الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 مقدمة في وجوه الإعجاز.

الدرس: 1 مقدمة في وجوه الإعجاز. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (مقدمة في وجوه الإعجاز) ماذا نعني بإعجاز القرآن؟ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ وبعد: فهذه المادة المباركة من المواد التي ينبغي أن يحرص المسلم على تعلمها؛ لأنها تربطه بكتاب ربه -سبحانه وتعالى. وموضوع درسنا هو: "مقدمة في وجوه الإعجاز". فقبل الدخول في تفاصيل المنهج والخوض في جزئياته التي نتناولها بالدراسة، لا بد أن نقف مع مجموعة من الأسئلة، يتبين لنا من خلال الإجابة عنها أهمية المادة التي ندرسها؛ وذلك يحفّز همم الطلاب للاهتمام بها عقلًا وحسًّا لما فيها من ثمار تعود على كل منا بالنفع في أمر دينه ودنياه، وهذه الأسئلة أيها الطلاب الكرام تعد بمثابة التمهيد والمدخل للدراسة: أولًا: ماذا نعني بإعجاز القرآن؟ ثانيًا: ما الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات التي اختص بها الله رسله؟ ثالثًا: ما أوجه الإعجاز في القرآن الكريم؟ رابعًا: كيف تحدى نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- العرب بالقرآن الكريم؟ خامسًا: لماذا ينصب اهتمامنا حول الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؟

وأخيرًا: ما ثمرة دراسة إعجاز القرآن؟ نبدأ بالسؤال الأول وهو: ماذا نعني بإعجاز القرآن؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب منا توضيح المقصود بكلٍّ من الإعجاز والقرآن: فالإعجاز في اللغة: من العجز وعدم القدرة والاستطاعة، فنقول: عجز فلان عن فعل كذا؛ أي عن القيام به، والقدرة على إنفاذه وفعله، ويقال: أعجزني فلان: إذا عجزت طلبه وإدراكه؛ ومن ثم سُميت آيات الرسل معجزات؛ لظهور عجز المرسَل إليهم عن معارضتها بأمثالها. المعجزة في اصطلاح العلماء: أمرٌ خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة. والقرآن: مصدر قرأ على وزن فُعلان بالضم، كالغفران والشكران، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18). ثم صار لفظ القرآن علما شخصيّا على الكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو الأغلب في استخدامه في كتاب الله، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9). وروعي في تسميته كونه مقروءًا أي متلوًّا بالألسن، وحده العلماء بأنه كلام الله تعالى المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- المتعبد بتلاوته؛ كلام الله تعالى يُخرج كلام البشر وكلام غيرهم من المخلوقات، فهو كلام الله -عز وجل- والمنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- يُخرج سائر الكتب التي أنزلت على الرسل من قبله كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم والزبور على داود -عليه السلام- والمتعبد بتلاوته: يُخرج ما لا يتعبد بتلاوته مما هو مقدس ومما هو له قدسيته عند المسلمين؛ كأحاديث النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- والأحاديث القدسية

الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات.

والقراءات التي توسم بأنها قراءات آحاد، لا تصل إلى حد التواتر؛ فلا يتعبد بتلاوتها. وعرّف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- القرآن في (العقيدة الواسطية) بأنه: كلام الله منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، تكلم به حقيقة، وألقاه إلى جبريل، فنزل به على محمد -صلى الله عليه وسلم. فاهتمّ -رحمه الله- في حده بإبطال قول أهل الزيغ والضلال بخلق القرآن. ومن خلال بيان معنى الإعجاز والقرآن، يتضح المقصود بإعجاز القرآن، وهو: إعجازه الناس أن يأتوا بمثله لعدم قدرتهم على ذلك، أو إثبات القرآنِ عجزَ الخلقِ عن الإتيان بما تحداهم به، أو كما قال أبو البقاء في (الكليات): ارتقاؤه في البلاغة إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته. الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات أما السؤال الثاني الذي طرحناه وهو: الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات: فالإجابة عنه نحتاجها لبيان ما اختصّ به الله -سبحانه وتعالى- خير الأنام محمد -صلوات الله وسلامه عليه- دون سائر الرسل والأنبياء، فما من نبي إلا وكان معه آية صدقه ودليل تفضيله على من أُرسل إليهم بالاصطفاء، فالله يصطفي من خلقه ما يشاء {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص: 68). هذا الاصطفاء وهذا الاختيار من الله -سبحانه وتعالى- سُنة سَنها في إرساله الرسل؛ أن يكون معهم ما يثبت أنهم يُخالفون من أرسل إليهم فيأتون أقوامهم بما يَعجزون عنه في وقتٍ يُعلم فيه أن هؤلاء يبرعون فيما عجزوا عنه؛ بمعنى: أن ما من رسول

يرسل إلى قوم إلا بمعجزة من جنس ما برعوا فيه؛ ليثبت لهم أنه يختلف عنهم، وأنه مرسل من قِبَل ربه -سبحانه وتعالى. مثال: عندما ظن السحرة أنهم بلغوا في هذا الفن منتهاه جاء موسى -عليه السلام- ليُبطله بعصاه، وعندما برع بعد ذلك بنو إسرائيل في الطب جاءهم عيسى -عليه السلام- بما يَعجز الأطباء عنه، فما من طبيب يستطيع أن يُحيي الموتى، فجاء عيسى -عليه السلام- بمعجزة إحياء الموتى، وكذلك الأمراض التي لا علاج لها كالعمى والبرص جاءهم عيسى -عليه السلام- ليبرئ الأكمه والأبرص، فكانت هذه المعجزات الحسية دليلًا على صدق نبوتهم عليهم السلام وعلى أنهم مرسلون من قبل الله -سبحانه وتعالى- كذلك معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع العرب، لما ارتقى العرب ذروة الفصاحة والبيان جاءهم القرآن؛ ليعلمهم أن لا قول ولا كلام ولا شيء مما برعوا فيه من فنون الأدب -شعرها ونثرها وسجعها وغيرها من الأرجاز والمسجوع والفنون التي برع فيها العرب أيما براعة- أن كل ذلك لا يضاهي القرآن ولا يشابه القرآن في شيء وأن القرآن نسق يختلف عما يتداولونه في كلامهم وفي آدابهم التي بلغوا فيها القمة ووصلوا إلى أعلى درجاتها. هذا يتفق فيه الرسل. إذًا ما الفرق بين القرآن وبين المعجزات الأخر؟ نقول: إن الفرق بين القرآن وبين المعجزات السابقة يتركز في ثلاث نقاط: الأولى: هي أن معجزة الأنبياء حسية، حسية بمعنى مُشاهدة، يؤمن بها من رآها بعينه، ومن لم يرها قد ينكرها؛ لأنها بالنسبة له خبر إن شاء صدقه وإن شاء رفضه، بمعنى: أنه موسى -عليه السلام- مع قومه شاهدوا أن البحر قد انشق وأنه

جمدت فيه المياه وشكّلت هيئة جبل ومر موسى -عليه السلام- ومن معه ثم عاد البحر كما كان قبل أن يمر موسى -عليه السلام- ومن معه، وكذلك عيسى -عليه السلام- عندما أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، نظروا في هذا المعجزة وعلموها مع وجود عيسى -عليه السلام- وشاهدوها بأعينهم، فهذه المعجزات التي أتى بها الأنبياء حتى معجزة إبراهيم -عليه السلام- عندما حطم الأصنام وعندما جابه أهل الأوثان وبين لهم فساد معتقداتهم وجاءوا به -عليه السلام- ليجعلوه عبرة لمن يتطاول على آلهتهم وسعّروا النيران وجعلوها مؤججة عالية تلتهم أي شيء يقربها حتى أن الطير إذا حام حولها سقط فيها من شدة لهيبها، هذه النيران التي جعلوها ليُلقوا فيها إبراهيم -عليه السلام- على أعين الناس لعلهم يشهدون، هذه النيران سُلبت خاصيتها وهي الإحراق، فدخل إبراهيم -عليه السلام- وجلس هانئًا مطمئنًا لا يشعر بحرها، بل إنها كانت بردًا وسلامًا عليه، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم} (الأنبياء: 69) هذه المعجزات لا يعرفها إلا من شهدها فهو يؤمن بها، أما من جاء بعدهم كانت بالنسبة له أخبار تحكى، وقول يسمعه إن آمن به آمن وإن جحد به كان له أن ينكر ذلك ويدعي أنه لا يصدقه. هذا بالنسبة لمعجزات الأنبياء، أما القرآن على خلاف هذا، القرآن معجزة عقلية باقية خالدة إلى أن تقوم الساعة، القرآن حتى الآن هو معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يُتحدى بها كل من لا يؤمن به، الذي لا يؤمن بالقرآن يقال له: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) يقال له: هذا كتاب الله -عز وجل- أنزله على رسوله صدقًا إلى أن تقوم الساعة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فليس بالمعجزة الحسية وإنما هو معجزة عقلية، هذه هي النقطة الأولى.

النقطة الثانية: أن معجزات الأنبياء -عليهم السلام- من فعل الله -عز وجل- أجراه على أيديهم، وفعل الله -عز وجل- يزول بزوال من أُجري على يديه هذا الفعل؛ يعني بعد رفع عيسى -عليه السلام- إلى السماء وبعد موت موسى -عليه السلام- هذه المعجزات التي كانت تُرى على أيديهم لا تُرى؛ لأنها من فعل الله -عز وجل- أجراه على أيدي النبيين الكريمين، فلما انقضى وقت إرسالهما زالت هذه المعجزة مع عدم وجودهما -عليهما السلام- أما معجزة القرآن هي صفة من صفات الله -عز وجل- والصفة باقية؛ لأنها كلام الله -سبحانه وتعالى- فالصفة باقية ببقاء فاعلها -سبحانه وتعالى. أما النقطة الثالثة: هي أن الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب "التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم" الرسل الكرام الذين أنزلت عليهم الكتب- لم تكن الكتب هي معجزتهم التي أرسلوا بها، وإنما كانت الكتب بالنسبة إليهم منهاجًا يسيرون عليه وشرعًا يحتكمون إليه ويوجهون أتباعهم إليه، فكانت لهم معجزات بخلاف الكتب المنزلة عليهم، ورسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- كانت معجزته هي عين منهجه؛ بمعنى أن القرآن منهج ومعجزة؛ القرآن منهج وضعه الله -سبحانه وتعالى- للأنام ليسيروا عليه وليعلموا شرع ربهم، وكذلك هو معجزة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. هذا لا يعني أننا نقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له معجزات حسية، لا، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- له معجزات حسية مشاهدة كما ثبت في الصحيح من حنين الجذع إليه، ومن قول الشاة له؛ إنها مسمومة، وغير ذلك مما ذكر في الصحاح ومما ثبت من معجزات مشاهَدة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- ولكنها لم تكن هي المعجزة التي أُرسل بها، وإنما كانت ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وكانت لتثبيت أصحابه -رضوان الله عليهم- وتثبيته هو -صلى الله عليه وصحبه وسلم- في

أوجه إعجاز القرآن.

أحلك المواقف التي وضع فيها كفعله -سبحانه وتعالى- برسوله الكريم عندما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ورفعه إلى السموات العلى وجعله يرى من آيات ربه الكبرى؛ كل ذلك من المعجزات، ولكن ذلك ليس هو عين معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- فعين معجزة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- في الكتاب الذي أرسل به للعالمين -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. لذلك نجد الفرق بين القرآن والكتب الأخرى؛ القرآن تكفل الله -سبحانه وتعالى- بحفظه؛ لأنه هو عين معجزة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بخلاف الكتب الأخرى لم يتكفل الله -سبحانه وتعالى- بحفظها، فدخلها التحريف والتبديل والنسيان، أما القرآن تعهد الله به: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وذلك لبقاء المعجزة بمنهجها وحفظ المنهج بالمعجزة. أوجه إعجاز القرآن أما السؤال الثالث الذي نتعرض له فهو كما يقال: بيت القصيد، وغاية المريد؛ بمعنى: أن هذا السؤال هو الذي يستحق أن نقف عنده، لماذا؟ لأنه هو موضوع مادتنا طوال العام إن شاء الله -سبحانه وتعالى. وهو الوقوف على أوجه إعجاز القرآن، أو بيان كيفية إعجازه أهل الفصاحة والبيان وإخراسه كل إنسان: في ذلك المضمار الذي هو بيان أوجه الإعجاز تسابق المتسابقون واجتهد المصنفون، بدليل أن دراستنا حول وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وهو الجانب اللغوي؛ ليتبين لنا لما عجز العرب عن معارضة القرآن والإتيان بمثله، ذلك السؤال الذي تنازعه أهل الأهواء وأهل الحق على السواء؛ فذهب المعتزلة

إلى القول بالصرفة وسيأتي بيانها، وذهب الأشاعرة إلى أن سر الإعجاز ما به من الإخبار عن الغيبيات ولنا مع ذلك وقفة أيضا إن شاء الله، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في معانيه دون ألفاظه، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في نظمه، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في خلوه من التناقض، وفي العصر الحديث عصر العلم والتكنولوجيا كما يحلو لهم أن يطلقوا عليه ظهر الاهتمام بما يسمى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وهناك جهود وجهود حول إبراز أوجه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم، كما فعل الأستاذ رءوف أبو سعدة في كتابه العلم الأعجمي في القرآن مفسرا بالقرآن، ووضع تحت هذا العنوان عبارة "وجه جديد في إعجاز القرآن الكريم". كذلك لا بد لنا قبل أن نبين أوجه الإعجاز أن نفرق بين شيئين: أولًا: بين إعجاز القرآن في ذاته، وبين تحديه: أي نفرق بين كون القرآن في ذاته معجزًا وبين كونه تحدى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العرب، فالقرآن في ذاته كله إعجاز؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فمن ثَم فأسراره لا تنتهي وعلومه لا تنقضي فكما أن منزله -سبحانه وتعالى- كما قال أبي العتاهية: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد فإن كتابه الأسمى وكلامه الأعظم يجوز لنا أن نقول وفي كل حرف له آية تدل على أنه المعجز، فأما إعجازه في تحديه فهو بيان سبب عجز من أنزل عليهم عن الإتيان بمثله أو معارضته وهم أرباب الفصاحة وأهل البلاغة، بلغوا ذراها وخبروا منتهاها ومع

ذلك لم يلجئوا إلا إلى السيف في إخماد دعوة الحق معلنين عجزهم عن الإتيان بمثله أو عشر سور مثله مفتريات أو سورة من مثله كما سنبين إن شاء الله. وما ورد من محاولة بعضهم معارضة القرآن كان عبارة عن سفاهات وافتراءات وكلام، كما قال الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) هو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه، ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام؛ يقصد ما حكي عن مسيلمة الكذاب في ادعائه أنه يستطيع أن يعارض القرآن وفي ادعائه أنه أوحي إليه مثل القرآن، وأن الله -سبحانه وتعالى- جعله نبيّا مشاركًا لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وان الله أنزل عليه مثل ما أنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ هذا القول الذي ورد في الكتب عنه كما قال الباقلاني أخس من أن نشتغل به: يعني يقول: والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس، ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاء وحشا، ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين أعلاكِ في الماء وأسفلكِ في الطين لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض ولقريش مثلها ولكن قريشا قوم يعتدون والمبديات ذرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا. كلام هراء وكلام يعني لا يستحق أن يوقف عنده، ولكنه ذُكر في الكتب لبيان كيف أن هذا الكذاب الضال خدع بعض الناس وتبعه بعض الناس على هذا الهراء الذي يقول؛ لتعلم أيها الابن الكريم كيف عصمك الله -سبحانه وتعالى- وشرّفك بهذا الدين، هذا الاستفسار الذي سأله أبو بكر -رضي الله عنه- وأرضاه عندما جاءه بعض الناس من اليمامة وسألهم عما يقول مسيلمة فأخبروه بمثل هذا الكلام أو نحوه، فقال: سبحان الله هذا الكلام لا يكون عن إل؛ أي لا يخرج عن ربوبية يعني فكيف كنتم تصنعون يعني كيف استطاع أن يخدع بعضكم وأن يسير البعض وراءه وهو يقول هذا الهراء. فمن ثَم كان الاهتمام ببيان إعجاز القرآن في لغته، وكيف جاء بديع النظم عجيب التأليف متناهيًا في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه؛ لأن هذا هو أساس التحدي الذي أعلنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى

أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) وهو تحدّ باق إلى قيام الساعة، هذا التحدي الذي مضى أكثر من أربعة عشر قرنا على إعلانه ولم يبطله جاحد به ولا مكذّب له. وقد تبارى الناس في بيان ذلك على مر العصور ابتداءً بالخطابي والرماني والباقلاني، ومرورًا بعبد القادر الجرجاني وختامًا بالرافعي ودراز والسامرائي وغيرهم كثير من المتخصصين المعاصرين كأبي موسى وبيومي ولاشين وفضلا عن المفسرين كالزمخشري والآلوسي وسيد قطب وابن عاشور، وما ذكرته من أسماء إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر، فكم من متعرض لهذا المجال وكم من أناس تحدثوا عن إعجاز القرآن الذي بهر العقول بما فيه من جمال؛ لأنه تنزيل رب العالمين -سبحانه وتعالى. هذا الوجه من الإعجاز هو الذي جعل القرآن معجزًا من جميع الوجوه؛ نظمًا ومعنىً ولفظًا، لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين أصلًا مميزًا عن خطب الخطباء وشعر الشعراء باثني عشر معنى لو لو يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعاني لكان معجزًا، فكيف إذا اجتمعت جميعًا فيه. هذا كلام الفيروز أبادي عندما عرض لأوجه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، أوجزها بوجود اثني عشر معنى في القرآن الكريم، وبدأ في بيانها والتمثيل لها، فذكر: أولها: إيجاز اللفظ مع تمام المعنى على سبيل الحذف، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82) أي واسأل أهل القرية. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} (البقرة: 177) أي: ولكن البر بر من آمن. أو على سبيل الاختصار كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} (البقرة: 179).

ثانيها: تشبيه الشيء بالشيء كقوله تعالى {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 36) {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} (إبراهيم: 18) وكما قيل الأمثال سرج القرآن. وثالثها: استعارة المعاني البديعة كالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسلخ {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس: 37)، والتعبير عن المضي والقيام بالصدع {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) هذه الآية الكريمة عندما سمعها أعرابي سجدَ، فسألوه عن سبب سجوده قال: سجدت في هذا المقام لفصاحة هذا الكلام. أما رابعها: فهو تلاؤم الكلمات والحروف بما فيه من جمال المقال وكمال الكلام: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} (النمل: 44) {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} (يوسف: 84) {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} (يوسف: 19) تلاؤم الحروف؛ كل ذلك- أذكر كلام الفيروز أبادي مع التمثيل لأنه هو موضوع دراستنا؛ سنقف عند كل شيء من ذلك بالتفصيل إن شاء الله -سبحانه وتعالى- أما في هذا الدرس فهو معرض لما سنتناوله ومدخل لما سندرسه؛ فلذلك أكتفي بذكر المثال دون التعريج بتوضيحه كاملا. أما خامسها: فهو فواصل الآيات ومقاطعها، فصورةٌ فواصلها على حرف كسورة طه {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 1 - 5) تجد أنها تنتهي بحرف الألف، كذلك سورة القمر تنتهي بحرف الراء: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر: 2) إلى آخر الآيات، وهناك صور تنتهي فواصلها على حرفين كصورة الفاتحة بين الميم والنون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 1 - 7)، فبين الميم والنون سورة الفاتحة وكذلك صورة ق تجدها على حرفين أيضا. وأما سادس هذه المعاني: فهو تجانس الألفاظ: وتجانس الألفاظ يكون على سبيل المزاوجة: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142) {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} (الشورى: 40) {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان} (الرحمن: 60)، أو من قبيل المناسبة كقوله تعالى: {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم} (التوبة: 127) {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} (النور: 37) فهذا من التلاؤم والتناسب بين الكلمات. أما سابعها: فهو تصريف القصص والأحوال بألفاظ مختلفة وعبارات متنوعة، لو تأملها الغوّاص لعلم أن ما كرر فيها من ألفاظ إنما جاء للطائف وأسرار. فثامنها: تضمين الحكم والأسرار، فعلى سبيل المثال سورة الفاتحة نصفها الأول يتضمن أحكام الربوبية ونصفها الثاني يقتضي أسباب العبودية، وذلك مثال وكذلك كل ما في القرآن من كلمة؛ إنما هي عبارة عن كنز معان وبحر حقائق، وكما تضمنت آيات القرآن جوامع الأشياء فهناك آية تجمع مكارم الأخلاق كقوله -سبحانه وتعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} (الأعراف: 199)، وهناك آية تجمع حاجات الكائن الحي: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) وهناك آيةٌ تبين كيف يُساس الناس وما هو مقاصد التشريع، وما الذي يريده الله -سبحانه وتعالى- منهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) هذا جانب تعرّض له العلماء، ولنا معه وقفه ان شاء الله -سبحانه وتعالى- في الآيات الجوامع.

أما تاسعها: فهو المبالغة في الأمر والنهي باستخدام الأسماء تارة وباستخدام الأفعال تارة أخرى؛ الأسماء كقوله -سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد}، والأفعال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} (الإسراء: 12) {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} (الإنسان: 16) {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} (الفرقان: 39). أما عاشرها: فهو حسن البيان: حسن البيان لجميع أحكام الشريعة؛ المقاصد والأغراض والمصالح والأسباب، كل ذلك مؤيد بالآيات القرآنية فإذا أردت دليلا للوحدانية تجد قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) وإذا أردت آية ترشد لمصالح الصيانة والعفة تجد قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) ولرعاية مصالح النفوس: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ولبيان أركان الإسلام: {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (النساء: 77) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183) {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97)، ولبيان المعاملات: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: 282)، ذلك كثير في كتاب الله -سبحانه وتعالى- مما يميز حسن البيان في بيان الأحكام الشرعية وأحكام الشريعة التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما الحادي عشر: فهو الإخبار عما كان، وضرب له الفيروزآبادي أمثلة من تخليق العرش والكرسي وحال الحملة والخزنة وكيفية اللوح والقلم ووصف السدرة وطوبى وسير الكواكب ودور الأفلاك ورفع السماء وتمهيد الأرض. وأما الثاني عشر: فهو الإخبار عما يكون، كأخبار الموت والقبر والبعث والنشر والقيامة والحساب والعقاب والعرض والحوض والسؤال ووزن الأعمال والميزان والصراط ... إلى غير ذلك مما جاء به القرآن الكريم وبينه رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

هذا الذي ذكره صاحب (البصائر) أي الفيروزآبادي لا نستطيع الزعم بأنه كل معاني الإعجاز، بل لا نسلم بأنه جلها فكم من أشياء أخر ذكرها المهتمون بهذه القضية، بل لا نستطيع حصر الإعجاز والتحدي في الجانب اللغوي فقط؛ لأن اللغة إطار توضع فيه المعاني، وكم في المعاني من أسرار لا يعلمها إلا مكور الليل على النهار ومن جاد عليهم من عباده الأخيار؛ فذلك علم يمنحه الله -سبحانه وتعالى- هبة وفضلا لمن يشاء. ولك أن تتأمل -أيها الطالب النجيب- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط؛ بل هو آيةٌ بينة معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ ومن جهة النظم ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الميعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} (الإسراء: 89) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27، 28). وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجةٌ على إعجازه، ولا يناقض ذلك، بل كل قوم تنبهوا بما تنبهوا.

كيفية تحدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- للعرب.

ما أجمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله. لذلك قال شيخنا محمد أبو موسى: أما أن وجه إعجازه هو الإخبار بالغيب أم لأمر يرجع إلى لفظه أم لأمر يرجع إلى معناه أو نظمه- فذلك مما وسّع الله فيه على الأمة؛ ولهذا اختلفت فيه مقالتهم واتسعت؛ الأمر فيه سعة كما يقال. وما أجمل ما قاله الرافعي -رحمه الله- في كتابه (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) يقول: وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة وتعاوروه من كل ناحية ولقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا، ثم هو بعد لا يزال عندهم على ذلك خلقًا جديدًا ومرامًا بعيدًا وصعبًا شديدًا، وإنما بلغوا منه إذ بلغوا منه نذرًا تهيأت بضعفه أسبابه، وقليلًا عُرف لقتله حسابه وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار ولابتغاء المعجز الذي حط عنده قدر الإنسان؛ لأنه مما سمحت به الأقدار. وكأنه -رحمه الله- يشير إلى حقائق التنزيل اليقينية: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} (الإسراء: 85) {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (البقرة: 255) فالبحث في هذا المجال واسع واسع واسع. كيفية تحدي نبينا -صلى الله عليه وسلم- للعرب أما السؤال الرابع: وهو كيفية تحدي نبينا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- للعرب يستلزم منا بيان شيئين: الأول: هو ما أكده الله -عز وجل- في حق كتابه ورسوله. الثاني: صور التحدي وتصعيد درجته.

أولًا: نقول: إن الله -سبحانه وتعالى- أكد في كتابه أن كتابه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل رب العالمين، وأنه أُرسل إلى رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأكد الله -سبحانه وتعالى- أن رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، وأكد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتلو قبل بعثته كتابًا ولا يعرف القراءة: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون} (العنكبوت: 48) وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل مثلما قال قبل بعثته: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} (يونس: 16). وأكد أن القرآن ليس بقول شاعر لا بقول كاهن، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس مجنونا {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون} (التكوير: 22) هذا الافتراءات التي ذكرها أهل مكة في محاربة النبي -صلى الله عليه وسلم- فزعموا أنه شاعر وزعموا أنه ساحر وزعموا أنه كاهن وزعموا أنه مجنون؛ كل ذلك أبطله القرآن، ولكن هذا الخطاب لأهل الإيمان، فلما لم يؤمنوا واستمروا على عنادهم كانت النقطة الثانية هي التحدي. صورة التحدي التي واجه بها النبي - صلى الله عليه وآلة وصحبه وسلم - هؤلاء المشركين: لماذا؟ لأنهم كما قال الله -سبحانه وتعالى- {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} (الأنعام: 111)، ولأنهم بلغوا من الوقاحة والتبجح أن ادّعوا ما لا يستطيعون {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين} (الأنفال: 31) من هنا كان التحدي، فأعلنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صريحة: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)؛ ليكون ذلك إعلانًا على عجزهم ونداءً على كذبهم فيما ادعوا، فتمادوا في عنادهم وادعوا أن القرآن كذب وافتراء {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) مع تيقنهم من كذب دعواهم؛ فأنى للأمي صلوات الله وسلامه عليه أن

يكتب؟ وكيف تعلمها؟ ومن أين تعلمها؟ وهو لم يخرج من بين ظهرانيهم، وهم لا علم لهم بهذه الأخبار التي يخبرهم بها -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فكان التحدي الثاني {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود: 13) فإن كانت المسألة كذبًا وافتراءا وأساطير فما عليكم إلا أن تأتوا بمثلها، بل بمثل عشر سور فقط مفتراة كما تدّعون، فإن كنتم نسبتم إليه -صلوات الله وسلامه عليه- الكذب والافتراء وأنتم اللذين لقبتموه بالصادق الأمين فما الذي يحول بينكم وبين الافتراء وأنتم أرباب ذلك؟ افتراء افتراء!! فعليكم أن تفتروا مثلما افترى عشر سور مثله مفتريات، فلما عجزوا أيضا بلغ التحدي ذروته فوصل للدرجة العليا {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23، 24). فلم يعد لهم حجة في الادعاء والإنكار والتكذيب، فليسوا مطالبين بأكثر من سورة ومع ذلك هم عاجزون بل لم ولن، انظر -رحمك الله- إلى التعبير بـ"لم ولن" لم تفعلوا ولن تفعلوا، لم نفي الماضي ولن نفي المستقبل، فهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله، فكانت الحجة القاطعة بعدم الاستطاعة إلى قيام الساعة، فلن نفت المستقبل والخطاب لهم ولمن بعدهم، وكأن الله -عز وجل- يعلمنا هذه العبارة نقولها لكل من سوّلت له نفسه الطعن في القرآن أو تكذيب خير الأنام؛ أن نقول له: فأتوا بسورة من مثله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات.

الدرس: 2 تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات.

لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي في القرآن؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات) لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي في القرآن؟ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد؛ وبعد: انتهينا إلى الحديث عن: لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي؟ لا يشك عاقل أن لغة القرآن تختلف عن لغة البشر، وأن تراكيبها وأسلوبها ونظمها متناهٍ في البلاغة والفصاحة، إلى درجةٍ لا يصل إليها أحدٌ من البشر، ولو كان سيدهم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَي إِلَيَّ} (يونس: 15). فيكفيك دليلًا أن فصاحة سيد الفصحاء وإمام البلغاء لا ترقى لفصاحة القرآن، فما بالكم بمن دونه من البشر وذلك سائر البشر؛ ولذلك كان الاهتمام بالجانب اللغوي في القرآن لإبراز الفروق بين كلام الرحمن وكلام الإنسان، وصنفت في ذلك التصانيف؛ فالباقلاني في (إعجاز القرآن) أسهب في إثبات أن القرآن ليس شعرًا ولا سجعًا، وعرض نماذج لما يفتخر به العرب من شعرهم ونثرهم، ووازن بينه وبين القرآن لبيان الفرق الشاسع بينهما، والجرجاني صنف كتابه (دلائل الإعجاز) للاستدلال بنظرية النظم على تفرد القرآن في ذلك، وابن أبي الإصبع المصري صنف كتابًا سماه (تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن) فيتضح لك من العنوان مراد الرجل أن من تأمل الشعر والنثر بان له إعجاز القرآن في الجانب اللغوي؛ ولذلك أذكر لكم موازنة ذكرها الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن)؛ ليستدل بها على الفروق بين كلام الله وبين كلام العرب، فجعل الفروق في نقاط:

النقطة الأولى: هي أن النظم القرآني خارج عن المعهود من نظم كلامهم، فليس من الشعر ولا من النثر المرسل ولا المسجوع. النقطة الثانية: هي أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة على هذا القدر من الطول، وما نُسب من الفصيح لحكيمهم فكلمات معدودة، ولشاعرهم فقصائد محصورة. النقطة الثالثة: أن نظم القرآن لا يتفاوت على ما يتصرف فيه، والوجوه من قصص ووعظ واحتجاج وحكم وأحكام ووعد ووعيد ووصف وتعليم وأخلاق كريمة وغير ذلك مما حواه القرآن، بينما كلام بلغائهم يختلف بحسب الأغراض؛ فمنهم من يجيد الوصف دون الغزل، ومن يحسن إذا رغب والآخر إذا طرب وغيرهما إذا ركب، فهم ليسوا على درجة سواء من الفصاحة في شتى الأغراض؛ يعني: يقصد ببساطة أن القرآن كله فصيح، وكله على أعلى درجات الفصاحة في شتى أغراضه؛ سواء كانت حكمًا أو مواعظ أو تشريعًا أو قصصًا أو غير ذلك، فكلها على درجة من الفصاحة، وكلها على أعلى درجات الفصاحة، بينما الشعراء والخطباء يجيدون تارة ويخفقون أخرى؛ فلذلك نقول ذلك يحسن إذا طرب؛ يعنى إذا تحدث في الشعر الذي يتعلق بالوصف وغير ذلك، والآخر إذا رغب؛ يعني إذا تحدث في المدح والآخر إذا ركب يعني إذا فاخر أو تحدث في وصف خيله وكذا، فكانوا يحسنون في مجالات دون الأخرى. النقطة الرابعة: أن المعاني التي جاء بها القرآن اتسقت في أسلوب بديع يتعذر على البشر، وهي معاني مبتكرة غير متداولة؛ كالاحتجاج بالدين وبيان الشريعة والرد على الملحدين، فهذه المعاني الجديدة الأصل أن يكون فيها من الصعوبة ما ليس في غيرها من المعاني المتداولة، ومع ذلك كان القرآن يعرض هذه المعاني بنسق بديع لا يستطيع البشر أن ينسقوا على منواله مع المعاني المتداولة وليست المبتكرة التي جاء بها القرآن الكريم.

ثمرة دراسة إعجاز القرآن.

النقطة الخامسة: أنه عليك أن تتأمل موقع الآية القرآنية وسط الكلام، حين يُتمثل بها في تضاعيف الكلام؛ ليظهر لك فضل القرآن على سائر الكلام، فالآية المستشهد بها وسط خطبة مثلًا تجدها هي غرة الخطبة، وهي واسطة عقدها، وتنادي على نفسها بالتميز والاختصاص بالرونق والجمال، ومن ثم نقول: إن وجه الإعجاز الحق هو ما اتسم به القرآن من بلاغة، تحير فيها أهل الفصاحة من العرب وأعيان البلاغة، من بينهم فسلموا ولم يشغلوا أنفسهم بمعارضته لعلمهم بالعجز عن بلوغ مداه، وقوله تعالى حكاية عنهم {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الأنفال: 31) يحمل دليل عجزهم، فلو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم من القدرة على المجيء بمثل القرآن لتجاوزوا الوعد إلى الوفاء بما ادعوا، فلما لم ينجزوا ما وعدوا عُلم عجزهم وقصور باعهم. ثمرة دراسة إعجاز القرآن هذا السؤال المبارك طرحه الدكتور العواجي وأجاب عنه في كتابه، فذكر بعض النقاط قال: أولًا: تقرير الكشف عن إعجاز القرآن وأنه قد تحقق ولا زال يتحقق عبر العصور والأزمان. ثانيًا: إقامة الصلة بين قلب المسلم وكتاب الله -عز وجل، فيزداد الإيمان بإدراك القدرة والأسرار. ثالثًا: تجدد حياة المسلم بتدبر معاني القرآن وإدراك أسرار الإعجاز بشتى أنواعه. رابعًا: إدراك أن المعجزة القرآنية قائمة ما دامت الحياة وما عاشت الأجيال. خامسًا: إدراك صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلزام المعاند بذلك، وهذا صنف فيه شيخ الإسلام -رحمه الله- كتابًا كاملا (الجواب الصحيح). سادسًا: بيان صحة هذا الدين وثبوت كونه من عند الله -سبحانه وتعالى.

مسألة الصرفة.

