، وهي مسألة خلاف، ويمكن أن يقال: إن الثانية هنا جاءت توكيداً لقوله: أذلة،} فكأنهما حال واحدة. و {آتيك} : يحتمل أن يكون مضارعاً واسم فاعل. {فَلَمَّا رَءَاهُ} وانتصب مستقراً على الحال، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في موضع الحال، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية: وظهر العامل في الظرف من قوله: {مستقراً،} وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف وقع في موضع الحال. وقال أبو البقاء: ومستقراً، أي ثابتاً غر متقلقل، وليس بمعنى الحضور المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر. انتهى. فأخذ في مستقراً أمراً زائداً على الاستقرار المطلق، وهو كونه غير متقلقل، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالاً؛ وقد رد ذكر العامل في ما وقع خبراً من الجار والمجرور التام في قول الشاعر: لك العزان مولاك عزوان يهنفأنت لدى بحبوحة الهون كائن وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني، وهو معلق، لأنه في معنى التمييز، والتمييز في معنى العلم، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم، وإن لم يكن مرادفاً له، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار. والظاهر أن قوله: {فإن ربي غني كريم} هو جواب الشرط، ولذلك أضمر فاء في قوله: {غني،} أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمة، أي ومن كفر فلنفسه، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون ما موصولة، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.

وقرأ الجمهور: ننظر: بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة: بالرفع على الاستئناف. أمر بالتنكير، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر، ومتعلق أتهتدي محذوف. وقيل: وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله: {ما كانت تعبد،} وكونه الله أو سليمان، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر، قاله الطبري، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله: تمرون الديار ولم تعوجوا أي عن الديار، وليس من مواضع حذف حرف الجر. وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه، الظاهر أنه الإسلام. وقال الرماني: التقدير التفطن للعرش، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث. والظاهر أن قوله: {وصدها} معطوف على قوله: {وأوتينا} . (وصدها) الواو في صدها للحال، وقد مضمرة. مرغوب عنه لطول الفصل بينهما، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. وقرأ الجمهور: إنها بكسر الهمزة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: بفتحها، فإما على تقدير حرف الجر، أي لأنها، وإما على أن يكون بدلاً من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد. وقال ابن عطية: ومع، ظرف بني على الفتح، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى. انتهى، والصحيح أنها ظرف، فتحت العين أو سكنت، وليس التسكين مخصوصاً بالشعر، كما زعم بعضهم، بل ذلك لغة لبعض العرب، والظرفية فيها مجاز، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة.

{الْعَلَمِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الأٌّرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَدِقُونَ * وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذلِكَ لأّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْءَالَ لُوطٍ

مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَهَا مِنَ الْغَبِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأٌّرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأٌّرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأٌّرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوتِ والأٌّرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * قُلْ سِيرُواْ

فِى الأٌّرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ * إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ * إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِئَايَتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ * وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأٌّرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِئَايَتِنَا لاَ يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِئَايَتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِئَايَتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأّيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى

السَّمَوَتِ وَمَن فِى الأٌّرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍءَامِنُونَ * وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وإن في: {أن اعبدواكُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْءَايَتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يجوز أن تكون مفسرة، لأن {أرسلنا} تتضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية، أي بأن اعبدوا، فحذف حرف الجر، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني ففي موضعها خلاف، أهو في موضع نصب أم في موضع جر؟ والظاهر أن الضمير في {فإذا هم} عائد على {ثمود. وإذا هنا هي الفجائية، وعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب لا المهلة.

واتفق المفسرون على أن المعنى: تسعة رجال. وقال الزمخشري: إنما جاء تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة، فكأنه قيل: تسعة أنفس. انتهى. وتقدير غيره: تسعة رجال هو الأولى، لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول: تسع أنفس، على تأنيث النفس، إذ الفصيح فيها التأنيث. ألا تراهم عدواً من الشذوذ قول الشاعر: ثلاثة أنفس وثلاث ذود فأدخل التاء في ثلاثة؛ وكان الفصيح أن يقول: ثلاث أنفس. وقال أبو عبد الله الرازي: الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد، لاختلاف صفاتهم وأحوالهم، لا لاختلاف أجناسهم. انتهى. واختلفوا في جواز إضافة العدد إليه، فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس، وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور. وقد صرح سيبويه أنه لا يقال: ثلاث غنم، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس، وهو مع ذلك قليل، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجمع للقليل، كرهط ونفر وذود، فيجوز أن يضاف إليه، أو للتكثير، أو يستعمل لهما، فلا تجوز إضافته إليه، وهو قول المازني، وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في (شرح التسهيل) . ويفسدون:} صفة لتسعة رهط.

والظاهر أن قوله {تقاسموا} فعل أمر محكي بالقول، وهو قول الجمهور، أشار بعضهم على بعض بالحلف على تبييت صالح. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في موضع الحال، أي قالوا متقاسمين. قال الزمخشري: تقاسموا يحتمل أن يكون أمراً وخبراً على محل الحال بإضمار قد، أي قالوا: متقاسمين. انتهى. أما قوله: وخبراً، فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام، إذ هو منقسم إلى الخبر والإنشاء، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين. وقال بعد ذلك وقرىء لنبيتنه بالياء والتاء والنون، فتقاسموا مع النون والتاء يصح فيه الوجهان، يعني فيه: أي في تقاسموا بالله، والوجهان هما الأمر والخبر عنده. قال: ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً. انتهى. والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد، فإذا أطلق عليها الخير، كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالاً لجاز أن تستعمل خبراً، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة قبله صلة أنها خبرية هو مجاز، والمعنى: أنها لو لم تكن صلة، لجاز أن تستعمل خبراً، وهذا شيء فيه غموض، ولا يحتاج إلى الإضمار، فقد كثر وقوع الماضي حالاً بغير قد كثرة ينبغي القياس عليها. وعلى هذا الإعراب، احتمل أن يكون {بالله} متعلقاً بتقاسموا الذي هو حال، فهو من صلته ليس داخلاً تحت القول. والمقول: {لنبيتنه} وما بعده احتمل أن يكون هو وما بعده هو المقول.

وقرأ الجمهور: {لنبيتنه وأهله ثم لنقولن} بالنون فيهما، والحسن، وحمزة، والكسائي: بتاء خطاب الجمع؛ ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بياء الغيبة، والفعلان مسندان للجمع؛ وحميد بن قيس: بياء الغيبة في الأول مسنداً للجمع، أي ليبيتنه، أي قوم منا، وبالنون في الثاني، أي جميع ما يقول لوليه، والبيات: مباغتة العدو. وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من عادة الملوك استراق الظفر، ووليه طالب ثأره إذا قتل. وقرأ الجمهور: مهلك، بضم الميم وفتح اللام من أهلك. وقرأ حفص: مهلك، بفتح الميم وكسر اللام، وأبو بكر: بفتحهما. فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان، أي ما شهدنا إهلاك أهله، أو زمان إهلاكهم، أو مكان إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك. وأما القراءة الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان، أي ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانة. والثالثة: تقتضي القياس أن يكون مصدراً، أي ما شهدنا هلاكه. وقال الزمخشري: وقد ذكروا القراءات الثلاثة، قال: ويحتمل المصدر والزمان والمكان. انتهى. والظاهر في الكلام حذف معطوف بدل عليه ما قبله، والتقدير: ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، ودل عليه قولهم: {لنبيتنه وأهله،} وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله، وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح، كقوله: سرابيل تقيكم الحر، أي والبرد، وقال الشاعر: لما كان بين الخير لو جاء سالماًأبو حجر إلا ليال قلائل أي بين الخير وبيني.

الاسم، والجملة في موضع نصب بانظر، وهي معلقة، وقرأ الجمهور: إنا، بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، والكوفيون: بفتحها، فأنا بدل من عاقبة، أو خبر لكان، ويكون في موضع الحال، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي، أي العاقبة تدميرهم. أو يكون التقدير: لأنا وحذف حرف الجر. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون {كان} تامة و {عاقبة} فاعل بها، وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره {كيف.} وقرأ أبي: أن دمّرناهم، وهي أن التي من شأنها أن تنصب المضارع، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا، بفتح الهمزة. وحكى أبو البقاء: أن بعضهم أجاز في {أنا دمرناهم} في قراءة من فتح الهمزة أن تكون بدلاً من كيف، قال: وقال آخرون: لا يجوز، لأن البدل من الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه، كقوله: كيف زيد، أصحيح أم مريض؟ وقرأ الجمهور: خاوية، بالنصب على الحال. قال الزمخشري: عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر: خاوية، بالرفع. قال الزمخشري: على خبر المبتدأ المحذوف، وقاله ابن عطية، أي هي خاوية، قال: أو على الخبر عن تلك، وبيوتهم بدل، أو على خبر ثان، وخاوية خبرية بسبب ظلمهم، وهو الكفر. {ولوطاً} : عطف على {صالحاً} ، أي وأرسلنا لوطاً، أو على {الذين آمنوا} ، أي وأنجينا لوطاً، أو باذكر مضمرة، وإذ بدل منه، أقوال. وانتصب {شهوة} على أنه مفعول من أجله. وقرأ الجمهور: {جواب} بالنصب؛ والحسن، وابن أبي إسحاق: بالرفع، والجمهور: {قدرناها،} بتشديد الدال؛ وأبو بكر بتخفيفها، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف.o وساء: بمعنى بئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي مطرهم. فما في أم ما بمعنى الذي. وقيل: ما مصدرية.

وقيل: خير ليست للتفضيل، فهي كما تقول: الصلاة خير، يعني خيراً من الخيور. وقيل: التقدير ذو خير. والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم، وتنبيهه على خطئه، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد، وانتفائه عن الآخر. وأم في أم ما متصلة، لأن المعنى: أيهما خير؟ وفي {أم من خلق} وما بعده منفصلة. وقرأ الجمهور: {أمّن خلق،} وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم أم أدغمت في ميم من. وقرأ الأعمش: بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام، أدخلت على من، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره. ثم قال: {فأنبتنا،} وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك. {قل لا يعلم من في السموات والأرض،} الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم، والغيب مفعول، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من، وجاء مرفوعاً على لغة تميم. ولا يقال: إنه مندرج في مدلول من، فيكون في السموات والأرض رفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى، أي هو فيها بعلمه، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز، وأكثر العلماء ينكر ذلك، وإنكاره هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلاً، وارتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء، لأنه استثناء من نفي متقدم. {صَدِقِينَ * قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوتِ والأٌّرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}

وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ يعني في كونه استثناء منقطعاً، إذ ليس مندرجاً تحت من، ولم أختر الرفع على لغة تميم، ولم نختر النصب على لغة الحجاز، قال: قلت: دعت إلى ذلك نكتة سرية، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم. كما أن معنى: ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس. انتهى. وكان الزمخشري قد قدم قوله: فإن قلت: لم أرفع اسم الله، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كان أحداً لم يذكر، ومنه قوله: عشية ما تغني الرماح مكانهاولا النبل إلا المشرفي المصمم وقوله: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. انتهى. وملخصه أنه يقول: لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه، وإذا رفع كان بدلاً، والمبدل منه في نية الطرح، فصار العامل كأنه مفرغ له، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكأنه قيل: {قل لا يعلم الغيب إلا الله} . ولو أعرب من مفعولاً، والغيب يدل منه، وإلا الله هو الفاعل، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهم لا يعلمون بحدوثها، أي لا يسبق علمهم بذلك، لكان وجهاً حسناً، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم. وأيان: تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به. {يُبْعَثُونَ * بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}

وقرأ أبي: أم تدارك، على الأصل، وجعل أم بدل. وقرأ سليمان بن يسار أخوه: بل ادّرك، بنقل حركة الهمزة إلى اللام، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل، فأدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً، فصار قلب الثاني للأول لقولهم: اثرد، وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل. وقر أبو رجاء والأعرج، وشيبة، وطلحة، وتوبة العنبري: كذلك، إلا أنهم كسروا لام بل؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعاصم، والأعمش. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأهل مكة: بل ادرك، على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر، عن عاصم. وقرأ عبد الله في رواية، وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة، وغيره عنه، والحسن، وقتادة، وابن محيصن: بل آدرك، بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً، كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها. وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد بل، لأن بل إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: لم يكن كقوله تعالى: {أشهدوا خلقهم} ، أي لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. انتهى. وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل، وشبهه بقول القائل: أخيراً كانت بل أماء شربت؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني. {الأٌّخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ} .

وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل، فقال أبو حاتم: إن كان بلى جواباً لكلام تقدم، جاز أن يستفهم به، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة، فقيل لهم: بلى إيجاباً لما نفوا، د ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: {بل هم في شك منها،} بمعنى: أم هم في شك منها، لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: {بل هم منها عمون.} انتهى. يعني أن المعنى: ادّرك علمهم بالآخرة أم شكو؟ قبل بمعنى أم، عودل بها الهمزة، وهذا ضعيف جداً، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام. {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَماً} . والعامل في إذا محذوف دل على مضمون الجملة الثانية تقديره: يخرج ويمتنع إعمال لمخرجون فيه، لأن كلاًّ من إن ولام الابتداء والاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله، إلا اللام الواقعة في خبر إن، فإنه يتقدم معمول الخبر عليها وعلى الخبر على ما قرر في علم النحو. وآباؤنا: معطوف على اسم كان، وحسن ذلك الفصل بخبر كان. {عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى} . وتقدّمت قراءة ضيق، بكسر الضاد وفيتحها، وهما مصدران. وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد، أصله ضيق، بتشديد الياء فخفف، كلين في لين، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد. وأجاز ذلك الزمخشري، قال: ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم. {صَدِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ} . وقرأ الجمهور: ردف، بكسر الدال. وقرأ ابن هرمز: بفتحها، وهما لغتان، وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق، فاحتمل أن يكون مضمناً معنى اللازم، ولذلك فسره ابن عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريباً منه ضمن معناه، أو مزيداً اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه، كما زيدت الباء في: {ولا تلقوا بأيديكم} ، قاله الزمخشري، وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها، وقال الشاعر:

فلما ردّفنا من عمير وصحبهتولوا سراعاً والمنية تعنق أي دنوا من عمير. وقيل: ردفه وردف له، لغتان. وقيل: الفعل محمول على المصدر، أي الرادفة لكم. وقيل: اللام في لكم داخلة على المفعول من أجله، والمفعول به محذوف تقديره: ردف الخلق لأجلكم، وهذا ضعيف. وقيل: الفاعل بردف ضمير يعود على الوعد، ثم قال: لكم بعض ما تستعجلون على المبتدأ والخبر، وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير حاجة تدعو إلى ذلك. {مِنْ} . وقال الزمخشري: سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية، ونظيرهما: النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالرواية في قولهم: ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء، إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة. انتهى. وقرأ الجمهور: بهادي العمى، اسم فاعل مضاف؛ ويحيى بن الحرث، وأبو حيوة: بهادٍ، منوناً العمي؛ والأعمش، وطلحة، وابن وثاب، وابن يعمر، وحمزة: تهدي، مضارع هدي، العمي بالنصب؛ وابن مسعود: وما أنت تهتدي، بزيادة أن بعد ما، ويهتدي مضارع اهتدى. {من كل أمة:} أي من الأمم، ومن هي للتبعيض. {ممن يكذب بآياتنا:} من للبيان، أي الذين يكذبون. {ولم تحيطوا بها علماً:} الظاهر أن الواو للحال، أي أوقع تكذيبكم بها غير متدبرين لها ولا محيطين علماً بكنهها؟ ويجوز أن تكون الواو للعطف، أي أجحدتموها: ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها. {عِلْماً أَمَّا ذَا} . وأم هنا منقطعة، وينبغي أن تقدر ببل وحدها. انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضاً على جهة التوبيخ، أي: أي شيء كنتم تعملون؟

وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاماً منصوباً بخبر كان، وهو تعملون، وأن يكون ما هو الاستفهام، وذا موصول بمعنى الذي، فيكونان مبتدأ وخبراً، وكان صلة لذا والعائد محذوف، أي تعملونه. وقرأ أبو حيوة: أما ذا، بتخفيف الميم، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد. {فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن} . وعبر هنا بالماضي في قوله: {ففزغ،} وإن كان لم يقع إشعاراً بصحة وقوعه، وأنه كائن لا محالة، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل، كقوله تعالى: {فأوردهم النار} ، بعد قوله: {يقدم قومه يوم القيامة} . {وكل أتوه:} المضاف إليه كل محذوف تقديره: وكلهم. {وترى الجبال:} هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى، أو من الجبال {وهي تمر مر السحاب:} جملة حالية، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة. وانتصب {صنع الله} على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها، فالعامل فيه مضمر من لفظه. وقال الزمخشري: {صنع الله} من المصادر المؤكدة كقوله: {وعد الله} و {صبغة الله، إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ. والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، وهي جملة الحال، أي صنع الله بها ذلك، وهو قلعها من الأرض، ومرّها مرًّا مثل مر السحاب. وأما قوله: إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله، يريد به الإثابة والمعاقبة، فذلك لا يصح، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته، لأنه منصوب بفعل من لفظه، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر، وذلك حذف كثير مخل. ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة، وجد الجمل مصرحاً بها، لم يرد الحذف في شيء منها، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد، إذ الحذف ينافي التوكيد، لأنه من حيث أكد معتني به، ومن حيث حذف غير معتني به. وقيل: انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى، انظروا صنع الله.

بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍءَامِنُونَ} . ويظهر أن خيراً ليس أفعل تفضيل، ومن لابتداء الغاية، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها، أي من جهة هذه الحسنة. وقال عكرمة: ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله، يريد أنها ليست أفعل التفضيل. وقيل: أفعل التفضيل. وقرأ الكوفيون: {من فزع،} بالتنوين، {ويومئذ،} منصوب على الظرف معمول لقوله: {آمنون،} أو لفزع. ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لفزع، أي كائن في ذلك الوقت. وقرأ باقي السبعة: بإضافة فزع إلى يومئذ؛ فكسر الميم العربيان، وابن كثير، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وفتحها، بناء لإضافته إلى غير متمكن؛ نافع، في غير رواية إسماعيل. والتنوين في يومئذ تنوين العوض، حذفت الجملة وعوض منها، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف، أي يوم، إذ جاء بالحسنة، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ترى الجبال، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ينفخ في الصور، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب، ويكون الفزع إذ ذاك واحداً. {أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} . وقرأ الجمهور: الذي: صفة للرب. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: التي حرمها: صفة للبلدة، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ} . وقرأ عبد الله: وأن اتل، بغير واو، أمراً من تلا، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار: وأمرت أن أتل، أي اتل. وقرأ أبي: واتل هذا القرآن، جعله أمراً دون أن. ومن ضل فوبال اضلاله مختص به.

سورة القصص

وحذف جواب من ضل لدلالة جواب مقابله عليه، أو يقدر في قوله: {فقل إنما أنا من المنذرين} ضمير حي يربط الجزاء بالشرط، إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفاً، فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر، فتكون هذه الجملة هي جواب الشرط، ويقدر الضمير من المنذرين له، ليس علي إلا إنذاره، وأما هدايته فإلى الله. سورة القصص وهي ثمان وثمانون آية مكية الردء: المعين الذي يشد به في الأمر، فعل بمعنى مفعول، فهو اسم لما يعان به، كما أن الدفء اسم لما بد فأنه. قال سلامة بن حندل: وردء كل أبيض مشرفيشحيذ الحد عضب ذي فلولويقال: ردأت الحائط أردؤه، إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وقال أبو عبيدة: العون، ويقال: ردأته على عدوه: أعنته. المقبوح: المطرود، وقال الشاعر: ألا قبح الله البراجم كلهاوجدّع يربوعاً وعفر دارماًثوى يثوي ثواء: أقام، قال الشاعر: لقد كان في حول ثواء ثويتهتقضي لبانات ويسأم سائم ومفعول {نتلو من نبأ} : أي بعض نبأ، وبالحق متعلق بنتلو، أي محقين، أو في موضع الحال من نبأ، أي متلبساً بالحق. والظاهر أن {يستضعف} استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير، وجعل وأن تكون صفة لشيعاً، ويذبح تبيين للاستضعاف، وتفسير أو في موضع الحال من ضمير يستضعف، أو في موضع الصفة لطائفة. {ونريد} : حكاية حال ماضية، والجملة معطوفة على قوله: {إن فرعون} ، لأن كلتيهما تفسير للبناء، ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في يستضعف، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ، ي ونحن نريد، وهو ضعيف. وإذا كانت حالاً، فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنة من الله ولا يمكن الاقتران؟ فقيل: لما كانت المنة بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم. وقرأ الجمهور: {ونمكن} ، عطفاً على نمن. وقرأ الأعمش: ولنمكن، بلام كي، أي وأردنا ذلك لنمكن، أو ولنمكن فعلنا ذلك. {أُمِّ مُوسَى} أن تفسيرية او مصدرية.

واللام في {ليكون} للتعليل المجازي، لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدواً لهم {وحزناً} ، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني، وكونه يكون حبيباً لهم، ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة. {وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا} . وقرىء: خاطيين، بغير همز، فاحتمل أن يكون أصله الهمز. وحذفت، وهو الظاهر. وقيل: من خطا يخطو، أي خاطين الصواب. {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ} . وقرة: خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر {لا تقتلوه} . {نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ} جملة حالية. {إن فرعون} الآية، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم. انتهى. {إن كادت لتبدي به} : هي إن المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. وقيل: إن نافية، واللام بمعنى إلاّ، وهذا قول كوفي، والإبداء: إظهار الشيء. والظاهر أن الضمير في به عائد على موسى عليه السلام، فقيل: الباء زائدة، أي: لتظهره. وقيل: مفعول تبدي محذوف، أي لتبدي القول به. {لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا} . وجواب لولا محذوف تقديره: لكادت تبدي به، ودل عليه قوله: {إن كادت لتبدى به} ، وهذا تشبيه بقوله: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} . {لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ} . وقال الكرماني: جنب صفة لموصوف محذوف، أي عن مكان جنب، يريد بعيد. وقرأ أبو طالب القارىء: {على حين} ، بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض، كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا وهذا توجيه شذوذ. {فَوَجَدَ فِيهَا} . وقال ابن عطية: يقتتلان في موضع الحال. انتهى. والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط.

وهذا حكاية حال، وقد كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما، أو لحكاية الحال، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب. قال جرير: هذا ابن عمي في دمشق خليفةلو شئت ساقكم إليّ قطينا والباء في {بما أنعمت} للقسم، والتقدير: أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة، والجواب محذوف، أي لأتوبن، {فلن أكون} ، أو متعلقة بمحذوف تقديره: اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، {فلن أكون} إن عصمتني {ظهيراً للمجرمين} . وقيل: {فلن أكون} دعاء لا خبر، ولن بمعنى لا في الدعاء، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية، وبقول الشاعر: لن تزالوا كذاكم ثم ما زلت لهم خالداً خلود الجبال أقصى المدينة، ويسعى: صفتان، ويجوز أن يكون يسعى حالاً، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء. قال الزمخشري: وإذا جعل، يعني، من أقصى حالاً، لجاء لم يجز في يسعى إلاّ الوصف. {فاخرج إني لك من الناصحين} . ولك: متعلق إما بمحذوف، أي ناصح لك من الناصحين، أو بمحذوف على جهة البيان، أي لك أعني، أو بالناصحين، وإن كان في صلة أل، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما. وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا. و {تلقاء} : تقدم الكلام عليه في يونس، أي ناحية وجهه استعمل المصدر استعمال الظرف. {نَسْقِى حَتَّى} وقرأ عياش، عن أبي عمرو: الرعاء، بفتح الراء، وهو مصدر أقيم مقام الصفة، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف. {فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ} وقال الزمخشري: وعدى باللام فقير، لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وعلى استحياء: في موضع الحال، أي مستحيية متحفزة.

{على أن تأجرني} في موضع الحال من ضمير أنكحك، إما الفاعل، وإما المفعول. وتاجربي، من أجرته: كنت له أجيراً، كقولك: أبوته: كنت له أباً، ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسه. و {ثماني حجج} : ظرف، وقاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: حجج: مفعول به، وذلك مبتدأ أخبره بيني وبينك. {بَيْنِى وَبَيْنَكَ} وأي شرط، وما زائدة. {الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} من، في: من شاطىء، لابتداء الغاية. ومن الشجرة كذلك، إذ هي بدل من الأولى، ويتعلق في البقعة بنودي، أو تكون في موضع الحال من شاطىء. وأن: يحتمل أن تكون حرف تفسير، وأن تكون مخففة من الثقيلة. وقرأت فرقة: {إني أنا} ، بفتح الهمزة، وفي إعرابه إشكال، لأن إن، إن كنت تفسيرية، فينبغي كسر إني، وإن كانت مصدرية، تتقدر بالمفرد، والمفرد لا يكون خبراً لضمير الشأن، فتخرج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية، وإني معمول لمضمر تقديره: إني يا موسى أعلم إني أنا الله. {فذانك} : إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، ولكن ذكر التذكير الخبر، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ: ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا، بالياء في تكن. فذانيك، بياء بعد النون المسكورة، وهي لغة هذيل. وقيل: لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضاً: فذانيك، بفتح النون قبل الياء، على من فتح نون التثنية، نحو قوله: على أحوذيين استقلت عشيا و {إلى فرعون} : يتعلق بمحذوف ذل عليه المعنى تقديره: اذهب إلى فرعون. {مِنِّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ} وقرأ عاصم، وحمزة: يصدقني، بضم القاف، فاحتمل الصفة لردأ، والحال احتمل الاستئناف.

وقرأ باقي السبعة: بالإسكان. قرأ أبي، وزيد بن علي: يصدقوني، والضمير لفرعون وقومه. قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم، لأنه لو كان رفعاً لقال: يصدقونني. انتهى، والجزم على جواب الأمر كان عنده موصولاً على سبيل الاتساع، أو بفعل محذوف، أي اذهبا بآياتنا، كما علق في تسع آيات باذهب، أو على البيان، فالعامل محذوف، وهذه أعاريب منقولة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قسماً جوابه {فلا يصلون} مقدماً عليه، أو من لغو القسم. انتهى. أما أنه قسم جوابه {فلا يصلون} ، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور، لأن جواب القسم لا تدخله الفاء. وأما قوله: أو من لغو القسم، فكأنه يريد والله أعلم. إنه لم يذكر له جواب، بل حذف لدلالة عليه، أي بآياتنا لتغلبن. ويحتمل {بآياتنا} أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وإن كان موصولاً على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل، وإن. {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأٌّمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّهِدِينَ} وبجانب الغربي: من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم، ومن حذف الموصوف وإقامه الصفة مقامه عند قوم. فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي، والترجيح بين القولين مذكور في النحو. {أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو} وقيل: تتلو حال، وقيل: مستأنف، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب، ولكنا أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم، ولولاك ما أخبرتهم بما لمي شاهدوه. وقرأ الجمهور: {رحمة} ، بالنصب، فقدر: ولكن جعلناك رحمة، وقدر أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة: بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنت رحمه.

وجواب {لولا} محذوف والفاء في {فيقولوا} للعطف على نصيبهم، ولولا الثانية للتحضيض. وفنتبع: الفاء فيه جواب للتحصيص. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل، ولكن العقوبة، لما كانت هي السبب للقول، فكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناها إلى قولك: ولولا قولهم هذا، {إذا أصابتهم مصيبة} لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين. لم يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً، وإنما السب في قولهم هذا هو العقاب لا غير، لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى، كقولهم: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} انتهى. {مِن قَبْلُ قَالُواْ} قرأ الجمهور: تظاهرا: فعلا ماضياً على وزن تفاعل.

وقرأ محبوب عن الحسن، ويحيى بن الحارث الذماري، وأبو حيوة، وأبو خلاد عن اليزيدي: تظاهرا بالتاء، وتشديد الظاء. قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعل ماض، وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح: ولا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات: ولا معنى له. انتهى. وله تخريج في اللسان، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتما ساحران تتظاهران؛ ثم أدغمت التاء في الظاء وحذفت النون، وروعي ضمير الخطاب. ولو قرىء: يظاهرا، بالياء، حملاً على مراعاة ساحران، لكان له وجه، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا. {بِكُلٍّ كَفِرُونَ * قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَبٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم. وقرأ زيد بن علي: أتبعه، برفع العين الاستئناف، أي أنا أتبعه. {كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ} واستجاب: بمعنى أجاب، ويعدى للداعي باللام ودونها، كما قال: {فاستجاب له ربه} ، {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى} ، {فإن لم يستجيبوا لكم} . وقال الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب فعداه بغير لام. وقال الزمخشري: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، واستجاب له، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاء، على حذف المضاف. انتهى. {ومن أضل} : أي لا أحد أضل، و {بغير هدى} : في موضع الحال، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيهد هدى وما لا يكون فيه هدى، فلذلك قيد بهذه الحال. {كُلِّ شَىْءٍ رِّزْقاً}

وانتصب رزقاً على أنه مصدر من المعنى، لأن قوله: {يجبى إليه ثمرات} : أي برزق ثمرات، أو على أنه مفعول له، وفاعل الفعل المعلل محذوف، أي لسوق إليه ثمرات كل شيء، وإن كان الرزق ليس مصدراً، بل بمعنى المرزوق، جاز انتصابه على الحال من ثمرات، ويحسن ذلك تخصيصاً بالإضافة. و {معيشتها} منصوب على التمييز، على مذهب الكوفيين؛ أو مشبه بالمفعول، على مذهب بعضهم؛ أو مفعول به على تضمن. و {تسكن} ، فاحتمل أن يكون الاستثناء في قوله: {إلا قليلاً} من المساكن، أي إلا قليلاً منها سكن، واحتمل أن يكون من المصدر المفهوم من قوله: {لم تسكن} : أي إلاّ سكنى قليلاً، أي لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق. {وَأَهْلُهَا ظَلِمُونَ * وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وقرىء: متاعاً الحياة الدنيا، أي يمتعون متاعاً في الحياة الدنيا، فانتصب الحياة الدنيا على الظرف. والفاء في: {أفمن} ، للعطف. والفاء في: {فهو لاقيه} ، للتسبيب، لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الحبر، وثم للتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته. ومفعولاً {تزعمون} محذوفان، أحدهما العائد على الموصول، والتقدير: تزعمونهم شركاء.

و {هؤلاء} : مبتدأ، و {الذين أغوينا} وهم صفة، و {أغويناهم كما غوينا} : الخبر، و {كما غوينا} : صفة لمطاوع أغويناهم، أي فغووا كما غوينا، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا. وهذا الإعراب قاله الزمخشري. وقال أبو عليّ: ولا يجوز هذا الوجه، لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدأ. قال: فإن قلت: قد وصلت بقوله: {كما غوينا} ، وفيه زيادة. قيل: الزيادة بالظرف لا تصيره أصلاً في الجملة، لأن الظروف صلات، وقال هو: {الذين أغوينا} هو الخبر، و {أغويناهم} : مستأنف. وقال غير أبي علي: لا يمتنع الوجه الأول، لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم، كقولك: زيد عمرو قائم في داره. انتهى. و {إيانا} : مفعول {يعبدون} ، لما تقدم الفصل، وانفصاله لكونه يعبدون فاصلة، ولو اتصل، ثم لم يكن فاصلة. وقال الزمخشري: إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم؛ وإخلاء الجملتين من العاطف، لكونهما مقرونين لمعنى الجملة الأولى. انتهى. {يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ}

والضمير في {ورأوا} . قال الضحاك ومقاتل: هو للتابع والمتبوع، وجواب لو محذوف، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا، ما رأوا العذاب في الآخرة. وقيل: التقدير: لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل، لدفعوا به العذاب. وقيل: لعلموا أن العذاب حق. وقيل: لتحيروا عند رؤيته من فظاعته، وإن لم يعذبوا به، وقيل: ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام. وقال أبو عبد الله الرازي: وعندي أن الجواب غير محذوف، وفي تقريره وجوه: أحدها: أن الله إذا خاطبهم بقوله: {ادعوا شركاءكم} ، اشتدّ خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئاً، لا جرم ما رأوا العذاب. وثانيها: لما ذكر الشركاء، وهي الأصنام، وأنهم يجيبون الذين دعوهم، قال في حقهم: {ورأوا العذاب} ، لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، ولا جرم ما رأت العذاب. والضمير في رأوا، وإن كان للعقلاء، فقد قال: ودعوهم وهم العقلاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء، لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين، قال: وهم الأصنام. والظاهر أنه عائد على الداعين، كقوله: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب} ، ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد، لأن ما قدره هو جواب، ولا يشعر به أنه جواب، إذ صار التقدير عنده: لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب، لكنها ليست من الأحياء، فلا ترى العذاب. ألا ترى إلى قوله: فلا جرم ما رأت العذاب؟

الظاهر أن ما نافية، أي ليس لهم الخيرة، إنما هي لله تعالى، كقوله: {ما كان لهم الخيرة} من أمرهم. وذهب الطبري إلى أن ما موصولة منصوبة بيختار، أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم، ويفعلون ما لم يؤمروا به. وأنكر أن تكون ما نافية، لئلا يكون المعنى: إنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدّم كلام بنفي. وروي عن ابن عباس معنى ما ذهب إليه الطبري، وقد رد هذا القول تقدّم العائد على الموصول، وأجيب بأن التقدير: ما كان لهم فيه الخيرة، وحذف لدلالة المعنى. قال الزمخشري: كما حذف من قوله: {إن ذلك لمن عزم الأمور} ، يعني: أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور. وأنشد القاسم ابن معن بيت عنترة: أمن سمية دمع العين تذريفلو كان ذا منك قبل اليوم معروف وقرن الآية بهذا البيت: لو أن ذا، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن. فأما في الآية، فقال ابن عطية: تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف. قال ابن عطية: ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة، إذا قدرنا كان تامة، أي أن الله تعالى يختار كل كائن، ولا يكون شيء إلا بإذنه. وقوله: {لهم الخيرة} : جملة مستأنفة. {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ}

وقد يسلط على الليل {أرأيتم} و {جعل} ، إذ كل منهما يقتضيه، فأعمل الثاني. وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام، والعائد على الليل محذوف تقديره: من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقاً، بل قد يختلف الطلب، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية، وهذا على جهة المفعولية، وهذا على جهة المفعول، وهذا على جهة الظرف. وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالباً، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاماً، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها، كان ذلك المنتصب حالا. وفارون أعجمي: منع الصرف للعجمة والعلمية. {مِنَ الْكُنُوزِ مَآ} وما موصوله، صلتها إن ومعمولاها. وقال النحاس: سمعت علي بن سليمان، يعني الأخفش الصغير، يقول: ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه، وفي القرآن: {ما إن مفاتحه} . انتهى. {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ}

والصحيح أن الباء للتعدية، أي لتنيء العصبة، كما تقول: ذهبت به وادهيته، وجئت به وجاته. ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء، واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي، وتقول العرب: ناء الجمل بالبعير إذ أثقله. قال ابن عطية: ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه، فتأمله. وقرأ بديل بن ميسرة: لينوء، بالياء، وتذكيره راعى المضاف المحذوف، التقدير: ما إن حمل مفاتحه، أو مقدارها، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري: ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال، كقوله: ذهبت أهل اليمامة. انتهى يعني: أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة، فقيل فيه، ذهبت. وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ: ما إن مفتاحه، على الإفراد، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل. قال الزمخشري: ومحل إذ منصوب بتنوء. انتهى، وهذا ضعيف جداً، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيداً بوقت قول قومه له: {لا تفرح} . وقال ابن عطية: متعلق بقوله: {فبغى عليهم} ، وهو ضعيف أيضاً، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك الوقت. وقال الحوفي: الناصب له محذوف تقديره أذكر. وقال أبو البقاء: {إذ قال له} ظرف لآتيناه، وهو ضعيف أيضاً، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. وقال أيضاً: ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف دل عليه الكلام، أي بغى عليهم، {إذ قال له قومه} انتهى. ويظهر أنيكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز، {إذ قال له قومه لا تفرح} . {على علم} ، علم: مصدر، يحتمل أن يكون مضافاً إليه ومضافاً إلى الله. وقرأ الجمهور: {ولا يسأل} ، مبنياً للمفعول و {المجرمون} : رفع به، وهو متصل بما قبله، قاله محمد بن كعب.

وقرأ أبو جعفر في روايته: ولا تسأل، بالتاء والجزم، المجرمين: نصب. وقرأ ابن سيرين، وأبو العالية: كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّز ذلك إلاّ أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب، بوقوع الفعل عليه. قال صاحب اللوامح: فالظاهر ما قاله، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء، فإن تركاه على رفعه، فله وجهان: أحدهما: أن تكون الهاء والميم في {عن ذنوبهم} راجعة إلى ما تقدم من القرون، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ، وتقديره: هم المجرمون، أو أولئك المجرمون، ومثله: {التائبون العابدون} في التوبة. والثاني: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في ذنوبهم، لأنها، وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها، فإن أصلها الرفع، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ: {أن يضرب مثلاً ما بعوضة} بالجر، على أنها بدل من أصل المثل، وما زائدة فيه، وتقديره: لا يستحي بضرب مثل بعوضة، أي بضرب بعوضة. في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثراً لحال. فأما قوله: من ذنوبهم، فذنوب جمع، فإن كان جمع مصدر، ففي إعماله خلاف. وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك، ولا نعرف فيها أثراً، فينبغي أن لا يجعلها قراءة. {مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأٌّمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا} والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف، وهو يوم التمني، ويدل عليه العطف بالفا التي تقتضي التعقيب في قوله: {فخسفنا} ، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته، وفي ذلك تعجيل العذاب.

و: وي، عند الخليل وسيبويه: اسم فعل مثل: صه ومه، ومعناها: أعجب. قال الخليل: وذلك أن القوم ندموا فقالوا، متندمين على ما سلف منهم: وي، وكل من ندم فأظهر ندامته قال: وي. وكأن: هي كاف التشبيه الداخلة على أن، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال، وأنشد سيبويه: وي كأن من يكن له نشب يحسبب ومن يفتقر يعش عيش ضر والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل. وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي. وقال الأخفش: هي ويك، وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب، ولا موضع لها من الإعراب، والوقف عليه ويك، ومنه قول عنترة: ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمهاقيل الفوارس ويك عنتر اقدم قال الأخفش: وأن عنده مفتوح بتقدير العلم، أي أعلم أن الله، وقال الشاعر: ألا ويك المضرة لا تدومولا يبقى على البؤس النعيم وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة. فعلى المذهب الأول قيل: تكون الكاف خالية من معنى التشبيه، كما قيل: {ليس كمثله شيء} . وعلى لمذهب الثاني، فالمعنى: أعجب لأن الله. وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن، والمعنى أيضاً: لأن الله. وقال أبو زيد وفرقة معه: ويكأن، حرف واحد بجملته، وهو بمعنى: ألم تر. وبمعنى: ألم تر، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد. وقال الفراء: ويك، في كلام العرب، كقوله الرجل: أما ترى إلى صنع الله؟ وقال ابن قتيبة، عن بعض أهل العلم أنه قال: معنى ويك: رحمة لك، بلغة حمير. {عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}

وقرأ الأعمش: لولا من الله، بحذف أن، وهي مزادة. وروي عنه: من الله، برفع النون والإضافة وابن مسعود، وطلحة، والأعمش: لا نخسف بنا، كقولك: انقطع بنا، كأنه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل هو {بنا} . ويجوز أن يكون المصدر: أي لا نخسف الانخساف، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر. {وَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ} {فله خير منها} : يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل، وأن يكون واحد الخيور، أي فله خير بسبب فعلها. ومن منصوب بإضمار فعل، أي يعلم من جاء بالهدى، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل، وأجاز مع ذلك أن ينصب به، جاز أن ينتصب به، إذ يؤوله بمعنى عالم، ويعطيه حكمه من العمل. وانتصب رحمة على الاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك سبقت، فالقى إليك الكتاب. وقال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى. فيكون استثناء متصلاً، إما من الأحوال، وإما من المفعول له. {بعد إذا أنزلت إليك} : أي بعد وقت إنزالها، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله: {بعد إذ هديتنا} ، ويومئذ وحينئذ.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت وحسب يطلب مفعولين. فقال الحوفي، وابن عطية، وأبو البقاء: سدت أن وما بعدها من معمولها مسد القولين، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا. وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض، وقدروه بأن يقولوا لأون يقولوا. وقال ابن عطية، وأبو البقاء: وإذا قدرت الباء كان حالاً. قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء كما تقول: تركت زيداً بحاله، وهي في اللام بمعنى من أجل، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان. وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان؟ قلت: هو في قوله: {أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، فالترك أول مفعولي حسب، ولقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة للترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله: فتركته جزر السباع ينشنه ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: تركتهم غير مفتونين، لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت: {أن يقولوا} هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قوله: خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً، تعليلين. وتقول أيضاً: حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً. انتهى، وهو كلام فيه اضطراب.

ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة، يعني أنه حال، لأنه سبك ذلك من قوله: {يَقُولُواْءَامَنَّا وَهُمْ} ، وهذه جملة حالية. ثم ذكر {أن يتركوا} هنا من الترك الذي هو من التصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم: {وهم لا يفتنون} ، وهذا كلام لا يصح. وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير، بخلاف ما قدر في الآية. وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام، فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم، كان غير مفتونين حالاً، إذ لا ينعقد من تركهم، بمعنى تصييرهم، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم، بمعنى تصييرهم، إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا معفول ثان. سورة العنكبوت وحسب يطلب مفعولين. فقال الحوفي، وابن عطية، وأبو البقاء: سدت أن وما بعدها من معمولها مسد القولين، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلاً من أن يتركوا. وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض، وقدروه بأن يقولوا لأون يقولوا. وقال ابن عطية، وأبو البقاء: وإذا قدرت الباء كان حالاً. قال ابن عطية: والمعنى في الباء واللام مختلف، وذلك أنه في الباء كما تقول: تركت زيداً بحاله، وهي في اللام بمعنى من أجل، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان. وقال الزمخشري: فإن قلت: فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان؟ قلت: هو في قوله: {أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، فالترك أول مفعولي حسب، ولقولهم آمنا هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة للترك، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كقوله: فتركته جزر السباع ينشنه

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: تركتهم غير مفتونين، لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت: {أن يقولوا} هو علة تركهم غير مفتونين، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت: كما تقول: خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب، وقد كان التأديب والمخافة في قوله: خرجت مخافة الشر وضربته تأديباً، تعليلين. وتقول أيضاً: حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً. انتهى، وهو كلام فيه اضطراب. ذكر أولاً أن تقديره غير مفتونين تتمة، يعني أنه حال، لأنه سبك ذلك من قوله: {يَقُولُواْءَامَنَّا وَهُمْ} ، وهذه جملة حالية. ثم ذكر {أن يتركوا} هنا من الترك الذي هو من التصيير، وهذا لا يصح، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم: {وهم لا يفتنون} ، وهذا كلام لا يصح. وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح، وأن يكون جزر السباع مفعولاً ثانياً لترك بمعنى صير، بخلاف ما قدر في الآية. وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام، فلا يصح؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم، كان غير مفتونين حالاً، إذ لا ينعقد من تركهم، بمعنى تصييرهم، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم، بمعنى تصييرهم، إلى مفعول ثان، لأن غير مفتونين عنده حال، لا معفول ثان. وأما قوله: فإن قلت {أن يقولوا} إلى آخره، فيحتاج إلى فضلة فهم، وذلك أن قوله: {أن يقولوا} هو علة تركهم فليس كذلك، لأنه لو كان علة له لكان متعلقاً، كما يتعلق بالفعل، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر، أو كائن، والخبر غير المبتدأ. ولو كان لقولهم علة للترك، لكان من تمامه، فكان يحتاج إلى خبر. وأما قوله: كما تقول خروجه لمخافة الشر، فلمخافة ليس علة للخروج، بل للخبر المحذوف الذي ومستقر، أو كائن.

{وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ} ، قال ابن عطية: أم معادلة للألف في قوله: {أحسب} ، وكأنه عز وجل قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه. انتهى. وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب، كما ذكر، لأنها إذ ذاك تكون متصلة، ولها شرطان: أحدهما: أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام، وهذا الشرط هنا موجود. والثاني: أن يكون بعدها مفرد، أو ما هو في تقدير المفرد. مثال المفرد: أزيد قائم أم عمرو؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد: أقام زيد أم قعد؟ وجوابها: تعيين أحد الشيئين، إن كان التعادل بين شيئين؛ أو الأشياء، إن كان بين أكثر من شيئين. وهنا بعد أم جملة، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين، بل أم هنا منقطعة، بمعنى بل التي للإضراب، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية، لا بمعنى الإبطال. وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار، فلا يقتضي جواباً، لأنه في معنى: كيف وقع حسبان لك؟ {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} . فإن قلت: أين مفعولاً حسب؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين، كقولهم: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} . ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر، وأم منقطعة. ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أن لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه. انتهى. وأما قوله: اشتمال صلة أن، إلى آخره، فقد كان ينبغي أن يقدر ذلك في قوله: {أن يتركوا} ، فيجعل ذلك سد مسد المفعولين، ولم يقدر ما لا يصح تقديره، وأمّا قوله: ويجوز أن تضمن حسب معنى قدر، فتعين إن أن وما بعدها في موضع مفعول واحد، والتضمين ليس بقياس، ولا يصار إليه إلا عند الحاجة إليه، وهذا الإجابة إليه.

{ساء ما يحكمون} ، قال الزمخشري، وابن عطية ما معناه: أن {ما} موصولة و {يحكمون} صلتها، أو تمييز بمعنى شيء، ويحكمون صفة، والمخصوص بالذم محذوف، فالتقدير: أي حكمهم. انتهى. وفي كون ما موصولة مرفوعة بساء، أو منصوبة على التمييز خلاف مذكور في النحو. وقال ابن كيسان: ما مصدرية، فتقديره: بئس حكمهم. وعلى هذا القول يكون التمييز محذوفاً، أي ساء حكماً حكمهم. وساء هنا بمعنى: بئس، وتقدم حكم بئس إذا اتصل بهاما، والفعل في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} مشبعاً في البقرة. وجاء بالمضارع، وهو {يحكمون} ، قيل: إشعاراً بأن حكمهم مذموم حالاً واستقبالاً، وقيل: لأجل الفاصلة وقع المضارع موقع الماضي اتساعاً. {لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ} . وقال أبو عبيدة: يرجو: يخاف، ويظهر أن جواب الشرط محذوف، أي {من كان يرجو لقاء الله} ، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقق رجاءه، فإن ما أجله الله تعالى من لقاء جزائه لآت. {عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} . أي أحسن جزاء أعمالهم. وقال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون. انتهى. وهذا التقدير لا يسوغ، لأنه يقتضي أن أولئك يجزون ثواب أحسن أعمالهم، وأما ثواب حسنها فمسكوت عنه، وهم يجزون ثواب الأحسن والحسن، إلاّ إن أخرجت أحسن عن بابها من التفضيل، فيكون بمعنى حسن، فإنه يسوغ ذلك. وأما التقدير الذي قبله فمعناه: أنه مجزي أحسن جزاء العمل، فعمله يقتضي أن تكون الحسنة بمثلها، فجوزي أحسن جزائها، وهي أن جعلت بعشر أمثالها.

وانتصب {حسناً} على أنه مصدر، وصف به مصدر وصينا، أي إيصاء حسناً، أي ذا حسن، أو على سبيل المبالغة، أي هو في ذاته حسن. قال ابن عطية: يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تحريض على كونه عاماً لمعان. كما تقول: وصيتك خيراً، وأوصيتك شراً؛ وبعر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك دون حرف الجر، كون حرف الجر في قوله: {بوالديه} ، لأن المعنى: ووصينا الإنسان بالحسن في قوله مع والده، ونظير هذا قول الشاعر: عجبت من دهماء إذ تشكوناومن أبي دهماء إذ يوصيناانتهى. مثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة:

وصيت من برة قلباً حراًبالكلب خيراً والحماة شراً وعلى هذا التقدير يكون الأصل بخير، وهو المفعول الثاني. والباء في بوالديه وفي بالحماة وبالكلب ظرفية بمعنى في، أي وصينا الإنسان في أمر والديه بخير. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله: {بوالديه} ، وينتصب {حسناً} بفعل مضمر تقديره: يحسن حسناً، وينتصب انتصاب المصدر. وفي التحرير: حسناً نصب عند البصريين على التكرير، أي وصيناه حسناً، وقيل: على القطع، تقديره: ووصينا بالحسن، كما تقول: وصيته خيراً، أي بالخير، ويعني بالقطع عن حرف الجر، فانتصب. وقال أهل الكوفة: ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً، فيقدر له فعل. انتهى. وفي هذا القول حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول، وهو لا يجوز عند البصريين. وقال الزمخشري: وصيناه بايتاء والديه حسناً، أو نائلاً والديه حسناً، أي فعلاً ذا حسن، وما هو في ذاته حسن لفرط حسنه، كقوله: {وقولوا للناس حسناً} . انتهى. وهذا التقدير فيه إعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله، وهو لا يجوز عند البصريين. قال الزمخشري: ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك: زيداً، بإضمار اضرب إذا رأيته متهيأ للضرب، فتنصبه بإضمار أولهما، أو افعل بهما، لأن الوصية بهما دالة عليه، وما بعده مطابق له، فكأنه قال: قلنا أو لهما معروفاً. وقرأ عيسى، والجحدري: حسناً، بفتحتين؛ والجمهور: بضم الحاء وإسكان السين، وهما كالبَخَل. وقال أبو الفضل الرازي: وانتصابه بفعل دون التوصية المقدمة، لأنها قد أخذت مفعوليها معاً مطلقاً ومجروراً، فالحسن هنا صفة أقيم مقام الموصوف بمعنى: أمر حسن. انتهى، أي أمراً حسناً، حذف أمراً وأقيم حسن مقامه. وقوله: مطلقاً، عنى به الإنسان، وفيه تسامح، بل هو مفعول به؛ والمطلق إنما هو المصدر، لأنه مفعول لم يقيد من حيث التفسير بأداة جر، بخلاف سائر المفاعيل، فإنك تقول: مفعول به، ومفعول فيه، ومفعول معه، ومفعول له؛ وفي مصحف أبي: إحساناً.

{كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى} . وأعلم: أفعل تفضيل، أي من أنفسهم؛ وبما في صدورهم: أي بما تكن صدورهم من إيمان ونفاق، وهذا إستفهام معناه التقرير، أي قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير وشر. {لِلَّذِينَءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا} . قال ابن عطية: وقوله: {ولنحمل} ، أخبر أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالنقل، لكنهم أخرجوه في صيغة الأمر، لأنها أوجب وأشد تأكيداً في نفس السامع من المجازاة، ومن هذا النوع قول الشاعر: فقلت ادعى وأدعو فإن أندى لصوت أن ينادي داعيانولكونه خبراً حسن تكذيبهم فيه. والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، وهذا قول صناديد قريش، كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن عسى، كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم. انتهى. وقوله: فإن عسى، كان تركيب أعجمي لا عربي، لأن إن الشرطية لا تدخل على عسى، لأنه فعل جامد، ولا تدخل أدوات الشرط على الفعل الجامد؛ وأيضاً فإن عسى لا يليها كان، واستعمل عسى بغير اسم ولا خبر، ولم يستعملها تامة. وقرأ الحسن، وعيسى، ونوح القارىء: ولنحمل، بكسر لام الأمر؛ ورويت عن علي، وهي لغة الحسن، في لام الأمر. وتقدم من قول ابن عطية أن قوله: ولنحمل خبر، يعني أمراً، ومعناه الخبر، وهذان الأمران منزلان منزلة الشرط والجزاء، إذ المعنى: أن تتبعوا سبيلنا، ولحقكم في ذلك إثم على ما تزعمون، فنحن نحمل خطاياكم. وإذا كان المعنى على هذا، كان إخباراً في الجزاء بما لا يطابق، وكان كذباً. {كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ} .

والواو في {ولقد} واو عطف، عطفت جملة على جملة. قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار، وحرف الجر لا يعلق عن عمله، بل لا بد له من ذكره. والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه، من لدن مولده إلى غرق قومه. انتهى. وليس عندي محتملاً، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب. {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ} . والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه. ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله: تسعمائة وخمسون عاماً، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي. وانتصب {إبراهيم} عطفاً على {نوحاً} . قال ابن عطية: أو على الضمير في {فأنجيناه} . وقال هو والزمخشري: بتقدير اذكروا بدل منه، إذ بدل اشتمال منه، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف، فلا يكون مفعولاً به، وقد كثر تمثيل المعربين، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر، وإذا كانت ظرفاً لما مضي، فهو لو كان منصرفاً، لم يجز أن يكون معمولاً لا ذكر، لأن المستقبل لا يقع في الماضي، لا يجوز ثم أمس، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه، جاز أن يكون مفعولاً به ومعمولاً لا ذكر.

وقرأ ابن الزبير، وفضيل بن زرقان: أفكاً، بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب. وقال الزمخشري: إفكاً فيه وجهان: أحدهما: أن تكون مصدراً نحو: كذب ولعب، والإفك مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن تكون صفة على فعل، أي خلقاً إفكاً، ذا إفك وباطل. {لا يملكون لكم رزقاً} على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم، فقرر أن الأصنام لا ترزق، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر: لا يملكون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، واحتمل أن يكون اسم المرزوق، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله. فليس {ثم يعيده} معطوفاً على يبدىء، ولا {ثم ينشىء} ، داخلاً تحت كيفية النظر في البدء، بل هما جملتان مستأنفتان، إخباراً من الله تعالى بالإعادة بعد الموت. وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه، صار واجباً مقطوعاً بعلمه، ولا شك فيه. والآخرة صفة للنشأة. {وما أنتم بمعجزين} : أي فائتين ما أراد الله لكم. {في الأرض ولا في السماء} ، إن حمل السماء على العلو فجائز، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو، ويكون تخصيصاً بعد تعميم، أو على المظلة، فيحتاج إلى تقرير، أي لو صرتم فيها، ونظيره قول الأعشى: ولو كنت في جب ثمانين قامةورقيت أسباب السماء بسلم ليعتورنك القول حتى تهزهوتعلم أني فيك لست بمجرم وقوله تعالى: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض} ، على تقدير الحكم لو كنتم فيها، {والأرض فانفذوا} . وقال ابن زيد، والفراء: التقدير: ولا من في السماء، أي يعجز إن عصى. وقال الفراء: وهذا من غوامض العربية، وأنشد قول حسان:

فمن يهجو رسول الله منكمويمدحه وينصره سواء أي: ومن ينصره، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته. وأبعد من هذا القول قول من زعم أن التقدير: وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجنّ، ولا من في السماء من الملائكة، فكيف تعجزون الله؟ {عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ} . وقرأ الجمهور: {جواب} ، بالنصب؛ والحسن، وسالم الأفطس: بالرفع، اسما لكان. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية الأصمعي، والأعمش عن أبي بكر: مودة بالرفع، وبينكم بالنصب. فالرفع على خبر إن، وما موصولة بمعنى الذي، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودوداً، أو سبب مودة، أو مصدرية، أي إن اتخاذكم أوثاناً مودة، أو على خبر مبتدأ محذوف، أي هي مودة بينكم، وما إذ ذاك مهيئة. وروى عن عاصم: مودة، بالرفع من غير تنوين؛ وبينكم بالفتح، أي بفتح النون، جعله مبنياً لإضافته إلى مبني، وهو موضع خفض بالإضافة، ولذلك سقط التنوين من مودة. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وابن كثير: كذلك، إلا أنه خفض نون بينكم. وقرأ ابن عامر، وعاصم: بنصب مودة منوناً ونصب بينكم؛ وحمزة كذلك، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة. واتخذ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين، والثاني هو مودة، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم، على حذف المضاف، أو اتخذتموها مودّة بينكم، كقوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله} ، أو مما تعدت إلى واحد، وانتصب مودة على أنه مفعول له، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها، كما يجتمع ناس على مذهب، فيقع التحاب بينهم.

و {بينكم} ، و {في الحياة} : يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما، إذ هما ظرفاً مكان وزمان، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين، فيكونان في موضع الصفة، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق {في الحياة} . باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية ورفع موده، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر. وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق {في الحياة} بمودة، وأن يكون {بينكم} صفة لمودة، وهو لا يجوز، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعلم، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف، بخلاف المفعول به. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم، قال: لأن معناه: اجتماعكم أو وصلكم. وأجاز أيضاً أن يجعله حالاً من بينكم، قال: لتعرفه بالإضافة. انتهى، وهما إعرابان لا يتعقلان. {لَمِنَ الصَّلِحِينَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَلَمِينَ} . وانتصب لوطاً بإضمار اذكر، أو بالعطف على إبراهيم، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم. والجمهور: على الاستفهام في أئنكم معاً. وقرىء: أنكم على الخبر، والثاني على الاستفهام. قال الزمخشري: {ما سبقكم بها} جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة، كأن قائلاً قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم. ويظهر أن {ما سبقكم بها} جملة حالية، كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها؟ واستفهم أولاً وثانياً استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع.

{مِنَ الْغَبِرِينَ * وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ} : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة، إلاّ أن هنا زيدت، أن بعد لما، وهو قياس مطرد. وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه. انتهى. وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه، إذ مذهبه. أن لما: حرف لا ظرف، خلافاً للفارسي، وهذا مذكور في علم النحو. وقرأ العربيان، ونافع، وحفص: {منجوك} ، مشدداً؛ وباقي السبعة: مخففاً، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر. {وأهلك} : منصوب على إضمار فعل، أي وننجي أهلك. ومن راعى هذا الموضع، عطفه على موضع الكاف، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب، وأهلك معطوف عليه، لأن هذه النون كالتنوين، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله. {دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . وانتصب {وعاداً وثموداً بإضمار} أهلكنا، لدلالة فأخذتهم الرجفة عليه. وقيل: بالعطف على الضمير في فأخذتهم، وأبعد الكسائي في عطفه على الذين من قوله: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} . وقرأ: ثمود، بغير تنوين؛ حمزة، وشيبة، والحسن، وحفص، وباقي السبعة: بالتنوين. وقرأ ابن وثاب: وعاد وثمود. {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} . وقرأ الأعمش: مساكنهم، بالرفع من غير من، فيكون فاعلاً بتبين. {وقارون} : معطوف على ما قبله، أو منصوب بإضمار اذكر. {كَانُواْ يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

وجوزوا في ما أن يكون مفعولاً بيدعون، أي يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء، أي يعلم حالهم، وأنهم لا قدرة لهم. وأن تكون نافية، أي لستم تدعون من دونه شيئاً له بال ولا قدر، فيصلح أن يسمى شيئاً، وأن يكون استفهاماً، كأنه قدر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء، وهي في هذين الوجهين مقتطعة من يعلم، واعتراض بين يعلم وبين قوله: {وهو العزيز الحكيم} . وجوز أبو علي أن يكون ما استفهاماً منصوباً بيدعون، ويعلم معلقة؛ فالجملة في موضع نصب بها، والمعنى: أن الله يعلم أوثاناً تدعون من دونه، أم غيرها لا يخفى عليه ذلك. والجملة تأكيد للمثل، وإذا كانت ما نافية، كان في الجملة زيادة على المثل، حيث لم يجعل تعالى ما يدعونه شيئاً. {الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ} والظاهر أن اكبر افعل التفضيل. {أَهْلَ الْكِتَبِ إِلاَّ بِالَّتِى} . وقرأ الجمهور: إلا، حرف استثناء؛ وابن عباس: ألا، حرف تنبيه واستفتاح، وتقديره: ألا جادلوهم بالتي هي أحسن. {إِلاَّ الْكَفِرونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَبَ الْمُبْطِلُونَ} . أي كتاباً، ومن زائدة لأنها في متعلق النفي. وانتصبت يوم {تعيشاهم} بـ محيطة. {فإياي فاعبدون} ، من باب الاشتغال: أي فإياي اعبدوا فاعبدون. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الفاء في فاعبدون، وتقدم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف، لأن المعنى: إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة في أرض، فاخلصوها في غيرها. ثم حذف الشرط وعوض من حذفة تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. انتهى. ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل. {فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} . وقرأ أبو حيوة: {ذائقة} ، بالتنوين؛ {الموت} : بالنصب.

سورة لقمان

{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَمِلِينَ} . سورة الروم لم يتكلم عنها المؤلف أو حدث فيها سقط والله أعلم سورة لقمان أربع وثلاثون آية مكية لقمان: اسم علم، فإن كان أعجمياً فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية، وإن كان عربياً فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون، ويكون مشتقاً من اللقم مرتجلاً، إذ لا يعلم له وضع في النكرات. وآيات الكتاب القرآن واللوح المحفوط. ووصف الكتاب بالحكيم، إما لتضمنه للحكمة، قيل: أو فعيل بمعنى المحكم، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل، ومنه عقدت العسل فهو عقيد، أي معقد، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم. وقال الزمخشري: الحكيم: ذو الحكمة؛ أو وصف لصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي، ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قابله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة. وقرأ الجمهور: {هدى ورحمة} ، بالنصب على الحال من الآيات، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، قاله الزمخشري وغيره، ويحتاج إلى نظر. وقرأ حمزة، والأعمش، والزعفراني، وطلحة، وقنبل، من طريق أبي الفضل الواسطي: بالرف، خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز ذلك. والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء، وصرف عقله بكليته إليه. فإن أريد به ما يقع عليه الشراء، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف، أي من يشتري ذات لهو الحديث. وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من، لأن اللهو قد يكون من حديث، فهو كباب ساج، والمراد بالحديث: الحديث المنكر. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قال: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. انتهى.

وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص: ويتخذها {هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ} ، بالنصب عطفاً على {ليضل} ، تشريكاً في الصلة؛ وباقي السبعة: بالرفع، عطفاً على {يشتري} ، تشريكاً في الصلة. {وإذا تتلى عليه} : بدأ أولاً بالحمل على اللفظ، فأفرد في قوله: {من يشتري} ، {وليضل} ، {ويتخذها} ، ثم جمع على الضمير في قوله: {أولئك لهم} ، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله: {وإذا تتلى} إلى آخره. ومن في: {من يشتري} موصولة، ونظيره في من الشرطية قوله: {ومن يؤمن من بالله} ، فما بعده أفرد ثم قال: {خالدين} ، فجمع ثم قال: {قد أحسن الله له رزقاً} ، فأفرد، ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، غير هاتين الآيتين. والنحويون يذكرون {ومن يؤمن بالله} الآية فقط، ثم على المعنى، ثم على اللفظ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات. و {كأن لم يسمعها} : حال من الضمير في {مستكبراً} ، أي مشبهاً حال من لم يسمعها، لكونه لا يجعل لها بالاً ولا يلتفت إليها؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف. و {كأن في أذنيه وقراً} : حال من لم يسمعها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا استئنافين. انتهى، يعني الجملتين التشبيهيتين. وانتصب {وعد الله} على أنه مصدر مؤكد لنفسه، و {حقاً} على المصدر المؤكد لغيره، لأن قوله: {لهم جنات النعيم} ، والعامل فيها متغاير، فوعد الله منصوب، أي يوعد الله وعده، وحقاً منصوب بأحق ذلك حقاً.

ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي، وتكون مفعولاً ثانياً لأروني. واستعمال ماذا كلها موصولاً قليل، وقد ذكره سيبويه. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهو خبر عن ما، والجملة في موضع نصب بأروني، وأروني معلقة عن العمل لفظاً لأجل الاستفام. وقال الزجاج: المعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة {خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ} لأن يشكر الله، فجعلها مصدرية، لا تفسيرية. وحكى سيبويه: كتبت إليه بأن قم. {وهو يعظه} : جملة حالية. انتصب على الحال. وقيل: وهناً على وهن {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً} : نطفة ثم علقة، فعلى هذا يكون حالاً من الضمير المنصوب في حملته، وهو الولد. و {أن اشكر} في موضع نصب، على قول الزجاج. وقال النحاس: الأجود أن تكون مفسرة. وانتصب {معروفاً} على أنه صفة لمصدر محذوف، أي صحاباً، أو مصاحباً معروفاً وعشرة جميلة، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما، وعيادتما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا. {يا بني إنها إن تك} ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة. وقرأ نافع: مثقال، بالرفع على {إن تك} تامة، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر، وأخبر عن مثقال، وهو مذكر، إخبار المؤنث، لأضافته إلى مؤنث، وكأنه قال: إن تك زنة حبة؛ وباقي السبعة: بالنصب على {إن تك} ناقصة، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره: هي، أي التي سألت عنها. وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه: أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر؟ أيعلمها الله؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض، ويؤيده قوله: {إن تك مثقال حبة} .

ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية. وعلى من قرأ بنصب مثقال، يجوز أن يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة، لا ضمير القصة. قال الزمخشري: فمن نصب يعني مثقال، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان، أي كانت مثلاً في الصغر والقماءة، كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه، كجوف الصخرة، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي. والعزم مصدر، فاحتمل أن يراد به المفعول، أي من معزوم الأمور، واحتمل أن يراد به الفاعل، أي عازم الأمور، كقوله: فإذا عزم الأمر {مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ} . ولما كان صوت الحمير متماثلاً في نفسه، لا يكاد يختلف في الفظاعة، أفرد لأنه في الأصل مصدر. وانتصب ظاهرة {مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأٌّصْوَتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ * أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ} على الحال من {نعمه} ، الجمع على الصفة، ومن نعمة على الإفراد. {ولو أن ما في الأرض} ، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره، وتقرر ذلك في علم النحو. و {من شجرة} : تبيين لما، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه، وتقديره: ولو أن الذي استقر في الأرض كائناً من شجرة وأقلام خبر لأن، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن الجائية بعد لولا يكون اسماً جامداً ولا اسماً مشتقاً، بل يجب أن يكون فعلاً، وهو قول باطل، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه. قال الشاعر: ولو أنها عصفورة لحسبتهامسومة تدعو عبيداً وأيماً وقال الآخر: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرتنبو الحوادث عنه وهو ملموم وقال آخر:

ولو أن حياً فائت الموت فاتهأخو الحرب فوق القارح القدوان وهو كثير في لسانهم. والظاهر أن الواو في قوله: {والبحر} ، في قراءة من رفع، وهم الجمهور، واو الحال؛ والبحر مبتدأ، و {يمده} الخبر، أي حال كون البحر ممدوداً. وقال الزمخشري: عطفاً على محل إن ومعمولها على ولو، ثبت كون الأشجار أقلاماً، وثبت أن البحر مدوداً بسبعة أبحر. انتهى. وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد، حيث زعم أن {أن} في موضع رفع على الفاعلية. وقال بعض النحويين: هو عطف على أن، لأنها في موضع رفع بالإبتداء، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول: إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء، ولولا يليها المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة شعر، نحو قوله: لو بغير الماء حلقي شرقكنت كالغصان بالماء اعتصاري فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها، وهما رفع بالابتداء، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ، إذ يصير التقدير: ولو البحر، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة، إلا أنه قد يقال: إنه يجوز في المعطوف عليه نحو: رب رجل وإخيه يقولان ذلك. وقرأ عبد الله: وبحر يمده، بالتنكير بالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم؛ وإن كان الواو واو الحال، كان بحر، وهو نكرة، مبتدأ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته، نحو قوله: سرينا ونجم قد أضاء فقد بدامحياك أخفى ضوؤه كل شارق وقرأ جعفر بن محمد والبحر مداده، أي يكتب به من السواد. وقال ابن عطية: هو مصدر. انتهى.

سبعة أبحر {شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ} : لا يراد به الاقتصار على هذا العدد، بل جيء للكثرة، كقوله: المؤمن من يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء، لا يراد به العدد، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة. ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعاً في الأصل للتكثير، وإن كان مراداً به التكثير، جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضاً إلا التكثير، ليناسب بين اللفظين. فكما يجوز في سبعة، واستعمل للتكثر، كذلك يجوز في أبحر، واستعمل للتكثير. وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وكتب بها الكتاب كلمات الله. وقال الزمخشري: فإن قلت: زعمت أن قوله: {والبحر يمده} ، حال في أحد وجهي الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال، قلت: هو كقوله: وقد اغتدي والطير في وكناتها وجئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. يجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. انتهى. وهذا الذي جعله سؤالاً وجواباً من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه، وهو أن الجملة لا سمية إذا كانت حالاً بالواو، لا يحتاج إلى ضمير يربط، واكتفى بالواو فيها. وأما قوله: وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، فليس بجيد، لأن الظرف إذا وقع حالاً، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف. والجملة الاسمية إذا كانت حالاً بالواو، فليس فيها ضمير منتقل. وأما قوله: ويجوز، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين، حيث يجعلون أل عوضاً من الضمير.

وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {من شجرة} ، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاماً. انتهى. وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، ونظيره: {ما ننسخ من آية} ، {ما يفتح الله للناس من رحمة} ، {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} ؛ وكقول العرب: هو أول فارس، وهذا أفضل عالم، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب، وأول الفرسان. أخبروا بالمفرد والنكرة، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل، وهو مهيع في كلام العرب معروف. وكذلك يتقدر هذا من الشجرات، أو من الأشجار. وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لايعلم به، ولا يحيط إلا الله تعالى. والباء، وتحتمل السبية: أي تجري بسبب الريح وتسخير الله، وتحتمل الحالية، أي مصحوبة بنعمة الله، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات. وقال ابن عطية: الباء للالصاق. انتهى. وقوله: وإذا غشيهم {أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ} ، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في {ليريكم} إلى ضمير الغيبة في {غشيهم} . و {موج} : اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث، فهو يدل على الجمع، ولذلك شبهه بالجمع. والجملة من لا يجزي صفة ليوم، والضمير محذوف، أي منه، فإما أن يحذف برمته، وإما على التدريج حذف الخبر، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف.

ويجوز في ولا مولود {رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن} وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على والد، والجملة من قوله: {هو جاز} ، صفة لمولود. والثاني: أن يكون مبتدأ، وهو مبتدأ ثان، وجاز خبره، والجملة خبر للأول، وجاز الابتداء به، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك، وهو النفي. وذهل المهدوي فقال: لا يكون {مولود} مبتدأ، لأنه نكرة وما بعده صفة، فيبقى بلا خبر و {شيئاً} منصوب بجاز، وهو من باب الأعمال، لأنه يطلبه {لا يجزي} ويطلبه {جاز} ، فجعلناه من أعمال الثاني، لأنه المختار. وقال الزمخشري: فإن قلت: قوله: {ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} هو وارد على طريق من التوكيد، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه. قلت: الأمر كذلك، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله: {هو} ، وقوله: {مولود} ، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأن الولد يقع على الولد، وولد الولد بخلاف المولود، فإنه لمن ولد منك. وعلم: مصدر أضيف إلى الساعة.

سورة السجدة

فالجملة من قوله: ماذا تكسب {بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأٌّرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} في موضع مفعول {تدري} ، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولاً منصوباً بتدري، كأنه قال: وما تدري نفس الشيء التي تكسب غداً. وبأي متعلق بتموت، والباء ظرفية، أي: في أي أرض؟ فالجملة في موضع نصب بتدري. سورة السجدة ثلاثون آية مكية والكتاب القرآن. قال الحوفي: {تنزيل} مبتدأ، {ولا ريب} خبره. ويجوز أن يكون {تنزيل} خبر مبتدأ، أي هذا المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل، و {الم} بدل على الحروف. وقال أبو البقاء: {الم} مبتدأ، و {تنزيل} خبره بمعنى المنزل، و {لا ريب فيه} حال من الكتاب، والعامل فيه تنزيل، و {من رب العالمين} متعلق بتنزيل أيضاً. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه، والعامل فيه الظرف. ويجوز أن يكون {تنزيل} مبتدأ، و {لا ريب فيه} الخبر، و {من رب العالمين} حال كما تقدم. ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل، لأن المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر {من رب العالمين} ، و {لا ريب} حال من الكتاب، وأن يكون خبراً بعد خبر. انتهى. والذي أختاره أن يكون {تنزيل} مبتدأ، و {لا ريب} اعتراض، و {من رب العالمين} الخبر. وقال ابن عطية: {من رب العالمين} متعلق بتنزيل، ففي الكلام تقديم وتأخير؛ ويجوز أن يتعلق بقوله: {لا ريب} ، أي لا شك، من جهة الله تعالى، وإن وقع شك الكفرة، فذلك لا يراعى. والريب: الشك، وكذا هو في كل القرآن، إلا قوله: {ريب المنون} . انتهى.

وإذا كان {تنزيل} خبر مبتدأ محذوف، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه، لم نقل فيه: إن فيه تقديماً وتأخيراً، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً. وأما كونه متعلقاً بلا ريب، فليس بالجيد، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود، لأن المعنى: لا مدخل للريب فيه، إن تنزيل الله، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه، وهو الإعجاز، فهو أبعد شيء من الريب. وقال الزمخشري: والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي في كونه منزلاً من رب العالمين. ومن ربك في موضع الحال، أي كائناً من عند ربك، وبه متعلق بلتنذر، أو بمحذوف تقديره: أنزله لتنذر. والقوم هنا قريش والعرب، وما نافية، ومن نذير: من زائدة، ونذير فاعل أتاهم. والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون، وذلك أنهم فهموا من قوله: ما أتاهم {رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن} ، و {ما أنذر آباؤهم} ، أن ما نافية، وعندي أن ما موصولة. وكذلك {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم} : أي العقاب الذي أنذره آباؤهم، فما مفعولة في الموضعين، وأنذر يتعدى إلى اثنين. قال تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة} ، وهذا القول جار على ظواهر القرآن. قال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} ، و {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} ، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ، {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً} .

وقرأ زيد بن علي: {عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم} : بخفض الأوصاف الثلاثة؛ وأبو زيد النحوي: بخفض {العزيز الرحيم} . وقرأ الجمهور: برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك، أو الأول خبر والاثنان وصفان، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر، وهو فاعل بيعرج، أي ثم يعرج إليه ذلك، أي الأمر المدبر، ويكون عالم وما بعده بدلاً من الضمير في إليه. وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه. وقرأ الجمهور: خلقه، بفتح اللام، فعلاً ماضياً صفة لكل أو لشيء. وقرأ العربيان، وابن كثير: بسكون اللام، والظاهر أنه بدل اشتمال، والمبدل منه كل، أي أحسن خلق كل شيء، فالضمير في خلقه عائد على كل. وقيل: الضمير في خلقه عائد على الله، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة، كقوله: {صبغة الله} ، وهو قول سيبويه، أي خلقه خلقاً. ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول، وبأنه أبلغ في الامتنان، لأنه إذا قال: {أحسن كل شيء} ، كأن أبلغ من: أحسن خلق كل شيء، لأنه قد يحسن الخلق، وهو المجاز له، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً. فإذا قال: {أحسن كل شيء} ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن، بمعنى: أنه وضع كل شيء في موضعه. انتهى. وقيل: في هذا الوجه، وهو عود الضمير في خلقه على الله، يكون بدلاً من كل شيء، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة. {وجعل لكم} : التفات، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب، وتعديد للنعم، وهي شاملة لآدم؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته. والظاهر أن {وقالوا} ، الضمير لجمع، وقيل: القائل أبيّ بن خلف، وأسند إلى الجمع لرضاهم به، والناصب للظرف محذوف يدل عليه {أئنا} وما بعدها تقديره انبعث.

{ولو ترى} : رأى أن الجملة معطوفة على {يتوفاكم} ، داخلة تحت {قل} ، فلذلك لم يجعله خطاباً للرسول. والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، والجواب محذوف، أي لرأيت أسوأ حال يرى. ولو تعليق في الماضي، وإذ ظرف للماضي، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاً منزلة الماضي. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد به التمني، كأن قيل: وليتك ترى، والتمني له، كما كان الترجي له في: {لعلهم يهتدون} ، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم، وأن تكون لو امتناعية، وقد حذف جوابها، وهو: لرأيت أمراً فظيعاً. ويجوز أن يخاطب به كل أحد، كما تقول: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، وإن أحسن إليه أساء إليك، فلا يريد به مخاطباً بعينه، وكأنك قلت: إن أكرم وإن أحسن إليه. انتهى. والتمني بلو في هذا الموضع بعيد، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره، وهي عبارة سيبويه، وقوله قد حذف جوابها وتقديره: وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه. قال الشاعر: فلو نبش المقابر عن كليبفيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعمثين لقر عيناوكيف لقاء من تحت القبوروقال الزمخشري: وقد تجيء لو في معنى التمني، كقولك: لو تأتيني فتحدثني، كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني. فقال ابن مالك: إن أراد به الحذف، أي وددت لو تأتيني فصحيح، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح، لأنها لو كانت موضوعة له، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني. لا يقال: تمنيت ليتك تفعل، ويجوز: تمنيت لو تقوم. وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي، وبين إلا واستثنى. انتهى.

و {هذا} : صفة ليومكم، ومفعول {فذوقوا} محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم {لقاء يومكم هذا} ، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله: {إنا نسيناكم} ، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم. {يدعون} : حال، أو مستأنف خوفاً وطمعاً، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال. و {ما أخفي} يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون {تعلم} متعلقة. والجملة في موضع المفعول، إن كان {تعلم} مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين. {ولا تعلم نفس} : نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. والظاهر أن الضمير عائد على موسى، مضافاً إليه على طريق المفعول، والفاعل محذوف ضمير الرسول، أي من لقائك موسى، أي في ليلة الإسراء، أي شاهدته حقيقة، وهو النبي الذي أوتي التوراة، وقد وصفه الرسول فقال: آدم طوال جعد، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد: حين امتحن الزجاج بهذه المسألة. وقيل: عائد على الكتاب، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، وإما بالعكس، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه. وقيل: يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي من لقاء مثله، أي: إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره، ونحوه من لقائه قوله: وإنك لتُلَقىّ القرآن {مُوسَى الْكِتَبَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ} .

سورة الأحزاب

{وكانوا} : يحتمل أن يكون معطوفاً على {صبروا} ، فيكون داخلاً في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفاً على {وجعلنا منهم} . وقرأ عبد الله أيضاً: بما صبروا، بباء الجر، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. سورة الأحزاب ثلاث وسبعون آية مدنية وأدعياء: جمع دعي، فعيل بمعنى مفعول، جاء شاذاً، وقياسه فعلى، كجريح وجرحى، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل، نحو: تقي وأتقياء. شبهوا أدعياء بتقي، فجمعوه جمعه شذوذاً، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا: أسراء وقتلاء، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا: أسرى وقتلى.

أقسط {عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ * يأَيُّهَا النَّبِىِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَفِرِينَ وَالْمُنَفِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ اللاَّئِى تُظَهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لأًّبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَتُهُمْ وَأُوْلُو الأٌّرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَبِ مَسْطُوراً * وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً * لِّيَسْأَلَ الصَّدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ

وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأٌّبْصَرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يأَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأّتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُواْ عَهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأٌّدْبَرَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَنِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الأٌّحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن

يَأْتِ الأٌّحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأٌّعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً * لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأٌّخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأٌّحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً *

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَرَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً * يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأٌّزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الأٌّخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * ينِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَلِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * ينِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاٍّولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءَاتِينَ

الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ وَالْقَنِتِينَ وَالْقَنِتَتِ وَالصَّدِقِينَ وَالصَّدِقَتِ وَالصَّبِرِينَ وَالصَّبِرَتِ وَالْخَشِعِينَ وَالْخَشِعَتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَتِ والصَّئِمِينَ والصَّئِمَتِ وَالْحَفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَفِظَتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِرَتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلاً مُّبِيناً * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً * مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن

رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ} : أفعل التفضيل. { مسطوراً} : أي مثبتاً بالأسطار، وهذه الجملة مستأنفة كالخاتمة. واللام في {ليسأل} ، قيل: يحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا. والظاهر أنها لام كي، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك؛ وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب. فالصادقون على هذا المسئولون هم: المؤمنون. والهاء في {صدقهم} عائدة عليهم، ومفعول {صدقهم} محذوف تقديره: عن صدقهم عهده. أو يكون {صدقهم} في معنى: تصديقهم، ومفعوله محذوف، أي عن تصديقهم الأنبياء. {وأعد} : معطوف على أخذنا. وإذ معمولة لنعمة، أي إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود. و {هنالك} : ظرف مكان للبعيد هذا أصله، فيحمل عليه، أي في ذلك المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال {ابتلي المؤمنون} ، والعامل فيه ابتلي. وقال ابن عطية: {هنالك} ظرف زمان؛ قال: ومن قال إن العامل فيه {وتظنون} ، فليس قوله بالقوي، لأن البداءة ليست متمكنة. وقرأ الجمهور: {زلزالاً} ، بكسر الزاي؛ والجحدري. وعيسى: بفتحها، وكذا: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} ، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو: قلقل قلقالاً. وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل، فصلصال بمعنى مصلصل، فإن كان غير مضاعف، فما سمع منه على فعلان، مكسور الفاء نحو: سرهفه سرهافاً.

{لا مقام لكم} ، وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص: بضم الميم، فاحتمل أن يكون مكاناً، أي لا مكان إقامة؛ واحتمل أن يكون مصدراً، أي لا إقامة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، والحسن، وقتادة، والنخعي، وعبد الله بن مسلم، وطلحة، وباقي السبعة: بفتحها، واحتمل أيضاً المكان، أي لا مكان قيام، واحتمل المصدر، أي لا قيام لكم. و {يقولون} : حال، أي قائلين: {إن بيوتنا عورة} . {لا يولون الأدبار} . وجواب هذا القسم جاء على الغيبة عنهم على المعنى: ولو جاء كما لفظوا به، لكان التركيب: لا نولي الأدبار. قال الربيع بن خيثم: وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: {إن فررتم من الموت} ، أو القتل، لا ينفعكم الفرار، وإذاً هنا تقدّمها حرف عطف، فلا يتحتم إعمالها، بل يجوز، ولذلك قرأ بعضهم: {وإذاً لا يلبثوا خلفك} في سورة الإسراء، بحذف النون. و {قليلاً} : نعت لمصدر محذوف، أي تمتيعاً قليلاً، أو لزمان محذوف، أي زماناً قليلاً. و {من ذا} : استفهام، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي، أي لا أحد يعصمكم من الله. وقال الزمخشري: وهلموا إلينا، أي قربوا أنفسكم إلينا، قال: وهو صوت سمي به فعل متعد مثل: احضر واقرب. انتهى. والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتاً، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه؛ فقيل: هو مركب من هاالتي للتنبيه ولم، وهو مذهب البصريين. وقيل: من هل وأم، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو. وأما قوله: سمي به فعل متعد، ولذلك قدر {هلم إلينا} : أي قربوا أنفسكم إلينا؛ والنحويون: أنه متعد ولازم؛ فالمتعدي كقوله: {قل هلم شهداءكم} : أي احضروا شهداءكم، واللازم كقوله: {هلم إلينا} ، وأقبلوا إلينا.

وقرأ الجمهور: {أشحة} ، بالنصب. قال الفراء: على الذم، وأجاز نصبه على الحال، والعامل يعوقون. وقال الطبري: حال من {هلم إلينا} . وقال الزجاج: حال من {ولا يأتون} ؛ وقيل: حال من {المعوقين} ؛ وقيل: من {القائلين} ، ورد القولان بأن فيهما تفريقاً بين الموصول وما هو من تمام صلته. وقرأ ابن أبي عبلة: أشحة، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي هم أشحة. و {تدور} : في موضع الحال، أي دائرة أعينهم. {كالذي} : في موضع الصفة لمصدر محذوف، وهو مصدر مشبه، أي دوراناً كدوران عين الذي يغشى عليه. فبعد الكاف محذوفان وهما: دوران وعين، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمصدر من {ينظرون إليك} ، نظراً كنظر الذي يغشى عليه. وقرأ ابن أبي عبلة: أشحة بالرفع، أي هم أشحة؛ والجمهور: بالنصب على الحال من {سلقوكم} ، وعلى الخبر يدل على عموم الشح في قوله أولاً: {أشحة عليكم} . و {أسوة} : اسم كان، و {لكم} : الخبر، ويتعلق {في رسول الله} بما يتعلق به {لكم} ، أو يكون في موضع الحال، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتاً لأسوة، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور، ويجوز أن يكون {في رسول الله} الخبر، ولكم تبيين، أي لكم، أعني: {لمن كان يرجو الله} . قال الزمخشري: بدل من لكم، كقوله: {للذين استضعفوا لمن آمن منهم} . انتهى. ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر: بكم قريش كفينا كل معضلةوأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً

وتقول: صدقت زيداً الحديث، وصدقت زيداً في الحديث. وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر، وأصله ذلك، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه، ومنه قولهم في المثل: صدقني سن بكره، أي في سن بكره. فما عاهدوا، إما أن يكون على إسقاط الحرف، أي فيما عاهدوا، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: صدقوا الله، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد، كما تقول: صدقني أخوك إذا قال لك الصدق، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب. واللام في ليجزي {الأٌّحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا} ، قيل: لام الصيرورة؛ وقيل: لام التعليل، ويتعلق بقوله: {وما بدلوا تبديلاً} . {بغيظهم} : فهو حال، والباء للمصاحبة؛ و {لم ينالوا} : حال ثانية، أو من الضمير في بغيظهم، فيكون حالاً متداخلة. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى، أو استئنافاً. انتهى. ولا يظهر كونها بياناً للأولى، ولا للاستئناف، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها. وقراءة حميد الخراز: {أمتعكن وأسرحكن} ، بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور: بالجزم على جواب الأمر، أو على جواب الشرط، ويكون {فتعالين} جملة اعتراض بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض، ومثل ذلك قول الشاعر: واعلم فعلم المرء ينفعهإن سوف يأتي كل ما قدرا

وقرأ الجمهور: ومن يقنت بالمذكر، حملاً على لفظ من، وتعمل بالتاء حملاً على المعنى. {نؤتها} : بنون العظمة. وقرأ الجحدري، والأسواري، ويعقوب، في رواية: ومن تقنت بتاء التأنيث، حملاً على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقال ابن خالويه: ما سمعت أن أحداً قرأ: ومن يقنت، إلا بالتاء. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بياء من تحت في ثلاثتها. وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ: ومن يقنت بالياء، حملاً على المعنى، ويعمل بالياء حملاً على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعاً للتأنيث، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى: {خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} . انتهى. وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. أما قوله: أحد في الأصل بمعنى: وحد، وهو الواحد فصحيح. وأما قوله: ثم وضع، إلى قوله: وما وراءه، فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحداً، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل. وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادة ومدلولاً.

وأما قوله: لستن {رِزْقاً كَرِيماً * ينِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى} كجماعة واحدة، فقد قلنا: إن قوله {لستن} معناه: ليست كل واحدة منكن، فهو حكم على كل واحدة واحدة، ليس حكماً على المجموع من حيث هو مجموع. وقلنا: إن معنى كأحد: كشخص واحد، فأبقينا أحداً على موضوعه من التذكير، ولم نتأوله بجماعة واحدة. وأما {ولم يفرقوا بين أحد منهم} ، فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام، ولذلك جاء في سياق النفي، فعم وصلحت البينية للعموم. واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر: فما كان بين الخير لوجا سالماًأبو حجر ألا ليال قلائل أي: لستن مثلهن إن اتقيتن الله، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن. وقال الزمخشري: {إن اتقيتن} : إن أردتن التقوى، وإن كن متقيات. {فلا تخضعن بالقول} : فلا تجبن بقولكنّ خاضعاً، أي ليناً خنثاً، مثل كلام المريبات والمومسات. {فيطمع الذي في قلبه مرض} : أي ريبة وفجورا. انتهى. فعلى القول الأول يكون {إن اتقيتن} قيداً في كونهن لسن كأحد من النساء، ويكون جواب الشرط محذوفاً. وعلى ما قاله الزمخشري، يكون {إن تقيتن} ابتداء شرط، وجوابه {فلا تخضعن} ، وكلا القولين فيهما حمل. وقرأ الجمهور: {فيطمع} ، بفتح الميم ونصب العين، جواباً للنهي؛ والذي مفعول، أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أي فيطمع نفسه. {وقرن} : أمر من قار، كما تقول: خفن من خاف؛ أو من القرار، تقول: قررت بالمكان، وأصله: واقررت، حذفت الراء الثانية تخفيفاً، كما حذفوا لام ظللت، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل. وقال أبو علي: أبدلت الراء ونقلت حركتها إلى القاف، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها. انتهى.

وانتصب أهل على النداء، أو على المدح، أو على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه. بل الله نرجو الفضل وأكثر ما يكون في المتكلم، وقوله: نحن بنات طارقنمشي على النمارق وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدّم، والتقدير: والحافظاتها والذاكراته. والخيرة {عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً * إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ وَالْقَنِتِينَ وَالْقَنِتَتِ وَالصَّدِقِينَ وَالصَّدِقَتِ وَالصَّبِرِينَ وَالصَّبِرَتِ وَالْخَشِعِينَ وَالْخَشِعَتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَتِ والصَّئِمِينَ والصَّئِمَتِ وَالْحَفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَفِظَتِ} : مصدر من تخير على غير قياس، كالطيرة من تطير. وقرىء: بسكون الياء، ذكره عيسى بن سليمان. وقرأ الحرميان، والعربيان، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، وعيسى: أن تكون، بتاء التأنيث؛ والكوفيون، والحسن، والأعمش، والسلمي: بالياء. ولما كان قوله: {لمؤمن ولا مؤمنة} ، يعم في سياق النفي، جاء الضمير مجموعاً على المعنى في قوله: {لهم} ، مغلباً فيه المذكر على المؤنث. وقال الزمخشري: كان من حق الضمير أن يوحد، كما تقول: ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا. انتهى. ليس كما ذكر، لأن هذا عطف بالواو، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف، أي: ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا، وتقول: ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضرباً خالداً، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف، كما قلنا. وقوله: {أمسك عليك} فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهماً لشخص واحد، فهو كقوله: هوّن عليك ودع عنك نهياً صيح في حجراته

وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان، ولا يجوز أن يكونا حرفين، لامتناع فكر فيك، وأعني بك، بل هذا مما يكون فيه النفس، أي فكر في نفسك، وأعني بنفسك، وقد تكلمنا على هذا في قوله: {وهزي إليك} ، {واضم إليك جناحك} . وقال الحوفي: {وتخفي في نفسك} : مستأنف، {وتخشى} : معطوف على وتخفي. وقال الزمخشري: واو الحال، أي تقول لزيد: {أمسك عليك زوجك} ، مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشياً قاله الناس، أو واو العطف، كأنه قيل: وأن تجمع بين قولك: {أمسك} ، وإخفاء قالة، وخشية الناس. انتهى. ولا يكون {وتخفي} حالاً على إضمار مبتدأ، أي وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصك عينه. {والله أحق أن تخشاه} : تقدّم إعراب نظيره في التوبة. وانتصب سنة الله {اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ} على أنه اسم موضوع موضع المصدر، قاله الزمخشري؛ أعلى المصدر؛ أو على إضمار فعل تقديره: ألزم أو نحوه، أو على الإغراء، كأنه قال: فعليه سنة الله. قال ابن عطية: وقوله: أو على الإغراء، ليس بجيد، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضاً فتقديره: فعليه سنة الله بضمير الغيبة، ولا يجوز ذلك في الإغراء، إذ لا يغرى غائب. وما جاء من قولهم: عليه رجلاً، ليسنى له تأويل، وهو مع ذلك نادر. و {الذين} : صفة للذين خلوا، أو مرفوع، أو منصوب على إضمارهم، أو على أمدح. وقرأ الجمهور؛ {ولكن رسول} ، بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان، لدلالة كان المتقدّمة عليه؛ قىل: أو على العطف على {أبا أحد} . وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو: بالتشديد والنصب على أنه خبر لكن، والخبر محذوف تقديره: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} هو، أي محمد صلى الله عليه وسلّم وحذف خبر لكن واخواتها جائز إذا دل عليه الدليل. ومما جاء في ذلك قول الشاعر:

فلو كنت ضبياً عرفت قرابتيولكنّ زنجياً عظيم المشافر أي: أنت لا تعرف قرابتي. وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة: بالتخفيف، ورفع ورسوله وخاتم، أي ولكن هو رسول الله، كما قال الشاعر: ولست الشاعر السقاف فيهمولكن مدرة الحرب العوال و {بكرة وأصيلاً} : يقتضيهما اذكروا وسبحوا، والنصب بالثاني على طريق الإعمال. {وملائكته} : معطوف على الضمير المرفوع المستكن في {يصلي} ، فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد. والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول، إلا في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا، لا على جهة العمل، لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلاً مفعولاً، وانتصب شاهداً {بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} على أنه حال مقدّرة، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهداً عليهم، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة وعند أدائها، أو لأنه أقرب زمان البعثة. وقال الزجاج: هو معطوف على {شاهداً} ، أي وذا سراج منير، أي كتاب نير. وقال الفراء: إن شئت كان نصباً على معنى: وتالياً سراجاً منيراً. وقال الزمخشري؛ ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف {أرسلناك} . انتهى. ولا يتضح هذا الذي قاله، إذ يصير المعنى: أرسلنا ذا سراج منير، وهو القرآن. ولا يوصف بالإرسال القرآن، إنما يوصف بالإنزال. وكذلك أيضاً إذا كان التقدير: وتالياً، يصير المعنى: أرسلنا تالياً سراجاً منيراً، ففيه عطف الصفة التي للذات على الذات، كقولك: رأيت زيداً والعالم. إذا كان العالم صفة لزيد، والعطف مشعر بالتغاير، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة.

{ودع أذاهم} : الظاهر إضافته إلى المفعول. لما نهى عن طاعتهم، أمر بتركه إذا يتهم وعقوبتهم، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف. {وتوكل على الله} ، فإنه ينصرك ويخذلهم. ويجوز أن يكون مصدراً مضافاً للفاعل، أي ودع إذايتهم إياك، أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر، وهذا تأويل مجاهد. فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. انتهى. وإذا كان يتعدى بعلى، فيجوز أن لا يحذف على، ويصل الفعل إلى الضمير، نحو قوله: تحن فتبدى ما بها من صبابةوأخفى الذي لولا الأسى لقضاني أي: لقضى علي. وقال الزمخشري: وقريء: تعتدونها مخففاً، أي تعتدون فيها، كقوله: ويوماً شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله: ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا. انتهى. ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة، كقوله: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً أي: شهدنا فيه. وأما على تقدير على، فالمعنى: تعتدون عليهنّ فيها. وقرأ الجمهور: وامرأة {أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ} ، بالنصب؛ {إن وهبت} ، بكسر الهمزة: أي أحللنا لك. {إن وهبت} ، {إن أراد} ، فهنا شرطان، والثاني في معنى الحال، شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، إن كان الله يريد أن يغويكم} .

وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب، نحو: إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر. واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل، وقد استوفينا ذلك في (شرح التسهيل) ، في باب الجوازم. وقرأ أبو حيوة: وامرأة مؤمنة، بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف: أي أحللناها لك. وقرأ أبي، والحسن، والشعبي، وعيسى، وسلام: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم في امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسهما دون واحدة بعينها. وقرأ زيد بن علي: اذ وهبت، إذ ظرف لما مضى، فهو في امرأة بعينها. وقرأ الجمهور: {خالصة} ، بالنصب، وهو مصدر مؤكد، {كوعد الله} ، و {صبغة الله} ، أي أخلص لك إخلاصاً. {أحللنا لك} ، {خالصة} بمعنى خلوصاً، ويجىء المصدر على فاعل وعلى فاعلة. وقال الزمخشري: والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة. انتهى، وليس كما ذكر، بل هما عزيزان، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الفرزدق: ولا خارج من في زور كلام والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله: أقاعداً وقد سار الركب والكاذبة إلى قوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} . وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر. وقرىء: خالصة، بالرفع، فمن جعله مصدراً، قدره ذلك خلوص لك، وخلوص من دون المؤمنين. والظاهر أن قوله: {خالصة لك} من صفة الواهبة نفسها لك، فقراءة النصب على الحال، قاله الزجاج: أي أحللناها خالصة لك، والرفع خبر مبتدأ: أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهنّ مختص بك، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك. {من دون المؤمنين} ، وهي جملة اعتراضية. وقرأ الجمهور: {كلهن} بالرفع، تأكيداً النون {يرضين} ؛ وأبو إياس حوبة بن عائد: بالنصب تأكيداً لضمير النصب في {آتيتهن} .

والجملة، قال الزمخشري، في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في تبدل {مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ} ، لا من المفعول الذي هو {من أزواج} ، لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضاً إعجابك لهن؛ وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة، أي {ولا أن تبدل بهن من أزواج} على كل حال، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل، وهي حالة الإعجاب بالحسن. {إلا ما ملكت يمينك} : أي فإنه يحل لك. وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس، فهو استثناء من الجنس، يختار فيه الرفع على البدل من النساء. ويجوز النصب على الاستثناء، وإن كانت مصدرية، ففي موضع نصب، لأنه استثناء من غير جنس الأول، قاله ابن عطية، وليس بجيد، لأنه قال: والتقدير: إلا، ملك اليمين، وملك بمعنى: مملوك، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر، فيكون الرفع هو أرجح، ولأنه قال: وهو في موضع نصب، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب. ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل، لأنه مستثنى، يمكن توجه العامل عليه، وإنما يكون النصب متحتماً حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو: ما زاد المال إلا النقص، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص، ولأنه قال: استثناء من غير الجنس. وقال مالك: بمعنى مملوك فناقض.

و {إلا أن يؤذن} ، قال الزمخشري: {إلا أن يؤذن} في معنى الظرف تقديره: وقت أن يؤذن لكم، و {غير ناظرين} : حال من {لا تدخلوا} ، أوقع الاستثناء على الوقت والحال معاً، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه. انتهى. فقوله: {إلا أن يؤذن} في معنى الظرف وتقديره: وقت أن يؤذن لكم، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح، وقد نصوا على أن أنْ المصدرية لا تكون في معنى الظرف. تقول: أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج، ولا يجوز: أجىئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج. وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معاً، فلا يجوز على مذهب الجمهور، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى، أو المستثنى منه، أو صفة المستثنى منه: وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، أجازا: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا، فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال. وأما قوله: {إلا أن يؤذن لكم} ، فلا يتعين أن يكون ظرفاً، لأنه يكون التقدير: إلا بأن يؤذن لكم، فتكون الباء للسببية، كقوله: {فأخرجنا به من كل الثمرات} ، أو للحال، أي مصحوبين بالإذن. وأما {غير ناظرين} ، كما قرر في قوله: {بالبينات والزبر} . أرسلناهم بالبينات والزبر، دل علىه {لا تدخلوا} ، كما دل عليه أرسلناهم قوله: {وما أرسلنا} . ومعنى {غير ناظرين} فحال، والعامل فيه محذوف تقديره: ادخلوا بالإذن غير ناظرين. كما قرر في قوله: {بالبينات والزبر} ، أي غير منتظرين وقته، أي وقت استوائه وتهيئته. وقرأ الجمهور: {غير} بالنصب على الحال؛ وابن أبي عبلة: بالكسر، صفة لطعام. قال الزمخشري: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير من هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز من إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقوله: هند زيد ضاربته هي. انتهى. وحذف هذا الضمير جائزو عند الكوفيين إذا لم يلبس وأنى الطعام إدراكه، يقال: أني الطعام أنى، كقوله: قلاه قلى، وقيل: وقته، أي غير ناظرين ساعة

أكله. {ولا مستأنسين لحديث} : معطوف على {ناظرين} ، فهو مجرور أو معطوف على {غير} ، فهو منصوب، أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين. وقيل: ثم حال محذوفة، أي لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين، فيعطف عليه. واللام في {لحديث} إما لام العلة، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه، به أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت. وقرأت فرقة: فيستحيي بكسر الحاء، مضارع استحا، وهي لغة بني تميم. واختلفوا ما المحذوف، أعين الكلمة أم لامها؟ فإن كان العين فوزنها يستفل، وإن كان اللام فوزنها يستفع، والترجيح مذكور في النحو. وقرأ الجمهور: وملائكته {يُؤْذِى النَّبِىِّ} نصباً؛ وابن عباس، وعبد الوارث عن أبي عمرو: رفعاً. فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على موضع اسم إن، والفراء يشترط خفاء إعراب اسم إن. وعند البصريين هو على حذف الخبر، أي يصلي على النبي، وملائكته يصلون. ومن في: {من جلابيبهن} للتبعيض. و {ثم لا يجاورونك} معطوف على {لنغرينك} ، ولم يكن العطف بالفاء، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء، بل كونه جواباً للقسم أبلغ. وكان العطف بثم، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا، به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء. {إلا قليلاً} : أي جواراً قليلاً، أو زماناً قليلاً، أو عدداً قليلاً، وهذا الأخير استثناء من المنطوق، وهو ضمير الرفع في {يجاورونك} ، أو ينتصب قليلاً على الحال، أي إلا قليلين، والأول استثناء من المصدر الدال عليه {يجاورونك} ، والثاني من الزمان الدال عليه {يجاورونك} .

وانتصب {ملعونين} على الذم، قاله الطبري؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من {قليلاً} ، قال: هو من إقلاء الذي قدرناه؛ وأجاز هو أيضاً أن يكون حالاً من الضمير في {يجاورونك} ، قال: كأنه قال: ينتفون من المدينة معلونين، فلا يقدر {لا يجاورونك} ، فقدر ينتفون حسن هذا. انتهى. وقال الزمخشري، والحوفي، وتبعهما أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من الضمير في {لا يجاورونك} ، كما قال ابن عطية. قال الزمخشري: وهذا نصه معلونين، نصب على الشتم أو الحال، أي لا يجاورونك، إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً، كما مر في قول: {إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} ، ولا يصح أن ينتصب من أخذ، والأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. انتهى. وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا، فيكون الاستثناء منصباً عليهما، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك. وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلاً، فالبدل بالمشتق قليل. وأما قول الزمخشري: لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها، فليس هذا مجمعاً عليه، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان: فعل الشرط والجواب. فأما فعل الشرط، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة، أجاز زيد أن يضرب اضربه، وأما الجواب فقد أجاز أيضاً تقديم معموله عليه نحو: إن يقم زيد عمراً يضرب. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: المعنى: {أينما ثقفوا} : أخذوا ملعونين، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل، أي إلا قليلين ملعونين، ويكون قليلاً مستثنى من الواو في لا يجاورونك، والجملة الشرطية صفة أيضاً، أي مقهورين مغلوباً عليهم. {سنة الله} : مصدر مؤكد، {وما يدريك} : ما استفهام في موضع رفع بالابتداء، أي: وأي شيء يدريك بها؟ ومعناه النفي، أي ما يدريك بها أحد. {لعل الساعة تكون قريباً} : بين قرب الساعة، وفي ذلك تسلية للممتحن، وتهديد للمستعجل. وانتصب قريباً على الظرف، أي في زمان قريب، إذ استعماله ظرفاً

سورة سبأ

كثير، ويستعمل أيضاً غير ظرف، تقول: إن قريباً منك زيد، فجاز أن يكون التقدير شيئاً قريباً، أو تكون الساعة بمعنى الوقت، فذكر قريباً على المعنى. أو يكون التقدير: لعل قيام الساعة، فلوحظ الساعة في تكون فأنث، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريباً فذكر. {يوم تقلب وجوههم في النار} : يجوز أن ينتصب يوم بقوله: {لا يجدون} ، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم، أو تم الكلام عند قولهم: {ولا نصيراً} . وينتصب يوم بقوله: {يقولون} ، أو بمحذوف، أي اذكر ويقولون حال. {مما قالوا} : أي من وصم ما قالوا، وما موصولة أو مصدرية. وقرأ الجمهور: {وكان عند الله} : الظرف معمول لوجيهاً، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى، تميط عنه الأذى وتدفع التهم. وقرأ عبد الله، والأعمش، وأبو حيوة: عبد من العبودية، لله جر بلام الجر، وعبداً خبر كان، ووجيهاً صفة له. واللام في {ليعذب} لام الصيرورة، لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك، ويتوب على من آمن. وقال الزمخشري: لام التعليل على طريق المجاز، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. سورة سبأ أربعة وخمسون آية مكية العرم: إما صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته كقولهم: مسجد الجامع، وإما اسم لشيء، ويأتي القول فيه في تفسير المركبات.

وبلى جواب للنفي السابق من قولهم لا تأتينا الساعة أي بلى لتأتينكم. وقرأ الجمهور: {لتأتينكم} بتاء التأنيث، أي الساعة التي أنكرتم مجيئها. وقرأ طلق عن أشياخه بياء الغيبة، أي ليتأتينكم البعث، لأنه مقصودهم من نفي الساعة أنهم لا يبعثون. وقال الزمخشري: أو على معنى الساعة، أي اليوم، أو على إسناده إلى الله على معنى ليتأتينكم أمر عالم الغيب كقوله: {أو يأتي ربك} ، أي أمره. ويبعد أن يكون ضمير الساعة، لأنه مذهوب به مذهب التذكير، لا يكون إلا في الشعر، نحو قوله: ولا أرض أبقل أبقالها ثم أكد الجواب بالقسم على البعث، واتبع القسم بقوله: {عالم الغيب} وما بعده، ليعلم أن إنباتها من الغيب الذي تفرد به تعالى. وجاء القسم بقوله: {وربي} مضافاً إلى الرسول، ليدل على شدّة القسم، إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله. وقرأ نافع، وابن عامر، ورويس، وسلام، والجحدري، وقعنب: {عالم} بالرفع على إضمار هو؛ وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ، والخبر لا {يعزب} . وقال الحوفي: أو خبره محذوف، أي عالم الغيب هو، وباقي السبعة: عالم بالجر. قال ابن عطية، وأبو البقاء: وذلك على البدل. وأجاز أبو البقاء أن تكون صفة، ويعني أن عالم الغيب يجوز أن يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك يجوز أن يتعرف بالاضافة، إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة. ذكر ذلك سيبويه في كتابة، وقل من يعرفه. وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي: علام على المبالغة والخفض، وتقدّمت قراءة يعزب في يونس.

وقرأ الجمهور: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} ، برفع الراءين، واحتمل أن يكون معطوفاً على {مثقال} ، وأن يكون مبتدأ، والخبر في قوله: {إلا في كتاب} . وعلى الاحتمال الأول، يكون {إلا في كتاب مبين} توكيداً لما تضمن النفي في قوله: {لا يعزب} ، وتقديره: لكنه في كتاب مبين، وهو كناية عن ضبط الشىء والتحفظ به، فكأنه في كتاب، وليس ثم كتاب حقيقة. وعلى التخريج الأول، يكون الكتاب هو اللوح المحفوظ. وقرأ الأعمش، وقتادة: بفتح الراءين. قال ابن عطية: عطفاً على {ذرة} . ورويت عن أبي عمرو، وعزاها أيضاً إلى نافع، ولا يتعين ما قال، بل تكون لا لنفي الجنس، وهو مبتدأ، أعني مجموع لا وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر {إلا في كتاب مبين} ، وهو من عطف الجمل، لا من عطف المفردات، كما قال ابن عطية. وقال الزمخشري: جواباً لسؤال من قال: هل جاز عطف {ولا أصغر} على {مثقال} ، وعطف {ولا أصغر} على {ذرة} ؟ قلت: يأبى ذلك حرف الاستثناء، إلا إذا جعلت الضمير في عنه للغيب، وجعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح، لأن إثباتها في اللوح نوع من البروز عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يزول عنه إلا مسطوراً في اللوح. انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التأويل إذا جعلنا الكتاب المبين ليس اللوح المحفوظ. وقرأ زيد بن على: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، بخفض الراءين بالكسرة، كأنه نوى مضافاً إليه محذوفاً، التقدير: ولا أصغر ولا أكبره، ومن ذلك ليس متعلقاً بأفعل، بل هو بتبين، لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظاً فبينه بقوله: {من ذلك} ، أي عنى من ذلك، وقد جاءت من كون أفعل التفضيل مضافاً في قول الشاعر:

تحن نفوس الورى وأعلمنابنا يركض الجياد في السدفوخرج على أنه أراد علم بنا، فأضاف ناوياً طرح المضاف إليه، فاحتملت قراءة زيد هذا التوجيه الآخر: أنه لما أضاف أصغر وأكبر على إعرابهما حالة الإضافة، وهذا كله توجيه شذوذ، وناسب وصفه تعالى بعالم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، فاندرج في ذلك وقت قيام الساعة، وصار ذلك دليلاً على صحة ما أقسم عليه، لأن من كان عالماً بجميع الأشياء كلها وجزئها، وكانت قدرته ثابتة، كان قادراً على إعادة ما فنى من جميع الأرواح والأشباح. والظاهر أن قوله: {ليجزي} متعلق بقوله: {لا يعزب} ، وقيل: بقوله {لتأتينكم} ، وقيل: بالعامل {في كتاب مبين} : أي إلا مستقراً في كتاب مبين ليجزي. وقرأ ابن كثير وحفص وابن أبي عبلة: {أليم} هنا، وفي الجاثية بالرفع صفة للعذاب، وباقي السبعة بالجر صفة للرجز، والرجز: العذاب السيء. والظاهر أن قوله: {والذين سعوا} مبتدأ، والخبر في الجملة الثانية، وهي {أولئك} . وقيل: هو منصوب عطفاً على {الذين آمنوا} ، أي وليجزي الذين سعوا. واحتمل أن تكون الجملتان المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب، واحتمل أن تكونا مستأنفتين، والثواب والعقاب ما تضمنتا مما هو أعظم، كرضا الله عن المؤمن دائماً، وسخطه على الفاسق دائماً. قال العتبي: والظاهر أن قوله: {ويرى} استئناف إخبار عمن أوتي العلم، يعلمون القرآن المنزل عليك هو الحق. وقيل: ويرى منصوب عطفاً على ليجزي، وقاله الطبري والثعلبي.

وقرأ الجمهور: الحق بالنصب، مفعولاً ثانياً ليرى، وهو فصل؛ وابن أبي عبلة: بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى، وهو لغة تميم، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، قاله أبو عمر الجرمي. والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل، وهو القرآن، وهو استئناف إخبار. وقيل: هو في موضع الحال على إضمار، وهو يهدي، ويجوز أن يكون معطوفاً على الحق، عطف الفعل على الاسم، كقوله: {صافات ويقبضن} ، أي قابضات، كما عطف الاسم على الفعل في قوله: فألفيته يوماً يبير عدوهوبحر عطاء يستحق المعابرا عطف وبحر على يبير، وقيل: الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله، وفيه بعد. وإذا جوابها محذوف تقديره: تبعثون، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وهو العامل إذا، على قول الجمهور. وقال الزجاج ذلك، وقال أيضاً هو والنحاس: العامل مزقتم {عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ} . قال ابن عطية: هو خطأ وإفساد للمعنى. وليس بخطأ ولا إفساد للمعنى، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها، وقد بينا ما كتبناه في (شرح التسهيل) أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط، كسائر أدوات الشرط. والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم، لأنه في معنى يقول لكم: {إذا مزقتم كل ممزق} ، ثم أكد ذلك بقوله: {إنكم لفي خلق جديد. ويحتمل أن يكون: إنكم لفي خلق جديد} معمولاً لينبئكم، ينبئكم متعلق، ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة، فالجملة سدت مسد المفعولين. والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم، والصحيح جوازه. قال الشاعر: حذار فقد نبئت أنك للذيستنجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة، كقوله:

ألم تعلم مسرحي القوافيفلا عيابهن ولا اجتلابا أي: تسريحي القوافي. وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون الطير والسباع، وما ذهبت به السيول كل مذهب، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح. انتهى. و {جديد} ، عند البصريين، بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جاد وجديد، وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه. وقال الزمخشري: أعموا فلم ينظروا، جعل بين الفاء والهمزة فعلاً يصح العطف عليه، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام، وأن التقدير فالم، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في (شرح التسهيل) . وقفهم تعالى على قدرته الباهرة، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم، وكان ثم حال محذوفة، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد؟ يا جبال {وَالضَّلَلِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ} : هو إضمار القول، إما مصدر، أي قولنا {يا جبال} ، فيكون بدلاً من {فضلاً} ، وأما فعلاً، أي قلنا، فيكون بدلاً من {آتينا} ، وإما على الاستئناف، أي قلنا. وأن في {أن اعمل} مصدرية، وهي على إسقاط حرف الجر، أي ألناه لعمل {سابغات} . وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة، ولا يصح، لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول، وأن ليس فيه معنى القول. وقدر بعضهم قبلها فعلاً محذوفاً حتى يصح أن تكون مفسرة، وتقديره: وأمرناه أن اعمل، أي اعمل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف.

وقرأ الجمهور: الريح بالنصب، أي ولسليمان سخرنا الريح؛ وأبو بكر: بالرفع على الابتداء، والخبر في المجرور، ويكون الريح على حذف مضاف، أي تسخير الريح، أو على إضمار الخبر، أي الريح مسخرة. والغدو ليس الشهر هو على حذف مضاف، أي جزى غدوها، أي جريها في الغد ومسيرة شهر، وجرى رواحها، أي جريها في الرواح مسيرة شهر. وأخبر هنا في الغد وعن الرواح بالزمان وهو شهر، ويعني شهراً واحداً كاملاً، ونصب شهر جائز، ولكنه لم يقرأ به فيما أعلم. وقرأ ابن أبي عبلة: غدوتها وروحتها على وزن فعلة، وهي المرة الواحدة من غدا وراح. ويحتمل من يعمل {تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أن يكون في موضع نصب، أي وسخرنا من الجن من يعمل، وأن يكون في موضع رفع على الابتداء، وخبره في الجار والمجرور قبله {بإذن ربه} لقوله: {ومن يزغ منهم عن أمرنا} . {إعلموا آل داود} . وقيل: مفعول اعلموا محذوف، أي اعلموا الطاعات وواظبوا عليها شكراً لربكم على ما أنعم به عليكم، فقيل: انتصب شكراً على الحال، وقيل: مفعول من أجله، وقيل: مفعول له باعملوا، أي اعلموا اعملاً هو الشكر، كالصلاة والصيام والعبادات كلها في أنفسها هي الشكر إذا سدت مسدة، وقيل: على المصدر لتضمينه اعلموا اشكروا بالعمل لله شكراً. و {الشكور} : صيغة مبالغة، وأريد به الجنس. وجواب لما النفي الموجب، وهذا يدل على أن لما حرف لا ظرف، خلافاً لمن زعم ذلك، لأنه لو كان ظرفاً لكان الجواب هو العامل وما دخلت عليه، وهي نافية، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها، وقد مضى لنا نظير هذا في يوسف في قوله: ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء {عِبَادِىَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأٌّرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن} .

وقالت فرقة، منها أبو حاتم: الأرض هنا مصدر أرضت الأبواب، والخشب أكلتها الأرضة فكأنه قال: دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة. وإذا كان الأرض مصدراً، كان فعله أرضت الدابة الخشب تأرضه أرضاً فأرض بكسر الراء نحو: جدعت أنفه فجدع. ويقال: إنه مصدر لفعل مفتوح العين، قراءة ابن عباس. والعباس بن الفضل: الأرض بفتح الراء، لأن مصدر فعل المطاوع لفعل يكون على فعل نحو: جدع أنفه جدعاً وأكلت الأسنان أكلاً، مطاوع أكلت. وقيل: الأرض بفتح الراء جمع أرضه، وهو إضافة العام إلى الخاص، لأن الدابة أعم من الأرض. وقراءة الجمهور: بسكون الراء، فالمتبادر أنها الأرض المعروفة، وتقدم أنها مصدر لأرضت الدابة الخشب. وتأكل: حال، أي أكلت منسأته، وهي حال مصاحبة. وقرأ ابن ذكوان وجماعة، منهم بكار والوليدان بن عتبة وابن مسلم: منسأته، بهمزة ساكنة، وهو من تسكين التحريك تخفيفاً، وليس بقياس. وضعف النحاة هذه القراءة، لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل التأنيث ساكناً غير الفاء. وقيل: قياسها التخفيف بين بين، والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهداً على سكون هذه القراءة قول الراجز: صريع خمر قام من وكأتهكقومة الشيخ إلى منسأته ويجىء تبين بمعنى بإن وظهر لازماً، وبمعنى علم متعدياً موجود في كلام العرب. قال الشاعر: تبين لي أن القماءة ذلةوأن أعزاء الرجال طيالها وقال آخر:

أفاطم إني ميت فتبينيولا تجزعي على الأنام بموتأي: فتبيني ذلك، أي اعلمية. وقال ابن عطية: ذهب سيبويه إلى أن أن لا موضع لها من الإعراب، إنما هي موزونة، نحو: إن ما ينزل القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم. فما لبثوا: جواب القسم، لا جواب لو. وعلى الأقوال، الأول جواب لو. وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ: تبينت الجن {مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأٌّرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ} ، بنصب الجن، أي تبينت الإنس الجن. وقرأ الجمهور: في مساكنهم {الْعَذَابِ الْمُهِينِ * لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} ، جمعاً؛ والنخعي، وحمزة، وحفص: مفرداً بفتح الكاف؛ والكسائي: مفرداً بكسرها، وهي قراءة الأعمش وعلقمة. وقال أبو الحسن: كسر الكاف لغة فاشية، وهي لغة الناس اليوم؛ والفتح لغة الحجاز، وهي اليوم قليلة. وقال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، فمن قرأ الجمع فظاهر، لأن كل أحد له مسكن، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر، أي في سكناهم، حتى لا يكون مفرداً يراد به الجمع، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو: كلوا في بعض بطنكم تعفوا، يريد بطونكم. وقوله: قد عض أعناقهم جلد الجواميس أي جلود.

و {جنتان} : خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنتان، قاله الزجاج، أو بدل، قال معناه الفراء، قال: رفع لأنه تفسير لآية. وقال مكي وغيره، وضعفه ابن عطية، ولم يذكر جهة تضعيفه. وقال: {جنتان} ابتداء، وخبره في قوله: {عن يمين وشمال} . انتهى. ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها، إلا إن اعتقد إن ثم صفة محذوفة، أي جنتان لهم، أو عظيمتان لهم {عن يمين وشمال} ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتاً مما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة: جنتين بالنصب، على أن آية اسم كان، وجنتين الخبر. وقرأ رويس: بنصب الأربعة. قال أحمد بن يحيى: اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا رباً غفوراً. وقال الزمخشري: منصوب على المدح. وقال ابن عباس أيضاً: العرم: الشديد، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته، والتقدير: السيل العرم، أو صفة لموصوف محذوف، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل، أو سيل الجرذ العرم، فالعرم صفة للجرذ. وقيل: العرم اسم للجرذ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل، والإضافة تكون بأدنى ملابسة. ودخلت الباء في بجنيتهم {وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَهُمْ بِجَنَّتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} على الزائل، وانتصب ما كان بدلاً، وهو قوله: {جنتين} على المعهود في لسان العرب، وإن كان كثيراً لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم: ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته، وهو خطأ في لسان العرب، ولو أبدل ظاء بضاد، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله: {ومن يتبدل الكفر بالايمان} .

وقرأ الجمهور: أكل منوناً، وأُلاكُل: الثمر المأكول، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف، أي أُكُل خمط قال أو وصف أُلاكُل بالخمط كأنه قيل ذواتي أُكُل شبع. انتهى. والوصف بالأسماء لا يطرد، وإن كان قد جاء منه شيء، نحو قولهم: مررت بقاع عرفج كله. وقال أبو علي: البدل في هذا لا يحسن، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه. انتهى. وهو جائز على ما قاله الزمخشري، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه. قال أبو علي: والصفة أيضاً كذلك، يريد لا بجنتين، لأن الخمط اسم لا صفة، وأحسن ما فيه عطف البيان، كأنه بين أن أُلاكُل هذه الشجرة ومنها. انتهى. وهذا لا يجوز على مذهب البصريين، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة، وما قبله معرفة، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا الكوفيون، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة. وقرأ أبو عمرو: أُكُل خمط بالإشافة: أي ثمر خمط. وقرىء: وأثلاً وشيئاً بالنصب، حكاه الفضل بن إبراهيم، عطفاً على جنتين. وقليل صفة لسدر. ربنا باعد بين أسفارنا {بِجَنَّتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن} . وقرأ جمهور السبعة: ربنا بالنصب على النداء، باعد: طلب.

وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين، وابن الحنفية أيضاً، وسفيان بن حسين، وابن السميفع: ربنا بالنصب، بعد بضم العين فعلاً ماضياً بين بالنصب، إلا سعيداً منهم، فضم نون بين جعله فاعلاً، ومن نصب، فالفاعل ضمير يعود على السير، أي أبعد السير بين أسفارنا، فمن نصب ربنا جعله نداء، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشراً منهم وبطراً وإن جاء بعد فعلاً ماضياً كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضياً، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار. ومن قرأ باعد، أو بعد بالألف والتشديد، فبين مفعول، به لأنهما فعلان متعديان، وليس بين ظرفاً. ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسماً؟ {فكذلك} إذا نصب وقرىء بعد مبنياً للمفعول. {وظلموا أنفسهم} : عطف على {فقالوا} . وقال الكلبي: هو حال، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل. وقرأ ابن عباس، وقتادة، وطلحة، والأعمش، وزيد بن علي، والكوفيون: صدّق {صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} بتشديد الدال، وانتصب {ظنه} على أنه مفعول بصدق. وقرأ باقي السبعة: بالتخفيف، فانتصب ظنه على المصدر، أي يظن ظناً، أو على إسقاط الحرف، أي في ظنه، أو على المفعول به نحو قولهم: أخطأت ظني، وأصبت ظني، وظنه هذا كان حين قال: {لأضلنهم} ، {ولأغوينهم} ، وهذا مما قاله ظناً منه، فصدق هذا الظن. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: إبليس ظنه، برفعهما، فظنه بدل من إبليس بدل اشتمال. ومن لبيان الجنس، ولا يمكن أن تكون للتبعيض لاقتضاء ذلك، إن فريقاً من المؤمنين اتبعوا إبليس.

والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين، والثاني محذوف أيضاً لدلالة المعنى، ونابت صفته منابه، التقدير: الذي زعمتموهم آلهة من دونه؛ وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه، ولولا ذلك ما حسن، إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً خلاف، منع ذلك ابن ملكوت، وأجازه الجمهور، وهو مع ذلك قليل، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه، لأنه لا يستقل كلاماً. لو قلت: هم من دونه، لم يصح، ولا الجملة من قوله: لا يملكون مثقال ذرة {إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَنٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالأٌّخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفُيظٌ * قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} ، لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين بالحق قائلين.

و {إلا لمن أذن له} : استثناء مفرغ، فالمستثنى منه محذوف تقديره: ولا تنفع الشفاعة لأحد {إلا لمن أذن له} . واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعاً له، وهو الظاهر، فيكون قوله: {إلا لمن أذن له} ، أي المشفوع، أذن لأجله أن يشفع فيه؛ والشافع ليس بمذكور، وإنما دل عليه المعنى. واحتمل أن يكون شافعاً، فيكون قوله: {إلا لمن أذن له} بمعنى: إلا لشافع أذن له أن يشفع، والمشفوع ليس بمذكور، إنما دل عليه المعنى. وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في {أذن له} لام التبليغ، لا لام العلة. وقال الزمخشري: يقول: الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع، كما يقول: الكرم لزيد، وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} أن يكون على أحد هذين الوجهين، أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له، أو لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له، أي لشفيعه، أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أي لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف، وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. انتهى. فجعل إلا لمن أذن له استثناء مفرغاً من الأحوال، ولذلك قدره: إلا كائنة، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات. وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم، أي شفاعة جميع الخلق. وقيل: للعهد، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال أبو البقاء: اللام في لمن أذن له {مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} يجوز أن تتعلق بالشفاعة، لأنك تقول: أشفعت له، وأنت بتنفع. انتهى، وهذا فيه قلة، لأن المفعول متأخر، فدخول اللام عليه قليل.

و {حتى} : تدل على الغاية، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له. فقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل علىه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم، بل هم عبدة أو مسلمون أبداً، يعني منقادون، {حتى إذا فزع عن قلوبهم} . والجملة بعد من قوله: {قل ادعوا} اعتراضية بين المغيا والغاية. قال ابن زيد: أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار، فالمعنى: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به، {قالوا ماذا قال ربكم} . وقال الحسن: وإنما يقال للمشركين {ماذا قال ربكم} على لسان الأنبياء، فأقروا حين لا ينفع. وقيل: {حتى} غاية متعلقة بقوله: {زعمتم} ، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم: قال الحق. انتهى. وتلخص من هذا أن حتى غائيه إما لمنطوق وهو زعمتم، ويكون الضمير في {عن قلوبهم} التفاتاً، وهو للكفار، أو هو فاتبعوه، وفيه تناسق الضمائر لغائب. والفصل بالاعتراض والضمير أيضاً للكفار، والضمير في {قالوا} للملائكة، وضمير الخطاب في {ربكم} ، والغائب في {قالوا} الثانية للكفار. وأما لمحذوف، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها. وقرأ الحسن: {فزع} من الفزع، بتخفيف الزاي، مبنياً للمفعول، و {عن قلوبهم} في موضع رفع به، كقولك: انطلق يزيد.

ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال، أي أي شيء قال ربكم، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة، أي ما الذي قال ربكم، وذا خبره، ومعموله قال ضمير محذوف عائد على الموصول. وقرأ ابن أبي عبلة: قالوا الحق، برفع الحق، خبر مبتدأ، أي مقوله الحق، وخبر إنا أو إياكم {قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا} هو {لعلى هدى أو في ضلال مبين} ، ولا يحتاج إلى تقدير حذف، إذ المعنى: أن أحدنا لفي أحد هذين، كقولك: زيد أو عمر وفي القصر، أو في المسجد، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف، إذ معناه: أحد هذين في أحد هذين. وقيل: الخبر محذوف، فقيل: خبر لا وله، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه، أو إياكم، إذ هو على تقدير إنا، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير، وقيل: خبر الثاني، والتقدير: أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وحذف لدلالة خبر الأول عليه، وهو هذا المثبت {لعلى هدى أو في ضلال مبين} ، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها، نحو: زيد أو عمر وقائم، كان يحتاج إلى هذا التقدير، وإن مع ما يصلح أن يكون خبراً لأن اسمها عطف عليه بأو، والخبر معطوف بأو، فلا يحتاج إليه. وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو، فيكون من باب اللف والنشر، والتقدير: وإنا لعلى هدى، وإياكم في ضلال مبين، فأخبر عن كل بما ناسبه، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها. وجاء في الهدى بعلى، لأن صاحبه ذو استعلاء، وتمكن مما هو عليه، يتصرف حيث شاء. وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه.

{قل أروني الذين ألحقتهم به شركاء} : الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم، فيتعدى إلى ثلاثة: الضمير للمتكلم هو الأول، والذين الثاني، وشركاء الثالث، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل: هي رؤية بصر، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم، إذ تقديره: ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له. و {كافة} : اسم فاعل من كف، وقيل: مصدر كالعاقبة والعافية، فيكون على حذف مضاف، أي إلا ذا كافة، أي ذا كف للناس، أي منع لهم من الكفر، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك. وإذا كان اسم فاعل، فقال الزجاج وغيره: هو حال من الكاف في {رأسلناك} .

وقال الزمخشري: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال: ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بد من ارتكاب الخطأين. انتهى. أما كافة بمعنى عامة، فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً، ولم يتصرف فيها بغير ذلك، فجعلها صفة لمصدر محذوف، خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضاً استعماله صفة لموصوف محذوف. وأما قول الزجاج: إن كافة بمعنى جامعاً، والهاء فيه للمبالغة، فإن اللغة لا تساعد على ذلك، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع. وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالاً إلى آخره، فذلك مختلف فيه. ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز، وهو الصحيح. ومن أمثلة أبي علي زيد: خير ما يكون خير منك، التقدىر: زيد خير منك خير ما يكون، فجعل ما يكون حالاً من الكاف في منك، وقدمها عليه، قال الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئاًفمطلبها كهلاً عليه شديد وقال آخر: تسليت طراً عنكم بعد بينكمبذكركم حتى كأنكم عندي أي: تسليت عنكم طراً، أي جميعاً. وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قول الشاعر: مشغوفة بك قد شغفت وإنماحتم الفراق فما إليك سبيل وقال الآخر:

غافلاً تعرض المنية للمرء فيدعى ولات حين إباء أي: شغفت بك مشغوفة، وتعرض المنية للمرء غافلاً. وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل، فتقديمها عليه دون العامل أجوز، وعلى أن كافة حال من الناس، حمله ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وتقدير إلى الناس كافة. انتهى. وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ، إلى آخر كلامه، شنيع؟ لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى، لأن أرسل يتعدى بإلى ويتعدى باللام، كقوله: {وأرسلناك للناس رسولاً} . ولو تأول اللام بمعنى إلى، لم يكن ذلك خطأ، لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى، وإلى قد جاءت بمعنى اللام، وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور. وقال أبو عبيد: الوعد والوعيد والميعاد بمعىن. وقال الجمهور: الوعد في الخير، والوعيد في الشر، والميعاد يقع لهذا. والظاهر أن الميعاد اسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه. وقال الزمخشري: الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو ههنا الزمان، والدليل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. انتهى. ولا يتعين ما قال، إذ يكون بدلاً على تقدير محذوف، أي قل لكم ميعاد يوم، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.