واما النقطة السابعة التي ذكرها الدكتور العواجي: فهي حصول هداية الخلق وقيام الحجة على الجميع والمعذرة إلى الله -سبحانه وتعالى. ونستطيع أن نضيف إلى ما ذكره شيخنا من هذه النقاط السبعة، نقطة في غاية الأهمية، قد تكون مستنبطة من كلامه وإن لم يصرح بها؛ وهي الوقوف في وجه تيار الإلحاد المنتشر كالهشيم عبر الفضائيات وشبكة المعلومات؛ من الطعن في القرآن وادعاء أن فيه تناقضًا وإشكاليات لغوية؛ فالذي يدرس إعجاز القرآن يستطيع إقامة الحجة بالبرهان على كذب هؤلاء الهالكين؛ إذ لو كان لما قالوا أدنى احتمال ما سكت عنه من تُحدوا به، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- تحدى العرب وهم أهل الفصاحة والبيان، بل وصلوا إلى قمتها عند بعثته -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولم يجدوا مطعنًا في القرآن وأسلوبه وفصاحته، فكيف يأتي هؤلاء الصبيان الذين لا يفرقون بين أنواع الكلام وهم عن الفصاحة بمعزل وكلامهم غث وغثيان- فيذكرون الآن أن في القرآن طعنا وأن في القرآن تناقضًا وأن في القرآن غير ذلك!! تعالى الله -سبحانه وتعالى- وكلامه عما يقولون علوا عظيمًا. مسألة الصرفة وبعد هذه المقدمة ننطلق إلى أولى جزئيات المنهج المطروحة للنقاش وهي "مسألة الصرفة" وهل هي سر إعجاز القرآن؟ الصرفة مسألة من المسائل التي شغلت أهل هذا الفن؛ يعني الذين اهتموا بمسألة إعجاز القرآن، فالصرفة تعد عند المعتزلة هي سر الإعجاز، هذه المسالة مسألة فيها تفاصيل، حتى إ ن الدكتور محمد أبو موسى سماها قصة الصرفة، في كتابه (الإعجاز البلاغي) أفرد فصلا للصرف وسماها قصة الصرفة، قصة الصرفة بمعنى

أن هذه المسالة تحتاج إلى وقفة وإلى بيان، وهو جزاه الله خيرا أفرد لها ما يزيد عن خمس وأربعين صفحة، وبين ما يتعلق بهذه المسالة، وإن كان لنا يعني وقفة مع بعض ما قاله الشيخ حفظه الله، فمسألة الصرفة من المسائل التي اختلفت فيها أقوال أهل العلم، وكان منشأ اختلافهم هو اختلافهم في المقصود بالصرفة، وهل هي من الصرف أم من الانصراف؟ وبعد ذلك اختلفوا هل انصرافهم عن الإتيان بمثله لفظًا ومعنى أم بمثله معنى فحسب؟ أو الإتيان بمثل نظمه الذي جاء على خلاف لغة العرب وكلامهم؟ والذي أراه أن منشأ هذا الخلاف هو أن أول من قال بالصرفة هو أبو إسحاق النظام رأس المعتزلة في عصره، والرجل تراثه بين طلابه؛ أي ليس له مصنف نستطيع من خلاله الوقوف على قوله صراحةً، فالمسألة أثارها تلميذه الجاحظ ونسبها إليه، ودحضها في كتابه (البيان والتبيين) ولعل هذا ما دفع الأكابر كابن تيمية -رحمه الله- إلى الاهتمام ببيان فساد القول دون الاهتمام بقائله، ولكن كون قائله النظّام وهو رأس في البلاغة والفصاحة دفع آخرين لرفض صدور هذا الكلام بهذا الفهم من مثله وهو من هو، وخاصة أن من النصوص المذكورة ما يبرّئ ساحة الرجل من الوقوع في مثل هذا القول الضعيف المردود المتهافت، الذي لا يصدر عمن هو دونه لغةً وفصاحة. وبعد هذه التساؤلات والافتراضات لعلك أيها الطالب قد شُحذت همتك وعلت رغبتك في معرفة تفاصيل هذه القصة، ومن ثم فهناك مصادر أحيلك عليها إذا أردت الاستزادة أو الوقوف على هذه المسألة تفصيلًا؛ فعندك كتاب العلامة أبي موسى (الإعجاز البلاغي) الفصل الثامن، وعندك كتاب (إعجاز القرآن) للباقلاني وعندك الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه

(الجواب الصحيح) والدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) والدكتور محمد رجب بيومي في (الموسوعة القرآنية المتخصصة) تناول هذه المسالة، والدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه (من بلاغ القرآن) كل هؤلاء تعرضوا لهذه المسألة، فإن أردت المزيد من التفاصيل فعليك أن ترجع إلى هذه المراجع. أما إن لم تكن همتك قد ارتقت إلى هذا الحد، وإنما تريد خلاصة القول فانتبه معي -رحمك الله- لهذه النقاط التي تحوي الإجابة الشافية إن شاء الله -سبحانه وتعالى-: أولًا: الصَّرفَة لغةً واصطلاحًا: الصرفة في اللغة: هو الرد والمنع كما ذكر الجرجاني في (التعريفات) ويقال: صرف الله عنك السوء، ومن المجاز صرف عن عمله أي عزل، وهو لفظ قرآني: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين} (يوسف: 24) {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} (آل عمران: 152) ومن هذا المعنى اللغوي انطلقت تفاسير العلماء للصرفة؛ فهي تعني أن العرب لم يكونوا عاجزين عن معارضة القرآن ولا الإتيان بمثله طبْعًا، إلا أن الله صرف همتهم وحبس لسانهم وسلبهم قدرتهم لطفًا بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وفضلًا منه عليه؛ وذلك قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (النساء: 113) هذا ما ذكره الفيروزآبادي في (بصائر ذوي التمييز) وعلق على هذا الكلام بأنه قول مردودٌ غير مرضي. والصرفة: هي أن العربي كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما صرفه الله عن ذلك ضربًا من الصرف أو منعه من الإتيان بمثله ضربًا من المنع، أو قصرت دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه؛ ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ويحصل ما قصده من إيجاد الحجة، أو هو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام

المقتضى التام، أو سلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبًا عامًّا مثل قوله تعالى لزكريا -عليه السلام: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} (مريم: 10)، فإن زكريا -عليه السلام- لم يكن مريضًا ولا به علة تمنعه من الكلام، إلا أن الله -سبحانه وتعالى- جعل عدم كلامه آية وعلامة على البشارة التي بُشر بها -عليه السلام، وهذا الذي ذكره في معنى الصرفة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله. طبعًا هذا القول الذي قيل من أن الله -سبحانه وتعالى- صرفهم عن أن يقولوا مثل القرآن مع إمكانيتهم أن يقولوا مثله- هذا القول باطل فاسد مردود من وجوه عدة: اتفق أهل العلم على رفض هذا القول، وأسهبوا في بيان بطلانه، واحتجوا لذلك بأدلة منها: أولًا: لو كانت المسألة بالصرف والمنع لم يكن هناك داعٍ لأن يكون القرآن على هذا النظام العجيب، وأن يظهر فيه من الفصاحة هذا النصيب العالي، بل يظفر من الفصاحة بأوفى نصيب. ثانيًا: أنهم لو كانوا مصروفين لم يكن من قبلهم من العرب مصروفين؛ لأنهم لم يُتحدوا به، ولم نعثر في تراث العرب على ما يُشابه القرآن. ثالثًا: أنه لو كانت المعارضة ممكنة لولا الصرف لما كان القرآن معجزًا؛ لكون الإعجاز في المنع، ليس في القرآن؛ فإذًا لا يتضمن القرآن في نفسه فضيلة على غيره، ولا أمكن من جاء بعد زمن التحدي معارضته. رابعًا: لو كان الإعجاز بالصرفة لما استعظم العرب بلاغة القرآن وتعجبوا من حسن فصاحته، كما أُثر عن الوليد ابن المغيرة وقصته المشهورة عند سماعه

القرآن، وعندما سئل عن رأيه فيه، فقال: "إن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق، وإنا له لطلاوة وإن عليه لحلاوة"، والقصة المشهورة من غيرهم عندما كانوا يتسللون لسماع القرآن انبهارًا ببلاغته وبجمال قوله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، عندما كان يتلو آيات ربه، فلو كانت المسألة بالصرفة لما استعظم العرب بلاغة القرآن، وتعجبوا من حسنها وفصاحتها. خامسًا: أن العجز يشمل الإنس والجن، والقول بالصرفة يُدخل رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- فيه، وهذا يعني أن النبوة أوجبت أن يُمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- شطرًا من بيانه وفصاحته، وهو أفصح العرب؛ هو بذلك لا يستطيع أن يقول مثل القرآن، وأنه -صلى الله عليه وسلم- عندما تلا عليهم قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (الإسراء: 88) تلا عليهم هذه الآية وتحداهم مع استطاعته أن يأتي بمثل القرآن، لولا أن الله صرفه عن ذلك، إلا أن يقولوا تبجحًا وجهالة: إنه -صلوات الله وسلامه عليه- كان دونهم في الفصاحة. ويرد هذا القول إن قيل -عياذا بالله-: أنه -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، ولا يشك في ذلك عربيٌّ سمع كلامه -صلوات الله وسلامه عليه-؛ بمعنى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، لغته وفصاحته أقل من فصاحة القرآن الكريم، لو كانوا يستطيعون ذلك -العرب لو كانوا يستطيعون أن يعارضوا القرآن- وصرفت عنه قرائحهم، لقالوا للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما لنا قد نقصنا في قرائحنا وقد حدث كلول في أذهاننا، بسبب سحرك الذي سحرته لنا؛ إن آية التحدي تدل على فساد هذا القول؛ فهي نص في عدم استطاعتهم، لا في الحول بينهم وبين فعل ذلك: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} فالله -سبحانه وتعالى- نص على أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، وليست الآية في أنهم حيل بينهم وبين أن يأتوا بمثل القرآن.

وأخيرًا إن لجوءهم إلى السيف في محاربة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى سيادة منطق القوة واضطهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه؛ دليلٌ قاطع على عجزهم عن القول، وإلا فالتحدي واضح، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أثار قرائحهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- سفّه آلهتهم، وعاب أحلامهم، وبيّن سفههم، وواجههم بما لو كانوا يستطيعون أن يردوه لردوا، ولو كانوا يستطيعون أن يقولوا مثل القرآن لقالوا، أما قولهم: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين} فذلك يدل على رغبتهم في الرد، فلما عجزوا لفصاحة القرآن ونظمه على غير مثال كلامهم اكتفوا بالادعاء، وهذه عادة من لا يستطيع أن يفعل شيئًا، فيقول: أستطيع أن أفعل، فيدعي، عندما يعلم عجزه يكتفي بأن يتكلم، فالقول بالصرفة بمعنى أن الله -سبحانه وتعالى- صرفهم عن ذلك هذا قول فاسد، واهتم الباقلاني ببيان فساده واهتم كذلك عبد القادر الجرجاني ببيان فساده، وما قلته هو ملخص ما ذكره الإمامان في هذه المسألة. ثالثًا: ننتقل إلى النقطة الثالثة في الصرفة: وهى فهم آخر للصرفة، ليس بالمعنى الذي ذكرنا، معنى آخر للصرفة، هذا المعنى قبله أهل العلم الثقات ورضوا به، هذا المعنى يتركز في الآتي: بمنتهى البساطة كما يقال أن معنى الصرفة الذي ذكر لا يليق بشخص مثل النظام، هذا النظام يعني يروى أنه بدأ شاعرًا وانتهى متكلمًا، وأنه كان على درجة عالية من الفصاحة والبيان، وأنه في مواقف كثيرة له يذب ويدافع عن فصاحة القرآن وعن بلاغة القرآن، فكيف يخرج من النظام فهم مثل هذا الفهم الذي قيل من أن الله صرفهم عن القرآن قهرًا، وأن الله -سبحانه وتعالى- جعلهم لا يقولون مثل القرآن؛ فلذلك رفض أهل التحقيق مثل الدكتور محمد محمد أبو موسى والدكتور محمد

رجب بيومي رفضا أن يكونا هذا الفهم هو فهم النظام أو هذا القول هو كلام النظام لأسباب؛ منها ألا فصاحة هذا الرجل وأنه على درجة عالية من الفصاحة، فلا يليق منه أن يخرج هذا الكلام، وثانيًا أنه قال هذا الكلام إن قيل على معنى آخر ليس بمعنى أن الله صرفهم قهرًا. كيف فسر هذان العالمان الجليلان القول بالصرفة؟ قال الدكتور محمد رجب بيومي: الصرفة عن المعارضة بمعنى أن العرب حين دُهشوا من روعة القرآن وبهرهم تأثيره بما فوق القدرة؛ انصرفوا تلقائيّا عن معارضته؛ لأنهم علموا أنهم مهما حاولوا هذه المعارضة وجمعوا لها أساطين القول من بلغائهم المعدودين فلن يأتوا بسورة من مثله، فكانت الصرفة عن المعارضة التي توقعوا استحالتها- هي وجه الإعجاز الذي عناه النظام. وشبها المسألة بالمهندس الذي يشيد بناءً رائعًا، وهذا المهندس هو عبقري في عمله فيأتي بزملائه ويقول لهم: اصنعوا بناءً مثل الذي صنعته، فيعترفون بعجزهم عن صناعة مثل هذا اعترافًا منهم بأن هذا البناء لا يستطيعون أن يفعلوا مثله، فهذا معنى الصرفة الذي فهمه والذي ذكره الدكتور محمد رجب بيومي واستحسنه، ويقول: إن هذا المعنى هو الذي يليق بالنظام. أيضًا الدكتور أبو موسى، رأى هذا المعنى واستدل عليه بأشياء منها فصاحة وبلاغة النظّام تُنافيان عدم إدراكه الفرق الفائت بين القرآن وكلام الناس، ومنها

أن النظام ذكر مع الصرفة الإخبار بالغيب، فبذلك يكون القرآن معجزًا بأمرين -لا بالصرفة فحسب- وهذا يؤكد أن النظام يدرك أن نظم القرآن متفرد في معانيه، وأن الصرفة وحدها ليست هي سر الإعجاز، ومنها أنه أراد أن يسد باب الشبهة وأن يحسم الأمر مرة واحدة في وجه أهل الزيغ الذين يثيرون ما ينقد حجة النبوة، ولم يشأ أن يجادلهم في أمر النظم؛ لأنهم لا ذوق لهم وهم أهل عناد، كما قال الله -سبحانه وتعالى- في أسلافهم: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} (الأعراف: 146). واستأنس شيخنا بقول ابن كثير -رحمه الله- عن الصرفة بأنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق، مع أنها غير مُرضية، ونص على أن القول بالصرفة بالفهم المذكور ليس قادحًا في الدين بل هو آية صدق النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. شيخنا أبو موسى استدل بأن الفهم الحسن للصرفة هو فهم الخطابي، وذكر أنه فهم جيد وأنه عرض جيد للصرفة. قال الخطابي: ولو كان الله -عز وجل- بعث نبيّا في زمن النبوات، وجعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه ثم قيل له: ما آيتك؟ فقال: آيتي أن أحرك يدي أو أمد رجلي، ولا يمكن أحد أن يفعل مثل فعلي، والقوم أصحاء الأبدان لا آفة بشيء من جوارحهم، فحرك يده أو مد رجله، فراموا أن يفعلوا مثل فعله، فلم يقدروا عليه- كان ذلك آية دالة على صدقه، وليس يُنظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي ولا إلى فخامة منظره، وإنما تُعتبر صحتها بأن تكون أمرًا خارقًا عن مجال العادات ناقضًا لها. طبعا نعلق على كلام الشيخين تعليقا بسيطًا:

أولًا: قضية الصرفة عمومًا يبطلها أن العرب حاولوا الإتيان بمثل القرآن؛ يعني القائل بالصرفة هذا يلزمه أن يُثبت تاريخيّا أنه لم يحاول أحد أن يعارض القرآن أو أن يقول مثل القرآن؛ لأن الله صرفهم، فلو كان الله -سبحانه وتعالى- صرفهم عن قول القرآن أو عن محاكاة القرآن لما رأينا في الكتب المحاولات التي كانت من مسيلمة في ادعائه قرآنًا وغير ذلك من المحاولات التي وردت عن بعض الملاحدة والزنادقة، وقد أسهب وذكر ذلك شيخنا مصطفى صادق الرافعي في كتابه (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) ذكر قصص والمحاولات التي وردت في معارضة القرآن. فإذًا القول بالصرفة يبطل بشهادة التاريخ، كما يقال: أن الناس حاولوا أن يُعارضوا القرآن ولكنهم لم يصلوا إلى ذلك، فلو كانت المسألة صرفة ابتداءً لما سمعنا أن أحدًا حاول أن يعارض القرآن، فهم حاولوا ولكنهم عجزوا وفشلوا، حتى المحاولات قائمة إلى عصرنا هذا، وما نبأ ما ذُكر عبر الإنترنت وغير ذلك ممن حاولوا أن يبدّلوا ويغيروا في القرآن، وأن يأتوا بأشياء يلبّسون بها على من لا صلة لهم بالقرآن، ممن ينتسبون إلى دين الإسلام، ويلبِسون الحق بالباطل، وهذه المحاولات مستمرة حتى يومنا هذا. ثانيا: ذكر الدكتور أحمد بدوي في كتابه (من بلاغة القرآن) عبارة صريحة، قال: قال النظام: إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك. هذه العبارة واضحة في أن النظام ذكر الصرف بالمعنى المذموم صراحةً، ولكن هذه العبارة لا نستطيع أن نجزم بنسبتها إلى النظّام، حتى إن أستاذنا أستاذ أحمد

بدوي -رحمه الله- لم يذكر مرجعًا لهذه العبارة، وعبارات النظام -كما قلت- ليس هناك كتاب نستطيع أن نأخذ منه عبارة النظام بنصها، فواضح أن هذا هو ما اشتهر عن النظّام، صاغه أستاذنا بهذه العبارة. إن تركيب الكلام في حد ذاته ليس على مقدار فصاحة النظام التي تحدثوا عنها وذكروها، من هنا نأتي إلى النقطة الثالثة: أنه ليست قضيتنا الدفاع عن المعتزلة، وبيان ما يليق بمكانتهم، وأنهم أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل بيان، وأن هذه المسألة قال بها كثير من المعتزلة ممن يُعرفون بإدراكهم لبلاغة القرآن وفصاحته، هذا الكلام ليس قضيتنا، وليس هو مناط حديثنا؛ لأن المعتزلة كم لهم من سقطات في الاعتقادات، بلغت درجة الضلالات، ونسأل الله السلامة والعافية من أهل البدع والأهواء عمومًا. فالقضية ليست دفاعًا عن المعتزلة، وإن هؤلاء مع فصاحتهم ومع بلاغتهم وقعوا في أخطر من القول بالصرفة؛ يعني وقعوا في أشياء أخطر من الصرفة. ورابعًا: خلاصة الصرفة: أن القول بالصرفة بمعنى صرفهم قهرًا عن الإتيان بمثل القرآن- مردود، ولا يُقبل من صاحبه النظام أو غيره. أما القول بها بمعنى أنهم انصرفوا عن معارضته اعترافًا بالعجز عن مضاهاته إدراكًا لتفرده وعلو شأنه وتفرد نظمه- فهذا يُقبل ولا شيء فيه؛ لأنه يندرج تحت الجهود الأخرى التي تعرضت لإعجاز القرآن في نظمه وأسلوبه وتراكيبه، كما سندرس إن شاء الله. فشتان ما بين الصرف والانصراف؛ الصرف: يكون بفعل خارج عنهم، أما الانصراف فيكون بفعل منهم؛ {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم} (التوبة: 127). هذه مسألة الصرفة، قد فرغنا منها، وقلنا فيها ما يكفي إن شاء الله -سبحانه وتعالى.

الإخبار عن الغيبيات.

الإخبار عن الغيبيات والآن ننتقل إلى جزئية أخرى من جزئيات المنهج المقرر وهي جزئية "الإخبار عن الغيبيات": الخلاصة: أن الفرق الكلامية التي تحدثت عن هذه المسألة فرقة المعتزلة وهذه قالت بالصرفة، وناقشنا كلامهم، والفرقة الأخرى هم الأشاعرة؛ الأشاعرة ينسبون الإعجاز في القرآن الكريم على الإخبار عن الغيبيات، أن القرآن اشتمل عن أخبار لا يكون للنبي -صلى الله عليه وسلم- معرفةً بها؛ هذه الأخبار التي أخبر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنباء الغيب، سواء أكان شيئًا حدث أو شيئًا سيحدث فإن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- أخبر عن هذه الأشياء، وهي آية صدقه، وهذا هو الموضوع الذي نقف معه. اهتم علماؤنا ببيان هذه الخاصية، وهي أن القرآن يشتمل على الغيبيات. الإخبار عن الغيبيات قسمها العلماء إلى قسمين: إخبار القرآن عن غيبيات ماضية، وإخبار القرآن عن غيبيات مستقبلة. أولًا: لابد أن نفرق بين إخبار القرآن عن غيب لا يعرفه العرب ولم يشاهدوه أو لم يتطرقوا إليه؛ أذكر هذا الكلام ابتداءً لأن الفيروزآبادي في (بصائر ذوي التمييز) جعل إخبار القرآن عما كان وعما يكون متعلق بالأمور الغيبية؛ يعني الأمور الغيبية التي يُطالب بها أهل الإيمان، من الإيمان بالبعث والحساب والصراط ومن الإيمان بما كان قبل الخلق، وكيف نشأ الخلق، وكيف خلق الله -سبحانه وتعالى- السموات والأرض، فهذه الأشياء تبصرة لأهل الإيمان، أما أهل الجحود أو الذين لا يؤمنون بالقرآن فكان مدار الحديث معهم على الأشياء التي أخبر بها

النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم لهم إدراك بها ويستطيعون أن يجادلوه فيها، وأن يحدثوه في أمرها؛ لذلك كلامنا عن الغيبيات الماضية من أحداث وقعت، والغيبيات المستقبلة من أحداث ستقع. هذا معنى الكلام عن الغيبيات: أولا إخبار القرآن عن الغيبيات الماضية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: من دلالات القرآن على أخبار الأمم السالفة وأحوالهم مع أنبيائهم وصالحيهم قصة أهل الكهف. يقول: والأمر على ما ذكر السلف، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله، فإن مكثهم نيامًا لا يموتون ثلاثمائة سنة آية دالة على قدرة الله ومشيئته؛ أنه يخلق ما يشاء، فليس كما يقوله أهل الإلحاد، وهي آية على معاد الأبدان، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (الكهف: 21). وكان الناس قد يتنازعون في زمانهم: هل تعاد الأرواح دون الأبدان أم الأرواح والأبدان؟ فجعل الله أمرهم آية لمعاد الأبدان. هذا مثال ذكره شيخ الإسلام لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه من الغيبيات الماضية، وتساعد أيضًا قضية الإيمان، ذكر أيضا إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصتهم من غير أن يعلمه بشر، فذلك دليل على نبوته، فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة؛ الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان برسوله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. ومن هذا المبدأ آيات الله -سبحانه وتعالى- في هذه السورة، في حد ذاتها سورة الكهف قصص آخر ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قصة ذي القرنين، وكذلك في سورة يوسف كلها أشياء

تعرّض لها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسئلة سألوا عنها النبي -صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنها -صلوات الله وسلامه عليه- من الأخبار الماضية ومن الغيبيات الماضية، التي يعلمون يقينًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعلمها {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102) وقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ*حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ*لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 109 - 111). هذه القصة التي حُكيت من أولها إلى آخرها على رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- قصة يوسف -عليه السلام- كما ذكرها المولى -سبحانه وتعالى- أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: 3) وكثير في القرآن يسألونك ويسألونك، والقرآن مملوء بالأخبار عن الغيب الماضي الذي لا يعلمه أحد من البشر إلا من جهة الأنبياء، الذين أخبرهم الله بذلك، ليس هو الشيء الذي تزعمه الملاحدة والمتفلسفة؛ فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصّلة، لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي كموسى -عليه السلام- ومحمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- وليس لأحد ممن يدعي المكاشفات لا من الأولياء ولا من غير الأولياء، أن يخبر بشيء من ذلك، فكان الإخبار الذي يخبر به النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- آيةً على صدقه وآية على أنه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لا ينطق عن الهوى، وأنه يخبرهم بما أخبره به الله -سبحانه وتعالى، قصص كثيرة جدًّا في الإخبار، والله -سبحانه وتعالى- وضّحها في القرآن في أكثر من موضع: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102) {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 44) كثير جدّا في القرآن الكريم:

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} (القصص: 44) غير ذلك من الآيات كثيرة كثيرة توضح هذه المسألة، فجعل الإخبار عن الغيب الماضي علامة على إعجاز القرآن. الجزئية الثانية: الإخبار عن الغيبيات المستقبلة، الإخبار عن المستقبل هذا كثير في القرآن الكريم، نبدأ بوقعة كان أهل الشرك وأهل العناد والمعاندة لرسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كانوا يستطيعون من خلال هذه الواقعة ومن خلال هذه الآية أن ينقدوا الإسلام نقدا، وأن يكذبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- كذبًا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لأن ذلك نبأ مستقبل أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم. تتساءل أيها الابن الحبيب: ما هذه الآية أو ما هذا الأمر؟ هو أمر أبي لهب؛ عم النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فأبو لهب هذا كان حيّا يعيش في مكة ويسمع أنه من الهالكين، ويسمع أن امرأته هالكة معه، ومع ذلك لم يفكر أبو لهب ولا زوجه أن يُكذّبوا النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بمعنى: أنهم لو لم يكن ذلك إعجازًا ووحيًا من الله -سبحانه وتعالى- وأن ذلك أمر الله -سبحانه وتعالى- كان يمكن هذا الكافر اللعين أن يقول: آمنت بمحمد، فيكذّب خبر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (المسد: 1 - 3) فكيف يكون أمن وسيكون سيصلى نارًا ذات لهب؟! ولكن هذا اللعين لم يفعل ذلك، ودل ذلك على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن شيء مستقبل وغيب لم يحدث بعد، وهو أنه سيصلى نارًا ذات لهب وأن امرأته كذلك هالكة خاسرة، ومع ذلك لم يكذبا ولم يفعلا ما يناقض كلام النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فكان ذلك إعجازًا.

ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أشياء كثيرة عن الغيبيات المستقبلة، يقول: وفي القرآن من الأخبار المستقبلات شيء كثير، كقوله تعالى: {الم*غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ} (الروم1 - 5). هذه القصة العجيبة قصة فارس والروم ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- متى؟ ذكرها وقت انتصار الفرس، هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستطيع أن يخبر بأن الروم ستنتصر وأن دولة الفرس ستهزم على يد الروم، وأن ذلك سيحدث في بضع سنين، في الأمر الذي كان يعرّض فيه للتكذيب، ولأنه -صلى الله عليه وسلم- يُحارب بشتى صور المحاربة، يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الخبر وهو ليس وحيًا يوحى به إليه من الله -سبحانه وتعالى، لم يكن من العقل أن يحدث ذلك من رجل يدعو الناس لنبذ معتقداتهم ولترك ما هم عليه من الباطل، فكان خبره -صلى الله عليه وسلم- بهذا النصر وبهذا الفرح الذي جمع فرح إعجاز في هذه الآية و {يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} وافق انتصار الروم على الفرس انتصار المسلمين في غزوة بدر على المشركين، فجُمع الفرح {يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} وكذلك خبره -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (النور: 55). هذا الوعد في وقت كانوا تحت طحن المشركين كما يقال وتحت المحاربة الشديدة، وكان وعد الله -سبحانه وتعالى- بالاستخلاف في الأرض وحدث ذلك في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وكان العرب جميعًا تحت لوائه -صلوات الله وسلامه عليه، كذلك المسألة المشهورة في قصة الحديبية والفتح في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح: 28).

نختم الكلام عن الغيبيات المستقبلة بما ذكره شيخ الإسلام لبن تيمية من بعض الدلائل في القرآن، نختم بها حديثنا، آيات قرآنية كلها أخبر بها النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وحدثت في زمنه، وكما أخبر -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولم تكن قد حدثت بعد: من ذلك: قول الله -سبحانه وتعالى- خبرًا عن المسيح: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 55). وكان كما أخبر. قوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فكان كما أخبر، فهم لن يستطيعوا أن يجاروا القرآن أو يعارضوه. وأنزل الله -سبحانه وتعالى- في مكة قوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ*سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر44: 45) فكان كما أخبر وهزم الجمع وولوا الدبر. وقال -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (الفتح: 22) وكان كما أخبر. وأنزل الله -سبحانه وتعالى- {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 14) وكان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (المائدة: 64) إلى أن قال -سبحانه وتعالى-: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} (المائدة: 64) وكان كما أخبر -سبحانه وتعالى.

وقال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 111، 112). كل هذه الآيات الكريمة، والخطاب الذي أخبر به رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كان كما أخبر -صلوات الله وسلامه عليه- في شأن اليهود وفي شان ما كادوه وما فعلوه معه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فكل ذلك دليلٌ على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن غيبيات مستقبلة، كانت لم تقع بعد ووقعت في عهده -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر. ونختم بقصة جميلة كانت لأصحاب الرسول -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- في غزوة الأحزاب: عندما تكالب أساطين الكفر في الجزيرة على رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وتجمعوا من كل فوج واتوا ليقضوا على الإسلام وعلى دعوة خير الأنام، وأحاطوا بالمدينة- كانت بشارة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بأن فتحت له أو ظهرت له كنوز كسرى وقيصر، وكان الصحابة كما يصفون أحوالهم في هذا الحال: لا يأمنون أن يخرجوا إلى الخلاء!! وكان ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بعد ذلك؛ بأن دانت الفرس والروم لدولة الإسلام، ودخل الناس في دين الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك. كل ذلك أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ومصدره القرآن الكريم والآيات الكريمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 أوجه إعجاز القرآن الكريم: حفظ التشريع ودوامه.

الدرس: 3 أوجه إعجاز القرآن الكريم: حفظ التشريع ودوامه.

نظم القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (أوجه إعجاز القرآن الكريم: حفظ التشري ع ودوامه) نظم القرآن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ وبعد: كنا قد انتهينا من الحديث عن الصرفة والغيبيات باعتبارهما من وجوه إعجاز القرآن الكريم التي تناولها من تناول قضية الإعجاز، وبينا فيها الكلام في النقطتين. واليوم إن شاء الله -سبحانه وتعالى- نشرع في تفاصيل الكلام فيما ذكروه من أوجه إعجاز القرآن الكريم، وعندنا عنوان عام وهو "التشريع؛ دوامه وحفظه" أي هذا التشريع الرباني الذي شرعه الله لعباده في كتابه الأعظم القرآن الكريم يمتاز بميزتين عظيمتين: الأولى: هي أنه دائم بمعنى أن دوام هذا التشريع طيلة الدهور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هو في حد ذاته آية من آيات إعجاز هذا الكتاب الكريم. والثانية: حفظ هذا التشريع، الذي هو حفظ كتاب الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فإن الله -سبحانه وتعالى- تكفّل بحفظ كتابه، والله -سبحانه وتعالى- كذلك كتب لكتابه الدوام، وهذا الذي جعل العلماء يفكّرون فيما يخصّ هذا الكتاب العزيز من أشياء أدت إلى هاتين الخاصيتين العظيمتين؛ خاصية الدوام وخاصية الحفظ. من هنا كان الانطلاق في موضوعنا اليوم، فيا ترى هل يرجع ذلك إلى نظم القرآن أم إلى قدسيته أم إلى إعجازه اللغوي أم إعجازه العلمي أم الإعجاز العددي الموجود في ثناياه أم التصوير الذي هو سمةٌ تكاد تكون أصلًا في عبارات القرآن وألفاظه، وتكاد تكون هي الأساس الذي يُبنى عليه التعبير في كثير من النصوص، إذا ما نحينا جانب التشريع، فكل ذلك طُرح ونوقش في هذه المسألة. ونتناول الآن نقطةً نقطةً من هذه النقاط، ونقتصر على ثلاث مما ذكرت نقتصر في كلامنا على نظمه وعلى قدسيته وعلى إعجازه اللغوي.

نبدأ بالنقطة الأولى وهي نظمه: لا شك أن النظم هو سر الإعجاز في القرآن الكريم، لماذا؟ لأننا لو نظرنا فيما قيل قبل ذلك من أن المسألة هي مسألة صرفة أو وجود غيبيات أو إعجاز علمي أو غير ذلك من الأوجه التي نوهنا عليها في الدرس الأول نجد أن هذه الوجوه ال إ عجازية لا نستطيع أن نتحصل عليها إلا في القرآن جملة؛ بمعنى أن القرآن في جملته يحوي الغيبيات ويحوي الإعجاز العلمي ويحوي الإعجاز البلاغي ويحوي الإعجاز العددي، وغير ذلك من أوجه الإعجاز؛ كل ذلك لا يتأتى لنا إلا من خلال الكتاب ككل، من خلال القرآن الكريم جملة، أما مسألة النظم هذه يتأملها أو يستطيع أن يستكشفها من ينظر في أدنى سورة من سور القرآن في أقصر سورة من سور القرآن الكريم- يستطيع أن يتبين روعة هذا النظم، وهذا السبك الذي يدل على أن هذا الكلام ليس من قول البشر وإنما هو كلام رب البشر سبحانه وتعالى. عمومًا قضية النظم لها درس مستقل سنتعرض له فيما بعد إن شاء الله -سبحانه وتعالى، ونكتفي الآن ببيان معنى النظم بإيجاز، وذكر أقوال بعض العلماء في هذه الخاصية. فالنظم بإيجاز: هو توخي معاني النحو، بمعنى: أن الناس يتعاملون مع اللغة، واللغة فيها تقديم وتأخير، وفيها ذكر وحذف، وفيها بيان الأوجه مثال: أن أريد أن أستخدم الحال فهل أستخدم الحال جملة أم مفردا أم شبه جملة، وإذا استخدمته جملة هل آتي بجملة فعلية أم جملة اسمية، وإذا استخدمته شبه جملة فأيهما أولى الظرف أم الجار والمجرور، هذا في الاستخدام أيهما أول أقدم أم أؤخر؟ يعني أقدم الخبر على المبتدأ أم أقدم المبتدأ على أصله في التقديم؟ أقدم

المفعول على الفاعل أم أؤخر المفعول على أصله في الترتيب؟ كل هذه القضايا هي التي تظهر فلي كلامنا، فالذي يتحدث بلغة العرب والذي يكتب على لغة العرب لابد أن يتوخى هذه المعاني عند كتابته، وبالتفاوت في هذه المعاني يتفاوت الكاتب ويتفاوت من يتكلم بلغة العرب. ننظر مثال فيما ذكره الرافعي -رحمه الله- في كتابه (إعجاز القرآن) يقول: الكلام يتركب من ثلاثة: حروف وهي من الأصوات وكلمات هي من الحروف وجمل هي من الكلم، وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها؛ بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به؛ أي أن القرآن معجزٌ في حروفه في كلماته في جمله، فبالتالي هو معجز في نظمه ككل، فيقول: إن نظم القرآن يقتضي كل ما فيه منها اقتضاءً طبيعيّا؛ بحيث يبنى هو عليها لأنها في أصل تركيبه ولا تبنى هي عليه، فليست فيها استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا شيء، من مثل هذا يصح في الجواز أو فيما يسعه الإمكان أن يصلح غيره في موضعه إذا تبدلته منه، فضلا عن أن يفي به وفضلا عن أن يربى عليه أي يزيد عليه، ولو أدرت اللغة كلها على هذا الموضع، فكأن البلاغة فيه إنما هي وجهٌ من نظم حروفه، بخلاف ما أنت واجد من كلام البلغاء، فإن بلاغته إنما تصنع لموضعها وتبنى عليه، فربما وفت وربما أخلفت، ولو هي رفعت من نظم الكلام ثم نزل غيرها في مكانها لرأيت النظم نفسه غير مختلف، بل لكان عسى أن يصح ويجود في مواضع كثيرة من كلامهم. بمعنى: يقول الشيخ -رحمه الله: أن القرآن نظمه يتميز بهذه الميزة العظيمة؛ أنك لا تستطيع أن تضع حرفا مكان حرف أو كلمة مكان كلمة أو تغير من ترتيب الكلام بتقديم أو تأخير وغير ذلك، بعكس كلام البشر وكلام العرب؛ فإنك

تستطيع أن تبدل في الأشعار وأن تضع كلمات موزونة تفي بالوزن العروضي وتفي بالمعنى المراد، وتستطيع كذلك في كلام الخطباء أن تأتي بكلمة مكان كلمة، وربما يأتي النقاد ويقولون لو قال الشاعر كذا مكان كذا لكان أولى والحديث المشهور والقصة المشهورة بين الخنساء وحسان بن ثابت -رضي الله عنهما- في بيته المشهور: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا تسيل من نجدة دما فهذا البيت سنتعرض له في قضية النظم تفصيلا، أما هذه المسألة في إجمالها في مسألة النظم؛ أي الحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه؛ لأنه يمسك الكلمة التي هو فيها، ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة، هذا هو السر في إعجاز جملته إعجازا أبديّا، فهو أمر فوق الطبيعة الإنسانية. هذا المعنى الذي ذكره شيخنا الرافعي -رحمه الله- أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية قبله فقال -وليس شيخ الإسلام هو من تكلم عن قضية النظم في أولها وإنما الكتاب المشهور (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني وهو قائم على نظرية النظم وسيتضح ذلك بعد ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى. يقول الإمام ابن تيمية نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ولم يأتي أحد بنظير هذا الأسلوب فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الرسائل ولا الخطابة، ولا نظمه ن ظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة، ليس له نظير في كلام جميع الخلق، وبسط هذا تفصيله طويل يعني يعرفه من له نظر وتدبر. فأتى الإمام وأشار هنا إلى قضية النظم جملة بأنها ليست على طريقة كلام العرب، فأتى بمعنى جديد يعني غير ما ذكره الإمام شيخنا الرافعي، أتي بمعنى جديد

في هذه المسألة أيضا المعنى سبق أن ذكره الباقلاني في (إعجازه القرآن) وهو أن القرآن جاء على نظم ليس على صورة ما تحدث به العرب وما ألفه العرب في كلامهم. فنرجع لقضية النظم بإعطاء نموذج يوضح هذه المسألة، لماذا يا بني؟ لأنك تعرف أن الغرض من مادتك هذه أن تتذوق القرآن الكريم، وهذا هدف أسمى من أهداف تدريس المادة؛ أن تنظر في كتاب الله وترى ما فيه من إعجاز، هذا يساعدك على تذوق كلام ربك -سبحانه وتعالى- وعلى التقرب منه -عز وجل. هذا النموذج التطبيقي نراه في أية من آيات الله، هذه الآية لها قصة وشأن عند أهل البلاغة؛ يعني يروى أن بعض من حاول من الملاحدة معارضة القرآن واجتهد في أن يكتب مثل القرآن وأخفى ذلك وجعله سرّا حتى لا يفتضح أمره ويعرف أنه زنديق فيقتل أو يؤذى بهذا، فكتم الأمر وحاول أن يعارض القرآن إلى أن جاء إلى هذه الآية الكريمة في سورة هود فانصدع، كما يقال: إنه لم يستطع أن يقاوم فسلّم واعترف أنه لا يستطيع أن يعارض القرآن، ورواية أخرى: أنه أصيب بانفجار مرارته ومات كمدًا؛ لأنه لا يستطيع أن يكتب مثل هذا النظم ومثل هذا القول الكريم، هذه الآية هي قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44). فإنك إذا أخذت كل كلمة على حدتها من غير نظر إلى ما قامت به من أداء حظها المقسوم لها في معنى الجملة كلها- فقد لا تجد لها من التأثير ما تجده لها وهي بين أخواتها تؤدي معناها، وهنا يحق لنا أن نسأل عن فضل الكلمة في موضعها، ونتبين جمال اختيارها، وندرك ما لها من الميزة على صاحبتها، وإذا سلكنا هذا

المسلك في الآية الكريمة رأينا الآية تصور ما حدث بعد الطوفان من ابتلاع الأرض ماءها ونقاء السماء بعد أن كانت تغطَّى بسحبها واستواء السفينة على الجودي الجبل المعروف، وقد طهرت الأرض من رجس المشركين، فصوّر الله ذلك تصويرًا حسيًّا يؤكد في نفسك استجابة هذه الطبيعة العظيمة وخضوعها لأمر الله، فهذا المطر المدرار ينهمر من السماء، وهذا الماء الطاغي يجتاح نواحي الأرض، وهذا الاضطراب في أرجاء الكون لم يلبث أن سكن واستقر وعادت الطبيعة إلى هدوئها عندما تلقت أمر الله لها أن تسكن وتهدأ، ولكن لما كان هذا الأمر قد صدر إلى الكون من غير أن يسمعه من في الكون أو يروا قائله بُني الفعل للمجهول كما ترى، وأوثر في نداء الأرض "يا" دون الهمزة. يبدأ هنا الشيخ دكتور أحمد بدوي في ذكره تحليل الآية في كتابه (من بلاغة القرآن) يبدأ معنا -أبنائي الكرام- أن يبين سر الإعجاز في نظم الآية باختيار شيء دون غيره، بمعنى قال الله -سبحانه وتعالى-: "وقيل" لم يقل وقلت أو وقال، إنما قال "قيل" قيل بصيغة البناء للمجهول، وقال الله -سبحانه وتعالى-: "يا أرض" ولم يقل أأرض بنداء بالهمزة مثلا أو أيا أرض بالنداء بـ أيا من غيرها من أدوات النداء، فاستخدمت "يا" بمعنى، يبدأ الشيخ في توضيح قيمة استعمال أداة بدلا من سواها، فقول الله -سبحانه وتعالى-: "قيل" صيغة البناء للمجهول واستخدام حرف النداء يا، يدعو بدلًَا من الهمزة؛ لأن اجتماع الهمزة في همزة النداء مع همزة كلمة أرض يؤدي إلى ثقل على اللسان في النطق فيهما، فيقال أأرض يكون فيها نوع من الثقل!! وفضلت كذلك على أيا لما في هذه من زيادة تنبيه ليست الأرض، وهي رهن أمر الله في حاجة إليه، وأوثر تنكير الأرض لما في ذلك من تصغير أمرها؛ يعني لم يقل يا أيتها الأرض، فقال الله -سبحانه وتعالى-: "يا أرض" فإن أمرها صغير وإن أمرها واضح في أنها رهن أمر الله -سبحانه وتعالى، فالمقام هنا يستدعي ذلك التصغير ويستدعي الإسراع بتلبية الأمر، وذلك لا يكون مع التعريف المقتضي

لإطالة الكلام بأيتها، وجاءت كلمة "ابلعي" هنا مصوّرة لما يراد أن تصنعه الأرض بمائها وهو أن تبتلعه في سرعة، فهي هنا أفضل من امتصي مثلا؛ لأنها لا تدل على الإسراع في التشرب، وفي إضافة الماء إليها ما يُوحي بأنها جديرة بأن تمتص ماءً هو ماؤها. انظر رحمك الله: ابلعي ماءكِ، ابلعي ماءكِ!! وإضافة الماء إلى الكاف -كاف الخطاب- توضح أنها تبلع شيئًا هو لها، فيكون ذلك أسرع ويكون ذلك أبين للمراد، فكأنها لم تتكلف شيئًا من الأمر، وقل مثل ذلك في قوله تعالى: "ويا سماء أقلعي" ولاحظ هذا التنافس الموسيقي بين ابلعي وأقلعي، وبُني غيض للمجهول مصورا بذلك إحساس من شاهدوا هذا المنظر الطبيعي، فهم قد رأوا الماء يغيض والأمر يتم، وكأنما قد حدث ذلك من تلقاء نفسه من غير أن يكون ثمة فاعل قد فعل، واختيرت كلمة "استوت" دون رست -مثلا- لما في كلمة استوى من الدلالة على الثبات والاستقرار وبني الفعل قيل للمجهول إشارة إلى أن هذا القول قد صدر ممن لا يعد كثرة؛ يعني كأنما قال هذا القول أكثر من مصدر، حتى لكأن أرجاء الكون تردد هذا الدعاء؛ بعدا للقوم الظالمين، فجاءت كلمة بعدا دون هلاكا، مثلا إشارة إلى أن هلاك هؤلاء القوم الظالمين إنما قصد به إبعادهم عن الفساد في الأرض والسخرية بمن آمن وعمل صالحًا، وأوثر المجيء بالموصوف هنا لأنه لا يراد الدعاء على الظالمين لاتصافهم بالظلم، وإنما يراد الدعاء على هؤلاء القوم بالبعد لاتصافهم بالظلم، فالمقام هنا مقام حديث عن قوم ظلموا أنفسهم فاستحقوا لذلك أن يُتخلص منهم. فانظر رحمك الله إلى النسق القرآني البديع في هذه الآية، وتوضيح مراد الله -عز وجل- في تصوير هذه السورة الرائعة بهذه الألفاظ التي لا نستطيع أن نأتي بكلمة مكان كلمة أو

قدسية القرآن.

نقدم أو نؤخر في صياغة الآية الكريمة، وذلك لنا معه شأن -إن شاء الله- عند إفراد الحديث عن النظم وما به من جمال وآيات عظيمة في كتاب الله -سبحانه وتعالى. قدسية القرآن ننتقل إلى النقطة الثانية وهي نقطة "قدسيته": أي القرآن كتاب مقدس القرآن منزل من عند الله -سبحانه وتعالى- وكما قلنا تكفل الله بحفظه، فكان من أوجه قداسته وطهارته وتنزيهه أنه خلا من التناقض ولم تتطرق إليه يد التحريف ولم يعتريه عُرى النسيان، فإنما هو بكامل قداسته وطهارته وتنزيهه منزّل من الله -سبحانه وتعالى، وهذا الأمر له مصدرٌ لا بد أن نقف معه، وهو أن مصدر الوحي هو الله -سبحانه وتعالى، وهذا مدار حديثنا عن هذه النقطة وهي نقطة قدسية القرآن الكريم، فهو من الله -سبحانه وتعالى، لم يقله بشر ولا ملك، وأدلة ذلك فيه؛ بمعنى أن المتأمل للقرآن الكريم والناظر فيه يتبين له يقينا أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من عند محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وأن هذا الكلام له قدسية ومنزّل من إله قادر قاهر، يملك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وسائر البشر -سبحانه وتعالى- بل يملك كل شيء له ملك السماوات والأرض وما فيهن، جل في علاه. انظر معي -رحمك الله- إلى هذا الكلام البديع الذي تناوله الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) يتحدث فيه عن هذه المسألة -مسألة قدسية القرآن ومصدره وأنه وحي من الله سبحانه وتعالى- يقدم الشيخ بحقيقة نسلم بها جميعًا يقول: لقد علم الناس أجمعون علما لا يخالطه شك أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي ولد بمكة في القرن السادس الميلادي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد؛ لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها ولا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض، هذا أمر مسلّم به وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان دوره مع القرآن الكريم يتركز في أربع نقاط:

الأولى: الوعي والحفظ؛ أن يعيه ويحفظه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. الثانية: الحكاية والتبليغ؛ أن يحكيه وأن يبلغه بالناس. الثالثة: البيان والتفسير؛ أن يبينه -صلى الله عليه وسلم- ويفسر معناه لمن يتلوه عليهم. والرابعة: التطبيق والتنفيذ؛ هذا دور النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القرآن. أما ابتكار المعاني وصياغة المباني فما هو منها بسبيل وليس له من أمرهما شيء -صلوات الله وسلامه عليه، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4)، {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} (الأعراف: 203)، {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15). القرآن صريحٌ في أنه لا صنعة فيه لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزّل من عند الله بلفظه ومعناه. بعد ذلك يتناول الشيخ افتراضًا وهو أنه يُخاطب من لا يؤمن بهذا الكتاب، ومن لا يؤمن بهذا الكتاب لا بد أن يُقارع وأن تقام عليه الحجة بالدليل، فاجتهد الشيخ -رحمه الله- في ذكر بعض الأدلة من القرآن؛ طبعًا هذه الأدلة التي يذكرها هؤلاء العلماء مستمدة من الأولين وليست ابتكارًا، وهذا شأن أن العالم يستفيد ممن سبقه، ولكن يمكنه أن يعرض الشيء عرضًا مميزًا، كما كان شأن الشيخ دراز في كتابه (النبأ العظيم) الذي قيل عنه: إنه هدية من السماء إلى الأرض في عصرنا هذا؛ من روعة أسلوبه -رحمه الله- في الكتاب يقول يستدل الشيخ على من يعاند في هذه المسألة بأربعة أشياء:

الأولى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفّزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم؛ بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالًا ومجالًا، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآنًا يقرأه على الناس، فأول دليل أن الكلام ليس من عند النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، هذه النوازل التي كانت تنزل بالنبي ولا يجد فيها قرآنًا يقرأه على أصحابه وهو في أشد الحاجة إلى أن يتحدث في هذا الأمر، فلو كان الأمر من عنده -صلى الله عليه وسلم- لكان من السهل أن يتحدث وأن يُخرج نفسه من هذه النازلة أو هذا المأزق الذي نزل به وبأصحابه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ مثال ذلك: الحادثة المشهورة "حادثة الإفك" فقد اتهم اتهمت عائشة -رضي الله عنها- في عرضها، وهذا شيء يمس النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهذا أمر خطير تحدث فيه الناس، ومع ذلك كان انتظار الوحي من الله -سبحانه وتعالى- ليحكم وليقضي في هذه المسألة، وكانت العبارة الشهيرة في الحديث: ((يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنتي ألممتِ بذنب فاستغفري الله)) هذا كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل الوحي تبريء عائشة -رضي الله عنها- وأرضاها وعن أبيها، الصديقة بنت الصديق. النقطة الثانية: يقول الشيخ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجيئه القول في القرآن في بعض الأوقات على غير ما يحبه ويهواه، فيخطّئه في الرأي يراه؛ أي الوحي يخطئ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرى من رأي، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبَّس فيه يسيرًا تلقّاه القرآن بالتعنيف الشديد والعتاب القاسي والنقض المُرّ، حتى في أقل الأشياء خطرًا، وهذه مسألة يستدل بها لكل من ينظر في كتاب الله -سبحانه وتعالى- هناك آيات في كتاب الله هي عتابٌ للنبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فلو كان الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- لتغاضى عن هذه الأشياء ولم يذكرها، حتى لا تبقى بعده تبين هذه المواقف، وهذا دليلٌ على

قدسية هذا الوحي وعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك إلا أن يبلّغ ما قاله الله -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} (التحريم: 1) {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113) {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 67) {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 68) {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 5 - 10). كثير من الآيات في كتاب الله -عز وجل- تحمل هذا المعنى الجميل من العتاب الرقيق لخير الخلق محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهذا وجهٌ يدل على قدسية هذا الكتاب وأنه منزّل من عند رب الأرض والسماء -سبحانه وتعالى، وذكر الشيخ قصة جميلة في هذا المجال؛ وهو ما حدث مع عبد الله بن أبي كبير المنافقين عليه سحائب اللعائن عندما مات وكفّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثوبه وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر -رضي الله عنه: "أتصلي عليه وقد نهاك ربك" فقال -صلى الله عليه وسلم: ((إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم} (التوبة: 80) وسأزيده على السبعين))، وصلى عليه فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهَِ} (التوبة: 84)، فترك -صلى الله عليه وسلم- الصلاة عليهم. كل ذلك دليل على النقطة الثانية؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتيه الأمر من ربه -سبحانه وتعالى. النقطة الثالثة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجيئه الأمر أحيانًا بالقول المجمل أو الأمر المشكِل الذي لا يستبينه هو ولا أصحابه تأويله، حتى ينزّل الله عليهم بيانه بعد؛ بمعنى

أنه كان ينزّل الأمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- مجملًا أي غير واضح في الدلالة القطعية على أمرٍ ما، فربما يتحير النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في المراد بهذا القول الكريم، حتى يفسّره الله -سبحانه وتعالى- له ويبينه له -سبحانه وتعالى. من ذلك القصة المشهورة في خواتيم سورة البقرة، وما كان من شأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 284) نزلت هذه الآية الكريمة على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان لها من الشأن الذي يشغلهم والذي يجعلهم يحتارون في هذه المسألة؛ يُحاسبون على ما يخفون في أنفسهم!! فهذا لا يطيقه أحد، هم يحاسبون على ما يفعلون أو ما يظهر من أمرهم أما أن ذلك ينزل بحساب الخواطر وبحساب حركات القلب وبحساب ما يريد الإنسان فعله ولم يفعله؛ فهذا أمر عظيم استعظمه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه في هذا الأمر وفي أن هذه الآية صعبة عليهم، فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن قال: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم "سمعنا وعصينا" بل قولوا: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 286). فنزلت الآيات بردًا وسلامًا على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فيها التعليم وفيها البشارة وفيها الإخبار لهم بأن يتضرعوا إلى ربهم بهذه الدعوات المباركات، ويلجئوا به إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فذلك دليل واضح على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره؛ لأنه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن يتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع

الإعجاز اللغوي.

قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان وذلك واضح أيضا في قوله تعالى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يوضح للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما أنزل من آيات. النقطة الرابعة والأخيرة: هي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلًا فيحرك به لسانه وشفتيه طالبًا لحفظه وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفًا من عادته في تحضير كلامه لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان شديد الحرص على المتابعة الحرفية حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16) وقوله -سبحانه وتعالى- {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) فهل هذا توجيه لأحد كتب الكلام من تلقاء نفسه وقاله من ذاته؟ لا والله، فكل ذلك دليل قاطع على أن القرآن كتاب مقدس من عند الله وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. الإعجاز اللغوي النقطة الثالثة التي نحن معها ونختم بها -إن شاء الله- هي نقطة الإعجاز اللغوي: وكما يقال نعود إلى ما ابتدأنا به وما سنستمر عليه -إن شاء الله- فهذه النقطة هي مادتنا وهي منهجنا طيلة عامنا الدراسي، وهي الإعجاز اللغوي، بالطبع لن نذكر في هذا المقام إلا أن نبين أن الإعجاز اللغوي هو الذي دار حوله الكلام في القرآن الكريم، ونحاول أن نبين في عجالة المراد بالإعجاز اللغوي وما قيل في إعجاز القرآن من الناحية اللغوية، وما تُعرض له في هذا المجال بإجمال؛ لأننا سنفصل بعد ذلك وجوه الإعجاز اللغوي، فأشير فقط إلى أن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم منه لفظ الإعجاز على إطلاقه؛ معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه.

فإذا ما نظرنا إلى إعجازه اللغوي جاز لنا أن نكرر ما قاله الرافعي -رحمه الله-: أن العرب قامت فيهم دولة الكلام، ولكنها بقيت بلا مَلك حتى جاءهم القرآن، فملك القرآن سر الفصاحة، وجاءهم منها بما لا قبل لهم برده ولا حيلة لهم معه، فكانوا يفرون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ إذ يرونه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية. هذا مجمل قضية الإعجاز اللغوي؛ أنت العرب أقروا أن هذا الكلام لا طاقة لهم به ولا يستطيعون أن يضاهوه أو أن يحاكوه. هذه المسألة نناقشها بكلام علمي، سمة البحث العلمي هو تناول المسألة بهذا الجانب؛ بمعنى أننا نعرض كلامًا في هذه المسألة، هذا الذي يشكك في أن القرآن معجز في لغته، وفي أن القرآن تكوّن من كلام العرب وأساليب العرب، وهو كما يقولون يقال؛ أي أن القرآن لم يخرج عن سنن العرب في كلامهم؛ يعني الشيخ أثار المسألة بهذا الوجه، يقول يأتي قائل ويقول إني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية؛ فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفقت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها؟ حتى نقول إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية!! هذه هي الشبهة التي يثيرها من لا إيمان له، يأتي ويقول هذا الكلام، أي جديد في لغة القرآن ليس في كلام العرب كي نقول أن القرآن معجزة لغوية؟ يجيب الشيخ ويقول: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا؛ فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في

الإعجاز وأوضح في قطع الأعذار، هذا كلام الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} (فصلت: 44) فهم لو جاءهم الكتاب على غير لغة العرب لكان ذلك أدعى للبس عليهم ولقالوا: لا نفهمه ولا نعرفه!! إنما القرآن جاء على لغتهم ليكون أدعى في الإعجاز كيف ذلك؟ اللغة فيها العام والخاص، يقول الشيخ: وذلك أن اللغة فيها العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوة والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيها النفي والإثبات وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف وفيها الابتداء والعطف وفيها التعريف والتنكير وفيها التقديم والتأخير، ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملةً، بل هم في شعابها يتفرقون وعند حدودها يلتقون. بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يَجمُل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا وفي سمعهم نغمة واحدة، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر، ورب كلمة تراها في موضع ما كالخرزة الضائعة، ثم تراها بعينها في موضع آخر كالدرة اللامعة، فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق؛ أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد. إذًا الجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها وأمسها رحمًا بالمعنى المراد،

وأجمعها للشوارد وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته ناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين، لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولا، وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان. هذا ما يتميز به القرآن الكريم؛ أنه في لغته عمومًا بهذه الصورة التي هي فوق طاقة البشر ويستدل الشيخ بشيء جميل على هذه المسألة؛ أننا لا نستطيع أن نقدر قيمة القرآن كما قدره هؤلاء الذين آمنوا به وهؤلاء الذين لم يؤمنوا به وكفروا به وجحدوا، فيقول الشيخ: أنت أحد اثنين؛ إما أنك تعرف لغة العرب معرفة وثيقة وتستطيع أن تحكم، وإما أنك جاهل بلغة العرب وأسرار كلامهم، فلا تستطيع أن تحكم؛ فإن كنت جاهلًا بلغة العرب يكفيك شهادة العربي الفصيح، فإن قلت: أقبل شهادة من عربي يؤمن بالقرآن نأتيك بشهادة من كفر بالقرآن: هذا مثال ذكره الشيخ بقصة الوليد بن المغيرة، هذا الوليد!! ماذا يقول الوليد؟ عندما أتاه أبو جهل وعرض عليه أن يطعن في القرآن بعدما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الوليد لأبي جهل: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر؛ لا برجزه ولا بقصيدِه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا!! ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة!! وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله!! وإنه ليعلو ولا يُعلى!! وإنه ليحطم ما تحته!!

هذه شهادة الوليد بن المغيرة -الذي لم يؤمن بالقرآن- في القرآن كلغة وكمعجزة لغوية. أما إن كنت الرجل الثاني؛ بمعنى أنك تعرف لغة العرب، فيقول الشيخ: أما إن كنت قد أُوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والميز بين أساليبه، فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها وحِكمها وأمثالها ورسائلها ومحاورتها متتبعًا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحةً من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟ أسلوب عجب، ومنهج في الحديث فذٌّ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء وضع مرتجل، لا ترى سابقًا جاء بمثاله ولا لاحقًا طَبع على غراره، فلو أن آيةً منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء لدلت على مكانها، واستمازت من بينها كما يستميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام. كلام جميل من شيخنا دراز يوضّح به الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، ونحمد الله -سبحانه وتعالى- ونصلي على رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 الإعجاز العلمي، والعددي، والتصوير في القرآن الكريم.

الدرس: 4 الإعجاز العلمي، والعددي، والتصوير في القرآن الكريم.

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (الإعجاز العلمي، والعددي، والتصوير في القرآن الكريم) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: فإن الإعجاز العلمي أمر شغل الناس كثيرًا، وظهر في عصرنا هذا بصورة واضحة وكثر الكلام فيه، فكان لا بد لنا في مادتنا مع أنها تمس الجانب اللغوي أن نقف مع هذه النقطة، ونوضح ما فيها من أشياء عسى أن ينفعنا الله -سبحانه وتعالى- بما نقول ونسمع. ويتركز حديثنا حول الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في النقاط التالية: أولًا: ما المقصود بالإعجاز العلمي؟ المقصود بالإعجاز العلمي هو إخبار القرآن بحقيقة كونية أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم، مما يُظهر صدقه فيما بلّغ عن رب العزة -سبحانه وتعالى-. ثانيًا: ما الفرق بني الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؟ البعض يخلط في هذه المسألة، فيتحدث عن التفسير العلمي بأنه إعجاز علمي، أو يذكر أوجه الإعجاز العلمي على أنها تفسير علمي للقرآن الكريم، فما الفرق بينهما؟ الفرق هو أن الإعجاز العلمي الذي يُقصد به سبق القرآن الكريم إلى الإخبار بحقيقة كونية قبل أن يكتشفها العلم التجريبي، هذا المقصود بالإعجاز، أما التفسير العلمي للقرآن فيُراد به الكشف عن معانٍ جديدة للآية القرآنية في ضوء ما

ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية، دون إسراف في التأويل، ذلك عندما تدرس في مادة التفسير ومناهج التفسير تجد إسهابًا في الحديث عن هذه المسألة وهي مسألة التفسير العلمي للقرآن الكريم، هذه المسألة انتشر اجتهاد المجتهدين فيها، وكلام الناس فيها، ولكنها لها حدود لا بد أن نقف عندها. ومنها ننتقل إلى نقطتنا الثالثة في هذا الموضوع: وهي ما الضوابط التي نلجأ إليها عند حديثنا عن الإعجاز العلمي؟ أو ما الأشياء التي نحتكم إليها في البحث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؟ هل كل أحدٍ يقول ما يقول وما يحلو له أن يقوله يذكره ويقول: هذا إعجاز علمي؟ لا نستطيع ابتداءً أن نسلم بهذا الكلام، وما أوتي النقد من أعداء الإسلام إلا من تسرع بعض الناس في إثبات أو في الحديث عن نظريات علمية كانت في محل التجريب، ولم تثبت ثبوتًا قطعيًّا، فأرادوا أن يفسروها على آيات من القرآن، وجاءوا بآيات من القرآن قالوا: إنها تفسر هذا المعنى التجريبي أو العلمي الذي توصل إليه، وبعد ذلك يثبت خطأ هذه النظرية، فيرمي هؤلاء الملاحدة على القرآن الكريم بأنه تحدث عن حقيقة تغيرت أو عن مسألة علمية تغير وضعها. لا والله، الخطأ لم يكن قطعًا في كتاب الله -عز وجل، حاشا لله، وإنما الخطأ من هذا الذي تسرع وحمل الآية على هذا المعنى، لذلك كان لا بد لنا في حديثنا عن الإعجاز العلمي أن نضع ضوابط البحث في الإعجاز العلمي، فهذه قضية شائكة تقابلها رافض وتقابلها متحمس، فالبعض يتحمس لها والبعض يرفضها، وكما قال شيخ الإسلام: "كلا طرفي قصد الأمور ذميم". من هنا نتحدث عن الضوابط:

أول هذه الضوابط: أن توقن بأن علم الله هو العلم الشامل المحيط الذي لا يعتريه خطأ ولا يشوبه نقص، وأن علم الإنسان محدود يقبل الازدياد ومعرّض للخطأ، ومن ثم فإنه لا يوجد تعارض بين نصوص الوحي القاطعة التي تصف الكون وأسراره على كثرتها، وبين الحقائق العلمية المكتشفة على وفرتها، هذا ما أسهب فيه شيخ الإسلام في كتابه (درء تعارض العقل والنقل). الضابط الثاني: هو أنك تقر أن الحقيقة العلمية التي يعرف رجال العلم معناها وحدودها لا تبطل مع الزمن، ولكنها قد تزداد مع جهود العلماء المتتابعة تفصيلًا أو وضوحًا وجلاءً؛ أي تظهر باجتهاد العلماء وببحثهم فيها، ويكفينا أن القرآن يكون قد أشار إلى هذه الحقيقة العلمية في ذاتها. الضابط الثالث: أن الذي يتعرض للحديث عن الإعجاز العلمي لا بد أن يتقيّد بما تدل عليه اللغة العربية، فلا بد أن يُراعي معاني المفردات، وفقه استعمالها وأن يراعي القواعد النحوية ودلالاتها، وأن يراعي القواعد البلاغية والبيانية ودلالاتها، لا بد لمن يتعرض للحديث عن الإعجاز العلمي أن يكون ملمًّا بلغة العرب، وأن يكون عارفًا بطريقة العرب في أساليبهم وكلامهم. الضابط الرابع: هو أن يبتعد عن التأويل، التأويل الذي يحمل التعسف والذي يحمل -كما يُقال- لوي النص، يُقال أنه يرغم النص على معنى يريده أو على حقيقة ثبتت عنده، أو يريد أن يحمل كلام الله عليها عنوة كما يُقال. الضابط الخامس: ألا تُجعل حقائق القرآن موضع نظر، يعني أن لا يجعل الباحث في الإعجاز العلمي أنه يريد أن يبحث في الحقيقة القرآنية، وينظر من خلالها: هل هي أثبتت ذلك أم لم تثبته.

أما الضابط السادس: أنه يجب على المجتهدين من العلماء أن يكونوا ملمين من علوم القرآن بالقدر الكافي، وأن يكون لديهم استعداد شخصي يعززه رجوعهم إلى أمهات كتب التفسير، فهذا أقل مقتضيات التحري وعدم التورط في الكلام في كتاب الله بغير علم؛ أن يكون عارفًا بأحكام القرآن وبكلام القرآن وبطرق التفسير كما أوجز ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في عبارتين: أنه يكون عارفًا بكلام أهل التفسير، وأنه يكون عارفًا بلغة العرب. أما الضابط السابع: فإنه يجب على المجتهدين من الباحثين أن يكونوا على معرفة تامة بالظاهرة العلمية قيد البحث، وتاريخ المصطلحات الفنية المتعلقة بها. هذه ضوابط وضعها العلماء للكلام في الإعجاز العلمي. النقطة الرابعة التي نتناولها: هي أوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: هذه نقطة واسعة، الناظر في القرآن يجد آيات كثيرة بها إعجاز علمي، بالمعنى الذي ذكرناه في بداية التعريف، حقيقة علمية أثبتها العلم التجريبي، ما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام أن يتعرفوا عليها في زمانهم، هذا المعنى بهذا المصطلح نجده في آيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى. أوجه الإعجاز العلمي في القرآن شملت أشياء كثيرة، في السماء في الأرض في الجبال في البحار وفي النبات وفي عالم الحيوان وفي عالم الحشرات، وفي عالم الطيور وفي الآفاق وفي الأنفس، بل في القضايا العلمية المعاصرة؛ قضايا الاستنساخ والتلوث البيئي واحتمالات الحياة على كواكب أخرى، كل ذلك تعرّض له القرآن الكريم، وهناك آيات أسهمت في هذا المجال ووضحته، وكان ذلك آيةَ إعجاز في كتاب الله -سبحانه وتعالى- في هذه المسألة.

مثال: لو ذكرنا في آيات السماء، نجد قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (الحج: 65) أليس ذلك هو ما يسميه العلماء باتزان الأجرام السماوية، وأن الأرض موضوع شقها تجد قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْع} (الطارق: 12) وأن الجبال عمقها داخل الأرض وهي عوامل الثبات لهذا الكون ولهذه الأرض التي نسير عليها تجد قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادً} (النبأ 6، 7). وفي البحار: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النور: 40). وفي النبات: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 99). وفي عالم الحيوان: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38). وفي عالم الحشرات يكفيك ما جاء في شأن النحل وحياتها: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل 68، 69). والطيور: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} (النحل: 79).

والآيات في الكون وتكوير الأرض، هذه المسألة التي تعرض لها شيخ الإسلام -رحمه الله- ابن تيمية، والتي أثبت العلماء أن شيخ الإسلام كان من السابقين في بيان الكلام عن الإعجاز العلمي، وهذا الكلام الجميل الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي إجابته على من كانوا يجادلون في أمر الدين: أن القرآن به آيات كونية، وأسهب في الحديث عن مسألة تكوير الأرض، وأن الأرض كروية، ودليل ذلك في كتاب الله -سبحانه وتعالى، وذكر الآيات: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 37 - 40). هذا المعنى الجميل الذي تراه في قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ} ومعروف ما تحمله كلمة فلك من معنى استدارة، والتي يُعرف هذا المعنى منها، أن الأرض كروية كما نص على ذلك العلم الحديث بدلالة القرآن الكريم. ومن اللطائف قول من تنبه إلى أن قوله تعالى "كل في فلك" يُقرأ من يمينه كما يُقرأ من يساره فإذا رأيت هذا الحركة في تكوين الكلمات تجدها تدور حول بعضها بالحركة الكروية، ولكن هذه اللطائف كما يُقال تُشم ولا تؤكل، فهي لطائف بعض المستبصرين، ولكنها لا يؤخذ منها علم في التأويل ولا التفسير. هذا ما يتعلق بالإعجاز العلمي، وبقي أن أشير إلى أن الجهود في هذا المجال كثيرة في عصرنا هذا وهناك كثير من المصنفات والمؤلفات التي تحدثت عن الإعجاز العلمي، وكلّ في تخصصه، عندنا (من دلائل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية) للدكتور موسى الخطيب، (دورة حياة الإنسان بين العلم والقرآن)

الإعجاز العددي في القرآن الكريم.

للدكتور كريم حسنين، (الخلق بين العنكبوتية الداروينية والحقيقة القرآنية) أيضًا للدكتور كريم حسنين، وغير ذلك من المصنفات التي كُتبت؛ كلٌّ يعرف علمًا ينظر في كتاب الله ويتوصل لهذه الحقيقة وهي وجود الإعجاز العلمي في كتاب الله، فضلًا عما ذكره العلماء السابقون في هذا المجال من مسائل واضحة في القرآن؛ من خلق الجنين وتكوينه، وكذلك من الكون وما فيه مصداق قول الله -سبحانه وتعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} (فصلت: 53)، هذا والله أعلم يكفينا في حديثنا عن الإعجاز العلمي. الإعجاز العددي في القرآن الكريم النقطة الثانية هي: الإعجاز العددي: العرب أمة لا تعرف الكتابة وأيضًا لا تعرف الحساب، بمعنى: أنها في هذين المجالين ضعيفة في مجال الحساب والأعداد وفي مجال القراءة والكتابة؛ لأنها أمة أمية، فنجد أن القرآن تناول في ثناياه ما سُمي بالإعجاز العددي في الحديث عن الأعداد وحساباتها، ومعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف هذه القواعد من قواعد الحساب التي ذكرها القرآن وتحدث فيها المولى سبحانه وتعالى. وهذه المسألة لا نريد أن نطيل فيها الكلام؛ لأنها تُعد أيضًا لطيفة من اللطائف التي تنبه إليها بعض العلماء في أن القرآن الأرقام فيه هي طبق الأرقام التي وُجدت في أسفار وفي كتب السابقين، ويُستشهد على ذلك بقصة نوح -عليه السلام- في القرآن في قول الله -سبحانه وتعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (العنكبوت: 14)، ففي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة، وكذلك في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، هذا ما هو موجود في كتب أهل الكتاب، فإذا ما نظرنا في القرآن الكريم

مسألة التصوير.

نجد قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعً} (الكهف: 25)، وهذه السنون التسع هي الفرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية، قال ذلك الزجاج -رحمه الله- فيعني بتكميل الكسر يعني هذه الفروق تسع سنوات تفصل بين السنوات الشمسية والسنوات القمرية التي يعرفها العرب في حساباتهم، فانظر رحمك الله إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فهذا ما يتعلق بالإعجاز العددي، وما عدا ذلك مما ذُكر فهي اجتهادات كما تنبه إليها الفيروزآبادي في (لطائف ذوي التمييز) في استخدام الأعداد أربعة وأربعين وسبع وسبعين وهذه الأشياء مما يتعلق بما سموه أو بما أطلق عليه الإعجاز العددي. مسألة التصوير والآن ننتقل إلى النقطة الرئيسة في درسنا وهي "مسألة التصوير": هذه مسألة عظيمة تستحق أن نقف عندها، وهي جديرة بأن تكون موضع درس بمفردها، وهي مسألة التصوير في القرآن الكريم، أصل هذه المسألة يتعلق بما تحدث فيه البلاغيون في قضية "الحقيقة والمجاز". اللفظ في كلام العرب وفي لغة العرب إما أن يُحمل على حقيقته أو أن يُحمل على المجاز، يتعلق هذا الأمر ابتداءً بقضية الحقيقة والمجاز، فاللفظ يُحمل على الحقيقة ويُحمل على المجاز؛ فالمجاز هو خلاف الحقيقة، بمعنى: أننا لو قلنا: رأيت رجلًا فهذه حقيقة، ولو قلنا: رأيت أسدًا فهذا مجاز، لأنني لا أريد به الأسد المعروف لدى الناس، ولكنني أريد به أن أصف رجلًا بصفات الأسد من الشجاعة وغيرها، كما يُقال عن الطيارين مثلًا بأنهم نسور الجو، وهذه العبارات التي تُستخدم في كلامنا.

وباب الحقيقة والمجاز باب واسع في كتاب الله -سبحانه وتعالى، والكلام فيه تطرق إليه العلماء ما بين مثبت وما بين معارض، ولكن هذه المسألة لا نريد أيضًا أن نخوض في تفاصيل الحديث عن مسألة الحقيقة والمجاز، ولكننا ننتقل منها لمسألة هي من أروع المسائل التي تتعلق بهذا الباب وهو موضوع "التصوير في القرآن الكريم". التصوير يأتي من كلمة صورة، أي أن عبارات القرآن ترسم لك -أيها السامع- صورة تراها بعينك وتسمعها بأذنك وتشاهدها أمامك كأنها تتحرك وكأنك ترى أحداثها، التصوير بهذا المعنى ذكر أهل العلم المحدثين الذين اهتموا بهذه المسائل أنه لم يكن معروفًا بهذه الصورة عند قدماء الدارسين أو عند البلاغيين القدامى في دراستهم لكتاب الله -سبحانه وتعالى، وبيان ما في كتاب الله عز وجل، إلى أن أتى في العصر الحديث أستاذ سيد قطب، وكتب كتابه (التصوير الفني في القرآن)، في هذا الكتاب أسهب -رحمه الله- في بيان هذه المسألة والاستدلال لها وذكر شواهدها، وهذا من المتعة التي سنتناولها -إن شاء الله- بشيء من التفصيل في هذا المجال، وقبل أن نتحدث عن كلام الأستاذ سيد قطب وما طرحه في هذه المسألة نذكر جهود القدامى -رحمهم الله- في بيان مسألة التصوير: التصوير عند القدماء ينحصر فيما يُسمى بالصورة البيانية، علم البيان فرع من فروع علوم البلاغة الثلاثة فهي تشمل ثلاثة فروع كما تعرف -أيها الابن الكريم-؛ تشمل المعاني وتشمل البيان وتشمل البديع. فعلم البيان الذي يشمل التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية، هذا العلم به يُنسب إليه ما يُطلق عليه التصوير في كتب القدامى، التصوير أي الصورة البيانية في

القرآن الكريم، التي تظهر جلية في باب الاستعارة، وحتى إن بعضهم يُسمي بهذا التسمية، يقول: التصوير عن طريق الاستعارة، فدراسة الأقدمين لهذه المسألة كانت قاصرة على توضيح نوع الاستعارة وبيان إجراء استعارة والحديث عما فيها من وجه بلاغي، هذا المعنى هو الذي نجده في كتب السابقين وفي بيان ما يُسمى بالتصوير أو بالصورة في القرآن الكريم. وهذا الاقتصار هو السمة الغالبة في مصنفاتهم، حتى إن الدكتور أحمد بدوي مثلًا يقول: ولم أرَ إلى ما ندُر من وقوف بعضهم يتأمل بعض هذه اللمحات الفنية المؤثّرة، وليس مثل هذه الدراسة بمجدٍ في تذوق الجمال وإدراك أسراره، يقول: إنه لم يرَ من المصنفين السابقين إلا النادر أو القليل الذي كان يهتم بإبراز مظاهر التصوير أو الجمال الفني في التصوير في القرآن الكريم؛ لأنه به يظهر أسرار القرآن في جماله في الصور التي تجعل القارئ يحسّ بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصوّر المنظر للعين وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوي ملموسًا محسّنًا، وبدأ يذكر بعض الصور التي ذكرها القدامى في هذا المجال؛ فمنها قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعً} (الكهف: 99)، فكلمة يموج لا تقف عند حد استعارتها لمعنى الاضطراب، بل إنها تصور للخيال هذا الجمع الحاشد من الناس احتشادًا لا تدرك العين مداه، حتى صار هذا الحشد الزاخر كبحر، وترى العين منه ما تراه في البحر الزاخر من حركة وتموّج واضطراب، ولا تأتي كلمة "يموج" إلا موحية بهذا المعنى ودالة عليه. هذه صورة من الصور التي ذُكرت عند الأقدمين في الاستعارة لكلمة يموج، وما توحي به من ازدياد الحشد وكثرة العدد في هذا المنظر، الذي تراه بعينك، وكذلك عند حديثهم عن قوله -سبحانه وتعالى-: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4)، فإن كلمة

"اشتعل" لا تقف عند معنى انتشر وحسب، ولكنها تحمل معنى دبيب الشيب في الرأس في بطء وثبات، كما تدب النار في الفحم مبطئة، ولكن في دأب واستمرار، حتى إذا تمكنت من الوقود اشتعلت في قوة لا تبقي ولا تذر، كما يحرق الشيب ما يجاوره من شعر الشباب، حتى لا يظهر شيئًا إلا التهمه وأتى عليه، ويقول: وفي إسناد الاشتعال إلى الرأس ما يوحي بها الشمول الذي التهم كل شيء في الرأس. وبدأ -رحمه الله- يذكر أمثلةً على ما تنبه إليه القدامى في هذه المسألة من باب الاستعارة التي تحمل صورة بيانية لمن يسمعها ولمن ينظر فيها، وأن القرآن قد يجسِّم المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس، وذلك بعض ما يعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية، وذكر مثالًا لها قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} (الأعراف: 154)، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} (الأعراف: 150)، فهنا كلمة الغضب تشعرك بأنه إنسان يدفع موسى ويحثه على الانفعال والثورة، ثم يسكت ويكفّ عن دفع موسى وتحريضه، وهذه صورة بيانية جميلة ذكرها السابقون في مجال الاستعارة. هذا -كما يُقال- هو حد الدرس في مسألة التصوير عند البلاغيين الذين يهتمون بهذه المسألة، أما النقْلة التي حدثت في عصرنا هذا هو ما أحدثه الأستاذ سيد قطب في كتابه (التصوير الفني) فبين المسألة بصورة تستدعي منا أن نقف معها ونرى فكر الرجل في هذه المسألة العظيمة: بدأ -رحمه الله- أن يبين لنا مسألة هي بمثابة التمهيد لهذه المسألة، وهي أن القرآن قد سحر من آمن به ومن لم يؤمن به، وهذا ظاهر في قول الوليد: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَر} (المدثر: 24)، فيقول: الوليد بن المغيرة شغله القرآن ونظر فيه

وفي معانيه فعرف أنه يخرج عن طوق العرب في كلامهم، وكذلك عمر -رضي الله عنه- كان سبب إيمانه هو سماعه آيات من القرآن في رواية أو قراءته آيات من سورة طه في رواية أخرى، فكان ذلك دافعًا لإيمانه -رضي الله عنه وأرضاه- وكانت عباراته المشهورة: "فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام"، والعبارة الأخرى عندما قرأ الآيات قال: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه" فذلك دليل بيّن، على أن القرآن أثر العرب في بداياته. مدخل جميل لهذه المسألة؛ أرجو منك أيها الابن الكريم أن تتأمله معي، أن القرآن سحر العرب ببيانه وأسلوبه بداية، فهنا نطرح سؤالًا: إذا قلنا الإعجاز في القرآن من ناحية التشريع، أو الإعجاز في القرآن من ناحية الإخبار بالحقائق الكونية، أو الإعجاز في القرآن من ناحية الحديث عن النبوءات الغيبية الأشياء المستقبلة، هذا الكلام نستطيع أن نقبله من القرآن ككلام عام، كما ذكرنا في الدرس الماضي جملةً على الجملة لماذا؟ لأنك لو قرأت في القرآن كله ستجد هذه الآيات وهذه العلامات البيّنة على إعجاز القرآن في هذه الوجوه؛ في جانب التشريع وفي جانب الحقائق الكونية وفي جانب النبوءات الغيبية. أما السؤال الذي يُطرح الآن: أين هذه الأشياء من الوليد بن المغيرة عندما ذكر هذا الكلام بعد سماعه آيات من القرآن ونزلت قصته في سورة (ن) تصوّر حاله عندما سمع وعندما قال بعد ذلك قولته العظيمة الباهتة الظالمة في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (المدثر: 24، 25)، هذه الآيات في سورة (ن)، وسورة (ن) من أولى السور التي نزلت من القرآن الكريم، واختلف أهل العلم في ترتيب نزولها: هل هي الثالثة أم بعد الثالثة؟ ولكنهم

اتفقوا على أنها من السور الأولى التي نزلت في القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فلا شك أن الرجل حكم هذا الحكم وتأثر هذا التأثير عند سماعه سِور من السور التي نزلت في بداية الوحي قبل التفصيل في مسائل التشريع وقبل بيان مسائل الحقائق الكونية ومسائل الغيبيات، فكانت عبارات وجيزة وآيات قصيرة، أُنزلت على النبي -صلى الله عليه آله وصحبه وسلم- فمن هنا جاء كلامنا عن هذه المسألة، لا شك أن القرآن سحرهم، هذا اللفظ تجاوزًا على اعتبار كلامهم {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَر} (المدَّثر: 24) واسترعى انتباههم لما فيه من عبارات، وبما فيه من ميزة عن كلامهم ليست بالطبع هي الحقائق الكونية أو الحقائق التشريعية أو النبوءات الغيبية. فلا بد لنا أن نبحث عن منبع آخر لجمال النص القرآني. من هنا بدأ الأستاذ سيد قطب في كلامه عن قضية التصوير الفني أن هذا التصوير الذي نجده في آيات القرآن جملة وتفصيلًا في قصار السور وفي طوالها وفي الآيات، ربما تقتصر آية على صورة عظيمة من صور التصوير. وبين ذلك أيضًا في حديثه عن جهود السابقين فأشار إلى أن الزمخشري كان ينتبه إلى هذه المسألة، ولكنه لم يتحدث فيها تفصيلًا، وإلى أن عبد القاهر -رحمه الله- في (دلائل الإعجاز) نبه أيضًا عل هذه المسألة، ولكنه لم يفصلها تفصيلًا واضحًا، فتبنى -رحمه الله- تفصيل هذه القضية في (بيان التصوير الفني في القرآن الكريم)، فقال: التصوير هو الأداة المفضّلة في أسلوب القرآن، فهو يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذهني وعن الحالة النفسية وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة.