وقرأ الجمهور: ميعاد يوم {كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ} بالإضافة. ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال: أما الإضافة فإضافته تبيين، كما تقول: سحق ثوب وبعير سانية. وقرأ ابن أبي عبلة، واليزيدي: ميعاد يوماً بتنوينهما. قال الزمخشري: وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد، أعني يوماً، وأريد يوماً من صفته، أعني كيت وكيت، ويجوز أن يكون انتصابه على حذف مضاف، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم. انتهى. لما جعل الميعاد ظرف زمان، خرج الرفع والنصب على ذلك، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت. وقرأ عيسى: ميعاد منوناً، ويوم بالنصب من غير تنوين مضافاً إلى الجملة، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم، واحتمل تخريجاً على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم كذا. {ولو ترى إذا الظالمون} : أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها، وترى في معنى رأيت لإعمالها في الظرف الماضي، ومفعول ترى محذوف، أي حال الظالمين، إذ هم {موقوفون} . وجواب لو محذوف، أي لرأيت لهم حالاً منكرة من ذلهم وتخاذلهم وتحاورهم، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك. وأتى الضمير بعد لولا ضمير رفع على الأفصح. وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو: لولاكم، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه.

وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي، كما قالوا: ليل نائم، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار، ونظيره قول القائل: أنا ضربت زيداً بل ضربه عمرو، فيقول: بل ضربه غلامك، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى: ضربه غلامك. وقيل: يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً، أي سبب كفرنا. وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر: بل مكر بالتنوين، الليل والنهار نصب على الظرف. وقرأ سعيد بن جبير بن محمد، وأبو رزين، وابن يعمر أيضاً: بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة. وقرأ ابن جبير أيضاً، وطلحة، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج: كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر، أي صدد تمونا مكر الليل والنهار، أي في مكرهما، ومعناه دائماً. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى. وهذا وهم، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها. وقال الزمخشري: بل يكومن الإغراء مكراً دائماً لا يفترون عنه. انتهى. جملة حالية.

وقرأ الجمهور: بالتي {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأٌّغْلَلَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَفِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَلاً وَأَوْلَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَلُكُمْ وَلاَ أَوْلَدُكُمْ بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى الْغُرُفَتِءَامِنُونَ} ، وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون التي هي التقوى، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب. انتهى. فجعل التي نعتاً لموصوف محذوف وهي التقوى. انتهى، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف. والظاهر أن التي راجع إلى الأموال والأولاد، وقاله الفراء.

وقال أيضاً، هو والزجاج: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} . انتهى. ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف، إذ يصح أن يكون التي لمجموع الأموال والأولاد. وقرأ الحسن: باللاتي جمعاً، وهو أيضاً راجع للأموال والأولاد. وقرى بالذي، وزلفى مصدر، كالقربى، وانتصابه على المصدرية من المعنى، أي يقربكم. وقرأ الضحاك: زلفا بفتح اللام وتنوين الفاء، جمع زلفة، وهي القربة. {إلا من آمن} : الظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء، أي لكن من آمن؛ {وعمل صالحاً} ، فإيمانه وعمله يقربانه. وقال الزجاج: هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا الجاز: رأيتك زيداً؛ وقول أبي اسحق هذا قول الفراء. انتهى. ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم، لكن البدل في الآية لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح تفرغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟ لو قلت: مازيد بالذي يضرب إلا خالداً، لم يصح. وتخيل الزجاج أن الصلة، وإن كانت من حيث المعنى منفية، أنه يصح البدل، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له. وقد اتبعه الزمخشري فقال: إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم، والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله؛ والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقهم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. انتهى، وهو لا يجوز. كماذ كرنا، لا يجوز: ما زيد بالذي يخرج إلا أخوة، ولا مازيد بالذي يضرب إلا عمراً، ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر.

و {هؤلاء} مبتدأ و، خبره {كانوا يعبدون} ، و {إياكم} مفعول {يعبدون} . ولما تقدم انفصل، وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب، ولكون {يعبدون} فاصلة. فلو أتى بالضمير منفصلاً، كان التركيب يعبدونكم، ولم تكن فاصلة. واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة، وهي مسألة خلاف، أجاز ذلك ابن السراج، ومنع ذلك قوم من النحويين، وكذلك منعوا توسطه إذا كان جملة. وقال ابن السراج: القياس جواز ذلك، ولم يسمع. ووجه الدلالة من الآية أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل، فكما جاز تقديم {إياكم} ، جاز تقديم {يعبدون} ، وهذه القاعدة ليست مطردة، والأولى منع ذلك إلى أن يدل على جوازه سماع من العرب. وعن ابن عباس: فليس أنه أعلم من أمّته، ولا كتاب أبين من كتابه. والمعشار مفعال من العشر، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع، ومعناهما: العشر والربع. وقال قوم: المعشار عشر العشر. قال ابن عطية: وهذا ليس بشيء. انتهى. وقيل: والعشر في هذا القول عشر المعشرات، فيكون جزأ من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. قال أبو علي: أن تقوموا {مِّن نَّذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآءَاتَيْنَهُمْ فَكَذَّبُواْ} في موضع خفض على البدل من واحدة. وقال الزمخشري: {بواحدة} : بخصلة واحدة، وهو فسرها بقوله: {أن تقوموا} على أن عطف بيان لها. انتهى. وهذا لا يجوز، لأن بواحدة نكرة، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله. وعطف البيان فيه مذهبان: أحدهما: أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة، وهو مذهب الكوفيين، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب، وإنما هو وهم من قائله. وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله: {إن مقام إبراهيم} عطف بيان من قوله: {آيات بينات} ، وذلك لأجل التحالف، فكذلك هذا. انتصب على الحال.

عطف على أن تقوموا {تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} . الوقف عند أبي حاتم عند قوله: {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} ، نفي مستأنف. قال ابن عطية: وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به. انتهى. واحتمل أن يكون تتفكروا معلقاً، والجملة المنفية في موضع نصب. والظاهر أن ما للنفي، كما شرحنا. وقيل: ما استفهام، وهو استفهام لا يراد به حقيقته، بل يؤول معناه إلى النفي، التقدير: أي شيء بصاحبكم من الجنون، أي ليس به شيء من ذلك. واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ، والعائد من الصلة محذوف تقديره: سألتكموه، وفهو لكم {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ} الخبر. ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط.

والظاهر أن بالحق هو المفعول، فالحق هو المقذوف محذوفاً، أي يقذف، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل، فتكون الباء إمّا للمصاحبة، وإمّا للسبب، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّياً بنفسه، فإذا جعلت بالحق هو المفعول، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها. وقرأ الجمهور: علام بالرفع، فالظاهر أنه خبر ثان، وهو ظاهر قول الزجاج، قال: هو رفع، لأن تأويل قل رب علام الغيوب. وقال الزمخشري: رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكنّ في يقذف، أو هو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. أمّا الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو. وأمّا قوله على المستكن في يقذف، فلم يبين وجه حمله، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف. وقال الكسائي: هو نعت لذلك الضمير، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب. وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وحرب عن طلحة: علام بالنصب؛ فقال الزمخشري: صفة لربي. وقال أبو الفضل الرازي، وابن عطية: بدل. وقال الحوفي: بدل أو صفة؛ وقيل: نصب على المدح. وقرىء: الغيوب بالجر، أمّا الضم فجمع غيب، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو؛ وأمّا الفتح فمفعول للمبالغة، كالصبور، وهو الشيء الذي غاب وخفي جداً. والظاهر أن ما نفي، وقيل: استفهام ومآله إلى النفي، كأنه قال: أي شيء يبدىء الباطل، أي إبليس، ويعيده، قاله الزجاج وفرقة معه. وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي {إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّمُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَطِلُ وَمَا يُعِيدُ * قُلْ إِن} ، وأن تكون مصدرية، أي فبوحي ربي. ومفعول ترى محذوف، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت، أي لا يفوتون الله، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم.

وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه، وطلحة؛ فلا فوت، وأخذ مصدرين منونين. وقرأ أبي: فلا فوت مبنياً، وأخذ مصدراً منوناً، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ، أي وهناك أخذ. وقال الزمخشري: وقرىء: وأخذ، وهو معطوف على محل فلا فوت، ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخذ. انتهى. كأنه يقول: لا فوت مجموع لا، والمبني معها في موضع مبتدأ، وخبره هناك، فكذلك وأخذ مبتدأ، وخبره هناك، فهو من عطف الجمل، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب. وقرأ الجمهور: التناوش بالواو. وقرأ حمزة، والكسائي. وأبو عمرو، وأبو بكر: بالهمز، ويجوز أن يكونا مادتين، إحداهما النون والواو والشين، والأخرى والهمزة والشين، وتقدّم شرحهما في المفردات. ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو، على ما قاله الزجاج، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء، وقال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة، فأنت فيها بالخيار، إن شئت تثبت همزتها، وإن شئت تركت همزتها. تقول: ثلاث أدور بلا همز، وأدؤر بالهمز. وحيل بينهم {سَمِيعٌ قَرِيبٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُواْءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} ، قال الحوفي: الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله. انتهى. ولو كان على ما ذكر، لكان مرفوعاً بينهم، كفراءة من قرأ: {لقد تقطع بينكم} ، في أحد المعنين، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى، فهو في موضع رفع، وإن كان مبنياً. كما قال بعضهم في قوله: وإذ ما مثلهم، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير، وإن كان مفتوحاً، لأنه قول فاسد. يجوز أن تقول: مررت بغلامك، وقام غلامك بالفتح، وهذا لا يقوله أحد. والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقاً، بل له مواضع أحكمت في النحو، وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر:

سورة فاطر

وقد حيل بين العير والنزوان فإنه نصب بين، وهي مضافة إلى معرب، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه، وحيل هو، أي الحول، ولكونه أضمر لم يكن مصدراً مؤكداً، فجاز أن يقام مقام الفاعل، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر: وقالت متى يبخل عليك ويعتللبسوء وإن يكشف غرامك ربأي: ويعتلل هو، أي الاعتلال. و {من قبل} : يصح أن يكون متعلقاً {بأشياعهم} ، أي من اتصف بصفتهم من قبل، أي في الزمان الأول. ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد، ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا. ومريب اسم فاعل من أراب الرجل: أتى بريبة ودخل فيها، وأربت الرجل: أوقعته في ريبة، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز. قال الزمخشري: إلا أن بينهما فرقاً، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول: شعر شاعر. انتهى. 35 سورة فاطر مكية وهي خمس وأربعون آية وقرأ الضحاك والزهري: فطر، جعله فعلاً ماضياً ونصب ما بعده. قال أبو الفضل الرازي: فأما على إضمار الذي فيكون نعتاً لله عز وجل، وأما بتقدير قد فيما قبله فيكون بمعنى الحال. انتهى. وحذف الموصول الاسمي لا يجوز عند البصريين، وأما الحال فيكون حالاً محكية، والأحسن عندي أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو فطر. من قرأ: وجاعل، فالأظهر أنهما اسماً فاعل بمعنى المضي، فيكونان صفة لله، ويجيء الخلاف في نصب رسلاً. فمذهب السيرافي أنه منصوب باسم الفاعل، وإن كان ماضياً لما لم يمكن إضافته إلى اسمين نصب الثاني. ومذهب أبي علي أنه منصوب بإضمار فعل، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وأما من نصب الملائكة فيتخرج على مذهب الكسائي وهشام في جواز إعمال الماضي النصب، ويكون إذ ذاك إعرابه بدلاً.

فقال الزمخشري: مثنى وثلاث ورباع صفات الأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرار العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الإعداد من صيغ إلى أخر، كما عدل عمر عن عامر، وحذام عن حاذمة، وعن تكرير إلى غير تكرير. وأما بالوصفية، فلا تقترن الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها. ألا تراك تقول بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها؟ انتهى. فجعل المانع للصرف هو تكرار العدل فيها، والمشهور أنها امتنعت من الصرف للصفة والعدل. وأما قوله: ألا تراك، فإنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أفعل وفي ثلاثة، وليس بصحيح، لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة، بل اشترطوا فيه. فليس الشرط موجوداً في أربع، لأن شرطه أن لا يقل تاء التأنيث. وليس شرطه في ثلاثة موجوداً، لأنه لم يجعل علة مع التأنيث. فقياس الزمخشري قياس فاسد، إذ غفل عن شرط كون الصفة علة. وقال ابن عطية: عدلت عن حال التنكير، فتعرفت بالعدل، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل: للعدل والصفة. انتهى. وهذا الثاني هو المشهور، والأول قول لبعض الكوفيين. والظاهر أن مثنى وما بعده من صفات الأجنحة، وقيل: أولي أجنحة معترض، {ومثنى} حال، والعامل فعل محذوف يدل عليه {رسلاً} ، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع. ومن في موضع الحال، أي كائناً من الرحمات، ولا يكون في موضع الصفة، لأن اسم الشرط لا يوصف.

{هل من خالق غير الله} : أي فلا إله إلا الخالق، ما تعبدون أنتم من الأصنام. وقرأ ابن وثاب، وشقيق، وأبو جعفر، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي: غير بالخفض، نعتاً على اللفظ، {ومن خالق مبتدأ. ويرزقكم} : جوزوا أن يكون خبراً للمبتدأ، وإن يكون صفته، وأن يكون مستأنفاً، والخبر على هذين الوجهين محذوف تقديره لكم. وقرأ شيبة، وعيسى، والحسن، وباقي السبعة: {غير} بالرفع، وجوزوا أن يكون نعتاً على الموضع، كما كان الخبر نعتاً على اللفظ، وهذا أظهر لتوافق القراءتين؛ وأن يكون خبراً للمبتدأ، وأن يكون فاعلاً باسم الفاعل الذي هو خالق، لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، فحسن إعماله، كقولك: أقائم زيد في أحد وجهيه؟ وفي هذا نظر، وهو أن اسم الفاعل، أو ما جرى مجراه، إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل، فرفع ما بعده، هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فتقول: هل من قائم الزيدون؟ كما تقول: هل قائم الزيدون؟ والظاهر أنه لا يجوز. ألا ترى أنه إذا جرى مجرى الفعل، لا يكون فيه عموم خلافه إذا أدخلت عليه من، ولا أحفظ مثله في لسان العرب، وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلام العرب؟ وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي: غير بالنصب على الاستثناء، والخبر إما يرزقكم وإما محذوف، ويرزقكم مستأنف؛ وإذا كان يرزقكم مستأنفاً، كان أولى لانتفاء صدق خالق على غير الله، بخلاف كونه صفه، فإن الصفة تقيد، فيكون ثم خالق غير الله، لكنه ليس برازق. ومعنى {من السماء} : بالمطر، {والأرض} : بالنبات، {لا إله إلا هو} : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب. و {الذين كفروا} ، {والذين آمنوا} . مبتدآن، وجوز بعضهم في {الذين كفروا} أن يكون في موضع خفض بدلاً {من أصحاب السعير} ، أو صفة، وفي موضع نصب بدلاً من حزبه، وفي موضع رفع بدلاً من ضمير {ليكونوا} ، وهذا كله بمعزل من فصاحة التقسيم وجزالة التركيب.

{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} : أي فرأى سوء عمله حسناً، ومن مبتدأ موصول، وخبره محذوف. فالذي يقتضيه النظر أن يكون التقدير: كمن لم يزين له، كقوله: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله} ، {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} ، {أو من كان ميتاً فأحييناه} ، ثم قال: {كمن مثله في الظلمات} ، وقاله الكسائي، أي تقديره: تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة: {فلا تذهب نفسك عليهم} . وقيل: التقدير: فرآه حسناً، فأضله الله كمن هداه الله، فحذف ذلك لدلالة: {فإن الله يضل من يشاء} ، وذكر هذين الوجهين الزجاج. انتصب {حسرات} على أنه مفعول من أجله، أي فلا تهلك نفسك للحسرات، وعليهم متعلق بتذهب، كما تقول: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً، أو هو بيان للمتحسر عليه، ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر، فلا يتقدّم معموله. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون حالاً، كأنه كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير: مشق الهواجر لحمهن مع السرىحتى ذهبن كلاكلاً وصدرواً يريد: رجعن كلاكلاً وصدوراً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها، ومنه قوله: فعلى إثرهم تساقط نفسيحسرات وذكرهم لي سقام انتهى. وما ذكر من أن كلاكلاً وصدوراً حالان هو مذهب سيبويه. وقال المبرد: هو تمييز منقول من الفاعل، أي حتى ذهبت كلاكلها وصدورها. النشور: مبتدأ، والجار والمجرور قبله في موضع الجر. ومن اسم شرط، وجملة الجواب لا بد أن يكون فيها ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفاً، والجواب محذوف تقديره.

فليطلبها من العزة له يتصرف فيها كما يريد، كما قال تعالى: وتعز من تشاء وتذل من تشاء {بِمَا يَصْنَعُونَ * وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّلِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَبٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأًّجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، وانتصب جميعاً على المراد، والمراد عزة الدنيا وعزة الآخرة.

وقرأ الجمهور: والعمل الصالح يرفعهما. فالعمل مبتدأ، ويرفعه الخبر، وفاعل يرفعه ضمير يعود على العمل الصالح، وضمير النصب يعود على الكلم. عن ابن عباس: والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، فجعله على حذف مضاف. ويجوز عندي أن يكون العمل معطوفاً على الكلم الطيب، أي يصعدان إلى الله، ويرفعه استئناف إخبار، أي يرفعهما الله، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة، فيكون لفظه مفرداً، والمراد به التثنية. قرأ عيس، وابن أبي عبلة: والعمل الصالح، بنصبهما على الاشتغال، فالفاعل ضمير الكلم أو ضمير الله، ومكر لازم، والسيئات نعت لمصدر محذوف، أي المكرات السيئات، أو المضاف إلى المصدر، أي أضاف المكر إلى السيئات، أو ضمن يمكرون معنى، يكتسبون، فنصب السيئات مفعولاً به. وإذا كانت السيئات نعتاً لمصدر، أو لمضاف لمصدر. هو مبتدأ، أو يبور خبره، والجملة خبر عن قوله: {ومكر أولئك} . وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون هو فاصلة، ويبور خبر، ومكر أولئك والفاصلة لا يكون ما يكون ما بعدها فعلاً، ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له، فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلاً وردّ ذلك عليه. {ذلكم الله ربكم له الملك} ، وهي أخبار مترادفة؛ والمبتدأ {ذلكم} ، و {الله ربكم} خبران، و {له الملك} جملة مبتدأ في قران قوله: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} . قال الزمخشري: ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة وعطف بيان، وربكم خبر، لولا أن المعنى يأباه. انتهى. أما كونه صفة، فلا يجوز، لأن الله علم، والعلم لا يوصف به، وليس اسم جنس كالرجل، فتتخيل فيه الصفة. وأما قوله: لولا أن المعنى يأباه، فلا يظهر أن المعنى يأباه، لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم، أي مالكم، أو مصلحكم، وهذا معنى لائق سائغ.

قرأ الجمهور: لا يحمل بالياء، مبنياً للمفعول؛ وأبو السمال عن طلحة، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي: بفتح التاء من فوق وكسر الميم، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف، أي وإن تدع مثقلة نفساً أخرى إلى حملها، لم تحمل منه شيئاً. واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله: {وإن تدع} ، هذا معنى قول الزمخشري. وازرة: صفة لمحذوف أي نفس وازرة. {بالغيب} : حال من الفاعل أو المفعول، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائباً عنهم. قرآئ؟؟: ولو كان ذي قربى على أن كان تامة. {بالحق} : حال من الفاعل، أي محق. أو من المفعول، أي محقاً، أو صفة لمصدر محذوف، أي إرسالاً بالحق، أي مصحوباً.

الظاهر عطف وغرابيب {كَانَ نَكِيرِ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأٌّنْعَمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَبَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَرَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَلِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} على {حمر} ، عطف ذي لون على ذي لون. وقال الزمخشري: معطوف على {بيض} أو على {جدد} . قال الزمخشري: الغربيب تأكيد للاسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد، كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله، فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر، كقول النابغة: والمؤمن العائذات الطير

وإنما يفعل لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعاً. انتهى. وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد. ومن النحاة من منع ذلك، وهو اختيار ابن مالك. وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي سود غرابيب. وقيل: سود بدل من غرابيب، وهذا أحسن، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيداً. {ليوفيهم} : متعلق بيرجون، أو بلن تبور، أو بمضمر تقديره: فعلوا ذلك، أقوال. وقال الزمخشري: وإن شئت فقلت: يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض. وخبر إن قوله: {إنه غفور شكور} . {ومصدقاً} : حال مؤكدة. {وجنات} على هذا مبتدأ، و {يدخلونها} الخبر. وجنات، قرأءة الجمهور رجمعاً بالرفع، ويكون ذلك إخباراً بمقدار أولئك المصطفين. وقال الزمخشري، وابن عطية: {جنات} بدل من {الفضل} . جاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف، كأنه لغوب، كقولهم: موت مائت. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون مصدراً كالقبول، وإن شئت جعلته صفة لمضمر، أي أمر لغوب.

قرأ الجمهور: فيموتوا {فِيهَا لُغُوبٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَلِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ * إِنَّ اللَّهَ عَلِمُ غَيْبِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَئِفَ فِى الأٌّرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَفِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً * قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَوَتِ أَمْءَاتَيْنَهُمْ كِتَباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ} ، بحذف النون منصوباً في جواب النفي. وقرأ عيسى، والحسن: فيموتون، بالنون، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى. وقال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة. انتهى. وقال أبو عثمان المازين: هو عطف، أي فلا يموتون، لقوله: {ولا يؤذون لهم فيعتذرون} . {أو لم نعمركم} ، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير، وما مصدرية ظرفية، أي مدة يذكر.

{وجاءكم} معطوف على {أو لم نعمركم} ، لأن معناه: قد عمرناكم، كقوله: {ألم نر بك فينا وليداً} ، وقوله: {ألم نشرح لك صدرك} ، ثم قال: {ولبثت فينا} وقال {ووضعنا} ، لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا. {قل أرأيتم شركاءكم} ، قال الحوفي: ألف الاستفهام ذلك للتقرير، وفي التحرير: أرأيتم: المراد منه أخبروني، لان الاستفهام يتسدعي ذلك. يقول القائل: أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع: باع واشترى، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا. وقال ابن عطية: أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني. وقال الزمخشري: أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني. أما قوله: {أروني} بدل من {أرأيتم} فلا يصح، لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل، وأيضاً فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم، ثم البدل على نية تكرار العامل، ولا يتأنى ذلك هنا، لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني. وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاماً شافياً. والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني، وهي تطلب مفعولين: أحدهما منصوب، والآخر مشتمل على استفهام. تقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ فالأول هنا هو {شركاءكم} ، والثاني {ماذا خلقوا} ، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد. ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً من باب الإعمال، لأنه توارد على ماذا خلقوا، أرأيتم وأروني، لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم: أما ترى، أي ترى ها هنا، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. وقيل: يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاماً حقيقياً، وأروني أمر تعجيز للتنيين. أن تزولا في موضع المقعول له، وقدر لئلا تزولا، وكراهة أن تزولا. وقال الزجاج: يمسك: يمنع من أن تزولا، فيكون مقعولاً ثانياً على إسقاط حرف الجر، ويجوز أن يكون بدلاً، أي يمنع زوال السموات والأرض، بدل اشتمال.

قد قرأ ابن أبي عبلة: ولو زالتا، وإن نافية، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدّر قبل لام التوطئة في لئن، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية، كقوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي ما يتبعون، وكقوله: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا} : أي ليظلوا، فيقدّر هذا كله مضارعاً لأجل إن الشرطية، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه. قال الزمخشري: و {إن أمسكها} جواب القسم في {ولئن زالتا} ، سدّ مسدّ الجوابين. انتهى، يعني أنه دل على الجواب المحذوف، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح، لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم.

سورة يس عليه الصلاة والسلام

جواب لما: ما زادهم {حَلِيماً غَفُوراً * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاٍّمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِى الأٌّرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأٌّوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْءٍ فِى السَّمَوَتِ وَلاَ فِى الأٌّرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا} ، وفيه دليل واضح على حرفية لما لا ظرفيتها، إذ لو كانت ظرفاً، لم يجز أن يتقدّم على عاملها المنفي بما، وقد ذكرنا ذلك في قوله: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم} ، وفي قوله: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم} والظاهر أن {استكباراً} مفعول من أجله، أي سبب النفور وهو الاستكبار، {ومكر السيء} معطوف على {استكباراً} ، فهو مفعول من أجله أيضاً، وقرأ ابن مسعود: ومكراً سيئاً، عطف نكرة على نكرة. سنة الأولين أضاف فيه المصدر وفي {لسنة الله} إضافة الى الفاعل. كانوا: أي وقد كانوا فالجملة حال. سورة يس عليه الصلاة والسلام ثلاث وثمانون آية مكية. وقال قتادة: يس قسم. قال أبو حاتم: فقياس هذا القول فتح النون، كما تقول: الله لأفعلن كذا. وقال الزجاج: النصب، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه أنه اسم للسورة.

إذا قيل أنه قسم، فيجوز أن يكون معرباً بالنصب على ما قال أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين. على صراط {بِعِبَادِهِ بَصِيراً * يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَفِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنقِهِمْ أَغْلَلاً فَهِىَ إِلَى الأٌّذْقَنِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَبَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَئِرُكُم مَّعَكُمْ أَءِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَآءَ مِنْ

أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّىءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَمِدُونَ * يحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الأٌّرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَبٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * سُبْحَنَ الَّذِى خَلَق الأٌّزْوَجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأٌّرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} : خبر ثان، أو في موضع الحال منه عليه السلام، أو من المرسلين، أو متعلق بالمرسلين.

وقرأ طلحة، والأشهب، وعيسى: بخلاف عنهما؛ وابن عامر، وحمزة، والكسائي: تنزيل، بالنصب على المصدر؛ وباقي السبعة، وأبو بكر، وأبو جعفر، وشيبة، والحسن، والأعرج، والأعمش: بالرفع مبتدأ محذوف، أي هو تنزيل؛ وأبو حيوة، واليزيدي، والقورصي عن أبي جعفر، وشيبة؛ بالخفض إما على البدل من القرآن، وإما على الوصف بالمصدر. {لتنذر} : متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة. {ما أنذر} ، قال عكرمة: بمعنى الذي، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب، فما مفعول ثان، كقوله: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} . قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي {ما أنذر آباؤهم} ، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل، وكانت النذارة فيهم. و {فهم} على هذا التأويل بمعنى فإنهم، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة، فتتعلق بقوله: {إنك لمن المرسلين} . قرأ الجمهور: {وكل شيء} بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء.

قرأ الجمهور: أئن ذكرتم {إِمَامٍ مُّبِينٍ * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَبَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَنُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَغُ الْمُبِينُ * قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَئِرُكُم مَّعَكُمْ أَءِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إِنِّى إِذاً لَّفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّىءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يلَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة إن الشرطية، فخففها الكوفيون وابن عامر، وسهلها باقي السبعة.

قرأ أبو جعفر أيضاً، والحسن أيضاً، وقتادة، وعيس الهمداني، والأعمش: أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة، وفتح النون ظرف مكان. وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضاً. فالقراءة الأولى على معنى: إن ذكرتم تتطيرون، بجعل المحذوف مصب الاستفهام، على مذهب سيبويه، بجعله للشرط، على مذهب يونس؛ فإن قدرته مضارعاً كان مجزوماً. والقراءة الثانية على معنى: ألان ذكرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها، فحرف شرط بمعنى الإخبار، أي إن ذكرتم تطيرتم. والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم، ويدل عليه قوله: {طائركم معكم} . ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد، يجوز أن يكون الجواب {طائركم معكم} ، وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم، فلما قدم حذفت الفاء. وقد أجاز بعض النحويين في {مَن} أن تكون بدلاً من {المرسلين} ، ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر، كقوله تعالى: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم} . والجمهور: لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب، بدلاً، بل يجعلون ذلك مخصوصاً بحرف الجر. وإذا كان الرافع والناصب، ذلك بالتتبيع لا بالبدل. وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه. وقرأ الجمهور: فاسمعون بفتح النون. قال أبو حاتم: هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر، فإما حذف النون، وإما كسرها على جهة البناء.

والظاهر أن ما في قوله: {بما غفر لي ربي} مصدرية، جوزوا أن يكون بمعني الذي، والعائد محذوف تقديره: بالذي غفره لي ربي من الذنوب، وليس هذا بجيد، إذ يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفرة، والذي يحسن تمني علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين. وأجاز الفراء الفراء أن تكون ما استفهاماً. وقال الكسائي: لو صح هذا، يعني الاستفهام، لقال بم من غير ألف. وقال الفراء: يجوز أن يقال بما بالألف، وأنشد فيه أبياتاً. وقال الزمخشري: ويحتمل أن تكون استفهامية، يعني بأي شيء غفر لي ربي، يريد ما كان منه معهم من المصابرة لاعزاز دين الله حتى قيل: إن قولك {بما غفر لي ربي} يريد ما كان منه معهم بطرح الألف أجود، وإن كان إثباتها جائزاً فقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. انتهى. والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية، إذا دخل عليها حرف جر، مختص بالضرورة، نحو قوله: على ما قام يشتمني لئيمكخنزير تمرغ في رماد وحذفها هو المعروف في الكلام، نحو قوله: على م يقول الرمح يثقل كاهليإذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

والظاهر أن ما في قوله: وما كنا منزلين {مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَمِدُونَ * يحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الأٌّرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَبٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * سُبْحَنَ الَّذِى خَلَق الأٌّزْوَجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأٌّرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} نافية.

قالت فرقة: ما اسم معطوف على جند. قال ابن عطية: أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم. انتهى، وهو تقدير لا يصح، لأن من في من جند زائدة. ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين: أحدهما: أن يكون قبلها نفي، أو نهي، أو استفهام. والثاني: أن يكون بعدها نكرة، وإن كان كذلك، فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة. لا يجوز: ما ضربت من رجل ولا زيد، وإنه لا يجوز: ولا من زيد، وهو قدر المعطوف بالذي، وهو معرفة، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون ما زائدة، أي وقد كنا منزلين، وقوله ليس بشيء. وقرأ: {إن كانت إلا صيحة} ، بنصب الصيحة، وكان ناقصة واسمها مضمر، أي إن كانت الأخذة أو العقوبة. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ومعاذ بن الحارث القارىء: صيحة بالرفع في الموضعين على أن كانت تامة، أي ما خدثت أو وقعت إلا صيحة، وكان الأصل أن لا يلحق التاء، لأنه إذا كان الفعل مسنداً إلى مابعد إلا من المؤنث، لم تلحق العلامة للتأنيث فيقول: ما قام إلا هند، ولا يجوز: ما قامت إلا هند، عند أصحابنا إلا في الشعر، وجوزه بعضهم في الكلام على قلة. قيل: المنادى محذوف، وانتصب حسرة على المصدر، أي يا هؤلاء تحسروا حسرة.

{ألم يروا كم أهلكنا} . قال ابن عطية: وكم هنا خبرية، وأنهم بدل منها، والرؤية رؤية البصر. انتهى. فهذا لا يصح، لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا، ولا يسوغ فيها إلا ذلك. وإذا كان كذلك، امتنع أن يكون أنهم بدل منها، لأن البدل على نية تكرار العامل، ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح. ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم، أو أهلكنا كونهم لا يرجعون، لم يكن كلاماً؟ لكن ابن عطية توهم أن يروا مفعوله كم، فتوهم أن قولهم أنهم لا يرجعون بدل، لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فتقول: ألم يروا أنهم لا يرجعون؟ وهذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية. وقال الزجاج: هو بدل من الجملة، والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكناها إليهم لا يرجعون، لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى النهي. وهذا الذي قاله الزجاج ليس بشيء، لأنه ليس بدلاً صناعياً، وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صنعة النحو. وقال أبو البقاء: أنهم إليهم. انتهى، وليس بشيء، لأن كم ليس بمعمول ليروا. ونقل عن الفراء أنه يعمل يروا في الجملتين من غير إبدال، أعجبني ملاحة الجارية، وسرق ثوب زيد، وتقدم لنا الكلام على إعراب مثل هذه الجملة في قوله: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} ، في سورة الأنعام. والذي تقتضيه صناعة العربية أن أنهم معمول لمحذوف، ودل عليه المعنى، وتقديره: قضينا أو حكمنا {أنهم إليهم لا يرجعون} . وقرأ ابن عباس والحسن: إنهم بكسر الهمزة على الاستئناف، وقطع الجملة عن ما قبلها من جهة الإعراب، ودل ذلك على أن قراءة الفتح مقطوعة عن ما قبلها من جهة الإعراب لتتفق القراءتان ولا تختلفا. والضمير في أنهم عائد على معنى كم، وهم القرون، وإليهم عائد على من أسند إليه يروا، وهم قريش؛ فالمعنى: أنهم لا يرجعون إلى من في الدنيا. وقيل: الضمير في أنهم عائد على من أسند إليه يروا، وفي إليهم عائد على المهلكين، والمعىن: أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، أي

أهلكنا هم وقطعنا نسلهم، والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم. وقرأ عبد الله: ألم يروا من أهلكنا، وأنهم على هذا بدل اشتمال. وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر: بتثقيل لما؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. فمن ثقلها كانت عنده بمعنى إلا، وإن نافية. ومن خفف لما جعل إن المخففة من الثقيلة، وما زائدة، أي إن كل لجميع، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون، فإن عندهم نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت في لسان العرب بنقل الثقاة، فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي: في كون لما بمعنى إلا معنى مناسب، وهو أن لما كأنها حرفا نفي جميعاً. وهما لم وما، فتأكد النفي؛ وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا، فاستعمل أحدهما مكان الآخر. انتهى، وهذا أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء أنها مركبة من إن ولا، إلا أن الفراء جعل إن المخففة من الثقيلة وما زائدة، أي إن كل لجميع، وهذا على مذهب البصريين. وأما الكوفيون، فإن عندهم نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، ولما المشددة بمعنى إلا ثابت حرف نفي، وهو قول مردود عند النحاة ركيك، وما تركب منه وزاد تحريفاً أرك منه. يجوز أن تكون ما نافية، على أن الثمر خلق الله، ولم تعمله أيديه الناس، ولا يقدرون على خلقه. وقرأ الجمهور: {وما عملته} بالضمير، فإن كانت ما موصولة فالضمير عائد عليها، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة، وعيسى، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: بغير ضمير مفعول عملت على التقريرين محذوفة، وجوز في هذه القراءة أن تكون ما مصدرية، أي وعمل أيديهم، وهو مصدر أريد به المعمول، فيعود إلى معنى الموصول.

{أحييناها} : استئناف بيان لكون الأرض الميتة آية، وكذلك نسلخ. وقيل: أحييناها في موضع الحال، والعامل فيها آية بما فيها من معنى الإعلام، ويكون آية خبراً مقدماً، والأرض الميتة مبتدأ؛ فالنية بآية التأخير، والتقدير: والأرض الميتة آية لهم محياة كقولك: قائم زيد مسرعاً، أي زيد قائم مسرعاً، ولهم متعلق بآية، لا صفة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يوصف الأرض والليل بالفعل، لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض، وليل بإحيائهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفها بالأفعال ونحوه: ولقد أمر على اللئيم يسبني انتهى. وهذا هدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك. وأما يسبني فحال، أي ساباً لي، وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه. قرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن رباح، وزين العابدين، والباقر، وابنه الصادق، وابن أبي عبدة: لا مستقر لها، نفياً مبنياً على الفتح، فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا، أي هي تجري دائماً فيها، لا تستقر؛ إلا ابن أبي عبلة، فإنه قرأ برفع مستقر وتوينه على إعمالها إعمال ليس، نحو قول الشاعر: تعز فلا شيء على الأرض باقياًولا وزر مما قضى الله واقياً قرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وابن محيصن، والحسن: بخلاف عنه. {والقمر} : بالرفع على الابتداء؛ وباقي السبعة: بالنصب على الاشتغال. و {قدرناه} على حذف مضاف، أي قدرنا سيره، و {منازل} : طرف، أي منازله.

فهم أبو عبد الله الرازي من قوله: {يطلبه حثيثاً} أن النهار يطلب الليل، والليل سابقة. وفهم من قوله: {ولا الليل سابق النهار} ، أن الليل مسبوق لا سابق، فأورده سؤالاً. وقال: كيف يكون الليل سابقاً مسبوقاً؟ وأجاب بأن المراد من الليل هنا سلطان الليل، وهو القمر، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة. والمراد من الليل هناك نفس الليل، وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه. انتهى. وعرض له هذا السؤال لكونه جعل الضمير الفاعل في يطلبه عائداً على النهار، وضمير المفعول عائداً على الليل. والظاهر جأن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل، لأنه كان قبل دخول همزة النقل {يغشى الليل النهار} ، وضمير المفعول عائد على النهار، لأنه المفعول قبل النقل وبعده. وانتصب {رحمة} على الاستثناء المفرغ للمفعول من أجله، أي لرحمة منا. وجواب إذا محذوف يدل علىه ما بعده، أي أعرضوا.

جواب لو نشاء قوله: اطعمهم، وورود الموجب بغير لام فصيح، ومنه: أن لو نشاء أصبناهم {إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْءَايَةٍ مِّنْءَايَتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأٌّجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُواْ يوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَبَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَجُهُمْ فِى ظِلَلٍ عَلَى الأٌّرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ} ، {لو نشاء جعلناه أجاباً} ؛ والأكثر مجيئه باللام. الجمهور: و {من بعثنا} : من استفهاما، وبعث فعل ماض؛ وعلي، وابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك: من حرف جر، وبعثنا مجرور به. والمرقد: استعارة عن مضجع الميت، واحتمل أن يكون مصدراً، أي من رقادنا، وهو أجود. أو يكون مكاناً، فيكون المفرد فيه يراد به الجمع.

تضمن قوله: {هذا ما وعد الرحمن} ، ذكر الباعث، أي الرحمن الذي وعدكموه، وما يجوز أن تكون مصدرية على سمة الموعود، والمصدر فيه بالوعد والصدق، وبمعنى الذي، أي هذا الذي وعده الرحمن. قال الزجاج: ويجوز أن يكون إشارة إلى المرقد، ثم استأنف ما وعد الرحمن، ويضمر الخبر حق أو نحوه. وتبعه الزمخشري فقال: ويجوز أن يكون هذا صفة للمرقد، وما وعد خبر مبتدأ محذوف، أي هذا وعد الرحمن، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي ما وعد الرحمن وصدق المرسلون حق عليكم. انتهى. وتقدمت قراءة {إلا صيحة} بالرفع وتوجيهها. {فاليوم} : هو يوم القيامة، وانتصب على الظرف، والعامل فيه لا يظلم. يجوز في هم أن يكون مبتدأ، وخبره في ظلال، ومتكؤن خبر ثان، أو خبره متكئون، وفي ظلال متعلق به، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في فاكهون، وفي ظلال حال، ومتكئون خبر ثان لأن، أو يكون تأكيداً للضمير المستكن في شغل، المنتقل إليه من العامل فيه. قرأ عبد الله: متكئين نصب على الحال.

وقرأ الجمهور: سلام بالرفع. وهو صفة لما، أي مسلم لهم وخالص. انتهى. ولا يصح إن كان ما بمعنى الذي، لأنها تكون إذ ذاك معرفة. وسلام نكرة، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. فإن كانت ما نكرة موصوفة جاز، إلا أنه لا يكون فيه عموم، كحالها بمعني الذي. وقيل: سلام مبتدأ ويكون خبره ذلك الفعل الناصب لقوله: قولاً {كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَبَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَجُهُمْ فِى ظِلَلٍ عَلَى الأٌّرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ * وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِىءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَهُمْ عَلَى مَكَنَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ * وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلَّمْنَهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَفِرِينَ} ، أي سلام يقال، {قولاً من رب رحيم} ، أو يكون عليكم محذوفاً، أي سلام عليكم، {قولاً من رب رحيم} . وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي هو سلام. وقال الزمخشري: {سلام قولاً}

بدل من {ما يدعون} ، كأنه قال: لهم سلام يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم. وإذا كان سلام بدلاً من ما يدعون خصوصاً. والظاهر أنه عموم في كل ما يدعون، وإذا كان عموماً، لم يكن سلام بدلاً منه. وقيل: سلام خبر لما يدعون، وما يدعون مبتدأ، أي ولهم ما يدعون سلام خالص لا شرب فيه، وقولاً مصدر مؤكد، كقوله: {ولهم ما يدعون سلام} : أي عدة من رحيم. قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصب على الاختصاص، وهو من مجازه. انتهى. ويكون لهم متعلقاً على هذا الإعراب بسلام. وقرأ محمد بن كعب القرظي: سلم، بكسر السين وسكون اللام، ومعناه سلام. وقال أبو الفضل: الرازي: مسالم لهم، أي ذلك مسالم. وقرأ أبي، وعبد الله، وعيسى، والقنوي: سلاماً، بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال، أي لهم مرادهم خالصاً.

وقرأ الجمهور: أعهد، بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيل بن شرحبيل الكوفي: بكسر الهمزة، قاله صاحب اللوامح، وقال لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن خالويه: ألم أعهد؛ يحيى بن وثاب: ألم أحد، تميم. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيل ابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء. وروي عن ابن وثاب: ألم أعهد، بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد. انتهى. وقوله: بكسر الميم والهمزة يعني أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة، لأن الحركة التي في الميم هي حركة نقل الهمزة المكسورة، وحذفت الهمزة حين نقلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو الميم. اعهد بالهمزة المقطوعة المكسورة لفظاً، لأن هذا لا يجوز. وقال الزمخشري: وقرىء أعهد بكسر الهمزة، وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء؛ وأعهد بكسر الهاء. وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم، وضرب يضرب، وأحهد بالحاء وأحد، وهي لغة تميم، ومنه قولهم: دحا محا. انتهى. وقوله: إلا في الياء، لغة لبعض كلب أنهم يكسرون أيضاً في الياء، يقولون: هل يعلم؟ وقوله: دحا محا، يريدون دعها معها، أدغموا العين في الحاء، والإشارة بهذا إلى ما عهد إليهم معصيه الشيطان وطاعة الرحمن.

سورة الصافات

وقرأ نافع، وعاصم: {جبلاً} ، بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء؛ والحسن: بخلاف عنه. وقرأ العربيان، والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكان الباء؛ وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام؛ والحسن بن أبي إسحاق، والزهري، وابن هرمز، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحفص بن حميد: بضمتين وتشديد اللام؛ والأشهب العقيلي، واليماني، وحماد بن مسلمة عن عاصم: بكسر الجيم وسكون الباء؛ والأعمش: جبلاً، بكسرتين وتخفيف اللام. وقرىء: جبلاً بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام، جمع جبلة، نحو فطرة وفطر، فهذه سبع لغات قرىء بها. وقرأ علي بن أبي طالب وبعض الخراسانيين: جيلاً، بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف، واحد الأجيال. قرىء: ولتكلمنا أيديهم، بتاءين. وقرىء: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمر والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروي عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ: ولتكلمنا أيديهم ولتشهد، بلام كي والنصب على معنى: وكذلك يختم على أفواهم. قرأ الجمهور: {فاستبقوا} ، فعلاً ماضياً معطوفاً على {لطمسنا} ، وهو على الفرض والتقدير. والصراط منصوب على تقدير إلى حذفت ووصل الفعل، والأصل فاستبقوا إلى الصراط، أو مفعولاً به على تضمين استبقوا معنى تبادروا، وجعله مسبوقاً إليه. قال الزمخشري: أو ينتصب على الظرف، وهذا لا يجوز، لأن الصراط هو الطريق، وهو ظرف مكان مختص. لا يصل إليه الفعل إلا بوساطة في إلا في شذوذ، كما أنشد سيبويه: لدن بهز الكف يعسل متنهفيه كما عسل الطريق الثعلب وقال الزمخشري: والرميم اسم لما بلى من العظام غير صفة، كالرمة والرفاة، فلا يقال: لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبراً لمؤنث، ولا هو فعيل أو مفعول. انتهى. سورة الصافات مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية

الجملة المقسم عليها تضمنت وحدانيته تعالى، أي هو واحد من جميع الجهات التي ينظر فيها المتفكرون خبر بعد خبر، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف، وهو أمدح، أي هو رب. قرأ الجمهور: بزينة الكواكب {خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَمَ وَهِىَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأٌّخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَوتِ وَالأٌّرْضَ بِقَدِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَالصَّفَّتِ صَفَّا * فَالزجِرَتِ زَجْراً * فَالتَّلِيَتِ ذِكْراً * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَّبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَرِقِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَنٍ مَّارِدٍ * لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأٌّعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُواْ إِن هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ} بالإضافة، فاحتمل المصدر مضافاً للفاعل، أي بأن زانت السماء الكواكب، ومضافاً للمفعول، أي بأن زين الله الكواكب.

قرأ ابن مسعود، ومسروق: بخلاف عنه؛ وأبو زرعة، وابن وثاب، وطلحة: بزينة منوناً، الكواكب بالخفض بدلاً من زينة. وقرأ ابن وثاب، ومسروق: بخلاف عنهما؛ والأعمش، وطلحة، وأبو بكر: بزينه منوناً، الكواكب نصباً، فاحتمل أن يكون بزينة مصدراً، والكواكب مفعول به، كقوله: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} . واحتمل أن يكون الكواكب بدلاً من السماء، أي زينا كواكب السماء. وقرأ زيد بن علي بتنوين زينة، ورفع الكواكب على خبر مبتدأ، أي هو الكواكب، أو على الفاعلية بالمصدر، أي بأن زينت الكواكب. ورفع الفاعل بالمصدر المنون، زعم الفراء أنه ليس بمسموع، وأجاز البصريون ذلك على قلة. انتصب {وحفظاً} على المصدر، أي وحفظناها حفظاً، أو على المفعول من أجله على زيادة الواو، أو على تأخير العامل، أي ولحفظها زيناها بالكواكب. لا يجوز أن يكون لا يسمعون صفة ولا استئنافاً جواباً لسائل سأل لم يحفظ من الشياطين، لأن الوصف كونهم لا يسمعون، أو الجواب لا معنى للحفظ من الشياطين على تقديرهما، إذ يصير المعنى مع الوصف: وحفظاً من كل شيطان مارد غير سامع أو مسمع، وكذلك لا يستقيم مع كونه جواباً. وقول من قال: إن الأصل لأن لا يسمعوا، فحذفت اللام وإن، فارتفع الفعل، قول متعسف يصان كلام الله عنه. دحوراً مصدر في موضع الحال. قال مجاهد: مطرودين، أو مفعول من أجله، أي ويقذفون للطرد، أو مصدر ليقذفون، لأنه متضمن معنى الطرد، أي ويدحرون من كل جانب دحوراً. {إلا من خطف الخطفة} : من بدل من الضمير في لا يسمعون، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف. ومن مبتدأ، والخبر محذوف تقديره أشد.

من قرأ: أئذا {شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُواْ إِن هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَءَابَآؤُنَا الأٌّوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَخِرُونَ * فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُواْ يوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ} بالاستفهام، فجواب إذا محذوف، أي نبعث، ويدل عليه إنا لمبعوثون، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفاً محضاً، ويقدر العامل: أنبعث إذا متنا؟ وقرأ الجمهور: {أو آباؤنا} بفتح الواو في أو. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن عامر، ونافع في رواية قالون: بالسكون، فهي حرف عطف، ومن فتح قالوا وحرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام. قال الزمخشري: {أو آباؤنا} معطوف على محل إن واسمها، أو على الضمير في مبعوثون. والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام، والمعنى: أيبعث أيضاً آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. انتهى. أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه، لأن قولك: إن زيداً قائم وعمرو، فيه مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف. وأما قوله: أو على الضمير في {مبعوثون} إلى آخره، فلا يجوز عطفه على الضمير، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل، لا على المفرد، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها. فقوله: {أو آباؤنا} مبتدأ، خبره محذوف تقديرهه مبعوثون، ويدل عليه ما قبله. فإذا قلت: أقام زيد أو عمرو، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا.

{وأنتم داخرون} : أي صاغرون، وهي جملة حالية، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون. وقال الزمخشري: هي مبهمة يوضحها خبرها. انتهى. وكثيراً ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر، وجعل من ذلك ابن مالك {إن هي إلا حياتنا الدنيا} ، وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: فإنما جواب شرطط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة. انتهى. وكثيراً ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ، تقديره: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي، وما ذكر معهما على قول بعضهم، أما ابتداء فلا يجوز حذفه. فواكه بدل من رزق. فأقبل {كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِى جَنَّتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَبِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّرِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِندَهُمْ قَصِرَتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاٍّولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَمِلُونَ} : معطوف على {يطاف عليهم.

وقرىء: فأطلع، مشدداً مضارعاً منصوباً على جواب الاستفهام. وقرأ أبو البرهسم، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار: مطلعون، بتخفيف الطاء وكسر النون، فاطلع ماضياً مبنياً للمفعول؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره. لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم. والوجه مطلعي، كما قال، أو مخرجي هم، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر: وما أدرى وظني كل ظنأمسلمني إلى قومي شراحي قال الفراء: يريد شراحيل. وقال الزمخشري: يريد مطلعون إياي، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله: هم الفاعلون الخير والآمرونه أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما، كأنه قال: تطلعون، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر. انتهى. والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح، وتخريجه الأول لا يجوز، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل، فيكون المتصل وضع موضعه، لا يجوز هند زيد ضارب إياها، ولا زيد ضارب إياي، وكلام الزمخشري يدل على جوازه، فالأولى تخريج أبي الفتح، وقد جاء منه: أمسلمني إلى قومي شراحي وقول الآخر: فهل فتى من سراة القوم يحملنيوليس حاملني إلا ابن حمال وقال الآخر: وليس بمعييني فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين، لاجتماعهما في السقوط للإضافة. قال الزمخشري: الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه: أنحن مخلدون؟ أي منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين. انتهى. وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محليهما اللذين وقعا فيهما، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير، والهمزة بعده، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت، فالتقدير عند الجماعة. فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة، وتقدم الكلام معه في ذلك.

واللام في فلنعم {اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأٌّخِرِينَ * سَلَمٌ عَلَى نُوحٍ} جواب قسم كقوله: يميناً لنعم السيدان وجدتما والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: فلنعم المجيبون نحن، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء. {وتركنا عليه في الآخرين} : أي في الباقين غابر الدهر؛ ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسناً جميلاً. سلام: رفع بالإبتداء مستأنف.

قال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق الظرف؟ قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة، يعني: وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم، أو بمحذوف، وهو اذكر. انتهى. أما التخريج الأول فلا يجوز، لأن فيه الفضل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو قوله: لإبراهيم {أَغْرَقْنَا الأٌّخَرِينَ * وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَءِفْكاًءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَلَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَىءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ * فَأَرَادُواْ بِهِ} ، لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ، وزاد المنع، إذ قدره ممن شايعه حين جاء لإبراهيم. وأيضاً فلام التوكيد يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها. لو قلت: إن ضار بالقادم علينا زيداً، وتقديره: ضارباً زيداً لقادم علينا، لم يجز. وأما تقديره اذكر، فهو المعهود عند المعربين.

أجازوا في نصب {أئفكاً} وجوها: أحدها: أن يكون مفعولاً بتريدون، والتهديد لأمته، وهو استفهام تقرير، ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه، وذكره الزمخشري قال: فسر الإفك بقوله: آلهة من دون الله، على أنها إفك في أنفسهم. والثاني: أن تريدون آلهة من دون الله إفكاً، وآلهة مفعول به، وقدمه عناية به، وقدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، وبدأ بهذا الوجه الزمخشري. والثالث: أن يكون حالاً، أي تريدون آلهة من دون الله آفكين؟ قاله الزمخشري، وجعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع أما في نحو: أما علماً فعالم. {فراغ عليهم ضرباً باليمين} : أي أقبل عليهم مستخفياً ضارباً، فهو مصدر فى موضع الحال، أو يضربهم ضرباً، فهو مصدر فعل محذوف، أو ضمن فراغ عليهم معنى ضربهم. «ما» في: {وما تنحتون} بمعنى الذي، فكذلك في {وما تعملون} ، لأن نحتهم هو عملهم. وقيل: ما مصدرية، أي خلقكم وعملكم. وقيل: ما استفهام إنكاري، أي: وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناماً تنحتونها؟ أي لا عمل لكم يعتبر. وقيل: ما نافية، أي وما أنتم تعملون شيئاً في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء. وكون ما مصدرية واستفهامية ونعتاً، أقوال متعلقة خارجة عن طريق البلاغة. انظر معلقة، وماذا استفهام. فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي، فما مبتدأ، والفعل بعد ذا صلة. وإن كانت ذا مركبة، ففي موضع نصب بالفعل بعدها. والجملة، واسم الاستفهام الذي هو للفعل بعده في موضع نصب لانظر.

افعل ما تؤمر {فَجَعَلْنَهُمُ الأٌّسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّلِحِينِ * فَبَشَّرْنَهُ بِغُلَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يبُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّبِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَدَيْنَهُ أَن يإِبْرَهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأٌّخِرِينَ * سَلَمٌ عَلَى إِبْرَهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّلِحِينَ * وَبَرَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَلِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَرُونَ * وَنَجَّيْنَهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَلِبُونَ * وَءَاتَيْنَهُمَا الْكِتَبَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَهُمَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الأٌّخِرِينَ * سَلَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَرُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَلِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّءَابَآئِكُمُ الأٌّوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأٌّخِرِينَ * سَلَمٌ عَلَى

إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَبِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الأٌّخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِينٍ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَئِكَةَ إِنَثاً وَهُمْ شَهِدُونَ * أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَنٌ مُّبِينٌ * فَأْتُواْ بِكِتَبِكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ * وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ * وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ

عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأٌّوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَلِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * سُبْحَنَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ} : أي ما تؤمره، حذفه وهو منصوب، وأصله ما تؤمر به، فحذف الحرف، واتصل الضمير منصوباً، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه. وقال الزمخشري: أو أمرك، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله، وفي ذلك خلاف؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبني للمفعول، فيكون ما بعده مفعولاً لم يسم فاعله، أم يكون ذلك؟ جواب لما محذوف يقدر بعد {وتلة للجبين} ، أي أجز لنا أجرهما، قاله بعض البصريين. وقال الكوفيون: الجواب مثبت، وهو: {وناديناه} على زيادة الواو. وقالت فرقة: هو {وتله} على زيادة الواو. وانتصب نبياً على الحال، وهي حال مقدرة. و {هم} : يجوز أن يكون فصلاً وتوكيداً أو بدلاً. وقرأ الكوفيون، وزيد بن عليّ: {الله ربَّكم وربَّ آبائكم} ، بالنصب في الثلاثة بدلاً من {أحسن} ، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة؛ وباقي السبعة بالرفع، أي هو الله؛ أو يكون استئنافاً مبتدأ وربكم خبره.

{إلا عباد الله المخلصين} : استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، فهو استثناء متصل من ضمير {فكذبوه} ، ولا يجوز أن يكون استثناء من {فإنهم لمحضرون} ، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب، ويكونون {عباد الله المخلصين} ، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً، إذ يصير المعنى: لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب. الضمير في فاستفتهم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَئَامَنُواْ فَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِينٍ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَئِكَةَ إِنَثاً وَهُمْ شَهِدُونَ * أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَنٌ مُّبِينٌ * فَأْتُواْ بِكِتَبِكُمْ} ، قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى. انتهى. ويبعد ما قاله من العطف. وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك: كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً، من أقبح التركيب، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فالقول بالعطف لا يجوز.

سورة ص

والظاهر أن الواو في {وما تعبدون} للعطف، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم، وأن الضمير في عليه عائد على ما. ومن مفعولة بفاتنين، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولاً. يجوز أن تكون الواو في {وما تعبدون} بمعنى مع مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته. فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله: {فإنكم وما تعبدون} ، لأن قوله: {وما تعبدون} ساد مسد الخبر، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون. وقال الزمخشري: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا بكفي كان من أرمي البشر انتهى. وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن أحداً المحذوف مبتدأ. وإلا له مقام معلوم خبره، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد، فقوله: {إلا له مقام معلوم} هو محط الفائدة. وإن تخيل أن {إلا له مقام معلوم} في موضع الصفة، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها، وأنها فارقت غير إذا؛ كانت صفة في ذلك، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وجعل ذلك كقوله: أنا ابن جلا، أي اين رجل جلا؛ وبكفي كان، أي رجل كان، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات. سورة ص ثمان وثمانون آية وهي مكية لات: هي لا، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب، فقالوا: ثمت وربت، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه، وعمل إن في مذهب الأخفش. فإن ارتفع ما بعدها، فعلى الابتداء عنده؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو. وقيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف منه حرف القسم نحو قوله: ألله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل، وهو ابن أبي إسحاق في رواية. وقرأ الحسن أيضاً: صاد، بضم الدال، فإن كان اسماً للسورة، فخبر مبتدأ محذوف، أي هذه ص.

وقرأ الجمهور: ولات حين بفتح التاء ونصب النون، فعلى قول سيبويه، عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره: ولات الحين حين فوات ولا فرار. وعلى قول الأخفش: يكون حين اسم لات، عملت عمل إن نصبت الاسم ورفعت الخبر، والخبر محذوف تقديره: ولات أرى حين مناص. وقرأ أبو السمال: ولات حين، بضم التاء ورفع النون؛ فعلى قول سيبويه: حين مناص اسم لات، والخبر محذوف؛ وعلى قول الأخفش: مبتدأ، والخبر محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: ولات حين، بكسر التاء وجر النون، خبر بعد لات، وتخريجه مشكل، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله: طلبوا صلحنا ولات حين أوانفأجبنا أن لات حين بقاء قال: شبه أوان بإذ في قوله: وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض، لأن الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن. انتهى. هذا التمحل، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة، والبيت النادر في جر ما بعد لات: أن الجر هو على إضمار من، كأنه قال: لات من حين مناص، ولات من أوان صلح، كما جروا بها في قولهم: على كم جذع بيتك؟ أي من جذع في أصح القولين، وكما قالوا: لا رجل جزاه الله خيراً، يريدون: لا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: ليس من رجل قائماً، والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف، على قول الأخفش. وقال بعضهم: ومن العرب من يخفض بلات، وأنشد الفراء: ولتندمن ولات ساعة مندم

وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي ولات حين أوان، حذف حين وأبقى أوان على جره. وقال أبو إسحاق: ولات أواننا، فحذف المضاف إليه، فوجب أن لا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري، أخذه من أبي إسحاق الزجاج، وأنشده المبرد: ولات أوان بالرفع. وعن يسى: ولات حين، بالرفع، مناص: بالفتح. وقال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك، فلعله بنى حين على الضم، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية، وبنى مناص على فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية، وبنى مناص على الفتح مع لات، على تقدير: لات مناص حين، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. انتهى. وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجا ولا فوت. فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل: جاء زيد راكباً، ثم تقول: جاء زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: {فنادوا} . انتهى. قيل: وما زائدة، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم، أو التحقيق، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين. و {هنالك} : ظرف مكان يشار به للبعيد. و {هنالك} ، يحتمل أن يكون في موضع الصفة هم جند، ومهزوم خبره. وقال أبو البقاء: جند مبتدأ، وما زائدة، وهنالك نعت، ومهزوم الخبر. انتهى. وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله.

وقرأ الجمهور: والطير محشورة {عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً وحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأٌّيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ * يدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِى الأٌّرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ

* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأٌّرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْءَايَتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأٌّلْبَبِ * وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّفِنَتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأٌّعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأًّحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الأٌّصْفَادِ * هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ * وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى} ، بنصبهما، عطفاً على الجبال يسبحن، عطف مفعول على مفعول، وحال على حال، كقولك: ضربت هنداً مجردة، ودعداً لابسة. وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري: والطير محشورة، برفعهما، مبتدأ أو خبر، أو جاء محشورة باسم المفعول.

إن هذا أخي {الصِّرَطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} : هو قول المدعي منهما، وأخي عطف بيان عند ابن عطية، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري. و {قليل} : خبره مقدّم، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب، وهم مبتدأ. راكعاً: حال.

ويوم {مَئَابٍ * يدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِى الأٌّرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأٌّرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْءَايَتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأٌّلْبَبِ * وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّفِنَتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأٌّعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأًّحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الأٌّصْفَادِ * هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ * وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَنُ} : يجوز أن يكون منصوب بنسوا، أو بما تعلق به لهم، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل الله. وانتصب {باطلاً} على أنه نعت لمصدر

محذوف، أي خلق باطلاً، أو على الحال، أي مبطلين، أو ذوي باطل، أو على أنه مفعول من أجله. {كتاب أنزلناه} ، وارتفاعه على إضمار متبدأ، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور: {مبارك} ، على الصفة. وقرىء: مبارك، على الحال اللازمة، أي هذا كتاب. اللام في ليدبروا لام كي. المخصوص بالمدح محذوف، التقدير: {نعم العبد} هو، أي سليمان. {إذ عرض} ، الناصب لإذ، قيل: {أواب} ، وقيل: اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية. انتصب حب الخير، قيل: على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت، قاله الفرّاء. وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي، أي أحببت الخيل كحب الخير، أي حباً مثل حب الخير. وقيل: عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مغني عن ذكر ربي. قال ثعلب: يقال للبعير الحسير محب، فالمعنى: قعدت عن ذكر ربي. وحب الخير على هذا مفعول من أجله. {فقال إني أحببت} . فهذه الجملة وجملة {ردوها علي} محكيتان بقال، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه، أي فطفق يمسح مسحاً. والباء {في بالسوق} زائدة، كهي في قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} . وحكى سيبويه: مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة. {تجري: يحتمل أن تكون جملة حالية، أي جارية، وأن تكون تفسيرية لقوله: فسخرنا له الريح} . و {بغير حساب} : في موضع الحال من {عطاؤنا} . وقرأ الجمهور: {وحسن مآب} ، بالنصب عطفاً على {الزلفى} . وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: بالرفع، ويقفان على {لزلفى} ، ويبتدآن {وحسن مآب} ، وهو مبتدأ، خبره محذوف تقديره: وحسن مآب له. وأيوب: عطف بيان أو بدل. قال الزمخشري: وإذ بدل اشتمال منه. ورحمة، وذكرى: مفعولان لهما، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه.

واذكر عبادنا إبراهيم، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة، عبدنا على الإفراد، وإبراهيم بدل منه، أو عطف بيان. والجمهور على الجمع، وما بعده من الثلاثة بدل أو عطف بيان. وقرأ عبد الله، والحسن، وعيسى، والأعمش: الأيد بغير ياء، فقيل: يراد الأيدي حذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت أل تعاقب التنوين، حذفت الياء معها، كما حذفت مع التنوين، وهذا تخريج لا يسوغ، لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر.

وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وهشام: بخالصة، بغير تنوين، أضيفت إلى ذكرى. وقرأ باقي السبعة بالتنوين، وذكرى {مَئَابٍ * وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاٌّوْلِى الأٌّلْبَبِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأٌّيْدِى وَالأٌّبْصَرِ * إِنَّآ أَخْلَصْنَهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأٌّخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأٌّخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ * جَنَّتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأٌّبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَصِرَتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ * هَذَا وَإِنَّ لِلطَّغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأٌّشْرَارِ *

أَتَّخَذْنَهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَرُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأٌّعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّى خَلِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَفِرِينَ * قَالَ يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَلِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لائغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأّمْلأّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} بدل من {بخالصة} . وقرأ الأعمش، وطلحة: بخالصتهم، و {أخلصناهم} : جعلناهم لنا خالصين وخالصة، يحتمل، وهو الأظهر، أن يكون اسم

فاعل به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها، ويحتمل أن كون مصدراً، كالعاقبة، فيكون قد حذف منه الفاعل، أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار، فيكون ذكرى مفعولاً، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، أو يكون الفاعل ذكرى، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والدار في كل وجه من موضع نصب بذكرى، وذكرى وعندنا ظرف معمول لمحذوف دل عليه المصطفين، أي وأنهم مصطفون عندنا، أو معمول للمصطفين، وإن كان بأل، لأنهم يتسمحون في الظرف والمجرور ما لا يتسمحون في غيرهما، أو على التبيين، أي أعني عندنا، ولا يجوز أن كون عندنا في موضع الخبر، ويعني بالعندية: المكانة، ولمن المصطفين: في موضع خبر ثان لوجود اللام، لا يجوز أن زيداً قائم لمنطلق.

وقرأ الجمهور: جنات {الأٌّخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ * جَنَّتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأٌّبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَصِرَتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ * هَذَا وَإِنَّ لِلطَّغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأٌّشْرَارِ * أَتَّخَذْنَهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَرُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} بالنصب، وهو بدل، فإن كان عدن علماً، فبدل معرفة من نكرة؛ وإن كان نكرة، فبدل نكرة من نكرة.

وقال الزمخشري: {جنات عدن} معرفة لقوله: {جنات عدن التي وعد الرحمن} ، وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب، ومفتحة حال، والعامل فيها ما في المتقين من معنى لفعل. وفي مفتحة ضمير الجنات، والأبواب بدل من الضمير تقديره: مفتحة هي لأبواب لقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. انتهى. ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله: {جنات عدن التي} ، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن، ولا يتعين ما ذكره، إذ يجوز أن تكون التي بدلاً من جنات عدن. ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء، فتلي العوامل، ولا يلزم أن تكون صفة؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز، لأن النحويين في ذلك على مذهبين: أحدهما: أن ذلك لا يكون إلا في المعارف، فلا يكون عطف البيان إلا تابعاً لمعرفة، وهو مذهب البصريين. والثاني: أنه يجوز أن يكون في النكرات، فيكون عطف البيان تابعاً لنكرة، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم الفارسي. وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف. وقد أجاز ذلك في قوله: {مقام إبراهيم} ، فأعربه عطف بيان تابعاً لنكرة، وهو {آيات بينات} ، و {مقام إبراهيم} معرفة، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران. وأما قوله: وفي مفتحة ضمير الجنات، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولاً لم يسم فاعله. وجاء أبو علي فقال: إذا كان كذلك، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن. من الحالية أن أعرب مفتحة حالاً، أو من النعت أن أعرب نعتاً لجنات عدن، فقال: في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها، أو النعت بمنعوته، والأبواب بدل. وقال: من أعرب الأبواب مفعولاً، لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره: الأبواب منها. وألزم أبو علي البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير، إما ملفوظاً به، أو مقدراً. وإذا كان الكلام محتاجاً إلى

تقديره واحد، كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين. وأما الكوفيون، فالرابط عندهم هو أل لمقامه مقام الضمير، فكأنه قال: مفتحة لهم أبوابها. وأما قوله: وهو من بدل الاشتمال، فإن عنى بقوله: وهو قوله اليد والرجل، فهو وهم، وإنما هو بدل بعض من كل. وإن عنى الأبواب، فقد يصح، لأن أبواب الجنات ليست بعضاً من الجنات. وأما تشبيهه ما قدره من قوله: مفتحة هي الأبواب، بقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن، كما أن اليد والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد. وقال أبو إسحاق: وتبعه ابن عطية: مفتحة نعت لجنات عدن. وقال الحوفي: مفتحة حال، والعامل فيها محذوف يدل عليه المعنى، تقديره: يدخلونها. وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع، وأبو حيوة: جنات عدن مفتحة، برفع التاءين: مبتدأ وخبر، أوكل منهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن هي مفتحة. {هذا وإن للطاغنين لشر مآب} ، قال الزجاج: أي الأمر هذا، وقال أبو علي: هذا للمؤمنين، وقال أبو البقاء: مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ. {هذا} في موضع رفع مبتدأ خبره {جهنم} ، {وغساق} ، أو خبر مبتدأ محذوف، أي العذاب هذا، وحميم خبر مبتدأ، أو في موضع نصب على الاشتغال، أي ليذوقوا. {هذا فليذوقوه حميم: أي هو حميم، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي منه حميم ومنه غساق، كما قال الشاعر: حتى ما إذا أضاء الصبح في غلسوغودر البقل ملوي ومحصود أي: منه ملوى ومنه محضصود، وهذه الأعاريب مقولة منقولة. وقيل: هذا مبتدأ، وفليذوقوه الخبر، وهذا على مذهب الأخفش في إجازته: زيد فاضربه، مستدلاً بقول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم

وقرأ الجمهور: وآخر} على الإفراد، فقيل: مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولهم عذاب آخر. وقيل: خبره في الجملة، لأن قوله: {أزواج} مبتدأ، و {من شكله} خبره، والجملة خبر. وآخر، وقيل: خبره أزواج، ومن شكله في موضع الصفة، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد من حيث هو درجات، ورتب من العذاب، أو سمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل. وقال الزمخشري: وآخر، أي وعذاب آخر، أو مذوق آخر؛ وأزواج صفة آخر، لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة، وهي: حميم وغساق وآخر من شكله. انتهى. وهو إعراب أخذه من الفراء. مر حباً معناه: ائت رحباً وسعة لا ضيقاً، وهو منصوب بفعل يجب إضماره. وقرأ النحويان، وحمزة: اتخذناهم وصلاً، فقال أبو حاتم، والزمخشري، وابن عطية: صفة لرجال. قال الزمخشري: مثل قوله: {كنا نعدهم من الأشرار} . وقال ابن الأنباري: حال، أي وقد اتخذناهم. أم إن كان اتخذناهم استفهاماً إما مصرحاً بهمزته كقراءة من قرأ كذلك، أو مؤولاً بالاستفهام، وحذفت الهمزة للدلالة. فالظاهر أنها متصلة لتقدم الهمزة. وأن اتخذناهم ليس استفهاماً، فأم منقطعة، ويجوز أن تكون منقطعة أيضاً مع تقدم الاستفهام، يكون كقولك: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ واستفهمت عن زيد، ثم أضربت عن ذلك واستفهمت عن عمرو، فالتقدير: بل أزاغت عنهم الأبصار. وقرأ الجمهور: {تخاصم} بالرفع مضافاً إلى أهل. قال ابن عطية: بدل من {لحق} . وقال الزمخشري: بين ما هو فقال: تخاصم منوناً، أهل رفعاً بالمصدر المنون، ولا يجيز ذلك الفراء، ويجيزه سيبويه والبصريون. وقرأ ابن أبي عبلة: تخاصم، أهل، بنصب الميم وجر أهل. قال الزمخشري: على أنه صفة لذلك، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. وفي كتاب اللوامح: ولو نصب تخاصم أهل النار، لجاز على البدل من ذلك. وقرأ ابن السميفع: تخاصم: فعلاً ماضياً، أهل: فاعلاً.

وبالملأ متعلق بعلم، وإذ منصوب به. وقال الزمخشري: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وإذ قال {الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأٌّعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ إِنِّى خَلِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَفِرِينَ * قَالَ يإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَلِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لائغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأّمْلأّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} بدل من {إذ يختصمون} .

{إن يوحي إليّ: أي ما يوحى إليّ، إنما أنا نذير: أي للإنذار، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميراً يدل عليه، المعنى، أي أن يوحى إليّ هو، أي ما يوحى إلا الإنذار، وأقيم إلى مقامه، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله، أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار. فظاهره الجملة التي هي إنما أنا نذير مبين، ثم قال: وهو أن أقول لكم إني نذير، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم، وأن وما بعده في موضع نصب، وعلى قوله: إلا هذا القول، يكون في موضع رفع فيتعارضا. وتقدم أن، إذ قال بدل من: إذ يختصمون. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد} ، وفي الأعراف: {ما منعك أن لا تسجد} ، فدل أن تسجد هنا، على أن لا في أن لا تسجد زائدة، والمعنى أيضاً يدل على ذلك، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود. وقرأ الجمهور: {أستكبرت، بهمزة الاستفهام، فأم متصلة عادلت الهمزة. قال ابن عطية: وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين، وإنما تكون معادلة إذا دخلنا على فعل واحد، كقولك: أزيد قام أم عمرو؟ وقولك: أقام زيد أم عمرو؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية، فليست معادلة. ومعنى الآية: أحدث لك الاستكبار الآن، أم كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك؟ وهذا على جهة التوبيخ. انتهى. وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح. قال سيبويه: وتقول أضلابت زيداً أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن، لأنك إنما تسأل عن أحدهما، لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما، كأنك قلت: أي ذلك كان؟ انتهى. فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين. وقرأت فرقة، منهم ابن كثير ابن كثير وغيره: استكبرت، بصلة الألف، وهي قراءة أهل مكة، وليست في مشهور ابن كثير، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها، كقوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان

واحتمل أن يكون إخباراً خاطبه بذلك على سبيل التقريع، وأم تكون منقطعة، والمعنى: بل أنت من العالين عند نفسك استخفافاً به. وقرأ الجمهور: فالحق والحق، بنصهما. أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقوله: أمانة الله لأقومن} ، والمقسم عليه {لأملأن} . {والحق أقول} : اعتراض بين القسم وجوابه. قال الزمخشري: ومعناه: ولا أقول إلا الحق. انتهى، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر. والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله: {إن الله هو الحق المبين} ، أو الذي هو نقيض الباطل. وقيل: فالحق منصوب على الإغراء، أي فالزموا الحق، ولأملأن: جواب قسم محذوف. وقال الفراء: هو على معنى قولك: حقاً لا شك، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء، أي لأملأن جهنم حقاً. انتهى. وهذا المصدر الجائي توكيداً لمضمون الجملة، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جموداً محضاً. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة، قال: والمبتدأ يكون ضميراً نحو: هو زيد معروف، وهو الحق بيننا، وأنا الأمير مفتخراً؛ ويكون ظاهراً كقولك: زيد أبوك عطوفاً، وأخوك زيد معروفاً. انتهى. وقالت العرب: زيد قائم غير ذي شك، فجاءت الحال بعد جملة، والخبر نكرة، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية. وقيل: التقدير فالحق الحق، أي افعله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعمش: بالرفع فيهما، فالأول مبتدأ خبره محذوف، قيل: تقديره فالحق أنا، وقيل: فالحق مني، وقيل: تقديره فالحق قسمي، وحذف كما حذف في: لعمرك لأقومن، وفي: يمين الله أبرح قاعداً، أي لعمرك قسمي ويمين الله قسمي، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه: لأملأن. وأما {والحق أقول} فمبتدأ أيضاً، خبره الجملة، وحذف العائد، كقراءة ابن عباس: {وكلاًّ وعد

سورة الزمر

الله الحسنى} . وقال ابن عطية: أما الأول فرفع على الابتداء، وخبره في قوله: {لأملأن} ، لأن المعنى: أن أملأ. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن لأملأن جواب قسم، ويجب أن يكون جملة، فلا يتقدر بمفرد. وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدري، والفعل حتى ينحل إليهما، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ، حكم أنه خبر عنه. وقرأ الحسن، وعيسى، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر: بجرهم، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره: فوالحق، والحق معطوف عليه، كما تقول: والله والله لأقومن، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه. وقال الزمخشري: {والحق أقول} : أي ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع، وهو وجه دقيق حسن. انتهى. وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصباً أو رفع أو جراً. وقرأ مجاهد، والأعمش: بخلاف عنهما؛ وأبان بن تغلب، وطلحة في رواية، وحمزة، وعاصم عن المفضل، وخلف، والعبسي: برفع فالحق ونصب والحق، وتقدم إعرابهما. والظاهر أن قوله: {أجمعين} تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه، أي منك ومن تابعتك أجمعين. وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيداً للضمير الذي في منهم، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس. سورة الزمر خمسة وسبعون آية وهي مكية .

وقال الفراء والزجاج: تنزيل مبتدأ، و {من الله} الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل؛ وأقول إنه خبر، والمبتدأ هو ليعود على قوله: {إن هو إلا ذكر للعالمين} ، كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو فقيل: هو تنزيل الكتاب. وقال الزمخشري: أو غير صلة، يعني من الله، كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، وهو على هذا خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب. هذا من الله، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة. انتهى. ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيها معنى الإشارة، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفاً، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزذق: وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى: تنزيل بالنصب، أي اقرأ والزم. {فاعبد الله} ، فالفاء فيه للربط، كما تقول: أحسن إليك زيد فاشكره. وقرأ الجمهور: الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع فاعلاً بمخلصاً، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين، أي الدين منك، أو يكون أل عوضاً من الضمير، أي دينك. وأما من جعل مخلصاً حالاً من العابد، وله الدين مبتدأ وخبر، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصاً، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء.

{والذين اتخذوا} : مبتدأ، والظاهر أنهم المشركون، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله: {ما نعبدهم} ، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا: ما نعبد تلك الأولياء {إلا ليقربونا إلى الله زلفى} ، واحتمل أن يكون الخبر: {إن الله يحكم بينهم} ، وذلك القول المحذوف في موضع الحال، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر {إن الله يحكم} ، وقالوا: المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين، فلا يكون له موضع من الإعراب، وكأنه من بدل الاشتمال. أجاز الزمخشري أن يكون {والذين اتخذوا} بمعنى المتخذين، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وأولياء مفعول ثان، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر.

نسي ما كان يدعو {الصُّدُورِ * وَإِذَا مَسَّ الإِنسَنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَبِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌءَانَآءَ الَّيْلِ سَجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الأٌّخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأٌّلْبَبِ * قُلْ يعِبَادِ الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأًّنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى * فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يعِبَادِ فَاتَّقُونِ} : أي ترك، والظاهر أن ما بمعنى الذي، أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: ما بمعنى من، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره. وقيل: ما مصدرية، أي نسي كونه يدعو. وقيل: تم الكلام عند قوله: {نسي} ، أي نسي ما كان فيه من الضر. وما نافية، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله مقصوراً من قبل الضرر.

فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره: أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟ قال معناه الأخفش، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب، وهو أن يحذف المعادل الأول. واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل، والهمزة والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك. وقال النحاس: أم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى. وقرأ الجمهور: {ساجداً وقائماً} ، بالنصب على الحال؛ والضحاك: برفعهما إما على النعت لقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} . والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا. وقال السدي: في هذه من تمام حسنة، أي ولو تأخر لكان صفة، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال.

أن يعبدوها {فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأٌّلْبَبِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأٌّرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَماً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لاٌّوْلِى الأٌّلْبَبِ * أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} : أي عبادتها، وهو بدل اشتمال. و {الذين} : وصف لعباد. وقيل: الوقف على عباد، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده.

والظاهر أنها جملة مستقلة، ومن موصولة مبتدأ، والخبر محذوف، فقيل تقديره: يتأسف عليه، وقيل: يتخلص منه. وقدره الزمخشري: فأنت تخلصه، قال: حذف لدلالة أفأنت تنفذ عليه؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها، فقال: التقدير: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب، وهو قول انفرد به فيما علمناه. والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة، لكن الهمزة، لما كان لها صدر الكلام، قدمت، فالأصل عندهم: فأمن حق عليه، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله: {أفأنت تنقذ من في النار} ، استفهام توقيف، وقدم فيه الضمير إشعاراً بأنك لست تقدر أن تنفذه من النار، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله. وذهبت فرقة، منهم الحوفي والزمخشري، إلى أن من شرطية، وجواب الشرط أفأنت، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار، وهو ظاهر، موضع المضمر، إذ كان الأصل تنقذه، وإنما أظهر تشهيراً لحالهم وإظهاراً لخسة منازلهم. قال الحوفي: وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيداً، ولولا طوله، لم يجز الإتيان بها، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام: أفأنت تنقذه؟ انتهى. وعلى هذا القول، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس: هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط؟ وعلى تقدير الزمخشري: لم تدخل الهمزة على اسم الشرط، فلم يجتمع استفهام وشرط، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده، وهو: أأنت مالك أمرهم؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام. وانتصب {وعد الله} على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، إذ تضمنت معنى الوعد.

{أفمن شرح الله صدره للإسلام} : نزلت في حمزة، وعلى ومن مبتدأ، وخبره محذوف يدل عليه {فويل للقاسية قلوبهم} تقديره: كالقاسي المعرض عن الإسلام. ووكتاباً {مُّبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَباً مُّتَشَبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الأٌّخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَفِرِينَ} بدل من {أحسن الحديث} . وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون حالاً. انتهى. وكان بناء على أن {أحسن الحديث} معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل، إذا أضيف إلى معرفة، فيه خلاف. فقيل: إضافة محضة، وقيل: غير محضة.

وقرأ الجمهور: {مثاني} ، بفتح الياء؛ وهشام، وابن عامر، وأبو بشر: بسكون الياء، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف، واحتمل أن يكون منصوباً، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. وخبر من محذوف قدره الزمخشري: كمن أمن العذاب، وابن عطية: كالمنعمين في الجنة. وانتصب {قرآنا عربياً} على الحال، وهي حال مؤكدة، والحال في الحقيقة هو عربياً، وقرآنا توطئة له. وقيل: انتصب على المدح. وقال الكسائي: انتصب رجلاً على إسقاط الخافض، أي مثلاً لرجل، أو في رجل فيه، أي في رقه مشتركاً، وفيه صلة لشركاء. وقرىء: ورجل سالم، برفعهما. وقال الزمخشري: أي وهناك رجل سالم لرجل. انتهى، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ، لأنه موضع تفصيل، إذ قد تقدم ما يدل عليه، فيكون كقول امرىء القيس: إذا ما بكى من خلفها انحرفت لهبشقّ وشق عندنا لم يحوّل وانتصب مثلاً على التمييز المنقول من الفاعل، إذ التقدير: هل يستوي مثلهما؟ ويجوز أن يريد: والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهو الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. انتهى. وقوله: وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه. استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه، وإنما هو متصل، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه، كما أراده بموسى وقومه: أي لعل قومه يهتدون، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ. فالمترجى هداية قومه، لا هدايته، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً. وقوله: ويجوز إلخ، فيه توزيع الصلة، والفوج هو الموصول، فهو كقوله: جاء الفريق الذي شرف وشرّف. والأظهر عدم التوزيع، بل المعطوف على الصلة، صلة لمن له الصلة الأولى.

والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل، وبه قرأ الجمهور: وإذا كفر أسوأ أعمالهم، فتكفير ما هو دونه أحرى. وقيل: أفعل ليس للتفضيل، وهو كقولك: الأشج أعدل بني مروان، أي عادل، فكذلك هذا، أي سيء الذين عملوا. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم، وحامد بن يحيى، عن ابن كثير: أسوأ هنا؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء، ولا تفضيل فيه. والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل. وأرأيتم هنا جارية على وضعها، تعدت إلى مفعولها الأول، وهو ما يدعون. وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية، وفيها العائد على ما، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً. .

وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في وإذا ذكر؟ قلت: العامل في إذا الفجائية تقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا الاستبشار. وقال الحوفي: إذا هم يستبشرون، إذا مضافة إلى الابتلاء والخبر، وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، والتقدير: إذا كان ذلك هم يستبشرون، فيكون هم يستبشرون العامل في إذا، المعنى: إذا كان ذلك استبشروا. انتهى. أما قول الزمخشري: فلا أعلمه من قول من ينتمي للنحو، وهو أن الظرفين معمولان لعامل واحد، ثم إذا الأولى ينتصب على الظرف، والثانية على المفعول به. وأما قول الحوفي فبعيد جدًّا عن الصواب، إذ جعل إذا مافة إلى الابتداء والخبر، ثم قال: وإذا مكررة للتوكيد وحذف ما تضاف إليه، فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هم يستبشرون؟ وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحدث فيه، وقد تقدم لنا في مواضع إذا التي للمفاجأة جواباً لإذا الشرطية، وقد قررنا في علم النحو الذي كتبناه أن إذا الشرطية ليست مضافة إلى الجملة التي تليها، وإن كان مذهب الأكثرين، وأنها ليست بمعمولة للجواب، وأقمنا الدليل على ذلك، بل هي معمولة للفعل الذي يليها، كسائر أسماء الشرطية الظرفية، وإذا الفجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط، كالفاء؛ وهي معمولة لما بعدها. إن قلنا إنها ظرف، سواء كان زماناً أو مكاناً. ومن قال إنها حرف، فلا يعمل فيها شيء، فإذا الأولى معمولة لذكرهم، والثانية معمولة ليستبشرون. وما فيما كسبوا، يحتمل أن تكون بمعنى الذي، أي سيئات أعمالهم، وأن تكون مصدرية، أي سيئات كسبهم. والظاهر أن ما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية.

أن تقول {يَسْتَهْزِءُونَ * فَإِذَا مَسَّ الإِنسَنَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَأَصَبَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأّيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ يعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَآءَتْكَءَايَتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَفِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَلِقُ

كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُل شَىْءٍ وَكِيلٌ * لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} : مفعول من أجله، فقدره ابن عطية: أي أنيبوا من أجل أن تقول. وقال الزمخشري: كراهة أن تقول، والحوفي: أنذرناكم مخافة أن تقول. وما في ما فرطت مصدرية، أي على تفريطي في طاعة الله. وقال الزمخشري: ومحل وإن كنت النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي فرطت في حال سخريتي. انتهى. ويظهر أنه استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا، لا حال. انتصب {فأكون} على جواب التمني الدال عليه لو، أو على كرة، إذ هو مصدر، فيكون مثل قوله: فما لك منها غير ذكرى وحسرةوتسأل عن ركبانها أين يمموا وقول الآخر: للبس عباءة وتقر عينيأحب إليّ من لبس الشفوف والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني، كانت أن واجبة الإضمار، وكان الكون مترتباً على حصول المتمني، لا متمني. وإذا كانت للعطف على كرة، جاز إظهار أن وإضمارها، وكان الكون متمني. {بلى} : هو حرف جواب لمنفي، أو لداخل عليه همزة التقرير. والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر، وأن {وجوههم مسودة} جملة في موضع الحال، وفيها رد على الزمخشري، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية المشتملة على ضمير ذي الحال شاذ، وتبع في ذلك الفراء، وقد أعرب هو هذه الجملة حالاً، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك، وأجاز أيضاً أن تكون من رؤية القلب في موضع المفعول الثاني، وهو بعيد، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب. وقرىء: وجوههم مسودّة بنصبهما، فوجوههم بدل بعض من كل.

وتفسير المفازة قوله: {لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون} ، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ قيل: لا يمسهم السوء. ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة، لأنه سببها. فإن قلت: {لا يمسهم} ، ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأول فلا محل له، لأنه كلام مستأنف، وأما على الثاني فمحله النصب على الحال. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {والذين كفروا} ؟ قلت: بقوله: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم، والذين كفروا، هم الخاسرون} واعترض بينهما: بأن خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، لا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين منها وما يستحقون عليها من الجزاء، وأن {له مقاليد السموات والأرض} . قال أبو عبد الله الرازي: وهذا عندي ضعيف من وجهين: الأول: أن وقوع الفاصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد. والثاني: أن قوله تعالى: {وينجي الله الذين اتقوا} : جملة فعلية، وقوله: {والذين كفروا} : جملة اسمية، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز. وقوله: وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، كلام من لم يتأمل لسان العرب، ولا نظر في أبواب الاشتغال. قال الأخفش: تأمروني ملغاة، وعنه أيضاً: أفغير نصب بتأمروني لا بأعبد، لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها، إذ الموصول منه حذف فرفع، كما في قوله: ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى والصلة مع الموصول في موضع النصب بدلاً منه، أي أفغير الله تأمرونني عبادته؟ والمعنى: أتأمرونني بعبادة غير الله؟ وقال الزمخشري: أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله: تأمروني أعبد، لأنه في معنى تعبدون وتقولون لي: اعبده، وأفغير الله تقولون لي اعبد، فكذلك أفغير الله تقولون لي أن اعبده، وأفغير الله تأمروني أن أعبد. والدليل على صحة هذا الوجه قراءات من قرأ أعبد بالنصب، يعني: بنصب الدال بإضمار أن.

والجلالة منصوبة بقوله: فاعبد على حدّ قولهم: زيد فاضرب، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء. وقال الفراء: إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله، كأنه يقدر: اعبد الله فاعبده. وانتصب جميعاً على الحال. قال الحوفي: والعامل في الحال ما دل عليه قبضته انتهى. ولا يجوز أن يعمل فيه قبضته، سواء كان مصدراً، أم أريد به المقدار. وقرأ الحسن: قبضته بالنصب. قال ابن خالويه: بتقدير في قبضته، هذا قول الكوفيين. وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك، كما لا يقال: زيد داراً انتهى. وقال الزمخشري: جعلها ظرفاً مشبهاً للوقت بالمبهم. وقرأ عيسى، والجحدري: مطويات بالنصب على الحال، وعطف والسموات على الأرض، فهي داخلة في حيز والأرض، فالجميع قبضته. وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز: زيد قائماً في الدار، إذ أعرب والسموات مبتدأ، وبيمينه الخبر، وتقدمت الحال والمجرور، ولا حجة فيه، إذ يكون والسموات معطوفاً على والأرض، كما قلنا، وبيمينه متعلق بمطويات.

واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، كما أقيم في اوول، وأن يكون في موضع رفع مقاماً مقام الفاعل، كما صرح به في قوله: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة {الْخَسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّكِرِينَ * وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأٌّرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَالسَّمَوَتُ مَطْوِيَّتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَنَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَوَتِ وَمَن فِى الأٌّرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأٌّرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَبُ وَجِىءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا} .

سورة غافر

وقرأ زيد بن علي: قياماً بالنصب على الحال، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية، وهي حال لا بد منها، إذ هي محط الفائدة، إلا أن يقدر الخبر محذوفاً، أي فإذا هم مبعوثون، أي موجودون قياماً. وأن نصبت قياماً على الحال، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف. إن قلنا الخبر محذوف، وأن لا عامل، فالعامل هو العامل في الظرف، فإن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه، فتقديره: فبالحضرة هم قياماً؛ وإن كان ظرف زمان، كما ذهب إليه الرياشي، فتقديره: ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه، هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة؛ وإن كانت إذا حرفاً، كما زعم الكوفيون، فلا بد من تقدير الخبر، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر، ويكون ينظرون عاملاً في الحال. جواب إذا: فتحت أبوابها. إذا شرطية وجوابها قال الكوفيون: وفتحت، والواو زائدة؛ وقال غيره محذوف. قال الزمخشري: وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد خالدين. انتهى. وقدره المبرد بعد خالدين سعدوا. وقيل الجواب: {وقال لهم خزنتها} ، على زيادة الواو، قيل: {حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها} . ومن جعل الجواب محذوفاً، أو جعله: {وقال لهم} ، على زيادة الواو؛ وجعل قوله: وفتحت جملة حالية، أي وقد فتحت أبوابها لقوله: {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} . قال الأخفش: من زائدة، أي حافين حول العرش؛ وقيل: هي لابتداء الغاية. سورة غافر خمسة وثمانون آية وهي مكية وابن إسحاق وعيسى: بفتحها، وخرج على أنها حركة التقاء الساكنين، وكانت فتحة طلباً للخفة كأين، وحركة إعراب على انتصابها بفعل مقدر تقديره: اقرأ حم. أعربا حاميم، ومنعت الصرف للعلمية، أو العلمية وشبه العجمة، لأن فاعيل ليس من أوزان آبنية العرب، وإنما وجد ذلك في العجم، نحو: قابيل وهابيل.

فإن كانت حم اسماً للسورة، كانت في موضع رفع على الابتداء، وإلا فتنزيل مبتدأ، ومن الله الخبر، أو خبر ابتداء، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل. والعزيز العليم: صفتان دالتان على المبالغة في القدرة والغلبة والعلم، وهما من صفات الذات. وقال الزجاج: غافر وقابل صفتان، وشديد بدل. انتهى. وإنما أعرب {شديد العقاب} بدلاً، لأنه من باب الصفة المشبهة، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة، إذا أضيف إلى معرفة، جاز أن ينوي بإضافته التمحض، فيتعرف وينعت به المعرفة، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة، فإنه لا يتعرف. وحكى صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة، قال: وذلك خطأ عند البصريين، لأن حسن الوجه نكرة، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل. وقال أبو الحجاج الأعلم: لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف، لأن الإضافة لا تمنع منه. انتهى وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين.

وقد جعل بعضهم {غافر الذنب} وما بعده أبدالاً، اعتباراً بأنها لا تتعرف بالإضافة، كأنه لاحظ في غافر وقابل زمان الاستقبال. وقيل: غافر وقابل لا يراد بهما المضي، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين، أي إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا. قال الزمخشري: جعل الزجاج {شديد العقاب} وحده بدلاً بين الصفات فيه نبو ظاهر، والوجه أن يقال: لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها أنها من الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل، ولا نبو في ذلك، لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل. وقوله: فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي، لأنه جعل فقد أذنت جواب لما، وليس من كلامهم: لما قام زيد فقد قام عمرو، وقوله: بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال، وأما بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها، أو منعه، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر، وذلك في قول الشاعر: فإلى ابن أم أناس ارحل ناقتيعمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف ملك إذا نزل الوفود ببابهعرفوا موارد مزنه لا تنزف قال: فملك بدل من عمرو، بدل نكرة من معرفة، قال: فإن قلت: لم لا يكون بدلاً من ابن أم أناس؟ قلت: لأنه قد أبدل منه عمرو، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى، لأنه قد طرح. انتهى. فدل هذا على أن البدل لا يتكرر، ويتحد المبدل منه؛ ودل على أن البدل من البدل جائز.

وأجاز مكي في غافر وقابل البدل حملاً على أنهما نكرتان لاستقبالهما، والوصف حملا على أنهما معرفتان لمضيهما. وقال أبو عبد الله الرازي: لانزاع في جعل غافر وقابل صفة، وإنما كانا كذلك، لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار، وكذلك شديد العقاب تفيد ذلك، لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد، فمعناه: كونه بحيث شديد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبداً، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن. انتهى. وهذا كلام من لم يقف على علم النحو، ولا نظر فيه، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله: {من لدن حكيم عليم} ، ومليك مقتدر من قوله: {عند مليك مقتدر} ، معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء، وهذا لا يذهب إليه مبتدىء في علم النحو، فضلاً عمن صنف فيه، وقدم على تفسير كتاب الله. وتلخص من هذا الكلام المطوّل أن غافر الذنب وما عطف عليه وشديد العقاب أوصاف، لأن المعطوف على الوصف وصف، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال، لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع. أو غافر وقابل وصفان، وشديد بدل لمعرفة ذينك وتنكير شديد. {أنهم} : بدل من {كلمة ربك} ، فهي في موضع رفع، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة.

ربنا وسعت كل شيء رحمتة وعلماً {النَّارِ * الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَنِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ * ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْءَايَتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن} : أي يقولون: ربنا واحتمل هذا المحذوف بياناً ليستغفرون، فيكون في محل رفع، وأن يكون حالاً، فيكون في موضع نصب. وانتصب رحمة وعلماً على التمييز، والأصل: وسعت رحمتك كل شيء، وعلمك كل شيء.

والظاهر عطف ومن على الضمير في وأدخلهم، إذ هم المحدث عنهم والمسئول لهم. وقال الفراء، والزجاج: نصبه من مكانين: إن شئت على الضمير في {وأدخلهم} ، وإن شئت على الضمير في {وعدتهم} . والتنوين في يومئذ تنوين العوض، والمحذوف جملة عوض منها التنوين، ولم تتقدم جملة يكون التنوين عوضاً منها، كقوله: {فلولا إذ بلغت الحلقوم} ، {وأنتم حينئذ} أي حين إذ بلغت الحلقوم، فلا بد من تقدير جملة يكون التنوين عوضاً منها كقوله، يدل عليها معنى الكلام، وهي {ومن تق السيئات} : أي جزاءها يوم إذ يؤاخذ بها {فقد رحمته} . ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ. واللام في {لمقت} لام الابتداء ولام القسم، ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل، التقدير: لمقت الله إياكم، أو لمقت الله أنفسكم، وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله: {أكبر من مقتكم أنفسكم} . وقال الزمخشري: وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول. وأخطأ في قوله: {وإذ تدعون} منصوب بالمقت الأول، لأن المقت مصدر، ومعموله من صلته، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته، وقد أخبر عنه بقوله: {أكبر من مقتكم أنفسكم} ، وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفي على المبتدئين، فضلاً عمي تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعجم. ولما كان الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، لا يجوز قدرنا العامل فيه مضمر، أي مقتكم إذ تدعون، وشبيهة قوله تعالى: {إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر} . قدروا العامل برجعه {يوم تبلى السرائر} للفصل بـ {لقادر} بين المصدر ويوم.

ورفيع: خبر مبتدأ محذوف. وقال الزمخشري: ثلاثة أخبار مترتبة على قوله: الذي يريكم {يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَفِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَرِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأٌّزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَظِمِينَ مَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأٌّعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِى الأٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الأٌّرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفاً وتتكيراً. انتهى. أما ترتبها على قوله: {هو الذي يريكم} ، فبعيد كطول الفصل، وأما كونها أخباراً لمبتدأ محذوف، فمبني على جواز تعدد الأخبار، إذا لم تكن في معنى خبر واحد، والمنع اختيار أصحابنا. وقرىء: رفيع بالنصب على المدح، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع، فيكون الدرجات مفعولة، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة. وبه فسرا بن

سلام، أو عبر بالدرجات عن السموات، أرفعها سماء، والعرش فوقهنّ. وبه فسر ابن جبير، واحتمل أن يكون رفيع فعيلاً من رفع الشيء علا فهو رفيع، فيكون من باب الصفة المشبهة. ويوماً بدل من يوم التلاق، وكلاهما ظرف مستقبل. والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية، لا يجوز: أجيئك يوم زيد ذاهب، أجراء له مجرى إذا، فكما لا يجوز أن تقول: أجيئك إذا زيد ذاهب، فكذلك لا يجوز هذا. وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك، فيتخرج قوله: {يوم هم بارزون} على هذا المذهب. وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة، والدلائل مذكورة في علم النحو. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف، والعامل فيه قوله: {لا يخفى} ، وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، كيومئذ. وقال الشاعر: على حين عاتبت المشيب على الصبا وكقوله تعالى: {هذا يوم ينفع} . وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن، كما تقول: جئت يوم زيد أمير، فلا يجوز البناء. انتهى. يعني أن ينتصب على الظرف قوله: {يوم هم بارزون} . وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، فالبناء ليس متحتماً، بل يجوز فيه البناء والإعراب. وأما تمثيله بيوم ينفع، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب، ومذهب الكوفيين جواز النباء والإعراب فيه. وأما إذا أضيف إلى جملة سمية، كما مثل من قوله: جئت يوم زيد أمير، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب، كما ذكر، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء. وذهب إليه بعض أصحابنا، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك. ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء، وهذا قول لم يذهب إليه أحد، فهو وهم. انتصب كاظمين على الحال.

ويجوز أن يكون حالاً عن قوله: أي وانذرهم مقدرين. وقال ابن عطية: كاظمين حال، مما أبدل منه قوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار مهطعين} : أراد تشخص فيه أبصارهم، وقال الحوفي: القلوب رفع بالإبتداء، ولدى الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار. وقال أبو البقاء: كاظمين حال من القلوب، لأن المراد أصحابها. انتهى. {ما للظالمين من حميم} : أي محب مشفق، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع، فاحتمل أن يكن في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع على الموضع. وجاز أن يكون فينظروا مجزوماً عطفاً على يسيروا وأن يكون منصوباً على جواب النفي، كما قال: ألم تسأل فتخبرك الرسوم وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، وحمل الزمخشري هم على أن يكون فصلاً ولا يتعين، إذ يجوز أن يكون هم توكيداً لضمير كانوا. {وآثاراً في الأرض} : معطوف على قوة. وجعل آل فرعون متعلقاً بقوله: يكتم إيمانه {الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَدِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَهِرِينَ فِى الأٌّرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن} ، لا في موضع الصفة لرجل، كما يدل عليه الظاهر، وهذا فيه بعد.

وقال الزمخشري: ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً، أي وقت أن يقول، والمعنى: أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روبة ولا فكر في أمره؟ انتهى. وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز، تقول: جئت صياح الديك، أي وقت صياح الديك، ولا أجيء أن يصيح الديك، نص على ذلك النحاة، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحاً به لا مقدراً، وأن يقول ليس مصدراً مصرحاً به. وانتصب ظاهرين على الحال، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور، وذو الحال هو ضمير لكم.

وجوزوا في الذين يجادلون {هَادٍ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَدِلُونَ فِىءَايَتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَنٍ أَتَهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فَرْعَوْنُ يهَمَنُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلِّى أَبْلُغُ الأٌّسْبَبَ * أَسْبَبَ السَّمَوَتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لأّظُنُّهُ كَذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِىءَامَنَ يقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا مَتَعٌ وَإِنَّ الأٌّخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أن تكون صفة لمن، وبدلاً منه: أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف، أي جدال الذين يجادلون، حتى يكون الضمير في {كبر} عائداً على ذلك أولاً، أو على حذف مضاف، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من قوله: {يجادلون} ، أو ضمير يعود على من على لفظها، على أن يكون الذين صفة، أو بدلاً أعيد أولاً على لفظ من في قوله: {هو مسرف كذاب} . ثم جمع الذين على معنى من، ثم أفرد في قوله: {كبر} على لفظ من. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون {الذين يجادلون} مبتدأ وبغير {سلطان أتاهم} خبراً، وفاعل {كبر} قوله: {كذلك} ، أي {كبر مقتاً} مثل ذلك الجدال، و {يطبع الله} كلام مستأنف، ومن قال {كبر مقتاً، عند الله}

جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. انتهى، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح، فكيف في كلام الله؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه. أما تفكيك الكلام، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون، ولا يتعقل جعله خيراً للذين، لأنه جار ومجرور، فيصير التقدير: {الذين يجادلون في آيات الله} : كائنونن، أو مستقرون، {بغير سلطان} ، أي في غير سلطان، لأن الباء إذا ذاك ظرفية خبر عن الجثة، وكذلك في قوله يطبع أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام، لأن ما جاء في القرآن من {كذلك يطبع} ، أو نطبع، إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، فكذلك هنا. وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه، فجعل الكاف اسماً فاعلاً بكبر، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش، ولم يثبت في كلام العرب، أعني نثرها: جاءني كزيد، تريد: مثل زيد، فلم تثبت اسميتها، فتكون فاعلة. وأما قوله: ومن قال لي آخره، فإنّ قائل ذلك وهو الحوفي، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب. وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، كما قالوا: من كذب كان شراً له، أي كان هو، أي الكذب المفهوم من كذب. والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون.

وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشيء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون، واحتج الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم، فتنفعه الذكرى في سورة عبس، إذ هو جواب الترجي في قوله: {لعله يزكي أو يذكر فتنفعه الذكرى} . وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفاً على التوهم، لأن خبر لعل كثيراً جاء مقروناً بأن في النظم كثيراً، وفي النثر قللاً. فمن نصب، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبراً كان منصوباً بأن، والعطف على التوهم كثير، وإن كان لا ينقاس، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج، وأما هنا، فأطلع، فقد جعله بعضهم جواباً للأمر، وهو قوله: {ابن لي صرحاً} ، كما قال الشاعر:

يا ناق سيري عنقاً فسيحاًإلى سليمان فنستريحا النار {حِسَابٍ * وَيقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَوةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِى لأّكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلاَ فِى الأٌّخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَبُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ * وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَلٍ * إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأٌّشْهَدُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} بدل من {سوء العذاب} ، أو خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ما سوء العذاب: قيل: النار، أو مبتدأ خبره {يعرضون} .

والظاهر تمام الجملة عند قوله: {وعشياً} ، وأن يوم القيامة معمول لمحذوف على إضمار القول، أي ويوم القيامة يقال لهم: ادخلوا. وقيل: ويوم معطوف على وعشياً، فالعامل فيه يعرضون، وأدخلوا على إضمار الفعل. وقيل: العامل في يوم أدخلوا. والعامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكروا. وقال الطبري: وإذ هذه عطف على قوله: {إذ القلوب لدى الحناجر} ، وهذا بعيد. وقرأ ابن المسيفع، وعيسى بن عمران: كلا بنصب كل. وقال الزمخشري، وابن عطية: على التوكيد لاسم إن، وهو معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، يريد: إنا كلنا فيها. انتهى. وخبر إن هو فيها، ومن رفع كلا فعلى الابتداء، وخبره فيها، والجملة خبر إن. وقال ابن مالك في تصنيفه (تسهيل الفوائد) : وقد تكلم على كل، ولا يستغنى بنية إضافته، خلافاً للفرّاء والزمخشري. انتهى، وهذا المذهب منقول عن الكوفيين، وقد رد ابن مالك على هذا المذهب بما قرره في شرحه (التسهيل) . وقال الزمخشر: فإن قلت: هل يجوز أن يكونن كلاً حالاً قد عمل فيها فيها؟ قلت: لا، لأن الظرف لا يعمل، والحال متقدمة، كما يعمل في الظرف متقدماً، تقول: كل يوم لك ثوب، ولا تقول: قائماً في الدار زيد. انتهى. وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال، نحو: زيد قائماً في الدار، وزيد قائماً عندك، والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقاً في الآية، لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم، وهو اسم إن، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال، وتأخر العامل فيها، وأما تمثيله بقوله: ولا تقول قائماً في الدار زيد، تأخر فيه المسند والمسند إليه، وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة. وقال ابن مالك: والقول المرضي عندي أن كلاً في القراءة المذكورة منصوب على أن الضمير المرفوع المنوي في فيها، وفيها هو العامل، وقد تقدمت الحال عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة من قرأ: {والسموات مطويات بيمينه} . وفي قول النابغة الذبياني:

رهط ابن كوز محقبي أدراعهمفيهم ورهط ربيعة بن حذار وقال بعض الطائيين: دعا فأجبنا وهو باديّ ذلةلديكم فكان النصر غير قريب انتهى. وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش، كما ذكرناه، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلاً بدل من اسم إن، لأن كلاً يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك، فكأنه قال: إن كلاً بدل من اسم إن، لأن كلاً فيها: وإذا كانوا قد تأولوا حوفلا أكتعاً ويوماً أجمعاً على البدل، مع أنهما لا يليان العوامل، فإن يدعى في كل البدل أولى، وأيضاً فتنكير كل ونصبه حالاً في غاية الشذوذ، والمشهور أن كلاً معرفة إذا قطعت عن الإضافة. حكى: مررت بكل قائماً، وببعض جالساً في الفصيح الكثير في كلامهم، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم: مررت بهم كلاً، أي جميعاً. فإن قلت: كيف يجعله بدلاً، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم، وهو لا يجوز على مذهب البصريين؟ قلت: مذهب الأخفش والكوفيين جوازه، وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب، لا نعلم خلافاً في ذلك، كقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} ، وكقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم، معناه: مررت بكم كلكم، وتكون لنا عيداً كلنا. فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة، فجوازه فيما دل على الإحاطة، وهو كل أولى، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه، لأنه بدل من ضمير المتكلم، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف. {يوم لا ينفع} : بدل من يوم {يقوم} . وانتصب هدى وذكرى {الدَّارِ * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَءِيلَ الْكِتَبَ * هُدًى وَذِكْرَى لاٌّوْلِى الأٌّلْبَبِ} على أنهما مفعولان له، أو على أنهما مصدران في موضع الحال.

الذين كذبوا {الْعَلَمِينَ * قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِى الْبَيِّنَتُ مِن رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ * هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَدِلُونَ فِىءَايَتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَبِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأٌّغْلَلُ فِى أَعْنَقِهِمْ والسَّلَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَفِرِينَ * ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُواْ أَبْوَبَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} مبتدأ، وخبره: {فسوف يعلمون} . وأما على الظاهر، فالذين بدل من الذين، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوباً على الذم، وإذ ظرف لما مضى، فلا يعمل فيه المستقبل، كما لا يقول: سأقوم أمس، فقيل: إذا يقع موقع إذ، وأن وقعها على سبيل المجاز، فيكون إذ نا بمعنى إذا، وحسن ذلك تيقن وقوع الأمر، وأخرج في صيغة الماضي، وإن كان المعنى على الاستقبال.

وقرأ: والسلاسل عطفاً على الأغلال، يسحبون مبنياً للمفعول. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن علي، وابن وثاب، والمسيء في اختياره: والسلاسل بالنصب على المفعول، يسحبون مبنياً للفاعل، وهو عطف جملة فعلية على جملة اسمية. وقرأت فرقة منهم ابن عباس: والسلاسل، بجر اللام. قال ابن عطية: على تقدير، إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ، إذ ترتيبه فيه قلب، وهو على حد قول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقال الزجاج: من قرأ بحفص والسلاسل، فالمعنى عنده: وفي السلاسل يسحبون. وقال ابن الأنباري: والخفض على هذا المعنى غير جائز، لو قلت: زيد في الدار، لم يحسن أن تضمر في فتقول: زيد الدار، ثم ذكر تأويل الفراء، وخرج القراءة ثم قال: كما تقول: خاصم عبد الله زيداً العاقلين، بنصب العاقلين ورفعه، لأن أحدهما إذا خاصمه صاحبه فقد خاصمه الآخر. انتهى، وذه المسألة لا تجوز عند البصريين، وهي منقول جوازها عن محمد بن سعفان الكوفي، قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول، وقرىء: وبالسلاسل يسحبون، ولعل هذه القراءة حملت الزجاج على أن تأول الخفض على إضمار حرف الجر. قيل: وجواب فإما نرينك محذوف لدلالة المعنى عليه، أي فيقر عينك، ولا يصح أن يكون {فإلينا يرجعون} جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيب {فإما نرينك} بعض الموعود في حياتك، {فإلينا يرجعون} ليس بظاهر، وهو يصح أن يكون جواب، {أو نتوفينك} : أي: {فإلينا يرجعون} ، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك. ونير هذه الآية قوله: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} ، إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين.

سورة فصلت

قال الزمخشري: أيضاً: {فإما نرينك} أصله فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن أما تكرمني أكرمك؟ انتهى. وما ذهب إليه من تلازم ما لمزيده، ونون التوكيد بعد أن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج. وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون، وإن شئت أتيت بالنون دون ما. قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون؛ كما أنك إذا جئت لم تجىء بما، يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما، ولم تجىء بما مع مجيئك بالنون. من الأولى للتبعيض. وقال ابن عطية: ومن الثانية لبيان الجنس، لأن الجمل منها يؤكل. انتهى. ولا يظهر كونها لبيان الجنس، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية. {فأي آيات الله} منصوب بتنكرون. قال الزمخشري: {فأي آيات} جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه. انتهى، ومن قلة تأنيث: أي قوله: بأي كتاب أم بأية سنةترى حبهم عاراً عليّ وتحسب وقوله: وهي في أي أغرب، إن عنى أياً على الإطلاق فليس بصحيح، لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} ، ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول: يا أيها المرأة، إلا صاحب كتاب البديع في النحو. وإن عنى غير المناداة، فكلامه صحيح، فقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة، وما في قوله: {فما أغنى} نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي، وما فيما كانوا مصدرية، أو بمعنى الذي، وهي في موضع رفع. وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة. وهنالك ظرف مكان استعير للزمان، أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون. وقيل: سنة منصوب على التحذير، أي احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل. سورة فصلت أربعة وخمسون آية وهي مكية

تنزيل، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل عند الفراء، أو مبتدأ خبره {كتاب فصلت} ، عند الزجاج والحوفي، وخبر {حم} إذا كانت اسماً للسورة، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل. قيل: أو خبر بعد خبر. وانتصب {قرآناً} على أنه حال بنفسه، وهي مؤكدة، لأنها لا تنتقل، أو توطئة للحال بعده، وهي {عربياً} ، أو على الصدر، أي يقرؤه قرآناً عربياً، أو على الاختصاص والمدح. ومن جعله حالاً فقيل: ذو الحال آياته، وقيل: كتاب، لأنه وصف بقوله: {فصلت آياته} ، أو على إضمار فعل تقديره: فصلناه قرآناً، أو مفعول ثان لفصلت، أقوال ستة آخرها للأخفش. و {لقوم} متعلق بفصلت. ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه، إن كان من الرحمن في موضع الصفة، أو أبدل منه كتاب، أو كان خبر التنزيل، فيكون في ذلك البدل من الموصول، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه، وهو لا يجوز، وقيل: لقوم في موضع الصفة لقوله: {عربياً} . وانتصب {بشيراً ونذيراً} على النعت لقرآناً عربياً، وقيل: حال من آياته. وقرأ زيد بن علي: بشير ونذير برفعهما على الصفة لكتاب، أو على خبر مبتدأ محذوف. {وجعل فيها رواسي} : إخبار مستأنف، وليس من الصلة في شيء، بل هو معطوف على قوله: {لتكفرون} . وقرأ الجمهور: سواء بالنصب على الحال؛ وأبو جعفر بالرفع: أي هو سواء، وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب: بالخفض نعتاً لأربعة أيام. {فقضاهن سبع سموات: أي صنعهن وأوجدهن، كقول ابن أبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهماداود أو صنع السوابغ تبع وعلى هذا انتصب سبع على الحال. وقال الحوفي: مفعول ثان، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً سبع سموات على التمييز. ويعني بقوله مبهماً، ليس عائداً على السماء، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بخلاف الحال أو المفعول الثاني، فإنه عائد على السماء على المعنى.

وحفظاً: أي وحفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب، ويجوز أن يكون مفعولاً على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً انتهى. ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته.. أن لا تعبدوا: يصح أن تكون أن تفسيرية، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول، أي جاءتهم مخاطبة؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا، والناصبة للمضارع، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا، وفي نحو: أن طهرا {الْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَعِقَةً مِّثْلَ صَعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأّنزَلَ مَلَئِكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَفِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الأٌّخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَءَامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} ، وكتبت إليه بأن قم، ولا في هذه إلا وجه للنهي. ويجوز على بعد أن تكون لا نافية، وأن ناصبة للفعل، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره. ومفعول شاء محذوف، وقدره الزمخشري: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى. وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا

من جنس الجواب، نحو قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} : أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، وكذلك: {لو نشاء لجعلناه حطاماً} ، {لو نشاء جعلناه أجاجاً} ، {ولو شاء ربك لآمن} ، {ولو شاء ربك ما فعلوه} ، {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} . قال الشاعر: فلو شاء ربي كنت قيس بن خالدولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد وقال الراجز: واللذ لو شاء لكنت صخراًأو جبلاً أشم مشمخرا فعلى هذا الذي تقرر، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري، وإنما التقدير: لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم. {فإنما بما أرسلتم به كافرون} : خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان، وغلب الخطاب على الغيبة، نحو ولك: أنت وزيد تقومان. وما مصدرية، أي بإرسالكم، وبه توكيد لذلك. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي. والهون: الهوان، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه. انتصب يوم باذكر. ما بعد إذا زائدة للتأكيد.

وذلكم {يتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِئَايتِنَا يَجْحَدُون * وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأٌّسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ} : إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم، وهو مبتدأ خبره {أرداكم} ، و {ظنكم} بدل من {ذلكم} أي

وظنكم بربكم ذلكم أهلككم. وقال الزمخشري: وظنكم وأرداكم خبران. وقال ابن عطية: أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر. انتهى. ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبراً، لأن قوله: {وذلكم} إشارة إلى ظنهم السابق، فيصير التقدير: وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ، وهو لا يجوز؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك: سيد الجارية مالكها. وقال ابن عطية: وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالاً إلا إذا اقترن بقد، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر. انتهى. وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالاً بغير تقدير قد وهو الصحيح، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس، ويبعد فيها التأويل. وموضع في {أمم} نصب على الحال، أي كائنين في جملة أمم، وذو الحال الضمير في عليهم. فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر ذلك، وجزاء مبتدأ والنار خبره. وأن ناصبة للمضارع، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم، قال معناه الحوفي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة، وأصله بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. انتهى. وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوماً بلا الناهية.

نزلاً من غفور رحيم {الأٌّسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الأٌّخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} النزل: الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف، قال معناه ابن عطاء، فيكون نزلاً حالاً، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولاً لا نزلاً، وجعله بعضهم مصدراً لأنزل. وقيل نزل جمع نازل، كشارف وشرف، فينتصب على الحال، أي نازلين، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون.

وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف؟ فقيل: مذكور، وهو قوله: أولئك ينادون من مكان بعيد {قَدِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىءَايَتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىءَامِناً يَوْمَ الْقِيَمَةِ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَبٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْءَايَتُهُءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * مَّنْ عَمِلَ صَلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى} ، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة. سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذاً، فقال له أبو عمرو: وإنه منك لقريب {أولئك ينادون} . وقال الحوفي: ويرد على هذا القول كثرة الفصل، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم، وهو قوله: {والذين لا

يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون} . وقيل: محذوف، وخبر إن يحذف لفهم المعنى. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب، فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم: تقديره معاندون أو هالكون. وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن، وهو قوله: {أفمن يلقي في النار} . انتهى. والذي أذهب إليه أن الخبر المذكور، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن، وذلك في قوله: {لا يأتيه الباطل} : أي الباطل منهم. تكون أل عوضاً من الضمير على قول الكوفيين، أي لا يأتيه باطلهم، أو يكون الخبر قوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} . وغاية ما في هذين التوجهين حذف الضمير العائد على اسم إن، وهو موجود، نحو قوله: السمن منوان بدرهم: أي منوان منه والبركرّ بدرهم: أي كر منه. وعن بعض نحاة الكوفة: الخبر في قوله: {وإنه لكتاب عزيز} ، وهذا لا يتعقل. {وإنه لكتاب عزيز} : جملة حالية، كما تقول: جاء زيد وأن يده على رأسه. {لا يأتيه الباطل} من جعل خبر إن محذوفاً، أو قوله: {أولئك ينادون} ، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن. {ما يقال لك} : يقال مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى. والظاهر أن {والذين لا يؤمنون} مبتدأ، و {في آذانهم وقر} هو موضع الخبر. وقال الزمخشري: هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم، أي الكافرين، ولا يضطر إلى إضمار هو، فالكلام تام دونه. وكون والذين في موضع جر عطفاً على قوله: {للذين آمنوا} ، والتقدير: وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف، وهو من العطف على عاملين، وفيه مذاهب كثيرة في النحو، والمشهور منع ذلك.

وتقدم أن أرأيتم هذه تتعدى إلى مفعول مذكور، أو محذوف، وإلى ثانٍ الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية. فالمفعول الأول محذوف تقديره: أرأيتم أنفسكم، والثاني هو جملة الاستفهام. وبربك {عَرِيضٍ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْءَايَتِنَا فِى الأٌّفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ} : الباء زائد، التقدير: أو لم يكفك أو يكفهم ربك، و {أنه على كل شيء شهيد} بدل من ربك. أما حالة كونه مجروراً بالباء، فيكون بدلاً على اللفظ. وأما حالة مراعاة الموضع، فيكون بدلاً على الموضع، وقيل: إنه على إضمار أي أو لم يكف ربك بشهادته، فحذف الحرف، وموضع أن على الخلاف، أهو في موضع نصب أو في موضع جر؟ ويبعد قول من جعل بربك في موضع نصب، وفاعل كفى إن وما بعدها، والتقدير عنده: أو لم يكف ربك شهادته.

سورة الشورى

سورة الشورى ثلاث وخمسون آية مكية وقرأ الجمهور: يوحي مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة، والأعشى عن أبي بكر، وأبان: نوحي بنون العظمة؛ ومجاهد، وابن وكثير، وعباس، ومحبوب، كلاهما عن أبي عمرو: يوحي مبنياً للمفعول؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحي، أو بالابتداء، التقدير: الله العزيز الحكيم الموحي؛ وعلى قراءة نوحي بالنون، يكون الله العزيز الحكيم مبتدأ وخبراً. ويوحي، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله: {وإلى الذين من قبلك} ، أو يقرأ على موضوعه، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره: وأوحي إلى الذين من قبلك. والظاهر أن {قرآناً} مفعول {أوحينا} . وقال الزمخشري: الكاف مفعول به، أي أوحيناه إليك. فاستعمل الكاف اسماً في الكلام، وهو مذهب الأخفش. {لتنذر أم القرى} : مكة، أي أهل جم القرى، وكذلك المفعول الأول محذوف، والثاني هو: {يوم الجمع} . وقرأ الجمهور: {فريق} بالرفع فيهما، أي هم فريق أو منهم فريق. وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما، أي افترقوا، فريقاً في كذا، وفريقاً في كذا. وقال الزمخشري: في قوله: {فالله هو الولي} ، والفاء في قوله: {فالله هو الولي} جواب شرط مقدر، كأنه قيل: بعد إنكار كل ولي سواه، وإن أراد وأوليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه. انتهى. ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف، والكلام يتم بدونه. وقرأ الجمهور: {فاطر} بالرفع، أي هو فاطر، أو خبر بعد خبر كقوله: {ذلكم} . وقرأ زيد بن عليّ: فاطر بالجر، صفة لقوله: {إلى لله} ، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف. وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلاً زائدة للتوكيد كالكاف في قوله: فأصبحت مثل كعصف مأكول وقوله: وصاليات ككما يؤثفين ليس بجيد، لأن مثلاً اسم، والأسماء لا تزاد، بخلاف الكاف، فإنها حرف، فتصلح للزيادة.

ويحتمل أن تكون أن مفسرة، لأن قبلها ما هو بمعنى القول، فلا موضع لها من الإعراب. وأن تكون أن المصدرية، فتكون في موضع نصب على البدل من ما؛ وما عطف عليها، أو في موضع رفع، أي ذلك. وجعل فعل الشرط ماضياً، والجواب مجزوم لقوله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها {عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَبٍ وَأُمِرْتُ لأًّعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ

يُمَارُونَ فَى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَلَ بَعِيدٍ * اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأٌّخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ} ، ولا نعلم خلافاً في جواز الجزم، فإنه فصيح مختار، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب، وهو أبو الحكم بن عذرة، عن بعض النحويين، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها، وأنشد سيبويه للفرزدق: دست رسولاً بأن القوم إن قدرواعليك يشفوا صدوراً ذات توغير وقال آخر: تعال فإن عاهدتني لا تخوننينكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقرأ الأعرج، ومسلم بن جندب: وأن بفتح الهمزة عطفاً على كلمة الفصل، فهو في موضع رفع، أي ولولا كلمة الفصل وكون الظالمين لهم عذاب في الآخرة، لقضي بينهم في الدنيا وفصل بين المتعاطفين بجواب لولا، كما فصل في قوله: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى {نَّصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فِى رَوْضَتِ الْجَنَّتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَفِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأٌّرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ * وَمِنْ

ءَايَتِهِ خَلْقُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ * وَمَآ أَصَبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْءَايَتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالأٌّعْلَمِ} . وعند ظرف، قال الحوفي: معمول ليشاءون. وقال الزمخشري: منصوب بالظرف لا يشاءون. انتهى، وهو الصواب. ويعني بالظرف: الجار والمجرور، وهو لهم في الحقيقة غير معمول للعامل في لهم. {ذلك} : إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة، وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف، أي يبشر الله به عباده. ومن النحويين من جعل الذي مصدرية، حكاه ابن مالك عن يونس. والظاهر أن قوله: {إلا المودّة} استثناء منقطع، لأن المودّة ليست أجراً. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء متصلاً، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا أن تودّوا أهل قرابتي. الظاهر أن الذين فاعل. {ويستجيب الذين آمنوا} ، قال الزجاج: الذين مفعول، واستجاب وأجاب بمعنى واحد. وما بث. الظاهر أنه مجرور عطفاً على السموات والأرض. ويجوز أن يكون مرفوعاً، عطفاً على خلق، على حذف مضاف، أي وخلق ما بث. وقرأ الجمهور: فيهما بالفاء، وكذا هي في معظم المصاحف. واحتمل ما أن تكون شرطية، وهو الأظهر، وأن تكون موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول إذا أجري مجرى الشرط بشرائط ذكرت في النحو، وهي موجودة. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر في رواية، وشيبة: بما بغير فاء، فما موصولة، ولا يجوز أن تكون شرطية؛ وحذفت الفاء لأن ذلك مما يخصه سيبويه بالشعر، وأجازت ذلك الأخفش وبعض نحاة بغداد وذلك على إرادة الفاء.

والجواري: جمع جارية، وأصله السفن الجواري، حذف الموصوف وقامت صفته مقامه، وحسن ذلك قوله: في البحر {نَصِيرٍ * وَمِنْءَايَتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالأٌّعْلَمِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأّيَتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَدِلُونَ فِىءَايَتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ * فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلوةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاٍّمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّلِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ} ، فدل ذلك على أنها صفة للسفن، وإلا فهي صفة غير مختصة، فكان القياس

أن لا يحذف الموصوف ويقوم مقامه. ويمكن أن يقال: إنها صفة غالبة، كالأبطح، فجاز أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف. وقرىء: الجواري بالياء ودونها، وسمع من العرب الأعراب في الراء، وفي البحر متعلق بالجواري، وكالأعلام في موضع الحال. {أو يوبقهن} : يهلكهن، أي الجواري، وهو عطف على يسكن، والضمير في {كسبوا} عائد على ركاب السفن، أي بذنوبهم. وقرأ الأعمش: ويعفو بالواو، وعن أهل المدينة: بنصب الواو، والجمهور: ويعف مجزوماً عطفاً على يوبقهن. فأما قراءة الأعمش، فإنه أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير، أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان. وأما النصب، فبإضمار أن بعد الواو، وكالنصب بعد الفاء في قراءة من قرأ: يحاسبكم به الله فيغفر، وبعد الواو في قول الشاعر: فإن يهلك أبو قابوس يهلكربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيشأجب الظهر ليس له سنام روي بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه. وفي هذه القراءة يكون العطف على مصدر متوهم، أي يقع إيباق وعفو عن كثير. وأما الجزم فإنه داخل في حكم جواب الشرط، إذ هو معطوف عليه، وهو راجع في المعنى إلى قراءة النصب، لكن هذا عطف فعل على فعل، وفي النصب عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وابن عامر، وزيد بن علي: {ويعلم} بالرفع على القطع. وقرأ الجمهور: ويعلم بالنصب؛ قال أبو علي وحسن: النصب إذا كان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب. وقال الزجاج: على إضمار أن، لأن قبلها جزاء. تقول: ما تصنع أصنع مثله، وأكرمك، وإن أشئت، وأكرمك علي، وأنا أكرمك، وإن شئت، وأكرمك جزماً. قال الزمخشري: فيه نظر، لما أورده سيبويه في كتابه قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف، وهو نحو من قوله: وألحق بالحجاز فاستريحا

فهذا لا يجوز، وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً، لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل. فلما ضارع الذي لا يوجبه، كالاستفهام ونحوه، أجازوا فيه هذا على ضعفه. قال الزمخشري: ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه، ولو كانت من هذا الباب، لما أخلى سيبويه منها كتابه، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. انتهى. وخرج الزمخشري النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف، قال تقديره: {لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون} ، يكره في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن، ومنه قوله تعالى: {ولنجعلك آية للناس} ، وقوله: {خلق الله السموات والأرض بالحق} ، {ولتجزي كل نفس بما كسبت} . انتهى. ويبعد تقديره لينتقم منها، لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم، فلا يحسن لينتقم منهم. وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف، أي {ولنجعله آية للناس} ، {ولتجزي كل نفس بما كسبت} . فعلنا ذلك، وكثيراً ما يقدر هذا الفعل محذوفاً قبل لام العلة، إذا لم يكن فعل ظاهر يتعلق به.

{وما لهم من محيص} في موضع نصب، لأن يعلم معلقة، كقولك: علمت ما زيد قائم. وقال ابن عطية في قراءة النصب، وهذه الواو ونحوها التي تسميها الكوفيون واو الصرف، لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على اسم مقدر، فيقدر أن ليكون مع الفعل بتأويل المصدر، فيحسن عطفه على الاسم. انتهى. وليس قوله تعليلاً لقولهم واو الصرف، إنما هو تقرير لمذهب البصريين. وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها، لا بإضمار أن بعدها. وقال أبو عبيد على الصرف كالذي في آل عمران: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ، ومعنى الصرف أنه كان على جهة، فصرف إلى غيرها، فتغير الإعراب لأجل الصرف. والعطف لا يعين الاقتران في الوجود، كالعطف في الأسم، نحو: جاء زيد وعمرو. ولو نصب وعمرو اقتضى الاقتران؛ وكذلك واو الصرف، ليفيد معنى الاقتران ويعين معنى الاجتماع، ولذلك أجمع على النصب في قوله: {ويعلم الصابرين} ، أي ويعلم المجاهدين والصابرين معاً. {فما أوتيتم من شيء} ، وما شرطية مفعول ثان لأوتيتم. الفاء جواب الشرط، أي فهو متاع.

{والذين يجتنبون} : عطف على {الذين آمنوا} ، وكذلك ما بعده. ووقع لأبي البقاء وهم في التلاوة، اعتقد أنها الذين يجتنبون بغير واو، فبنى عليه الإعراب فقال: الذين يجتنبون في موضع جر بدلاً من الذين آمنوا، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإضمار، أعني: وفي موضع رفع على تقديرهم. انتهى. والعامل في إذا يغفرون، وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوف على يجتنبون، ويجوز أن يكون هم توكيداً للفاعل في غضبوا. وقال أبو البقاء: هم مبتدأ، ويغفرون الخبر، والجملة جواب إذا. انتهى، وهذا لا يجوز، لأن الجملة لو كانت جواب إذا لكانت بالفاء، تقول: إذا جاء زيد فعمرو منطلق، ولا يجوز حذف الفاء إلا إن ورد في شعر. وقيل: هم مرفوع بفعل محذوف يفسره يغفرون، ولما حذف، انفصل الضمير، وهذا القول فيه نظر، وهو أن جواب إذا يفسر كما يفسر فعل الشرط بعدها، نحو: {إذا السماء انشقت} ، ولا يبعد جواز ذلك على مذهب سيبويه، إذ جاء ذلك في أداة الشرط الجازمة، نحو: إن ينطلق زيد ينطلق، فزيد عنده فاعل بفعل محذوف يفسره الجواب، أي ينطلق زيد، منع ذلك الكسائي والفراء. و {هم ينتصرون} : صلة للذين، وإذا معمولة لينتصرون، ولا يجوز أن يكون {هم ينتصرون} جواباً لإذا، والجملة الشرطية وجوابها صلة لما ذكرناه من لزوم الفاء، ويجوز هنا أن يكون هم فاعلاً بفعل محذوف على ذلك القول الذي قيل في {هم يغفرون} . وقال الحوفي: وإن شئت جعلت هم توكيداً للهاء والميم، يعني في أصابهم، وهو ضمير رفع، وفي هذا نظر، وفيه الفصل بين المؤكد والتوكيد بالفاعل، وهو فعل الظاهر أنه لا يمتنع. واللام في {ولمن انتصر} لام توكيد. قال الحوفي: وفيها معنى القسم. وقال ابن عطية: لام التقاء القسم يعنيان أنها اللام التي يتلقى بها القسم، فالقسم قبلها محذوف، ومن شرطية، وحمل {انتصر بعد ظلمه} على لفظ من، وفأولئك على معنى من، والفاء جواب الشرط، وظلمه مصدر مضاف إلى المفعول.