فهذا التصوير تصوير باللون وبالحركة وتصوير بالتخييل تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرًا ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات ونغم العبارات وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان. هذه إجمال معنى التصوير؛ نقل صورة أمامك تشاهدها، وبالمثال يتضح المقال، بدأ الشيخ يعرض سورًا من القرآن الكريم فيها روعة التصوير الفني الذي يعرفه من ينظر في هذه الآيات الكريمة، وكما ذكرت آنفًا الآن في عباراته؛ أنه ذكر أن القرآن عبّر عن المعاني الذهنية في صورة حسية، وكذلك عبر القرآن عن المعاني المجردة والحالات النفسية بصورة حسية، وكذلك عرَض القرآن نموذجًا إنسانيًّا واضحًا للإنسان في شخصيته وفي تصرفاته، وكذلك رسم القرآن مشاهد لحوادث وقعت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسم القرآن حوادثَ ضُربت كمثال من القصة في القرآن الكريم؛ كل ذلك كانت عمدته الأساسية في التعبير عنه هي طريقة التصوير. ونعيش الآن مع نماذج مما ذكرها الأستاذ سيد قطب -رحمه الله. يضرب مثال ً اللمعاني الذهنية التي خرجت في صورة حسية لأشياء عديدة؛ منها هذه الصورة، القرآن يريد أن يجسّم ضعف هؤلاء الآلهة أو الأولياء الذين اتخُذوا من دون الله عامة، ويبين أنهم لجئوا إلى ملجأ ضعيف واحتموا بشيء لا يستطيع حمايتهم، فبماذا عبر القرآن؟ قال الله -سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41)، تأمل هذه السورة الكريمة؛ يصور الله -سبحانه وتعالى-

هؤلاء الذين اتخذوا أولياء من دون الله -عز وجل- بمن يتخذ بالعنكبوت الذي يتخذ بيتًا، فهم عناكب ضئيلة واهنة تأوي مَن حمى هؤلاء الآلهة أو الأولياء إلى بيت كبيت العنكبوت أوهن وأضأل، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}، ولكنهم لا يعلمون حتى هذه البديهية المنظورة، فهم يضيفون إلى الضعف والوهن جهلًا وغفلة، حتى لا يعجزون عن إدراك البديهي المنظور. يعني: يريد الشيخ بأن تتأمل هذه الصورة لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله -عز وجل- أولياء أو أناسًا أو أصنامًا أو غير ذلك، فهذه الصورة التي رسمها الله -سبحانه وتعالى- لهم بهذه الآية الكريمة. وصورة أخرى لمعنى مجرد، وهذا المعنى هو أن المشرك لا منبت له ولا جذور، ولا بقاء له ولا استقرار، فهذا المعنى كيف يُصوّر؟ انظر إلى قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق} (الحج: 31) هكذا في ومضة يخرّ من السماء من حيث لا يدري أحد، فلا يستقر على الأرض لحظة، إن الطير لتخطفه وإن الريح لتهوي به، وتهوي به في مكان سحيق حيث لا يدري أحد كذلك، وذلك هو المقصود. انظر -رحمك الله- إلى هذا التصوير لهذا المعنى، وهو معنى عدم استقرار المشرك، وأنه لا بقاء له، وكيف صوّره القرآن الكريم. هناك معاني أخرى تصور الحالة النفسية والمعنوية، هذا الذي لا يؤمن أو هذا الذي لا ينتفع بالعلم الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- يهيئ الله له المعرفة فيفرّ منها كأنها لم تهيئ له، ويعيش بعد ذلك مترددًا بين أهواء نفسه، فلا هو استراح بالغفلة ولا استراح بالعلم والمعرفة، نريد أن نصوّر أو أن نعبّر عن هذا المعنى، فماذا يُقال؟ انظر إلى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ منْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ

فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (الأعراف: 175، 176). انظر إلى هذه السورة وما فيها من تحقير وتقذير لهذا الذي ينسلخ ويترك ما رزقه الله من العلم والمعرفة، وهذه الحركة الدائبة في وضعه، فهي في تثبيت المعنى المراد أشد وأقوى، وهذا المنظر الذي تراه من الصورة التي رسمت للكلب: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}، فهو على كل حال مضطرب فزِع خائف، سواء أمنته أو سواء أرهبته، في الحالين هو يلهث بهذه الصورة المقززة الحقيرة. وصورة أخرى لمعنى آخر، وهو معنى من تتزعزع عقيدته، يعني إنسان ليس على يقين، وليس على ثبات من أمر الله -سبحانه وتعالى، فهو كما يُقال: إذا الريح مالت مال حيث تميل، في هذه الصورة يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (الحج: 11)، هنا الخيال يجسّم هذا الحرف، الحرف الجبل، الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس، وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم، وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب، وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع بأوضح ما يؤديه وصف التزعزع؛ لأنها تنطبع في الحس وتتصل منه بالنفس، انظر إلى هذه الصورة وما استطاعت أن توصله إليك من بيان حال هذا الذي يشك والذي لا يثبت على شيء وعقيدته مضطربة مهتزة؛ يعبد الله على الأحوال التي تصيبه، فتارة يطمئن وتارة يضطرب، كحال من يتعبد على جبل مرتفع.

ينتقل بعد ذلك لرسم صور للإنسان بشخصه، وهذه الصورة تكون واضحة لمن ينظر فيها، صورة بسيطة، أنا لا أريد أيضًا أن أسهب في ذكر هذه الصور لأن لنا وقفة مع صور يوم القيامة ومشاهد يوم القيامة في القرآن الكريم، وكيف صوّرها القرآن لأهل الإيمان. هذه صورة لإنسان ضعيف العقيدة، ضعيف العزيمة، مستور الحال، لا يتبين ضعفه في فترة الرخاء، فإذا جدّ الأمر وجاءت الشدة ظهر هذا الضعف على أتمّه، هذه الصورة يصورها القرآن في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (محمد: 20). انظر لهذه الصورة التي يعرفها كلّ منا من حال من يُغشى عليه من الموت وما يُرى على وجهه من شحابة ومن خوف وفزع واضطراب يصيبه، هذا حالهم عندما ينزل أمر الله -عز وجل- بالجهاد والقتال؛ {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، صورة تبرز في الضمير مصحوبة بالسخرية والتحقير، وهذه صورة من الصور العظيمة التي صوّرها القرآن لحادثٍ حدث في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. ويكفي أهل الإيمان أن ينظروا في الآيات ليتبينوا هذا المنظر وكأنهم يرونه رأي العين، وكيف استطاع القرآن أن يصف هذا المنظر بهذه الصورة الفنية الرائعة، وهي حادثة الأحزاب، وما كان في أمر هذه الغزوة؛ يتحدث المولى -سبحانه وتعالى- عن الهزيمة فيرسم مشهدًا كاملًا تبرز فيه الحركات الظاهرة والانفعالات المضمرة، وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية، وكأنما الحادث معروض من جديد دون أن يُغفل منه قليل أو كثير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا *

إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْل يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (الأحزاب: 9 - 13). سبحان الله!! انظر لهذه الحركة النفسية والحسية من حركات الهزيمة، وكيف أبرزها القرآن الكريم في رسم صورة أهل الإيمان عندما اشتد بهم الكرب وأحاط بهم أهل الكفر وما كان من شأنهم بهذا الوصف الرائع الذي وصفه المولى -سبحانه وتعالى-: {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، وهذا الابتلاء الشديد الذي تعرضوا له وما كان من شأن المنافقين الذين قالوا عند هذا الوضع: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وما كان من شأنهم مع أهل المدينة عندما قالوا لهم لا بقاء لكم هنا ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر، وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون: إن بيوتنا مكشوفة وليست في حقيقتها مكشوفة، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}. فصور الله -سبحانه وتعالى- أحوال جميع الطوائف التي كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-: أهل الإيمان الذين زُلزلوا زلزالًا شديدًا وأهل النفاق الذين كذبوا وعد الله -سبحانه وتعالى- وأضعفوا إخوانهم، وأهل الإيمان الضعيف الذين أرادوا أن يفروا ويتحججون بأن بيوتهم مكشوفة، وهكذا لا تفلت في الموقف حركة ولا سمة إلا وهي مسجلة ظاهرة كأنها شاخصة حاضرة، هذا من روائع تصوير القرآن الكريم لحادث وقع، كذلك الناظر في قصص القرآن.

ثم تعرض الشيخ لذكر بعض الأمثال القصصية التي وقعت في القرآن الكريم؛ من ذكر أصحاب الجنة في سورة (ن) ومن ذكر صاحب الجنتين في سورة الكهف، ومر بعد ذلك بمشاهد من قصص حقيقية، هذه القصص السابقة ضُربت على سبيل المثال على اختلاف بين أهل التفسير أو أنها قصص واقعة، وكذلك قصة نوح -عليه السلام- مع ابنه بعد الطوفان: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (هود: 42، 43). فانظر إلى هذه الصورة وكيف رُسمت بما هو صراع بين عاطفة الأبوة وحقيقة النبوة مع نوح -عليه السلام، وكيف كان الابن على هذا العناد وهذا الإصرار على عدم طاعة أبيه، وكيف صور القرآن هذا الموقف العظيم بهذه الكلمات الجليلة! وكذلك صور القرآن مظاهر الطبيعة في آيات كثيرة، ومن أعظم ما يستدعي أهل الإيمان أن ينظروا إليه هي مشاهد القيامة في القرآن الكريم، ولك أن تتأمل بعض المشاهد كمنظر هؤلاء الذين يخرجون من القبور للحساب، وما حالهم من الإسراع والخشوع وما يصيبهم في قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (إبراهيم: 42، 43)، وانظر إلى منظر الناس عندما رسمه الله -سبحانه وتعالى- عند قيام الساعة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (الحج 1، 2).

وانظر رحمك الله إلى هذه الصورة العظيمة في آخر سورة الزمر، من وصف سوق أهل الجنة إلى الجنة وأهل الجحيم إلى الجحيم -عياذًا بالله- وما كان من آمرهم وكيف صوّره الله -سبحانه وتعالى- بهذا الكلام الجميل الذي يتأمله من يؤمن بكلام ربه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (الزمر 71، 72)، وعلى النقيض صورة أهل الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (الزمر 73، 74)، ويكمل المشهد بمنظر الملائكة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزمر: 75). هذه صورة جميلة وغيرها، كثير في كتاب الله -سبحانه وتعالى، ولكن ذلك يستدعي منك -أيها الابن الحبيب- أن تتدبر وأن تتأمل وأن تنظر في هذه الوجوه من روائع التصوير في القرآن الكريم التي هي سر من أسرار الإعجاز في كتاب الله. وجزاكم الله خيرًا.

الدرس: 5 الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن.

الدرس: 5 الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن.

مقدمة عن الحروف والأصوات كمظهر من مظاهر إعجاز القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن) مقدمة عن الحروف والأصوات كمظهر من مظاهر إعجاز القرآن والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: نبدأ اليوم إن شاء الله -سبحانه وتعالى- التعمق لسبر غور كتاب ربنا الكريم والتوصل إلى ما فيه من أسرار بلاغية لغوية تشهد بأنه كتابٌ معجز إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتناول مباحث البلاغة في القرآن الكريم أو مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم تفرعت إلى صور شتى، وعادةً ما يُبتدأ فيها بذكر ما يتركب منه كتاب الله سبحانه وتعالى، أي ذكر المفردات التي يتكون منها النص القرآني. المفردات -كما نعلم جميعًا- هي أجزاء الكلام التي يتألف منها كلام العرب، وأجزاء الكلام كما تعلمون اسم وفعل وحرف، ويبدأ البلاغيون أو من اهتموا بإبراز مسائل الإعجاز بالكلام عن الوحدة الأولى التي يتركب منها بنيان النص القرآني ألا وهي الحروف، أو الأصوات اللغوية، فهذا المظهر من مظاهر تكوين النص القرآني كما يسميه بعض أهل العلم القشرة السطحية للقرآن الكريم، أو ما نقول بمعنى آخر كما يسمي أهل الأدب: أن كل نص ينقسم إلى شكل ومضمون، الشكل هو الإطار الخارجي الذي يُعرض فيه المضمون الذي هو المعاني التي يُراد إبرازها من خلال هذا النص، أو من خلال الشكل أو الإطار الخارجي. فكلامنا اليوم إن شاء الله -سبحانه وتعالى- حول الحروف وأصواتها اللغوية، هذا عنوان عام يشتمل على جزئيات سنذكرها تباعًا إن شاء الله، أنت تعلم أيها الابن الحبيب أن الحروف في اللغة العربية

تنقسم إلى صوامت وحركات، والصوامت هي الحروف التي ننطقها أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، هذه الحروف تُسمى الصوامت. أما الحركات فهي الحركة التي توضع على هذا الحرف الصامت وهي الفتحة بَ، والكسرة بِ، والضمة بُ ... إلى آخره هي الحركات الثلاث. بعد ذلك تعرف أيضًا من خلال دراستك في علم التجويد وتفاصيله، أن الحروف لها مخارج ولها صفات، فمخارج الحروف خمسة: الجوف والحلق واللسان والشفتان والخيشوم، وصفات الحروف إما صفات لازمة أو صفات عارضة؛ صفات لازمة أي تلزم الحرف ولا يفارقها، مثل الجهر والهمس والشدة والرخاوة والاستعلاء والإطباق والاستفال والانفتاح والإصمات والتفشي والاستطالة ... إلى آخره، وصفات عارضة أي تطرق على الكلمة أو على الحرف تطرق على الحرف في حال معينة، كحال تسكينه أو حال الختام به أو غير ذلك، وهي صفات مثل الترقيق والتفخيم والإدغام والإخفاء والإقلاب والإظهار والمد والغنة ... إلى آخره. هذا كله تعرفه أيها الابن الحبيب، أما الذي نريد أن نشير إليه الآن في درسنا هو أن تعلم أن هذه المخارج وهذه الصفات إنما أُخذ أكثرها من ألفاظ القرآن الكريم، لا من كلام العرب وفصاحتهم، فهنا موضع القول؛ فإن طريقة النظم التي اتسقت بها ألفاظ القرآن وتألفت لها حروف هذه الألفاظ إنما هي طريقة يتوخى بها إلى أنواع من المنطق وصفات من اللهجة- لم تكن على هذا الوجه من كلام العرب، ولكنها ظهرت فيه أول شيء على لسان النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، مما جعل المسامع لا تنبو عن شيء من القرآن ولا تلوي من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بد من الاسترسال إليه والتوفر على الإصغاء، لا يستمهله أمر من دونه وإن كان أمر

مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها.

العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة، فإنه يسمع ضربًا خالصًا من الموسيقى اللغوية في انسجامه واضطراد نسقه واتزانه على أجزاء النفس مقطعًا مقطعًا ونبرةً نبرةً، كأنها توقّعه توقيعًا ولا تتلوه تلاوة. هذه المقدمة الجميلة ذكرها الرافعي -رحمه الله- في بداية كلامه عن الحروف والأصوات، كمظهر من مظاهر الإعجاز الكريم. مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها يتركز حديثنا عن مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها في نقاط ابتداءً قبل التفصيل الذي سنذكره: أولًا: هناك فرق بين استخدام القرآن للحروف وأصواتها واستخدام العرب، كيف؟ العرب في كلامهم كانوا يترسلون أو يحلمون؛ بمعنى أنه يقرأ على تمهل أو يقرأ على سرعة أي يتسرع في القراءة كيفما اتفق له، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف التي هي مادة الصوت، هذه طريقة العرب وغاية ما كانوا يستخدمونه في كلامهم، يقرءوا ببطء أو يقرأ بسرعة إلا أنه لا يهتم اهتمامًا بالغًا بأن يكيف الحروف تبعًا لمادة الصوت، وإنما اهتمامه هو تكييف الصوت أي يقرأ أو يتحدث بصوت يشعر من أمامه بما يريد أن يتحدث به، فإذا أراد أن يتحدث مثلًا عن الحماسة أو الفخر تحدث بنبرة معينة، وإذا أراد أن يتحدث عن الغزل أو غيره تحدث بنبرة معينة، فيغير نبرات صوته وطرق أدائها حسبما الأغراض التي يريدها.

أما القرآن الكريم فجاء بصورة لم يعهدها العرب في كلامهم، لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، رأوا ألحانًا لغوية رائعة، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعه، فلم يفتهم هذا المعنى، ولذا كانت الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها. نريد أن نستدل على هذه المسألة: أن القرآن جاءهم بقراءة وبطريقة لأداء الحروف ونطقها تختلف عما كانوا يعرفوه. هناك أدلة ذُكر منها هذا الدليل الأول: أنك إذا أنشأت ترتل قطعة من نثر الفصحاء أو غيرهم على طريقة تلاوة القرآن الكريم، وتراعي فيها أحكام القراءة وطرق الأداء- فإنك لا بد ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن، جرّب أيها الابن الحبيب أن تقرأ نصًا من النصوص غير النص القرآني بطريقة تلاوة القرآن تجد بونًا شاسعًا أو تجد أن هذه الطريقة المميزة بهذا الأداء وهذه الأحكام كأنها فُصلت تفصيلًا على كتاب الله -عز وجل، ولا تستطيع أن تقرأ بها غيرها من النصوص، لما في هذا النص القرآني مما يُسمى بجمال التوقيع، وسنقرأ نصًّا إن شاء الله يبين معنى هذه العبارة الجميلة التي ذكرها الدكتور "دراز" - رحمه الله. فنقول: حسبك في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن وأنه مما لا يتعلق به أحد ولا يُتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه -في القرآن- لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق والتفشي والتكرير، وغير

ذلك من صفات الحروف، فلا يخفى عليك أن مادة الصوت في القرآن هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدًّا أو غنةً أو لينًا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع أو الإطناب والبسط بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها. كأنه حادي يحدو بنفس من يقرأه، كما يحدو صاحب الإبل لها ليستثيرها وليحركها وليجدها في السير، هذه الصفة تبدو واضحة لمن أراد أن يقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى. هذا أيها الابن الكريم يؤدي إلى ما نسميه بالتأثير النفسي للقرآن الكريم وغلبته على الطبع العربي وغيره، كيف وغيره؟ نعم غلبة القرآن بطريقته وبطريقة أدائه على النفس العربية وغير العربية، بل على النفس المؤمنة والجاحدة، تتأثر بهذا الكلام الكريم الجميل الذي هو كلام رب العالمين، فتتأثر له، وكم سمعنا عمن أسلم من الغرب لسماعه آيات من القرآن الكريم، وهو أعجمي، لا يعرف العربية ولا يعرف الإسلام وإنما هزه ذلك التوقيع الجميل وهذا الصوت الذي يسمعه وهذا الذي يكون ممن يجيد تلاوة القرآن الكريم، ولاسيما إن كان حسن الصوت، هذا ما يُسمى -أيها الابن الكريم- بطريقة الاستهواء الصوتي، أي هذا يستهوي من يسمع كلام الله -سبحانه وتعالى- إلى الاسترسال وإلى سماع كلام الله عز وجل. هناك دليل آخر على إعجاز القرآن في تركيب حروفه وأصواته اللغوية: ما هو هذا الدليل؟ أن توازن بين القرآن وبين أي نص آخر، بمعنى: أن القرآن لا يخلق أي لا يبلى، ولا يُسأم منه، ولا ينتهي وقته، كما يُقال على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة، وكلما أخذت فيه على وجهه الصحيح فلم تخل

بأدائه رأيته غضًا طريًا وجديدًا، ورأيته وصادفت من نفسك له نشاطًا مستأنفًا وحسًّا موفورًا، هذا القرآن بما فيه من ترسيل واتساق وتطويل مع أنه لا يُضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقي، ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان ودروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت هو طريقة تصريفه وتوقيعه، إنما هو نابع من أصواته وحروفه، أما أي نص آخر عندما تقرأه مرة ومرة ومرة ويُعاد عليك وإن تنوعت طرق أدائه وطرق قراءته- إلا أنك تشعر منه بالملل والسأم، وتشعر بعدم الرغبة في مواصلة السماع، عدا القرآن الكريم يختلف عن هذا وعن أي نص في هذه الصفة؛ أنك لا تسأم من ترداده وكثرة تكراره. هذا الذي ذكرته لك -أيها الابن الحبيب- هو في مجمله الكلام عن الحروف وأصواتها وتأثيرها كوجه من وجوه الإعجاز، فإذا ما أردنا أن نفصل في هذه المسألة وأن نذكر فيها أدلة ذكرها البلاغيون ومن تعمقوا في هذه المسألة وحاولوا أن يتلمسوا من كتاب الله -عز وجل- أثرَ الإعجاز في بنيته الخارجية أو في شكله أو في الإطار الذي وضع فيه- هذا ما نجده في نقاط سنذكرها تبعًا بإذن الله -عز وجل- وهي التلاؤم وصلته بمخارج الحروف وشكل الحرف وأثر الحرف المعنوي على النفس والحروف المتماثلة وحركات الحروف والنسق الصوتي. نبدأ بأولى هذه النقاط وهي الصلة بين التلاؤم والمخارج: نطرح هذا السؤال: هل هناك صلة بين تلاؤم الحروف وبين مخارجها؟ هذا السؤال شغل من اهتم بهذه المسألة، فنرى أولًا الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) يعرض كلام الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي عدّ التناسق بين الحروف

والتلاؤم بين الحروف أساسه البعد عن القرب الشديد من المخارج أو البعد الشديد في المخارج، بمعنى أن الخليل -رحمه الله- ربط بين المخارج وبين التلاؤم، ربط بينها بهذه العبارة الجميلة، يقول الباقلاني: ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد أو قرب شديد، فإذا بعُد فهو كالطفر أي كأنه يثب مرتفعًا، يثب يثب وهو يتحرك، وإذا قرب جدًّا كان بمنزلة مشي المقيد المكتوف الذي لا يستطيع أن يتحرك، ويبين بقرب المخارج وتباعدها؛ أي أن التنافر في الحروف يبين بالقرب والبعد، ولعلك أيها الابن مر عليك تباعًا هذا البيت المشهور الذي ذكروه مثالًا لتنافر الحروف لقروب مخرجها: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر هذا البيت الذي موجود في كتب البلاغة يُذكر مثالًا للتنافر بين الحروف بسبب هذه المخارج، نجد عكس التنافر هو التلاؤم، التلاؤم الذي هو مجسد في القرآن الكريم، بمعنى العلماء يقولون: القرآن كله في الطبقة العليا للتلاؤم، ولكن الفرق أن بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض، وذلك كما أن في الشعر هناك من يفطن للموزون بخلاف بعض، يعني هناك من يشعر بقيمة الشعر لإدراكه الوزن، فعندما يمر به بيت من الشعر به كسر أو به خلل يظهر عليه وترى تغير وجهه لأنه أحس أن هناك خللًا في هذا البيت وأن هناك كسرًا قد اعتراه، كذلك في القرآن يتفاوت الإحساس بمدى هذا التلاؤم وبروعته بمدى إحساسك باللغة وفهمك لها، فالتلاؤم -أيها الابن الكريم- كما قيل هو حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ ووقع المعنى في القلب، هذا التلاؤم مجسد في كتاب الله وفي آياته كما سنذكر الآن من أمثلة.

هذا رأي، رأي ذهب إلى أن التلاؤم ناتج من البعد عن خروج الأحرف من مخارج قريبة أو مخارج بعيدة، فجاء الكلام على صورة من التلاؤم البديع ليست موجود في أي نص ولا يستطيع أي فصيح -مهما بلغت فصاحته- أن يلتزم هذا التلاؤم في جميع كلامه، بدليل أنهم أخذوا ملاحظات على كبار الشعراء في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وكبار اللغويين والنحاة وغيرهم ممن هم أهل اللغة وأرباب الفصاحة والمستشهد بكلامهم، أخذوا عليهم أمثلة عديدة في عدم التلاؤم وفي وجود التنافر في كلامهم؛ لذلك يدعوك من تأمل هذه المسألة إلى أن تتأمل صور التلاؤم في كتاب الله -سبحانه وتعالى- والأمثلة التي تُذكر لذلك. هذا التلاؤم يراه البلاغيون الذين تعمقوا في الدراسة ليس فقط بسبب المخارج وبسبب القرب أو البعد، وإنما هو يعتمد في المقام الأول على الذوق، يعتمد في المقام الأول على تقبل من يسمع الكلام بأن ذوقه اللغوي ذوق عربي سليم، فما عده الذوق ثقيلًا فهو متنافر، وإلا فلا تنافر فيه. هذا الرأي الآخر في مسألة التنافر؛ أنه لا يرتبط بالمخارج قدر ما يرتبط بالذوق، ويبدأ أهل العلم يستدلون بآيات من القرآن وكلمات من القرآن تدل على التلاؤم في ألفاظه الكريمة. مثال يُستشهد به هو استخدام الإفراد والجموع، كيف استخدام الإفراد والجموع؟ أنت حين تنظر في كتابه الله -عز وجل- تجد جموعًا لا مفرد لها، وتجد مفردات لا جمع لها، ليس في الوضع اللغوي وإنما في النص القرآني، بمعنى أنك تجد مثلًا كلمة الألباب فإن سألتك عن مفردها قلت لب، فإن سألتك عن وجوده في كتاب الله قلت: ليس هناك آية في كتاب الله بها لفظ لب، وإنما لم يُستخدم في القرآن إلا لفظ الألباب، فاستُخدم الجمع ولم يُستخدم المفرد، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَاب} (الزمر: 21) وغير ذلك من الآيات العديدة.

أما كلمة اللب لم ترد وإنما ورد مرادفها، مرادف اللب وهو القلب، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب} (ق: 37)، ولم يقل لمن كان له لب، فلم تُستخدم المفردة مع أن نظيرها استخدم في كتاب الله، كيف النظير؟ النظير في الوزن والنطق، فكلمة لب توازي كلمة جب {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} (يوسف: 10) فلما ذُكر الجب ولم يُذكر اللب مع أنهما متوازيان ومتساويان في الوزن إلا أنهما يختلفان في المخارج، ويختلفان في العلاقة بين الحرفين، ففرق بين اللام والباء بما فيها من ثقل، وبين الجيم والباء وبما فيها من صلة، كذلك أيضًا في قضية الإفراد والجموع، تجد كلمة أرجاء استخدمت ولم يستخدم الرجا المفرد لها، تجد كلمة أكواب استخدمت: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 18) أما كلمة كوب لم تجدها استخدمت في كتاب الله، كذلك كلمة الأصواف: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (النحل: 80) كلمة أصواف استخدمت أما كلمة صوف المفرد لم يستخدم، وعندما أُريد استخدم مرادفه، وهو العهن، في قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 5)، وعندما تُسأل عن تفسير العهن يُقال لك هو الصوف، ولكنما لم يستخدم واستخدم مرادفه مكانه. كذلك كلمة الأحبار، {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} (التوبة: 34) وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم} (التوبة: 31) كلمة الأخبار استخدمت، أما حبر وهي مفرد أحبار لم تستخدم في القرآن الكريم، ذلك دليل عملي على استخدام الكلمات الجموع دون مفرداتها لما في الجموع من أثر صوتي يلمحه من له تذوق في اللغة ولما في المفردات من تنافر أو ثقل يتأمله أيضًا من

يستطيع أن يتذوق كلام العرب، وعكس ذلك استخدام المفرد دون الجمع ككلمة الأرض، الأرض لم ترد مجموعة في القرآن، حتى إ ن المتأمل يجد أن الموضع الذي كان يقتضي أن يُذكر فيه جمع الأرض بمعنى أن الآيات جميعها إذا نظرت فيها: {فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (البقرة: 164)، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (البقرة: 107) السماوات بصيغة الجمع والأرض بصيغة الإفراد، فهل هي أرض واحدة؟ لا هي أراضين وهي مجموعة وهي سبع كما أن السماوات سبع، فعندما جاء القرآن في موضع يستدعي المقابلة بين العدد وغيره بالنص عليه جاء قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12). انظر إلى جمال القرآن الكريم، لم يقل الله الذي خلق سبع سماوات وسبع أراضين مثلهن، وإنما: ومن الأرض مثلهن، كان ذلك من الإبداع في اختيار اللفظة التي تلاءم السياق القرآني والنص القرآني. كذلك عندنا كلمة في القرآن الكريم حار أهل البلاغة في تصويرها وبما فيها من جمال، كلمة لم تُذكر فاحتاروا فيما ذُكر مكانها، وهذا موقف من مواقف فرعون مع هامان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} (القصص: 38)، ماذا يريد فرعون من هامان؟ هو يريد منه أن يبني له صرحًا من الطوب المحرق الذي يدخل المحرقة، ويُصنع بطريقة سريعة لا تستدعي أن يأتي بالصخر وغيره ليشيد بناءً، فهو يريد أن يستعجل البناء ويريد أن يكون عاليًا، يصل إلى عنان السماء لعله يطلع إلى إله موسى كما ذكر في موضع آخر، فانظر إلى التعبير القرآني لم يذكر الآجُر، أو القرمد المرادف لما فيه من تنافر ولما فيه من ثقل في النطق وغيرها.

فاستخدم لفظ هو يُعد من مبتكرات القرآن فأوقد لي يا هامان على الطين، أوقد لي يا هامان على الطين، هذا الاستخدام وهذه الصورة البديعة التي كما قلت حار البلاغيون في روعتها وفي خفتها وفي وقعها في سياق الآيات وفي جمالها، عندما تسمعها من القارئ وهو يقلقل الدال وينطق اللام برقة، اللام مرققة لكسرها، فأوقد لي يا هامان، هذا الإحساس الذي تشعر به وأن تستمع للآية، ويجذبك ويجعلك بقلبك منصتًا لكلام الله -عز وجل- هذا لا يتأتى مع كلمة الآجُر أو مرادفها من الكلمات ناهيك عما يدل على غباء فرعون بهذا الطلب، فكأنه يطلب منه أن يبني له إلى ما لا نهاية، فإن الطين الذي يوقد عليه لا يُفرغ من البناء فيه في وقت، وإنما أراد العجلة فكان الطول في إحداث هذا الأمر الذي يريد، ذلك كله ضرب من ضروب التلاؤم في حروف القرآن الكريم وصلتها بالمخارج كما بينا. المسألة الثانية في الحروف هي مسألة شكل الحرف، ماذا نعني بشكل الحرف؟ الحرف الذي ننطقه في الألفاظ القرآنية تجد بينه وبين شبيهه علاقة، هذه العلاقة ما يُسمى بالتجانس، هناك فرق بين الجناس والتجانس، الجناس كما تعلم جناس تام وجناس ناقص وتوافق الحروف مع اختلاف المعنى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم: 55)، فالساعة الأولى مراد بها القيامة والساعة الثانية المراد بها وقت الساعة المعروفة في نهار اليوم التي يعرفها البشر، فهذا ما يسمى بالجناس التام: توافق الحروف في الشكل مع اختلافها في المعنى. وهناك جناس يُسمى جناس ناقص: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (الأنعام: 26) توافق الحروف مع اختلاف حرف من حروفها، ينهون وينأون، الهاء والهمزة مع

اتحاد المخارج للهاء والهمزة، فهي من حروف الحلق كما تعلم، هذا نوع أيضًا من الجناس، الأعمق من لفظ الجناس ما هو معروف في علم البديع؛ لأن هذا الجناس موجود في كلام الشعراء موجود في كلام الأدباء والخطباء، الظاهر الذي يجذبك والذي يشعرك بأهمية استخدام الحرف في القرآن ما يُسمى بالتجانس، الذي يتلخص في صورتين أو في ضربين ما يُسمى بالمزاوجة وما يسمى بالمناسبة بين الحروف التي تستخدم، هذا يكون في الكلام الذي يجمعه أصل واحد، يعني يجمعه مادة لغوية واحدة يتكون منها، تجد اللفظ هو اللفظ، ولا نستطيع أن نقول: إنه ضرب من ضروب الجناس، وإنما هو ضرب من ضروب المزاوجة في اللفظ، كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} (البقرة: 194). اعتدى /اعتدوا /بمثل ما اعتدى؛ تلحظ أيها الابن الكريم تكرار كلمة اعتدى ومقابلتها بكلمة فاعتدوا عليه فلك أن تتساءل: هل أخذ الحق اعتداء؟ هل عندما تقابل الاعتداء بالاعتداء فأنت بذلك تكون معتديًا على من اعتدى عليك؟ هذا يسأله من ينظر في الكلام فيُقال له: لا، وإنما هو جاء على سبيل المزاوجة، والمزاوجة هي من الجزاء بمعنى أنه استعير لفظ الاعتداء للثاني لتأكيد الدلالة على المساواة في المقدار، فجاء على مزاوجة الكلام بحسن البيان، فالله -سبحانه وتعالى- جازاهم بما يستحقون لأنهم اعتدوا فيجازون بالاعتداء، فإنما استعير للفظ الثاني وكان حقيقة في الأول يعني في المعنى الأول اعتدى فهو معتدي على الحقيقة وأنت في الثانية ليس معتديًا، وإنما استعير اللفظ لما يسمى المساواة في المقدار ولبيان أن ذلك جزاء لما أُحدث.

كذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه} (آل عمران: 54) فالله -سبحانه وتعالى- جازاهم على مكرهم، فاستعير للجزاء على المكر اسم المكر؛ لتحقيق الدلالة، بني الدِلالة والدَلالة والدُلالة كلها فصيحة، تسمع الكلمة بالكسر أو بالفتح، لتحقيق الدِلالة على أن وبال المكر راجع عليهم ومختص بهم، هذا التجانس. والمناسبة أيضًا تأتي في المعاني التي من أصل واحد كقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} (التوبة: 127) فجونس بالانصراف عن الذكر صرف القلب عن الخير، والأصل فيه واحد، وهو الذهاب عن الشيء؛ يعني أصل الصرف هو الذهاب عن الشيء فلذلك جونس بينهما، فهم عندما ذهبوا عن الذكر فقد ذهبت قلوبهم عن الخير، فكلاهما ذهب، وكذلك قوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار} (النور: 37) فجونس بالقلوب التقلب، والأصل واحد، فالقلوب تتقلب بالخواطر والأبصار تتقلب في المناظر وأصلهما التصرف، هذا ما يتعلق بمسألة الشكل وأثره في الحروف وأثره في ألفاظ القرآن الكريم. النقطة الثالثة: الأثر المعنوي للحروف ومخارجها، هذه النقطة لكي تتبينها لا بد أن تعرض لشيء في غاية الأهمية، وهو أن توازن بين ألفاظ القرآن وبين غيرها. نرجع إلى المرد الأول وسر الإعجاز: أن القرآن لا تستطيع أن تضع فيه كلمة مكان كلمة، أو حرفًا مكان حرف، أو جملة مكان جملة، وكما قالوا لو أدرت اللغة جميعها أي لو بحثت في لغة العرب جميعًا لا تجد كلمة تصلح أن توضع

مكان كلمة في كتاب الله عز وجل، لذلك يذكر أهل البلاغة هذه القصة المشهورة بين الخنساء وحسان - رضي الله عنهما. يقول حسان بن ثابت - رضي الله عنه: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ولدنا بني العنقاء وابن محرق ... فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما قال حسان هذين البيتين وكانت الخنساء -رضي الله عنها- تكلمه في هذين البيتين، هذا الأمر بالطبع قبل الإسلام يعني هذه مرحلة في سوق عكاظ عندما كان يجتمع الشعراء ويتعرضون لما يُسمى مجالس النقد الأدبي، فالخنساء -رضي الله عنها- تقول لحسان رضي الله عنه: ضعفت افتخارك وأبرزته في ثمانية مواضع أي أنها لاحظت في هذين البيتين ثمانية مواضع كانت سببًا في إضعاف الافتخار الذي أراده حسان رضي الله عنه، هو يريد أن يفتخر، فقال هذين البيتين، فهي تقول له أنت أضعفت هذا الافتخار وجعلته ضعيفًا بسبب استخدامك هذه الكلمات وبدأت تعد له هذه الكلمات التي قالها. فقالت: قلت لنا الجفنات والجفنات ما دون العشر فقللت العدد، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت الغر والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: يلمعن واللمع شيء يأتي بعد الشيء ولو قلت يشرقن لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: بالضحى ولو قلت: بالعشي لكن أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: أسيافنا والأسياف دون العشر ولو قلت سيوفنا كان أكثر، وقلت: يقطرن فدللت على قلة القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم، وقلت دمًا والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك، فعدت له -رضي الله عنها- ثمانية مواضع في بيتين من الشعر، ومن حسان كما تعلمون شاعر فحل

من شعراء العرب في الجاهلية، وأدرك الإسلام وكان من الشعراء المخضرمين وهو شاعر الرسول -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. من هذا المدخل تعرف قيمة التأثير المعنوي لألفاظ القرآن؛ بأنه لا يستطيع أحد أن يضع لفظًا مكان لفظ؛ لأن هذا السياق وهذا الإبداع في استخدام الحروف وتكوين الكلمات- هذا واضح جلي في كتاب الله -سبحانه وتعالى- بأنه ليس في قدرة أحد أن يشكك في هذا الكلام، فإن البلغاء مهما بلغوا يُعترض عليهم، ونجد من يستطيع أن يحذف كلمة ويضع غيرها، أما القرآن بتأثيره فلا يستطيع أحد أن يلحظ ملاحظة أو أن يدعي أن هناك كلمة تؤدي المعنى في جمال هذه الكلمات التي ذكرها المولى سبحانه وتعالى. فهذه الدقة في اختيار الألفاظ التي لا يُستطاع أن تبدل أو تغير- هذه الدقة تحدث أثرًا نفسيًّا عظيمًا على من يتلقاها وتؤثر في حسه، لأنه لا يستفرغ جهدًا في التفكير فيها أو البحث عن بديل أو عن معنى آخر يريده، وإنما هو جهده في الإصغاء والتروح بهذا الضرب الجميل من الألفاظ، فصارت ألفاظ القرآن وطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنها فوق اللغة، فإن أحدًا من البلغاء لا تمتنع عليه مع فصاحته التي أرادها وهي بعد في الدواوين والكتب، ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في كلامه وإن اتفقت له نفس هذه الألفاظ بحروفها ومعانيها إلا أنها في القرآن تظهر في تركيب متميز، وبهذا ترتفع إلى أسمى أنواع الدلالة اللغوية والبيانية، فتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم، وتكون بتركيبها المعجز طبقة عقلية في اللغة تجعلك تفكر فيها بعدما انشغلت أحاسيسك بها. النقطة الرابعة التي تتعلق بموضوع الحروف: هو الكلام عن الحروف المتماثلة: الحروف المتماثلة: أي المتشابهة مع بعضها البعض، ويُقصد بها عند الكلام على استخدام الفاصلة في القرآن الكريم، وختام الآيات في كتاب الله سبحانه وتعالى، هذا التماثل

الذي يأتي مع الحروف الفواصل بوجه خاص، وسياق الآيات بوجه عام، يعني هناك تجد مثلًا ما يُقال في علماء البلاغة عندما يلحظون أن الحرف إذا تكرر يعطي ثقلًا في الكلام، أما في القرآن تجد مثلًا حرف الميم تكرر متتاليًا ولم يعطِ ثقلًا وإنما أعطى جمالًا وروعة: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك} (هود: 48)، لو نطقت هذه الآية الكريمة في سورة هود {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك} تجد نفسك تحرك حرف الميم ما بين أصلي وما بين ناتج عن الإدغام وما بين ناتج عن الغنة، هذا حرف الميم يتكرر متتالي ويعطي جرسًا موسيقيًا عاليًا تستمتع به وأنت تقرأ الحرف مع أنه حرف واحد متماثل، أما في الفواصل كان هذا الاهتمام في هذا المجال بها، الاهتمام بالفاصلة أو رء وس الآي، وهي الكلمة الأخيرة في الآية، فإن لفظ الفواصل قد يُتسامح في إطلاقه على جمل في درج الآية، كما قالوا في قوله تعالى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغ} (الكهف: 64). فعندما برروا حذف الياء قيل لأجل الفاصلة، يعني الأصل أن الفعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة معتل الآخر، فليس مجزومًا كي تُحذف الياء التي هي حرف العلة المنتهي به الفعل، وإنما حُذفت في هذه الآية مع أن الفعل مرفوع وأثبتت في قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} (يوسف: 65) والفعل مرفوع فعندما عللوا سبب الحذف في آية الكهف قالوا: لأجل الفاصلة كذلك في قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} (القمر: 8) هي إلى الداعي، فحُذفت الياء اللفظ من الاسم المنقوص مع وجود الألف واللام مع أن القاعدة إثبات الياء في مثل هذا الوضع، قيل أيضًا: لأجل الفاصلة، وهذا كلام سيبويه -رحمه الله، فأطلق لفظ الفاصلة على درج الآية، أي جملة من جمل الآية في وسطها، ذلك حدث أو تسومح أو كان على وجه المسامحة.

أما الأصل أن تُطلق الفاصلة على نهاية الآية أو رأس الآية، هذه الفواصل -أيها الابن الحبيب- إذا تأملتها تجد أنها تؤدي دورًا بلاغيًّا جميلًا في النص وفي النسق القرآني: أولًا: تتيح استراحة لقارئ القرآن، يستريح ينتقل من آية إلى أخرى. ثانيًا: تحدد نهايات الآيات وبداياتها فيما عدا مواضع في القرآن أنت تعرفها من خلال قراءتك لكتاب الله تجد أن معنى الآيتين متصل، فلا يحسن أن تقف على الآية مثلًا خاصة لو كان في أمر الصلاة أو كذا، فلا يحسن أن تقف على الآية وتركع ثم تأتي لتبدأ بالآية التي بعدها لاتصال الآيتين بعضهما ببعض، وهذا في مواضع معدودة في كتاب الله -عز وجل- أما الأصل فهو الوقوف على رؤوس الآي. ثالثًا: تمكن القارئ من حسن الأداء وتتيح للسامع فرصة حسن المتابعة. أما النقطة الرابعة: فهي تحدث انسجامًا صوتيًا يستولي على القلوب ويستقطب العقول ويأسر الأسماع. هذا دور الفواصل في إجماله وأثره من الناحية الأدائية ومن ناحية الأصوات، والفاصلة هي عبارة عن حرف يُختتم به كلمة، هذه الكلمة يُختتم بها الآية فانظر -رحمك الله- إلى الفواصل في كتاب الله وخواصها، تكلمنا عن فائدتها والآن نتكلم عن خواصها وأنها كيف تميزت في كتاب الله -سبحانه وتعالى- بهذا الشيء الذي تراه. يقول الرافعي: وما هي هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا، يلائم نوع الصوت والوجه الذي يُساق عليه بما ليس وراءه في

العجب مذهب، تراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو بالمد وهو كذلك طبيعي في القرآن فإن لم تنتهي بواحدة من هذه كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو دروب أخرى من النظم الموسيقي. يقصد الرافعي في كلامه أن هذه الفواصل وختامها يوافق ما ذهب إليه العلماء في رؤية كلام العرب أنهم عندما يريدون التغني أو يريدون إحداث نغمًا في كلامهم وفي أشعارهم يختاروا حروف اللين أو حروف المد للانتهاء بها، أو حرف النون وحرف الميم، ولذلك تجد روائع القصائد ما يُسمى بالميمية والنونية التي تنتهي بهذه الأحرف التي تُحدث نغمًا صوتيًا يألفه السمع، هذا تجده في كلام الله -سبحانه وتعالى- مع هذا الذي تحدثه الفواصل يعهده العرب ويعرفونه في كلامهم وفي أشعارهم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن.

الدرس: 6 تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن.

حركات الحروف وأثرها على السمع في القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن) حركات الحروف وأثرها على السمع في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: كنا قد انتهينا إلى الكلام عن التماثل في الحروف، وضربنا له مثالًا للفواصل التي تُظهر ذلك التماثل، وانتهينا في كلامنا إلى أن القرآن كان يُلاحَظ في فواصله أنها تنتهي بحروف المد: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 - 3) تنتهي بحرف الميم حرف النون، وتناوب في سورة الفاتحة، وهذه الظاهرة التي تحدث عنها الرافعي وأشار إليها، وأن العرب تنبهوا إلى ذلك وقالوه أيضًا في ختام فواصل القرآن الكريم. بقي أن نشير إلى أن هذه الفواصل إذا تأملتها تجدها إما متماثلة وإما متقاربة؛ بمعنى أنها تنتهي بحرف واحد، وهذا يظهر جليّا في قصار السور، كأن تنتهي بالراء: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر: 1 - 3)، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3)، أو بالدال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص)، أو بالسين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس)، بل قد يتكرر الحرف المتماثل في بعض السور ما فوق القصيرة ولكن ليست من السور الطوال، كسورة القمر تنتهي بحرف الراء، وقد تكون الفاصلة متقاربة؛ أي أنها تأتي بين حرفين من مخرج حرف قريب مع أخيه، كسورة الفاتحة بين الميم والنون، سورة ق بين الباء والدال، وهكذا. وأيضا الناظر في الفواصل، يجد أن فواصل القرآن الكريم إما أن تتفق في الوزن الصرفي والحرف، كقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الغاشية: 13، 14)، أو تتفق في الوزن الصرفي دون الحرف كقوله تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (الغاشية: 15، 16) الفاء والثاء، أو تتفق في الحرف دون الوزن الصرفي كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ

أَطْوَارًا} (نوح: 13، 14) هذا ما تنبه إليه البعض في قضية الفواصل واستخدامها وأثرها الصوتي، باعتبار أن الفاصلة في القرآن الكريم تساوي القافية في الشعر أو ما يختتم به الحرف في سجع العرب في كلامهم، فأتت فواصل القرآن الكريم بطريقة تأسر الأسماع وتستولي على القلوب وتستقطب العقول، فكان بها وجه إعجازٍ، لا يخفى على من له ذوق في العربية ويتذوق كلام العرب. بقي في هذا الموضوع نقطتان: النقطة الأولى: هي حركات الحروف: الحركات التي تأتي على الحرف؛ ما بين ضم وفتح وكسر، هذه الحركات لها دورٌ بارز في إعجاز القرآن الكريم، هناك مسألة سنتعرض لها -إن شاء الله- بعد ذلك وهي تأثير الضبط في توجيه القراءات القرآنية، وهذا موضوع لنا فيه حديث -إن شاء الله- سبحانه وتعالى، أما كلامنا الآن فهو حول تأثير الحرف على السمع باعتبار ذلك جرس القرآن الكريم؛ أي صوته الذي تسمعه وتتأثر به. ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضًا، ولكن لن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعزب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد انتهجت لها طريقة في اللسان، واكتنفتها بدروب من النغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه كانت أعزب شيء وأرقه وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى

الحركات بالخفة والروعة، هذا نظرك عامة في الحركات وأثرها، هذا تعبير الرافعي -رحمه الله- عن دور الحركات، ولكن قبل أن أذكر لك موضع استشهاده على هذه المسألة وقصة الضبط والحركة وهناك مواضع أخرى نذكرها -إن شاء الله-؛ أريدك -أيها الابن الحبيب- أن تسمع معي هذه الرائعة التي ذكرها الدكتور عبد الله دراز -رحمه الله- في وصف هذه المسألة وهي "الحركات وأثرها على السمع" وأنت تسمع القرآن الكريم: يقول: أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، دع القارئ المجوّد يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله، نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانا قصيّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومادّاتها وغناتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألقي سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جُردت تجريدًا، وأرسلت سابحة في الهواء- فستجد نفسك منها بإذاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر، قد جُرّد هذا التجريد وجوّد هذا التجويد، ستجد اتساقا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر. وستجد شيئًا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر؛ ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا وشطرًا شطرًا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبًا متقاربًا، فلا يلبث سمعك أن يمجها وطبعك أن يملها، فإذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد، بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد؛ تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه

على كثرة ترداده ملالة ولا سأم، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد، هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحدٍ ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب، فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟! انظر -رحمك الله- لكلام الشيخ، هو يريد أن يصل بك إلى أن تقسيم الحركات والسكنات وضبط الحروف وهذه الحركات، أحدث في القرآن ما هو فوق ما يعرفه العرب في نظم أشعارهم؛ مما يسمى بالأسباب والأوتاد، أنت درست في مادة العروض تكوين أشعار العرب من فواصل "فاصلة صغرى وفاصلة كبرى" وهذه الفواصل تتكون من أوتاد وأسباب، وتد مجموع أو مفروق وسبب خفيف أو ثقيل، كما هو معروف في هذا العلم، الحركة يتبعها ساكن يطلق عليها سبب خفيف، إذا توالت حركتان يطلق عليها سبب ثقيل، إذا توالت حركتان تبعهما ساكن كانت وتد مجموع، إذا فصل بين متحركين ساكن كان وتدًا مفروقًا، إذا كانت مكونة من سببين ثقيل وخفيف كانت فاصلة صغرى، وإذا كانت مكونة من سبب ثقيل ووتد مجموع كانت فاصلة كبرى، هذا التكوين في أشعار العرب وفي كلامهم. انظر إلى القرآن تجد بتقسيمه الحركات والسكنات فاق هذا الكلام الموزون الذي يحرصون كل الحرص على ضبط إيقاعه وعلى إخراجه، فقامت الحركات بهذا الدور الرائع في بيان اتساق ألفاظ القرآن ومفرداته وكلامه، حتى إنك أول شيء تحسه أو تشعر به أذنك في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قُسّمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط، يساعد على ترجيع الصوت به، وتهادي النفَس فيه آنًا بعد آن إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى، فيجد عندها راحته العظمى، عندما تقف على رأس الآية، هذا لا تجده في أجود أشعار

العرب، فقد وقع في أجود نثرها وشعرها عيوب تقلل من سلاسة التركيب ولا يمكن معها إجادة الترتيل، فكان القرآن شاملًا على كل عظيم في الفنين أو في النوعين النثر والشعر، فكان له من النثر جلاله وروعته ومن الشعر جماله ومتعته. هذا أثر الحركات التي تؤدي إلى ما سماه الشيخ دراز "الجمال التوقيعي في ألفاظ القرآن الكريم". طبعًا الحركات وأثرها يبين لك بصورة واضحة في النقطة التالية التي نتحدث عنها: إن هذه الحركات تؤدي لما يسمى بـ "النسق الصوتي" وهذا هو خلاصة ما تحدثنا فيه في درسنا الماضي وفي درسنا هذا؛ أن هذا التعاون والتكاتف بين الحروف، ما بين شكلها وما بين تلاؤمها وما بين أثرها وما بين تماثلها وحركاتها ... إلى غير ذلك مما تحدثنا عنه، ينتج بنا في النهاية إلى موضع الكلام وهو "النسق الصوتي" أو ما يسميه بعض أهل العلم "الجرس القرآني" أي صوت القرآن، هذا النسق الذي تراه بيّنا رائعًا في كلمات القران وفي اختيارها، وهذا الذي اهتم العلماء ببيانه. نرجع إلى أول لفظة وقف معها الرافعي وهي كلمة "النذر" في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر: 36) هذه الكلمة انظر إلى حركاتها؛ فإن الضمة ثقيلة لتواليها على النون والذال معًا "نذُر" فضلًا عن جزأت هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكل ذلك مما يكشف عنه ويُفسح عن موضع الثقل فيه، لكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته، يقصد أن هذا اللفظ نفسه لو نظرت إليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} (القمر: 41) تجده ليس فيه الثقل الظاهر بهذا الوضع لما سبقه من حروف، أما في هذه الآية تجد جمالًا شديدًا باستخدامها

مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم، والأمثلة التي تذكر له.

{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} إذا تأملت التركيب وتذوقت مواقع الحروف وحركاتها في حسّ السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال {لَقَدِْ} وفي الطاء من {بَطْشَتَنَا} هذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو {تَمَارَوْا} مع الفصل بالمد كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات، إذا هي جزّت على اللسان ليكون ثقل الضمة عليه مستخفّا بعد، ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من {تَمَارَوْا} فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء "النذر"، حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تنبو فيه، ثم تتعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون: {أَنْذَرَهُمْ} وفي ميمها: {أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في {النُّذُرِ}. هكذا بين الرافعي بعد كلامه عن الحركات دور كلمة "النذر" عندما جاءت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} هذا مثالٌ أعطاه على موضوع الحركات. ننطلق منه لكلامنا العام عن هذه النقطة وهي "النسق الصوتي في القرآن والأمثلة التي تذكر له". مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم، والأمثلة التي تذكر له أولًا: تجد في القرآن كلمات -كما يقال- طويلة؛ طويلة أي عدد حروفها كثير، كقوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه} (البقرة: 137) وكقوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم} (النور: 55) وقوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود: 28) و {زَوَّجْنَاكَهَا} (الأحزاب: 37) إلى غير ذلك مما هو في

عرف الكلام أو في عرف البلاغيين كلمة طويلة، أما عند النحاة -كما تعرف- فهي كلمات؛ لأنهم يقسّمون الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، فهي جمل وليست كلمة، أما أهل البلاغة ينظرون إليها لما اتصالها في النطق ككلمة واحدة. فإذا نظرت إلى هذه الألفاظ التي عدد حروفها كثير ومقاطعها قد تكون مثقلة بطبيعة الوضع أو التركيب- إذا نظرت إليها في القرآن تجدها خرجت مخرجًا آخر، فخرجت من أخصر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقًا وأخفها تركيبًا؛ إذ ترى القرآن قد هيئ لها أسبابًا عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، انظر: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (النور: 55) كلمة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها؛ فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات، إذ تنطق على أربعة مقاطع ليس/ تخ/ لفن/ نهم؛ هذا التقسيم مقاطع، هو يشير كما أشار الدكتور دراز لموضوع الأسباب والأوتاد التي يقاس بها أوزان الشعر المقطع ينتهي عند الساكن: ليس/ تخ/ لفن/ نهم، فصارت الكلمة كأربع كلمات بأربعة مقاطع، فأعطاها جمالًا وسهولة وعذوبة في النطق، وكذلك قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّه} فإنها كلمة من تسعة أحرف وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها. وهذا مظهر من مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم. مظهر آخر من مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم: استخدام الألفاظ مع أصولها، بمعنى أنت لو نظرت للكلمات المستخدمة في القرآن الكريم، تجد عربيها يدور بين الثلاثي والرباعي؛ أي ثلاثي الأصول ورباعي الأصول، ولا تجد كلمة ذات أصول خماسية، مثل: غضنفر وسفرجل، هذه الكلمات الخماسية الأصول لا تجد مثلها في القرآن، فتجد القرآن يستخدم الأصول الثلاثية والرباعية، فهذه

الألفاظ ترجع في تجريدها لثلاثي ورباعي، أما كونها خماسية الأصول فلا تجد شيئًا قد ورد من ذلك في القرآن؛ لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه، إلا الأسماء الأعجمية أو المعرّبة، وسنتعرض بعد ذلك -إن شاء الله- لقضية "التعريب والألفاظ المعربة في القرآن الكريم" لماذا؟ لأنك لو نظرت في هذه الكلمات التي تجدها خماسية أو سباعية كإبراهيم وإسماعيل، وغير ذلك من الخماسي كطالوت وجالوت، هذه الألفاظ لو نظرت إليها تجدها من مقطعين؛ فكأنها كلمتان وليست كلمة واحدة، وذلك يجعلها سهلة في النطق إبرا/هيم، إسما/عيل، طا/لوت، جا/لوت، إسرا/ئيل، جبرا/ئيل، هذه الكلمات تجدها من السهولة بمكان؛ لأنها تعد كلمتين؛ فلذلك ورد استخدامها فيما فوق الثلاثي والرباعي. وكذلك مظهر آخر من مظاهر النسق الصوتي في القران الكريم: وهو أن تأتي كلمة تعد عند البلاغيين غريبة؛ غريبة لعدم توارد استخدامها أو كثرة استخدامها في كلام العرب، ولثقل النطق بها، فتشمل نوعًا من الغرابة، فيستشهد بذلك بكلمة "ضِيزَى" في قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم: 22)، هذه الكلمة خارج النص القرآني تشعرك بأنها غريبة، وتسأل عن معناها ولماذا لم تستخدم جائرة؟ أو الجور بدلا من هذه اللفظة، أما لو نظرت للنص القرآني ستجد أن هذه اللفظة جاءت مع أسرار الفصاحة جميعًا، في النطق بها. تأمل المتأملون وأخرجوا مظاهر لفصاحتها، وأنبهك أيها الابن الحبيب أن هذا الكلام وهذه الاجتهادات في إبراز مظاهر الفصاحة كما سنذكر في نهاية درسنا -إن شاء الله- إنما هو اجتهاد من العلماء، وفي النهاية يقال: الله أعلم بمراده، فهذا تذوق يعرض عليك، ولك أن تتذوقه وأن ترى ما فيه، فمثلا في كلمة {ضِيزَى}

يعني تُعطى من أسباب الفصاحة أنها جاءت على الفاصلة "فاصلة السورة" سورة النجم تنتهي بالألف المقصورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (النجم: 1 - 9). إلى أن قال الله -سبحانه وتعالى- في إنكاره على من يدعون له -سبحانه وتعالى- البنات وينسبون لأنفسهم الأولاد، فيدعون أن الملائكة إناثًا وهو بنات الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فيقول الله -سبحانه وتعالى- لهم موبخا: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم: 21، 22) فما ادعوه غريب، فيقال بلفظ غريب؛ هم ادعوا لله -سبحانه وتعالى- البنات ولأنفسهم الأولاد ادعوا لأنفسهم كمالا لم ينسبوه إلى خالقهم!! هذا أمر وشأن عجيب من هؤلاء الجاحدين الكافرين، الذين لا يؤمنون بالله رب العالمين، فقابل ذلك غرابة في اللفظ، فهي تلائم لغرابة هذه القسمة العجيبة التي ذكروها، وهذا الكلام الباهت الجائر الذي تقولوه، والذي نطقوا به، هذا مظهر آخر في جمال اللفظة؛ فأولا تناسب الفاصلة وثانيا تناسب الكلام الذي قالوه في غرابته وفي المبالغة في الإنكار عليه، كذلك تجد أنها تتألف من حروف تعطي معنى حسيّا يؤثر في نفسك؛ يعني أمر صعب {ضِيزَى} يعني أنت عندما تنطقها تستعد لإخراج الضاد من مخرجها والنطق بها؛ فهي تؤثر فيك حسيّا قبل أن تتلفظ بها، كذلك تجدها من مقطعين أحدهما مد ثقيل والآخر مد خفيف، وجاءت عقب غنتين: إِذًا/ قِسْمَةٌ/ أيضًا الغنتان إحداهما خفيفة والأخرى ثقيلة، فتجد أنها جمعت لك في هذا النطق وبهذا الشكل تلاؤمًا تواؤمًا في مخارج اللفظ ونطق الكلمة {ضِيزَى}، فهذا ما أشير إليه في هذه اللفظة الكريمة في كتاب الله سبحانه وتعالى.

لونٌ آخر من بيان النسق الصوتي في القرآن الكريم: وهو ما يُسميه بعض اللغويين بـ "حروف الزيادة"، هذه الحروف الزائدة أو جود زيادة أو حرف زائد- هذه المسألة ننبه إليها الآن تنبيهًا بسيطًا، وسنأتي إليها تفصيلًا -إن شاء الله-سبحانه وتعالى- فيقال: أولًا: هذا الادعاء الزائد إن أريد به زيادة في اللفظ والمعنى فهذا كفر والعياذ بالله، لا يقوله أحد من أهل العلم ولا من أهل الجهل حتى، لا يقوله إلا جاحد منكر والعياذ بالله، أما المقصود باللفظ الزائد عند العلماء والذي يذكرونه، حتى إن كثيرًا منهم يحرص على تسميته بحرف صلة، يعني: ولا يقول حرف زائد، حرف صلة يتوصل به إلى معنى معين، وكثير منهم يصرف المعنى للتوكيد في وجود الزيادة وغيرها، وهذه القضية -إن شاء الله- سنتعرض لها، إنما نعرف الآن أنهم لا يقصدون بالزائد أنه زيادة في المعنى، حاشا لله، وإنا يقصد به بالمصطلح ما يريدونه في علمهم؛ يعني أهل النحو عندما يقولون: زائد، يريدون به أنه لا يؤثر في الإعراب، أن ما بعده يُعرب حسب موقعه في الكلام، لا يريدون به أنه زيادة في المعنى، أو أنه يستغنى عنه، حاشا لله. المهم أننا ندعوك الآن لأن تنظر لبعض الحروف التي هي في عرف اللغويين من حروف الزيادة، بمعنى أنها جاءت في موضع ذكرت فيه وما بعدها أعرب حسب موقعه في الكلام، فضرب الشيخ هنا مثالين، قال في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159)، وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} (يوسف: 96) يقول الشيخ: فإن النحاة يقولون ما في الآية الأولى وأن في الثانية زائدتان أي في الإعراب، فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم، ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حُذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته.

هذه المسألة أيها الابن الحبيب تذكرنا بما قاله المنتجب صاحب (الفريد في إعراب القرآن المجيد) عندما تعرض لقضية الحرف الزائد فقال كلامًا بديعًا مؤداه: أنه لا يشعر بقيمة هذا الحرف في سياق الكلام إلا من يشعر بقيمة الوزن في سماع الشعر، بمعنى أن الذي يسمع الشعر وفطرته وسجيته شاعرية عندما يأتيه بيتٌ فيه كسر يقول: هنا كسر وربما لا يعرف سبب الكسر بطبيعته وبسجيته، فكذلك مستمع القرآن لو حُذف هذا الحرف الذي ادُعي زيادته أو أطلق عليه بالزائد- تجد أن المستمع الذي يطرب لسماع القرآن وأذنه ألفت سماع كلام الله -سبحانه وتعالى- تجده في هذا الموضع يشعر بخلل قد حدث، فإذا ما وُجد هذا الحرف وجدت الانسياب والجمال الذي يسير عليه النسق القرآني، هكذا مثّل الرجل رحمه الله. نرجع لكلام الشيخ يقول: فإن المراد بالآية الأولى تصوير لين النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" {فَبِمَا رَحْمَةٍ} جاء وصفًا لفظيّا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية، لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها وهو لفظ {رَحْمَةٍ} مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى. الآية الثانية: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف -عليه السلام- وبين مجيئه هذا؛ "أَنْ" التي وقعت بين "لَمَّا وجَاءَ" تصور لنا الفصل الزمني بين مجيء البشير ليعقوب -عليه السلام- بقميص يوسف -عليه السلام- للبعد بين مكان يوسف -عليه السلام- ومكان أبيه، هذا في مصر والآخر في فلسطين؛ فهذا المجيء بحرف أَنْ يصور لنا البعد بين المكانين وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب، تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره غنة هذه

النون في الكلمة الفاصلة وهي أن في قوله: "أن جاء" {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ} تفصل معك في السمع بين فَلَمَّا جَاء، هذا الفاصل بأن مع الغنة في النون يشعر لك بشيئين: بعد المسافة هذا شيء، وإشارة إلى البعد المكان بين يوسف ويعقوب -عليهما السلام- والإشارة الثانية في الغنة لطرب يعقوب -عليه السلام- بمجيء البشير بقميص يوسف؛ لأنه كما هو معلوم من سياق الآيات يعلم أن ابنه حي وأنه يجد ريحه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} (يوسف: 94). وعلى هذا يجري كل ما ظُن أنه في القرآن مزيد؛ فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها إنما هو نقص يَجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام، ويقضي فيه بغير علمه ولا بعلم غيره، الذي يدعي هذا الكلام يرد عليه القول بالزيادة كما قلت: أنه لا يقصد بالطبع زيادة في المعنى، حاشا لله. فهذا مظهر أيضًا من مظاهر النسق الصوتي. مظهر آخر جميل ذُكر في النسق الصوتي: وهو في استخدام الأسماء الجامدة داخل الجمل، أسماء ترتبها، أي فصاحة وبيان وبلاغة وروعة تجدها مثل الذي تجدها في تنسيق القرآن وترتيب الكلمات، كلمات تأتي إثر بعضها، وبها من البلاغة والروعة ما يتأمله ويتنبه إليه من تنبه، كما ذكر الإمام ابن تيمية -رحمه الله، هذا الترتيب وهذا النسق العجيب يُضرب له مثال بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} (الأعراف: 133). خمسة أسماء؛ "طوفان جراد قمل ضفادع دم" لو نظرت فيها تجد أن فيها الثقيل وفيها الضعيف، فيها الخفيف وفيها الثقيل، الخفيف مثل الطوفان الجراد

الدم، والثقيل إما لوجود حرف مضعّف مثل القمل أو لوجود حرف من مخارج ثقيلة مثل الضفادع- فتجد أن الكلمات لو رتبت على عكس هذا الترتيب أو قدم وأخر اسم مكان آخر لوجدت خللًا ظاهرًا في الترتيب، فهذا من بديع ما ينظر إليه في النسق الصوتي وفي تركيب الكلمات في القرآن الكريم؛ فإن أخفها في اللفظ الطوفان والجراد والدم وأثقلها القمل والضفادع، فقدم الطوفان لمكان المدّين فيه الطوفان طو/فا، وقدم كذلك حتى يأنس اللسان بخفتها، ثم الجراد وفيها كذلك مد، ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئًا بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت، لمكان تلك الغنة {الْقُمَّلَ}، ثم جيء بلفظة "الدم" آخرًا وهي أخف الخمسة وأقلها حروفًا؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب. هذا مثالٌ ذكره الرافعي، ولك أن تقيس عليه فيما ورد في القرآن من ترتيب كقوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 18) تقديم الأكواب لاشتمالها على المد وصرفها والإتيان الوسط بأباريق ممنوعة من الصرف والختام بالكأس لخفته، كذلك: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40) لو نظرت في هذه الآيات وتأملت تتابع الكلمات تجد سرّا لا يدركه إلا من يتذوق جمال اللغة في هذه الألفاظ. أيضًا لو نظرت في كلامهم على الآية الكريمة: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} (القصص: 38) تجد أيضًا مسألة النسق الصوتي تظهر ظهورًا بيّنًا غير ما أشار إليه علماؤنا الأجلاء من الشعور النفسي بفرعون وتصويره بهذه العبارة وبيان خفة عقله وسذاجته، وغير ذلك مما تخلصوا أو مما توصلوا إليه من مظاهر جمال في الآية- نستطيع أن نضيف وجهًا آخر في مسألة النسق الصوتي في الآية، وهو تأملك لقوله: لِي/يَا/هَامَا/ .. انظر: لِي/يَا/هَا/مَا/ هذا التركيب لا تجده في

أشعار العرب جميعها؛ أن تجد متحركًا ساكنًا متحركًا ساكنًا متحركًا ساكنًا متحركًا ساكنًا، الأسباب والأوتاد بما يحدث فيها لا يوفّر لك هذا التركيب، متحرك ساكن، هو الذي يطلق عليه السبب الخفيف لي/يا/ها/ما متحرك ساكن متحرك ساكن متحرك ساكن متحرك ساكن، انظر إلى وقعها ونسقها الصوتي وسط الآية، وهذا تفرّد أيضًا في إبراز النسق الصوتي في القرآن الكريم، وربما يأتي من يذكر وجهًا آخر في الآية نفسها؛ وهكذا. لماذا أيها الابن الحبيب هذا الذي نصل به في نهاية كلامنا عن الحروف وأصواتها اللغوية، هذا الذي لابد أن ننوه عليه بأن كل كلمة في القرآن ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه؛ لذلك نختم هذا الباب أو هذا الموضوع بعبارات جميلة من كلام شيخنا دراز -رحمه الله- وذلك تصديره لكلام عن هذه المسألة. انظر -رحمك الله- لكلام الرجل هذا الرجل الذي بهر الناس بكتابه (النبأ العظيم) كأنه لوحة فنية رائعة أدبية تعرض بيان القرآن وقيمته وإعجازه، عندما بدأ الحديث عن هذه المسألة وهي الحروف والأصوات اللغوية أو ما سماه بالقشرة السطحية للقرآن الكريم، التي تتركز في جمال الإيقاع وفي جمال التنسيق -تنسيق بين الألفاظ والإيقاع في الحروف- وما أشار إليه -رحمه الله، عندما بدأ يتحدث عن هذه المسألة يقول هذه العبارات التي أقرأها عليك لتنظر قيمة العلم يا بُني، وتنظر أهمية النظر لجهود السابقين، يقول الرجل -رحمه الله-: أما الآن، فقد والله طلبتَ مني جسيمًا وكلفتنا مرامًا بعيدًا، لمثله انتدب العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فحفيت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا له، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم. تأمل هذه العبارة، يشير إلى أن العلماء في هذه المسائل التي نطرحها من أوجه الإعجاز، إنما تنبهوا إلى قليل من كثير، وتنبهوا لما فتح الله به عليهم، فرأوه

وعبّروا عنه وأشاروا إليه، وفي القرآن من الأسرار أكثر مما قالوا بكثير، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله -سبحانه وتعالى، فهو أعلم بمراد كتابه -جل في علاه- ويبسط من العلم من قربه وشرفه بمُدارسة القرآن وبالنظر فيه، يبسط له ما شاء، وكله يندرج تحت قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85)، هذا بعض ما ظهر لنا في هذه المسألة. وننتقل إلى مسألة أخرى، تتعلق بالحروف أيضًا ولكنها من نوع آخر، بمعنى أن الحروف إذا نظرت إليها -أيها الابن الحبيب- تقسم عند العلماء إلى نوعين: حروف مباني: وهي ما يتكون منها الكلمات، وهي التي تناولنها في الدرس هذا وفي درسنا السابق، ومن بناء الكلمات والألفاظ، وحروف معاني: وهي الحروف التي جاء بها لمعنى وهي الحروف التي يهتم بها النحاة أكثر من اللغويين؛ لأنها تؤدي إلى معان وتؤثر في الإعراب، ولها دخل بالعوامل النحوية، فحروف المعاني كحروف الجر وحروف العطف وحروف النداء وإن وأخواتها وجوازم المضارع ونواصب المضارع كل ذلك يندرج تحت ما يسمى بحروف المعاني، هذه الحروف لها وظيفتان؛ وظيفة نحوية كما قلت لكم: ما بعدها منصوب أو مجرور أو مجزوم، وظيفة أخرى هي أسمى وأعلى وأدق وهي الوظيفة البلاغية التي يظهر من خلالها إعجاز القرآن الكريم وروعة البيان، وهذا الموضوع لنا فيه وقفة في درسنا القادم -إن شاء الله-سبحانه وتعالى- بالحديث عن حروف المعاني. وجزاكم الله خيرا.

الدرس: 7 حروف المعاني (1).

الدرس: 7 حروف المعاني (1).

حروف العطف (الواو والفاء).

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (حروف المعاني (1)) حروف العطف (الواو والفاء) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبعد: انتهينا إلى الحديث عن حروف المعاني، فمهدنا لها، وذكرنا الفرق بينها وبين حروف المباني؛ بأن حروف المباني هي التي يتكون منها الكلام، أما حروف المعاني فهي الحروف التي يؤتى بها لمعنى، وتكون رابطًا بين أجزاء الكلام، فهي تربط بين الأسماء والأفعال، ويجاء بها لمعنى. هذه الحروف هي مناط كبير من أساليب الفصاحة التي جاء القرآن الكريم بأبرع الأساليب في استخدامها، فإن هذه الحروف شغلت كثيرًا من العلماء، وصنفت فيها التصانيف؛ فصنف أبو الحسن الرماني كتابه في الحروف، وصنف كذلك المرادي كتابه (الجنى الداني) وصنف كذلك المالقي كتابه (رصف المباني) وصنف كذلك ابن هشام كتابه المشهور (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) وأفرد لحروف المعاني بابًا واسعًا في كتابه هذا، فهذه الحروف التي شغلت من اهتم باللغة وأبانوا وجوه الإعجاز في استخدامها في القرآن الكريم. وحروف العطف -كما تعرف- هي الحروف التي يطلق عليها النحاة عطف النسق؛ أي العطف بواسطة أداة تربط بين الكلمتين أو بين الجملتين، هذه الحروف يسمونها حروفًا عاطفة؛ أي تعطف بين ما قبلها وما بعدها في الحكم الإعرابي وفي المحل الإعرابي، هذه الحروف يقسّمها النحاة إلى نوعين: نوع يقتضي التشريك في اللفظ والمعنى، ونوع آخر يقتضي التشريك في اللفظ دون المعنى، أما ما يقتضي التشريك في اللفظ والمعنى فينقسم قسمين؛ قسم: يقتضي التشريك مطلقًا وهو الواو والفاء وثم وحتى، وقسم آخر: يقتضي التشريك بالقيد؛ بأنه

لا يقتضي إضرابًا، وهو أو وأم، فإذا خرج إلى الإضراب خرج عن العطف، والقسم الثاني هو الذي يقتضي التشريك في اللفظ دون المعنى، فيثبت لما بعده ما انتفى عما قبله، وذلك بل ولكن، أو يثبت لما قبله ما انتفى عما بعده، وذلك لا وليس. الخلاصة أنهم يذكرون في عد هذه الحروف أنها عشرة أحرف يؤتى بها للعطف. أكد المفسرون أن المفسر لابد أن يكون عالمًا بمعاني هذه الأدوات وبمعاني الحروف، قبل أن يتحدث في كتاب الله -سبحانه وتعالى. الواو يقولون: إنها لمطلق الجمع، فتعطف لاحقًا على سابق كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} (الحديد: 26) فإبراهيم -عليه السلام- لاحق لنوح -عليه السلام- أو تعطف سابقًا على لاحق كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} (الشورى: 3) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لاحق للأنبياء الذين أرسلوا قبله -صلوات الله وسلامه عليه- ومن بديع اجتماع الشيئين قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (الأحزاب: 7)، فبدأ المولى -سبحانه وتعالى- بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أتى بنوح -عليه السلام- وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم -عليهم السلام- فاجتمع عطف اللاحق على السابق وعطف السابق على اللاحق. و"أو" أنها تعطف متصاحبين؛ أي ليس فيهما سابق ولا لاحق، كقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} (العنكبوت: 15) أهم ما يميز هذه الواو أنها لا تقتضي الترتيب بين المتعاطفين قال تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43) ويستدل أهل الفصاحة والبلاغة بقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (الأعراف: 161) وجاء في موضع: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} (البقرة: 58) فلا يصلح إلا الواو في هذا الوضع دون أحرف العطف، فلا يقال: فادخلوا أو فقولوا أو ثم ادخلوا أو ثم قولوا، إنما عطف بالواو دون غيرها في الموضعين.