واللام في ولمن يجوز أن تكون اللام الموطئة القسم المحذوف، ومن شرطية، وجواب القسم قوله: {إن ذلك} ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه. ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء، ومن موصولة مبتدأ، والجملة المؤكدة بأن في موضع الخبر. وقال الحوفي: من رفع بالابتداء وأضمر الخبر، وجواب الشرط إن وما تعلقت به على حذف الفاء، كما قال الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها أي: فالله يشكرها. انتهى، وهذا ليس بجيد، لأن حذف الفاء مخصوص بالشعر عند سيبويه. والإشارة بذلك إلى ما يفهم من مصدر صبر وغفر والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف، أي إن ذلك منه لدلالة المعنى عليه: {لمن عزم الأمور} ، إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: {ولمن صبر وغفر} ، لم يكن في عزم الأمور حذف، وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ، كان هو الرابط، ولا يحتاج إلى تقدير منه، وكان في {عزم الأمور} ، أي أنه لمن ذوي عزم الأمور.

وقال الزمخشري: من الله {خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ الْخَسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّلِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَنَ كَفُورٌ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ} : من صلة للأمرد. انتهى، وليس الجيد، إذ لو كان من صلته لكان معمولاً له، فكان يكون معرباً منوناً. وقيل: {من الله} يتعلق بقوله: {يأتي} .

سورة الزخرف

وقرأ الجمهور: {حجاب} ، مفرداً؛ وابن أبي عبلة: حجب جمعاً. وقرأ الجمهور: بنصب الفعلين عطف، أو يرسل على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب، وهذا المضمر معطوف على وحياً، والمعنى: إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب، أو إرسال رسول فيوحي ذلك الرسول إلى النبي الذي أرسل عنه بإذن الله ما يشاء، ولا يجوز أن يعطف {أو يرسل} على {أن يكلمه الله} لفساد المعنى. وقال الزمخشري: ووحياً، وأن يرسل، مصدران واقعان موقع الحال، لأن أن يرسل في معنى إرسالاً، ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضاً، كقوله: {وعلى جنوبهم} ، والتقدير: وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب، أو مرسلاً. ما الكتاب: جملة استفهامية مبتدأ وخبر، وهي في موضع نصب بتدري، وهي معلقة. سورة الزخرف تسع وثمانون آية مكية

وقال الزمخشري: جعلناه، بمعنى صيرناه، معدى إلى مفعولين، أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد، كقوله: وجعل الظلمات والنور {الاٍّمُورُ * حم * وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الأٌّوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأٌّوَّلِينَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأٌّنْعَمِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَنَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَنَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ

سَتُكْتَبُ شَهَدَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ * وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْءَاتَيْنَهُمْ كِتَباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَرِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَرِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَفِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لأًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَفِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَباً وَسُرُراً

عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . {وقرآناً عربياً} : حال. { أفنضرب عنكم الصفح} : قال الزمخشري: والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكاراً؟ لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب وخلقه قرآناً عربياً لتعقلوه وتعملوا بموجبه. انتهى. وتقدم الكلام معه في تقديره فعلاً بين الهمزة والفاء في نحو: {أفلم يسيروا} ؟ {أفلا تعقلون} ؟ وبينها وبين الواو في نحو: {أو لم يسيروا} ؟ كما وأن المذهب الصحيح قول سيبويه والنحويين: أن الفاء والواو منوي بهما التقديم لعطف ما بعدهما على ما قبلهما، وأن الهمزة تقدمت لكون الاستفهام له صدر الكلام، ولا خلاف بين الهمزة والحرف، وقد رددنا عليه قوله. وانتصاب صفحاً على أنه مصدر من معنى أفنضرب، لأن معناه: أفنصفح؟ أو مصدر في موضع الحال، أي صافحين، قالهما الحوفي، وتبعه أبو البقاء. وقال الزمخشري: وصفحاً على وجهين: إما مصدر من صفح عنه، إذا أعرض منتصباً على أنه مفعول له على معنى: أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم: نظر إليه بصفح وجهه. وصفح وجهه على معنى: أفننحيه عنكم جانباً؟ فينصب على الظرف، كما تقول: ضعه جانباً، وامش جانباً. وتعضده قراءة من قرأ صفحاً بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر، وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أي صافحين معرضين. وقال ابن عطية: صفحاً، انتصابه كانتصاب صنع الله. انتهى. يعني أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، فيكون العامل فيه محذوفاً، ولا يظهر هذا الذي قاله، فليس انتصابه انتصاب صنع الله.

واللام في لتستووا: الظاهر أنها لام كي. وقال الحوفي: ومن أثبت لام الصيرورة جاز له أن يقول به هنا. وقال ابن عطية: لام الأمر، وفيه بعد من حيث استعمال أمر المخاطب بتاء الخطاب، وهو من القلة بحيث ينبغي أن لا يقاس عليه. فالفصيح المستعمل: اضرب، وقيل: لتضرب، بل نص النحويون على أنها لغة رديئة قليلة، إذ لا تكاد تحفظ إلا قراءة شاذة؛ فبذلك فلتفرحوا بالتاء للخطاب. وما آثر المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام: لتأخذوا مصافاكم، مع احتمال أن الراوي روى بالمعنى، وقول الشاعر: لتقم أنت يا ابن خير قريشفتقضي حوائج المسلمينا وزعم الزجاج أنها لغة جيدة، وذلك خلاف ما زعم النحويون. {؟؟ من ينشّأ} ومن: في موضع نصب، أي وجعلوا من ينشأ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء، أي من ينشأ جعلوه لله. {وفي الخصام} : متعلق بمحذوف تفسيره غير مبين، أي وهو لا يبين في الخصام. ومن أجاز أما زيداً، غير ضارب بأعمال المضاف إليه في غير أجاز أن يتعلق بمبين، أجرى غير مجرى لا. وبتقديم معمول أما بعد لا مختلف فيه، وقد ذكر ذلك في النحو. وقرأ الأعمش: عباد الرحمن، جمعاً. وبالنصب، حكاها ابن خالويه، قال: وهي في مصحف ابن مسعود كذلك، والنصب على إضمار فعل، أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن، وأنشأوا عباد الرحمن إناثاً. والزهري وناس: أشهدوا بغير استفهام، مبنياً للمفعول رباعياً، فقيل: المعنى على الاستفهام، حذفت الهمزة لدلالة المعنى عليها. وقيل: الجملة صفة للإناث، أي إناثاً مشهداً منهم خلقهم.

والظاهر أن قوله: إلا الذي فطرني {مُبِينٍ * وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَدَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ * وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْءَاتَيْنَهُمْ كِتَباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَرِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَرِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَفِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لأًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَفِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن

يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةُ} استثناء منقطع، إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم. وقيل: كانوا يشركون أصنامهم معه تعالى في العبادة، فيكون استثناء متصلاً. وعلى الوجهين، فالذي في موضع نصب، وإذا كان استثناء متصلاً، كانت ما شاملة من يعلم ومن لا يعلم. وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجروراً بدلاً من المجرور بمن، كأنه قال: إنني براء مما تعبدون، إلا من الذي. وأن تكون إلا صفة بمعنى: غير، على أن ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فهو نظير قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} . انتهى. ووجه البدل لا يجوز، لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام. ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له؟ وإنني بريء، جملة موجبة، فلا يصلح أن يفرغ العامل فيها للذي هو بريء لما بعد إلا. وعن الزمخشري: كون بريء، فيه معنى الانتفاء، ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا. وأما تقديره ما نكرة موصوفة، فلم يبقها موصولة، لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة. وهذه المسألة فيها خلاف. من النحويين من قال: توصف بها النكرة والمعرفة، فعلى هذا تبقى ما موصولة، ويكون إلا في موضع الصفة للمعرفة، وجعله فطرني في صلة الذي.

قال ابن عطية: واللام في: لمن يكفر، لام الملك، وفي: لبيوتهم، لام تخصيص. كما تقول: هذا الكساء لزيد لدابته، أي هو لدابته جلس ولزيد ملك، انتهى. ولا يصح ما قاله، لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل، فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى. أما أن يختلف المدلول، فلا واللام في كليهما للتخصيص. وقال الزمخشري: لبيوتهم بدل اشتمال من قوله: لمن يكفر {يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ * وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} ، ويجوز أن تكونا بمنزلة اللامين في قولك: وهبت له ثوباً لقميصه.

انتهى. فنصب عطفاً على محل من فضة. انتهى. وقرأ الجمهور: لما، بفتح اللام وتخفيف الميم: هي مخففة من الثقيلة، واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي، وما: زائدة، ومتاع: خبر كل. وقرأ الحسن، وطلحة، والأعمش، وعيسى، وعاصم، وحمزة: لما، بتشديد الميم، وإن: نافية، ولما: بمعنى إلا. وقرأ أبو رجاء، وأبو حيوة: لما، بكسر اللام، وخرّجوه على أن ما موصولة، والعائد محذوف تقديره: للذي هو متاع كقوله: {تماماً على الذي أحسن} . وإن في هذا التخريج هي المخففة من الثقيلة، وكل: مبتدأ وخبره في المجرور، أي: وإن كل ذلك لكائن، أو لمستقر الذي هو متاع، ومن حيث هي المخففة من الثقيلة، كان الإتيان باللام هو الوجه، فكان يكون التركيب لكما متاع، لكنه قد تحذف هذه اللام إذا دل المعنى على أن إن هي المخففة من الثقيلة، فلا يجر إلى ذكر اللام الفارقة، ومن ذلك قول الشاعر: ونحن أباة الضيم من آل مالكوإن مالك كانت كرام المعادن يريد: لكانت، ولكنه حذف لأنه لا يتوهم في إن أن تكون نافية، لأن صدر البيت يدل على المدح، وتعين إن لكونها المخففة من الثقيلة. وقرأ زيد بن علي: يعشو بالواو. وقال الزمخشري: على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط، وحق هذا القارىء أن يرفع نقيض. انتهى. ولا يتعين ما قاله، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: أن تكون من شرطية، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديراً. وقد ذكر الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب، ويحذفون حروف العلة للجازم. والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر، لا في الكلام. والوجه الثاني: أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط، وإذا كان ذلك مسموعاً في الذي، وهو لم يكن اسم شرط قط، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولاً وشرطاً. قال الشاعر: ولا تحفرن بئراً تريد أخاً بهافإنك فيها أنت من دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالماًتصبه على رغم عواقب ما صنع

أنشدهما ابن الأعرابي، وهو مذهب الكوفيين، وله وجه من القياس، وهو: أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسبباً عن الصلة بشروطه المذكورة في علم النحو، وهذا لا ينفيه البصريون. {فبئس القرين} : مبالغة منه في ذم قرينه، إذا كان سبب إيراده النار. والمخصوص بالذم محذوف، أي فبئس القرين أنت. وقرىء: إنكم بالكسر، فدل على إضمار الفاعل، ويقويه حمل أنكم بالفتح على التعليل. واليوم وإذ ظرفان، فاليوم ظرف حال، وإذ ظرف ماض. أما ظرف الحال فقد يعمل فيه المستقبل لقربه منه، أو لتجوز في المستقبل، كقوله: {فمن يستمع الآن} ، وقول الشاعر: سأشقى الآن إذ بلغت مناها وأما إذ فماض لا يعمل فيه المستقبل، فقال الزمخشري: وإذ بدل من اليوم. انتهى. وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ تبين ووضح ظلمكم، ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين، ونظيره: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي تبين أني ولد كريمة. انتهى. ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفاً لما مضى من الزمان. فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، وتخريجها على البدل، أخذه الزمخشري من ابن جني. قال في مساءلته أبا علي: راجعته فيها مراراً، وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان، وهما سواء في حكم الله وعلمه، فيكون إذ بدلاً من اليوم، حتى كأنها مستقبلة، أو كأن اليوم ماض. وقيل: التقدير بعد إذ ظلمتم، فحذف المضاف للعلم به. وقيل: إذ للتعليل حرفاً بمعنى إن. وقال الحوفي: اليوم ظرف متعلق بينفعكم، ولا يجوز تعلق إذ به، لأنهما ظرفا زمان، يعني متغايرين في المعنى تغايراً لا يمكن أن يجتمعا، قال: فلا يصح أن يكون بدلاً من الأخير، يعني لذلك التغاير من كون هذا ظرف حال وهذا ظرف مضى. قال: ولكن تكون إذ متعلقة بما دل عليه المعنى، كأنه قال: ولن ينفعكم اجتماعكم، ثم قال: وفاعل ينفعكم الاشتراك. وقيل: الفاعل محذوف تقديره ظلمكم، أو جحدكم، وهو العامل في إذ، لا ضمير الفاعل. وعلق واسأل، فارتفع من، وهو اسم استفهام على الابتداء، وأرسلنا خبره في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض، كان سؤاله: من أرسلت يا رب قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته آلهة تعبد؟

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم. انتهى. ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ، بل المذاهب فيها ثلاثة: مذهب أنها حرف، فلا تحتاج إلى عامل، ومذهب أنها ظرف مكان، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملاً فيها نحو: خرجت فإذا زيد قائم، فقائم ناصب لإذا، كأن التقدير: خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم؛ ومذهب أنها ظرف زمان، والعامل فيه الخبر أيضاً، كأنه قال: ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر، أو ذكر اسم منصوب على الحال، كانت إذا خبراً للمبتدأ. فإن كان المبتدأ جثة، وقلنا إذا ظرف مكان، كان الأمر واضحاً؛ وإن قلنا ظرف زمان، كان الكلام على حذف، أي ففي الزمان حضور زيد. وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة، لم ينطق به ولا في موضع واحد. ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا. تقول: خرجت فإذا الأسد، والمعنى: ففاجأني الأسد، وليس المعنى: ففاجأت الأسد.

والواو في وهذه الأنهار {يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَلَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِئَايَتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيِهِم مِّنْءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُواْ يأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأٌّنْهَرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَسِقِينَ * فَلَمَّآءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلأٌّخِرِينَ} واو الحال، وتجري خبر. وهذه والأنهار صفة، أو عطف بيان. وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر، وتجري حال. من تحتي: أي من تحت قهري وملكي. {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} : الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أنا خير.

وقال سيبويه: أم هذه المعادلة: أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده، وهو أنه خير من موسى. وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: أم هذه متصلة، لأن المعنى: أفلا تبصرون؟ أم تبصرون؟ إلا أنه وضع قوله: {أنا خير} موضع {تبصرون} ، لأنهم إذا قالوا: أنت خير، فهم عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. انتهى. وهذا القول متكلف جداً، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق، وإن كان السابق جملة فعلية، كان المعادل جملة فعلية، أو جملة اسمية، يتقدر منها فعلية كقوله {أدعوتموهم أم أنتم صامتون} ؟ لأن معناه: أم صمتم؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية، لأن قوله: {أم أنا خير} ؟ ليس مقابلاً لقوله: {أفلا تبصرون} ؟ وإن كان السابق اسماً، كان المعادل اسماً، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم، نحو قوله: أمخدج اليدين أم أتمت فأتمت معادل للاسم، فالتقدير: أم متماً؟ وقيل: حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه، إذ التقدير: تبصرون، فحذف تبصرون، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا، نحو: أيقوم زيد أم لا؟ تقديره: أم لا يقوم؟ وأزيد عندك أم لا، أي أم لا هو عندك. فأما حذفه دون لا، فليس من كلامهم. وقد جاء حذف أم والمعادل، وهو قليل. قال الشاعر: دعاني إليها القلب إني لأمرهاسميع فما أدري أرشد طلابهايريد أم غيّ. وحكى الفراء أنه قرأ: أما أنا خير، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير. انتصب جدلاً على أنه مفعول من أجله وقيل: مصدر في موضع الحال.

ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض {لِّلأٌّخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُواْءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرَءِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الأٌّرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأٌّحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * الأٌّخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ * يعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَءَامَنُواْ بِئَايَتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَفٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأٌّنْفُسُ وَتَلَذُّ الأٌّعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ

وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، قال بعض النحويين: من تكون للبدل، أي لجعلنا بدلكم ملائكة، وجعل من ذلكم قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} ، أي بدل الآخرة، وقول الشاعر: أخذوا المخاض من الفصيل غليةظلماً ويكتب للأمير أفالا أي بدل الفصيل، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية، ويتأولون ما ورد ما يوهم ذلك. قال ابن عطية: لجعلنا بدلاً منكم. {أن تأتيهم} : بدل من الساعة، أي إتيانها إياهم. {الأخلاء يومئذ} : قيل نزلت في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط. والتنوين في يومئذ عوض عن الجملة المحذوفة، أي يوم إذ تأتيهم الساعة، ويومئذ منصوب بعد. الذين آمنوا صفة ليا عبادي. و {تلك الجنة} : مبتدأ وخبر. و {التي أوثتموها} : صفة، أو {الجنة} صفة، و {التي أورثتموها} ، و {بما كنتم تعملون} الخبر، وما قبله صفتان. فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف، وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها.

وقرأ الجمهور: والظالمين، على أن هم فصل. وقرأ عبد الله، وأبو زيد النحويان: الظالمون بالرفع، على أنهم خبرهم، وهم مبتدأ. وذكر أبو عمرو الجرمي: أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، ويرفعون ما بعده على الخبر. وقال أبو زيد: سمعتهم يقرأون: تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجراً {تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّلِمِينَ * وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَبِدِينَ * سُبْحَنَ رَبِّ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ إِلَهٌ وَفِى الأٌّرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يرَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يعني: يرفع خير وأعظم، وقال قيس بن دريج:

نحن إلى ليلى وأنت تركنهاوكنت عليها بالملا أنت أقدر قال سيبويه: إن رؤبة كان يقول: أظن زيداً هو خير منك، يعني بالرفع. وقرأ الجمهور: يا مالك. وقرأ عبد الله، وعليّ، وابن وثاب، والأعمش: يا مال، بالترخيم، على لغة من ينتظر الحرف. وقرأ أبو السرار الغنوي: وقيل: هي إن النافية، أي ما كان للرحمن ولد. والعائد على الموصول محذوف تقديره: هو إله، كما حذف في قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، وحسنه طوله بالعطف عليه، كما حسن في قائل لك شيئاً طوله بالمعول. قال قتادة: استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيراً والملائكة، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم، إذ هم ممن شهد بالحق، وهم يعلمونه في أحوالهم، فالاستثناء على هذا متصل. وقال مجاهد وغيره: من المشفوع فيهم؟ كأنه قال: لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق، وهو يعلمه، أي بالتوحيد، قالوا: فالاستثناء على هذا منفصل، كأنه قال: لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء. وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلاً، لأنه يكون المستثنى منه محذوفاً، كأنه قال: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد، إلا فيمن شهد بالحق، فهو استثناء من المفعول المحذوف، كما قال الشاعر: نجا سالم والنفس منه بشدقهولم ينج إلا جفن سيف ومئزار أي: ولم ينج إلا جفن سيف، فهو استثناء من المشفوع فيهم الجائز فيه الحذف، وهو متصل. فإن جعلته مستثنى من {الذين يدعون} ، فيكون منفصلاً.

سورة الدخان

وقرأ الجمهور: وقيله، بالنصب. فعن الأخفش: أنه معطوف على سرهم ونجواهم، وعنه أيضاً: على وقال قيله، وعن الزجاج، على محل الساعة في قوله: {وعنده علم الساعة} . وقيل: معطوف على مفعول يكتبون المحذوف، أي يكتبون أقولهم وأفعالهم. وقيل: معطوف على مفعول يعلمون، أي يعلمون الحق. {وقيله يا رب} : وهو قول لا يكاد يعقل، وقيل: منصوب على إضمار فعل، أي ويعلم قيله. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وعاصم، والأعمش، وحمزة، وقيله، بالخفض، وخرج على أنه عطف على الساعة، أو على أنها واو القسم، والجواب محذوف، أي: لينصرن، أو لأفعلن بهم ما أشاء. وقرأ الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، ومسلم بن جندب: وقيله بالرفع، وخرج على أنه معطوف على علم الساعة، على حذف مضاف، أي وعلم قيله حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وروي هذا عن الكسائي، وعلى الابتداء، وخبره: يا رب إلى لا يؤمنون، أو على أن الخبر محذوف تقديره مسموع، أو متقبل، فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بوقيله. وقرأ أبو قلابة: يا رب، بفتح الباء؛ أراد: يا ربا، كما تقول: يا غلام. ويتخرج على جواز الأخفش: يا قوم، بالفتح وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها. وقال الزمخشري: والذي قالوه بعني من العطف ليس بقوي في المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضاً، ومع تنافر النظم، وأقوى من ذلك. والوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ولعمرك، ويكون قوله: {إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} ، جواب القسم، كأنه قال: وأقسم بقيله، أو وقيله يا رب قسمي. {إن هؤلاء قوم لا يؤمنون} . سورة الدخان تسعة وخمسون آية مكية وجواب القسم. وقال الزمخشري وغيره: قوله: إنا أنزلناه، على أن الكتاب هو القرآن، ويكون قد عظمه تعالى بالإقسام به.

وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: يفرق، بفتح الياء وضم الراء، كل: بالنصب، أي يفرق الله. ورفع حكيم، على أنه الفاعل بيفرق. وقال: وفي قراءة زيد بن علي: أمراً من عندنا {مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ، على أنّ هو أمراً، وهي نصب على الاختصاص ومقبولاً له، والعامل أنزلنا، أو منذرين، أو يفرق، ومصدراً من معنى يفرق، أي فرقاً من عندنا، أو من أمرنا محذوفاً وحالاً، قيل: من كل، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر، لأنه وصف بحكيم، فحسنت الحال منه، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب، ولا يجوز. وقيل: من ضمير الفاعل في أنزلناه، أي أمرني. وقيل: من ضمير المفعول في أنزلناه، أي في حال كونه أمراً من عندنا بما يجب أن يفعل. والظاهر أن من عندنا صفة لأمراً، وقيل: يتعلق بيفرق. فالجملة المؤكدة مستأنفة. وقيل: يجوز أن يكون بدلاً من إنا كنا منذرين {عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا} . وجوزوا في رحمة أن يكون مصدراً، أي رحمنا رحمة، وأن يكون مفعولاً له بأنزلناه، أو ليفرق، أو لأمراً من عندنا. وأن يكون مفعولاً بمرسلين. وقرأ زيد بن علي، والحسن: رحمة، بالرفع: أي تلك رحمة من ربك. وقرأ ابن محيصن، والأعمش، وأبو حيوة، والكوفيون: رب السموات {مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} ، بالخفض بدلاً من ربك؛ وباقي السبعة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وشيبة: بالرفع على القطع، أي هو رب. وأحمد بن جبير الأنطاكي: ربكم ورب، بالنصب على المدح، وهم يخالفون بين الإعراب، الرفع والنصب، إذا طالت النعوت. وانتصب يوم نبطش، قيل: بذكراهم، وقيل: بننتقم الدال عليه منتقمون، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل، وقيل: بمنتقمون. ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها.

يحتمل أن تكون أن تفسيرية، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول، وهو رسول كريم، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع، فإنها توصل بالأمر. وقال الزمخشري: فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء، فقال: أسر بعبادي، وأن يكون جواباً بالشرط محذوف؛ كأنه قيل: قال إن كان الأمر كما تقول، فأسر بعبادي. انتهى. وكثيراً ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح؛ كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو، على خلاف في ذلك. وقال الزجاج: والمعنى: الأمر كذلك، فيوقف على كذلك؛ والكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف؛ وقيل: الكاف في موضع نصب، أي يفعل فعلاً كذلك، لمن يريد إهلاكه. قرأ أبو رجاء نعمة بالنصب عطفاً على كم.

ومن فرعون {وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّءَابَآئِكُمُ الأٌّوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ * فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ إِنِّىءَاتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} : بدل {من العذاب} ، على حذف مضاف، أي من عذاب فرعون. أولاً حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة. وقيل: يتعلق بمحذوف، أي كائناً وصادراً من فرعون. وقرأ ابن عباس: {من فرعون} ، من: استفهام مبتدأ، وفرعون خبره. فعلى علم: حال، إما من الفاعل، أو من المفعول. وعلى ظهر: حال من الفاعل في تعذرت، والعامل في ذي الحال. وقرىء: ميقاتهم، بالنصب، على أنه اسم إن، والخبر يوم الفصل.

سورة الجاثية

{إلا من رحم الله} ، قال الكسائي: من رحم: منصوب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين. قيل: ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون بدلاً من مولى المرفوع، ويكون يغني بمعنى ينفع. وقال الزمخشري: {من رحم الله} ، في محل الرفع على البدل من الواو في {ينصرون} ، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله؛ وقاله الحوفي قبله. {إلا الموتة الأولى} : هذا استثناء منقطع. سورة الجاثية سبعة وثلاثون آية مكية. وقال أبو عبد الله الرازي: وقوله: العزيز الحكيم، يجوز جعله صفة لله، فيكون ذلك حقيقة؛ {وإن جعلناه} صفة للكتاب، كان ذلك مجازاً؛ والحقيقة أولى من المجاز، مع أن زيادة القرب توجب الرجحان. انتهى. وهذا الذي ردّد في قوله: {وإن جعلناه} صفة للكتاب لا يجوز. لو كان صفة للكتاب لوليه، فكان يكون التركيب: تنزيل الكتاب العزيز الحكيم من الله، لأن من الله، إما أن يكون متعلقاً بتنزيل، وتنزيل خبر لحم، أو لمبتدأ محذوف، فلا يجوز الفصل به بين الصفة والموصوف، لا يجوز أعجبني ضرب زيد سوط الفاضل؛ أو في موضع الخبر، وتنزيل مبتدأ، فلا يجوز الفصل بين الصفة والموصوف أيضاً، لا يجوز ضرب زيد شديد الفاضل، والتركيب الصحيح في نحو هذا أن يلي الصفة موصوفها.

{وما يبث من دابة} ، أي في غير جنسكم، وهو معطوف على: {وفي خلقكم} . ومن أجاز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، أجاز في {وما يبث} أن يكون معطوفاً على الضمير {في خلقكم} ، وهو مذهب الكوفيين، ويونس، والأخفش؛ وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين. وقال الزمخشري: يقبح العطف عليه، وهذا تفريع على مذهب سيبويه وجمهور البصريين، قال: وكذلك أن أكدوه كرهوا أن يقولوا: مررت بك أنت وزيد. انتهى. وهذا يجيزه الجرمي والزيباري في الكلام. وقرأ الجمهور: آيات، جمعاً بالرفع فيهما؛ والأعمش، والجحدري، وحمزة، والكسائي، ويعقوب: بالنصب فيهما؛ وزيد بن علي؛ برفعهما على التوحيد. وقرأ أبي، وعبد الله: لآيات فيهما، كالأولى. فأما: آيات لقوم يعقلون {الرِّيَاحِءّايَتٌ لِّقَوْمٍ} رفعاً ونصباً، فاستدل به وشبهه مما جاء في كلام الأخفش، ومن أخذ بمذهبه على عطف معمولي عاملين بالواو، وهي مسألة فيها أربعة مذاهب، ذكرناها في (كتاب التذييل والتكميل لشرح التهسيل) . فأما ما يخص هذه الآية، فمن نصب آيات بالواو عطفت، واختلاف على المجرور بفي قبله وهو: {وفي خلقكم وما يبث} ، وعطف آيات على آيات، ومن رفع فكذلك، والعاملان أولاهما إن وفي، وثانيهما الابتداء وفي. وقال الزمخشري: أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر، واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات، وإذا رفعت والعاملان الابتداء، وفي عملت الرفع للواو ليس بصحيح، لأن الصحيح من المذاهب أن حرف العطف لا يعمل؛ ومن منع العطف على مذهب الأخفش، أضمر حرف الجر فقدر. وفي اختلاف، فالعمل للحرف مضمراً، ونابت الواو مناب عامل واحد؛ ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله: وفي اختلاف، مصرحاً وحسن حذف في تقدمها في قوله: {وفي خلقكم} ؛ وخرج أيضاً النصب في آيات على التوكيد لآيات المتقدمة، ولإضمار حرف في وقرىء واختلاف بالرفع على خبر مبتدأ محذوف، أي هي آيات ولإضمار حرف أيضاً.

ونتلوها في موضع الحال، أي متلوة. قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه، وهذا بعلى شيخاً. انتهى، وليس نحوه، لأن في وهذا حرف تنبيه. وقيل: العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه، أي تنبه. وأما تلك، فليس فيها حرف تنبيه عاملاً بما فيه من معنى التنبيه، لأن الحرف قد يعمل في الحال: تنبه لزيد في حال شيخه وفي حال قيامه. وقيل: العامل في العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه، فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه، إن كان هناك. فبأي حديث {يَعْقِلُونَ * تَلْكَءَايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَتِهِ يُؤْمِنُونَ} الآية، فيه تقريع وتوبيخ وتهديد؛ {بعد الله} : أي بعد حديث الله، وهو كتابه وكلامه، كقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} ؛ وقال: فبأي حديث بعده يؤمنون؛ أي بعد حديث الله وكلامه. وقال الضحاك: بعد توحيد الله. وقال الزمخشري: بعد الله وآياته، أي بعد آيات الله، كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، يريدون: أعجبني كرم زيد. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة؛ والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل، لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في: أعجبني زيد كرمه، بغير واو على البدل؛ وهذا قلب لحقائق النحو. وإنما المعنى في: أعجبني زيد وكرمه، أن ذات زيد أعجبته، وأعجبه كرمه؛ فهما إعجابان لا إعجاب واحد، وقد رددنا عليه مثل قوله هذا فيما تقدم. قرأ طلحة، وابن محيصن، وأهل مكة، وابن كثير، وحفص: أليم {رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ} ، بالرفع نعتاً لعذاب؛ والحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وباقي السبعة: بالجر نعتاً لرجز. وهاء الكناية عائد على الله، وهو فاعل سخر على الإسناد المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك، أو هو منه.

وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي جميعاً منة، وأن يكون: وما في الأرض، مبتدأ، ومنه خبره. انتهى. ولا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش، لأن جميعاً إذ ذاك حال، والعامل فيها معنوي، وهو الجار والمجرور؛ فهو نظير: زيد قائماً في الدار، ولا يجوز على مذهب الجمهور. وقرأ الجمهور: ليجزي الله، وزيد بن عليّ، وأبو عبد الرحمن، والأعمش، وأبو علية، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالنون؛ وشيبة، وأبو جعفر: بخلاف عنه بالياء مبنياً للمفعول. وقد روي ذلك عن عاصم، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول، على أن يقام المجرور، وهو بما، وينصب المفعول به الصريح، وهو قوماً؛ ونظيره: ضرب بسوط زيداً؛ ولا يجير ذلك الجمهور. وخرجت هذه القراءة على أن يكون بني الفعل للمصدر، أي وليجزي الجزاء قوماً. وهذا أيضاً لا يجوز عند الجمهور، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف تقديره يجزى قوماً، فيكون جملتان، إحداهما: ليجزي الجزاء قوماً، والأخرى: يجزيه قوماً. وقرأ الجمهور: سواء بالرفع، ومماتهم بالرفع أيضاً؛ وأعربوا سواء: مبتدأ، وخبره ما بعده، ولا مسوغ لجواز الابتداء به، بل هو خبر مقدم، وما بعده المبتدأ. والجملة خبر مستأنف.

وقال الزمخشري: والجملة التي هي: سواء محياهم ومماتهم، بدل من الكاف، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً؛ فكانت في حكم المفرد. ألا تراك لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً؟ كما تقول: ظننت زيد أبوه منطلق. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري، من إبدال الجملة من المفرد، قد أجازه أبو الفتح، واختاره ابن مالك، وأورد على ذلك شواهد على زعمه، ولا يتعين فيها البدل. وقال بعض أصحابنا، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي، ويعرف بابن العلج، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها، قال في كتابه (البسيط في النحو) : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل، كما كان في النعت، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد، فيكون بدلاً، فيجتمع فيه تجوز أن، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول، فيصح أن يكون فاعلاً، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ، لأنها لا تضمر، فإن كانت غير معمولة، فهل تكون جملة؟ لا يبعد عندي جوازها، كما يتبع في العطف الجملة للجملة، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي. انتهى.

وتبين من كلام هذا الإمام، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم، فيظهر لي أنه لا يجوز؛ لأنها بمعنى التصيير. لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها. وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً، ليس فيها انتقال مما ذكرنا، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها، أن تكون الجملة في موضع الحال، والتقدير: أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم؟ ليسوا كذلك، بل هم مفترقون، أي افتراق في الحالتين، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف، التي هي في موضع المفعول الثاني. وقرأ زيد بن علي، وحمزة، والكسائي، وحفص: سواء بالنصب، وما بعده مرفوع على الفاعلية، أجرى سواء مجرى مستوياً، كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم. وجوز في انتصاب سواء وجهين: {يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأٌّمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ سَوَآءً مَّحْيَهُمْ وَمَمَتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ

وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِئَابَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال، وكالذين المفعول الثاني، والعكس. وقرأ الأعمش: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان، والعامل، إما أن نجعلهم، وإما سواء، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم، والمفعول الثاني سواء، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء. وقال الزمخشري: ومن قرأ ومماتهم بالنصب، جعل محياهم ومماتهم ظرفين، كمقدم الحاج وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا مماتاً، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله: وخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل، فهو في الحقيقة على حذف مضاف، أي وقت خفوق النجم، بخلاف محيا وممات ومقدم، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه، لأنها موضوعة للزمان وللمكان، كما وضعت للمصدر؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة، بخلاف خفوق النجم، فإنه وضع للمصدر فقط. وقال ابن عطية: هنا ما مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم.

ولتجزي {وَمَمَتُهُمْ سَآءَ مَا} : هي لام كي معطوفة على بالحق، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل، فكان الخلق معللاً بالجزاء. وقال الزمخشري: أو على معلل محذوف تقديره: ليدل بها على قدرته، {ولتجزى كل نفس} . وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون لام الصيرورة. وأفرأيت: هو بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو: من اتخذ {يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى. أي ما تكون حجتهم، لأن إذا للاستقبال، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما، لم تدخل الفاء، بخلاف أدوات الشرط، فلا بد من الفاء. تقول: إن تزرنا فما جفوتنا، أي فما تجفونا. وفي كون الجواب منفياً بما، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها. ائتوا {بَيِّنَتٍ مَّا كَانَ} : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين، إذ هم قائلون بمقالته، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث، وهم الأنبياء، وغلب الخطاب على الغيبة. وقال ابن عطية: إئتوا، من حيث المخاطبة له؛ والمراد: هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم. انتهى. ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم، ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيي، وهو المميت لا الدهر، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم.

العامل في ويوم تقوم {يَعْلَمُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَبِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْءَايَتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَتِ وَرَبِّ الأٌّرْضِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ} : يخسر، و {يومئذ} : بدل من يوم، قاله الزمخشري، وحكاه ابن عطية عن فرقة. والتنوين في يومئذ تنوين العوض عن جملة، ولم تتقدم جملة إلا قوله: {ويوم تقوم الساعة} ، فيصير التقدير: ويوم تقوم يوم إذ تقوم إذ تقوم الساعة يخسر؛ ولا مزيد فائدة في قوله: يوم إذ تقوم الساعة، لأن ذلك مستفاد من ويوم تقوم الساعة. فإن كان

بدلاً توكيدياً، وهو قليل، جاز ذلك، وإلا فلا يجوز أن يكون بدلاً. وقالت فرقة العامل: في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك، قالوا: وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض، لأن ذلك يتبدل، فكأنه قال: {ولله ملك السموات والأرض} ، والملك يوم القيامة، فحذفه لدلالة ما قبله عليه؛ ويومئذ منصوب بيخسر، وهي جملة فيها استئناف، وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض. وقرأ يعقوب: {كل أمة تدعى} ، بنصب كل أمة على البدل، بدل النكرة الموصوفة من النكرة. وقرأ الجمهور: {والساعة} بالرفع على الابتداء، ومن زعم أن لاسم إن موضعاً جوز العطف عليه هنا، أو زعم أن لأن واسمها موضعاً جوز العطف عليه، وبالعطف على الموضع لأن واسمها هنا. قال أبو علي: ذكره في الحجة، وتبعه الزمخشري فقال: وبالرفع عطفاً على محل إن واسمها، والصحيح المنع؛ وحمزة: بالنصب عطفاً على الله، وهي مروية عن الأعمش، وأبي عمرو، وعيسى، وأبي حيوة، والعبسي، والمفضل. {إن نظن إلا ظناً} ، تقول: ضربت ضرباً، فإن نفيت، لم تدخل إلا، إذ لا يفرغ بالمصدر المؤكد، فلا تقول: ما ضربت إلا ضرباً، ولا ما قمت إلا قياماً. فأما الآية، فتأول على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصاً لا مؤكداً، وتقديره: إلا ظناً ضعيفاً، أو على تضمين نظن معنى نعتقد، ويكون ظناً مفعولاً به. وقد تأول ذلك بعضهم على وضع إلا في غير موضعها، وقال: التقديران نحن إلا نظن ظناً. وحكى هذا عن المبرد، ونظيره ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب: ليس الطيب إلا المسك

سورة الأحقاف

قال المبرد: ليس إلا الطيب المسك. انتهى. واحتاج إلى هذا التقدير كون المسك مرفوعاً بعد إلا وأنت إذا قلت: ما كان زيد إلا فاضلاً نصبت، فلما وقع بعد إلا ما يظهر أنه خبر ليس، احتاج أن يزحزح إلا عن موضعها، ويجعل في ليس ضمير الشأن، ويرفع إلا الطيب المسك على الابتداء والخبر، فيصير كالملفوظ به، في نحو: ما كان إلا زيد قائم. ولم يعرف المبرد أن ليس في مثل هذا التركيب عاملتها بنو تميم معاملة ما، فلم يعملوها إلا باقية مكانها، وليس غير عامله. وليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب في نحو ليس الطيب إلا المسك، ولا تميمي إلا وهو يرفع. في ذلك حكاية جرت بين عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، ذكرناها فيما كتبناه من علم النحو. وقرأ الجمهور: {رب} ، بالجر في الثلاثة على الصفة، وابن محيصن: بالرفع فيهما على إضمار هو. سورة الأحقاف خمس وثلاثون أية مكية عن ما أنذروا: يحتمل أن تكون ما مصدرية، وأن تكون بمعنى الذي. ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون. وماذا خلقوا: جملة استفهامية يطلبها أرأيتم، لأن مفعولها الثاني يكون استفهاماً، ويطلبها أروني على سبيل التعليق، فهذا من باب الإعمال، أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني. ويمكن أن يكون أروني توكيداً لأرأيتم، بمعنى أخبروني، وأروني: أخبروني، كأنهما بمعنى واحد.

وقال ابن عطية: يحتمل أرأيتم وجهين: {مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أحدهما: أن تكون متعدية، وما مفعولة بها؛ ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى، وتكون ما استفهاماً على معنى التوبيخ، وتدعون معناه: تعبدون. انتهى. وكون أرأيتم لا تتعدى، وأنها منبهة، فيه شيء؛ قاله الأخفش في قوله: {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} . والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم، كما هو في قوله: {قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون} في سورة فاطر؛ وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها. اللام في للحق {بَيِّنَتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، لام العلة، أي لأجل الحق. وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: بفتح الدال، جمع بدعة، وهو على حذف مضاف، أي ذا بدع. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة على فعل، كقولهم: دين قيم ولحم زيم. انتهى. وهذا الذي أجازه، إن لم ينقل استعماله عن العرب، لم نجزه، لأن فعل في الصفات لم يحفظ منه سيبويه إلا عدى. قال سيبويه: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع، وهو قوم عدي، وقد استدرك، واستدراكه صحيح. وأما قيم، فأصله قيام وقيم، مقصور منه، ولذلك اعتلت الواو فيه، إذ لو لم يكن مقصوراً لصحت، كما صحت في حول وعوض. وأما قول العرب: مكان سوى، وماء روى، ورجل رضى، وماء صرى، وسبى طيبه، فمتأولة عند البصريين لا يثبتون بها فعلاً في الصفات. والظاهر أن ما استفهامية، وأدري معلقة؛ فجملة الاستفهام موصولة منصوبة. انتهى.

قل أرأيتم {قُلْ مَا كُنتُ} : مفعولاً أرأيتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما، والتقدير: أرأيتم حالكم إن كان كذا؟ ألستم ظالمين؟ فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط محذوف؛ أي فقد ظلمتم، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً. وقال الزمخشري: جواب الشرط محذوف تقديره: إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به، ألستم ظالمين؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} . انتهى. وجملة الاستفهام لا تكون جواباً للشرط إلا بالفاء. فإن كانت الأداة الهمزة، تقدمت الفاء نحو: إن تزرنا، أفما نحسن إليك؟ أو غيرها تقدمت الفاء نحو: إن تزرنا، فهل ترى إلا خيراً؟ فقول الزمخشري: ألستم ظالمين؟ بغير فاء، لا يجوز أن يكون جواب الشرط. وقال ابن عطية: وأرأيتم يحتمل أن تكون منبهة، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولاً. ويحتمل أن تكون الجملة: كان وما عملت فيه، تسد مسد مفعوليها. انتهى. وهذا خلاف ما قرره محققو النحاة في أرأيتم. وقيل: جواب الشرط.

وانتصب إماماً على الحال، والعامل فيه العامل في: ومن قبله {الظَّلِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ كِتَبُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَبٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَنَ بِوَلِدَيْهِ إِحْسَناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَلِحاً تَرْضَهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيٌّئَتِهِمْ فِى أَصْحَبِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ * وَالَّذِى قَالَ لِوَلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَآ إِلاَّ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ

أَعْمَلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَتِكُمْ فِى حَيَتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، وقيل: انتصب إماماً بمحذوف، أي أنزلناه إماماً. ولساناً: حال من الضمير في مصدق، والعامل فيه مصدق، أو من كتاب، إذ قد وصف العامل فيه اسم الإشارة. أو لساناً: حال موطئة، والحال في الحقيقة هو عربياً، أو على حذف، أي ذا الشأن عربي، فيكون مفعولاً بمصدق؛ أي هذا القرآن مصدق من جاء به وهو الرسول، وذلك بإعجازه وأحواله البارعة. وقيل: انتصب على إسقاط الخافص، أي بلسان عربي. {وبشرى} ، قيل: معطوف على مصدق، فهو في موضع رفع، أو على إضمار هو. وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على لينذر، أي ويبشر بشرى. وقيل: منصوب على إسقاط الخافض، أي ولبشرى. وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء: وبشرى في محل النصب، معطوف على محل لينذر، لأنه مفعول له. انتهى وهذا لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين، لأنهم يشترطون في الحمل على المحل أن يكون المحل بحق الأصالة، وأن يكون للموضع محرز. والمحل هنا ليس بحق الأصالة، لأن الأصل هو الجر في المفعول له، وإنما النصب ناشىء عن إسقاط الخافض، لكنه لما كثر بالشروط المذكورة في النحو، وصل إليه الفعل فنصبه.

والكوفيون: إحساناً، فقيل: ضمن ووصينا معنى ألزمنا، فيتعدى لاثنين، فانتصب حسناً وإحساناً على المفعول الثاني لوصينا. وقيل: التقدير: إيصاء ذا حسن، أو ذا إحسان. ويجوز أن يكون حسناً بمعنى إحسان، فيكون مفعولاً له، أي ووصيناه بهما لإحساننا إليهما، فيكون الإحسان من الله تعالى. وقيل: النصب على المصدر على تضمين وصينا معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحساناً. وقال ابن عطية: ونصب هذا يعني إحساناً على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور؛ والباء متعلقة بوصينا، أو بقوله: إحساناً. انتهى. ولا يصح أن يتعلق بإحساناً، لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل، فلا يتقدم معموله عليه، ولأن أحسن لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى باللام؛ تقول: أحسنت لزيد، ولا تقول: أحسنت بزيد، على معنى أن الإحسان يصل إليه. وتقدم الكلام على ووصينا الإنسان بوالديه حسناً {يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَنَ بِوَلِدَيْهِ إِحْسَناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} في سورة العنكبوت، وانجر هنا بالكلام على ذلك مزيداً للفائدة. وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل، أي حملته ذات كره، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حملاً ذاكره. في أصحاب الجنة {إِحْسَناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} ، قيل: في بمعنى مع؛ وقيل: هو نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، يريد في جملة من أكرم منهم، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة. وانتصب {وعد الصدق} على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله: {أولئك الذين ننقبل} ، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز.

من بين يديه ومن خلفه {تَفْسُقُونَ * وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأٌّحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَرُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَىْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ وَحَاقَ} ، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في: {النذر من بين يديه} . وانتصب عارضاً على الحال من المفعول.

وقال الزمخشري: {فلما رأوه} ، في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهماً، قد وضح أمره بقوله: {عارضاً} ، إما تمييز وإما حال، وهذا الوجه أعرب وأفصح. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب، نحو: رب رجلاً لقيته، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين، نحو: نعم رجلاً زيد، وبئس غلاماً عمرو. وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره، فلا نعلم أحداً ذهب إليه، وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه. {ريح} : أي هي ريح بدل من هو. وإن نافية، أي في الذي ما مكناهم فيه. وقيل: إن شرطية محذوفة الجواب، والتقدير: إن مكناكما فيه طغيتم. وقيل: إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية كهي في قوله: يرجى المرء ما إن لا يراهوتعرض دون أدناه الخطوب أي مكناهم في مثل الذي مكناكم، فيه، وكونها نافية هو الوجه، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله: كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً {الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ} ، وقوله: {هم أحسن أثاثاً ورئياً} . وقيل: ما استفهام بمعنى التقرير، وهو بعيد كقوله: {من شيء} ، إذ يصير التقدير: أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء، فتكون من زيدت في الموجب، وهو لا يجوز على الصحيح، والعامل في إذ أغنى. ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت: أكرمت زيداً لإحسانه إليّ، أو إذ أحسن إليّ. استويا في الوقت، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه.

وهو المفعول الثاني لا تخذوا، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول. وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه. وقال الزمخشري: وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه، لفساد المعنى. انتهى. ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب. وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي وافتراؤهم، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي يفترونه. يغفر لكم من ذنوبكم: من للتبعيض، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم، قال معناه الزمخشري. وقيل: من زائدة، لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة. وقرأ الجمهور: {ولم يعي} ، مضارع عيي، على وزن فعل، بكسر العين؛ والحسن: ولم يعي، بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة، كما قالوا في بقي: بقا، وهي لغة لطيىء. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين، فجاء يعني. فلما دخل الجازم، حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأ الجمهور: {بقادر} : اسم فاعل، والباء زائدة في خبر أن، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجاز الزجاج: ما ظننت أن أحداً بقائم، قياساً على هذا، والصحيح قصر ذلك على السماع. {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة. وأولو العزم: أي أولو الجد من الرسل، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة. فتكون من للتبعيض، وقيل: يجوز أن تكون للبيان، أي الذين هم الرسل، ويكون الرسل كلهم أولى العزم. فبلاغ خبر مبتدأ محذوف. وقال أبو مجلز: بلاغ مبتدأ وخبره لهم؛ ويقف على فلا تستعجل، وهذا ليس بجيد، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض.

سورة محمد

سورة محمد ثمان وثلاثون آية مدنية {الْفَسِقُونَ * الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَلَهُمْ * وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَلَهُمْ} {ذلك} مبتدأ وما بعده الخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك، أي كما ذكر بهذا السبب، فيكون محل الجار والمجرور منصوباً. انتهى. ولا حاجة إلى الإضمار مع صحة الوجه وعدم الإضمار. {فضرب الرقاب} : هذا من المصدر النائب مناب فعل الأمر، وهم مطرد فيه، وهو منصوب بفعل محذوف فيه، واختلف فيه إذا انتصب ما بعده فقيل: هو منصوب بالفعل الناصب للمصدر؛ وقيل: هو منصوب بنفس المصدر لنيابته عن العامل فيه، ومثاله: ضرباً زيداً، كما قال الشاعر: على حين ألهى الناس جل أمورهمفندلاً زرق المال ندل الثعالب وهذا هو الصحيح، ويدل على ذلك قوله: {فضرب الرقاب} ، وهو إضافة المصدر للمفعول، ولو لم يكن معمولاً له، ما جازت إضافته إليه. وانتصب مناً وفداء بإضمار فعل يقدر من لفظهما، أي فإما تمنون مناً، وإما تفدون فداء، وهو فعل يجب إضماره، لأن المصدر جاء تفصيل عاقبة، فعامله مما يجب إضماره، ونحوه قول الشاعر: لأجهدنّ فإما درء واقعةتخشى وإما بلوغ السؤل والأملأي: فإما أدرأ درأ واقعة، وإما أبلغ بلوغ السؤل. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا مفعولين، أي أدوهم منا واقبلوا، وليس إعراب نحوي.

والذين كفروا {الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا} : مبتدأ، والفاء داخلة في خبر المبتدأ وتقديره: فتعسهم الله تعساً. فتعساً: منصوب بفعل مضمر، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله: {وأضل أعمالهم} . ويجوز أن يكون الذين منصوباً على إضمار فعل يفسره قوله: {فتعساً لهم} ، كما تقول: زيداً جدعاً له. وقال الزمخشري: فإن قلت: على م عطف قوله: وأضل أعمالهم؟ قلت: على الفعل الذي نصب تعساً، لأن المعنى: فقال تعساً لهم، أو فقضى تعساً لهم؛ وتعساً لهم نقيض لعى له. انتهى. وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى، لأن فيه دلالة على ما حذف. والكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير المصدر، كما يقول سيبويه، أي يأكلونه، أي الأكل مشبهاً أكل الأنعام.

مثل الجنة {لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأٌّنْعَمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلاَ نَصِرَ لَهُمْ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ * مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّرِبِينَ وَأَنْهَرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ * وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَءَانِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَهُمْ تَقُوَاهُمْ * فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلائ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ وَاللَّهُ} : أي صفة الجنة، وهو مرفوع بالابتداء. قال الزمخشري: قال النضر بن شميل: كأنه قال: صفة الجنة، وهو ما تسمعون. انتهى. فما تسمعون الخبر، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة. وقال سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل

الجنة، وقدر الخبر المحذوف متقدماً، ثم فسر ذلك الذي يتلى. وقال ابن عطية: وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه قيل: مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. قيل: ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية، كأنه قال: مثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف، {كمن هو خالد في النار} . ويجيء قوله: {فيها أنهار} في موضع الحال على هذا التأويل. انتهى. ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه. قال: ومثل الجنة: صفة الجنة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ، وخبر من هو خالد في النار. وقوله: {فيها أنهار} ، في حكم الصلة، كالتكرير لها. ألا ترى إلى سر قوله: التي فيها أنهار؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي: فيها أنهار، كأن قائلاً قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار. وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب: {مثل الجنة} مبتدأ، واختلفوا في الخبر، فقيل: هو مذكور، وهو: {كمن هو خالد في النار} . وقيل: محذوف، فقيل: مقدر قبله، وهو قول سيبويه. وقيل: بعده، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير. و {لذة} : تأنيث لذ، وهو اللذيذ، ومصدر نعت به، فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر، وقرىء بالرفع صفة لأنهار، وبالنصب: أي لأجل لذة، فهو مفعول له. آنفاً: حال. وقال الزمخشري: وآنفاً نصب على الظرف. {أن تأتيهم} : بدل اشتمال من الساعة. وقرأ أبو جعفر الرواسي عن أهل مكة: {أن تأتهم} على الشرط، وجوابه: {فقد جاء أشراطها} . {بغتة} : قال صاحب اللوامح: وهي صفة، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات، بل في الأسماء نحو: الحرية. قيل: ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفاً، أي: فأنى لهم الخلاص. .

ولولا {أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلائ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ * وَيَقُولُ الَّذِينَءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأٌّمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأٌّرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأٌّمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَلَهُمْ} : بمعنى هلا؛ وعن أبي مالك: لا زائدة، والتقدير: لو نزلت، وهذا ليس بشيء. وقرىء: فإذا نزلت. وقرأ زيد بن علي: سورة محكمة، بنصبهما، ومرفوع نزلت بضم، وسورة نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمر: {وذكر} مبنياً للفاعل، أي الله. {فيها القتال} ونصب. الجمهور: برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله، وبناء وذكر للمفعول، والقتال رفع به.

فعلى قول الجمهور: إنه اسم يكون مبتدأ، والخبر لهم. وقيل: أولى مبتدأ، ولهم من صلته وطاعة خبر. والأكثرون على أن: طاعة وقول معروف {الْمَوْتِ فَأَوْلَى} كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين، إما الخبر وتقديره: أمثل، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل؛ وإما المبتدأ وتقديره: الأمر أو أمرنا طاعة، أي الأمر المرضي لله طاعة. وقال قتادة: الواقف على: {فأولى لهم طاعة} ابتداء وخبر. والظاهر أن جواب إذاً قوله: {فلو صدقوا الله} ، كما تقول: إذا كان الشتاء، فلو جئتني لكسوتك. وقيل: الجواب محذوف تقديره: فإذا عزم الأمر هو أو نحوه. وقال أبو عبد الله الرازي: وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب، وأنها لا يتصل بها ضمير قال: وأما قول من قال: عسى أنت تقوم، وعسى أنا أقوم، فدون ما ذكر تطويل الذي فيه. انتهى. ولا أعلم أحداً من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط، وهو أن توليتم. والحسن: وتقطعوا، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر، أي أرحامكم، لأن تقطع لازم. والظاهر أن يضربون حال من الملائكة؛ وقيل: حال من الضمير في توفاهم، وهو ضعيف.

وقرأ الجمهور: وأملى لهم {لَّهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأٌّرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَرِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأٌّمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ} مبنياً للفاعل، والظاهر أنه يعود على الشيطان، وقاله الحسن. قيل: ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميراً يعود على الله، وهو الأرجح. اللام جواب القسم المحذوف.

وقرىء: وتدعوا معطوف على تهنوا، فهو مجزوم، ويجوز أن يكون مجزوماً بإضمار إن. وأنتم الأعلون {بِسِيمَهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَلَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَرَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَلَهُمْ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأٌّعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَلَكُمْ * إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوَلَكُمْ * ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَنَكُمْ * هَآ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ} : أي الأعليون، وهذه الجملة حالية؛ وكذا: {والله معكم} . ويجوز أن يكونا جملتي استئناف. وقرأ الجمهور: ويخرج أضغانكم جزماً على جواب الشرط، والفعل مسند إلى الله، أو إلى الرسول، أو إلى البخل. وقرأ عبد الوارث، عن أبي عمرو: ويخرج، بالرفع على الاستئناف بمعنى: وهو يخرج.

سورة الفتح

وقال الزمخشري: هؤلاء موصول بمعنى الذين صلته تدعون، أي أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون؛ ثم استأنف وصفهم كأنهم قالوا: وما وصفنا فقيل: تدعون لتنفقوا في سبيل الله. انتهى. وكون هؤلاء موصولاً إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق، أو من الاستفهامية باختلاف. سورة الفتح تسع وعشرون آية مدنية وقال ابن عطية: المراد هنا: أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك، فكأنها صيرورة. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز بحال لجاز: ليقوم زيد، في معنى: ليقومّن زيد. انتهى. أما الكسر، فقد علل بأنه شبهت تشبيهاً بلام كي، وأما النصب فله أن يقول: ليس هذا نصباً، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف، وبعد هذا، فهذا القول ليس بشيء، إذ لا يحفظ من لسانهم: والله ليقوم، ولا بالله ليخرج زيد، بكسر اللام وحذف النون، وبقاء الفعل مفتوحاً. ليدخل: هذه اللام تتعلق، قيل: بإنا فتحنا لك. وقيل: بقوله: {ليزدادوا} . فإن قيل: {ويعذب} عطف عليه. {ويكفر} : معطوف على ليدخل. المفعول محذوف، أي إنما يبايعونك لله. وقرأ الجمهور: أو يسلمون، مرفوعاً؛ وأبي، وزيد بن علي: بحذف النون منصوباً بإضمار أن في قول الجمهور من البصريين غير الجرمي، وبها في قول الجرمي والكسائي، وبالخلاف في قول الفراء وبعض الكوفيين. فعلى قول النصب بإضمار أن هو عطف مصدر مقدر على مصدر متوهم، أي يكون قتال أو إسلام، أي أحد هذين، ومثله في النصب قول امرىء القيس: فقلت له لا تبك عيناً إنمانحاول ملكاً أو نموت فنعذرا والرفع على العطف على تقاتلونهم، أو على القطع، أي أو هم يسلمون دون قتال.. وتحت، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك، أو حالاً من المفعول.

وجوز الزمخشري في: وأخرى {يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأٌّعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَلُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سَعِيراً * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً * سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأٌّعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً * لَّيْسَ عَلَى الأٌّعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأٌّعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً * لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَطاً مُّسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً * وَلَوْ قَتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأٌّدْبَرَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً * وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ} ، أن تكون مجرورة بإضمار رب، وهذا فيه غرابة، لأن رب لم تأت في القرآن جارة، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنما يظهر أن {وأخرى} مرفوع بالابتداء، فقد وصفت

بالجملة بعدها، وقد أحاط هو الخبر. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى {قد أحاط الله بها} : أي وقضى الله أخرى. { سنة الله} : في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن الله عليه أنبياءه سنة. والهدي، بكسر الدال وتشديد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم؛ ومعكوفاً: حال، أي محبوساً. وقرأ الجعفي، عن أبي عمرو: والهدي، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام: أي وعن نحر الهدي. وقرأ: بالرفع على إضمار وصد الهدي. يحتمل أن يتعلق بالصد، أي وصدوا الهدى، وذلك على أن يكون بدل اشتمال، أي وصدوا بلوغ الهدي محله، أو على أنه مفعول من أجله، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله، فيكون مفعولاً من أجله. وأن تطؤهم {الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ} : بدل اشتمال من رجال وما بعده. وقيل: بدل من الضمير في {تعلموهم} . {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} : إذ معمول لعذبنا، أو لو صدوكم، أو لا ذكر مضمرة.

وصدق يتعدى إلى اثنين، الثاني بنفسه وبحرف الجر. تقول: صدقت زيداً الحديث، وصدقته في الحديث؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر. وقال الزمخشري: فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى: صدقوا ما عاهدوا الله عليه {عَلِيماً * لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَفُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً * هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ} . انتهى. فدل كلامه على أن أصله حرف الجر. وبالحق متعلق بمحذوف، أي صدقاً ملتبساً بالحق. {لتدخلن} : اللام جواب قسم محذوف، ويبعد قول من جعله جواب بالحق؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق، وتعليقه على المشيئة. و {آمنين} : حال مقارنة للدخول. ومحلقين ومقصرين: حال مقدرة. والظاهر أن قوله: {محمد رسول الله} مبتدأ وخبر. وقيل: رسوله الله صفة. وقال الزمخشري: عطف بيان، {والذين} معطوف، والخبر عنه وعنهم أشداء. وأجاز الزمخشري أن يكون محمد خبر مبتدأ محذوف، أي هو محمد، لتقدم قوله: {هو الذي أرسل رسوله} . وقرأ ابن عامر في رواية: رسوله الله بالنصب على المدح. وقرأ الحسن: أشداء رحماء بنصبهما. قيل: على المدح، وقيل: على الحال، والعامل فيهما العامل في معه، ويكون الخبر عن المتبدأ المتقدم: تراهم.

سورة الحجرات

وكزرع: خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم كزرع، أو هم كزرع. وقال الضحاك: المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم الكلام، ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع، فعلى هذا يكون كزرع خبر ومثلهم. سورة الحجرات ثماني عشرة آية مدنية وقرأ الجمهور: لا تقدموا، فاحتمل أن يكون متعدياً، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم. واحتمل أن يكون لازماً بمعنى تقدم، كما تقول: وجه بمعنى توجه، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء. {وأن تحبط} مفعول له، والعامل فيه ولا تجهروا، على مذهب البصريين في الاختيار، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار. وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده. وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما. وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم: أخذت الدرهم من زيد، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً. قالوا: فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً.

قال الزمخشري: أنهم صبروا {تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في موضع الرفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم. انتهى، وهذا ليس مذهب سيبويه، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ، لا في موضع فاعل. ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف، كما زعم الزمخشري. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا، أي لكان هو، أي صبرهم خيراً لهم. وقال الزمخشري: في كان، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها. {أن تصيبوا} : مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، {بجهالة} حال. والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور، وكلاهما مذهب سديد. ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب. فضلاً من الله ونعمة {يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} ، قال ابن عطية: مصدر مؤكد لنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، هذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل. وقال الحوفي: فضلاً نصب على الحال. انتهى، ولا يظهر هذا الذي قاله. وقال أبو البقاء: مفعول له، أو مصدر في معنى ما تقدم. وقال الزمخشري: فضلاً مفعول له، أو مصدر من غير فعله.

وانتصب ميتاً على الحال من لحم، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ، وهو ضعيف، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب، نحو: أعجبني ركوب الفرس مسرجاً، وقيام زيد مسرعاً. فالفرس في موضع نصب، وزيد في موضع رفع. وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء، جاز انتصاب الحال من الثاني، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو. وكره يتعدى إلى واحد، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين، كقراءة الخدري ومن معه، أي جعلتم فكرهتموه. فأما قوله: وكره إليكم الكفر {أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} فعلى التضمين بمعنى بغض، وهو يتعدى لواحد، وبإلى إلى آخر، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد. والظاهر عطف {واتقو الله} على ما قبله من الأمر والنهي. وقرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة؛ وابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: لتعرفوا، مضارع عرف، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى. وأما إن كانت لام كي، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى. فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً، أي لتعرفوا الحق، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي.

سورة ق

لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً، لأنك إذا نفيت بلم، جاز أن يكون النفي قد انقطع، ولذلك يجوز أن تقول: لم يقم زيد وقد قام، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار. فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار، لم يجز أن تقول: وقد قام، لتكاذب الخبرين. وأما لما، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب. والظاهر أن قوله: لما يدخل الإيمان في قلوبكم {وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الأٌّعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا} ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب. {قل أتعلمون الله بدينكم} ، هي منقولة من: علمت به، أي شعرت به، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف. فإن أسلموا في موضع المفعول، ولذلك تعدى إليه في قوله: {قل لا تمنوا عليّ إسلامكم} . ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله. وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ، إذ هداكم، جعلا إذ مكان إن، وكلاهما تعليل، وجواب الشرط محذوف. سورة ق خمسة وأربعون آية مكية

والقرآن {عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلايمَنِ إِنُ كُنتُمْ صَدِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَفِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأٌّرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَبٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَّهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأٌّرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَسِقَتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَبُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَنُ لُوطٍ * وَأَصْحَبُ الأٌّيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأٌّوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ

الْوَعِيدِ * وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاًءَاخَرَ فَأَلْقِيَهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ} مقسم به و {المجيد} صفته، وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده، وتقديره: أنك جئتهم منذراً بالبعث، فلم يقبلوا. {بل عجبوا} ، وقيل: ما ردوا أمرك بحجة. وقال الأخفش، والمبرد، والزجاج: تقديره لتبعثن. وقيل: الجواب مذكور، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم؛ وعن ابن كيسان، والأخفش: ما يلفظ من قول؛ وعن نحاة الكوفة: بل عجبوا، والمعنى: لقد عجبوا. وقيل: إن في ذلك لذكرى، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي. وقىل: ما يبدل القول لديّ، وهذه كلها أقوال ضعيفة. وقرأ الأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وابن وثاب، والأعمش، وابن عتبة عن ابن عامر: إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا. وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة. وأما في قراءة الاستفهام، فالظرف منصوب بمضمر، أي: أنبعث إذا متنا؟ وقال الزمخشري: وإذا منصوب بمضمر معناه: أحين نموت ونبلى نرجع؟ انتهى.