كذلك الواو من الحروف التي تعطف مشتركين، لا يُكتفى بالكلام على أحدهما يمثل لها بقولهم: اختصم محمد وعلي، أو اشترك علي وأخوه؛ فإن الاشتراك والاختصام لا يكون إلا بين اثنين، ومن ذلك قوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (التوبة: 102) فالخلط كان بين العملين؛ لذلك خطّأ الأصمعي امرأ القيس عندما قال: "بين الدخول فحومل" فقال: "الصواب أن يقول: "وحومل". ولكنه رد عليه بأشياء من تناوب هذه الحروف ومن التأويل، أو التضمين الذي يسوغ لمن يستخدم الحرف أن يأتي بحرف يؤدي أداء أخيه مما ينتسب إلى فصيلة واحدة من الأدوات. كذلك الواو تعطف بين المترادفين: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86)، {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (طه: 107) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 157) فالعطف هنا لا يكون إلا بالواو، كذلك تعطف عاملًا محذوفًا، مع بقاء معموله هذه قضية نحوية يستشهد لها بآيتين بقول الله -سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} (الحشر: 9) فالدار تُتبوأ، أما الإيمان لا يُتبوأ، فيقولون: التقدير تبوءوا الدار واعتقدوا الإيمان، وكذلك في قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (يونس: 71) فلا يقال: أجمِعوا شركاءكم، إنما يقال: اجمعوا شركاءكم، فالتقدير: أجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم، هذا أيضا يكون بالعطف بالواو، كذلك جواز العطف بها على الجوار، وذلك في القراءة المشهورة المتواترة "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ" بجر الأرجل، وكذلك في القراءة الأخرى المتواترة {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 18) .... {وَحُورٌ عِينٌ} (الواقعة: 22) فهذا دليل على جواز العطف على الجوار وإن اعترضه بعض النحاة ورفضوه، إلا أنه مخرج سهل لهاتين القراءتين المتواترتين.

كذلك الواو يفصل بين المتعاطفين بها بالظرف كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} (يس: 9)، وكذلك تقع إما بينها وبين معطوفها، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3)، كذلك تقع لا بينها وبين المعطوف بها: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197)، {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} (المائدة: 2)، كذلك تعطف الخاص على العام {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (الأحزاب: 7) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ونوح -عليه السلام- من النبيين، فعطفت الخاص على العام، والمقابل تعطف العام على الخاص، كقوله تعالى في دعاء نوح -عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (نوح: 28). كذلك هذه الواو تأتي بمعنى "ثم" ويستدل على ذلك حكاية عن فرعون {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (الشعراء: 49) وفي موضع الأعراف: {لأقطعن أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأعراف: 124) ومن اللطائف التي تنبه إليها أهل البلاغة في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) يقول الزمخشري: "الأولى التي وقعت أي التي وقعت بين الأول والآخر، الأولى للجمع بين الأولية والآخرية، والثالثة الجمع بين الظهور والخفاء، أما الثانية الواو الوسطى التي وقعت بين الآخر والظاهر- فأتت للجمع بين مجموع الصفتين الأوليين والأخريين، وهذا من بديع استخدام الواو كأداة للعطف أو من حروف العطف". هل تقع الواو زائدة؟ فاستدل بعضهم بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (الصافات: 104،103) قال: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ،

فالواو هنا أتت زائدة وكذلك في قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} (البقرة: 259) قالوا: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، هذا القول الذي قيل في زيادة الواو هو محل أخذ ورد، والأولى رده لأن القول بالزيادة هنا ليس كالقول بالزيادة في المواضع التي سنتطرق إليها في قضية التأكيد بالحرف الزائد. حرف الفاء: الأساس أنها تدل على الترتيب، بمعنى أن ما بعدها يأتي بعد ما قبلها، وهذا الترتيب يكون للتعقيب، بمعنى السرعة، يعني يليه مباشرة، ليس هناك فترة زمنية بين المتعاطفين: {أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (عبس: 21) فإن الإقبار يكون بعد الموت مباشرة، كذلك تفيد الفاء التسبب؛ أي أن ما قبلها يكون سببًا لما بعدها، ويستدل له بقوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (القصص: 15) فإن هذا الوكز كان سببًا في موت الرجل، وكذلك قول الله -سبحانه وتعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (الأعلى: 6)، وقوله تعالى: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ} (الصافات: 148)، وقوله تعالى: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} (الحجر: 34)، وقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (البقرة: 37)، فهذه الكلمات كانت سبب التوبة، والخروج كان بسبب أنه -لعنه الله- رجيم. وكذلك الإيمان كان سببا في تمتيعهم وإقراء المولى -سبحانه وتعالى- لرسوله الكريم عن طريق جبريل -عليه السلام- كان سببا في عدم نسيانه -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه لا ينسى ما يُتلى عليه وما يُوحى إليه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. هذان المعنيان هما الأكثران والغالبان في استخدام الفاء، أما باستقراء أو بالنظر في كتاب الله -سبحانه وتعالى- توجد معان أخرى للفاء، استنبطها العلماء وحاولوا تعريفها وتبيينها؛ ليتضح من خلالها أن الفاء لا يُشترط أن تكون بمعنى الترتيب والتعقيب أو بمعنى التسبب دون غيرهما من المعاني، فقالوا: هناك عندنا ما تُسمى بالفاء

الفصيحة، الفاء الفصيحة -كما ذكر الزمخشري- لا تقع إلا في الكلام البليغ، وعرّفت بأنها التي تكون جوابًا لشرط مقدر مع الأداة؛ بمعنى أنك تجد في الكلام حذفًا، هذا الحذف عبارة عن شرط مقدر حُذف هو وأداته وبقي الجواب، وبالمثال يتضح المقال، قال الله -سبحانه وتعالى: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} (الروم: 56) أي: إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث، كذلك قول الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (الماعون: 1، 2)، فإذا أردت ربطًا بين الآيتين ستجد تقديرًا وهو: إن أردت معرفته {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}. والصورة الأخرى للفاء الفصيحة هي: أن تعطف على محذوف، أي هناك حذف بينها وبين ما قبلها، كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: 54) أي ففعلتم ذلك فتاب عليكم، وكقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة: 60) أي فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، وقوله تعالى حكاية عن بني إسرائيل: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا} (البقرة: 71) أي فحصّلوا البقرة فذبحوها. صورة أخرى من صور الفصيحة وهي وقوعها بعد أمر أو نهي مقدر كقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} (المائدة: 19) أي لا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير. النوع الثاني من الفاء هو "الفاء التفريعية": التي تدل على التفريع كقوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (يس: 72)، كذلك الفاء التفسيرية، وهي التي تفسّر ما قبلها: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} (الأعراف: 136)، {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}

(النساء: 153)، كذلك الآية التي اعتُرض بها على أن الفاء تفيد الترتيب في قوله تعالى: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} (الأعراف: 4) قالوا: مجيء البأس يكون قبل الإهلاك، والبأس هو الذي يؤدي إلى الهلاك، فليس هنا ترتيب، وكذلك قالوا في آية: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} فإن هذا الإغراق هو الانتقام، وتُحمل هذه الآيات على أن الفاء فيها تفسيرية؛ أي فسرت صورة الإهلاك وصورة الانتقام، وربما يرى البعض أن الفاء في هذا الموضع تكون على معنى الإرادة، أي في قوله سبحانه: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، ومنهم من ذهب إلى أن الفاء فيها للترتيب الذكري، فالمذكور بعدها مرتب على ما قبلها. كذلك قالوا بزيادة الفاء في قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}، وقوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} (ص: 57)، وهو مما لا داعي له لصحة تخريج الآية على غير الزيادة، ولعدم الفائدة التي تترتب على القول بالزيادة، كما سنرى في حروف الجر مثلا أنها تؤدي إلى فائدة عظيمة في المعنى. وكذلك من معاني الفاء " الترتيب الذكري" كقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (هود: 45)، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (النحل: 98)، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (الواقعة: 35، 36) فدلت على الترتيب الذكري بمعنى أن المذكور بعدها مرتب على ما قبلها؛ أي ترتب على نداء نوح -عليه السلام- أنه يدعو ربه بأن ابنه من أهله، {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} (هود: 45) فإنه يسأل ربه -سبحانه وتعالى- نجاةَ ابنه بعاطفة الأبوة.

حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا).

وأخيرًا، قالوا: الفاء تأتي بمعنى ثم: أرباب الفصاحة والبلاغة يقرون أن الفاء فيها مهلة، ولكنها ليست كـ ثم، يعني الفاء ترتيب وثم ترتيب، ويفرقون بينهما بأن الفاء للتعقيب وثم للتراخي، أي هناك مهلة وفترة. والتدقيق أن الفاء أيضا فيها مهلة وفيها فترة، ولكنها ليست كثم، فبحد عبارة الزمخشري: "وتنفرد ثم بالمهلة وقد يكون مع الفاء مهلة"، الآية قول الله -سبحانه وتعالى: {ثُمّ إِلَى رَبِّكِمْ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزمر: 7)، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأنعام: 60) {فَيُنَبِّئُكُمْ} {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} فتعاورت الفاء وثم على الموضعين، ويستدل بوقوع الفاء محل ثم، بقوله تعالى أيضا: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (المؤمنون: 14) ومعلوم أن هناك فرقا زمنيا بين هذه المراحل في تكوين الجنين. حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا) ننتقل الآن للحرف الثالث وهو "ثم": "ثم" اشتهر أنها للترتيب والتراخي، فتأتي للزمان المتراخي أي فيه مهلة بينه وبين ما قبله كقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (عبس: 22)، وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الزمر: 44)، {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} (البقرة: 92)، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (الشعراء: 81)، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} (البقرة: 31) فهنا دلالة في أن "ثم" تستخدم للتراخي.

فـ "ثم" تأتي أيضا للترتيب الذكري: فلا تفيد التراخي والمهلة ولا تفيد أن الثاني بعد الأول، بل ربما يكون قبلها، ويُستدل على ذلك بقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 153)، وكذلك قوله -سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: 1)، وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} (الأنعام: 2) فقضاء الآجال قبل الخلق، كما صح في الحديث القدسي، وكذلك قوله -سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر: 7، 8) فالسؤال عن النعيم قبل الرؤية، وكذلك ثم تستخدم بمعنى الواو، قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 3)، وقال -سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهٌَ} (البقرة: 199)، وقال -سبحانه وتعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (السجدة: 8، 9) وقد تكون على أصلها معطوفة على قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (السجدة: 7 - 9) فخُرجت على قولين أن ثم بمعنى الواو أي وسواه ونفخ فيه من روحه أو أنها معطوفة على قوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}. كذلك ثم تأتي لمعنى الاستبعاد: أي استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها، وعدم مناسبته لها ويعبر عنها بتفاوت المرتبة بينهما، قال تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: 85)، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 3) فبين التوبة وطلب المغفرة بون بعيد. كذلك تأتي للتراخي في الرتبة لا في الزمان؛ يعني لا يُشترط أن تكون "ثم" تدل على التراخي في الزمن فقد يكون التراخي تراخيًا في الرتبة، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ *

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية: 25، 26)، وقال -سبحانه وتعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (الأعلى: 12، 13) فالترجح بين الموت والحياة أفظع من إصلاء الجحيم - والعياذ بالله. حتى: و"حتى" لم ترد عاطفةً في كتاب الله -سبحانه وتعالى- ومن الجميل أن فريقًا من النحاة لا يثبتون حتى من الحروف العاطفة. بعد ذلك نأتي لـ "أو وأم"؛ "أو": إما أن تقع بعد الطلب أو تقع بعد الخبر؛ فإن وقعت بعد الطلب تفيد إما التخيير أو الإباحة، وإن وقعت بعد الخبر تفيد الشك ومعان أخرى، انظر إلى قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (التوبة:80)، وقوله -سبحانه وتعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86)، وقوله -سبحانه وتعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النساء: 71) لو نظرت في الآيات الكريمة تجد امتناع الجمع بين الشيئين؛ بين الاستغفار وعدمه وبين التحية بأحسن أو مجرد الرد وبين النفور: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النساء: 71) متفرقين أو مجتمعين. فهناك فرق بين التجمع والافتراق؛ فلذلك قالوا: تدل على التخيير إذا امتنع الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ومثّلوا له بقولهم: تزوج زينب أو أختها، فلا يجوز أن تجمع بين الأختين، وقالوا: إذا جاز الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، فهي تدل على الإباحة، ويمثّلون له بقولهم: جالس العلماء أو الزهاد،

فإنه يجوز أن تجالس الفريقين، ومما يحتمل ذلك في كتاب الله -سبحانه وتعالى- قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) فيجوز لك أن تقتصر على الواحدة أو على ما ملكت اليمين، أو أن تجمع بينهما؛ أن تتزوج واحدة وما معك من ملك اليمين، فكان ذلك دليلًا على أنها تفيد الإباحة، هذا بالنسبة لـ "أو" في وقوعها بعد الطلب. أما إذا وقعت بعد الخبر لها معانٍ، تفيد الشك كقوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (الكهف: 19)، وكذلك تفيد الإبهام كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24) وذلك إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى، فهذه الآية الكريمة يستشهد بها على ذلك فإن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يعلم من هو الذي على هدى، ولكن استخدمت "أو" هنا للإبهام على السامع. كذلك تعطي معنى التفصيل، كقوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} (البقرة: 135) {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: 52) فتفصيل الأقوال التي قيلت: {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} بعضهم قال: ساحر، وبعضهم قال: مجنون، وهم قالوا القولين؛ قالوا بأنه ساحر وقالوا بأنه مجنون، فأفادت تفصيل قولهم. كذلك تفيد "أو" التقسيم أو التنويع، كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (يونس: 12)، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184). كذلك تفيد الإضراب كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) أي بل يزيدون، الإضراب أي أن تكون بمعنى بل، وكقوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (البقرة: 200) أي بل أشد ذكرا، وقوله تعالى: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (النحل: 77) بل هو أقرب.

وكذلك تكون بمعنى الواو، إذا عطفت ما لابد منه ويحتملها، كقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74)، {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} (آل عمران: 167)، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: 39) قال: ساحر ومجنون، بدليل قوله تعالى حكاية عنه: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 109)، وقوله كذلك: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء: 27) فهنا يقولون: إن "أو" بمعنى الواو، ويمثّل أيضًا له بقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (العلق: 11، 12) أي وأمر بالتقوى. لعلك -أيها الابن الحبيب- لاحظت مما ذكرت لك من معاني "أو" أن الحرف قد يكون له أكثر من معنى، فهذا هو في الحقيقة سر الإعجاز في استخدام هذه الحروف؛ أن الحرف يأتي في موضع واحد يحتمل كذا وكذا وكذا، مما يؤدي إلى توفير المعاني مع اتحاد اللفظ، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي، وأمثّل لك بهاتين الآيتين قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (البقرة: 235) "أو" هنا تحتمل التفصيل وتحتمل التخيير وتحتمل الإباحة وتحتمل الإبهام على المخاطب، كذلك في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (البقرة: 200) فتحتمل التخيير أو الإباحة أو الإضراب. كذلك من اللطائف أن هذا الاستخدام يؤدي إلى ما ينبني عليه من أحكام، استخدام هذا الحرف هل هو للتخيير أم للإباحة أو للتقسيم، هذا يؤدي إلى ثمرة نعرفها في الخلافات الفقهية بين الفقهاء: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196) فهنا الذي يقع في محظور من محظورات الإحرام أيكون الأمر بالنسبة له على التخيير بين أي كفارة من الثلاث إما أن يصوم أو يتصدق أو يذبح، وهذا

المقصود بالنسك، كذلك قول الله -سبحانه وتعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة: 89)، وكذلك كفارة اليمين كما أخبر المولى سبحانه وتعالى. بعد ذلك الحرف "أم": "أم" تأتي إما متصلة أو منقطعة، والمتصلة هي التي تسبقها همزة التسوية، قال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (المنافقون: 6)، وقال: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} (إبراهيم: 21)، وكذلك التي يتقدم عليها همزة يُطلب بها وبـ أم التعيين؛ أي يراد بها الإجابة عن شيء معين، وتسمى المعادلة؛ لأنها تعادل الهمزة في إفادة التسوية، وذلك كقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} (النازعات: 27)، وكقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 59)، وهناك فرق بين التي يتقدمها همزة التسوية والتي يتقدمها همزة يطلب بها وبـ أم التعيين، هو أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحق جوابًا كما ذكرنا من الآيات، والواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين؛ أما التي يُراد بها التعيين فقد تقع بين مفردين وتستحق الجواب؛ لأنه يُطلب بها الجواب. أما "أم" المنقطعة فهي تأتي على ثلاثة أنواع: إما أن تكون مسبوقة بخبر كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (السجدة: 2، 3). أو أن تكون مسبوقة بهمزة لغير استفهام كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} (الأعراف: 195)،

أو أن تكون مسبوقة باستفهام بغير الهمزة، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16). ومعنى أم المنقطعة الذي لا يفارقها هو الإضراب، فهي تفيد الإضراب، كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} (الرعد: 16) فإذا تأملت الآية الكريمة تجد في قوله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} في معنى: بل هل تستوي الظلمات والنور و {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} بل جعلوا لله شركاء لأنهم اعتقدوا هذا الاعتقاد الباطل، والله -سبحانه وتعالى- يخبرهم عن تصوير الإيمان والكفر بالظلمات والنور والأعمى والبصير، أو أن تكون متضمنة لمعنى الاستفهام الإنكاري، قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور: 39) فالتقدير: بل أله البنات ولكم البنون؟ هذا بالنسبة لـ "أم" ويشار إلى أنها قد ترد محتملة للاتصال والانقطاع، ويُستدل لذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 80) فيجوز في "أم" أن تكون معادلة، بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير لحصول العلم بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة كذلك. بعد ذلك عندنا الحرف "بل": و"بل" من الحروف التي لا يجزم باستخدامها عاطفة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- فابن مالك يرى أنها وقعت في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (الأعلى: 14 - 16)، وفي قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} (المؤمنون: 62، 63) وأنكر ابن هشام

ذلك؛ لأنها فيما ذكر حرف ابتداء وليست عاطفة، فالتقدير: بَلْ أنتم تؤثرون الحياة الدنيا، وكذلك {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} فالعاطفة لابد أن يليها مفردٌ، سواء سبقت بنفي أو نهي أو لم تسبق، وعلى ذلك الصحيح أنها لم تقع عاطفة في كتاب الله عز وجل. كذلك حرف "لكن" الذي يأتي لعطف المفردات بشرطين: أن يتقدمها نفي أو نهي، وألا تقترن بالواو فلا تكون ولكن، وعلى ذلك ففي قوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111)، وفي {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) الصحيح أن المنصوب بعد لكن هو خبر لكان المحذوفة، ولكن كان رسول الله، ولكن كان تصديق الذي بين يديه. وأخيرًا نأتي لحرف "لا": وهذا الحرف أيضًا استخدامه كحرف عطف له شروط: أن يتقدمها إثبات وألا تقترن بعاطف وأن يتعاند متعاطفاها، أي يختلف ما قبلها عما بعدها، فلا يقال: جاءني رجل لا زيد، وعلى هذا فالصحيح أيضا أنها بهذه الشروط لم تستخدم عاطفة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- وكذلك الحرف حتى. ولك لتبين سر الإعجاز أن تلمح شيئين؛ أولًا: تنوع المعاني في استخدامها؛ فتارة تكون بمعنى كذا وبمعنى كذا وتارة يحتمل الموقف أو الموضع الواحد أكثر من معنى.

وثانيًا: القاعدة التي ذكرناها آنفا أنك إذا قلت بأن الفاء بمعنى ثم أو ثم بمعنى الواو؛ فإنك لا يسعك أن تضع ما هي بمعناها، وهذا سر من أسرار الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؛ أن هذا الحرف إن كان بمعنى كذا فلا يستطيع ما هو بمعناه أن يؤدي الغرض أو أن يؤدي الوظيفة التي أداها هذا الحرف في نسقه، وهذا ما كان مبنيّا على ما ذكرناه من التنسيق الصوتي ومن الإطار -الشكل- الذي خرج في صورته كلام الله -سبحانه وتعالى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 حروف المعاني (2).

الدرس: 8 حروف المعاني (2).

حروف النداء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (حروف المعاني (2)) حروف النداء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وآله وصحبه وسلم، وبعد: ننتقل بعد ذلك إلى حروف النداء: حروف النداء عند العرب ستة: "أيا" و"هيا" وينادى بها البعيد، والهمزة و"أي" وينادى بها القريب، و"يا" للبعيد والقريب، و"وا" للندبة، هذا المشهور في تقسيم حروف النداء، ولكن الناظر في كتاب الله -سبحانه وتعالى- لا يجد حرفًا استخدم للنداء سوى حرف يا، ولذلك كان القول: بأنه إذا كان حرف النداء محذوفًا لا يقدر سوى يا، فلا يصح تقدير أي حرف سوى يا، أما الحرف الآخر الذي ذهب البعض إلى أنه وقع في كتاب الله وهو النداء بالهمزة، وذلك على قراءة الكسائي: "أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" "أمَنْ هُوَ قَانِتٌ" قالوا: نداء يا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما، وقالوا: إن الهمزة للاستفهام، فكان ذلك احتمال بأن تكون للنداء أو للاستفهام. حرف النداء "يا" استخدم في كتاب الله -سبحانه وتعالى- دون سائر حروف النداء، وكان له بعض السمات التي أحصاها شَيْخُنا محمد عبد الخالق عضيمة، في كتابه (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) من ذلك: أنّ جميع الأنبياء عليهم السلام ناداهم الله سبحانه وتعالى بأسمائهم عدا رسولنا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- فقد نودي بوصفه تشريفا وتكريمًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (الأحزاب: 1) {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} (المائدة: 41) {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِرُ} (المدثر: 1)، {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ} (المزمل: 1). كذلك إن لفظ "رب" يكثر في ندائه حذف حرف النداء، فلم تثبت "يا" مع لفظ "رب" إلا في موضعين وهما: قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30) وقوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُون} (الزُّخرُف: 88).

كذلك استُخْدم حرف النداء مع غير العاقل كثيرا في القرآن الكريم إما على سبيل المجاز، وإما على أن الله سبحانه وتعالى يخلق في هذه المخلوقات ما يجعلها تفهم خطابه سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} (سبأ: 10) {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم} (الأنبياء: 69) {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي} (هود: 44). كذلك يكثر حذف حرف النداء بدلالة السياق كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (يوسف: 29) وقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَن} (الرحمن: 31) وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (النور: 31) وقد اجتمع الحذف مع أيها ومع العلم، في قوله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} (يوسف: 46) ومما أشار إليه أيضًا أن حرف "يا" إذا وليه "ليت" أو وليه فعل كقراءة: "ألا يا اسجدوا" في سورة النمل أن حرف "يا" في هذه الحالة يكون للتنبيه على الصحيح، وليس للنداء. يشير -رحمه الله- إلى الخلاف الواقع في هذه المسألة في نحو قوله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون} (يس: 26) {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) وقراءة "ألا يا اسجدوا" فهنا للنحاة مذهبان أو لأهل التوجيه الآية مذهبان: المذهب الأول: أن هناك نداء محذوف، ودخل عليه حرف النداء؛ لأن حرف النداء يختص بالاسم. المذهب الثاني: أن "يا" هنا ليست للنداء، وإنما هي للتنبيه. وهو المذهب الذي اختاره الشيخ وعليه المحققون من المتأخرين. بقي أن يُشار أو أن نتحدث في النداء على أشياء يستشفها المرء من استخدامات حرف النداء مثال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} (البقرة: 104) هذه الآية الكريمة تجد أنها دائمًا تقع في أول السور،، ولم تقع وسط الآيات، إلا في آية واحدة في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب: 56). كأن ذلك اختصاص للنبي -صلى الله عليه وسلم- فبندائه صلوات الله وسلامه عليه. وكما قلت لكم: إن مثل هذا من اللطائف التي كما قيل عنها تُشَمّ ولا تؤكل، فهي لطيفة يشار بها. ويشار كذلك من لطائف استخدامات النداء، أنّ اقتصار كتاب الله -سبحانه وتعالى- على الحرف يا فيه إشعار بأنّ هذا الحرف يُستخدم في سائر الاستخدامات دون غيره، فكأنّك به تجده للقريب محل، أي والهمزة، ولتنظر مثلًا هذا الحوار بين إبراهيم -عليه السلام- وأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 45) {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} (مريم: 43) إلى آخر سياق الآيات فهذا النداء به من الشفقة والحنان، والمودة من إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه ما تراه. وترى المقابلة في الاستخدام: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} (مريم: 46) فنداه باسمه، ولم يناده بـ"يا بني" مثلًا مقابلة لما نادى به إبراهيم -عليه السلام. كذلك تجد هذا الحرف يستخدم للبعيد كما استخدم للقريب: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين} (القصص: 20) فكأنك تراه ينادي على قومه فيما يذكره المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية، ويصيح بهم ويطلب منهم أن يتبعوا من أرسلهم الله -سبحانه وتعالى- وكذلك: {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين} (القصص: 20).

حروف النفي.

إذا رأيت سياق الآيات في سورة القصص يتبين لك أن الرجل ينادي على موسى عليه السلام، ويُرشده إلى الخروج قبل أن يصيبه الضرر من فرعون وقومه. هذا بالإضافة إلى النظر لاستخدامات هذا الحرف في القرآن الكريم، تبين لك أنه حرف يسد مسد سائر حروف النداء؛ حتى الخلاف المعلوم في وضع الندبة أنها تختص بها "وا" دون غيرها كقولنا: "وا عمراه" "وا أسفاه" "وا حسرتاه" إلى آخره تجد أنها جاءت في القرآن الكريم: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزُّمَر: 56) فهذا الاستخدام أيضًا يرجح من ذهب إلى استخدام غير "وا" في الندبة بدلالة السياق؛ فهو يتحسر على نفسه. نكتفي بهذا المقدار في الكلام عن حروف النداء. حروف النفي وننتقل إلى حروف النفي: حروف النفي ستة: يشترك اثنان في نفي الحال، وهما: "ما، وإن" واثنان في نفي المستقبل وهما: "لا، ولن"، واثنان في نفي الماضي وهما: "لم ولما"، هذا التقسيم الذي اختاره صاحب التخمير، أو شارح المفصل للزمخشري، وكما معلوم أن تقسيم هذه الحروف إلى أبوابها هو يعتبر ما تفرد به الزمخشري في تقسيمه في (المفصل) لحروف المعاني؛ بخلاف ما قَسّم أصحاب كتب الحروف عندما وزعوها تبعًا لحروفها وتركيبها: أحادية، وثنائية، وثلاثية، ورباعية. أو تبعًا لحروف المعجم: الهمزة المفردة، ثم الهمزة مع حرف آخر، ثم الباء هكذا إلى نهاية حروف المعجم. فما قسم أحد هذا التقسيم تبعًا للأبواب إلا الزمخشري في مفصله، مما يدل على حاسته البلاغية، وحِسّه اللغوي في تقسيم الحروف بأنها تنسب لبابها؛ فاختار

هذا التقسيم، وكان لمن بعده آراء مع هذا التقسيم؛ لكن أولًا نقف مع الفروق بين هذه الحروف التي تشترك في معنى، أي: "لم، ولما" يشتركان معًا في نفي الفعل المضارع، وقلب زمنه إلى الماضي. فعندما نقول: "لم يحضر" فقد نفينا حضوره، و"لما يحضر" كذلك ننفي حضوره، فما الفرق إذًا بين لم ولما؟ يوجز الفرق بينهما في هذه العبارة الدقيقة: أن لم لنفي فعل، ولما لنفي قد فعل. أي: عندما يقال لك: هل حضر محمد؟ تقول: لم يحضر. وإذا قيل لك: قد حضر محمد وأردت النفي قلت: لما يحضر محمد. أي: لما يحضر بعد محمد، فهذا ما فرق به بإيجاز بين لم ولما. وتفصيل ذلك ذكرها البعض بأن بينها فروق تتركز في الآتي: - أنّ "لم" تقترن بأداة الشرط، و"لما" لا تقترن بأداة الشرط، قال تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} (المائدة: 73) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} فاقترنت لم بإن، ولا تقترن لما بإن فلا يقال: إن لما، كذلك هذا الفرق الأول. الفرقُ الثاني: أنّ لم تَحْتَمِلُ الاتصال والاستمرار إلى زمن التكلم، وتحتمل الانقطاع قبل زمن التكلم، قال تعالى: {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (مريم: 4) فهذا مستمرٌ إلى حال دعائه -عليه السلام- ربّه، والانقطاع كقوله تعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} (الإنسان: 1) أما "لما" فمنفيها مستمر بها إلى الحال، أي: إلى زمن التكلم.

وقال تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحُجُرات: 14) فنفى الله -سبحانه وتعالى- عنهم دعوى الإيمان: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا} وأثبت لهم الإسلام: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ} أي: إلى أن يدخل الإيمان قلوبكم عند ذلك يصح إيمانكم، فهذا فرق أيضًا بين "لم" و"لما". الفرق الثالث: هو أنّ منفي "لما" متوقع ثبوته بخلاف منفي "لم" قال تعالى {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَاب} (ص: 8) فهم لم يذوقوه إلا أنه متوقع، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} (البقرة: 214) وقال سبحانه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} فذلك فيه دلالة على إيمانهم فيما بعد. وأنّ إيمانهم كان متوقعًا، أمّا منفي "لم" فلا توقع فيه؛ فهو ثابت ومستمر، قال سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (الإسراء: 111) وقال سبحانه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد} (الإخلاص: 3) وعاقب ابن هشام بأنهما في نفي المستقبل قد يكون هذا متوقعًا، أي: ما بعد "لما" بخلاف "لم" أما إذا نفي الماضي فهما سيان في نفي التوقع؛ فإذا كان الزمن الذي نُفي هو زمن مضى بقرينة السياق وبقرينة المعنى؛ فإنّ ذلك يشترك فيه لم ولما دون توقع بينهما. نأتي للحرفين التاليين اللذين هما لنفي الحال، وهما "ما" و"إن" فـ"ما" تعمل بوظيفة نحوية معروفة؛ فتعل عمل ليس مع الجملة الاسمية، وهي لغة الحجاز، هي لغة قريش، وجاء بها قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2) بكسر التاء في أمهاتهم على أنها منصوبة لكونها خبر "ما" العاملة عمل ليس، وفي قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) كذلك نصبت "بشرًا" على أنها خبر لـ"ما" العاملة عمل

"ليس" ولذلك شروط ولعملها، شروط متوفرة في كتب النحو وليست من موضوعنا. ولا تعمل "ما" مع الجملة الفعلية قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ} (البقرة: 272) فيظل ما بعدها مرفوعا، ولا أثر لما عليه. أما وظيفتها من حيث المعنى؛ فإنّها إذا نفت المضارع تجعله خالصًا للحال، عند جمهور العلماء كقوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} (النساء: 147) وكقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) البعض اعترض ذلك بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي} (يونس: 15) فإن الزمن هنا لم يخلص للحال بل هو مستمر، وهذا النفي مستمر بعده. أما "إن" النافية فهي تدخل على الجملة الاسمية، وعلى الجملة الفعلية، واجتمع ذلك في قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون} (يونس: 66) فإن "إن" تكون بمعنى "ما" وجاءت مع الجملتين في قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} (النجم: 23) هي جملة فعلية: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون} جملة اسمية. وأمثلة ذلك كثيرة فمثال دخولها على الجملة الاسمية: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُور} (المُلك: 20) {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} (المجادلة: 2) وكذلك قوله سبحانه: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) أي: وما

أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، وكذلك في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: 71) فالجملة اسمية. ومثال دخولها على الجملة الفعلية قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} (التوبة: 107) {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا} (النساء: 117) {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا} (الإسراء: 52) {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (الكهف: 5) أي: ما يقولون إلا كذبًا. أما قول بعض أهل العلم بأن "إن" النافية لا تأتي إلا وبعدها "إلا" فذلك قول غير دقيق رده ابن هشام وحجته واضحة بكلام الله -عز وجل- بقوله تعالى: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (يونس: 68) أي: ما عندكم، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} (الجن: 25) أي: ما أدري. وكقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} (الأنبياء: 111) أي: وما أدري لعله فتنة لكم، فجاءت بمعنى ما، أي: نافية مثل "ما" ومع ذلك لما يتبعها "إلا" كما اشترط من اشترط ذلك، وآخر حرفين للنفي هما: "لا" و"لن" لا لنفي المستقبل، و"لن" لنفي المستقبل، إلّا أن "لن" تُفيد تأكيد النفي، واعتُرض على ذلك ولكن ذلك هو السائد عند أهل هذا الفن، في أن "لن" تُفيد تأكيد النفي، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (الكهف: 60) وقوله تعالى في سورة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} (يوسف: 80) فجاءت "لا أبرح" وجاءت "لن أبرح" وكلاهما لنفي المستقبل إلّا أنّ لن أشد توكيدًا في نفيها. واختلف في كونها تفيد التأبيد، فكون "لن" تفيد التأبيد هذا قول مرجوح ومردود بأدلة قوية؛ لأن "لن" تتبعها حتى، وحتى تفيد الغاية فلو كانت تفيد التأبيد ما

تبعها حتى كما مثلنا بقوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي} كذلك لفظ "لم" جاء معه الزمان محدودًا قال سبحانه وتعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: 26) فخصص باليوم، ولو كانت للتأبيد ما كان هناك تخصيص، وكذلك أنها تقترن بكلمة "أبدًا"؛ فكونها للتأبيد وتقترن بكلمة "أبدًا" ذلك تكرار لا مسوغ له أو لا داعي له. قال تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (البقرة: 95) فوجود أبدًا يدل على أنّ "لن" لا تُفيد التأبيد كما زعم من زعم ذلك. بقي أن نذكر أنّ بعضَهُم ذَهَب إلى أنّ لنْ تُفيد الدُّعاء، واستدل بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِين} (القصص: 17) على معنى "فلا تجعلني ظهيرًا للمجرمين" وهذا القول أيضًا يُنظر فيه، ولكنه ذُكر في استخدام لن بمعنى الدُّعاء بدلًا من النفي. هذا الفرق بين "لا" و"لن" في الاستخدام أما "لا" فتستعمل كثيرًا للنفي، وتأتي بصور شتى فتأتي عاملة عمل "إنّ" فيكون لها اسم وخبر، واسمها يكون منصوبًا وخبرها مرفوعًا، ولم ترد في القرآن ناصبة، وإنما أتى اسمها مبنيًّا في محل نصب كقوله تعالى: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (يوسف: 92) {قَالُوا لاَ ضَيْرَ} (الشعراء: 50) وكقوله تعالى: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} (الأحزاب: 13). كذلك تكون عاملة عمل ليس، وهذا له شروط معروفة في كتب النحو، وتأتي أيضًا للنفي على غير هذا؛ فيكون ما بعدها جملة اسمية أو فعلية، وإذا كانت جملة اسمية قد يأتي صدرها معرفة كقوله تعالى: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} (يس: 40) ويكون اسمها نكرة كقوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُون} (الصافات: 47) وتأتي نافية لجملة فعلية فعلها ماض كقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} (القيامة: 31).

حرفا الشرط: "إن" و"لو".

وكذلك تنفي المفردات؛ فإذا نفت المفردات وجب تكرارها كقوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} (البقرة: 68) وكقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيم} (الواقعة: 43 - 44) وكقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَة * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَة} (الواقعة: 32 - 33). وكقوله تعالى: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} (النور: 35). أما إذا كانت نافية لجملة فعلية فعلها مضارع؛ فلا يجب تكرارها وتنفي مباشرة كقوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ} (النساء: 148) وكقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الأنعام: 90)، هذا بالنسبة لاستخدامات "لا، ولن" في حال النفي، وهذه هي حروف النفي الستة "ما، وإن، ولا، ولن، ولما، ولم". حرفا الشرط: "إنْ" و"لو" ننتقل بعد ذلك لحرفي الشرط: الشّرطُ -كما تعرفون- هذا من الأشياء التي تختص بها الجملة الفعلية؛ فالشرطُ له أدوات هذه الأدوات إما حروف، وإما أسماء، فموضوعنا حول الحروف، وحروف الشرط التي اتفق على حرفيتها نص الزمخشري على أنهما حرفان: "إن" و"لو" بالطبع هناك خلاف في "إذ ما" كأداة من أدوات الشرط الجازمة. أما الجازمة ومتفق على حرفيتها اتفاقًا فهي "إن"، و"لو" لا تجزم وهو متفق على حرفيتها، فأوجز أو اختصر الشرط في حرفين هما: "إن" و"لو" فنأتي أولًا للكلام عن الحرف إنْ باعتباره أساسًا في معنى الشرط؛ فحرف إنْ يأتي جازمًا كقوله تعالى: {إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال: 38) {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} (الأنفال: 19) وآيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى.

وكذلك إن يأتي بعدها "لا" ولا تؤثر في كونها شرطية كقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} (التوبة: 40) {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ} (التوبة: 39) {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِين} (هود: 47) {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} (يوسف: 33) هكذا تزاد لا ولا تؤثر في كونها شرطية، وكذلك تدخل عليها ما النافية للتأكيد كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} (طه: 123). "إنْ" تتميز بأنها تدور حول المعاني المحتملة المشكوك في كونها، فلا يقال: إن طلعت الشمس آتيك. إلا إذا كان اليوم به غيم، ويقال: إن مات فلان يحدث كذا؛ لأن الموت، وإن كان متحقق الوقوع إلا أنه غير معلوم وقته، فهذا ما ميز به النحاة أن عن غيرها بإفادتها هذا المعنى، وهو معنى الشّك، فهُنا يأتي دور من يتناول النصّ القُرآني، والآيات القرآنية؛ ليجيب عن هذه القاعدة أطلقت حول "إنْ" بأنّها تفيد الشك. هنا يعرض ابن هشام آيتين كانتا مجالًا خصبًا لنِقاش هذه المسألة في كون "إنْ" تُفيد الشك أم لا تفيده، وهو ما يقال اعترض بكذا، عندنا قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} (المائدة: 57) وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: 27) هنا معنى الاحتمالية، أو معنى أنه أمر مشكوك فيه طبعًا لا يقبل، وهو فاسد مع هاتين الآيتين الكريمتين؛ فكيف تُخَرّج؟ ذهب البعض إلى أنّ "إن" هنا بمعنى إذ يعني: واتقوا الله إذ كنتم مؤمنين، إذ شاء الله دخولكم المسجد الحرام دخلتموه آمنين، هذا على رأي، وهذا على مذهب الكوفيين، أما جمهور أهل العلم يرون إن هنا في الآيتين على معناها من معنى الشرط بينما أتت في قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} أنه شرط جيء به للتهييج والإلهاب، ومثلوا بمثال جميل كما تقول لابنك: إن كنت ابني فلا تفعل كذا.

فهذا يحركه لأن يفعل ما تطلبه، فهذا مثال فهم به قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} أي: إن كنتم مؤمنين اتقوا الله سبحانه وتعالى، على سبيل الإثارة والتهييج والإلهاب والتحريك للتقوى بدافع الإيمان. أما آية المشيئة {إِن شَاء اللهُ آمِنِين} فهذه يجاب عنها بأشياء كثيرة فمنها: أن ذلك تعليمٌ للعباد كيف يتكلمون إذا أخبروا عن المستقبل أنه إذا أراد أن يتحدث عن المستقبل؛ فعليه أن يُقَدّم المشيئة، ويقول: إنْ شاء الله، ومنها: أن أصل ذلك الشرط، ثُمّ صَارَ يُذكر للتبرك به، أنّ ذَلكَ أصْلُه شرط، ولكنه ذُكر للتبرك بهذا القول الكريم: إن شاء الله. أو أن المعنى لتدخلن جميعًا إن شاء الله ألا يموت منكم أحد قبل الدخول، يعني: أن ذلك خبر من الله -سبحانه وتعالى- أنّ هؤلاء الصّحب الكِرام سيدخلون المسجد الحرام، ولن يموت أحد قبل هذا الدخول، أو أن هذه العبارة من كلام الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين أخبرهم بالرؤيا التي رآها {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} (الفتح: 27) هذا ما يتعلق بالكلام عن إن الشرطية. أما "لو" فهي حرفُ شرط في المستقبل إلّا أنّها لا تَجْزِم، فهذا فرق بينها وبين "إن" في العمل وهو أن لولا تجزم وإن تجزم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} (النساء: 9) أي: وليخش الذين إن شارفوا وقاربوا أن يتركوا، وهنا يلجأ إلى القول بالمشارفة على الترك، وليس بالترك الواقع؛ لأنّ الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك؛ لأنهم بعد تركهم الذرية يكونون أمواتًا؛ فلا يتوجه إليهم خطاب.

حرفا الاستفهام "الهمزة" و"هل".

حرفا الاستفهام "الهمزة" و"هل" وننتقل للحديث عن حرفي الاستفهام، وهما "الهمزةُ" و"هل": الاستفهام كما تعلمون هو طلب الجواب؛ فالذي يستفهم يطلب جوابًا عن سؤاله، وهذا على حقيقته لا يقبل حمله على كلام الله -سبحانه وتعالى- ومن ثم يخرج الاستفهام عن حقيقته، إلى معان مجازية؛ اهتم أهل هذا الشأن ببيان معاني أداتي الاستفهام من الحروف، وهما "الهمزة" و"هل" وأفرد على سبيل المثال الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) فصلًا وتحدث فيه عن الهمزة، وكذلك اهتم أهل كتب المعاني ببيان معاني "الهمزة، وهل" في استخداماتها في كتاب الله سبحانه وتعالى. فنبدأ في الكلام عن "الهمزة" لأنها أعمُّ في الاستفهام من "هل" فهي تقع مواقع الاستفهام كلها، بخلاف "هل" فيُستفهم بها عن الإيجاب، وعن النفي: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} (الأعراف: 28) {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (الحُجُرات: 12) وهذا في الموجب وأيضًا تستخدم مع النفي: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد} (الفجر: 6) {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِين} (التين: 8) {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزُّمَر: 36) {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (النور: 22). والاستفهام بـ"هل" لا يكون مع النفي، وإنما يكون مع الموجب، أما الهمزة تنفرد عن هل بهذه الميزة، وكذلك الهمزة تقع قبل الواو، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم} (البقرة: 100) وتقع قبل الفاء قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (المُلك: 22) أو ثم قال تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ} (يونس: 51).

ولا تقع "هل" في هذه المواقع، كذلك الهمزة تُحذف إذا دل عليها دليل، بخلاف "هل" وقد حمل بعضهم عليها على ذلك، قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيل} (الشعراء: 22) أي: أتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل، فحذفت الهمزة لدلالة عليها بسياق الكلام. هذا ما تختلف فيه الهمزة عن هل أما معانيها التي هي موضوعنا؛ فهي تأتي لمعنى التسوية، والتسوية بمعنى أنها تسبق بكلمة سواء، أو ما يؤدي معناها، يعني ليست قاصرة على أنْ تُسبق بكلمة سواء؛ فإذا سُبقت بكلمة نحو "ما أبالي" "ما أدري" "ليت شعري" فهذه الكلمات تؤدي أيضًا معنى التسوية مع استخدام الهمزة، قال تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (المنافقون: 6) فهذه الهمزة الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها، هذه الهمزة تسمى همزة التسوية، ولا يشترط أن تسبق بكلمة سواء بعينها. فهنا المعنى سواء عليك استغفارك أو عدمه. المعنى الثاني من معاني الهمزة: هو أنها تفيد معنى الإنكار: الإنكار نوعان: هناك إنكار إبطالي، وهناك إنكار توبيخي، فهي تفيد معنى الإنكار الإبطالي، ومعنى الإنكار الإبطالي: أنّ ما بعدها غير واقع، وأن مدعيه كاذب قال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا} (الإسراء: 40) وقال سبحانه: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُون} (الصافات: 149) وقال سبحانه: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُون} (الطور: 15) وقال سبحانه: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} (الزُّخرُف: 19) وكذلك في قوله سبحانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (الحُجُرات: 12) وقوله سبحانه: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} (ق: 15).

كل ذلك إنكار إبطالي لماذا؟ لأن ما بعد الهمزة غير واقع، وأن الذي ادعى هذا الكلام هو كاذب، فهؤلاء الذين ادعوا أن الله -سبحانه وتعالى- اتخذ من الملائكة إناثًا، وأنه اصطفاهم بالبنين هؤلاء كاذبون، وكذلك كل من افترى كذبًا؛ فكُذب بهذا الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} (الزُّخرُف: 19) فهم لم يشهدوا خلق الملائكة، وإنما ادعوا ذلك ادعاء، وهم كاذبون فيه، هذا ما يسمى بالإنكار الإبطالي. أما الإنكار التوبيخي فما بعد الهمزة واقع، ولكنّ فاعله ملوم أو يستحق أن يعاتب أو أن يوبخ، فقال سبحانه وتعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون} (الصافات: 95) وقال سبحانه: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ} (الأنعام: 40) وقال سبحانه: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُون} (الصافات: 86) وقال سبحانه: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِين} (الشعراء: 165) فهم فعلوا هذه الأشياء، ويستحقون أن يوبخوا عليها؛ فمن ثَمّ تُسمى الهمزة هنا للإنكار التوبيخي. وقد تأتي الهمزةُ للتهكم كقول قوم شعيب له عليه السلام: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} (هود: 87) {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ} هم يتهكمون عليه -عليه السلام. وكذلك تُستخدم الهمزة للأمر قال سبحانه وتعالى: {أَأَسْلَمْتُمْ} (آل عمران: 20) أي: أسلموا، {َقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ} أي: قل لهم: أسلموا؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا. فالهمزة هنا استفهام دلالته الأمر.

وكذلك تُستخدم الهمزة على معنى التعجب استفهام غرضه التعجب، كقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} (الفرقان: 45) وتُستخدم أيضًا بمعنى الاستبطاء؛ فإن يستفهم بها عن أمر تباطأ المخاطب في فعله، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (الحديد: 16). وأخيرًا تستخدم الهمزة للتقرير، والتقرير هو: حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته أو نفيه، هنا يجب أن يليها الشيء الذي تقرره به، يعني حمل المخاطب على معنى يريده السامع؛ فتذكر الشيء الذي تريده أن يقر به كقوله سبحانه وتعالى: {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيم} (الأنبياء: 62) فهم عندما وجهوا هذا الخطاب لإبراهيم -عليه السلام- لا يسألون عن الفاعل، فهم يعلمون أن الفاعل هو إبراهيم عليه السلام {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُون} (الأنبياء: 60 - 61). فهنا طرحوا هذا السؤال على إبراهيم -عليه السلام- ليأخذوا منه إجابة، هذه الإجابة يستطيعون بها أن يفعلوا ما يريدون فعله معه، فهنا لو لم يعلموا الفاعل كان هذا استفهامًا حقيقيًّا، ولو كانوا يعلمون فلعلمهم أن إبراهيم عليه السلام هو الذي فعل ذلك، وجهوا إليه السؤال لحمله على ما يريدون. ومن أمثلته أيضًا في القرآن: قول الله -سبحانه وتعالى- لعيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} (المائدة: 116) فالله -سبحانه وتعالى- يعلم أن عيسى -عليه السلام- لم يقل هذا القول، وإنما هم افتروا عليه هذا الافتراء، فسأله المولى -سبحانه وتعالى- في هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة، كي يكون على مرأى ومسمع

من الناس جميعًا؛ ليُجيب -عليه السلام- بما أجاب؛ فيكون في ذلك حجة على بني إسرائيل الذين اتهموه هذا الاتهام الباطل. هذا بالنسبة للهمزة أما "هل" فهي حرف الاستفهام الثاني، ويختلف عن الهمزة أيضًا بأشياء: أولها: أنّ "هل" تقع بعد أم المنقطعة بخلاف الهمزة، قال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16). ثانيًا: أن يُراد بالاستفهام بها النفي؛ بخلاف الهمزة ومن ثم كثر نقضها بـ"إلا" فهل وإلا استفهام غرضه النفي، كقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُون} (الأحقاف: 35) أي: ما يهلك إلا القوم الفاسقون: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} (الأعراف: 53) {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا} (الإسراء: 93) وقوله سبحانه: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان} (الرحمن: 60) {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُور} (سبأ: 17) فهل هنا يراد بها النفي. وكذلك جاءت بمعنى النفي دون نقضها بـ"إلا" يعني الكثير نقضها بـ"إلا" وأتت في مواضع يراد بها النفي، إلا أنها لم تنتقض بإلا كقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظ} (الحج: 15) {هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزُّمَر: 9) {هَلْ يَسْتَوُونَ} (النحل: 75) فكل ذلك محمول على معنى النفي. ولـ"هل" معان أخر في استخداماتها: فهي تأتي بمعنى الأمر أيضًا كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون} (المائدة: 91) أي: انتهوا {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُون} (هود: 14) أي: أسلموا {قَالَ هَلْ

أَنتُم مُّطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم} (الصافات: 54 - 55) قال: اطلعوا فاطلعوا فرآه في سواء الجحيم، فالاستفهام هنا غرضه الأمر، كذلك تأتي بغرض التوبيخ قال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يونس: 34) هذا يُسمى بالإنكار التوبيخي الذي ذكرناه قبل مع الهمزة، وقال سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف عليه السلام قائلًا لإخوانه: {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} (يوسف: 89) فهنا يوبخهم -عليه السلام- على فعلتهم التي علموها من فعلهم بيوسف عليه السلام، وهو صغير. كذلك قوله سبحانه وتعالى: {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُون} (الشعراء: 93) وتأتي هل أيضًا للتقرير كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم} (فاطر: 3) وقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُون} (المطفِّفين: 36) وتأتي هل للتمني كقوله سبحانه وتعالى: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} (الأعراف: 53) وتأتي للتأدب وحُسن السؤال كقوله سبحانه: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (الكهف: 94). وتأتي للنصح والإرشاد كقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ} (طه: 40) وكقول موسى عليه السلام لفرعون: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} (النازعات: 18) وكقول إبليس لآدم عليه السلام: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} (طه: 120)

بقي في معاني "هل" شيء، تأتي "هل" بمعنى قد، فتستخدم للتحقيق بدلًا من "قد"؟ هذه مسألة مشهورة بين المفسرين، واستدلوا لها بآيات عديدة حتى إنّ بعضهم قال: إن كل "هل أتاك" بمعنى قد أتاك {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (النازعات: 15) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِين} (الذاريات: 24) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة} (الغاشية: 1) أنّ هذه الآيات تحمل على معنى قد، ويُحمل كذلك أيضًا قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} (الإنسان: 1) أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر. وبعضهم حمل قول يوسف -عليه السلام-: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} (يوسف: 89) أي: قد علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه، إنه متحقق من أنهم يعلمون فعلتهم التي فعلوها. وأخيرًا قد تأتي "هل" استفهامية لفظًا خبرية معنى، وهذا الذي يقال: أسلوب إنشائي لفظًا وخبري معنى، في قول الله -سبحانه وتعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم} (الصف: 10) فأتى المولى سبحانه وتعالى بالاستفهام؛ لكونه أوقع في النفس مع ما هو معلوم من أنّ الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله، هو التجارة التي تنجي من العذاب الأليم؛ فأتى الخبر في صورة الإنشاء. هذه بعض اللطائف التي أظهرها بعض العلماء في استخدام حرفي "الهمزة، وهل" كحرفين للاستفهام في أساليب القرآن الكريم، وفي كتاب الله -سبحانه وتعالى- وهذه هي موضوعنا الذي يهمنا، وهو أنّ حروف المعاني باستخدامها هذا وجه من وجوه

الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، تجعل كل من أراد أن يدخل إلى كتاب الله، وأن يتحدث في تفسيره لا بد أن يقف على هذا العلم، ويُدرك هذا الشيء، فهو مما يلزم المفسر. وعبارة الزمخشري المشهورة: "إنّ المُفسر لو اعتلك اللغة بفكيه، وكان أنحى من سيبويه لزمه أنْ يعرف هذين العلمين علم المعاني، وعلم البيان؛ فإن هذه العلوم هي التي تمكن من فهم كلام الله سبحانه وتعالى، وأساليبه". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 حروف المعاني (3).

الدرس: 9 حروف المعاني (3).

حروف التوكيد، وحروف الجر والقسم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (حروف المعاني (3)) حروف التوكيد، وحروف الجر والقسم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وبعد: نستكمل حديثنا عن: حروف المعاني: حروف التوكيد، وحروف الجر: منها ما يؤكد الجمل، ومنها ما يُؤكد الأفعالَ، ومنها ما يؤكد المُفردات، وجُملة حروف التوكيد: "إنّ وأنّ، ونون التوكيد واللام" إن" و"أن" من أدوات التوكيد التي تؤكد بها الجمل: {وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر} (العصر: 1 - 2). {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} (البقرة: 143) {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم} (البقرة: 173). هذه الآيات الكريمة تؤكد مضمون ما بعدها من جملة اسمية دخلت عليها إنّ فأكدتها، فاستخدم بها أسلوب التوكيد، وكذلك أنّ والفرقُ بينهما هو أنّ إنّ تَقَعُ في بداية القول، أو ما يَحِلُّ محله، أما "أنّ" فتَقَعُ موقِعَ المُفرد الذي يُؤول بمصدرٍ؛ بمعنى أنها لا يُؤتى بها أول الكلام، وإنّما تكون وسطًا. ونون التوكيد يمتنع مجيئها مع الفعل الماضي، إلا ما سُمع من بعض كلامهم، ولكنّ الجمهور على امتناع توكيد الماضي، ويجوزُ مطلقًا أن تؤكد الأمر، ولها مع المضارع أحكام؛ فيؤكد بها الفعل المضارع وجوبًا بشروط كقوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} (الأنبياء: 57) فأكد الفعل "أكيد" بنون التوكيد الثقيلة؛ لوقوعه بعد القسم، واتصاله به بلا فاصل، فأكد باللام ونون التوكيد الثقيلة. كَذَلك يُؤَكّد الفعل المضارع بما هو قريب من الوجوب، كقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (فُصِّلَت: 36) فينزغنك مؤكد بالنون الثقيلة، وكذلك يؤكد جوازًا بعد الطلب وما في معناه؛ كقوله تعالى: {وَلاَ

تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (إبراهيم: 42) هذا بالنسبة لنون التوكيد. أما "اللام" وهي ما تُسمى بلام الابتداء، وتكون لتوكيد مضمون الجملة، وتدخل مع "إنّ" فلا تليها بل تقع بعد اسمها، وإن جاءت على الاسم لا يكون ذلك إلّا إذا تقدم الخبر على الاسم، وذلك إذا كان الخبر شبه جملة كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} (النازعات: 26). وأيضًا تَقَعُ على الخبر كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (الرعد: 6) {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع} (الطور: 7) {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} (إبراهيم: 39) وتدخل أيضًا على خبر إن إذا كان جملة فعلية كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} (النحل: 124) {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} (يوسف: 13) وتدخل أيضًا على الخبر شبه الجملة كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} (القلم: 4) {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر}. هذا بإيجاز الكلام عن حروف التوكيد؛ لأننا سنتعرض لها تفصيلًا. أما حُروف الجَرّ: فهي أثرى الحروف في هذا الباب، واهتم أهل اللغة بالحديث عن معانيها، فكُلّ حرف له معنى، ويأتي بمعانٍ أخر؛ ولا ضابط في ذلك |لا السياق -كما سنتحدث بعد بإذن الله عن هذه المسألة. من حروف الجر: "من" ولها معانٍ منها: 1 - معنى التبعيض كقوله تعالى: {حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) التبعيض أي: تكون بمعنى بعض، فالمعنى: حتى تنفقوا من بعض ما تحبون، أو حتى تنفقوا بعض ما تحبون.

2 - تأتي "من" لبيان الجنس كقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} (الكهف: 31) من ذهب أي: جنسها من الذهب، وكقوله تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} (الأعراف: 132) وكقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وكقوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ} (الكهف: 31) وهناك خلاف بين النحاة في هذا المعنى، ولكن هذا المعنى ثابت في كتب التفسير عن حرف الجر من. 3 - كذلك من تأتي لابتداء الغاية المكانية؛ وذلك باتفاق كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) فمن دلت على ابتداء الغاية المكانية، وكذلك أيضًا تدل على ابتداء الغاية الزّمانية بقوله تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} (التوبة: 108). 4 - كذلك تأتي "من" بمعنى التنصيص على العموم، أو تأكيد التنصيص عليه، وهذه ما تُسمى بمن الزائدة. وقضية الزيادة لنا فيها درس مستقل بإذن الله تعالى. من هذه التي يُطلق عليها النحاة كلمة الزائدة يشترطون لها شروطًا: "أن تسبق بنفي أو نهي أو استفهام، وأن يكون مجرورها نكرة، وهذا المجرور بها إمّا أن يكون فاعلًا كقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) أي: ما يأتيهم ذكر، وكقوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} (المائدة: 19) أي: ما جاءنا بشير، وكذلك إذا وقع المجرور بها مفعولًا كقوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ} (مريم: 98) أي: أحدًا، وكقوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} (الذاريات: 57) أي: رزقًا. وكقول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38) أي: إلهًا.

وكذلك المجرور يكون مبتدأ كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم} (فاطر: 3) فخالق هنا وقعت في محل مبتدأ، وجرت بمن الزائدة، وكقوله تعالى: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} (الأنعام: 148). 5 - وتأتي بمعنى البدل كقوله تعالى: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} (التوبة: 38) أي: بدل الآخرة. 6 - وتأتي من بمعنى الظرفية كقوله تعالى: {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} (فاطر: 40) أي: في الأرض كقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة: 9) أي: في يوم الجمعة، وتأتي من أيضًا بمعنى التعليل كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نوح: 25) أي: بسبب خطيئاتهم أغرقوا. من حروفِ الجَرّ التي لها أكثر من معنى أيضًا "حرف اللام" فحرف اللام يأتي بمعنى الملك كقوله تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (البقرة: 284) وتأتي بمعنى شبه الملك أو التمليك، كقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (النحل: 72) وتأتي أيضًا بمعنى الاختصاص كقوله تعالى: {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} (يوسف: 78) {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} (النساء: 11). وكقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد} (العاديات: 8) والقراءة المتواترة: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (السجدة: 24) وقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) ففي هذه المواضع تأتي اللام بمعنى التعليل.

والخَامِس: هو أن تكون بمعنى التوكيد، وهذه ما يُسمونها بالزائدة، وحَمَل عليها بعضهم قوله تعالى: {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} (النمل: 72) أي: ردفكم؛ فالظاهر في هذه الآية -والله أعلم- أنّ المعنى بتضمين ردف اقترب، وليست زائدة. والسادس: تقوية العامل؛ وهذا في مواضع معينة ذلك إذا دخلت على المفعول به، وتقدم المفعول على العامل كقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون} (يوسف: 43) فيقولون: إن الأصل إن كنتم تعبرون الرؤيا؛ فدخلت اللام على كلمة الرؤيا على سبيل تقوية العامل؛ لأنه تأخر عن المعمول، أو إذا كان العامل فرعًا في العمل، يعني اسمًا مشتقًّا يَعْمَلُ عَمَل فعله، كقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91) أي: مُصدقًا ما معهم، وكقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد} (هود: 107) أي: فعال ما يريد. وتأتي اللام بمعنى انتهاء الغاية، وهذا بمعنى إلى أي توافق إلى في المعنى، كقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (لقمان: 29) أي: إلى أجل مسمى، وكقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (الزلزلة: 5) أي: أوحى إليها، وكقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} (الأنعام: 28) أي: إلى ما نهوا عنه. وتأتي اللام بمعنى توكيد النفي، وهي ما تُسمى بلام الجحود {لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (النساء: 137) {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} (الأنفال: 33) أي: المسبوقة بـ"لم يكن" أو "ما كان" وهذه الفعل بعدها يكون منصوبًا بأن مضمرة، وأنْ وَمَا دخلت عليها يكون مجرورًا باللام. والثامِنُ أن تأتي للصيرورة، أي: بمعنى المآل، وحملوا عليه قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (القصص: 8) فهم لم يلتقطوا

موسى -عليه السلام- ليكون لهم عدوًّا وحزنًا، وإنّما التقطوه ليكون ولدًا لهم، أو لينفعهم: {عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (القصص: 9) لكن المآل صار إلى أنه صار حزنًا وعدوًّا لفرعون وقومه. وكذلك تأتي اللام بمعنى في بمعنى الظرفية أي: توافق في، ومنه قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (الأنبياء: 47) أي: في يوم القيامة، وقوله تعالى: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} (الأعراف: 187) أي: في وقتها وأيضًا قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) أي: في حياتي. وتأتي أيضًا اللام بمعنى البعدية، أي: بمعنى كلمة بعد كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (الإسراء: 78) أي: بعد دلوك الشمس، وتأتي اللام بمعنى الاستعلاء، وتكون بمعنى على كقوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} (الإسراء: 107) أي: على الأذقان، وكقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنبِهِ} (يونس: 12) أي: على جنبه، وأيضًا تأتي بمعنى على مجازًا كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) أي: عليها. وأخيرًا تأتي اللام بمعنى عن، وهي التي يُقال لها أنها تفيد المجاوزة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (الأحقاف: 11) {لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: قال الذين كفروا عن الذين آمنوا. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف: 38) أي: عن أولاهم، {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} (هود: 31) ولا أقول عن الذين تزدري أعينكم، وضابط هذه اللام أنها تدخل على غير المقول له.

من حروف الجر التي لها معان كثيرة: حرف الجر الباء؛ فالباء تأتي بمعنى التعدية، أي: تُحول الفعل من حال إلى حال، كقوله تعالى: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} (البقرة: 17) أي: أذهب الله نورهم؛ فالباء هنا أفادت تعدية الفعل اللازم ذهب بالحرف، وكذلك تأتي الباء بمعنى التبعيض كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان: 6) أي: منها. وتأتي بمعنى المصاحبة {وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ} (المائدة: 61) أي: مع الكفر، وكقوله تعالى: {اهْبِطْ بِسَلاَمٍ} (هود: 48) أي: اهبط مع سلام. وكذلك تأتي بمعنى المجاوزة، وقلنا المجاوزة أن تكون بمعنى عن، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الفرقان: 59) أي: فاسأل عنه خبيرًا، وكذلك تأتي الباء بمعنى الظرفية، أي: بمعنى "في" كقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} (القصص: 44) أي: في جانب الغربي. وتأتي بمعنى الغاية أي: موافقة إلى، كقوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} (يوسف: 100) أي: أحسن إلي. وتأتي أيضًا بمعنى البدل، وتأتي بمعنى الاستعلاء كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون} (المطفِّفين: 30) أي: مروا عليهم، وكقوله تعالى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} (آل عمران: 75) أي: على قنطار. وتأتي بمعنى السببية كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} (المائدة: 13) أي: فبسبب نقضهم، وكقوله تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 40) أي: بسبب ذنبه، وكقوله تعالى: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (البقرة: 54) أي: بسبب اتخاذكم العجل.

وتأتي بمعنى التأكيد، وهي أيضًا الزائدة، كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) أي: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، وكقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} (النساء: 79) وكقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25) وكقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} (الحج: 25) أي: ومن يرد فيه إلحادًا. وأيضًا حرف "في" وله معان منها: الظرفية، المكانية. كقوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْض} (الروم: 3) والظرفية الزمانية، كقوله تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 4) وتأتي "في" بمعنى الظرفية المجازية، والظرفية المجازية التي ليست على حقيقة معنى الظرف، كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} (البقرة: 179). وتأتي في مرادفة إلى؛ أي: بمعنى إلى كقوله تعالى: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} (إبراهيم: 9) وتأتي زائدة، وأجاز ذلك بعضهم في قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا} (هود: 41) أي: اركبوها. وتأتي "في" بمعنى السببية كقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيم} (النور: 14) أي: بسبب ما أفضتم فيه، وكقوله تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يوسف: 32) أي بسببه، وتأتي في بمعنى المصاحبة كقوله

تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ} (الأعراف: 38) أي: مع أمم، وكقوله حكاية عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (القصص: 79) أي: مع ما تزين به. وتأتي في بمعنى الاستعلاء كقوله تعالى: {لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) أي: على جذوع النخل، وهنا للزمخشري، وغيره رأي في أن الحرف على حقيقته؛ لأنه أبلغ في النكاية وتصوير العذاب، أن يكون التصليب في الجذوع، وليس على الجذوع. وتأتي أيضًا في بمعنى المقايسة، كقوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل} (التوبة: 38) ومعنى المقايسة هو دخولها بين مفضول سابق، وفاضل لاحق، هذا بالنسبة لحرف الجر "في". وأيضًا حرف الجر "على" فمعناه الأصلي أو المعنى الأساسي لاستخدامه هو الاستعلاء كقوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُون} (المؤمنون: 22) وهذا الاستعلاء يكون حقيقة كالآية المذكورة، ويكون مجازًا كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (البقرة: 5) وكقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} (القلم: 4) وكقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة: 253). وتأتي على بمعنى الظرفية كقوله تعالى: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} (القصص: 15) أي: في حين غفلة وتأتي أيضًا بمعنى المصاحبة؛ بمعنى مع في كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (الرعد: 6) أي: مع ظلمهم، ولها معان أخر؛ فتأتي

بمعنى اللام، واستشهد له بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 185) أي: لما هداكم، وتأتي بمعنى عند كقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} (الشعراء: 14) أي: عندي وتأتي بمعنى من كقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون} (المطفِّفين: 2) أي: من الناس. وكذلك حرف الجر "عن" له معان منها البعدية كقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَق} (الانشقاق: 19) أي: حالًا بعد حال، ومنها: معنى الاستعلاء كقوله تعالى: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} (محمد: 38) ومعنى التعليل كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} (هود: 53) أي: لأجل قولك، وكذلك حرف الكاف يأتي بمعنى التشبيه، كقوله تعالى: {وَرْدَةً كَالدِّهَان} (الرحمن: 37) ويأتي بمعنى التعليل، كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 198) ويأتي بمعنى التوكيد، والآية المشهورة التي دار حديث العلماء عنها في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} (الشورى: 11). كذلك عندنا حروف الجر "إلى، وحتى" وهما يأتيان بانتهاء الغاية في المكان أو الزمان، وشاهد المكان قوله تعالى: {مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} وشاهد الزمان قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (البقرة: 187) وقوله تعالى: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} (القدْر: 5).

وكذلك عندنا حروف "الواو، والتاء" وهي حروف تستخدم للقسم، وشواهدها مشهورة {وَالْعَصْر} (العصر: 1) {وَالْفَجْر} (الفجر: 1) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (الشمس: 1) والتاء {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} (الأنبياء: 57) {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (يوسف: 85) والفَرْق أنّ الواو لمُطلق القسم، والتاء لا يُقسم بها إلّا على اللفظ الجليل سبحانه وتعالى. هذا ما عرضنا له من معاني حروف الجر، وهو باب واسع، وأردت أن أعرض هذه الشواهد، وهذه النماذج لاستخدامات حروف الجر، على ما فيها من حوارات، ومن كلام بين العلماء في المعاني الذي يؤدي بنا إلى طرح مسألتين في غاية الأهمية، تناولها العلماء في هذه المعاني أولها: هل ينوب حرف عن حرف؟ كما مثلنا وذكرنا في الأمثلة السابقة؛ نجد العلماء يقفون موقفين، هناك من يرفض أن ينوب حرف عن حرف، ويحمل جميع الحروف على معنى أصلي، وغيرها يؤوله على هذا المعنى أو يصرفه إليه، وهُناك فريق آخر يثبت هذا التناوب مطلقًا، والحقيقة أن كلا القولين بهما نظرٌ؛ لأنّ العُلماء الأجلاء الذين أنكروا، ومثلوا ببعض الأمثلة، أننا إذا فتحنا المجال لهذه القضية، ولتناوب الحروف جاز لأحد أن يقول: ذهبت إلى فلان. ثم يقول: أردت ذهبت معه، وإلى غيره ذلك< لأنه يضع حرفًا مكان حرف، على معنى يريده ويدعي أنه يريد كذا. والأمر في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن قضية تناوب الحروف، وقضية أن الحرف يأتي لأكثر من معنى، هذه القضية أساسها السياق، ومَجَالُها كتب التفسير التي

كيف كان استخدام حروف المعاني وجها من وجوه الإعجاز اللغوي؟.

شهدت لهذه المعاني، وأقوال العلماء فيها لم تكن على إطلاق أن الحرف يأتي لأكثر من معنى، وإنما الأساس هو السياق الذي يرد فيه الحرف، وهذا وجه من وجوه الإعجاز في استخدام الحرف. والمسألة الثانية هي: قضية حروف الزيادة، وقضية حروف الزيادة نكتفي فيها الآن بأن نقول: "إنّ الزّيادة المقصودة لا تعني زيادة في اللفظ، ولا في المعنى، وإنّما هو مصطلحٌ يَضعُه النحاة، يَدُلّ على أنّ الحرف لا يؤثر في الإعراب". كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي؟ نأتي الآن إلى القسم الثاني من الدرس وهو: الكلام عن سر الإعجاز، أو كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؟ وهذا ما أشار إليه المدققون كابن الأثير في كتابه (المثل السائر) عندما عقد فصلًا في الحروف العاطفة والجارّة، وبيّن فيه: أنّ كلامه لا ينصب على الناحية النحوية، ولكنه عقد هذا الفصل؛ لأن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها، فيجعلون ما ينبغي أن يجر بـ"على" مجرورًا بـ"في"، وأن هذه الأشياء فيها دقائق وأسرار. وبدأ -رحمه الله- يعرض لنا نماذج من حروف العطف؛ فأتى بقوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} (الشعراء: 79 - 81) فالمولى -سبحانه وتعالى- استخدم في هذه الآيات الثلاث ثلاثة أحرف للعطف: "الواو والفاء وثم" فالأول عطفه بالواو، التي هي

للجمع، وتقديم الإطعام على الإسقاء، والإسقاء على الإطعام جائز؛ لأنّ الواو كما قلنا لمطلق الجمع، فتقدم سابق على لاحق، أو لاحق على سابق؛ فهذا جائز لولا مراعاة حسن النظم في الآية الكريمة. ثم عطف الثاني بالفاء؛ لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، فالإنسان في حياته إما أنه معافى، وإما أنه مريض، لا فترة بين العافية والمرض؛ فمن ثَمّ عُطف بالفاء. وعطف الثالث بـ"ثم" لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان، ولهذا جيء في عطفه بـ"ثم" التي هي للتراخي. فيستدل بقوله أنه لو قال قائل في موضع الآية "الذي يطعمني، ويسقيني، ويمرضني، ويشفيني، ويميتني، ويحييني" كان كلامه كلامًا تامًّا، إلّا أنّ هذا الكلام لن يكون بهذا الوجه من العرض، ومن الأسلوب، ومن النظم لكلام الله سبحانه وتعالى. واستدل أيضًا بقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَه * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه} (عبس: 17: 22) يقول: ألا ترى أنه لما قال: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} كيف قال: {فَقَدَّرَه} ولم يقل: "ثم قدره" لأن التقدير لما كان تابعًا للخلقة، وملازمًا لها عطفه عليها بالفاء، وذلك بخلاف قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه} لأن بين خلقته وتقديره في بطن أمه، وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزمنًا؛ فلذلك عطفه بـ"ثم". وعلى هذا جاء قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه} لأنّ بين إخراجه من بطنه أمه وبين موته تراخيًا وفُسحة، وكذلك بين موته ونشوره أيضًا؛

ولذلك عطفها بـ"ثم"، ولما لم يكن بين موت الإنسان، وإقباره أي: دخوله القبر تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء. فبين -رحمه الله- في هذين النموذجين كيف كانت الدقة في استخدام الحرف في موضوعه، ولا يجوز أن يوضع حرف آخر مكانه، وأتى بشاهد لطيف من قوله تعالى في قصة مريم -عليها السلام: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} (مريم: 22 - 23) استشهد بأنّ المُفسرين اختلفوا في حمل مريم -عليها السلام- وهل حملتْ حَمْلًا كسائر النساء أخذ مدته المعهودة، أمْ أنّ حَمْلَها كان على غير عادة النساء؛ فحملت في زمن قريب ليس بالفترة التي يعهدها النساء في حملهن. فقال: إنّ الآية الكريمة مزيلة للخلاف؛ لأنها دلت صريحًا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور، من غير مهلة، فالمولى -سبحانه وتعالى- استخدم حرف العطف الفاء {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} فالآية حسمت الخلاف إذا نظر في استخدام الحروف العاطفة فيها. وهناك مثال رائع، وهو مع فعل المطاوعة؛ فإن هذا الفعل لا يعطف عليه إلا بالفاء دون الواو، تقول: كسرته فانكسر، وفتحته فانفتح ... إلى آخره، فأتى بقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (الكهف: 28) فقوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الناظر فيه لو كان هذا السياق في غير القرآن لقال: إنه يؤتى في هذا الموضع بالفاء؛ فيقال: "فاتبع هواه" ولا يقال: "واتبع هواه" لأن الفعل هنا من أفعال المطاوعة، ولكن النظم القرآني البديع بين أن هذا الفعل في

هذا الموضع ليس على معنى المطاوعة، وإنما هو على معنى غفل {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي: غفل قلبه عن ذكرنا. ومن ثَمّ فإنّ المولى -سبحانه وتعالى- كأنه يقول: "ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" أي: لا تطع من فعل كذا وكذا؛ فعدد أفعاله التي توجب ترك طاعته، ولعل في القراءة الشاذة: "ولا تطع من أغفلَنا قلبه" بفتح اللام في "أغفل" وبرفع قلبه على الفاعلية ما يؤيد المعنى الذي ذهب له ابن الأثير في هذا الموضع. وبعد ذلك انتقل على استخدامات حروف الجر، وضرب مثالًا بقوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} (سبأ: 24) يقول: ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود بمخالفة حرفي الجر ها هنا؛ فإنّه إنّما خُولف بينهما في الدخول على الحق والباطل؛ فمَع الحقِّ قال المولى سبحانه وتعالى: {لَعَلَى هُدًى} (الحج: 67) ومع الباطل استخدم حرف الجر "في" {أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} (سبأ: 24). لأنّ صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يرقد به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، فمن ثم استخدم "على" مع الهدى والحق، واستخدم "في" مع الضلال، وهذا استخدام القرآن الكريم كقوله تعالى: {قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيم} (يوسف: 95) مع أن المتحدث لو وضع حرفًا مكان حرف لكان ذلك جائزًا، إلّا أنّ الاستخدام القرآني يرنو إلى الدقة، وإلى الفصاحة في استخدام الحروف؛ فمن الناس من يقول: "أنت على ضلالك كما أعهدك" فيأتي بـ"على" بموضع "في" وإنما الأولى أن تكون مع الضلالة حرف "في" ومع الهداية حرف "على" كما استخدمه القرآن الكريم.