بل كذبوا بالحق لما جاءهم {عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} : وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها، أي ما أجادوا والنظر، بل كذبوا. وقيل: لم يكذبوا المنذر، بل كذبوا، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية. وقال الزمخشري: بل كذبوا: إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات. انتهى. وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم: ما أجادوا النظر، {بل كذبوا بالحق} . والجحدري: لما جاءهم، بكسر اللام وتخفيف الميم، وما مصدرية، واللام لام الجر، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه. وقرأ الجمهور: تبصرة وذكرى {بِالْحَقِّ لَمَّا} بالنصب، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما، أي بصر وذكر. وقيل: مفعول من أجله. وقرأ زيد بن علي: تبصرة بالرفع، وذكر معطوف عليه. {باسقات} : أي طوالاً في العلو، وهو منصوب على الحال. و {رزقاً} نصب على المصدر، لأن معنى: وأنبتنا رزقنا، أو على أنه مفعول له. هو معطوف على إذ يتلقى {عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ} . وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة، والظرف صلتها. وعتيد، قال الزمخشري: بدل أو خير بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. وقرأ الجمهور: عتيد بالرفع؛ وعبد الله: بالنصب على الحال، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة.

ومنهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في خبره، وهو فألقياه. والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل، ويكون فألقياه توكيداً. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة، فجاز وصفه بهذه المعرفة. انتهى. وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة. وقدمت: يجوز أن يكون بمعنى تقدمت، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد، أو يكون قدم المتعدية، وبالوعيد هو المفعول، والباء زائدة. وانتصاب يوم بظلام، أو بأذكر، أو بأنذر كذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب بنفخ، كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم نقول، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول. انتهى، وهذا بعيد جداً، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته. غير بعيد {الشَّدِيدِ * قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ * قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} : مكاناً غير بعيد، وهو تأكيد لأزلفت، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار. فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان، فأعربت بإعرابه. وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة. قال: وتذكيره يعني بعيد، لأنه على زنة المصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث. انتهى. وكونه على وزن المصدر، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث.

وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل. ولكل أواب {هَذَا مَا} : هو البدل من المتقين. {من خشي} : بدل بعد بدل تابع {لكل} ، قاله الزمخشري. وإنما جعله تابعاً {لكل} ، لا بدلاً من {للمتقين} ، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد. قال: ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف أواب وحفيظ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ، لأن من لا يوصف به، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي. انتهى. يعني بقوله: في حكم أو أب: أن يجعل من صفته، وهذا حكم صحيح. وأما قوله: ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي، فالحصر ليس بصحيح، قد وصفت العرب بما فيه أل، وهو موصول، نحو القائم والمضروب، ووصفت بذو الطائية، وذات في المؤنث. ومن كلامهم: بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذات أكرمك الله به، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك. وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف، تقديره: يقال لهم ادخلوها، لأن من في معنى الجمع، وأن تكون شرطية، والجواب الفعل المحذوف، أي فيقال: وأن يكون منادى، كقولهم: من لا يزال محسناً أحسن إليّ، وحذف حرف النداء للتقريب. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون من نعتاً. انتهى، وهذا لا يجوز، لأن من لا ينعت بها، وبالغيب حال من المفعول، أي وهو غائب عنه، وإنما أدركه بالعلم الضروري، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع. ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه. وقيل: في الخلوة حيث لا يراه أحد، فيكون حالاً من الفاعل. {وما مسنا من لغوب} : احتمل أن تكون جملة حالية، واحتمل أن تكون استئنافاً.

سورة الذاريات

وقيل: مفعول استمع محذوف تقديره: نداء المنادي. وقيل تقديره: نداء الكافر بالويل والثبور. وقيل: لا يحتاج إلى مفعول، إذ حذف اقتصاراً، فيوم منتصب على أنه مفعول به. يوم يسمعون {السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن} : بدل من {يوم ينادي} . {ذلك} : أي يوم النداء والسماع، {يوم الخروج} من القبور، وقيل: الإشارة بذلك إلى النداء، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر، أو يكون على حذف، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج، أو وقت النداء يوم الخروج. ويوم بدل من يوم الثاني. وقيل: منصوب بالمصدر، وهو الخروج. وقيل: المصير، وانتصب سراعاً {قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} على الحال من الضمير في عنهم، والعامل تشقق. وقيل: محذوف تقديره يخرجون، فهو حال من الواو في يخرجون، قاله الحوفي. ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في {يوم تشقق} . {ذلك حشر علينا يسير} : فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة، وهو علينا، أي يسير علينا، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة. سورة الذاريات ستون آية مكية

أي متى وقت الجزاء؟ سؤال تكذيب واستهزاء، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله: أيان مرساها {وَعِيدِ * وَالذرِيَتِ ذَرْواً * فَالْحَمِلَتِ وِقْراً * فَالْجَرِيَتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَدِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَهُونَ * يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ} ، {وأيان يوم الدين} ، فيكون الظرف محلاً للمصدر، وانتصب يومهم بمضمر تقديره: هو كائن، أي الجزاء، قاله الزجاج، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو يومهم، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن، وهي الجملة الإسمية. ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني. {يوم هم} بالرفع، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى: {يوم هم بارزون} . وقال بعض النحاة: يومهم بدل من {يوم الدين} . {هذا الذي} : مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم، أي ذوقوا هذا العذاب. انتهى، وفيه بعد، والاستقلال خير من البدل. والظاهر أن {قليلاً} ظرف، وهو في الأصل صفة، أي كانوا في قليل من الليل. وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، وما زائدة في كلا الإعرابين.

وقال الضحاك: {كانوا قليلاً} ، أي في عددهم، وثم خبر كان، ثم ابتدأ {من الليل ما يهجعون} ، فما نافية، وقليلاً وقف حسن، وهذا القول فيه تفكيك للكلام، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله، وذلك لا يجوز عند البصريين، ولو كان ظرفاً أو مجروراً. وقد أجاز ذلك بعضهم، وجاء في الشعر قوله: إذا هي قامت حاسراً مشمعلةيحسب الفؤاد رأسها ما تقنعفقدم رأسها على ما تقنع، وهو منفي بما، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً، أي كانوا قليلاً هجوعهم، وهو إعراب سهل حسن، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره: {كانوا قليلاً من الليل} من الوقت الذي يهجعون فيه، وفيه تكلف. مثلُ بالرفع: صفة لقوله: لحق {وَالأٌّرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} ؛ وباقي السبعة، والجمهور: بالنصب، وقيل: هي فتحة بناء، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع. ولما أضيف إلى غير متمكن بنى، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون. وقال المازني: بنى مثل، لأنه ركب مع ما، فصار شيئاً واحداً، ومثله: ويحما وهيما وابنما، قال حميد بن ثور: ألا هيما مما لقيت وهيماوويحاً لمن لم يلق منهن ويحما قال: فلولا البناء لكان منوناً، وقال الشاعر: فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما انتهى هذا التخريج. وابنما ليس ابنا بني مع ما، بل هذا من باب زيادة الميم فيه، واتباع ما في الآخر، إذ جعل في الميم الإعراب. تقول: هذا ابنم، ورئت ابنما، ومررت بابنم، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما، كما قال: الفتحة في ابنما حركة إعراب، وهو منصوب على التمييز، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز:

أثور ما أصيدكم أو ثورينأم تيكم الجماء ذاب القرنين وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره: إنه لحق حقاً مثل ما أنكم، فحركته حركة إعراب. وقيل: انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في {لحق} . وقيل: حال من لحق، وإن كان نكرة، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه. وما زائدة بنص الخليل، ولا يحفظ حذفها، فتقول: ذا حق كأنك ههنا، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى، فينصبونه على الظرف، ويجيزون زيد مثلك بالنصب، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو. وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل، أو بإضمار اذكر، وهذه أقوال منقولة. وقرأ الجمهور: قالوا سلاماً، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به. قال سلام {لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَماً} بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره: عليكم سلام. قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى، إذ سلاماً دعاء. وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أمري سلام، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع. وقال ابن عطية: ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً، ويكون المعنى حينئذ: أنهم قالوا تحية؛ وقولاً معناه سلاماً. والظاهر أن قوله: {وفي موسى} معطوف على {وتركنا فيها} : أي في قصة موسى. وقال الزمخشري وابن عطية: {وفي موسى} يكون عطفاً على {وفي الأرض آيات للموقنين} . {وفي موسى} ، وهذا بعيد جدًّا، ينزه القرآن عن مثله. وقال الزمخشري أيضاً: أو على قوله، {وتركنا فيها آية} ، على معنى: وجعلنا في موسى آية، كقوله: علفتها تبيناً وماء بارداً انتهى، ولا حاجة إلى إضمار {وتركنا} ، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور {وتركنا} .

سورة الطور

وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو، ويدل على ذلك أنه قد قالهما، قال: إن هذا لساحر عليم {بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَحِرٌ أَوْ} ، و {قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} ، واستشهد أبو عبيدة بقول جرير: أثعلبة الفوارس أو رباحاًعدلت بهم طهية والحشايا ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو، إذ يكون قالهما، وأبهم على السامع، فأو للإبهام. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {وقوم} بالجر عطفاً على ما تقدم، أي وفي قوم نوح، وهي قراءة عبد الله. وقرأ باقي السبعة، وأبو عمرو في رواية: بالنصب. قيل: عطفاً على الضمير في {فأخذتهم} ؛ وقيل: عطفاً على {فنبذناهم} ، لأن معنى كل منهما: فأهلكناهم. وقيل: منصوب بإضمار فعل تقديره: وأهلكنا قوم نوح، لدلالة معنى الكلام عليه. وقيل: باذكر مضمرة. وروى عبد الوارث، ومحبوب، والأصمعي عن أبي عمرو، وأبو السمال، وابن مقسم: وقوم نوح بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي أهلكناهم. أي: وبنينا السماء، فهو من باب الاشتغال، وكذا وفرشنا الأرض. وقرأ أبو السمال، ومجاهد، وابن مقسم: برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء. وإنا لموسعون {فَسِقِينَ * وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} : أي بناءها، فالجملة حالية، أي بنيناها موسعوها، كقوله: جاء زيد وإنه لمسرع، أي مسرعاً. وقرأ الأعمش، وابن وثاب: المتين {الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} بالجر، صفة للقوة على معنى الاقتدار، قاله الزمخشري، أو كأنه قال: ذو الأيد، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار، كقولهم: هذا جحر ضب خرب. سورة الطور تسع وأربعون آية مكية والواو الأولى واو القسم، وما بعدها للعطف. والجملة المقسم عليها هي قوله: إن عذاب ربك لواقع.

وانتصب يوم بدافع، قاله الحوفي، وقال مكي: لا يعمل فيه واقع، ولم يذكر دليل المنع. وقيل: هو منصوب بقوله: لواقع {دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً} ، وينبغي أن يكون {ما له من دافع} على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول. وسحر: خبر مقدم، وهذا: مبتدأ، وسواء: مبتدأ، والخبر محذوف، أي الصبر والجزع. وقال أبو البقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي صبركم وتركه سواء. وقرأ الجمهور: فكهين، نصباً على الحال، والخبر في جنات ونعيم {تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّتٍ وَنَعِيمٍ * فَكِهِينَ بِمَآءَاتَهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَهُمْ رَبُّهُمْ} . وقرأ خالد: بالرفع على أنه خبر إن، وفي جنات متعلق به. ومن أجاز تعداد الخبر، أجاز أن يكونا خبرين. {ووقاهم} معطوف على {في جنات} ، إذ المعنى: استقروا في جنات، أو على {آتاهم} ، وما مصدرية، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم. وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال، ومن شرط قد في الماضي، قال: هي هنا مضمرة، أي وقد وقاهم. قال الزمخشري: أكلاً وشرباً هنيئاً، أو طعاماً وشراباً هنيئاً، وهو الذي لا تنغيص فيه. ويجوز أن يكون مثله في قوله:

هنيئاً مريئاً غير داء مخامرلعزة من أعراضنا ما استحلت أعني: صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به ما استحلت، كما يرتفع بالفعل، كأنه قيل: هنا عزة المستحل من أعراضنا. وكذلك معنى هنيئاً ههنا: هنأكم الأكل والشرب، أو هنأكم ما كنتم تعملون، أي جزاء ما كنتم تعملون، والباء مزيدة كما في: كفى بالله {الْجَحِيمِ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، والباء متعلقة بكلوا واشربوا، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. انتهى. وتقدم لنا الكلام مشبعاً على {هنيئاً} في سورة النساء. وأما تجويزه زيادة الباء، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ. وأما قوله: إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا، فلا يصح إلا على الأعمال، فهي تتعلق بأحدهما. وانتصب {متكئين} على الحال. قال أبو البقاء: من الضمير في {كلوا} ، أو من الضمير في {ووقاهم} ، أو من الضمير في {آتاهم} ، أو من الضمير في {فاكهين} ، أو من الضمير في الظرف. انتهى. والظاهر أنه حال من الظرف، وهو قوله: {في جنات} . والظاهر أن قوله: {والذين آمنوا} مبتدأ، وخبره {ألحقناه} . وأجاز أبو البقاء أن يكون {والذين} في موضع نصب على تقدير: وأكرمنا الذين آمنوا. وقال الزمخشري: {والذين آمنوا} ، معطوف على حور عين.

سورة النجم

وقال الحوفي: {بنعمة ربك} متعلق بما دل عليه الكلام، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها، والتقدير: ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن. قال أبو البقاء: الباء في موضع الحال، والعامل في بكاهن أو مجنون، والتقدير: ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. انتهى. وتكون حالاً لازمة لا منتقلة، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه. وقيل: {بنعمة ربك} مقسم بها، كأنه قيل: ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر، كما تقول: ما زيد والله بقائم. وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف. يستمعون فيه {بِهَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ} : أي عليه أو منه، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض، وقدره الزمخشري: صاعدين فيه، ومفعول يستمعون محذوف تقديره: الخبر بصحة ما يدعونه. سورة النجم اثنتان وستون آية مكية علمه {النُّجُومِ * وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالاٍّفُقِ الأٌّعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} : الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلّم فالمفعول الثاني محذوف، أي علمه الوحي. أو على القرآن، فالمفعول الأول محذوف، أي علمه الرسول صلى الله عليه وسلّم

وقوله: وهو {فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالاٍّفُقِ الأٌّعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً} ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين. وانتصب نزلة، قال الزمخشري: نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل. وقال الحوفي وابن عطية: مصدر في موضع الحال. وقال أبو البقاء: مصدر، أي مرة أخرى، أو رؤية أخرى. لقد رأى من أيات ربه الكبرى {رَءَاهُ نَزْلَةً} ، قيل: الكبرى مفعول رأى. وقيل: {من آيات} هو في موضع المفعول، والكبرى صفة لآياته ربه، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة، كما في قوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} ، عند من جعلها صفة لآياتنا. والتاء في اللات قيل أصلية، لام الكلمة كالباء من باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء، لأن مادة ليت موجودة. فإن وجدت مادة من ل وت، جاز أن تكون منقلبة من واو. وقيل: التاء للتأنيث، ووزنها فعلة من لوى، قيل: لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها: أي يطوفون، حذفت لامها. فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها، وحذفت لدلالة الكلام السابق عليها.

وهي من رؤية العين، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء لم تتعد. انتهى. ويعني بالأجرام: اللات والعزى ومناة، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام، نحو: أرأيت زيداً ما صنع؟ وقوله: ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني، لم تتعد؛ والتي هي بمعنى الاستفتاء تتعدى إلى اثنين، أحدهما منصوب، والآخر في الغالب جملة استفهامية. وقد تكرر لنا الكلام في ذلك، وأوله في سورة الأنغام. ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه، وهي التي بمعنى أخبرني. والظاهر أن الثالثة الأخرى {الْكُبْرَى * أَفَرَءَيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى} صفتان لمناة، وهما يفيدان التوكيد. ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح، إنما يدلان على معنى غير، إلا أن من شرطهما أن يكونا من جنس ما قبلهما. لو قلت: مررت برجل وآخر، لم يدل إلا على معنى غير، لا على ذم ولا على مدح. وقال أبو البقاء: والأخرى توكيد، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. انتهى. وقيل: الأخرى صفة للعزى. وكم {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ} : هي خبرية، ومعناها هنا: التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر {لا تغني} . {إلا اللمم} : استثناء منقطع، لأنه لم يدخل تحت ما قبله. اللام للصيرورة في قوله ليجزيهم. {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} قيل: يصح أن يكون استثناء متصلاً. وأفرأيت هنا بمعنى: أخبرني، ومفعولها الأول الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي: {أعنده علم الغيب} . {أن لا تذر} وأن هي المخففة من الثقيلة، وهي بدل من ما في قوله: {بما في صحف} ، أو في موضع رفع، كأن قائلاً قال: ما في صحفهما، فقيل: {لا تزر وازرة وزر أخرى} .

سورة القمر

والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان، والمنصوب عائد على السعي، والجزاء مصدر. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله: الجزاء الأوفى {يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى} . وإذا كان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه، فعلى ماذا انتصابه؟ وأما إذا كان بدلاً، فهو من باب بدل الظاهر من الضمير الذي يفسره الظاهر، وهي مسألة خلاف، والصحيح المنع. وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى. وهم يجوز أن يكون تأكيداً للضمىر المنصوب، ويجوز أن يكون فصلاً، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول بعد الواقع خبراً لكان، لأنه جار مجرى خبر المبتدأ، وحذفه فصيح فيه، فكذلك في خبر كان. والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة، وأخر العامل لكونه فاصلة. ويجوز أن يكون والمؤتفكة {الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاٍّولَى * وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّهَا مَا غَشَّى} معطوفاً على ما قبله، و {أهوى} جملة في موضع الحال. سورة القمر خمس وخمسون آية مكية وامتنعت سقر من الصرف للعلمية، والتأنيث تنزلت حركة وسطه تنزل الحرف الرابع في زينب.

وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي: مستقر بكسر القاف والراء معاً صفة لأمر. وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفاً على الساعة، أي اقتربت الساعة، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب، نحو: أكلت خبزاً وضربت زيداً، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحماً، فيكون ولحماً عطفاً على خبزاً، بل لا يوجد مثله في كلام العرب. وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل، فهو مرفوع في الأصل، لكنه جر للمجاورة، وهذا ليس بجيد، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، والأسهل أن يكون الخبر مضمراً لدلالة المعنى عليه، والتقدير: وكل أمر مستقر بالغوه، لأن قبله: {وكذبوا واتبعوا أهواءهم} : أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم. وقيل: الخبر حكمة بالغة، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة. ويكون: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} اعتراض بين المبتدأ وخبره. وقرأ الجمهور: {حكمة بالغة} برفعهما، وجوزوا أن تكون حكمة بدلاً من مزدجر أو من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وتقدم قول من جعله خبراً عن كل في قراءة من قرأ مستقر بالجر. وقرأ اليماني: حكمة بالغة بالنصب فيهما حالاً من ما، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة. {يوم يدع الداعي} ، والناصب ليوم اذكر مضمرة، قاله الرماني، أو يخرجون. وانتصب خشعاً وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون، والعامل فيه يخرجون، لأنه فعل متصرف، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً. وقد قالت العرب: شتى تؤب الحلبة، فشتى حال، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب، لأنه فعل متصرف، وقال الشاعر: سريعاً يهون الصعب عند أولي النهيإذا برجاء صادق قابلوه البأسا

فسريعاً حال، وقد تقدمت على عاملها، وهو يهون. وقيل: هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله: {فتول عنهم} وقيل: هو مفعول بيدع، أي قوماً خشعاً، أو فريقاً خشعاً، وفيه بعد. ومن أفرد خاشعاً وذكر، فعلى تقدير تخشع أبصارهم؛ ومن قرأ خاشعة وأنث، فعلى تقدير تخشع؛ ومن قرأ خشعاً جمع تكسير، فلأن الجمع موافق لما بعده، وهو أبصارهم، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون، وهو نظير قولهم: مررت برجال كرام آباؤهم. وقال الزمخشري: وخشعاً على يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلوني البراغيث، وهم طيء. انتهى. ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة. وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب، فكيف يكون أكثر، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكراً ومؤنثاً وجمع التكسير، قال: لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك، والجمع موافق للفظها، فكان أشبه. انتهى. وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعاً بالواو والنون نحو: مررت بقوم كريمين آباؤهم. والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم، وهو قياس فاسد، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد، كما ذكرناه عن سيبويه، وكما دل عليه كلام الفراء؛ وجوز أن يكون في خشعاً ضمير، وأبصارهم بدل منه. وقرىء: خشع أبصارهم، وهي جملة في موضع الحال، وخشع خبر مقدم. ومفعول كذبت محذوف، أي كذبت الرسل. وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ، ورويت عن عاصم: إني بكسر الهمزة، على إضمار القول على مذهب البصريين، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين. ويجوز أن تكون الباء للحال، أي ملتبسة بماء منهمر.

وانتصب عيوناً على التمييز، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من: وفجرنا عيون الأرض، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالاً، ويكون حالاً مقدرة، وأعربه بعضهم مفعولاً ثانياً، كأنه ضمن وفجرنا {وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَآ أَبْوَبَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأٌّرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} : صيرنا بالتفجير، {الأرض عيوناً} . وكفر: خبر لكان، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبراً لكان، وهو مذهب البصريين وغيرهم. يقول: لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة، أي لمن كفر. وكان، إن كانت ناقصة، كانت كيف في موضع خبر كان؛ وإن كانت تامة، كانت في موضع نصب على الحال. والجمهور: على إضافة يوم إلى نحس، وسكون الحاء. وقرأ الحسن: بتنوين يوم وكسر الحاء، جعله صفة لليوم. تنزع الناس {بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا} : يجوز أن يكون صفة للريح، وأن يكون حالاً منها، لأنها وصفت فقربت من المعرفة. ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفاً. والجملة التشبيهية حال من الناس، وهي حال مقدرة. وقال الطبري: في الكلام حذف تقديره: فتتركهم. {كأنهم أعجاز نخل} : فالكاف في موضع نصب بالمحذوف.

وقرأ أبو السمال، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل، وأبو عمر والدانى: برفعهما. فأبشر: مبتدأ، وواحد صفته، والخبر نتبعه. ونقل ابن خالويه، وصاحب اللوامح، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحداً عن أبي السمال. قال صاحب اللوامح: فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير: أبشر منا يبعث إلينا، أو يرسل، أو نحوهما؟ وأما انتصاب واحداً فعلى الحال، إما مما قبله بتقدير: أبشر كائن منا في الحال توحده، وإما مما بعده بمعنى: نتبعه في توحده، أو في انفراده. وقال ابن عطية: ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول، التقدير: أينبأ بشر؟ وإما على الابتداء، والخبر في قوله: نتبعه {فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا} ، وواحداً على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه، وإما من المقدر مع منا، كأنه يقول: أبشر كائن منا واحداً؟ وفي هذا نظر. وانتصب نعمة {بِسَحَرٍ * نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} على أنه مفعول من أجله، أي نجيناهم لإنعامنا عليهم أو على المصدر، لأن المعنى: أنعمنا بالتنجية إنعاماً.

سورة الرحمن

{إنا كل شيء خلقناه بقدر} ، قراءة الجمهور: كل شيء بالنصب. وقرأ أبو السمال، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة: بالرفع. قال أبو الفتح: هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة. وقال قوم: إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف، وأن ما بعده يصلح للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف، ومنه هذا الموضع، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف، وأن الخبر يقدر. فقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية. فأهل السنة يقولون: كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبراً لو وقع الأول على الابتداء. وقالت القدرية: القراءة برفع كل، وخلقناه في موضع الصفة لكل، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك. وقال الزمخشري: {كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. سورة الرحمن ثمان وسبعون آية مكية

والظاهر أن الرحمن {مُّقْتَدِرِ * الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الإِنسَنَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ * وَالأٌّرْضَ وَضَعَهَا لِلأٌّنَامِ * فِيهَا فَكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأٌّكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ الإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَىِّءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مرفوع على الابتداء، {وعلم القرآن} خبره. وقيل: {الرحمن} آية بمضمر، أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا، وذلك آية؛ و {علم القرآن} استئناف إخبار. وعلم متعدّية إلى اثنين، حذف أولهما لدلالة المعنى عليه، وهو جبريل، أو محمد عليهما الصلاة والسلام، أو الإنسان. وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان، فأما على حذف، أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان. وقيل: الخبر محذوف، أي يجريان بحسبان، وبحسبان متعلق بيجريان، وعلى قول مجاهد: تكون الباء في بحسبان ظرفية، لأن الحسبان عنده الفلك.

والسماء {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الإِنسَنَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ} ، بالنصب على الاشتغال، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي {يسجدان} . وقرأ أبو السمال: والسماء بالرفع، راعى مشاكلة الجملة الابتدائىة. وقرأ الجمهور: {ووضع الميزان} ، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان، أي أقره وأثبته. وقرأ إبراهيم: ووضع الميزان، بالخفض وإسكان الضاد. {أن لا تطغو في الميزان} : أي لأن لا تطغوا، فتطغوا منصوب بأن. وقال الزمخشري: أو هي أن المفسرة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون أن مفسرة، فيكون تطغوا جزماً بالنهي. انتهى، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة، لأنه فات أحد شرطيها، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول. {ووضع الميزان} جملة ليس فيها معنى القول. وحكى ابن جني وصاحب اللوامح، عن بلال: فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير: في الميزان، فحذف الجار ونصب، ولا يحتاج إلى هذا التخريج. ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى: خسروا أنفسهم {بِالْقِسْطِ وَلاَ} ، و {خسر الدنيا والآخرة} ؟ وقرأ الجمهور: {والحب ذو العصف والريحان} ، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بنصب الثلاثة، أي وخلق الحب. وجوزوا أن يكون {والريحان} حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف، أي وذو الريحان حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ وريحان من ذوات الواو. وأجاز أبو علي أن يكون اسماً، ووضع موضع المصدر، وأن يكون مصدراً على وزن فعلان كاللبان. وأبدلت الواو ياء، كما أبدلوا الياء واواً في أشاوى، أو مصدراً شاذاً في المعتل، كما شذ كبنونة وبينونة، فأصله ريوحان، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار ريحان، ثم حذفت عين الكلمة، كما قالوا: ميت وهين.

فبأي منوناً في جميع السورة، كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه آلاء ربكما {وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بدل معرفة من نكرة. ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية في من نار {الإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ} للتبعيض. وقيل للبيان والتكرار في هذه الفواصل. وقرأ الجمهور: {رب} ، و {رب} بالرفع، أي هو رب؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بالخفض بدلاً من ربكما. والمرجان: اسم أعجميّ معرب. قال ابن دريد: لم أسمع فيه نقل متصرف. {يسأله من في السموات والأرض} : والظاهر أن قوله: يسأله استئناف إخبار. وقيل: حال من الوجه، والعامل فيه يبقى. وانتصب {كل يوم} على الظرف، والعامل فيه العامل في قوله: {في شأن} ، وهو مستقر المحذوف، نحو: يوم الجمعة زيد قائم. {يرسل عليكم شواظ} ، وقرأ زيد بن علي: نرسل بالنون، عليكما شواظاً بالنصب، من نار ونحاساً بالنصب عطفاً على شواظاً. {فإذا انشقت السماء} : جواب إذا محذوف، أي فما أعظم الهول. {فيومئذ} : التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة، والتقدير: فيوم إذ انشقت السماء، والناصب ليومئذ {لا يسأل} . ويؤخذ متعد إلى مفعول بنفسه، وحذف هذا الفاعل والمفعول، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل مضمناً معنى ما يعدى بالباء، أي فيسحب بالنواصي والأقدام، وأل فيهما على مذهب الكوفيين عوض من الضمير، أي بنواصيهم وأقدامهم، وعلى مذهب البصريين الضمير محذوف، أي بالنواصي والأقدام منهم. وانتصب متكئين {بِسِيمَهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى} على الحال من قوله: {ولمن خاف} ، وحمل جمعاً على معنى من. وقيل: العامل محذوف، أي يتنعمون متكئين. وقال الزمخشري: أي نصب على المدح، وقال الزمخشري: نصب على الاختصاص.

سورة الواقعة

وقرأ الجمهور: {على رفرف} ، ووصف بالجمع لأنه اسم جنس، الواحد منها رفرفة، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله: {والنخل باسقات} ، وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة. وقرأ الجمهور: {ذي الجلال} : صفة لربك؛ وابن عامر وأهل الشام: ذو صفة للاسم. سورة الواقعة ست وتسعون آية مكية والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو، فهو في موضع خفض بإضافة إذا إليها احتاج إلى تقدير عامل، إذ الظاهر أنه ليس ثم جواب ملفوظ به يعمل بها. فقال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب إذا؟ قلت: بليس، كقولك: يوم الجمعة ليس لي شغل، أو بمحذوف يعني: إذا وقعت، كان كيت وكيت، أو بإضمار اذكر. انتهى. أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئاً من صناعة الإعراب إلى مثل هذا، لأن ليس في النفي كما، وما لا تعمل، فكذلك ليس، وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان. والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز، لأن حد الفعل لا ينطبق عليها. والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث، فإذا قلت: يوم الجمعة أقوم، فالقيام واقع في يوم الجمعة، وليس لا حدث لها، فكيف يكون لها عمل في الظرف؟ والمثال الذي شبه به، وهو يوم القيامة، ليس لي شغل، لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس، بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس، وهو الجار والمجرور، فهو من تقديم معمول الخبر على ليس، وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها، وهو مختلف فيه، ولم يسمع من لسان العرب: قائماً ليس زيد. وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن الخبري عن المحكوم عليه فقط، فهي كما، ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع، جعلها ناس فعلاً، وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية.

ويظهر من تمثيل الزمخشري إذاً بقوله: يوم الجمعة، أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها، ولو كانت شرطاً، وكان الجواب الجملة المصدرة بليس، لزمت الفاء، إلا إن حذفت في شعر، إذ ورد ذلك، فنقول: إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته. ولا يجوز لست بغير فاء، إلا إن اضطر إلى ذلك. وأما تقديره: إذا وقعت كان كيت وكيت، فيدل على أن إذا عنده شرطية، ولذلك قدر لها جواباً عاملاً فيها. وأما قوله: بإضمار اذكر، فإنه سلبها الظرفية، وجعلها مفعولاً بها منصوبة باذكر. وكاذبة: ظاهره أنه اسم فاعل من كذب، وهو صفة لمحذوف، فقدره الزمخشري: نفس كاذبة. والجملة من قوله: {ليس لوقعتها كاذبة} على ما قدّره الزمخشري من أن إذا معمولة لليس يكون ابتداء السورة، إلا إن اعتقد أنها جواب لإذا، أو منصوبة باذكر، فلا يكون ابتداء كلام. وقال ابن عطية: في موضع الحال، والذي يظهر لي أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه.

وقرأ الجمهور: {خافضة رافعة} برفعهما، على تقدير هي؛ وزيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره بنصبهما. قال ابن خالوية: قال الكسائي: لولا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به، ونصبهما على الحال. قال ابن عطية: بعد الحال التي هي {ليس لوقعتها كاذبة} ، ولك أن تتابع الأحوال، كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ. والقراءة الأولى أشهر وأبدع معنى، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لو لم يذكر لاستغنى عنه، وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما يهتم به. انتهى. وهذا الذي قاله سبقه إليه أبو الفضل الرازي. قال في كتاب اللوامح: وذو الحال الواقعة والعامل وقعت، ويجوز أن يكون {ليس لوقعتها كاذبة} حال أخرى من الواقعة بتقدير: إذا وقعت صادقة الواقعة، فهذه ثلاثة أحوال من ذي حال، وجازت أحوال مختلفة عن واحد، كما جازت عنه نعوت متضادة وأخبار كثيرة عن مبتدأ واحد. وإذا جعلت هذه كلها أحوالاً، كان العامل في {إذا وقعت} محذوفاً يدل عليه الفحوى بتقدير يحاسبون ونحوه. انتهى. وتعداد الأحوال والأخبار فيه خلاف وتفصيل ذكر في النحو، فليس ذلك مما أجمع عليه النحاة.

{وإذا رجت} بدل من {إذا وقعت} ، وجواب الشرط عندي ملفوظ به، وهو قوله: {فأصحاب الميمنة} ، وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة، أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض. انتهى. ولا يجوز أن ينتصب بهما معاً، بل بأحدهما، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد. وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي: {إذ رجت} في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو {إذا وقعت} ، وليست واحدة منهما شرطية، بل جعلت بمعنى وقت، وما بعد إذا أحوال ثلاثة، والمعنى: وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع، خافضة قوم، رافعة آخرين وقت رج الأرض. وهكذا ادعى ابن مالك أن إذا تكون مبتدأ، واستدل بهذا. وقد ذكرنا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط. فأصحاب مبتدأ، ما مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم، وأصحاب الميمنة خبر عن ما، وما بعدها خبر عن أصحاب، وربط الجملة بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه، وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم، وما تعجب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة. {والسابقون السابقون} : جوزوا أن يكون مبتدأ وخبراً، نحو قولهم: أنت أنت، وقوله: أنا أبو النجم، وشعري شعري، وأن يكون السابقون تأكيداً لفظياً، والخبر فيما بعد ذلك؛ وأن يكون السابقون مبتدأ والخبر فيما بعده، وتقف على قوله: {والسابقون} ، وأن يكون متعلق السبق الأول مخالفاً للسبق الثاني. والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة، فعلى هذا جوزوا أن يكون السابقون خبراً لقوله: {والسابقون} ، وأن يكون صفة والخبر فيما بعده. والوجه الأول، قال ابن عطية: ومذهب سيبويه أنه يعني السابقون خبر الابتداء، يعني خبر والسابقون، وهذا كما تقول: الناس الناس، وأنت أنت، وهذا على تفخيم الأمر وتعظيمه. انتهى. {متكئين عليها} متكئين: حال من الضمير المستكن في {على سرر} .

وقرأ الجمهور: {وحور عين} برفعهما؛ وخرج عليّ على أن يكون معطوفاً على {ولدان} ، أو على الضمير المستكن في {متكئين} ، أو على مبتدأ محذوف هو وخبره تقديره: لهم هذا كله، {وحور عين} ، أو على حذف خبر فقط: أي ولهم حور، أو فيهما حور. وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة والكسائي: بجرهما؛ والنخعي: وحير عين، بقلب الواو ياء وجرهما، والجر عطف على المجرور، أي يطوف عليهم ولدان بكذا وكذا وحور عين. وقيل: هو على معنى: وينعمون بهذا كله وبحور عين. وقال الزمخشري: عطفاً على {جنات النعيم} ، كأنه قال: هم في جنات وفاكهة ولحم وحور. انتهى، وهذا فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي. وقرأ أبي وعبد الله: وحوراً عيناً بنصبهما، قالوا: على معنى ويعطون هذا كله وحوراً عيناً. وقرأ قتادة: وحور عين بالرفع مضافاً إلى عين؛ وابن مقسم: بالنصب مضافاً إلى عين؛ وعكرمة: وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس، وبفتح الهمزة فيهما؛ فاحتمل أن يكون مجروراً عطفاً على المجرور السابق؛ واحتمل أن يكون منصوباً؛ كقراءة أبي وعبد الله وحوراً عيناً. والظاهر أن {إلا قيلاً سلاماً سلاماً} استثناء منقطع، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم، ويبعد قول من قال استثناء متصل. وسلاماً، قال الزجاج: هو مصدر نصبه {قيلاً} ، أي يقول بعضهم لبعض {سلاماً سلاماً} . وقيل: نصب بفعل محذوف، وهو معمول قيلاً، أي قيلاً اسلموا سلاماً. وقيل: {سلاماً} بدل من {قيلاً} . وقيل: نعت لقيلا بالمصدر، كأنه قيل: إلا قيلاً سالماً من هذه العيوب.

صفتان للظل. وقد يجوز أن يكون لا بارد ولا كريم {الأٌّخِرِينَ * وَأَصْحَبُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَبُ الشِّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَءَابَآؤُنَا الأٌّوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأٌّوَّلِينَ وَالأٌّخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالُِونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَرِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ * أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَلِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ * أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَهَا تَذْكِرَةً وَمَتَعاً لِّلْمُقْوِينَ *

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ * فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَبٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَبِ الْيَمِينِ * فَسَلَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَبِ الْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} صفة ليحموم، ويلزم منه أن يكون الظل موصوفاً بذلك. وقرأ الجمهور: {لا بارد ولا كريم} بجرهما؛ وابن عبلة: برفعهما: أي لا هو بارد ولا كريم، على حد قوله: فأبيت لا حرج ولا محروم أي لا أنا حرج.

فقولهم: {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون} : تقدم الكلام عليه في والصافات، وكرر الزمخشري هنا وهمه فقال: فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في {لمبعوثون} من غير تأكيد بنحن؟ قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة، كما حسن في قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا} ، الفصل لا المؤكدة للنفي. انتهى. ورددنا عليه هنا وهناك إلى مذهب الجماعة في أنهم لا يقدرون بين همزة الاستفهام وحرف العطف فعلاً في نحو: {أفلم يسيروا} ، ولا اسماً في نحو: {أو آباؤنا} ، بل الواو والفاء لعطف ما بعدهما على ما قبلهما، والهمزة في التقدير متأخرة عن حرف العطف. لكنه لما كان الاستفهام له صدر الكلام قدمت. {لآكلون من شجر من زقوم} : من الأولى لابتداء الغاية أو للتبعيض؛ والثانية، إن كان من زقوم بدلاً، فمن تحتمل الوجهين، وإن لم تكن بدلاً، فهي لبيان الجنس. ويجوز في {أأنتم} أن يكون مبتدأ، وخبره {تخلقونه} ، والأولى أن يكون فاعلاً بفعل محذوف، كأنه قال: أتخلقونه؟ فلما حذف الفعل، انفصل الضمير وجاء {أفرأيتم} هنا مصرحاً بمفعولها الأول. ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها، إذا كانت بمعنى أخبرني. وجاء بعد أم جملة فقيل: أم منقطعة، وليست المعادلة للهمزة، وذلك في أربعة مواضع هنا، ليكون ذلك على استفهامين، فجواب الأول لا، وجواب الثاني نعم، فتقدر أم على هذا، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم. وقال قوم من النحاة: أم هنا معادلة للهمزة، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد، إذ لو قال: أم نحن، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر. ونظير ذلك جواب من قال: من في الدار؟ زيد في الدار، أو زيد فيها، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به.

ودخلت اللام في {لجعلناه حطاماً} ، وسقطت في قوله: {جعلناه أجاجاً} ، وكلاهما فصيح. وطول الزمخشري في مسوغ ذلك، وملخصه: أن الحرف إذا كان في مكان، وعرف واشتهر في ذلك المكان، جاز حذفه لشهرة أمره. فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع. وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول، وليس كما ذكر، إنما هذا قول ضعفاء المعربين. والذي ذكره سيبويه: أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول. قرأ الجمهور: {فلا أقسم} ، فقيل: لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} . {وليحلفن} جواب قسم، وهو قسم، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً، بل مستقبلاً، لزمت النون، وهي مخلصة المضارع للاستقبال. والجملة المقسم عليها قوله: {إنه لقرآن كريم} ، وفصل بين القسم وجوابه؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله: {لو تعلمون} . واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي، فالضمة في السين إعراب. واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء، كما جاء في الحديث: إنا لم نرده عليك، إلا إنا جُزُم، وهو مجزوم، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم. قال ابن عطية: والقول بأن لا يمسه نهي، قول فيه ضعف، وذلك أنه إذا كان خبراً، فهو في موضع الصفة. وقرئ: تنزيلاً بالنصب، أي نزل تنزيلاً. وتقول: إذا {مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ} ليست شرطية، فتسد {ترجعونها} مسد جوابها، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني عليه.

سورة الحديد

{فروح} : فسلام، فنزل الفاء جواب أما تقدم. أما وهي في تقدير الشرط، وإن كان من المقربين، وإن كان من أصحاب اليمين، وإن كان من المكذبين الضالين شرط؛ وإذا اجتمع شرطان، كان الجواب السابق منهما. وجواب الثاني محذوف، ولذلك كان فعل الشرط ماضي اللفظ، أو مصحوباً بلم، وأغنى عنه جواب أما، هذا مذهب سيبويه. وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن، وجواب أما محذوف، وله قول موافق لمذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا، والشرط معاً، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل. وقرأ الجمهور: وتصلية رفعاً، عطفاً على {فنزل} ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو: بجر التاء عطفاً على {من حميم} . {فسبّح باسم ربك العظيم} : ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه كقوله {سبح اسم ربك الأعلى} ويسبحوه، وتارة بحرف الجر كقوله {فسبح باسم ربك العظيم} والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم، ويجوز أن يكون صفة لربك. سورة الحديد تسعة وعشرون آية مدنية وجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي هو يحيي ويميت. وأن يكون حالاً، وذو الحال الضمير في له، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور. واللام في لله، إما أن تكون بمنزلة اللام في: نصحت لزيد، يقال: سبح الله، كما يقال؛ نصحت زيداً، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول؛ وإما أن تكون لام التعليل، أي أحدث التسبيح لأجل الله، أي لوجهه خالصاً. {يحيي ويميت} : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب. و {لا تؤمنون} حال، كما تقول: ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه؟ {والرسول} : الواو واو الحال، فالجملة بعده حال، وقد أخذ حال ثالثة. {إن كنتم مؤمنين} : شرط وجوابه محذوف، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا، فهذا هو الموجب لإيمانكم.

و {ألا تنفقوا} تقديره: في أن لا تنفقوا، فموضعه جر أو نصب على الخلاف، وأن ليست زائدة، بل مصدرية. وقال الأخفش: في قوله: {وما لنا أن لا نقاتل} ، إنها زائدة عاملة تقديره عنده: وما لنا لا نقاتل، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن، وتقديره: وما لكم لا تنفقون، وقد رد مذهبه في كتب النحو. والظاهر أن من {وَالأٌّرْضِ لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ} فاعل {لا يستوي} ، وحذف مقابله، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوضوح المعنى. ومن أنفق مبتدأ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده، والجملة في موضع خبر من، وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير موجب. وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل، وهو يستوي. وقرأ الجمهور: {وكلاً} بالنصب، وهو المفعول الأول لوعد. وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي: وكل بالرفع والظاهر أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع الخبر، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام، وورد في السبعة، فوجب قبوله؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة. وقال الشاعر: وخالد تحمد ساداتنابالحق لا تحمد بالباطل يريده: تحمده ساداتنا، وفر بعضهم من جعل وعد خبراً فقال: كل خبر مبتدأ تقديره: وأولئك كل، ووعد صفة، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خيراً، نحو قوله: وما أدري أغيرهم تناءوطول العهد أم مال أصابوا يريد: أصابوه، فأصابوه صفة لمال، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف.

وقال ابن عطية: هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف، أو على القطع والاستئناف. وقرأ عاصم: فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام، وفي ذلك قلق. قال أبو علي، يعني الفارسي: لأن السؤال لم يقع على القرض، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة، يعني من القراء، حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: من ذا الذي يقرض {حَسَناً} بمنزلة أن لو قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه أبو على من أنه إنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو: من يدعوني فأستجيب له؟ وأين بيتك فأزورك؟ ومتى تسير فأرافقك؟ وكيف تكون فأصحبك؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال، لا عن الفعل. وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك: كم مالك فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ بالنصب بعد الفاء. وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة، والفعل وقع صلة للذي، والذي صفة لذا، وذا خبر لمن. وإذا جاز النصب في نحو هذا، فجوازه في المثل السابقة أحرى، مع أن سماع بن كيسان ذلك محكياً عن العرب يؤيد ذلك. العامل في يوم ما عمل في لهم؛ التقدير: ومستقر له أجر كريم يوم ترى، أو اذكر يوم ترى إعظاماً لذلك اليوم. وقرأ الجمهور: وبأيمانهم {كَرِيمٌ * يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَنِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّتٌ} ، جمع يمين؛ وسهل بن شعيب السهمي، وأبو حيوة: بكسر الهمزة، وعطف هذا المصدر على الظرف لأن الظرف متعلق بمحذوف، أي كائناً بين أيديهم، وكائناً بسبب أيمانهم. {بشراكم اليوم جنات} : جملة معمولة لقول محذوف، أي تقول لهم الملائكة.

{يوم يقول} بدل من {يوم ترى} . وقيل: معمول لاذكر. قال ابن عطية: ويظهر لي أن العامل فيه {ذلك هو الفوز العظيم} ، ومجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم. انتهى. وتقديره أن يوم منصوب بالفوز، وهو لا يجوز، لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته، فلا يجوز إعماله. فلو أعمل وصفة، وهو العظيم، لجاز، أي الفوز الذي عظم، أي قدره {يوم يقول} . والظاهر أن وراءكم {نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ} معمول لا رجعوا. وقيل: لا محل له من الأعراب لأنه بمعنى ارجعوا، كقولهم: وراءك أوسع لك، أي ارجع تجد مكاناً أوسع لك. {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} أيها المنافقون، والناصب لليوم الفعل المنفي بلا، وفيه حجة على من منع ذلك. قرأ الجمهور: {ولا يكونوا} بياء الغيبة، عطفاً على {أن تخشع} ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة، ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه: ولا تكونوا على سبيل الالتفات، إما نهياً، وإما عطفاً على {أن تخشع} . قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: {وأقرضوا} ؟ قلت: على معنى الفعل في المصدّقين، لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا، كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا. انتهى. واتبع في ذلك أبا علي الفارسي، ولا يصح أن يكون معطوفاً على المصدقين، لأن المعطوف على الصلة صلة، وقد فصل بينهما بمعطوف، وهو قلوه: {والمصدقات} . ولا يصح أيضاً أن يكون معطوفاً على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر، إذ ضمير المتصدّقات مؤنث، وضمير وأقرضوا مذكر، فيتخرج هنا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه، لأنه قيل: والذين أقرضوا، فيكون مثل قوله: فمن يهجو رسول الله منكمويمدحه وينصره سواه يريد: ومن يمدحه.

والشهداء {وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} : الظاهر أنه مبتدأ خبره ما بعده، فيقف على الصديقون، وإن شئت فهو من عطف الجمل. وقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة: والشهداء معطوف على الصديقون، والكلام متصل، يعنون من عطف المفرادت. {كمثل غيثٍ} وقال ابن عطية: {كمثل} في موضع رفع صفة لما تقدّم. {الذين يبخلون} : أي هم الذين يبخلون، أو يكون الذين مبتدأ محذوف الخبر على جهة الإبهام تقديره: مذمومون، أو موعودون بالعذاب، أو مستغنى عنهم، أو على إضمار، أعني فهو في موضع نصب، أو في موضع نصب صفة لكل مختال، وإن كان نكرة، فهو مخصص نوعاً مّا، فيسوغ لذلك وصفة بالمعرفه. قال ابن عطية: هذا مذهب الأخفش.

وقرأ الجمهور: {فإن الله هو} ؛ وقرأ نافع وابن عامر: بإسقاط هو، وكذا في مصاحف المدينة والشام، وكلتا القراءتين متواترة. فمن أثبت هو، فقال أبو علي الفارسي: يحسن أن يكون فصلاً، قال: ولا يحسن أن يكون ابتداء، لأن حذف الابتداء غير سائغ. انتهى. يعني أنه في القراءة الأخرى حذف، ولو كان مبتدأ لم يجز حذفه، لأنك إذا قلت: إن زيداً هو الفاضل، فأعربت هو مبتدأ، لم يجز حذفه، لأن ما بعده من قولك الفاضل صالح أن يكون خبراً لأن، فلا يبقى دليل على حذف هو الرابط. ونظيره: {الذين هم يراءون} ، لا يجوز حذف هم، لأن ما بعده يصلح أن يكون صلة، فلا يبقى دليل على المحذوف. وما ذهب إليه أبو علي ليس بشيء، لأنه بنى ذلك على توافق القراءتين وتركيب إحداهما على الأخرى، وليس كذلك. ألا ترى أنه يكون قراءتان في لفظ واحد، ولكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة من قرأ: {والله أعلم بما وضعت} بضم التاء، والقراءة الأخرى: {بما وضعت} بتاء التأنيث؟ فضم التاء يقتضي أن الجملة من كلام أم مريم، وتاء التأنيث تقتضي أنها من كلام الله تعالى، وهذا كثير في القراءات المتواترة. فكذلك هذا يجوز أن يكون هو مبتدأ في قراءة من أثبته، وإن كان لم يرد في القراءة الأخرى، ولكل من التركيبين في الإعراب حكم يخصه. {وجعلنا} : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا، كقوله: {وجعل الظلمات والنور} ، ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، فيكون {في قلوب} : في موضع المفعول الثاني لجعلنا. {ورهبانية} معطوف على ما قبله، فهي داخلة في الجمل. {ابتدعوها} : جملة في موضع الصفة لرهبانية.

سورة المجادلة

وجعل أبو علي الفارسي {ورهبانية} مقتطعة من العطف على ما قبلها من {رأفة ورحمة} ، فانتصب عنده {ورهبانية} على إضمار فعل يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها. واتبعه الزمخشري فقال: وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها. انتهى، وهذا إعراب المعتزلة، وكان أبو عليّ معتزلياً. وهم يقولون: ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد، فالرأفة والرحمة من خلق الله، والرهبانية من ابتداع الإنسان، فهي مخلوقة له. وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: {ورهبانية} ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة. والظاهر أن {إلا ابتغاء رضوان الله} استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله، وصار المعنى: أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته، وهذا قول مجاهد، ويكون كتب بمعنى قضى. وقال قتادة وجماعة: المعنى: المعنى: لم يفرضها عليهم، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى، فالاستثناء على هذا منقطع، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى. وقرأ الجمهور: {لئلا يعلم} ، ولا زائدة كهي في قوله: {ما منعك أن لا تسجد} ، وفي قوله: {أنهم لا يرجعون} في بعض التأويلات. وري ابن مجاهد عن الحسن: ليلاً مثل ليلى اسم المرأة، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة، فحذفت الهمزة، اعتباطاً، وأدغمت النون في اللام، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار ليلاً، ورفع الميم، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وقرأ الجمهور: أن لا يقدرون بالنون، فإن هي المخففة من الثقيلة. سورة المجادلة اثنان وعشرون آية مدنية

وقرأ الجمهور: أمّهاتهم، بالنصب على لغة الحجاز؛ والمفضل عن عاصم: بالرفع على لغة تميم؛ وابن مسعود: بأمهاتهم، بزيادة الباء. وانتصب {جميعاً} على الحال: أي مجتمعين في صعيد واحد. ويكون هنا تامة، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة، أي من تناجي ثلاثة، أو مصدراً على حذف مضاف، أي من ذوي نجوى، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين، فثلاثة: على هذين التقديرين. قال ابن عطية: بدل أو صفة. وقال الزمخشري: صفة. وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى. وقال الزمخشري: أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه. وقرأ الجمهور: ولا أكثر {الأٌّرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ} عطفاً على لفظ المخفوض؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب: بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به المتناجون، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف، أي ولا نجوى أدنى، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه. ويجوز أن يكون {ولا أدنى} مبتدأ، والخبر {إلا هو معهم} ، فهو من عطف الجمل، وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً: ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع، واحتمل الإعرابين: العطف على الموضع والرفع بالابتداء. وتقدمت القراءتان في نحو: ليحزن {الشَّيْطَنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ} . وقرىء: بفتح الياء والزاي، فيكون {الذين} فاعلاً، وفي القراءتين مفعولاً. وانجزم {يفسح الله} على جواب الأمر. والظاهر أن قوله: {والذين أوتوا العلم} معطوف على {الذين آمنوا} ، والعطف مشعر بالتغاير، وهو من عطف الصفات. وانتصب {والذين أوتوا العلم} بفعل مضمر تقديره: ويخص الذين أوتوا العلم درجات، فللمؤمنين رفع، وللعلماء درجات.

سورة الحشر

وعلى هذا التأويل يكون {ما هم} استئنافاً، وجاز أن يكون حالاً من ضمير {تولوا} . وعلى احتمال ابن عطية، يكون {ما هم} صفة لقوم. وقرأ الجمهور: كتب {عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ} مبنياً للفاعل، {في قلوبهم الإيمان} نصباً، أي كتب الله. وأبو حيوة والمفضل عن عاصم: كتب مبنياً للمفعول، والإيمان رفع. سورة الحشر أربع وعشرون آية مدنية من ديارهم {الْمُفْلِحُونَ * سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مِن دِيَرِهِمْ لأًّوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِى الأٌّبْصَرِ} : يتعلق بأخرج، و {من أهل الكتاب} يتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. واللام في {لأول الحشر} تتعلق بأخرج، وهي لام التوقيت، كقوله: {لدلوك الشمس} .

ولما كان ظن المؤمنين منفياً هنا، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع، فتسلط على أن الناصبة للفعل، كما يتسلط الرجاء والطمع. ولما كان ظن اليهود قوياً جداً يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة، وهي التي يصحبها غالباً فعل التحقيق، كعلمت وتحققت وأيقنت، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة. وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم. انتهى، يعني أن حصونهم هو المبتدأ، ومانعتهم الخبر، ولا يتعين هذا، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم، لأن في توجيهه تقديماً وتأخيراً، وفي إجازة مثله من نحو: قائم زيد، على الابتداء، والخبر خلاف؛ ومذهب أهل الكوفة منعه. وما شرطية منصوبة بقطعتم، ومن لينة تبيين لإبهام ما، وجواب الشرط فبإذن الله {الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِى الأٌّبْصَرِ * وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ} .

وما في قوله: {وما آفاء الله على رسوله} شرطية أو موصولة، وأفاء بمعنى: يفيء، ولا يكون ماضياً في اللفظ والمعنى، ولذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الباء في خبرها، لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط. ومن في: {من خيل} زائدة في المفعول يدل عليه الاستغراق. والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما، إذ المراد به الأموال والمغانم، وذلك الضمير هو اسم يكون {السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ} . وكذلك من قرأ بالياء، أعاد الضمير على لفظ ما، أي يكون الفيء، وانتصب دولة على الخبر. ومن رفع دولة فتكون تامة، ودولة فاعل. {للفقراء} ، قال الزمخشري: بدل من قوله: {ولذي القربى} ، والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من {لله وللرسول} ، والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {وينصرون الله ورسوله} ، وأنه يترفع برسول الله صلى الله عليه وسلّمعن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وعلا. انتهى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من قوله: {ولذي القربى} ، لأنه مذهب أبي حنيفة. والإيمان معطوف على الدار، وهي المدينة، والإيمان ليس مكاناً فيتبوأ. فقيل: هو من عطف الجمل، أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه، قاله أبو عليّ، فيكون كقوله: علفتها تبناً وماء بارداً أو يكون ضمن تبوؤا {الصَّدِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ} معنى لزموا، واللزوم قدر مشترك في الدار والإيمان، فيصح العطف. {والذين جاءوا من بعدهم} : الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين.

سورة الممتحنة

وقيل: {والذين جاءوا من بعدهم} مقطوع مما قبله، معطوف عطف الجمل، لا عطف المفردات؛ فإعرابه: {والذين} مبتدأ، ندبوا بالدعاء للأولين، والثناء عليهم، وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة، والخبر {يقولون} ، أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا} ، وعلى القول الأول يكون {يقولون} استئناف إخبار، قيل: أو حال. و {لننصرنكم} : جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية، وجواب أن محذوف، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط، ومن حذفها قوله: {وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين} ، التقدير: ولئن لم ينتهوا لكاذبون. قال ابن عطية: وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله: {لا يخرجون} و {لا ينصرون} لأنها راجعة على حكم القسم، لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر. انتهى. وأي نظر في هذا؟ وهذا جاء على القاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم وحذف جواب الشرط، وكان فعله بصيغة المضي، أو مجزوماً بلم، وله شرط، وهو أن لا يتقدمه طالب خبر. واللام في {لئن} مؤذنة بقسم محذوف قبله، فالجواب له. وقد أجاز الفراء أن يجاب الشرط، وأن تقدم القسم، ورده عليه البصريون. {كمثل} : خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم. والجمهور: {خالدين} بالياء حالاً، و {في النار} خبر أن؛ وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن عبلة: بالألف، فجاز أن يكون خبر أن، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله: {فيها} ، وذلك جائز على مذهب سيبويه، ومنع ذلك أهل الكوفة، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى. ويجوز أن يكون في النار خبراً، لأن {خالدين} خبر ثان، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه. سورة الممتحنة ثلاث عشرة آية مدنية

وأولياء مفعول ثان لتتخذوا. تلقون: بيان لموالاتهم، فلا موضع له من الإعراب، أو استئناف إخبار. وقال الحوفي والزمخشري: حال من الضمير في {لا تتخذوا} ، أو صفة لأولياء، وهذا تقدّمه إليه الفراء، قال: {تلقون إليهم بالمودّة} من صلة {أولياء} . انتهى. وعندهم أن النكرة توصل، وعند البصريين لا توصل بل توصف، والحال والصفة قيد. ومفعول {تلقون} محذوف، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلّموأسراره. والباء في {بالمودة} للسبب، أي بسبب المودة التي بينهم. وقال الكوفيون: الباء زائدة، كما قيل: في: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} : أي أيديكم. قال الحوفي: وقال البصريون هي متعلقة بالمصدر الذي دل عليه الفعل، وكذلك قوله {بإلحاد بظلم} : أي إرادته بإلحاد. انتهى. فعلى هذا يكون {بالمودّة} متعلقاً بالمصدر، أي إلقاؤهم بالمودّة، وهذا ليس بجيد، لأن فيه حذف المصدر، وهو موصول، وحذف الخبر، إذ إلقاؤهم مبتدأ وبما يتعلق به، {وقد كفروا} جملة حالية، وذو الحال الضمير في {تلقون} : أي توادونهم، وهذه حالهم، وهي الكفر بالله، ولا يناسب الكافر بالله أن يودّ. وأجاز الزمخشري أن يكون حالاً من فاعل {لا تتخذوا} . وأن تؤمنوا {الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن} مفعول من أجله، أي يخرجون لإيمانكم أو كراهة إيمانكم، {إن كنتم خرجتم} : شرط جوابه محذوف لدلالة ما تقدّم عليه، وهو قوله: {لا تتخذوا عدوي} ، ونصب جهاداً وابتغاء على المصدر في موضع الحال، أي مجاهدين ومبتغين، أو على أنه مفعول من أجله. {تسرون} : استئناف.

وقال ابن عطية: {تسرون} بدل من {تلقون} . انتهى، وهو شبيه ببدل الاشتمال، لأن الإلقاء يكون سراً وجهراً، فهو ينقسم إلى هذىن النوعين. وأجاز أيضاً أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتم تسرون. والظاهر أن {أعلم} أفعل تفضيل، ولذلك عداه بالباء. وأجاز ابن عطية أن يكون مضارعاً عدى بالباء قال: لأنك تقول علمت بكذا. {وأنا أعلم} : جملة حالية، والضمير في {ومن يفعله منكم} ، الظاهر أنه إلى أقرب مذكور، أي ومن يفعل الأسرار. وقال ابن عطية: يعود على الاتخاذ، وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل، أو على الظرف على تقدير اللزوم، والسواء: الوسط. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله، ثم قال {وودّوا} بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي، وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإنه فيه نكتة كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً. انتهى. وكأن الزمخشري فهم من قوله: {وودوا} أنه معطوف على جواب الشرط، فجعل ذلك سؤالاً وجواباً. والذي يظهر أن قوله: {وودّوا} ليس على جواب الشرط، لأن ودادتهم كفرهم ليست مترتبة على الظفر بهم والتسلط عليهم، بل هم وادون كفرهم على كل حال، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء. ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل. وقرأ الجمهور؛ يفصل {أَوْلَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يَفْصِلُ} بالياء مخففاً مبنياً للمفعول. وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر: كذلك إلا أنه مشدد، والمرفوع، إما {بينكم} ، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني، وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل، أي يفصل هو، أي الفصل.

سورة الصف

والذي يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره: أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك {لَكُمْ أُسْوَةٌ} ، فليس فيه أسوة حسنة، فيكون على هذا استثناء متصلاً. وقيل: هو استثناء منقطع المعنى، لكن قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك} ، فلا تأسوا به فيه. و {أن تبروهم} ، و {أن تولولهم} بدلان مما قبلهما، بدل اشتمال. قرئ مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات. {قد ينسوا من الآخرة} : وقيل: من لبيان الجنس، أي الكفار الذين هم أصحاب القبور، والمأيوس منه محذوف، أي كما يئس الكفار المقبورون من رحمة الله. وقد ذكرنا أن الظاهر كون من لابتداء الغاية، إذ لا يحتاج الكلام إلى تقدير محذوف. سورة الصف أربع عشرة آية مدنية والظاهر انتصاب مقتاً {الْقُبُورِ * سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} على التمييز، وفاعل {كبر} : أن {تقولوا} ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل، والتقدير: كبر مقت قولكم ما لا تفعلون. ويجوز أن يكون من باب نعم وبئس، فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالتمييز، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، أي بئس مقتاً قولكم كذا، والخلاف الجاري في المرفوع في: بئس رجلاً زيد، جار في {أن تقولوا} هنا، ويجوز أن يكون في كبر ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: {لم تقولون} ، أي كبر هو، أي القول مقتاً، ومثله كبرت كلمة، أي ما أكبرها كلمة، وأن تقولوا بدل من المضمر، أو خبر ابتداء مضمر. وقىل: هو من أبنية التعجب، أي ما أكبره مقتاً. وقال الزمخشري: قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله: غلت ناب كليب بواؤها ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظرائه وأشكاله، وأسند إلى {أن تقولوا} ونصب {مقتاً} على تفسيره. وانتصب صفاً على الحال، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين.

وقال الحوفي: كأنهم في موضع النعت لصفاً. انتهى. ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون. {وقد تعلمون} : جملة حالية ومصدقاً ومبشراً: حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول. وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به، لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدى بإلى. قال: واللام في قوله: يطفئوا {الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ} لام مؤكدة، دخلت على المفعول لأن التقدير: يريدون أن يطفؤا، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدم، تقول: لزيد ضربت، ولرؤيتك قصرت. انتهى. وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر، بل الأكثر: زيداً ضربت، من: لزيد ضربت. وأما قولهما إن اللام للتأكيد، وإن التقدير أن يطفؤا، فالإطفاء مفعول {يريدون} ، فليس بمذهب سيبويه والجمهور. والجمهور: {تؤمنون} ، {وتجاهدون} ؛ وعبد الله: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا أمرين؛ وزيد بن علي بالتاء، فيهما محذوف النون فيهما. فأما توجيه قراءة الجمهور، فقال المبرد: هو بمعنى آمنوا على الأمر، ولذلك جاء يغفر مجزوماً. انتهى، فصورته صورة الخبر، ومعناه الأمر، ويدل عليه قراءة عبد الله، ونظيره قوله: اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه، أي ليتق الله، وجيء به على صورة الخبر. قال الزمخشري: للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين، ونظيره قول الداعي: غفر الله لك ويغفر الله لك، جعلت المغفرة لقوة الرجاء، كأنها كانت ووجدت. انتهى. وقال الأخفش: هو عطف بيان على تجارة، وهذا لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كقوله: ألا أيهذا الزاجري احضر الوغا

يريد: أن احضر، فلما حذف أن ارتفع الفعل، فكان تقدير الآية {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} : إيمان بالله ورسوله وجهاد. وقال ابن عطية: {تؤمنون} فعل مرفوع تقديره ذلك أنه تؤمنون. انتهى، وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف المبتدأ وحذف أنه وإبقاء الخبر، وذلك لا يجوز. وقال الزمخشري: وتؤمنون استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تؤمنون، ثم اتبع المبرد فقال: هو خبر في معنى الأمر، وبهذا أجيب بقوله: {يغفر لكم} . انتهى. وأما قراءة عبد الله فظاهرة المعنى وجواب الأمر يغفر، وأما قراءة زيد فتتوجه على حذف لام الأمر، التقدير: لتؤمنوا، كقول الشاعر: قلت لبواب على بابهاتأذن لي أني من أحمائها يريد: لتأذن، ويغفر مجزوم على جواب الأمر في قراءة عبد الله وقراءة زيد، وعلي تقدير المبرد. وقال الفراء: هو مجزوم على جواب الاستفهام، وهو قوله: {هل أدلكم} ، واستبعد هذا التخريج. قال الزجاج: ليسوا إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال المهدوي: إنما يصح حملاً على المعنى، وهو أن يكون تؤمنون وتجاهدون عطف بيان على قوله: {هل أدلكم} ، كأن التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى. {وأخرى} : صفة لمحذوف، أي ولكم مثوية أخرى، أو نعمة أخرى عاجلة إلى هذه النعمة الآجلة. فأخرى مبتدأ وخبره المقدر لكم، وهو قول الفراء، ويرجحه البدل منه بقوله: {نصر من الله} ، و {تحبونها} صفة، أي محبوبة إليكم. وقال قوم: وأخرى في موضع نصب بإضمار فعل، أي ويمنحكم أخرى؛ ونصر خبر مبتدأ، أي ذلك، أو هو نصر. وقال الأخفش: وأخرى في موضع جر عطفاً على تجارة، وضعف هذا القول لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه، إنما هي من الثواب الذي يعطيهم الله على الإيمان والجهاد بالنفس والمال.

سورة الجمعة

وقال الزمخشري: وفي تحبونها شيء من التوبيخ على محبة العاجل، قال: فإن قلت: لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت: يجوز أن ينصب على الاختصاص، أو على ينصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً، أو على {يغفر لكم} و {يدخلكم جنات} ويؤتكم أخرى نصراً وفتحاً قريباً. فإن قلت علام عطف قوله: {وبشر المؤمنين} ؟ قلت: على {تؤمنون} ، لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. انتهى. والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار، أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى. وقال مكي: نعت لمصدر محذوف، والتقدير: كونوا كوناً. وقيل: نعت لأنصاراً. سورة الجمعة إحدى عشرة آية مدنية وآخرين: الظاهر أنه معطوف على {الأمّيين} ، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون. وقيل: {وآخرين} منصوب معطوف على الضمير في {ويعلمهم} . وقرأ عبد الله: حمار منكراً؛ والمأمون بن هارون: يحمل بشد الميم مبنياً للمفعول. والجمهور: الحمار معرفاً، ويحمل مخففاً مبنياً للفاعل، ويحمل في موضع نصب على الحال. قال الزمخشري: أو الجر على الوصف، لأن الحمار كاللئيم في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني

وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل، وحملوا عليه وآية لهم الليل نسلخ منه النهار {يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ} ، وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال، لا في موضع الصفة. ووصفة بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، والجمل نكرات. {بئس مثل القوم} . قال الزمخشري: بئس مثلاً مثل القوم. انتهى. فخرجه على أن يكون التمييز محذوفاً، وفي بئس ضمير يفسره مثلاً الذي ادعى حذفه. وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه. وقال ابن عطية: والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز. والظاهر أن {مثل القوم} فاعل {بئس} ، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله، وهم اليهود، أو يكون {الذين كذبوا} صفة للقوم، والمخصوص بالدم محذوف، التقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثلهم. قال الزمخشري: ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فأتى مرة بلفظ التأكيد: ولن يتمنوه {صَدِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ} ، ومرة بغير لفظه: {ولا يتمنونه} ، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه، وأما قوله: إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.

سورة المنافقون

وقرأ الجمهور: فإنه {بِالظَّلِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَقِيكُمْ ثُمَّ} ، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته، فكان إن باشرت الذي، وفي الذي معنى الشرط، فدخلت الفاء في الخبر، وقد منع هذا قوم، منهم الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي: إنه بغير فاء، وخرجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر إن هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه. انتهى. ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله: أنه ملاقيكم، فالجملة خبر إن، ويحتمل أن يكون إنه توكيداً، لأن الموت وملاقيكم خبر إن. لما طال الكلام، أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن. سورة المنافقون إحدى عشرة آية مدنية ولقولهم {الرزِقِينَ} : الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وليست اللام زائدة، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل، تعدى باللام وليست زائدة، فيكون قولهم هو المسموع. ويجوز أن يكون هم العدو {مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ} المفعول الثاني كما لو طرحت الضمير. فإن قلت: فحقه أن يقول: هي العدو. قلت: منظور فيه إلى الخبر، كما ذكر في هذا ربي، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة. انتهى. وتخريج {هم العدو} على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم، كأنه قال: قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا. انتهى. ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف، بل لا بد يكون ظرفاً استفهاماً، إما بمعنى أين. وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه، فالقول بذلك باطل.

وقرىء: يصدون ويصدون، جملة حالية، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم، وهم مستكبرون {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} : جملة حالية أيضاً. وجاز حذف الهمزة لدلالة أم عليها، كما دلت على حذفها في قوله: بسبع رمينا الجمر أم بثمان يريد: أبسبع. ليخرجن الأعز منها الأذل {عَلَيْهِمْ} : والحسن وابن أبي عبلة والسبي في اختياره: لنخرجن بالنون، ونصب الأعز والأذل، فالأعز مفعول، والأذل حال. وقرىء: مبنياً للمفعول وبالياء، الأعز مرفوع به، الأذل نصباً على الحال. ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين، فما كان منها بأل فعلى زيادتها، لا أنها معرفة.

سورة التغابن

وقرأ الجمهور: فأصّدّق، وهو منصوب على جواب الرغبة؛ وأبي وعبد الله وابن جبير: فأتصدق على الأصل. وقرأ جمهور السبعة: وأكن {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ} مجزوماً. قال الزمخشري: {وأكن} بالجزم عطفاً على محل {فأصدق} ، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. انتهى. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع، لأن التقدير: أن تؤخرني أصدق وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي. فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا، وهو أنه جزم وأكن على توهم الشرط الذي يدل عليه بالتمني، ولا موضع هنا، لأن الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع، حيث يظهر الشرط كقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم} . فمن قرأ بالجزم عطف على موضع {فلا هادي له} ، لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً. انتهى. والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم: أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود. وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو: وأكون بالنصب، عطفاً على {فأصدق} ، وكذا في مصحف عبد الله وأبي. وقرأ عبيد بن عمير: وأكون بضم النون على الاستئناف، أي وأنا أكون. سورة التغابن ثماني عشرة آية مدنية وارتفع أبشر عند الجوفي وابن عطية على الابتداء، والخبر {يهدوننا} ، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل، فالمسألة من باب الاشتغال. وبلى: إثبات لما بعد حرف النفي. وانتصب {يوم يجمعكم} بقوله: {لتنبؤن} ، أو بخبير، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء، أو باذكر مضمرة، قاله الزمخشري؛ والأول عن النحاس، والثاني عن الحوفي. وما نافية، ومفعول أصاب محذوف، أي ما أصاب أحداً، والفاعل من مصيبة، ومن زائدة، ولم تلحق التاء أصاب، وإن كان الفاعل مؤنثاً، وهو فصيح.

سورة الطلاق

وقرأ الجمهور: يهد بالياء، مضارعاً لهدى، مجزوماً على جواب الشرط. وخيراً {الْمَصِيرُ * مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ} منصوب بفعل محذوف تقديره: وأتوا خيراً، أو على إضمار يكن فيكون خبراً، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي إنفاقاً خيراً، أو على أنه حال، أو على أنه مفعول بوأنفقوا خيراً، أي مالاً، أقوال، الأول عن سيبويه. سورة الطلاق اثنتا عشرة آية مدنية لعدّتهن: هو على حذف مضاف، أي لاستقبال عدّتهن، واللام للتوقيت، نحو: كتبته لليلة بقيت من شهر كذا، وتقدير الزمخشري هنا حالاً محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور، أي مستقبلات لعدتهن، ليس بجيد، لأنه قدر عاملاً خاصاً، ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصاً، بل إذا كان كوناً مطلقاً. لو قلت: زيد عندك أو في الدار، تريد: ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار، لم يجز. فتعليق اللام بقوله: {فطلقوهن} ، ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح. وقرأ الجمهور: بالغ بالتنوين، أمره بالنصب؛ وحفص والمفضل وأبان وجبلة وابن أبي عبلة وجماعة عن أبي عمرو ويعقوب وابن مصرف وزيد بن علي: بالإضافة؛ وابن أبي عبلة أيضاً وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو: بالغ أمره، رفع: أي نافذ أمره. والمفضل أيضاً: بالغاً بالنصب، أمره بالرفع، فخرجه الزمخشري على أن بالغاً حال، وخبر إن هو قوله تعالى: قد جعل الله {حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَلِغُ} ، ويجوز أن تخرج هذه القراءة على قول من ينصب بأن الجزأين، كقوله: إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكنخطاك خفافاً أن حراسنا أسدا ومن رفع أمره، فمفعول بالغ محذوف تقديره: بالغ أمره ما شاء.

معطوف على واللائي يئسن {أَشْهُرٍ وَاللَّتِي لَمْ} ، فإعرابه مبتدأ كإعراب {واللائي يئسن} ، وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول، أي عدتهن ثلاثة أشهر، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك، فيكون المقدر مفرداً جملة. وقال الحوفي: من لابتداء الغاية، وكذا قال أبو البقاء. ومن وجدكم {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ} . قال الزمخشري: فإن قلت: فقوله: {من وجدكم} . قلت: هو عطف بيان، كقوله: {من حيث سكنتم} وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه، والوجد: الوسع والطاقة. انتهى. ولا نعرف عطف بيان يعاد فيه العامل، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً من قوله: {من حيث سكنتم} . وقرأ الجمهور: {لينفق} بلام الأمر، وحكى أبو معاذ: لينفق بلام كي ونصب القاف، ويتعلق بمحذوف تقديره: شرعنا ذلك لينفق.

وقيل: رسولاً {ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْءَايَتِ اللَّهِ مُبَيِّنَتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ مِنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ وَمَن} نعت على حذف مضاف، أي ذكراً، ذا رسول. وقيل: المضاف محذوف من الأول، أي ذا ذكر رسولاً، فيكون رسولاً نعتاً لذلك المحذوف أو بدلاً. وقيل: رسول بمعنى رسالة، فيكون بدلاً من ذكر. وقيل: الذكر: الشرف لقوله: {وإنه لذكر لك ولقومك} ، فيكون رسولاً بدلاً منه وبياناً له. وقال الكلبي: الرسول هنا جبريل عليه السلام، وتبعه الزمخشري فقال: رسولاً هو جبريل صلوات الله وسلامه عليه، أبدل من ذكراً لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، فصح إبداله منه. انتهى. ولا يصح لتباين المدلولين بالحقيقة، ولكونه لا يكون بدل بعض ولا بدل اشتمال، وهذه الأعاريب على أن يكون ذكراً ورسولاً لشيء واحد. وقيل: رسولاً منصوب بفعل محذوف، أي بعث رسولاً، أو أرسل رسولاً، وحذف لدلالة أنزل عليه، ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطية. وقال الزجاج وأبو علي الفارسي: يجوز أن يكون رسولاً معمولاً للمصدر الذي هو الذكر. انتهى. فيكون المصدر مقدراً بأن، والقول تقديره: إن ذكر رسولاً وعمل منوناً كما عمل، أو {إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} ، كما قال الشاعر: بضرب بالسيوف رءوس قومأزلنا هامهن عن المقيل وقرىء: رسول بالرفع على إضمار هو.

سورة التحريم

{ومن يؤمن} : راعى اللفظ أولاً في من الشرطية، فأفرد الضمير في {يؤمن} ، {ويعمل} ، و {يدخله} ، ثم راعى المعنى في {خالدين} ، ثم راعى اللفظ في {قد أحسن الله له} فأفرد. واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولاً، ثم مراعاة المعنى، ثم مراعاة اللفظ. وأورد بعضهم أن هذا ليس كما ذكروا، لأن الضمير في {خالدين} ليس عائداً على من، بخلاف الضمير في {يؤمن} ، {ويعمل} ، و {يدخله} ، وإنما هو عائد على مفعول {يدخله} ، و {خالدين} حال منه، والعامل فيها {يدخله} لا فعل الشرط. وقرأ الجمهور: مثلَهنّ {رِزْقاً * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَتٍ وَمِنَ الأٌّرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأٌّمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا} بالنصب؛ والمفضل عن عاصم، وعصمة عن أبي بكر: مثلُهن بالرفع فالنصب، قال الزمخشري: عطفاً على {سبع سموات} . انتهى، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف، وهو الواو، والمعطوف؛ وهو مختص بالضرورة عند أبي عليّ الفارسي، وأضمر بعضهم العامل بعد الواو لدلالة ما قبله عليه، أي وخلق من الأرض مثلهن، فمثلهن مفعول للفعل المضمر لا معطوف، وصار ذلك من عطف الجمل والرفع على الابتداء، {ومن الأرض} الخبر. سورة التحريم اثنتا عشرة آية مدنية وتبتغي {عِلْمَا} : في موضع الحال. وقال الزمخشري تفسير لتحرم، أو استئناف. ونبأ وأنبأ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما، وإلى ثان بحرف الجر، ويجوز حذفه فتقول: نبأت به، المفعول الأول محذوف، أي غيرها. ومن أنبأك هذا {حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ} : أي بهذا، {قال نبأني} أي نبأني به أو نبأنيه، فإذا ضمنت معنى أعلم، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قول الشاعر: نبئت زرعة والسفاهة كاسمهاتهدي إليّ غرائب الأشعار ومفعول عرّف المشدد محذوف، أي عرّفها بعضه.

وأتى بالجمع في قوله: قلوبكما {اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ} ، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى، وهو ضميراهما، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى، والتثنية دون الجمع، كما قال الشاعر: فتخالسا نفسيهما بنوافذكنوافذ العبط التي لا ترفع وهذا كان القياس، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع، لأن التثنية جمع في المعنى، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر، كقوله: حمامة بطن الواديين ترنمي يريد: بطني. وغلط ابن مالك فقال في كتاب التسهيل: ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية. والأحسن الوقف على قوله: مولاه {عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ} . ويكون {وجبريل} مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر {ظهير} . فيكون ابتداء الجملة بجبريل. وجوزوا أن يكون {وجبريل وصالح المؤمنين} عطفاً على اسم الله، فيدخلان في الولاية، ويكون {والملائكة} مبتدأ، والخبر {ظهير} . وقرىء: وأهلوكم بالواو، وهو معطوف على الضمير في قوا {ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ} وحسن العطف للفصل بالمفعول. وقال الزمخشري: فإن قلت: أليس التقدير قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت: لا، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده، فكأنه قيل: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم. لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه. فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب. انتهى. وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليق أهلوكم فجعله من عطف الجمل، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب، وكذا في قوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} ، ثم قال: ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناً في التقدير للواو، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق. وانتصب {ما أمرهم} على البدل، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى: {أفعصيت أمري} ، أو على إسقاط حرف الجر.

سورة الملك

ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كما قدمناه، وجاز أن يكون مفعولاً له، أي توبوا لنصح أنفسكم. وقرأ الجمهور: ويدخلكم {اللَّهِ تَوْبَةً} عطفاً على {أن يكفر} . وقال الزمخشري: عطفاً على محل عسى أن يكفر. وجاز أن يكون: والذين {الأٌّنْهَرُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ} معطوفاً على {النبي} ، فيدخلون في انتفاء الخزي. وجاز أن يكون مبتدأ، والخبر {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} . ومعنى عنهما {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ} : عن أنفسهما، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما، كهي في: دع عنك، لأنها إن كانت حرفاً، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل، وذلك لا يجوز. {ومريم} : معطوف على امرأة فرعون. سورة الملك ثلاثون آية مكية

وأيكم أحسن عملاً {الْقَنِتِينَ * تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْنَهَا رُجُوماً لِّلشَّيَطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَلٍ كَبِيرٍ * وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَبِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأًّصْحَبِ السَّعِيرِ * إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأٌّرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَصِباً

فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} مبتدأ وخبر، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله، وهو معلق عنها تقديره: فينظر، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم. وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين تعلق قوله: {أيكم أحسن عملاً} بفعل البلوى؟ قلت: من حيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملاً. فإن قلت: أيسمى هذا تعليقاً؟ قلت: لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به؟ ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان، كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً. انتهى. وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول، وجاءت بعده جملة استفهامية، أو بلام الابتداء، أو بحرف نفي، كانت الجملة معلقاً عنها الفعل، وكانت في موضع نصب، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى: {لنبلوهم أيهم أحسن عملاً} ، وانتصب {طباقاً} على الوصف السبع، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقاً لقولهم: النعل خصفها طبقاً على طبق، وصف به على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف، أي ذا طباق؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب. والظاهر أن قوله تعالى: {ما ترى} استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله: {طباقاً} .

والجملة من قوله: {هل ترى من فطور} في موضع نصب بفعل معلق محذوف، أي فانظر هل ترى، أو ضمن معنى {فارجع البصر} معنى فانظر ببصرك هل ترى؟ فيكون معلقاً. وقال ابن عطية وغيره: {كرتين} معناه مرتين ونصبها على المصدر. وقرأ الجمهور: {ينقلب} جزماً على جواب الأمر؛ والخوارزمي عن الكسائي: يرفع الباء، أي فينقلب على حذف الفاء، أو على أنه موضع حال مقدرة. وقرأ الجمهور: {عذاب جهنم} برفع الباء؛ والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه: بالنصب عطفاً على {عذاب السعير} ، أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. {فاعترفوا بذنبهم فسحقاً} :والسحق: البعد، وانتصابه على المصدر: أي سحقهم الله سحقاً، قال الشاعر: يجول بأطراف البلاد مغرباًوتسحقه ريح الصبا كل مسحق والفعل منه ثلاثي. وقال الزجاج: أي أسحقهم الله سحقاً، أي باعدهم بعداً. وقال أبو علي الفارسي: القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، كما قيل: وإن أهلك فذلك كان قدري أي تقديري. انتهى، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثياً، كما أنشد: وتسحقه ريح الصبا كل مسحق قال ابن عطية: {فسحقاً} : نصباً على جهة الدعاء عليهم. والنصب في هذا كله بإضمار فعل، وإن وقع وثبت، فالوجه فيه الرفع، كما قال تعالى: {ويل للمطففين} ، و {سلام عليكم} ، وغير هذا من الأمثلة. انتهى. {ألا يعلم من خلق} : الهمزة للاستفهام ولا للنفي، والظاهر أن من مفعول، وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال: ألا يعلم الخالق سركم وجهركم؟ وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى: فالمغيرات صبحاً فأثرن {فَوْقَهُمْ صَفَّتٍ} ، عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى: فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح، نحو قوله: بات يغشيها بغضب باتريقصد في أسوقها وجائر أي: قاصد في أسوقها وجائر.

سورة القلم

وقرأ الجمهور: أمن {بَصِيرٌ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ} ، بإدغام ميم أم في ميم من، إذ الأصل أم من، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء، وهذا خبر. و {مكباً} : حال من أكب، وهو لا يتعدى، وكب متعد. وانتصب {قليلاً} على أنه نعت لمصدر محذوف، وما زائدة، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة، أي تشكرون شكراً قليلاً. وجواب {إن أهلكني} : {فمن يجير} ، وجواب {إن أصبح} : {فمن يأتيكم} . سورة القلم اثنتان وخمسون آية مكية وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: ن حرف من حروف المعجم، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. انتهى. ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم، فإن كان علماً فينبغي أن يجر، فإن كان مؤنثاً منع الصرف، أو مذكراً صرف، وإن كان جنساً أعرب، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به.

وسعيد بن جبير وعيسى: بخلاف عنه بفتحها، فاحتمل أن تكون حركة إعراب، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث، ويكون والقلم {مَّعِينٍ * ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأّجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِءَايَتُنَا قَالَ أَسَطِيرُ الأٌّوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ * إِنَّا بَلَوْنَهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَبَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَرِمِينَ} معطوفاً عليه. واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية.

وجواب القسم: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} . ويظهر أن {بنعمة ربك} قسم اعترض به بين المحكوم علىه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى الله عليه وسلّم وقال ابن عطية: {بنعمة ربك} اعتراض، كما تقول للإنسان: أنت بحمد الله فاضل. انتهى. ولم يبين ما تتعلق به الباء في {بنعمة} . وقال الزمخشري: يتعلق {بمجنون} منفياً، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك: أنت بنعمة الله عاقل، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك: ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي. وما ذهب إليه الزمخشري من أن {بنعمة ربك} متعلق {بمجنون} ، وأنه في موضع الحال، يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان: أحدهما: أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط، والآخر: أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك، تقول: ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع. والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي لا قيام فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلّم

{بأيكم المفتون} فقال قتادة وأبو عبيدة معمر: الباء زائدة، والمعنى: أيكم المفتون؟ وزيدت الباء في المبتدأ، كما زيدت فيه في قوله: بحسبك درهم، أي حسبك. وقال الحسن والضحاك والأخفش: الباء ليست بزائدة، والمفتون بمعنى الفتنة، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً؟ وقال الأخفش أيضاً: بأيكم فتن المفتون، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف. وقال مجاهد والفراء: الباء بمعنى في، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون؟ انتهى. فالباء ظرفية، نحو: زيد بالبصرة، أي في البصرة، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية، بل هي سببية. {ودوا لو تدهن} : لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن، أي ودوا ادهانكم، وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} ، ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف، أي ودوا ادهانكم، وحذف لدلالة ما بعده عليه، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك. وفيدهنون عطف على تدهن. وقال الزمخشري: عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون كقوله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف} ، بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك. انتهى. وجمهور المصاحف على إثبات النون. وقال هارون: إنه في بعض المصاحف فيدهنوا، ولنصبه وجهان: أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا، فيكون عطفاً على التوهم، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن.

قال ابن عطية ما ملخصه، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة: {أن كان} على الخبر؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر: على الاستفهام؛ وحقق الهمزتين حمزة، وسهل الثانية باقيهم. فأما على الخبر، فقال أبو علي الفارسي: يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف. انتهى، وهذا قول كوفي، ولا يجوز ذلك عند البصريين. وقيل: {زنيم} لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال. وقال الزمخشري: متعلق بقوله: {ولا تطع} ، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب، {لأن كان ذا مال} : أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين، كذب آياتنا ولا يعمل فيه، قال الذي هو جواب إذا، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. انتهى. وأما على الاستفهام، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله، أي أيكون طواعية لأن كان؟ وقدره الزمخشري: أتطيعه لأن كان؟ أو عامل يدل عليه ما قبله، أي أكذب أو جحد لأن كان؟ والكاف في {كما بلونا} في موضع نصب، وما مصدرية. وقيل: بمعنى الذي، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين. {أن لا يدخلنها} : أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها، وأن مصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة: لا يدخلنها، بإسقاط أن على إضمار يقولون، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول. وقرأ الجمهور: {إن لكم} بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى: إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل: أن معمولة لتدرسون، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وقرأ طلحة والضحاك: أن لكم بفتح الهمزة، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج: أإن لكم على الاستفهام.

سورة الحاقة

وقرأ الجمهور: بالغة {تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَنٌ عَلَيْنَا بَلِغَةٌ} بالرفع على الصفة، والحسن وزيد بن علي: بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا. وقال ابن عطية: حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً. {إن لكم لما تحكمون} : جواب القسم، لأن معنى {أم لكم أيمان علينا} : أم أقسمنا لكم، قاله الزمخشري. وسل معلقة عن مطلوبها الثاني، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء، كما قال تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام {تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} ، وقال الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإننيعليم بأدواء النساء طبيب ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء، كما تقول: سل زيداً عن من ينظر في كذا، ولكنه علق سلهم، فالجملة في موضع نصب. {يوم يكشف عن ساق} : وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا. وقيل: اذكر، وقيل التقدير: يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت. و {خاشعة} : حال، وذو الحال الضمير في {يدعون} . ومن في موضع نصب، إما عطفاً على الضمير في ذرني، وإما على أنه مفعول معه. إذ نادى {سَلِمُونَ * فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} : فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت. والأصل في ذلك تتداركه، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله. وجواب لولا {مَكْظُومٌ * لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} قوله: {لنبذ بالعراء وهو مذموم} . {لما سمعوا الذكر} : من يقول لما ظرف يكون العامل فيه {ليزلقونك} ، وإن كان حرف وجوب لوجوب، وهو الصحيح، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك. سورة الحاقة اثنتان وخمسون آية مكية

والحاقة مبتدأ، وما مبتدأ ثان، والحاقة خبره، والجملة خبر عن الحاقة، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه نحو: زيد ما زيد، وما استفهام لا يراد حقيقته بل التعظيم، وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد، يعني التعظىم والتهويل. وما استفهام أيضاً مبتدأ، وأدراك {لِّلْعَالَمِينَ} الخبر، والعائد على ما ضمير الرفع في {أدراك} ، وما مبتدأ، والحاقة خبر، والجملة في موضع نصب بأدراك، وأدراك معلقة. وأصل درى أن يعدى بالباء، وقد تحذف على قلة، فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر، فقوله: {ما الحاقة} بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر. {حسوماً} وقال الزمخشري: وإن كان مصدراً، فإما أن ينتصب بفعل مضمر، أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً، أو تكون صفة، كقولك: ذات حسوم، أو تكون مفعولاً له، أي سخرها عليهم للاستئصال. وقرأ السدّي: حسوماً بالفتح: حالاً من الريح، أي سخرها عليهم مستأصلة. وقال ابن الأنباري: من باقية {خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ * وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَكُمْ فِى الْجَارِيَةِ} : أي من باق، والهاء للمبالغة. وقال أيضاً: من فئة باقية. وقيل: {من باقية} : من بقاء مصدر جاء على فاعلة كالعاقبة. {ومن قبله} : ظرف زمان.

وقرأها علي رضي الله عنه: وتعيها، بكسر العين وتخفيف الياء العامة؛ وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه؛ وقنبل بخلاف عنه: بإسكانها؛ وحمزة: بإخفاء الحركة، ووجه الإسكان التشبيه في الفعل بما كان على وزن فعل في الاسم والفعل. نحو: كبد وعلم. وتعي ليس على وزن فعل، بل هو مضارع وعي، فصار إلى فعل وأصله حذفت واوه. وروي عن عاصم عصمة وحمزة الأزرق: وتعيها بتشديد الياء، قيل: وهو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شدة بيان الياء إحترازاً ممن سكنها، لا إدغام حرف في حرف، ولا ينبغي أن يجعل ذلك من باب التضعيف في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وإن كان قد ذهب إلى ذلك بعضهم. وقرأ الجمهور: نفخة واحدة {الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَعِيَةٌ} ، برفعهما، ولم تلحق التاء نفخ، لأن تأنيث النفخة مجازى ووقع الفصل. وقال ابن عطية: لما نعت صح رفعه. انتهى. ولو لم ينعت لصح، لأن نفخة مصدر محدود ونعته ليس بنعت تخصيص، إنما هو نعت توكيد. وقرأ أبو السمال: بنصبهما، أقام الجار والمجرور مقام الفاعل. والتشديد على أن تكون للتكثير، أو يكون التضعيف للنقل، فجاز أن تكون الأرض والجبال {وَحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأٌّرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَحِدَةً} المفعول الأول أقيم مقام الفاعل، والثاني محذوف، أي ريحاً تفتتها أو ملائكة أو قدرة. وجاز أن يكون الثاني أقيم مقام الفاعل، والأول محذوف، وهو واحد من الثلاثة المقدرة. {فيومئذ} معطوف على {فإذا نفخ في الصور} ، وهو منصوب بوقعت، كما أن إذا منصوب بنفخ على ما اخترناه وقررناه واستدللنا له في أن العامل في إذا هو الفعل الذي يليهما لا الجواب، وإن كان مخالفاً لقول الجمهور. والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة، وهي في التقدير: فيوم إذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت.

وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين قولك: {والملك} ، وبين أن يقال: والملائكة؟ قلت: الملك أعم من الملائكة. ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة؟ انتهى. ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة، لأن المفرد المحلى بالألف واللام الجنسية قصاراه أن يراد به الجمع المحلى بهما، ولذلك صح الاستثناء منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المحلى بهما. وأما دعواه أنه أعم منه بقوله: ألا ترى الخ، فليس دليلاً على دعواه، لأن من ملك نكرة مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها من المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملك فاندرج تحتها الجمع لوجود الفرد فيه فانتفى كل فرد فرد، بخلاف من ملائكة، فإن من دخلت على جمع منكر، فعم كل جمع جمع من الملائكة، ولا يلزم من ذلك انتفاء كل فرد فرد من الملائكة. لو قلت: ما في الدار من رجال، جاز أن يكون فيها واحد، لأن النفي إنما انسحب على جمع، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفرد. والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه من فيكون أعم من جمع دخلت عليه من، وإنما جيء به مفرداً لأنه أخف، ولأن قوله: {على أرجائها} يدل على الجمع، لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد، بل في أوقات. {وتعرضون} هو جواب قوله: {فإذا نفخ} . فإن كانت النفخة هي الأولى، فجاز ذلك لأنه اتسع في اليوم فجعل ظرفاً للنفخ ووقوع الواقعة وجميع الكائنات بعدها؛ وإن كانت النفخة هي الثانية، فلا يحتاج إلى اتساع لأن قوله: {فيومئذ} معطوف على فإذا، و {يومئذ تعرضون} بدل من {فيومئذ} ، وما بعد هذه الظروف واقع في يوم القيامة. أما: حرف تفصيل فصل بها ما وقع في يوم العرض.

وهاؤم إن كان مدلولها خذ، فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة، وإن كان مدلولها تعالوا، فهي متعدية إليه بواسطة إلى، وكتابيه يطلبه هاؤم واقرؤا. فالبصريون يعملون اقرؤا، والكوفيون يعملون هاؤم، وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين اسم الفعل والقسم. وهنيئاً {خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ} ، تقدم الكلام عليه في أول النساء. وقال الزمخشري: هنيئاً أكلاً وشرباً هنيئاً، أو هنيتم هنيئاً على المصدر. انتهى فقوله: أكلاً وشرباً هنيئاً يظهر منه جعل هنيئاً صفة لمصدرين، ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك، أي أكلاً هنيئاً وشرباً هنيئاً. وهو أنه إذا جعلنا الخبر هاهنا، كان له واليوم متعلقين بما تعلق به الخبر، وهو العامل في ههنا، وهو عامل معنوي، فلا يتقدم معموله عليه. فلو كان العامل لفظياً جاز، كقوله تعالى: ولم يكن له كفواً أحد {الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَهُنَا حَمِيمٌ} ، فله متعلق بكفواً وهو خبر ليكن. وانتصب {قليلاً} على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف، أي تؤمنون إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً. وقال ابن عطية: ونصب {قليلاً} بفعل مضمر يدل عليه {تؤمنون} ، وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، والمتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي.

أمّا قوله: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح، لأن ذلك الفعل الدال عليه {تؤمنون} إما أن تكون ما نافية أو مصدرية، كما ذهب إليه. فإن كانت نافية، فذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفياً، فيكون التقدير: ما تؤمنون قليلاً ما تؤمنون، والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيداً ما أضربه، على تقدير ما أضرب زيداً ما أضربه، وإن كانت مصدرية كانت ما في موضع رفع على الفاعلية بقليلاً، أي قليلاً إيمانكم، ويبقى قلىلاً لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له؛ وإما في موضع رفع على الابتداء، فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبله منصوب لا مرفوع. وقال الزمخشري: والقلة في معنى العدم، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة، والمعنى: ما أكفركم وما أغفلكم. انتهى. ولا يراد بقليلاً هنا النفي المحض، كما زعم، وذلك لا يكون إلا في أقل نحو: أقل رجل يقول ذلك إلا زيد، وفي قل نحو: قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد. وقد تستعمل في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قوله: قليل بها الأصوات إلا بغاتها أما إذا كان منصوباً نحو: قليلا ضربت، أو قليلاً ما ضربت، على أن تكون ما مصدرية، فإن ذلك لا يجور، لأنه في: قليلاً ضربت منصوب بضربت، ولم تستعمل العرب قليلاً إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير. وأمّا في قليلاً ما ضربت على أن تكون ما مصدرية، فتحتاج إلى رفع قليل، لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء. وقرىء: {ولو تقول} مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل وقام المفعول مقامة، وهو بعض، إن كان قرىء مرفوعاً؛ وإن كان قرىء منصوباً بعلينا قام مقام الفاعل، والمعنى: ولو تقول علينا متقول.

سورة المعارج

والظاهر في {حاجزين} أن يكون خبراً لما على لغة الحجاز، لأن حاجزين هو محط الفائدة، ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد، فلما تقدّم صار حالاً، وفي جواز هذا نظر. أو يكون للبيان، أو تتعلق بحاجزين، كما تقول: ما فيك زيد راغباً، ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر ما. وقال الحوفي والزمخشري: حاجزين نعت لأحد على اللفظ، وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه: {لا نفرّق بين أحد من رسله} ، وقوله: {لستن كأحد من النساء} ، مثل بهما الزمخشري، وقد تكلمنا على ذينك في موضعيهما. وفي الحديث: «لم تحل لأحد سود الرؤوس قبلكم» . وإذا كان حاجزين نعتاً فمن أحد مبتدأ والخبر منكم، ويضعف هذا القول، لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم، فلا يتسلط على الحجز. وإذا كان حاجزين خبراً. تسلط النفي علىه وصار المعنى: ما أحد منكم يحجزه عن ما يريد به من ذلك. سورة المعارج أربع وأربعون آية مكية واللام للعلة، أي نازل بهم لأجلهم، أي لأجل كفرهم، أو على أن اللام بمعنى على، قاله بعض النحاة. واقع. و {ليس له دافع} : جملة اعتراض بين العامل والمعمول. وقيل: يتعلق بدافع. والظاهر أن قوله: {في يوم} متعلق بتعرج. وقيل: بدافع، والجملة من قوله: {تعرج} اعتراض. {يوم تكون} : منصوب بإضمار فعل، أي يقع يوم تكون، أو {يوم تكون السماء كالمهل} كان كيت وكيت، أو بقريباً، أو بدل من ضمير نراه إذا كان عائداً على يوم القيامة. وقال الزمخشري: أو هو بدل من {في يوم} فيمن علقه بواقع. انتهى. ولا يجوز هذا، لأن {في يوم} وإن كان في موضع نصب لا يبدل منه منصوب لأن مثل هذا ليس من المواضع التي تراعي في التوابع، لأن حرف الجر فيها ليس بزائد ولا محكوم له بحكم الزائد كرب، وإنما يجوز مراعاة المواضع في حرف الجر الزائد كقوله:

سورة نوح

يا بني لبينى لستما بيدإلا يداً ليست لها عضد ولذلك لا يجوز: مررت بزيد الخياط، على مراعاة موضع بزيد، ولا مررت بزيد وعمراً، ولا غضبت على زيد وجعفراً، ولا مررت بعمرو أخاك على مراعاة الموضع. فإن قلت: الحركة في يوم تكون حركة بناء لا حركة إعراب، فهو مجرور مثل {في يوم} . قلت: لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين لأنه أضيف إلى معرب، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين، فيتمشى كلام الزمخشري على مذهبهم إن كان استحضره وقصده. قيل: حميماً منصوب على إسقاط عن، أي عن حميم. {ثم ينجيه} : عطف على {يفتدي من عذاب يومئذ} . و {لظى} بدل من الضمير، و {نزاعة} خبر إن أو خبر مبتدأ، و {لظى} خبر إن: أي هي نزاعة، أو بدل من {لظى} ، أو خبر بعد خبر. كل هذا ذكروه، وذلك على قراءة الجمهور برفع نزاعة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً ترجم عنه الخبر. انتهى. ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر؟ وليس هذا من المواضع التي يفسر فيها المفرد الضمير، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصة، لحملت كلامه عليه. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم وحفص واليزيدي: في اختياره نزاعة بالنصب، فتعين أن يكون لظى خبراً لأن، والضمير في إنها عائد على النار الدال عليها عذاب، وانتصب نزاعة على الحال المؤكدة أو المبينة، والعامل فيها لظى، وإن كان عاملاً لما فيه من معنى التلظي، كما عمل العلم في الظرف في قوله: أنا أبو المنهال بعض الأحيان أي: المشهور بعض الاحيان، أو على الاختصاص للتهويل، قاله الزمخشري، وكأنه يعني القطع. فالنصب فيها كالرفع فيها، إذا أضمرت هو فتضمر هنا. {إلا المصلين} : استثناء كما قلنا من الإنسان. و {يوم} بدل من {يومهم} . {ذلك اليوم} : برفع الميم مبتدأ وخبر. سورة نوح ثمان وعشرون آية مكية

من ذنوبكم: من للتبعيض، لأن الإيمان إنما يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده. وقيل: لابتداء الغاية. وقيل: زائدة، وهو مذنب، قال ابن عطية: كوفي، وأقول: أخفشي لا كوفي، لأنهم يشترطون أن تكون بعد من نكرة، ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره، والأخفش يجيز مع الواجب وغيره. وقيل: النكرة والمعرفة. وقيل: لبيان الجنس، ورد بأنه ليس قبلها ما تبينه. وجواب لو محذوف تقديره: لو كنتم تعلمون، لبادرتم إلى عبادته وتقواه وطاعتي فيما جئتكم به منه تعالى. وانتصب جهاراً بدعوتهم، وهو أحد نوعي الدعاء، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى. قال الزمخشري: أو لأنه أراد بدعوتهم: جاهرتهم، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً: أي مجاهراً به، أو مصدراً في موضع الحال، أي مجاهر. ومدراراً {مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ} : من الدر، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادراً، فيشترك فيه المذكر والمؤنث. تقول: رجل محدامة ومطرابة، وامرأة محدابة ومطرابة. {لا ترجون} : حال، {وقد خلقكم أطواراً} : جملة حالية. يقال: القمر في السماء الدنيا، وصح كون السموات ظرفاً للقمر، لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف. تقول: زيد في المدينة، وهو في جزء منها، ولم تقيد الشمس بظرف. وانتصاب نباتاً بأنبتكم مصدراً على حذف الزائد، أي إثباتاً، أو على إضمار فعل، أي فنبتم نباتاً. وقال الزمخشري: المعنى أنبتكم فنبتم، أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم. {ويخرجكم اخراجاً} : أي يوم القيامة، وأكده بالمصدر وسبلاً: ظرف.

وقرأ الجمهور: {ولا يغوث ويعوق} بغير تنوين، فإن كانا عربيين، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميين، فللعجمة والعلمية. وقرأ الأشهب: ولا يغوثا ويعوقا بتنوينهما. قال صاحب اللوامح: جعلهما فعولاً، فلذلك صرفهما. فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما، وهما معرفتان، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل. انتهى، وهذا تخبيط. أما أولاً، فلا يمكن أن يكونا فعولاً، لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق؛ وأما ثانياً، فليسا بصفتين من الغوث والعوق، لأن يفعلا لم يجىء اسماً ولا صفة، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه. وقال ابن عطية: وقرأ الأعمش: ولا يغوثا ويعوقا بالصرف، وذلك وهم لأن التعريف لازم ووزن الفعل. انتهى. وليس ذلك بوهم، ولم ينفرد الأعمش بذلك، بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك، وتخريجه على أحد الوجهين، أحدهما: أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب، وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره؛ والثاني: أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون، إذ قبله {ودّاً ولا سواعاً} ، وبعده {ونسراً} ، كما قالوا في صرف {سلاسلاً} ، و {قواريراً قواريراً} ، لمن صرف ذلك للمناسبة. وقال الزمخشري: وهذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات {وداً وسواعاً ونسراً} ، كما قرىء: {وضحاها} بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج. انتهى. وكان الزمخشري لو يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم، فلذلك استشكلها. {ولا تزد} : وهي معطوفة على {وقد أضلوا} ، إذ تقديره: وقال وقد أضلوا كثيراً، فهي معمولة لقال المضمرة المحكي بها قوله: {وقد أضلوا} ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، بل قد يعطف، جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس، خلافاً لمن يدعي التناسب.

سورة الجن

سورة الجن ثمان وعشرون آية مكية وأنه استمع في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع وصفوا قرآناً بقولهم {عجباً} وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة. وقرأ الحرميان والأبوان: بفتح الهمزة من قوله: {وأنه تعالى} وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية آخرها {وأنا منا المسلمون} ؛ وباقي السبعة: بالكسر. فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله: {إنا سمعنا} ، فهي داخلة في معمول القول. وأما الفتح، فقال أبو حاتم: هو على {أوحى} ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. انتهى. وهذا لا يصح، لأن من المعطوفات ما لا يصح دخوله تحت {أوحى} ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم، كقوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} . ألا ترى أنه لا يلائم {أوحى إليّ} ، {أنا كنا نقعد منها مقاعد} ، وكذلك باقيها؟ وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله: {فآمنا به} : أي وبأنه، وكذلك باقيها، وهذا جائز على مذهب الكوفيين، وهو الصحيح. وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله: {وكفر به والمسجد الحرام} . وقال مكي: هو أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن. وقال الزجاج: وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به، لأنه معناه: صدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: فآمنا به أنه تعالى جد ربنا؛ وسبقه إلى نحوه الفراء قال: فتحت أن لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو: صدقنا وشهدنا.

وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب تسليط آمنا عليه، نحو قوله: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً} ، وتبعهما الزمخشري فقال: ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي. انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن يعمل فيه آمنا. وقرأ عكرمة: جد منوباً، ربنا مرفوع الباء، كأنه قال: عظيم هو ربنا، فربنا بدل، وقرأ عكرمة: جداً ربنا، بفتح الجيم والدال منوناً، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل، أصله تعالى جد ربنا {وَأَنَّهُ تَعَلَى جَدُّ} . وقرأ قتادة وعكرمة أيضاً: جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً، ربنا رفع. قال ابن عطية: نصب جداً على الحال، ومعناه: تعالى حقيقة ومتمكناً. وقال غيره: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: تعاليا جداً، وربنا مرفوع بتعالى. وانتصب {كذباً} في قراءة الجمهور بتقول، لأن الكذب نوع من القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذباً، أي مكذوباً فيه. وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار كقعدت جلوساً. وظنوا وظننتم، كل منهما يطلب، أن لن يبعث {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا} ، فالمسألة من باب الإعمال، وإن هي المخففة من الثقيلة. الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد، والجملة من ملئت {أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} في موضع الحال، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين، فملئت في موضع المفعول الثاني. وقرأ الأعرج: مليت بالياء دون همز، والجمهور: بالهمز، وشديداً: صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع، كما قال: أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً ولو لحظ المعنى لقال: شداداً بالجمع.

{فمن يستمع الآن} ، الآن ظرف زمان للحال، ويستمع مستقبل، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال، كما قال: سأسعى الآن إذ بلغت اناها ودون في موضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا: منا ظعن ومنا أقام، يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من قوله: كنا طرائق قدداً {الصَّلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ} تفسير للقسمة المتقدمة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: أهواء مختلفة، وقىل: فرقاً مختلفة. وقال الزمخشري: أي كنا ذوي مذاهب مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة كقوله: كما عسل الطريق الثعلب أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل. وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا يخرج القرآن عليه. وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور: {فلا ىخاف} ، وخرجت قراءتهما على النفي. وقىل: الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء، لأنه إذا كان بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة. وقرأ الجمهور: {وأن المساجد} ، بفتح الهمزة عطفاً على {أنه استمع} ، فهو من جملة الموحى. وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} بفتح الهمزة، عطفاً على قراءتهم {وأن المساجد} بالفتح. وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو بكر. بكسرها على الاستئناف.

{إلا بلاغاً} ، قال الحسن: هو استثناء منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك. والإجارة للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله، فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه، لأن ما قبله نفياً، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحداً بل، قال: {من دونه} ؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله: {من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه. وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغاً إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقدير الانفصال: إن شرطية ولا نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ بلاغاً من الله ورسالته، وهذا كما تقول: إن لا قياماً قعوداً، أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً، وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله: فطلقها فلست لها بكفءوإلا يعل مفرقك الحسام التقدير: وإن لا تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية. {ورسالاته} ، قيل: عطف على {بلاغاً} ، أي إلا أن أبلغ عن الله، أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته.

سورة المزمل

وقرأ الجمهور: {فإن له} بكسر الهمزة. وقرأ طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه: وسمعت ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط. وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار جهنم. انتهى. وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت، ولم يكن متسع النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفاً في النحو. وكيف يقول ما قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن؟ والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر. وجمع {خالدين حملاً} على معنى من، وذلك بعد الحمل على لفظ من في قوله: {يعص} ، {فإن له} . {حتى إذا رأوا} : حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله {يكونون عليه لبداً} . ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن من استفهام. ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون، وأضعف خبر مبتدأ محذوف. والجملة صلة لمن، وتقديره: هو أضعف، وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً. وقال ابن عباس: إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعاً. وقيل: إلا بمعنى ولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي. وقرىء: عالم بالنصب على المدح. وأحصى كل شيء عدداً {أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} : أي معدوداً محصوراً، وانتصابه على الحال من كل شيء، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم. ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون تمييزاً. انتهى، فيكون منقولاً من المفعول، إذا أصله: وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف. سورة المزمل عشرون آية مكية

وإلا قليلاً استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل. والضمير في منه وعليه للنصف، والمعنى: التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يخنار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. انتهى. فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول، لأنه على تقديره: قم أقل من نصف الليل كان قوله، أو انقص من نصف الليل تكراراً. وإذا كان نصفهبدلاً من قوله: {إلا قليلاً} ، فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه وهو الليل، لا جائز أن يعود على المبدل منه، لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى البتة. وإن عاد الضمير على الليل، فلا فائدة في الاستثناء من الليل، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه. وقد أبطلنا قول من قال: إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه، وأن التقدير: قم الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف. وأيضاً ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليًلا، والضمير في نصفه عائد على الليل، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير: إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وأزد عليه النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصح، وليس المراد من الآية قطعاً.

وقال الزمخشري: وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من قليلاً، وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد علىه؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل. وإن شئت قلت: لما كان معنى {قم الليل إلا قليلاً نصفه} : إذا أبدلت النصف من الليل، قم أقل من نصف الليل، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث، ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع. انتهى. وما أوسع خيال هذا الرجل، فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد، والقرآن لا ينبغي، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب، كما ذكرناه في خطبة هذا الكتاب. وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من قليلاً الزمخشري، كما ذكرنا عنه. وابن عطية أورده مورد الاحتمال، وأبو البقاء، وقال: أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً من قليلاً، أو زد عليه، والهاء فيهما للنصف. فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً. والقليل المستثنى غير مقدر، فالنقصان منه لا يتحصل. انتهى. وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل، ولم يذكر غيره. قال ابن عطية: وقد يحتمل عندي قوله: {إلا قليلاً} أنه استثناء من القيام، فيجعل الليل اسم جنس.

وانتصب {تبتيلاً} على أنه مصدر على غير الصدر، وحسن ذلك كونه فاصلة. وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: رب بالخفض على البدل من ربك؛ وباقي السبعة: بالرفع؛ وزيد بن عليّ: بالنصب؛ والجمهور: المشرق والمغرب موحدين؛ وعبد الله وأصحابه وابن عباس: بجمعهما. وقال الزمخشري، وعن ابن عباس: على القسم، يعني: خفض رب بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لا إله إلا هو، كما تقول: والله لا أحد في الدار إلا زيد. انتهى. ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس، إذ فيه إضمار الجار في القسم، ولا يجوز عند البصريين إلا في لفظة الله، ولا يقاس عليه. ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية فلا تنفيء إلا بما وحدها، ولا تنفي بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً، نحو قول الشاعر: ردوا فوالله لا زرناكم أبداًما دام في مائنا ورد لورّاد والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز والتسليم، والذي ذكره النحويون هو نفيها بما نحو قوله: لعمرك ما سعد بخلة آثمولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر يوماً {وَبِيلاً * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ} منصوب بتتقون، منصوب نصب المفعول به على المجاز، أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا؟ والضمىر في {يجعل} لليوم، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل المجاز. وقال الزمخشري: {يوماً} مفعول به، أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة.

واتقى يتعدى إلى واحد، ووقى يتعدى إلى اثنين. قال تعالى: {ووقاهم عذاب الجحيم} ، ولذلك قدره الزمخشري: تقون أنفسكم يوم القيامة، لكنه ليس تتقون بمعنى تقون، فلا يتعدى بعديته، ودس في قوله: ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً الاعتزال. قال: ويجوز أن يكون ظرفاً، أي فيكف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ قال: ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة؟ والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه. انتهى. وقرأ الجمهور: {يوماً} منوناً، {يجعل} بالياء؛ والجملة من قوله: {يجعل} صفة ليوم، فإن كان الضمير في {يجعل} عائداً على اليوم فواضح وهو الظاهر؛ وإن عاد على الله، كما قال بعضهم، فلا بد من حذف ضمير يعود إلى اليوم، أي يجعل فيه كقوله: {يوماً لا تجزي نفس} . وقرأ زيد بن عليّ: بغير تنوين: نجعل بالنون، فالظرف مضاف إلى الجملة، والشيب مفعول ثان ليجعل. وقال الزمخشري: أو السماء شيء منفطر، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر وهو شيء، والانفطار: التصدع والانشقاق؛ والضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم، والباء للسبب، أي بسبب شدة ذلك اليوم، أو ظرفية، أي فيه. فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً {شِيباً * السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} بالتقرب إليه بالطاعة، ومفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط، لأن من شرطية، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلاً اتخذه إلى ربه، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة، بل تتضمن معنى الوعد والوعيد. وقرأ العربيان ونافع: ونصفه وثلثه، بجرهما عطفاً على {ثلثي الليل} ؛ وباقي السبعة وزيد بن علي: بالنصب عطفاً على {أدنى} ، لأنه منصوب على الظرف، أي وقتاً أدنى من ثلثي الليل. وطائفة: معطوف على الضمير المستكن في {تقوم} ، وحسنة الفصل بينهما.

سورة المدثر

{والله يقدر الليل والنهار} : أي هو وحده تعالى العالم بمقادير الساعات. قال الزمخشري: وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير. انتهى. وهذا مذهبه، وإنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ. لو قلت: زيد يحفظ القرآن أو يتفقه في كتاب سيبوىه، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص. وقرأ الجمهور: {هو خيراً وأعظم أجراً} بنصبهما، واحتمل هو أن يكون فصلاً، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في {تجدوه} . ولم يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية في إعراب هو إلا الفصل. وقال أبو البقاء: هو فصل، أو بدل، أو تأكيد. فقوله: أو بدل، وهم لو كان بدلاً لطابق في النصب فكان يكون إياه. وقرأ أبو السمال وابن السميفع: هو خير وأعظم، برفعهما على الابتداء أو الخبر. قال أبو زيد: هو لغة بني تميم، يرفعون ما بعد الفاصلة، يقولون: كان زيد هو العاقل بالرفع، وهذا البيت لقيس بن ذريح وهو: نحن إلى ليلى وأنت تركتهاوكنت عليها بالملا أنت أقدر قال أبو عمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة. ويروى: أقدر. وقال الزمخشري: وهو فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. انتهى. وليس ما ذكر متفقاً عليه. ومنهم من أجازه، وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله، والخلاف الوارد فيها كثير جداً، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل في أحكام الفصل، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا. سورة المدثر ست وخمسون آية مكية

قال الزمخشري: واختص ربك بالتكبير، وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر. انتهى. وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص، قال: ودخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره. انتهى. وهو قريب مما قدره النحاة في قولك: زيدا فاضرب، قالوا تقديره: تنبه فاضرب زيداً، فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة.

وقرأ الجمهور: تستكثر برفع الراء، والجملة حالية، أي مستكثراً. قال الزمخشري: ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها، كما روي: أحضر الوغى بالرفع. انتهى، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال، أي مستكثراً. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: بجزم الراء، ووجهه أنه بدل من تمنن، أي لا تستكثر، كقوله: يضاعف له العذاب { (20) يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لأٌّيَتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَبَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَءَامَنُواْ إِيمَناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا

مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ * كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإًّحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} في قراءة من جزم، بدلاً من قوله: {يلق} ، وكقوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارناتجد حطباً جزًلا وناراً تأججا وقال الزمخشري: والفاء في فذلك {النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} للجزاء. فإن قلت: بم انتصب إذا، وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء، لأن المعنى: {فإذا نقر في الناقور} ، عسر الأمر على الكافرين؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور. ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك، ويوم عسير خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. وقال الحوفي: {فإذا} ، إذا متعلقة بأنذر، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة، قال أبو البقاء: يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة. فأما يومئذ فظرف لذلك، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير، أي غير يسير، أي غير سهل على الكافرين؛ وينبغي أن لا يجوز، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل، وهو ممنوع على الصحيح؛ وقد أجازه بعضهم فيقول: أنا بزيد غير راض. يجوز أن يكون {إنه فكر} بدلاً من قوله: {إنه كان لآياتنا عنيداً} . {سأصليه سقر} ، قال الزمخشري: بدل من {سأرهقه صعوداً} . انتهى. ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة، منهما.

وقرأ الجمهور: {لوّاحةٌ} بالرفع، أي هي لوّاحة. وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة: لواحة بالنصب على الحال المؤكدة، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للإبشار. وقال الزمخشري: نصباً على الاختصاص للتهويل. {تسعة عشر} وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة: بضم التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات، ولا يتوهم أنها حركة إعراب، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر. {ليستيقن} : هذا مفعول من أجله، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر: إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال؛ وابن جبير والسلمي والحسن: بخلاف عنهم؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص: إذ ظرف زمان ماض. وقرأ الجمهور: نذيراً {وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ} ، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار، فيكون تمييزاً: أي لإحدى الكبر إنذاراً، كما تقول: هي إحدى النساء عفافاً. كما ضمن إحدى معنى أعظم، جاء عنه التمييز. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل، أي أنذر إنذاراً. واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر. فقال الزجاج: حال من الضمير في إنها. وقيل: حال من الضمير في إحدى، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة، أو بفأنذر في أول السورة، أو حالاً من الكبر، أو حالاً من ضمير الكبر، فهو بمعزل عن الصواب. قال أبو البقاء: والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره: عظمت نذيراً. انتهى، وهو قول لا بأس به.

سورة القيامة

قال أبو رزين: نذير هنا هو الله تعالى، فهو منصوب بإضمار فعل، أي ادعوا نذيراً. وقال ابن زيد: نذير هنا هو محمد صلى الله عليه وسلّم فهو منصوب بفعل مضمر، أي ناد، أو بلغ، أو أعلن. وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة: نذير بالرفع. فإن كان من وصف النار، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف، أي هي نذير. وإن كان من وصف الله أو الرسول، فهو على إضمار هو. والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من. وقيل: الفاعل ضمير يعود على الله تعالى، أي لمن شاء هو، أي الله تعالى. وقال الزمخشري: {أن يتقدم} في موضع الرفع بالابتداء، و {لمن شاء} خبر مقدم عليه، كقولك لمن توضأ: أن يصلي. وقيل: الهاء في رهينة للمبالغة. وقيل: على تأنيث اللفظ لا على الإنسان، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء، قال تعالى: كل امرىء بما كسب رهين {يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَبَ الْيَمِينِ * فِى جَنَّتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} . فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء. سورة القيامة أربعون آية مكية ولا أقسم، قيل: لا نافية، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله: {أيحسب} الآية، وتقديره لتبعثن. وقال الزمخشري: فإن قلت: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} ، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، وكان قد أنشد قول امرىء القيس: لا وأبيك ابنة العامريلا يدعي القوم إني أفرّ وقول غوية بن سلمى:

ألا نادت أمامة باحتماليلتحزنني فلا بك ما أبالي قال: فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً، نحو قولك: {لا أقسم بيوم القيامة} ، لا تتركون سدى؟ قلت: لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقسم. ألا ترى كيف لقي {لا أقسم بهذا البلد} بقوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} ، وكذلك {فلا أقسم بمواقع النجوم} ، {إنه لقرآن كريم} ؟ ثم قال الزمخشري: وجواب القسم ما دل عليه قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} ، وهو لتبعثن. انتهى، وهو تقدير النحاس. وقول من قال جواب القسم هو: {أيحسب الإنسان} . وما روي عن الحسن أن الجواب: {بلى قادرين} ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما، أي لا أقسم على شيء، وأن التقدير: أسألك أيحسب الإنسان؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها، بل تطرح ولا يسود بها الورق، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها. وقرأ الجمهور: {قادرين} بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع: قادرون، أي نحن قادرون. وقيل: {قادرين} منصوب على خبر كان، أي بلى كنا قادرين في الابتداء. وقال الزمخشري: {بل يريد} عطف على {أيحسب} ، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب. انتهى. وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر، وهي متكلفة، بل المعنى: الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة، وهي نجمعها قادرين. ومفعول {يريد} محذوف يدل عليه التعليل في {ليفجر} . أمامه: ظرف مكان استعير هنا للزمان. وقيل: بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف، أي عين بصيرة، وعلى نفسه الخبر. والجملة في موضع خبر عن الإنسان، والتقدير عين بصيرة، وإليه ذهب الفراء وأنشد: كأن على ذي العقل عيناً بصيرةبمقعدة أو منظر هو ناظره

سورة الانسان

يحاذر حتى يحسب الناس كلهممن الخوف لا تخفى عليهم سرائره وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور، وهو الخبر عن الإنسان. ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً عن الإنسان؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث. وقرأ ابن عطية: {وجوه} رفع بالابتداء، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله: {يومئذ} و {ناضرة} خبر {وجوه} . وقوله: {إلى ربها ناظرة} جملة هي في موضع خبر بعد خبر. انتهى. وليس {يومئذ} تخصيصاً للنكرة، فيسوغ الابتداء بها، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة، إنما يكون {يومئذ} معمول لناضرة. وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، و {ناضرة} الخبر، و {ناضرة} صفة. وقيل: {ناضرة} نعت لوجوه، و {إلى ربها ناظرة} الخبر، وهو قول سائغ. {ووجوه يومئذ باسرة} : يجوز أن يكون {وجوه} مبتدأ خبره {باسرة} وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر. وكون {فلا صدق} معطوفاً على قوله: {يسأل} فيه بعد، ولا هنا نفت الماضي، أي لم يصدق ولم يصل؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه، ومثله قوله: وأي جميس لا أتانا نهابهوأسيافنا يقطرن من كبشه دما وقال الراجز: إن تغفر اللهم تغفر جماًوأيّ عبد لك لا ألما سورة الانسان احدى وثلاثون آية مدنية هل حرف استفهام، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد، لأن قد من خواص الفعل، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض. وقال ابن عباس وقتادة: هي هنا بمعنى قد. قيل: لأن الأصل أهل، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام، ويدل على ذلك قوله: سائل فوارس يربوع لحلتهاأهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم والجملة من لم يكن {الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً} في موضع الحال من الإنسان، كأنه قيل: غير مذكور، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً، أي لم يكن فيه.

وقال الزمخشري: نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً: نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه. وقرأ الجمهور: إما {مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} بكسر الهمزة فيهما؛ وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك: بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا: يلحقها إما شمال عريةوإما صبا جنح العشي هبوب وقال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً بتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره. انتهى. فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، ولذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب: إما صديقاً فصديق؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في {هديناه} . وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل.

وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة: {سلاسل} ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً. وقيل عن حمزة وأبي عمر: الوقف بالألف. وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة: بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً، وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء، ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا: صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف، وقال بعض الرجاز: والصرف في الجمع أتى كثيراًحتى ادعى قوم به التخييرا و {عيناً} بدل من {كافوراً} مفعولاً بيشربون، أي ماء عين، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف، أي يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص. ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن؛ وفي {يشرب بها} : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق، والمعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء. وقيل: الباء زائدة والمعنى يشرب بها، وقال الهذلي: شربن بماء البحر ثم ترفعتمتى لجج خضر لهن نئيج قيل: أي شربن ماء البحر.

وقرأ الجمهور: {ودانية} ، قال الزجاج: هو حال عطفاً على {متكئين} . وقال أيضاً: ويجوز أن يكون صفة للجنة، فالمعنى: وجزاهم جنة دانية. وقال الزمخشري: ما معناه أنها حال مطعوفة على حال وهي لا يرون، أي غير رائين، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم. وقرأ أبو حيوة: ودانية بالرفع، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد، نحو قولك: قائم الزيدون، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون {ظلالها} مبتدأ {ودانية} خبر له. وقرأ الأعمش: ودانياً عليهم، وهو كقوله: {خاشعةً أبصارهم} . وقرأ أبيّ: ودان مرفوع، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش. {وذللت قطوفها} ، قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائماً، تناول الثمر دون كلفة؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك، فهذا تذليلها، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك. فأما على قراءة الجمهور: {ودانية} بالنصب، كان {وذللت} معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد، أي ومذللة، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية. ويجوز أن تكون في موضع الحال، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت. وقرأ الأعمش: قوارير من فضة بالرفع، أي هو قرارير. قال الزمخشري: {قدروها} صفة لقرارير من فضة.

وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا، قال: فيه حذف على حذف، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل. انتهى. والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الذي، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير: قدروا منها؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور. قيل: منصوب على الاختصاص. وجواب {إذا رأيت} : {نعيماً} ، ومفعول فعل الشرط محذوف، حذف اقتصاراً، والمعنى: وإذا رميت ببصرك هناك، وثم ظرف العامل فيه رأيت. وقيل: التقدير: وإذا رأيت ما ثم، فحذف ما كما حذف في قوله: {لقد تقطع بينكم} ، أي ما بينكم. وقال الزجاج، وتبعه الزمخشري فقال: ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ، لأن ثم صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة. انتهى. وليس بخطأ مجمع عليه، بل قد أجاز ذلك الكوفيون، وثم شواهد من لسان العرب كقوله: فمن يهجو رسول الله منكمويمدحه وينصره سواء أي: ومن يمدحه، فحذف الموصول وأبقى صلته. وقال ابن عطية: وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه، التقدير: رأيت ما ثم حذفت ما. انتهى. وهذا فاسد، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف، أي ما استقر ثم. وقرأ الجمهور: ثم بفتح الثاء؛ وحميد الأعرج: ثم بضم التاء حرف عطف، وجواب إذا على هذا محذوف، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً.

وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة: {عاليهم} بفتح الياء؛ وابن عباس: بخلاف عنه؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة: بسكونها، وهي رواية أبان عن عاصم. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ: بالياء مضمومة؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم: بفتح الياء. وقرأ: عليهم حرف جر، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها: علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً، فثياب فاعل. ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال، وهو حال من المجرور في {ويطوف عليهم} ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف. وقال الزمخشري: وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في {يطوف عليهم} ، أو في {حسبتهم} ، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. انتهى. إما أن يكون حالاً من الضمير في {حسبتهم} ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهذا عائد على {ولدان} ، ولذلك قدر عاليهم بقوله: عالياً لهم، أي للولدان، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله: {وحلوا، وسقاهم} ، وإن هذا كان لكم جزاء، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز. وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال. وقال ابن عطية: ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم. انتهى. وعال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب. وقرأ الجمهور: ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس.

وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة: عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، برفع الثلاثة، برفع سندس بالصفة لأنه جنس، كما تقول: ثوب حرير، تريد من حرير؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها؛ ورفع استبرق بالعطف عليها، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره: وثياب استبرق، أي من استبرق. وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص: خضر برفعهما. وقرأ العربيان ونافع في رواية: خضر بالرفع صفة لثياب، وإستبرق جر عطفاً على سندس. وقرأ ابن كثير وأبو بكر: بجر خضر صفة لسندس، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب. وقال الزمخشري: هنا وقرىء {واستبرق} نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب. {خضرٍ} قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من فضة. انتهى. فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن، وإما أن يكون بدلاً منه، وإمّا أن يكون مفعول أحسن، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور. فإن كان الأول، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب، لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني، ففي مثل هذا الفصل خلاف. والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف.

سورة المرسلات

{يدخل من يشاء في رحمته} : وهم المؤمنون. وقرأ الجمهور: {والظالمين} نصباً بإضمار فعل يفسره قوله: {أعدّ لهم} ، وتقديره: ويعذب الظالمين، وهو من باب الاشتغال، جملة عطف فعلية على جملة فعلية. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة: والظالمون، عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن. وقرأ عبد الله: وللظالمين بلام الجر، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير: وأعد للظالمين أعدّ لهم، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول: بزيد مررت به، ويكون التقدير: مررت بزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال. والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً. سورة المرسلات خمسون آية مكية ومعنى عرفاً: إفضالاً من الله تعالى على عباده، ومنه قول الشاعر: لا يذهب العرف بين الله والناس وانتصابه على أنه مفعول له، أي أرسلن للإحسان والمعروف، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل. وتقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، وانتصابه على الحال. وانتصابهما على البدل من ذكراً، كأنه قيل: فالملقيات عذراً أو نذراً، أو على المفعول من أجله، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي عاذرين أو منذرين. ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه. وقيل: يصح انتصاب {عذراً أو نذيراً} على المفعول به بالمصدر الذي هو {ذكراً} ، أي فالملقيات، أي فذكروا عذراً، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل، إنما يراد به الحقيقة لقوله: {أألقي عليه الذكر} . وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره: إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون. قال الزمخشري: من هلكه بمعنى أهلكه. قال العجاج: ومهمه هالك من تعرجا انتهى.

وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هو من اللازم، ومن موصول، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً. وانتصب أحياء وأمواتاً {لَوَقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نُهْلِكِ الأٌّوَّلِينَ} بفعل يدل عليه ما قبله، أي يكفت أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. واستدل بهذا من قال: إن النباش يقطع، لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: نكفتكم أحياء وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير. وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية: {هذا يوم لا ينطقون} ، بفتح الميم؛ والجمهور: برفعها. قال ابن عطية: لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء، وهي في موضع رفع. وقال صاحب اللوامح: قال عيسى: هي لغة سفلى مضر، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى. والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفي. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم.

سورة النبأ

{فيعتذرون} : عطف على {ولا يؤذن} داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب. وقال ابن عطية: ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال: والوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب، وجعل دليله ذلك، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره. سورة النبأ أربعون آية مكية وقرأ الجمهور: عم؛ وعبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى: عما بالألف، وهو أصل عم، والأكثر حذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر وأضيف إليها. ومن إثبات الألف قوله: على ما قام يشتمني لئيمكخنزير تمرغ في رماد وقال ابن عطية: قال أكثر النحاة قوله {عن النبأ العظيم} متعلق بيتساءلون، الظاهر كأنه قال: لم يتساءلون عن النبأ العظيم؟ وقال الزجاج: الكلام تام في قوله {عم يتساءلون} ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول: يتساءلون عن النبأ. {يوم ينفخ في الصور} : بدل من يوم الفصل. قال الزمخشري: أو عطف بيان.

ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصاداً، ويجوز أن يتعلق بمآبا. ولبثين حال من الطاغين، وأحقاباً نصب على الظرف. وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب، وجمعة أحقاب، فينتصب حالاً عنهم، يعني لبثين فيها حقبين جحدين. وقوله: لايذوقون فيها برداً ولا شراباً {سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِّلطَّغِينَ مَئَاباً * لَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} تفسير له، والاستثناء منقطع، يعني: لا يذوقون فيها برداً ورَوحاً ينفس عنهم حر النار، ولا شراب يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها {حميماً وغساقاً} . والذي يظهر أن قوله: {لا يذوقون} كلام مستأنف وليس في موضع الحال، و {إلا حميماً} استثناء متصل من قوله: {ولا شراباً} ، وإن {أحقاباً} منصوب على الظرف حملاً على المشهور من لغة العرب، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة. {وفاقاً} : أي لأعمالهم وكفرهم، وصف الجزاء بالمصدر لوافق، أو على حذف مضاف، أي ذا وفاق. وقال الزمخشري: هو مثل قوله: أنبتكم من الأرض نباتاً {حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِئَايَتِنَا كِذَّاباً} يعني: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا، لأن كل مكذب بالحق كاذب. فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر، أي تكذيباً كذاباً مفرطاً في التكذيب. وقرأ الجمهور: {وكل شيء} بالنصب: وأبو السمال: بالرفع، وانتصب {كتاباً} على أنه مصدر من معنى {أحصيناه} أي إحصاء، أو يكون {أحصيناه} في معنى كتبناه. والتجوز إما في المصدر وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط، أو على أنه مصدر في موضع الحال. و {حدائق} بدل من {مفازاً} وفوزاً، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف، أي فوز حدائق، أي بها.

سورة النازعات

قال الزمخشري: {جزاء} : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: {إن للمتقين مفازاً} ، كأنه قال: جازى المتقين بمفاز وعطاء نصب بجزاء نصب المفعول به، أي جزاءهم عطاء. انتهى. وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي {إن للمتقين مفازاً} ، والمصدر المؤكد لا يعمل، لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل، ولا نعلم في ذلك خلافاً. وقرأ الجمهور: {حساباً} ، وهو صفة لعطاء. وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم: رب والرحمن بالجر؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفعهما؛ والإخوان: رب بالجر، والرحمن بالرفع، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك، والرحمن صفة أو بدل من رب أو عطف بيان، وهل يكون بدلاً من ربك فيه نظر، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات، والرفع على إضمار هو رب، أو على الابتداء، وخبره {لا يملكون} . وما منصوب بينظر ومعناه: ينتظر ما قدّمت يداه، فما موصولة. ويجوز أن يكون ينظر من النظر، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض، وما استفهامية منصوبة تقدّمت. سورة النازعات ست وأربعون آية مكية

والمختار في جواب القسم أن يكون محذوفاً وتقديره: لتبعثن لدلالة ما بعده عليه، قاله الفراء. وقال محمد بن عليّ الحكيم الترمذي: الجواب: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى {قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَلَيْتَنِى كُنتُ تُرَباً * وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} ، والمعنى فيما اقتصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى عليه السلام وفرعون. قال ابن الانباري: وهذا قبيح لأن الكلام قد طال. وقيل: اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله: {يوم ترجف الراجفة} ، أي ليوم كذا، {تتبعها الرادفة} ، ولم تدخل نون التوكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل؛ وقول أبي حاتم هو علي التقديم والتأخير، كأنه قال: {فإذا هم بالساهرة} . {والنازعات} ، قال ابن الأنباري: خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام. وقيل: التقدير: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} ، {والنازعات} على التقديم والتأخير أيضاً وليس بشيء. وقيل: الجواب: {هل أتاك حديث موسى} ، لأنه في تقدير قد أتاك وليس بشيء، وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية، وحذف الجواب هو الوجه، ويقرب القول بحذف اللام من {يوم ترجف} . والعامل في يوم اذكر مضمرة، أو لتبعثن المحذوف. {قلوب} : مبتدأ، {واجفة} : صفة تعمل في {يومئذ} ، {أبصارها} : أي أبصار أصحاب القلوب، {خاشعة} : مبتدأ وخبر في موضع خبر {قلوب} . وقال ابن عطية: رفع قلوب بالابتداء، وجاز ذلك، وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله: {يومئذ} . انتهى. ولا تتخصص الأجرام بظروف الزمان، وإنما تخصصت بقوله: {واجفة} . وقال الزمخشري: {نكال الآخرة} هو مصدر مؤكد، كـ {وعد الله} ، و {صبغة الله} ، كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى. انتهى. والمصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة.

والجمهور: {متاعاً} بالنصب، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم؛ وابن أبي عبلة: بالرفع، أي ذلك متاع. وقال الزمخشري: فإن قلت: فهلا أدخل حرف العطف على أخرج؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى {دحاها} : بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها. والثاني: أن يكون أخرج حالاً بإضمار قد، كقوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} . انتهى. وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين. والأخفش: أن الماضي يقع حالاً، ولا يحتاج إلى إضمار قد، وهو الصحيح. ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً. انتهى. {ومرعاها} : مفعل من الرعي، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول، كأنه قيل: ومرعيها: أي النبات الذي يرعى. وهي مبتدأ أو فصل. والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين، أي المأوى له، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة. وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير. وقال الزمخشري: والمعنى فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره، تركت الإضافة. ودخول حرف التعريف في المأوى، والطرف للتحريف لأنهما معرفان. انتهى. وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدر ضميراً محذوفاً، كما قدره البصريون، فرام حصول الربط بلا رابط. ويوم يتذكر {طَغَى * وَءاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا} : بدل من {فإذا} ؛ وجواب إذا قال الزمخشري: فإن الأمر كذلك. وقيل: عاينوا وعلموا. ويحتمل أن يكون التقدير: انقسم الراؤون قسمين، والأولى أن يكون الجواب: فأما وما بعده، كما تقول: إذا جاءك بنو تميم، فأما العاصي فأهته، وأما الطائع فأكرمه.

سورة عبس

وقال الزمخشري: وقرىء منذرر بالتنوين، وهو الأصل والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذر زيد أمس. انتهى. أما قوله: وهو الأصل، يعني التنوين، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم. وقد قررنا في هذا الكتاب، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة، لأن العمل إنما هو بالشبه، والإضافة هي أصل في الأسماء. وأما قوله: فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو. سورة عبس اثنتان وأربعون آية مكية أن جاءه: مفعول من أجله، أي لأن جاءه، ويتعلق بتولى على مختار البصريين في الأعمال، وبعبس على مختار أهل الكوفة. وقرأ الجمهور: {فتنفعه} ، برفع العين عطفاً على {أو يذكر} ؛ وعاصم في المشهور، والأعرج وأبو حيوة أبي عبلة والزعفراني: بنصبهما. قال ابن عطية: في جواب التمني، لأن قوله: {أو يذكر} في حكم قوله {لعله يزكى} . انتهى. وهذا ليس تمنياً، إنما هو ترج وفرق بين الترجي والتمني. وقال الزمخشري: وبالنصب جواباً للعل، كقوله: {فأطلع إلى إله موسى} . انتهى. والترجي عند البصريين لا جواب له، فينصب بإضمار أن بعد الفاء. وأما الكوفيون فيقولون: ينصب في جواب الترجي، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله: {فأطلع إلى إله موسى} في قراءة حفص، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع. وقرأ الجمهور: إنا بكسر الهمزة؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس: أنا {طَعَامِهِ * ط {أَنَّا صَبَبْنَا} بفتح الهمزة؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما: أني بفتح الهمزة مما لا؛ فالكسر على الاستئناف في ذكر تعداد الوصول إلى الطعام، والفتح قالوا على البدل، ورده قوم، لأن الثاني ليس الأول. قيل: وليس كما ردوا لأن المعنى: فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه، فترتب البدل وصح. انتهى. كأنهم جعلوه بدل كل من كل، والذي يظهر أنه بدل الاشتمال.

سورة التكوير

{يوم يفر} : بدل من إذا، وجواب إذا محذوف تقديره: اشتغل كل إنسان بنفسه، يدل عليه: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} . سورة التكوير تسع وعشرون آية مكية وقال الزمخشري: فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية، رافعها فعل مضمر يفسره كورت، لأن إذا يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط. انتهى. ومن طريقته أنه يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً، ولا مشاحة في الاصطلاح. وليس ما ذكر من الإعراب مجمعاً على تحتمه عند النحاة، بل يجوز رفع الشمس على الابتداء عند الأخفش والكوفيين، لأنهم يجيزون أن تجيء الجملة الاسمية بعد إذا، نحو: إذا زيد يكرمك فأكرمه. ولا يدعي في وأد أنه مقلوب من آد، لأن كلاً منهما كامل التصرف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول، وليس فيه شيء من مسوغات ادعاء القلب. والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك، أو كونه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً وكونه أكثر تصرفاً والآخر ليس كذلك، أو أكثر استعمالاً من الآخر، وهذا على ما قرروا أحكم في علم التصريف. فالأول كيثس وأيس، والثاني كطأمن واطمأن، والثالث كشوايع وشواع، والرابع كلعمري ورعملي. وجواب إذا وما عطفت عليه علمت نفس ما أحضرت {زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} . وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهشيم وابن مقسم: ثم، بضم الثاء: حرف عطف، والجمهور: ثم {مَكِينٍ * مُّطَعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} بفتحها، ظرف مكان للبعيد. {لمن شاء} : بدل من {للعالمين} . سورة الانفطار تسع عشرة آية مكية

وقال الزمخشري: بعثر وبحثر بمعنى واحد، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما، والمعنى: بحثت وأخرج موتاها. وقيل: لبراءة المبعثرة، لأنها بعثرت أسرار المنافقين. انتهى. فظاهر قوله أنهما مركبان أن مادتهما ما ذكر، وأن الراء ضمت إلى هذه المادة، والأمر ليس كما يقتضيه كلامه، لأن الراء ليست من حروف الزيادة، بل هما مادتان مختلفتان وإن اتفقا من حيث المعنى. وأما أن إحداهما مركبة من كذا فلا، ونظيره قولهم: دمث ودمثر وسب وسبطر. ما قدمت وأخرت: تقدم الكلام على شبهه في سورة القيامة. وقرأ الجمهور: {ما غرك} ، فما استفهامية. وقرأ ابن جبير والأعمش: ما أغرك بهمز، فاحتمل أن يكون تعجباً، واحتمل أن تكون ما استفهامية. وما زائدة، وشاء في موضع الصفة لصورة، ولم يعطف ركبك {صُورَةٍ مَّا شَآءَ} بالفاء كالذي قبله، لأنه بيان لعدلك، وكون في أي صورة متعلقاً بربك هو قول الجمهور. وقيل: يتعلق بمحذوف، أي ركبك حاصلاً في بعض الصور. وأي تقتضي التعجيب والتعظيم، فلم يجعلك في صورة خنزير أو حمار؛ وعلى هذا تكون ما منصوبة بشاء، كأنه قال: أي تركيب حسن شاء ركبك. {وإن عليكم لحافظين} : استئناف إخبار، أي عليهم من يحفظ أعمالهم ويضبطها. ويظهر أنها جملة حالية، والواو واو الحال.

سورة المطففين

وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو: {يوم لا تملك} برفع الميم، أي هو يوم، وأجاز الزمخشري فيه أن يكون بدلاً مما قبله. وقرأ محبوب عن أبي عمرو: يوم لا تملك على التنكير منوناً مرفوعاً فكه عن الإضافة وارتفاعه على هو يوم، ولا تملك جملة في موضع الصفة، والعائد محذوف، أي لا تملك فيه. وقرأ زيد بن علي والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج وباقي السبعة: يوم بالفتح على الظرف، فعند البصريين هي حركة إعراب، وعند الكوفيين يجوز أن تكون حركة بناء، وهو على التقديرين في موضع رفع خبر المحذوف تقديره: الجزاء يوم لا تملك، أو في موضع نصب على الظرف، أي يدانون يوم لا تملك، أو على أنه مفعول به، أي اذكر يوم لا تملك. ويجوز على رأي من يجيز بناءه أن يكون في موضع رفع خبر المبتدأ محذوف تقديره: هو. سورة المطففين ست وثلاثون آية مكية

وقال الزمخشري: لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون، أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. انتهى. وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر، فتقول: كلت لك ووزنت لك، ويجوز حذف اللام، كقولك: نصحت لك ونصحتك، وشكرت لك وشكرتك؛ والضمير ضمير نصب، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه، والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون. وعن عيسى وحمزة: المكيل له والموزون له محذوف، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو. وقال الزمخشري: ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا. وإن جعلت الضمير للمطففين، انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر. انتهى. ولا تنافر فيه بوجه، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد، والحديث واقع في الفعل. ليوم عظيم، وهو يوم القيامة، ويوم ظرف، العامل فيه مقدر، أي يبعثون يوم يقوم الناس. ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون، ويكون معنى {ليوم} : أي لحساب يوم. وقال الفراء: هو بدل من يوم عظيم، لكنه بني وقرىء {يوم يقوم} بالجر، وهو بدل من {ليوم} ، حكاه أبو معاد. وقرأ زيد بن عليّ: يوم بالرفع، أي ذلك يوم. {وسجين} ، قال الجمهور: فعيل من السجن، كسكير، أو في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف. قال ابن مقبل: ورفقة يضربون البيض ضاحيةضرباً تواصت به الأبطال سجينا وقال الزمخشري: فإن قلت: {ما سجين} ، أصفة هو أم اسم؟ قلت: بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف.

واختلفوا في سجين إذا كان مكاناً اختلافاً مضطرباً حذفنا ذكره. والظاهر أن سجيناً هو كتاب، ولذلك أبدل منه {كتاب مرقوم} . وقال عكرمة: سجين عبارة عن الخسار والهوان، كما تقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود. وقال بعض اللغويين: سجين، نونه بدل من لام، وهو من السجيل، فتلخص من أقوالهم أن سجين نونه أصلية، أو بدل من لام. وإذا كانت أصلية، فاشتقاقه من السجن. وقيل: هو مكان، فيكون {كتاب مرقوم} خبر مبتدأ محذوف، أي هو كتاب. وعني بالضمير عوده على {كتاب الفجار} ، أو على {سجين} على حذف، أي هو محل {كتاب مرقوم} ، و {كتاب مرقوم} تفسير له على جهة البدل أو خبر مبتدأ. والضمير المقدر الذي هو عائد على {سجين} . وتبين من الإعراب السابق أن {كتاب مرقوم} بدل أو خبر مبتدأ محذوف. وكان ابن عطية قد قال: إن سجيناً موضع ساجن على قول الجمهور، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة، من قال: {كتاب مرقوم} . من قال بالقول الأول في سجين، فكتاب مرتفع عنده على خبر إن، والظرف الذي هو {لفي سجين} ملغى. ومن قال في سجين بالقول الثاني، فكتاب مرقوم على خبر ابتداء مضمر التقدير هو {كتاب مرقوم} ، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو. انتهى. فقوله: والظرف الذي هو {لفي سجين} ملغى قول لا يصح، لأن اللام التي في {لفي سجين} داخلة على الخبر، وإذا كانت داخلة على الخبر، فلا إلغاء في الجار والمجرور، بل هو الخبر. ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في {لفي سجين} على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً، لأن كتاب موصوف بمرقوم فلا يعمل، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله، ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف، فتعين بهذا أن قوله: {لفي سجين} هو خبر إن.

وعن ربهم متعلق بمحجوبون، وهو العامل في يومئذ، والتنوين تنوين العوض من الجملة المحذوفة، ولم تتقدّم جملة قريبة يكون عوضاً منها، لكنه تقدم يقوم الناس لرب العالمين {يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * كَلاَّ إِنَّ كِتَبَ الأٌّبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} ، فهو عوض من هذه الجملة، كأنه قيل: يوم إذ يقوم الناس. ثم هم مع الحجاب عن الله هم صالوا النار، وهذه ثمرة الحجاب. قال ابن عطية: {هذا الذي} ، يعني الجملة مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي هو يقال. انتهى. عليون: جمع واحده عليّ، مشتق من العلو، وهو المبالغة، قاله يونس وابن جني. قال أبو الفتح: وسبيله أن يقال علية، كما قالوا للغرفة علية، فلما حذفت التاء عوضوا منها الجمع بالواو والنون. وقيل: هو وصف للملائكة، فلذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع، ولا واحد له من لفظه، كقوله: عشرين وثلاثين؛ والعرب إذا جمعت جمعاً، ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية، قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون. وقال الزجاج: أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع، هذه قنسرون، ورأيت قنسرين. وإعراب {لفي عليين} ، و {كتاب مرقوم} كإعراب {لفي سجين} ، و {كتاب مرقوم} . وقال ابن عطية: و {كتاب مرقوم} في هذه الآية خبر إن والظرف ملغى. انتهى. هذا كما قال في {لفي سجين} ، وقد رددنا عليه ذلك وهذا مثله. و {عيناً} نصب على المدح. وقال الزجاج: على الحال. انتهى. وقال الأخفش: يسقون عيناً. {فاليوم الذين آمنوا} ، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حال من الضمير في يضحكون. وقيل: {هل ثوب} متعلق بينظرون، وينظرون معلق بالجملة في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق خمس وعشرون آية مكية وحقّت: وقال قتادة وحق لها أن تفعل ذلك، وهذا الفعل مبني للمفعول، والفاعل هو الله تعالى. وقيل: {يا أيها الإنسان} ، على حذف الفاء تقديره: فيا أيها الإنسان. وقيل: {وأذنت} على زيادة الواو؛ وعن الأخفش: {إذا السماء} مبتدأ، خبره {وإذا الأرض} على زيادة الواو، والعامل فيها على قول الأكثرين: الجواب إما المحذوف الذي قدروه، وإما الظاهر الذي قيل إنه جواب. قال ابن عطية: وقال بعض النحويين: العامل انشقت، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن إذا مضافة إلى انشقت، ومن يجيز ذلك تضعف عنده الإضافة ويقوى معنى الجزاء، انتهى. وهذا القول نحن نختاره، وقد استدللنا على صحته فيما كتبناه، والتقدير: وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض. وقيل: لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به، فليست شرطاً. {فملاقيه} : أي جزاء كدحك من ثواب وعقاب. قال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه، ولا يتعين ما قاله، بل يصح أن يكون معطوفاً على كادح عطف المفردات. وقال الجمهور: الضمير في ملاقيه عائد على ربك، أي فملاقي جزائه، فاسم الفاعل معطوف على اسم الفاعل. و {عن طبق} في موضع الصفة لقوله: {طبقاً} ، أو في موضع الحال من الضمير في {لتركبن} . سورة البروج اثنتان وعشرون آية مكية

سورة الطارق

وشاهد ومشهود: هذان منكران، وينبغي حملهما على العموم لقوله: {علمت نفس ما أحضرت} ، وإن كان اللفظ لا يقتضيه، لكن المعنى يقتضيه، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي. فإذا لوحظ فيها معنى العموم، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم. وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة، كقوله: {والطور وكتاب مسطور} ، ولأنه إذا حمل {وكتاب مسطور} على العموم دخل فيه معنيان: الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل والقرآن، فيحسن إذ ذاك القسم به. وجواب القسم قيل محذوف، فقيل: لتبعثن ونحوه. وقال الزمخشري: يدل عليه {قتل أصحاب الأخدود} . وقيل: الجواب مذكور فقيل: {إن الذين فتنوا} . وقال المبرد: {إن بطش ربك لشديد} . وقيل: قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل، وحسن حذفها كما حسن في قوله: {والشمس وضحاها} ، ثم قال: {قد أفلح من زكاها} ، أي لقد أفلح من زكاها. وإذا كان {قتل} جواباً للقسم، فهي جملة خبرية، وقيل: دعاء، فكون الجواب غيرها. وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد، والجمهور بالتخفيف. وقرأ الجمهور: {النار} بالجر، وهو بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف، أي أخدود النار. وقرأ قوم النار بالرفع. قيل: وعلى معنى قتلهم. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان: {المجيد} بخفض الدال، صفة للعرش، ومن قرأ: ذي العرش بالياء، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخباراً عن هو، فيكون {فعال} خبراً. ويجوز أن يكون {الودود ذو العرش} صفتين للغفور، و {فعال} خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. قرأ الجمهور: {ذو} بالواو وابن عامر في رواية: ذي بالياء صفة لربك. وقرأ الجمهور: {قرآن مجيد} : موصوف وصفة. وقرأ ابن السميفع: {قرآن مجيد} بالإضافة. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه: محفوظ بالرفع صفة لقرآن. سورة الطارق سبع عشرة آية مكية

وقرأ الجمهور: إن خفيفة، كل رفعاً لما خفيفة، فهي عند البصريين مخففة من الثقيلة، كل مبتدأ واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة، وما زائدة، وحافظ خبر المبتدأ، وعليها متعلق به. وعند الكوفيين: إن نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، وكل حافظ مبتدأ وخبر؛ والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما: لما مشددة وهي بمعنى إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم. تقول العرب: أقسمت عليك لما فعلت كذا: أي إلا فعلت، قاله الأخفش. فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون نافية، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. وحكى هرون أنه قرىء: إن بالتشديد، كل بالنصب، فاللام هي الداخلة في خبر إن، وما زائدة، وحافظ خبر إن، وجواب القسم هو ما دخلت عليه إن، سواء كانت المخففة أو المشددة أو النافية، لأن كلاًّ منها يتلقى به القسم؛ فتلقيه بالمشددة مشهور، وبالمخففة تالله إن كدت لتردين، وبالنافية {ولئن زالتا إن أمسكهما} . وقيل: جواب القسم {إنه على رجعه لقادر} ، وما بينهما اعتراض. و {مم خلق} : استفهام، ومن متعلقة بخلق، والجملة في موضع نصب بفلينظر، وهي معلقة. وجواب الاستفهام ما بعده وهو: {خلق من ماء دافق} .

سورة الأعلى

وقال الضحاك: على رده من الكبر إلى الشباب. وقال عكرمة ومجاهد: الضمير عائد على الماء، أي على رد الماء في الإحليل أو في الصلب. وعلى هذا القول وقول الضحاك يكون العامل في يوم تبلى {وَالتَّرَآئِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} مضمر تقديره اذكر. وعلى قول ابن عباس، وهو الأظهر، فقال بعض النحاة: العامل ناصر من قوله: {ولا ناصر} ، وهذا فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وكذلك ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور. وقال آخرون، ومنهم الزمخشري: العامل رجعه ورد بأن فيه فصلاً بين الموصول ومتعلقه، وهو من تمام الصلة، ولا يجوز. وقال الحذاق من النحاة: العامل فيه مضمر يدل عليه المصدر تقديره: يرجعه يوم تبلى السرائر. قال ابن عطية: وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل لقادر، لأنه يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده. وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون المعنى لقادر، وذلك أنه قال: {إنه على رجعه لقادر} على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت. ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه، انتهى. سورة الأعلى تسع عشرة آية مكية قالوا: الأعلى {رُوَيْداً * سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأّعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى} يصح أن يكون صفة لربك، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوباً، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب {الذي خلق} صفة لربك، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره. لو قلت: رأيت غلام هند العاقل الحسنة، لم يجز؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول: رأيت غلام هند الحسنة العاقل. فإن لم يجعل الذي صفة لربك، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم.

سورة الغاشية

وأثبتت الألف في فلا تنسى {أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} ، وإن كان مجزوماً بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي. {ونيسرك} معطوف على {سنقرئك} ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض. سورة الغاشية ست وعشرون آية مكية وقيل: هل بمعنى قد. وجوه يومئذ {وَمُوسَى * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍءَانِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ} : أي يوم إذ غشيت، والتنوين عوض من الجملة، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضاً منها، لكن لما تقدّم لفظ الغاشية، وأل موصولة باسم الفاعل، فتنحل للتي غشيت، أي للداهية التي غشيت. فالتنوينن عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها، وإلى الموصول الذي هو التي.

وقال الزمخشري: {لا يسمن} مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع، فقوله: مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع. أما جره على وصفه لضريع فيصح، لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع. وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح، لأن الطعام منفي ولا يسمن، منفي فلا يصح تركيبه، إذ يصير التقدير: ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى: أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير ضريع، كما تقول: ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه أن له مالاً ينتفع به من غير مال عمرو. ولو قيل: الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في {إلا من ضريع} كان صحيحاً، لأنه في موضع رفع على أنه بدل من اسم ليس، أي ليس لهم طعام إلا كائن من ضريع، إذ الإطعام من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع، وهذا تركيب صحيح ومعنى واضح، وقال الزمخشري: أو أريد أن لا طعام لهم أصلاً، لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس، لأن الطعام ما أشبع وأسمن، وهو منهما بمعزل. كما تقول: ليس لفلان ظل إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد. انتهى. فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً، إذ لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظة طعام، إذ ليس بطعام. والظاهر الاتصال فيه.

والإبل لا واحد له من لفظه وهو مؤنث، ولذلك إذا صغر دخلته التاء فقالوا: أبيلة، وقالوا في الجمع: آبال. وقد اشتقوا من لفظه فقالوا: تأبل الرجل، وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا: ما آبل زيداً. وإبل اسم جاء على فعل، ولم يحفظ سيبويه مما جاء على هذا الوزن غيره. وكيف خلقت: جملة استفهامية في موضع البدل من الإبل، وينظرون: تعدى إلى الإبل بواسطة إلى، وإلى كيف خلقت على سبيل التعليق، وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم: عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال، على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف، فحكى أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت، وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام، لم يبق الاستفهام على حقيقته، وقد بينا ذلك في كتابنا المسمى بالتذكرة وفي غيره. وقرأ الجمهور: {خلقت} : رفعت، {نصبت} سطحت بتاء التأنيث مبنياً للمفعول؛ وعليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بتاء المتكلم مبنياً للفاعل، والمفعول محذوف، أي خلقتها، رفعتها، نصبتها؛ رفعت رفعاً بعيد المدى بلا عمد، نصبت نصباً ثابتاً لا تميل ولا تزول؛ سطحت سطحاً حتى صارت كالمهاد للمتقلب عليها. وقرأ الجمهور: {سطحت} خفيفة الطاء؛ والحسن وهارون: بشدّها. وقرأ الجمهور: ألا حرف استثناء فقيل متصل، أي فأنت مسيطر عليه. وقيل: متصل من فذكر، أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر، وما بينهما اعتراض. وقيل: منقطع، وهي آية موادعة نسخت بآية السيف. وقرأ ابن عباس وزيد بن عليّ وقتادة وزيد بن أسلم: ألا حرف تنبيه واستفتاح، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم.

وقرأ الجمهور: إيابهم {بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى} بتخفيف الياء مصدر آب؛ وأبو جعفر وشيبة: بشدّها مصدراً لفعيل من آب على وزن فيعال، أو مصدراً كفوعل كحوقل على وزن فيعال أيضاً كحيقال، أو مصدر الفعول كجهور على وزن فعوال كجهوار فأصله أوواب فقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ واجتمع في هذا البناء والبناءين قبله واو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغم ولم يمنع الإدغام من القلب لأن الواو والياء ليستا عينين من الفعل، بل الياء في فيعل والواو في فعول زائدتان. وقال صاحب اللوامح، وتبعه الزمخشري: يكون أصله إواباً مصدر أوّب، نحو كذّب كذاباً، ثم قيل إواباً فقلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها. قال الزمخشري: كديوان في دوان، ثم فعل به ما فعل بسيد، يعني أنه اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الواو، فأما كونه مصدر أوب فإنه لا يجوز، لأنهم نصوا على أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسوراً فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة، ومثلوا بأخرواط مصدر أخروّط، ومثلوا أيضاً بمصدر أوب نحو أوّب إواباً، فهذه وضعت على الإدغام، فحصنها من الإبدال ولم تتأثر للكسر.

سورة الفجر

وأما تشبيه الزمخشري بديوان فليس بجيد لأنهم لم ينطقوا بها في الوضع مدغمة، فلم يقولوا دوّان، ولولا الجمع على دواوين لم يعلم أن أصل هذه الياء واو، وأيضاً فنصوا على شذوذ ديوان فلا يقاس عليه غيره. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون من أأوب، فيجيء إيواباً، سهلت الهمزة، وكان اللازم في الإدغام يردها إواباً، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس، انتهى. فقوله: وكان اللازم في الإدغام بردها إواباً ليس بصحيح، بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إياباً، لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل. وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة، فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إياباً. سورة الفجر ثلاثون آية مكية وقرأ أبو الدينار الأعرابي: والفجر، والوتر، ويسر {حِسَابَهُمْ * وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على آخر القوافي بالتنوين، وإن كان فعلاً، وإن كان فيه ألف ولام. قال الشاعر: أقلّي اللوم عاذل والعتاباوقولي إن أصبت لقد أصاباانتهى. وهذا ذكره النحويون في القوافي المطلقة إذا لم يترنم الشاعر، وهو أحد الوجهين اللذين للعرب إذا وقفوا على الكلم في الكلام لا في الشعر، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى القوافي.

وجواب القسم محذوف. قال الزمخشري: وهو لنعذبن، يدل عليه قوله: ألم تر إلى قوله: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} . وقال ابن الأنباري: الجواب: {إن ربك لبالمرصاد} . والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية، وهو قوله: {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} ، وتقديره: لإيابهم إلينا وحسابهم علينا. وقول مقاتل: هل هنا في موضع تقديره: إن في ذلك قسماً لذي حجر. فهل على هذا في موضع جواب القسم، قول لم يصدر عن تأمل، لأن المقسم عليه على تقدير أن يكون التركيب إن في ذلك قسماً لذي حجر لم يذكر، فيبقى قسم بلا مقسم عليه، لأن الذي قدره من إن في ذلك قسماً لذي حجر لا يصح أن يكون مقسماً عليه. {إرم} بكسر الهمزة وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية لأنه اسم للقبيلة، وعاد، وإن كان اسم القبيلة، فقد يلحظ فيه معنى الحي فيصرف أولاً يلحظ، فجاء على لغة من صرف هنداً، وإرم عطف بيان أو بدل. وقرأ الحسن: بعاد غير ممنوع الصرف مضافاً إلى إرم، فجاز أن يكون إرم وجداً ومدينة. {بعاد} والضحاك: بعاد مصروفاً، وبعاد غير مصروف أيضاً، أرم بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف أرم بكسر الراء؛ وعن ابن عباس والضحاك: أرم فعلاً ماضياً، أي بلي، يقال: رم العظم وأرم هو: أي بلي، وأرمه غيره معدى بالهمزة من رم الثلاثي. وذات على هذه القراءة مكسورة التاء؛ وابن عباس أيضاً: فعلاً ماضياً، ذات بنصب التاء على المفعول به، وذات بالكسر صفة لإرم؛ وسواء كانت اسم قبيلة أو مدينة، وإن كان يترجح كونها مدينة بقوله: {لم يخلق مثلها في البلاد} ، فإذا كانت قبيلة صح إضافة عاد إليها وفكها منها بدلاً أو عطف بيان، وإن كانت مدينة فالإضافة إليها ظاهرة والفك فيها يكون على حذف مضاف، أي بعاد أهل إرم ذات العماد.

سورة البلد

وقرىء: {إرم ذات} ، بإضافة إرم إلى ذات، والإرم: العلم، يعني بعاد: أعلام ذات العماد. ومن قرأ: أرم فعلاً ماضياً، ذات بالنصب، أي جعل الله ذات العماد رميماً، ويكون {إرم} بدلاً من {فعل ربك} وتبييناً لفعل، وإذا كانت {ذات العماد} صفة للقبيلة. {الذين} صفة لعاد وثمود وفرعون، أو منصوب على الذم، أو مرفوع على إضمارهم. {وجيء يومئذ بجهنم} ، كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم لمن يرى} ، {يومئذ} بدل من {إذا} . قال الزمخشري: وعامل النصب فيهما يتذكر، انتهى. ظاهر كلامه أن العامل في البدل هو العامل نفسه في المبدل منه، وهو قول قد نسب إلى سيبويه، والمشهور خلافه، وهو أن البدل على نية تكرار العامل. {لا يعذب ولا يوثق} ، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد، بل موضوع، لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلاً. ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائداً على الكافر، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه. وقيل إلى الله، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر، ويضعف هذا عمل لا يعذب في يومئذ، وهو ظرف مستقبل. وتعدى فادخلي أولاً بفي، وثانياً بغير فاء، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعددت إليه بفي، دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس، ومنه: فادخلي في عبادي {مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِى عِبَادِى} . وإذا كان المدخول فيه ظرفاً حقيقياً، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة في. وإذا العامل فيه فيقول: والنية فيه التأخير، أي فيقول كذا وقت الابتداء، وهذه الفاء لا تمنع ان يعمل ما بعدها فيما قبلها، وإن كانت فاء دخلت في خبر المبتدأ لأجل أما التي فيها معنى الشرط، وبعد أما الثانية مضمر به وقع التوازن بين الجملتين تقديره: فأما إذا هو ابتلاه، وفيقول خبر عن ذلك المبتدأ المضمر. سورة البلد عشرون آية مكية وأنت حل: جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به.

قال الزمخشري: بعد كلام طويل: فإن قلت: أين نظير قوله: {وأنت حل} في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله عز وجل: {إنك ميت وإنهم ميتون} ، واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحبا: وأنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال. إن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ انتهى. وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية، وبينا حسن موقعها، وهي حال مقارنة، لا مقدرة ولا محكية؛ فليست من الإخبار بالمستقبل. وأما سؤاله والجواب، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال، بل يكون للماضي تارة، وللحال أخرى، وللمستقبل أخرى؛ وهذا من مبادىء علم النحو. وأما قوله: وكفاك دليلاً قاطعاً الخ، فليس بشيء. وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير: المراد بالوالد الذي يولد له، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له. جعلوا ما نافية، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى، كأنه قال: ووالد والذي ما ولد، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.

والظاهر أن لا للنفي، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج، كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل، فما فعل خيراً، أي فلم يقتحم. قال الفرّاء والزجاج: ذكر لا مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد، كقوله تعالى: فلا صدّق ولا صلى {الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَينِ * فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ، وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} ، قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا ولا سلم، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً. وقيل: هو تحضيض بألا، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض، وليس معها الهمزة. وقرأ ابن كثير والنحويان: فك فعلاً ماضياً، رقبة نصب، أو أطعم فعلاً ماضياً؛ وباقي السبعة: فكر مرفوعاً، رقبة مجروراً، وإطعام مصدر منون معطوف على فك. وقرأ عليّ وأبو رجاء كقراءة ابن كثير، إلا أنهما قرآ: ذا مسغبة بالألف. وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً: أو إطعام في يوم ذا بالألف، ونصب ذا على المفعول، أي إنساناً ذا مسغبة، ويتيماً بدل منه أو صفة. وقرأ بعض التابعين: فك رقبة بالإضافة، أو أطعم فعلاً ماضياً. ومن قرأ فك بالرفع، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة. ومن قرأ فعلاً ماضياً، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء فك بدلاً من اقتحم، قاله ابن عطية.

سورة الشمس

ثم كان من الذين آمنوا {الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} : هذا معطوف على قوله: {فلا اقتحم} ؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة، لا للتراخي في الزمان، لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان. سورة الشمس خمس عشرة آية مكية والنهار إذا جلاها: الظاهر أن مفعول جلاها هو الضمير عائد على الشمس. والفاعل بجلاها ضمير النهار. قيل: ويحتمل أن يكون عائداً على الله تعالى، كأنه قال: والنهار إذا جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته. ولما كانت الفواصل ترتبت على ألف وهاء المؤنث، أتى والليل إذا يغشاها {جَلَّهَا * وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَهَا} بالمضارع، لأنه الذي ترتب فيه. ولو أتى بالماضي، كالذي قبله وبعده، كان يكون التركيب إذا غشيها، فتفوت الفاصلة، وهي مقصودة. وما في قوله: {وما بناها، وما طحاها، وما سواها} ، بمعنى الذي، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره الطبري، قالوا: لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم. وقيل: مصدرية، قاله قتادة والمبرد والزجاج، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم. قال الزمخشري: جعلت مصدرية، وليس بالوجه لقوله: {فألهمها} ، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا، انتهى.

أما قوله: وليس بالوجه لقوله: {فألهمها} ، يعني من عود الضمير في {فألهمها} على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو ما المراد به الذي، ولا يلزم ذلك لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى، أي وبناها هو، أي الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً فقلت: عجبت مما ضرب عمراً تقديره: من ضرب عمر؟ وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير، وقوله: وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية، لأنهما لا يوصف بهما، بخلاف الذي، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما، فلا ينفرد به ما دون من، وقوله: وفي كلامهم إلخ. تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية.

وقال الزمخشري: فإن قلت: الأمر في نصب إذا معضل، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين، وفي نحو قولك: مررت أمس بزيد واليوم عمرو؛ وأما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه. قلت: الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً، كما تقول؛ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، انتهى. أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار، أعني أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك. وقوله: فتقع في العطف على عاملين، ليس ما في الآية من العطف على عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك: امرر بزيد قائماً وعمرو جالساً؟ وقد أنشد سيبويه في كتابه:

فليس بمعروف لنا أن نردها صحاحاً ولا مستنكران تعقرا فهذا من عطف مجرور، ومرفوع على مجرور ومرفوع، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك: مررت أمس بزيد واليوم عمرو، وهذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية: مررت بزيد أمس وعمرو اليوم، ونحن نجيز هذا. وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر، بل كلام الخليل يدل على المنع. قال الخليل: في قوله عز وجل: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى} ، الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء، انتهى. وأما قوله: إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول: أقسم أو أحلف والله لزيد قائم. وأما قوله: والواوات العواطف نوائب عن هذه الخ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار.

والذي نقوله: إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام، كقوله: {والنجم إذا هوى} ، {والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر} ، {والقمر إذا تلاها} ، والليل إذا يغشى، وما أشبهها. فإذا ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف، لأنه فعل إنشائي. فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه، أي: وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه معمول لذلك الفعل. فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره: والنجم كائناً إذا هوى، والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً أن يكون منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً. وأيضاً فقد يكون القسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث، كما لا تكون أخباراً. {قد أفلح من زكاها} ، قال الزجاج وغيره: هذا جواب القسم، وحذفت اللام لطول الكلام، والتقدير: لقد أفلح. وقيل: الجواب محذوف تقديره لتبعثن. وقال الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم، أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً. وأما {قد أفلح من زكاها} فكلام تابع لقوله: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، انتهى.

سورة الليل

وأشقاها {بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَهَا} : قدار بن سالف، وقد يراد به الجماعة، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عنى به جمع. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقال: أشقوها، انتهى. فأطلق الإضافة، وكان ينبغي أن يقول: إلى معرفة، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك إلا أن يكون مفرداً مذكراً، كحاله إذا كان بمن. والظاهر أن الضمير في {لهم} عائد على أقرب مذكور وهو {أشقاها} إذا أريد به الجماعة، ويجوز أن يعود على {ثمود} . {رسول} : هو صالح عليه السلام. وقرأ الجمهور: {ناقة الله} بنصب التاء، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله، لأنه قد عطف عليه، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر، كقولك: الأسد الأسد، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك. سورة الليل إحدى وعشرون آية مكية وقرأ الجمهور: تجلى {عُقْبَهَا * وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاٍّنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} فعلاً ماضياً، فاعله ضمير النهار. وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير: تتجلى بتاءين، يعني الشمس. وقرىء: تجلى بضم التاء وسكون الجيم، أي الشمس. {وما خلق} : ما مصدرية أو بمعنى الذي. وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ: وما خلق الذكر، بجر الذكر، وذكرها الزمخشري عن الكسائي، وقد خرجوه على البدل من على تقدير: والذي خلق الله، وقد يخرج على توهم المصدر، أي وخلق الذكر والأنثى، كما قال الشاعر: تطوف العفاة بأبوابهكما طاف بالبيعة الراهب بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر، رأى كطواف الراهب بالبيعة. {وما يغني} : يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية، أي: وأي شيء يغني عنه ماله؟

سورة الضحى

ويتزكى في موضع الحال، فموضعه نصب. وأجاز الزمخشري أن لا يكون له موضع من الإعراب لأنه جعله بدلاً من صلة الذي، وهو {يؤتى} ، قاله: وهو إعراب متكلف، وجاء {تجزى} مبنياً للمفعول لكونه فاصلة، وكان أصله نجزيه إياها أو نجزيها إياه. وقرأ الجمهور: {إلا ابتغاء} بنصب الهمزة، وهو استثناء منقطع لأنه ليس داخلاً في {من نعمة} . وقرأ ابن وثاب: بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع، وهي لغة تميم، وأنشد بالوجهين قول بشر بن أبي حازم: أضحت خلاء قفاراً لا أنيس بهاإلا الجآذر والظلمات تختلف وقال الراجز في الرفع: وبلدة ليس بها أنيسإلا اليعافير وإلا العيس وقرأ ابن أبي عبلة: {إلا ابتغاء} ، مقصوراً. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ابتغاء وجه الله مفعولاً له على المعنى، لأن معنى الكلام لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمه، انتهى. وهذا أخذه من قول الفراء. قال الفراء: ونصب على تأويل ما أعطيك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله. سورة الضحى إحدى عشرة آية مكية واللام في وللآخرة لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، وكذا في {ولسوف} على إضمار مبتدأ، أي ولأنت سوف يعطيك. سورة الشرح ثماني آية مكية من أي يومي من الموت أفرأيوم لم يقدر أم يوم قدر وقال الشاعر: أضرب عنك الهموم طارقهاضربك بالسيف قونس الفرس وقال: قراءة مرذولة. وقال الزمخشري: وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور، وقالوا: لعله بين الحاء، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها، انتهى. ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره، وهي الجزم بلن والنصب بلم عكس المعروف عند الناس. وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما: قد كان سمك الهدى ينهد قائمهحتى أتيح له المختار فانعمدا

سورة التين

في كل ما هم أمضى رأيه قدماًولم يشاور في إقدامه أحدا بنصب يشاور، وهذا محتمل للتخريجين، وهو أحسن مما تقدم. وقرأ الجمهور: فارغب، أمر من رغب ثلاثياً: أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه. وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: فرغت، أمر من رغب بشد الغين. سورة التين ثماني آيات مكية قال الزمخشري: ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب، انتهى. وأحسن صفة لمحذوف، أي في تقويم أحسن. ثم رددناه أسفل سافلين {فَارْغَبْ} ، قال عكرمة والضحاك والنخعي: بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئاً. أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك. وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضاً: {أسفل سافلين} في النار على كفره، ثم استثنى استثناء متصلاً. سورة العلق تسع عشرة آية مكية

وقرأ الجمهور: اقرأ {الْحَكِمِينَ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأٌّكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ الإِنسَنَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى} بهمزة ساكنة؛ والأعشى، عن أبي بكر، عن عاصم: بحذفها، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول: قرأ يقرا، كسعى يسعى. فلما أمر منه قيل: اقر بحذف الألف، كما تقول: اسع، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة، ومفعول اقرأ محذوف، أي اقرأ ما يوحى إليك. وقيل: {باسم ربك} هو المفعول وهو المأمور بقراءته، كما تقول: اقرأ الحمد لله. وقيل: المعنى اقرأ في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. وقال الأخفش: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم الله، كما قالوا في قوله: {وقال اركبوا فيها بسم الله} ، أي على اسم الله. وقيل: المعنى اقرأ القرآن مبتدئاً باسم ربك. وقال الزمخشري: محل باسم ربك النصب على الحال، أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك، قل بسم الله ثم اقرأ، انتهى. وهذا قاله قتادة. المعنى: اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك. وقال أبو عبيدة: الباء صلة، والمعنى اذكر ربك. وقال أيضاً: الاسم صلة، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه.

{أن رآه استغنى} : الفاعل ضمير الإنسان، وضمير المفعول عائد عليه أيضاً، ورأى هنا من رؤية القلب، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول: رأيتني صديقك، وفقد وعدم بخلاف غيرها، فلا يجوز: زيد ضربه، وهما ضميرا زيد. وقرأ الجمهور: {أن رآه} بألف بعد الهمزة، وهي لام الفعل؛ وقيل: بخلاف عنه بحذف الألف، وهي رواية ابن مجاهد عنه، قال: وهو غلط لا يجوز، وينبغي أن لا يغلطه، بل يتطلب له وجهاً، وقد حذفت الألف في نحو من هذا، قال: وصاني العجاج فيما وصني يريد: وصاني، فحذف الألف، وهي لام الفعل، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم: أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما متعلق أرأيت {الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى} ؟ قلت: {الذي ينهى} مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين. فإن قلت: فأين جواب الشرط؟ قلت: هو محذوف تقديره: {إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى} ، {ألم يعلم بأن الله يرى} ، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني. فإن قلت: فكيف صح أن يكون {ألم يعلم} جواباً للشرط؟ قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟ فإن قلت: فما {أرأيت} الثانية وتوسطها بين مفعولي {أرأيت} ؟ قلت: هي زائدة مكررة للتوكيد، انتهى.

وقد تكلمنا على أحكام {أرأيت} بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل. وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد، والموصول هو الآخر، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية، كقوله: {أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلاً وأكدى، أعنده علم الغيب} ، {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً، اطلع الغيب} ، {أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه} ، وهو كثير في القرآن، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون، ويجعل مفعول {أرأيت} الأولى هو الموصول، وجاء بعده {أرأيت} ، وهي تطلب مفعولين، وأرأيت الثانية كذلك؛ فمفعول {أرأيت} الثانية والثالثة محذوف يعود على {الذي ينهى} فيهما، أو على {عبداً} في الثانية، وعلى {الذي ينهى} في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب، فنقول: حذف المفعول الثاني لأرأيت، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه. حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه. وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر. وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع، لأن الجمل لا يصح إضمارها، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع. وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء، فلا أعلم أحداً أجازه، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر.

سورة القدر

وقرأ الجمهور: ناصية، خاطئة {بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة. قال الزمخشري: لأنها وصفت فاستقبلت بفائدة، انتهى. وليس شرطاً في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافاً لمن شرط ذلك من غيرهم، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضاً خلافاً لزاعمه. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي: بنصب الثلاثة على الشتم؛ والكسائي في رواية: برفعها، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة. سورة القدر خمس آيات مكية بإذن ربهم: متعلق بتنزل {من كل أمر} : متعلق بتنزل ومن للسبب، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. {وسلام} : مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي، أي هي سلام إلى أول يومها، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء، وهذا على قول من قال: إن تنزلهم التقدير: الأمور لهم. وقال أبو حاتم: من بمعنى الباء، أي بكل أمر. ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر. كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول، انتهى. سورة البينة ثماني آيات مدنية. وقرأ بعض القراء: والمشركون رفعاً عطفاً على الذين كفروا {أَمْرٍ * سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ * لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} . والجمهور: بالجر عطفاً على {أهل الكتاب} .

سورة الزلزال

ومنفكين اسم فاعل من انفك، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر. وقال بعض النحاة: هي الناقصة، ويقدر منفكين: عارفين أمر محمد، أو نحو هذا، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً، نص على ذلك أصحابنا، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو، وقالوا في قوله: حين ليس مجير، أي في الدنيا، فحذف الخبر أنه ضرورة. وقرأ الجمهور: رسول {الْكِتَبِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} بالرفع بدلاً من {البينة} ، وأبيّ وعبد الله: بالنصب حالاً من البينة. وقرأ الجمهور: {مخلصين} بكسر اللام، والدين منصوب به؛ والحسن: بفتحها، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم. وانتصب {الدين} ، إما على المصدر من {ليعبدوا} ، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين، وإما على إسقاط في، أي في الدين. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع: البرئة بالهمز من برأ، بمعنى خلق. والجمهور: بشد الياء، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سهل بالإبدال وأدغم، واحتمل أن يكون من البراء، وهو التراب. قال ابن عطية: وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مرضي، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا، وهو التراب، فلا يجعله خطأ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ، وغير الهمز من البرا؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو: أو ننساها أو ننسها، فهو اشتقاق مرضي. سورة الزلزال ثماني آيات مدنية فكأن قائلاً قال: متى ذلك؟ فقال: إذا زلزلت الأرض زلزالها {الصَّلِحَتِ} . قيل: والعامل فيها مضمر، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره: تحشرون. وقيل: اذكر. وقال الزمخشري: تحدث، انتهى. ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل.

وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة. وقال أيضاً: ويجوز أن يكون بأن ربك {لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} بدلاً من {أخبارها} ، كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى. وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب. فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام. وكذلك لا يجوز أن تقول: استغفرت من الذنب العظيم، بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت. فلو كان حرف الجر زائداً، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ. ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر. وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل. قال العجاج يصف الأرض: أوحى لها القرار فاستقرتوشدها بالراسيات الثبت فعداها باللام. وقيل: الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال. واللام في لها للسبب. والظاهر انتصاب خيراً وشراً على التمييز، لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل: بدل من مثقال. {يومئذ يصدر الناس} : انتصب يومئذ بيصدر.

سورة العاديات

{ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} وقرأ عكرمة: يراه بالألف فيهما، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاها الأخفش؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر، توهم أن من شرطية لا موصولة، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم، والله تعالى أعلم. سورة العاديات إحدى عشرة آية مدنية وانتصب ضبحاً على إضمار فعل، أي يضبحن ضبحاً؛ أو على أنه في موضع الحال، أي ضابحات؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد، فهو منصوب بالعاديات. وقال الزمخشري: أو بالعاديات كأنه قيل: والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو، انتهى. فأثرن {يَرَهُ * وَالْعَدِيَتِ ضَبْحاً * فَالمُورِيَتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَتِ صُبْحاً} : معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل، لأنه في معنى الفعل، إذ تقديره: فاللاتي عدون فأغرن فأثرن. وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، انتهى. وتقول أصحابنا: هو معطوف على الاسم، لأنه في معنى الفعل. وقال غيره ما معناه: لأنه ليس أصله ذلك التركيب، بل اللام في لحب {لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} لام العلة، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل.

سورة القارعة

{أفلا يعلم} : توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف، أي أفلا يعلم ما آله؟ {إذا بعثر} ، وقال الحوفي: إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم. انتهى، وليس بمتضح لأن المعنى: أفلا يعلم الآن؟ وقرأ الجمهور: بعثر بالعين مبنياً للمفعول. وقرأ عبد الله: بالحاء. وقرأ الأسود بن زيد: بحث. وقرأ نضر بن عاصم: بحثر على بنائه للفاعل. وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان: وحصل مبنياً للفاعل؛ والجمهور: مبنياً للمفعول. وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً: وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد، والمعنى جمع ما في المصحف، أي أظهر محصلاً مجموعاً. وقيل: ميز وكشف ليقع الجزاء عليه. وقرأ الجمهور: {إن بكسر الهمزة، لخبير} باللام: هو استئناف إخبار، والعامل في {بهم} ، وفي {يومئذ لخبير} ، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم. وقرأ أبو السمال والحجاج: بفتح الهمزة وإسقاط اللام. ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام، فإنه قال: يجزيهم إذا بعثر، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل في قراءة الجمهور، وسدت مسد المعمول في إن، وفي خبرها اللام ظاهر، إذ هي في موضع نصب بيعلم. وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره: كما قلنا يجزيهم إذا بعثر. سورة القارعة إحدى عشرة آية مكية وقرأ الجمهور: القارعة ما القارعة {لَّخَبِيرٌ} بالرفع، فما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ، والقارعة خبره، وتقدم تقرير ذلك في {الحاقة ما الحاقة} . وقيل ذلك في قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} . وقال الزجاج: هو تحذير، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، قال الشاعر: أخو النجدة السلاح السلاح

سورة التكاثر

وقرأ عيسى: بالنصب، وتخريجه على أنه منصوب بإضمار فعل، أي اذكروا القارعة، وما زائدة للتوكيد؛ والقارعة تأكيد لفظي للأولى. وقرأ الجمهور: {يوم} بالنصب، وهو ظرف، العامل فيه، قال ابن عطية: القارعة. فإن كان عنى بالقارعة اللفظ الأول، فلا يجوز للفصل بين العامل، وهو في صلة أل، والمعمول بالخبر؛ وكذا لو صار القارعة علماً للقيامة لا يجوز أيضاً، وإن كان عنى اللفظ الثاني أو الثالث، فلا يلتئم معنى الظرف معه. وقال الزمخشري: الظرف نصب بمضمر دل عليه القارعة، أي تقرع يوم يكون الناس. وقال الحوفي: تأتي يوم يكون. وقيل: اذكر يوم. {فأمه هاوية} ، والهاء فيما هيه هاء السكت، وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة، وأثبتها الجمهور: {نار} : خبر مبتدأ محذوف، أي هي نار، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه. سورة التكاثر ثماني آيات مكية وقرأ ابن عامر والكسائي: لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة: بالفتح، وعليّ وابن كثير في رواية، وعاصم في رواية: بفتحها في لترون، وضمها في {لترونها} ، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة: بضمها. وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همز الواوين، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت، وكان القياس أن لا تهمز، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها. لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة، فهمز هذه أولى. سورة العصر لم يتكلم عنها المؤلف أو حدث فيها سقط والله أعلم سورة الهمزة تسع آيات مكية الذي {بِالصَّبْرِ * وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} : بدل، أو نصب على الذم. سورة الفيل خمس آيات مكية

سورة قريش

وقرأ السلمي: ألم تر بسكون، وهو جزم بعد جزم. ونقل عن صاحب اللوامح ترأ بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل، وهي لغة لتيم، وتر معلقة، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به؛ وكيف معمول لفعل. سورة قريش أربع آيات مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، ولا سيما أن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم، وهو قول الأخفش، أو بإضمار فعلنا ذلك لإيلاف قريش، وهو مروي عن الأخفش. قال الزمخشري: فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما في الكلام من معنى الشرط. وعن أبي جعفر وابن عامر: إلا فهم على وزن فعال. وعن أبي جعفر وابن كثير: إلفهم على وزن فعل، وبذلك قرأ عكرمة. وعن أبي جعفر أيضاً: ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفاً على غير قياس. وعن عكرمة: ليألف قريش؛ وعنه أيضاً: لتألف قريش على الأمر، وعنه وعن هلال بن فتيان: بفتح لام الأمر، وأجمعوا هنا على صرف قريش، راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظاً فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية. قال الشاعر: وكفى قريش المعضلات وسادها جعله اسماً للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف. وإلافهم بدل من لإلاف قريش، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به. سورة الماعون سبع آيات مكية والظاهر أن أرأيت {خوْفٍ * أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الذي، والآخر محذوف، فقدره الحوفي: أليس مستحقاً عذاب الله، وقدره الزمخشري: من هو، ويدل على أنها بمعنى أخبرني. قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية. قال الحوفي: ويجوز أن تكون من رؤية البصر، فلا يكون في الكلام حذف.

وقال الزمخشري: بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن فذلك الذي يدع {بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَتِهِمْ} في موضع رفع، قال: وطريقة أخرى أن يكون {فذلك} عطفاً على {الذي يكذب} ، إما عطف ذات على ذات، أو عطف صفة على صفة، ويكون جواب {أرأيت} محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين، أنعم ما يصنع؟ ثم قال: {فويل للمصلين} : أي إذا علم أنه مسيء، {فويل للمصلين} على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم. فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير {الذي يكذب} ، وهو واحد؟ قلت: معناه الجمع، لأن المراد به الجنس، انتهى. فجعل فذلك في موضع نصب عطفاً على المفعول، وهو تركيب غريب، كقولك: أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء، وعلى تقدير النصب يكون التقدير: أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا. فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا. وأما قوله: إما عطف ذات على ذات فلا يصح، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب، فليسا بذاتين، لأن المشار إليه بقوله: {فذلك} هو واحد. وأما قوله: ويكون جواب {أرأيت} محذوفاً، فلا يسمى جواباً، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت. وأما قوله: أنعم ما يصنع، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس، لأنهما إنشاء، والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر. وأما وضعه المصلين موضع الضمير، وأن المصلين جمع، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع،

سورة الكوثر

فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة. وتقدم الكلام في الرياء في سورة البقرة. سورة الكوثر ثلاث آيات مكية وقرأ الجمهور: شانئك بالألف؛ وابن عباس: شينك بغير ألف. فقيل: مقصور من شاني، كما قالوا: برر وبر في بارر وبار. ويجوز أن يكون بناء على فعل، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين. وقد قالوا: حذر أموراً ومزقون عرضي، فلا يستوحش من كونه مضافاً للمفعول، وهو مبتدأ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلاً. سورة الكافرون ست آيات مكية وقال الزمخشري: لا أعبد {الأٌّبْتَرُ * قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَبِدُونَ مَآ} ، أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال. أما حصره في قوله: لأن لا لا تدخل، وفي قوله: ما لا تدخل، فليس بصيح، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم. وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال: وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل. وقال: وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل، فذكر الغالب فيهما. وأما قوله: في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم {تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَبِدُونَ مَآ} : أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً.

سورة النصر

والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً: نفى عبادته في المستقبل، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل، قيل: ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفياً للمستقبل على سبيل المقابلة؛ ثم قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم} نفياً للحال، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال؛ ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليه وسلّملا يعبد ما يعبدون، لا حالاً ولا مستقبلاً، وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر. ولما قال: {لا أعبد ما تعبدون} ، فأطلق ما على الأصنام، قابل الكلام بما في قوله: {ما أعبد} ، وإن كانت يراد بها الله تعالى، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد، وهذا على مذهب من يقول: إن ما لا تقع على آحاد من يعلم. أما من جوّز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل. وقيل: ما مصدرية في قوله: {ما أعبد} . وقيل: فيها جميعها. سورة النصر ثلاث آيات مدنية قال الزمخشري: إذا منصوب بسبح، وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة، انتهى. وكذا قال الحوفي، ولا يصح إعمال {فسيح} في {إذا} لأجل الفاء، لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط، فلا تعمل فيه، بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح المنصور في علم العربية، وقد استدللنا على ذلك في شرح التسهيل وغيره، وإن كان المشهور غيره.

سورة المسد

و {أفواجاً} : جمع فوج. قال الحوفي: وقياس جمعه أفوج، ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدّل إلى أفواج، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح. فكما أن قياس فعل صحيحها أن يجمع على أفعل لا على أفعال، فكذلك هذا؛ والأمر في هذا المعتل بالعكس. القياس فيه أفعال، كحوض وأحواض، وشذ فيه أفعل، كثوب وأثوب، وهو حال. ويدخلون حال أو مفعول ثان إن كان {أرأيت} بمعنى علمت المتعدية لاثنين. وقال الزمخشري: إما على الحال على أن أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت، انتهى. ولا نعلم رأيت جاءت بمعنى عرفت، فنحتاج في ذلك إلى استثبات. سورة المسد خمس آيات مكية والظاهر أن ما في ما أغنى عنه ماله {تَوبَا} نفي. ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع نصب، أي: أيّ شيء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار؟ والمعنى: أين الغني الذي لماله ولكسبه؟ والظاهر أن ما في قوله: وما كسب {وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا} موصولة، وأجيز أن تكون مصدرية. وإذا كانت ما في {ما أغنى} استفهاماً، فيجوز أن تكون ما في {وما كسب} استفهاماً أيضاً، أي: وأي شيء كسب؟ {حمالة} على وزن فعالة للمبالغة مضافاً إلى الحطب مرفوعاً، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة. وارتفع {وامرأته} عطفاً على الضمير المستكن في {سيصلى} ، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته، {وحمالة} في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف، أو صفة لامرأته، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل. وفي قراءة النصب، انتصب على الذم. وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون {وامرأته} مبتدأ. فحمالة معرفة، فإن كان صار لقباً لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان، وأن يكون بدلاً. سورة الإخلاص أربع آيات مكية

قل هو الله أي ربي الله، ويكون مبتدأ وخبراً، وأحد خبر ثان. وقال الزمخشري: وأحد يدل من قوله: {الله} ، أو على هو أحد، انتهى. وإن لم يصح السبب، فهو ضمير الأمر، والشان مبتدأ، والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو. {الله الصمد} : مبتدأ وخبر، والأفصح أن تكون هذه جملاً مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف، كما تقول: زيد العالم زيد الشجاع. وقيل: الصمد صفة، والخبر في الجملة بعده. وقال مكي سيبويه: يختار أن يكون الظرف خبراً إذا قدمه، وقد خطأه المبرد بهذه اية، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبراً، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم، إنما أجاز أن يكون خبراً وأن لا يكون خبراً. ويجوز أن يكون حالاً من النكرة وهي أحد. لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول، انتهى. وخرجه ابن عطية أيضاً على الحال. وقال الزمخشري: فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدماً في أفصح الكلام وأعربه؟ قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه، انتهى.

وهذه الجملة ليست من هذا الباب، وذلك أن قوله: ولم يكن له كفواً أحد {الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ} ليس الجار والمجرور فيه تاماً، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبراً لكان، بل هو متعلق بكفواً وقدم عليه. فالتقدير: ولم يكن أحد كفواً له، أي مكافئه، فهو في معنى المفعول متعلق بكفواً. وتقدم على كفواً للاهتمام به، إذ فيه ضمير الباري تعالى. وتوسط الخبر، وإن كان الأصل التأخر، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك. وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفواً حال من أحد، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبراً، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه. وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبراً، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه: وتقول: ما كان فيها أحد خير منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك: فيها زيد قائم. أجريت الصفة على الاسم، فإن جعلته على: فيها زيد قائم، نصبت فتقول: ما كان فيها أحد خيراً منك، وما كان أحد خيراً منك فيها، إلا أنك إذا أردت الإلغاء، فكلما أخرت الملغى كان أحسن. وإذا أردت أن يكون مستقراً، فكلما قدمته كان أحسن، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير. قال تعالى: {ولم يكن له كفواً أحد} . وقال الشاعر: ما دام فيهن فصيل حياً انتهى. وما نقلناه ملخصاً. وهو بألفاظ سيبويه، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبراً. ومعنى قوله: مستقراً، أي خبراً للمبتدأ ولكان. فإن قلت: فقد مثل بالآية الكريمة. قلت: هذا الذي أوقع مكياً والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام هو في قوله: ما دام فيهن فصيل حياً

سورة الفلق

أجرى فضلة لا خبراً. كما أن له في الآية أجرى فضلة، فجعل الظرف القابل أن يكون خبراً كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبراً، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله: ولم يكن له أحد، بل لو تأخر كفواً وارتفع على الصفة وجعل له خبراً، لم ينعقد منه كلام، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو، وله متعلق به. سورة الفلق خمس آيات مكية وقال ابن عطية: وقرأ عمرو بن عبيد، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر: من شر بالتنوين، ما خلق على النفي، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل، الله خالق كل شيء، ولهذه القراءة وجه غير النفي، فلا ينبغي أن ترد، وهو أن يكون ما خلق {أَحَدٌ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} بدلاً من {شر} على تقدير محذوف، أي من شرّ شر ما خلق، فحذف لدلالة شر الأول عليه، أطلق أولاً ثم عمّ ثانياً. سورة الناس ست آيات مدنية والظاهر أن ملك الناس إله الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} صفتان. وقال الزمخشري: هما عطفا بيان، كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس، ثم زيد بياناً بإله الناس لأنه قد يقال لغيره: رب الناس، كقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} . وقد يقال: ملك الناس، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان، انتهى. وعطف البيان المشهور أنه يكون بالجوامد، وظاهر قوله أنهما عطفا بيان لواحد، ولا أنقل عن النحاة شيئاً في عطف البيان، هل يجوز أن يتكرر لمعطوف عليه واحد أم لا يجوز؟. ويجوز في الذي الجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ومن في من الجنة والناس {الْخَنَّاسِ * الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ} للتبعيض، أي كائناً من الجنة والناس، فهي في موضع الحال أي ذلك الموسوس هو بعض الجنة وبعض الناس. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من متعلقاً بيوسوس، ومعناه ابتداء الغاية.

§1/1