وضرب مثالًا آخر بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: 60) التفرقة بين استخدام اللام {لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ} وبين استخدام "في" {فِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فاستدل بذلك على أن الطائفة الأخيرة المذكورة "عتق الرقاب والغارمين وفي سبيل الله" أنّ هؤلاء أولى بالصدقات من غيرهم، ومِنْ ثَمّ استُخْدِم معهم حرفُ الجَرّ "في" الذي يُفيد الظّرفية، وكُرّر مرة ثانية، وفصل به بين الغارمين، وبين سبيل الله؛ ليعلم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه. وهذه لطائف يتنبه إليها من ينظر في كتاب الله سبحانه وتعالى. وبقي أن أشير لك إلى أن هذا الفن الذي أضاء جنباته ابن الأثير في كتابه، وضرب له أمثلة، هناك من صنف فيه كتبًا مستقلة لهذه المسألة، في الاستخدامات في القرآن الكريم بإتيانه حرف مكان حرف، أو بإتيان لفظ مكان لفظ آخر، ومن ذلك كتاب (درة التنزل وغرة التأويل) للخطيب الإسكافي المتوفى سنة أربعمائة وعشرين للهجرة، هذا الكتاب أفرد فيه الآيات التي تشابهت في مواضعها، واستُخدم فيها أداة في موضع، وأداة أخرى في موضع آخر؛ أو لفظ في موضع، ولفظ في موضع آخر. ونضرب لك بعض الأمثلة التي عرضها لما نحن بصدده وهو: حروف المعاني: فأضرب مثالًا لما أتى به بموضع وضع فيه حرفان للعطف، والموضعان متشابهان، وهما كقوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة: 35) وجاءت في سورة الأعراف: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (الأعراف: 19).

فجاء في موضع "وكلا" وجاء في موضع آخر "فكلا" فاستخدمت الواو في الأولى، واستخدمت الفاء في الثانية، مع أن الأصل أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء؛ فالأصل فيه الثاني على الأول بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} (البقرة: 58). يقصد الإمام هنا أن معنى الشرط إذا كان بين فعلين الثاني مترتب على الأول استخدم معه حرف الفاء؛ لاقتران الشرط بالجزاء، واستدل بهذه الآية الكريمة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا} (البقرة: 58) أي: إنْ دخلتم "فكلوا" هذا المعنى في الآية الكريمة. ثم يبين أن هذا الموضع الذي استشهد به أيضًا له نظير استخدمت فيه الواو، وهو قول الله -سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف أيضًا: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ} (الأعراف: 161) أي: "وكلوا منها" فاستخدم الواو هنا بدلًا من الفاء، فهناك فرق بين الآيتين كيف؟ الآية الأولى معنى الشرط فيها واضح، بمعنى أن الدخول يترتب عليه الإطعام، أنه يأكل منها، أما في موضع سورة الأعراف كان بصيغة "اسكنوا" فالسكنى لا تستلزِمُ الإطعام، كما أن الدخول يستلزم الإطعام فيها، فلذلك عُطف بحرف الواو بدلًا من حرف الفاء لماذا؟ لأنه لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء، فعطف بالواو دون الفاء. في هذه الآية التي بدأ بالحديث عنها وهي في قصة آدم -عليه السلام- يجدُ أنّ الآيتين تعلقا بالفعل "اسكن" ولم يحدث فرق كما كان في الآية التي حمل عليها القاعدة، وهي "ادخلوا" و"اسكنوا" فالآيتان في الموضع الأول هي "اسكن" وليس فيها الفعل

"ادخل" فيبقى هنا السؤال كما هو ما المراد بالفاء في قوله تعالى: {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}؟ يقول: أن الفعل "اسكن" يُقال لمن دخل مكانًا، ويراد به الزم المكان الذي دخلته، ولا تنتقل منه، ويُقال أيضًا لمن لم يدخله "اسكن هذا المكان" يعني: ادخله واسكن فيه. أي: هذا الفعل يُقال على حالين قد يقال لك بعد الدخول، وقد يقال لك قبل الدخول؛ فإذا قيل لك قبل الدخول على معنى ادخل واسكن، وإذا قيل لك بعد الدخول، فهنا قد حدث لك استقرار في المكان؛ فيطلب منك أن تأكل؛ لأنك دخلت المكان بالفعل، وحدث لك استقرار به، ومن ثم قيل: "فكلا" أي أنه في موضع كان الخطاب بعد الدخول، وفي موضع كان الخطاب قبل الدخول، ورُجّحَ أنّ الخِطَاب بعد الدخول في سورة الأعراف، ومن ثَمّ استُخْدِم معها حرف الفاء؛ لتكون مقابلة لقوله تعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} (الأعراف: 18) فيكون دخول آدم عليه السلام وزوجه الجنة في مقابل خروج إبليس عليه اللعنة منها، ويكون ذلك مظهرًا من مظاهر الإبداع في استخدم الحرفين الفاء والواو في موضع متشابه. ثم أتى بمثال آخر على حروف النفي، سبق أن ذكرنا أن لا ولن يستخدمان لنفي المستقبل مع المضارع، فيأتي هنا الشيخ، ويذكر لنا موضعين قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمين} (البقرة: 94 - 95) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (الجمعة: 6 - 7)

فهنا الموضعان السياق مُتشابه بين الموضعين في ظاهره، لمن لا يتأمل الكلام يظن أن الموضعين متشابهان، واستخدم في أحدهما "لن" واستخدم في الآخر "لا" فيسأل عن الفرق في استخدام "لن" واستخدام "لا" مع أنّ كليهما لنفي المستقبل. فيقول هنا الشيخ في جواب هذه المسألة: "أن الشرط في سورة البقرة يختلف عن الشرط في سورة الجمعة، فالشرط سورة البقرة متعلق بما يفيد الانتهاء، وبما يفيد التمام؛ لأنهم ذكروا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وأنهم لهم الآخرة، ولا أحد يُشاركهم فيها، فمن ثم كان تأكيد وتأبيد النفي على حالهم باستخدام "لن": {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}. أما في سورة الجمعة فهم زعموا أنهم أولياء لله، وهذه الولاية لا تستلزم خلودًا، ولا تستلزم استمرارًا في النعيم، وإنما تتطلب ما بعدها من الخلود في دار الجزاء، ودار الكرامة، وهم لم يدعوا ذلك؛ فناسب ذلك استخدام الحرف "لا" وهو أقل من "لن" في إفادة تأكيد النفي، ولا يفيد التأبيد كما أفادت لن". وهنا مسألة نقف معها، وهي مسألة "التأبيد في حرف لن وفي استخدامه" فالناظر يجد في الآيتين استخدم معهما كلمة "أبدًا" {لَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} {وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} فالتأبيد هنا يستفاد من استخدام كلمة أبدًا، أما لفظ "لن" لحاله ولفظ "لا" لحاله لا فرق بينهما، وهذا الذي يرتاح إليه الرأي كما قال ابن هشام، أنّ هذا دعوة لا دليل فيها، كون أن نذكر أنّ "لا" تُفيد النفي فحسب؛ وأنّ لن تفيد تأكيد النفي؛ فهذا كلام ذكرناه قبل ذلك أنه لا دليل عليه. فإن احتج أحد بقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) وبقوله تعالى: {لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج: 73) عروض بما ذكرنا من

قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: 26) ومن ذكر الأبد في قوله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}. كذلك حرف "لا" كيف يقال: أنه لا يفيد تأبيدًا، وفي سياق الآيات قد جاء ما يفيد فيه التأبيد كقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} (البقرة: 255) وقوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} وقوله تعالى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (فاطر: 36) فإذًا الذي يرتاح إليه الرأي أن حرف "لا" وحرف "لن" لا يفيدان تأبيدًا من أنفسهما أو بلفظهما، وإنّما التأبيد وعدمه يكون بقرينة السياق، التي هي أساس البلاغة جميعها. عَرض بعد ذلك مثالًا لاستخدام حروف الجَرّ، أعطينا مثالًا لاستخدام حروف العطف، ومثالًا آخر لاستخدام حروف النفي، ونضرب مثالًا لاستخدام حروف الجر في موضعين متشابهين: قال الله سبحانه وتعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} (البقرة: 136) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} (آل عمران: 84) إلى نهاية الآيتين فهنا السؤال استخدم في أحدهما حرف الجر "إلى" واستخدم في الأخرى حرف الجر "على" فهل هناك فرق بين استخدام الحرفين؟ هذا هو السؤال والجواب عن هذا السؤال: وجهه الشيخ بمعنى لطيف وهو: أن "إلى" و"على" يختلفان في الدلالة؛ فحرف على موضوع لكون الشيء فوق الشيء، ومجيئه من علو؛ فهي مُخْتَصّة فحرف على يختص بجهة من الجهات الست، ولا يكون على الإطلاق، فهو يأتي من مكان معين، وهذا يناسب الخطاب للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} "قل" فالخطاب هنا موجه للنبي صلوات الله وسلامه عليه؛ فناسب أن يستخدم معه حرف الجر

"على" لأن هذا الذي نُزّل عليه -صلى الله عليه وسلم- ونزل من جهة مولاه سبحانه وتعالى على شخصه الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ ليبلغ به الناس. بخلاف الآية في سورة البقرة؛ فالخطاب لأهل الإيمان: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} (البقرة: 136) فناسب هنا أنْ يُستخدم حرف الجر "إلى" الذي هو للمنتهى، ويكون المنتهى من الجهات جميعها، فهو ما نُزّل على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- والاختيار هنا لإلى؛ لأن الخطاب للمسلمين، فاستخدم حرف "إلى" أما في الأولى استخدم حرف "على" لأنه خطاب لنبينا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. هذه وغيرها من اللطائف التي يراها أهل العلم في استخدامات الحروف، وهذه الاستخدامات كما قلت ليست قرآنًا؛ فهذه الآراء قد تقابل بآراء أخرى، لأنّ كل إنسان يرى ويتذوق من كتاب الله عز وجل ما ينار به إليه، وما يفتح به عليه؛ فربما يوافقك ما يرى، وربما ترى وجهًا آخر، وهذا في حد ذاته من أسرار أعجاز القرآن الكريم من الناحية اللغوية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز.

الدرس: 10 القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز.

القراءة وطرق الأداء.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز) القِراءة وطرق الأداء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وبعد: نتحدث عن القراءات القرآنية، وما بها من أوجه للإعجاز. فنبدأ حديثنا بالكلام عن القِراءة وطرق الأداء: القراءة وطرق الأداء ربما نتوصل إلى فهم المراد بهذا العنوان بالتمهيد له ببيان ما هي القراءات؟ القراءات هي صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة المنسوبة إلى أئمة معينين ناقلين لها، قد يُراد بالقراءات الصور الواردة بالتبادل على اللفظ، هذه القراءات اتفاقًا المتواترة المجمع عليها تسمى قرآنًا، ويعمل بها في التلاوة التعبدية، وهذا هو أساس كلامنا عن القراءات المتواترة المجمع عليها عند أئمة هذا الفن. فطرق أداء القراءة: هي الطرق التي يصل بها أو تصل بها القراءة إلينا عن طريق رواة القارئ ومَن نقل عنه، فكل قارئ من القراء السبعة أو العشرة له رواة، مثلًا: كلنا نعرف قراءة حفص عن عاصم وورش عن نافع وغير ذلك، هؤلاء الرواة لهم مَن نقل عنهم، فهؤلاء الذين ينقلون عن حفص مثلًا يسمى ما ينقلونه طرق القراءة، فهذا طريق من طرق القراءة، أما الراوي فهو حفص وأما القارئ فهو عاصم. مثال: كقوله تعالى في سورة الروم: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} (الروم: 54) فتقرأ:

"مَنْ ضَعْفٍ" وتُقرأ: "مِن ضُعف" وكلا الوجهين هو قراءة حفص عن عاصم لم يخرج عنها، فهذا يسمى طريق من طرق الأداء كذلك مثلًا في: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (الأنعام: 143) تقرأ هكذا بالمد، وتقرأ "الذكرين" بتسهيل المد والاقتصار على حركتين فقط. كذلك يترتب في قراءة حفص حكم على مَن يمد المنفصل يختلف عمن يقصر المنفصل، فالذي يقرأ بمد المنفصل يلزمه السكتات المعروفة في مواضع معينة في القراءة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} (القيامة: 27) وكذلك في: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} (يس: 52) هذه الوقفات المعينة والسكتات تترتب على مَن يمد القراءة في حفص، وهذا كله ما يسمى بطرق أداء القراءة. القراءة وطرق الأداء أمران يتعلقان باللفظ، ويبنيان على وجوه اللغة التي قام بها هذا النظم الذي جاء عليه القرآن الكريم، فقد نزَلَ القرآن الكريم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأفصح ما تَسْموا إليه لغة العرب في خصائصها العجيبة وما تقوم به، مما هو السبب في جزالتها ودقة أوضاعها وإحكام نظمها واجتماعها من ذلك على تأليف صوتي يكاد يكون موسيقيًّا محضًا في التركيب والتناسب بين أجراس الحروف، والملائمة بين طبيعة المعنى، وطبيعة الصوت الذي يؤديه، فإذا تم هذا النظم للقرآني مع بقاء الإعجاز الذي تحدَّى به، مع اليأس من معارضته على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم تلك الأحوال في مناطق العرب -أي: طرق نطقهم- فقد تم له التمام كله، وسار إعجازه إعجازًا للفطرة اللغوية في نفسها حيث كانت وكيف ظهرت، ومهما يكن من أمرها، ومتى كان العجز فطريًّا فقد ثبت بطبيعته.

أي: يقصد هنا الرافعي في تمهيده للكلام عن هذه المسألة: بأن أول أوجه بيان قيمة معرفة القراءات وطرق أدائها، أنها وجه إعجاز بين للقرآن الكريم، أنها على اختلافها وعلى اختلاف طرقها ووجوهها مع هذا الاختلاف، هي معجزة، ففي كل وجه مع ملاءمته لطبيعة العرب وفِطرتهم اللغوية، عجزوا عن معارضته وعجزوا عن الإتيان بمثله، فهذا أدعى لبيان أن الإعجاز أظهر عجزهم الفطري عن معارضة القرآن، وعن الإتيان بمثله مع هذا التنوع، وهذه الطرق التي قرئ بها القرآن الكريم. فإن القرآن لو نزل على لفظ واحد ما كان يضره شيء، وهو ما هو إحكام وإبداع، فما بالك وقد تعددت طرقه، وقد كثرت طرق نقله وروايته مما بين أثر هذا الإعجاز الواضح في تعدد طرق القراءات. وهناك حكمة جليلة من هذا التعدد في طرق القراءة، وهذه الحكمة تتركز في تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين، لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلًا عن أن يكون مما ألفوه، وكذلك يلحق بمعاني الإعجاز كون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنًى من معاني الشريعة، فالقراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى انفرد به القرآن الكريم ولا يستطيع لغوي أو بياني في تصوير خيال، فضلًا عن تقرير شريعة. وأيضًا من طرق الأداء وتنوعها يتبين لنا شيء عظيم، وهو أن الناظر في إعجاز القرآن ونظمه يحسب أن ألفاظ القرآن تنقاد لمعانيه، ثم يتعرف ويتغلغل فيه، فينتهي إلى أن معانيه منقادة بألفاظه، فإن الله -سبحانه وتعالى- خلق في العرب فطرةً لغويةً، وأنزل عليهم كتابه أعجز هذه الفطرة التي فُطِروا عليها، ووقفوا أمام أساليب القرآن وما قرئ به موقف العاجز على الإتيان أو على معارضة مثل هذا الكتاب المبارك الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- عليهم.

وجوه القراءة.

وهناك روايات عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في أمر طرق الأداء وفي أمر القراءات التي وصلت إليهم، وأن بعضهم كان ينكر على بعض، وأن بداية ما حدث في ذلك الأمر كان في عهد رسولنا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كما روى البخاري ومسلم عن عمرَ بن الخطاب قال: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأها على حروف كثيرة لم يقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك فكِدت أساوره في الصلاة، فصبرت حتى سلَّمَ، فلما سلَّمَ لببته بردائه، فقلت: مَن أقرأك هذه السورة التي سمعتُك تقرأها؟ قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهو أقرأني هذه السورة، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إن سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقرأنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اقرأ يا هشام))، فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأها، فقال: ((هكذا نزلت)) ثم قال: ((اقرأ يا عمر)) فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((هكذا نزلت)) ثم قال: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منها)) ". وجوه القراءة ووجوه القراءة: هي ما قرئ به اللفظ من تنوع، بمعنى: الحرف قرئ بكذا وبكذا، مثلًا: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (المسد: 4) قرأها الجمهور: "وامرأته حمالةُ الحطب" فإذًا الحرف هنا قرئ بوجهين بالنصب وبالرفع. و {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (النساء: 1) قرئ: "والأرحام" بالخفض، فقرئ بالنصب وبالخفض، وغير ذلك من الظواهر. {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) "واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى" فجاء الفعل بصورة الأمر، وجاء الفعل بصورة الماضي، وترتب على ذلك تنوع وجوه القراءة.

فهنا يجب أن نقف عند نقطة في غاية الأهمية، وهي مقاييس القراءة الصحيحة أو ما وضعه العلماء للحكم على هذا الوجه بالصحة، وبأنه قرآن يقرأ ويُتعبد بتلاوته. يذكر الرافعي في كتابه: أن القياس عندهم موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه، سواء كان أفصحَ أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها، والمصير إليها بالإسناد لا بالرأي، ثم يشترط في تلك القراءة أن توافق أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وأن تكون مع ذلك صحيحة الإسناد، فإن اجتمعت الأركان الثلاثة موافقة العربية ورسم المصحف وصحة السند، فتلك هي القراءة الصحيحة، ومتى اختل ركن منها أو أكثر أطلق عليها أنها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، وَلْتجئ بعد ذلك عن كائن مَن كان. هذا الكلام الذي ذكره الرافعي هو فَهْمُهُ -رحمه الله- لكلام ابن الجزري في (النشر) وما نص عليه من قوله: وكل ما وافق وجه نحوي ... وكان للرسم احتمالًا يحوي وصح إسنادًا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وهذا الكلام الذي نص عليه ابن الجزري للعلماء معه وقفة فيه، في أنه لم ينص في كلامه عن التواتر، والتواتر شرط أساسي لصحة القراءة، ولا يكتفَى بصحة السند، فإن العلماء المختصين بهذا الأمر بينوا أن هذا القول قاله مكي بن أبي طالب القيسي، وتبعه فيه ابن الجزري، وقالوا: إن هذا القول قول حادث، وأنهم ردوا هذا القول.

وللأسف إن هذا القول الذي ساد واشتهر بتوافر الشروط الثلاثة دون النص الصريح على مسألة التواتر، ولا أشك أن ابن الجزري يشير بصحة السند ضمنًا إلى التواتر، فإن هذا التواتر هو الميزة العظمى في نقل القرآن الكريم، أنه محفوظ في الصدور، منقول عن طريق التواتر عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، فمعروف أن التواتر هو نقل جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب كما يؤمن وقوع الكذب منهم في المنقول وقوعًا اتفاقيًّا بدون تواطؤ في كل طبقة من أول السند إلى منتهاه، فهذا التواتر ركن ركين في صحة القراءة. وهذا الذي ذكره ابن الجزري وفهِمه مَن فهمه عنه باشتراط الشروط دون الالتفات لنقطة التواتر وخاصة في عبارته أيضًا عندما قال: وحيثما يختل شرط أثْبِتِ ... شذوذُه لو أنه في السبعة فهموا من هذا القول أن السبعة -أو القراءات السبعية- ربما يكون فيه ما هو شاذ وما هو مردود. وهذا الكلام لا يجوز أن نقول به في وقتنا الحالي بحال من الأحوال، وهذا ما وقع فيه بعض الأكابر، فرأينا مثلًا الدكتور صالح فاضل السامرائي في كتابه (الكلمة في التعبير القرآني) ذكر بطلان قراءة متواترة بل هي قراءة الأكثرين، عندما أراد أن يبين الفرق بين قوله تعالى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} (الكهف: 64) وقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} (يوسف: 65) بإثبات الياء في: {نَبْغِي} وحذفها في: {نَبْغ} مع استلزام إثباتها؛ لأن الفعل في حالة الرفع وعلامته ضمة مقدرة على الياء، فإثبات الياء في الرفع هو الأصل، فأراد أن يبين الفرق بين الإثبات والحذف، فسئل -حفظه الله- عن وجود الإثبات في التواتر في قراءة متواترة: "ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي" بإثبات الياء، فاعترض بأن ذلك يكون مخالفًا لرسم المصحف، وإذا خالف ذلك رسم المصحف ردت القراءة وإن

كانت قراءة مَن مِن القراء من العشرة، أو ما هو أعلى منهم، كما صرح في بداية كتابه. وهذا كلام لا نستطيع أن نمر عليه مرور الكرام أو أن نتجاوزه؛ لأن هذه القراءة قراءة الأكثرين بإثبات الياء: "ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي" وهذا كونها تخالف رسم المصحف، هذا دعوة لا دليلَ على صحتها؛ لأنها توافق الرسم احتمالًا، والمصحف له خمسة المقصد باختلاف رسم المصحف ليس المصحف العثماني وحده، وإنما المصاحف الخمسة أن تأتي القراءة مخالفة لاحتمال الرسم في المصاحف جميعًا، ولا شك طالما أنها قراءة الأكثرين فهي تُثبت في أحد المصاحف ولو احتمالًا، فلا حجةَ لردها. فذلك مما استدعى أن نقف عنده من الكلام عن وجوه القراءة، وعن ورودها بهذه الشروط التي أشير إليها. وهذا بالنسبة لرسم المصحف. وبالنسبة لموافقة العربية، فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يُعول في القراءة على ما هو أفشى في اللغة وأقيس في العربية دون ما هو أثبت في الأثر وأصح في النقل؛ لأن العرب متفاوتون في خلوص اللغة وقوة المنطق، فإن قرءوا فلكل قبيل نهجه، ومن هنا اشتهرت قراءات معينة تحدثوا فيه أنكرها مَن يطعن في السند ومَن لا يتحدث أو لا يعظم مسألة الأثر، ويقدم -كما قيل- الدراية على الرواية، وهذا الأمر لا يجوز في مسألة القراءات، فإن الرواية فيها مقدمة قطعًا على الدراية، يعني: لا إعمالَ للعقل فيما صحت روايته وتناقلت عن القراء تناقلًا تواترًا، لا مِريةَ فيه، يلزم أخذه دون ردٍّ. مِن ذلك: ما كان من تطاول بعضهم على قراءة حمزة: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" (النساء: 1) اعتراضًا بأنه عَطْف على الضمير المتصل دون

إعادة الخافض، وهذا لا يكون في لغة العرب، فالأصل أن يُعاد حرف الجر مع المخفوض فيقال: وبالأرحام، وعلى ذلك ما جاء في القرآن: {مِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (الأحزاب: 7) {إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} (الزمر: 65) {لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28) بإعادة الخافض مع الاسم الظاهر بعد الضمير، فمن ثم اعترضوا على قراءة حمزة بن حبيب، وهو مَن هو من القراء، ولا وجه لهذا الاعتراض؛ لأن العطف على الضمير المتصل المجرور جائز في لغة العرب، وثابت في كلامهم وفي نثرهم وفي نظمهم، بل القراءة شاهد واضح على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور، وإن كان الأولى والأقيس والأشهر إعادة الخافض، إلا أن الجار دون إعادة الخافض يسلَّم به بما نقلت به القراءة. كذلك عندنا الحديث المشهور عن قراءة ابن عامر بجر: {شُرَكَائِهِمْ} (الأنعام: 137) في سورة الأنعام، وما ادعاه الزمخشري من أن ابن عامر نظر في بعض مصاحف أهل الشام فرآها مرسومةً هكذا، فظن أنها مخفوضة أو مجرورة، وذلك قول لا يعول عليه ولا يقبل من مثله، ورحم الله جميعهم. أما اشتراط صحة السند فهذا لا مراء فيه ولا جدال؛ لأن القراءة سنة متبعة، وهو الأساس فيها طالما صحت لا ينظر إلى غيرها. والشيخ ذكر بعض القراءات المتواترة المعروفة من إسكان العلامة الإعرابية أو عدم ظهور العلامة الإعرابية، كقوله تعالى: "فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ" (البقرة: 54) بسكون الهمزة دون جرها بالكسرة. وبعد ذلك ننبه أو نشير إشارة بسيطة إلى أن ما عدا القراءات السبعية أو العشرية المتواترة لا يقرأ به قولًا واحدًا، أو لا يعد قرآنًا، فإنه لم يقرأ بالشاذ على أنه قرآن وإن كان يحتج به في سائر الأحكام اللغوية والشرعية، وغير ذلك مما هو مشهور عند جمهور العلماء.

الكلام عن قراءة التلحين.

وتعرض الرافعي -رحمه الله- للكلام عن قراء الشواذ، وبداية ظهورهم، وغير ذلك، وذلك أمر نحسمه بأن القراءات العشر المتواترة هي التي يتعبد بتلاوتها، وما عداها فهو شاذ. الكلام عن قراءة التلحين هو كلام عما ابتُدِع في القراءة والأداء مما بقي إلى يومنا هذا من اسخدام القراء لما يشبه الغناء الخفي، كأنهم -كما أطلق عليهم- المغبرة، الذين يغبرون بذكر الله، فيهللون، ويرددون الصوت بالقراءة وغيرها، وهذا النوع الذي ظهر في القرون الأولى واستمر إلى يومنا هذا، لنا معه وقفة؛ لأنه يتناول جانبين؛ جانب: يُتفق على أنه مردود ومرفوض، وأنه من البدع التي استحدثت في قراءة القرآن، والتي لا يجب أن يعول عليها، بل إنها تدور بين حكمين؛ إما الكراهة وإما الحرمة، الكراهة إذا حافظ على الحروف، أما إذا مطَّ الحرفَ وخرج به إلى غيره، وغيَّر أو زاد أو نقص في الحرف نتيجة ما فعله، فذلك محرم قولًا واحدًا؛ لأنه تغيير في كلام الله -سبحانه وتعالى-. من أقسام النغم الذي أحدثوه فيما يسمى بقراءة التلحين: الترعيد، الترعيد: وهو أن يرعد القارئ صوته كأنه يرعد من البرد والألم، يقرأ وكأنه يرتعش متألمًا أثناء قراءته. والترقيص: وهو أن يروم السكوت على الساكن، ثم ينقر مع الحركة كأنه في عَدْو وهرولة -يسرع- وكأنه أراد أن يقف فجرى، ورقَّص السامع بهذا الذي أحدثه.

والتطريب: وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به، فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد إن أصاب موضعه. والتحزين: وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع. والترديد: وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه. هذه النماذج التي ذكرها الرافعي في حديثه عن قراءة التلحين، وهي نماذج واضحة وتُسمع من بعض القراء الذين يبالغون، وخاصةً ممن يقرءون في المناسبات وغير ذلك، تجده يريد أن يجذب انتباه السامعين إلى بيان صوته وإلى أدائه، فيقع في بعض هذه الأشياء، ولا يقع في ذلك إلا مَن لا وثوق في علمه من القُراء. وبحمد الله لم نسمع أمثال ذلك من القراء الأكابر المعتمدين في زماننا، لم يلجئوا إلى هذه الأساليب في قراءتهم، وإن كانوا يراعون المقامات الصوتية وغير ذلك مما تعلموه في عصورنا الحديثة كما يقال: تعلموه تعليمًا أكاديميًّا؛ لتحسين الصوت والتغني بالقرآن الكريم. إلا أن هذه الأشياء لم تظهر فاشيةً عند القراء المعتمدين الكبار الذين تؤخذ عنهم القراءة. فذلك الجانب هو الذي يرفض من القراءة بالتلحين؛ لأنه ربما يؤدي -كما قلنا- لإبدال حرف مكان حرف، أو اختلاس حرف، فيقع من الكلمة وتنطق على غير مرادها، وضرب الشيخ هنا مثالًا ببعضهم عندما كان يقرأ قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (الكهف: 79) فاختلس وجعلها "كأنها مسكين" يعني: "أما السفينة فكانت لمسكين لمسكين لمسكين!! ". فحذف الألف في قراءته،

اختلس الألف اختلاسًا، فكأنها تحولت من الجمع إلى الإفراد، وذلك كما قرأ بعضهم بيت شعر فقال: "بعض مفيها مفيها" بدلًا: "من ما فيها". فهذا الاختلاس الذي تم هذا يرفض؛ لأنه غيَّر من الكلمة، وحولها من كلمة لأخرى، فلذلك يقول صاحب (جَمال القِراءة) -وهي (جمال القُراء، وكمال الإقراء) للعلم السخاوي في الكتاب صاحب (جمال القراءة) ويبدو والله أعلم أن المقصود هو السخاوي في كتابه (جمال القراء وكمال الإقراء) - إن أول ما غنَّى به القرآن قِراءة الهيثم: "أما السفينة ... " فكما تقدم. فلعل ذلك أول ما ظهر من هذا النوع من قراءة التلحين الذي هو مرفوض؛ لأنه خروج عن قراءة القرآن كما أنزلها المولى -سبحانه وتعالى- لتجويدها وأحكامها، بل عد الشافعي ذلك من أفعال الزنادقة الذين وضعوا ما يسمى بالتغيير؛ ليصدوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن، وهي إدخال الإنشاد واستخدام الأساليب التي تذهب جلالَ القرآن وقدسيته في النفوس إذا ما استخدم القرآن بالتلحين. وبالجملة: فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالنبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. أما الجانب الآخر في موضوع قراءة التلحين هو ما ورد في أحاديث صحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يسمى بالتغني بالقرآن. هناك فرق بين ما أحدثه القراء من هذه البدع المرفوضة، وبين ما أشار إليه نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- في الأحاديث الصحيحة: ((ما أذن لنبي يتغنَّى بالقرآن)) وفي رواية: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به)) وحديث: ((ليس منا مَن لم يتغنى بالقرآن)). فالمراد بالتغني بالقرآن هو تحسين الصوت، بدليل الحديث المشهور عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم: ((لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك

البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود، فقال -رضي الله عنه-: أما والله لو علمت أنك تسمع قراءتي، لحبرتها لك تحبيرًا)). هذا ما نص عليه ابن كثير -رحمه الله- في قوله: أن المراد تحسين الصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع، والانقياد بالطاعة، أما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية، والقانون الموسيقي -كما يقولون- فالقرآن منزه عن هذا، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب، وهذا محظور كبير نص الأئمة على النهي عنه؛ لأنه كما قلنا: لو خرج إلى التنطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرف أو ينقص حرف، فقد اتفق العلماء على تحريم ذلك. أما التحزين بالقرآن وهو ما ذكره الرافعي -رحمه الله- على أنه صور من صور التلحين، أنه يقرأ على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، فهذا ما ذهب إليه الرافعي -رحمه الله- لأن هذا الأصل في قراءة القرآن أن القارئ يُستحب له البكاء والتباكي لمن لم يقدر على البكاء والحزن والخشوع؛ وذلك لقوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (الإسراء: 109) ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)) وفي الحديث الذي رواه أبو داود بسنده عن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه وأرضاه- عن أبيه قال: ((رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء)) وفي (الشعب) للبيهقي الحديث عن سعد بن مالك مرفوعًا: ((إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)). ولذا قال الغزالي -رحمه الله-: البكاء مستحب مع القراءة وعندها، فذلك أمر مطلوب. وأيضًا كي لا نتحامل على شيخنا الرافعي، فإن نستطيع أن نقول: إن

لغة القرآن.

التحزين له جانبان؛ جانب مقبول وهو الذي يَقرأ القرآن بخشوع وخضوع، وجانب مرفوض هو المبالغة في هذا الأمر، وحتى أنه يبالغ في التصنع في هذا الأمر، فالسامع لا يتبين الحروف من قارئها. لغة القرآن الأصل فيمن نزل القرآن بلغتهم قريش، كان طبيعيًّا أن يكون القرآن بلغة قريش؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرشي، ثم ليكون هذا الكلام زعيم اللغات كلها كما استمازت قريش من العرب بجوار البيت وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وغيرها من خصائصهم، وقد ألف العرب أمرهم ذلك، واحتملوا عليه، وأفردوهم به، كذلك يكون الأمر في كلام الله -سبحانه وتعالى-. يعني: العرب ألفوا أن قريشًا هي سيدة العرب وهي أعلى القبائل شأنًا بين العرب، فكون القرآن يأتي بلغتها ذلك يناسب سيادتها للعرب قبل. وأيضًا وجه آخر لنزوله بلغة قريش وجه جلي: أن قريشًا اشتملت لغتها على لغات العرب، فكانت تأخذ من اللغات أحسنها بحكم الجوار كثقيف وهوازن وهُذيل وغيرها من القبائل، وبني سعد وغيرها ممن هم على مشارف مكة. وأيضًا عندما كان يأتيها في المواسم من القبائل الأخرى البعيدة عنها كتميم وغيرها، كانت تؤخذ أعلى اللغات في لغة قريش، فقريش ضمت لغات العرب أصفاها وأحسنها. فالقرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي -صلى الله عليه وسلم- من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- أن يأتيهم بلغة ليست بلغتهم، وبطريقة كلام لا يعرفونها.

ويضرب هنا مثال أحسن الشيخ في ذكره -الرافعي- قال: لو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان من الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته. يعني: هذا الأمر معروف عند العرب في طباعها، أنها تتبع ما يجيء على فطرتهم اللغوية التي فطروا عليها، وطريقتهم التي يتحدثون بها. فهناك طائفة من الناس يذهبون: إلى أن القرآن لو هو قد نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير القرشية لكان ذلك وجهًا من إعجازه. وهذا كلام مَن لا يدري كيف يقول؛ لما سبق ذكره، من أن النزول على لغة قريش هو الطبيعي لسيادة قريش، وهو المنطقي بنزوله على لغة يعرفونها، فقد كان من إعجاز القرآن أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إليه لغات العرب جميعًا. فهنا يظهر لنا أن القرآن نزل بلغة قريش، وإن كان في القرآن ألفاظ -سنتحدث عنها مستقبلًا إن شاء الله سبحانه تعالى- مما يسمى بالغريب، أو مما يسمى بالمعرب، أو غيره من الكلمات، وإن كان هناك ألفاظ جاءت على لغة أقوام أخر، كقوله تعالى: {لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (الحجرات: 14) أي: لا ينقصكم، وهذه لغة بني عبس، فإن هذا الذي يذكر من مثل هذا لا يتعدى كلمة أو كلمتين في القرآن كله تنسب إلى لغة من اللغات. فبتالي لغة القرآن الكريم جاءت بلغة قريش على ما ألفه العرب في كلامهم، وجرت لغة القرآن على أحرف مختلفات في منطق الكلام كتحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة، وما بينهما، والإظهار والإدغام، وضم الهاء وكسرها، من: {عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) و {إِلَيْهِمْْ} (آل عمران: 77) وتقرأ: "عليهُم" و"إليهُم"، وإلحاق الواو فيهما، وفي لفظتين: "منهمُ" (البقرة: 75) و"عنهمُ" (البقرة: 86) وإلحاق الياء في: {إِلَيْهِ} (البقرة: 178) و {عَلَيْهِ} (البقرة: 182) و {فِيهِ} (البقرة: 185) ونحو ذلك. فكان أهل كل لحن يقرءونه بلحنهم، وربما استعمل القرآن الكلمةَ الواحدةَ على منطق أهل اللغات المختلفة، فجاء بها على وجهين؛ لمناسبةٍ في نظمه، ويضرب

مسألة الأحرف السبعة.

مثال بذلك كلمة: براء وبريء، فأهل الحجاز يقولون: أنا منك براء، وتميم يقولون: أنا منك بريء، وجاء في القرآن اللفظان: {بَرَاءٌ} (الزخرف: 26) و {بَرِيءٌ} (الحشر: 16) وكذلك: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} (هود: 81) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي} (الفجر: 4) فأسر فهي لغة قريش، يقولون: أسريت، وغيرهم من العرب يقولون: سريت. وهذا باب من اللغة متنافر وموجود، وأهل علوم القرآن أحصوا هذه الكلمات، وذكروها معدودةً، فهذه القراءات السبع المتواترة لم يكن من قبيل الأداء، أما ما هو من قبيله كالمد والإمالة ونحوها، فهذه الظواهر اللغوية كتخفيف الهمزة وتحقيقها، والفتح والإمالة، والإظهار والإدغام، والتفخيم والترقيق، وغير ذلك من الظواهر، كله موافق للغة العرب، ولا نخرجه عن أن الأصل في لغة القرآن هي لغةُ قريش. مسألة الأحرف السبعة هذه المسألة أصلها الأحاديث المتواترة الصحيحة المنقولة عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- في هذا الباب كقوله: ((أقرأني جبريل على حَرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدوني حتى انتهى إلى سبعة أحرف)) والحديث الذي ذكرناه من شأن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- مع هشام بن حكيم -رضي الله عنه وأرضاه-. فانتهى بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فاقرءوا ما تيسر منه)) وفي رواية لمسلم عن جبريل -عليه السلام- أنه قال لرسولنا -صلوات الله وسلامه عليه-: ((إن الله يأمرك أن تُقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه أصابوا)). وغير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا الباب. ومِفتاح الكلام عن الأحرف السبعة نبدأ من نهاية ما ذكره الرافعي -رحمه الله- يقول: لو أن هذا الحديث قد جاء في تأويله نص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعين المراد

منه، لما اختلفت أقوال العلماء فيه، وما داموا قد اختلفوا فدعنا نختلف معهم، ونأخذ بالأشبه والأمثل مما يوافق القرآن نفسه، وقد أنزله الله: {الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح: 4) فإن ذهبت مذهبنا وإلا فخذ ما أحببتَ أو دَعْ. أثرت أن أذكر عبارة الرافعي؛ لأنه أتى برأي في مسألة الأحرف السبعة، واختاره ورجحه، ورد رأيًّا آخرَ، فكما قال نقول ما قاله -رحمه الله-. نقول: نحن نوضح المسألة ونختار أيضًا ما نراه في هذه المسألة. فالأحرف السبعة انقسم العلماء فيها إلى ثمانية أقوال: - قال قوم: هي سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد. - وقول ثان يقول: المراد بالأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات العرب على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات، وهناك فرق بين القول الأول والثاني؛ لأنه يعني أن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني هذا وجه الاختلاف بين القول الثاني والأول. - أما القول الثالث فقالوا: إنها سبعة أوجه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل، أو من الأمر والنهي، والحرام والحلال، والمحكم والمتشابه والأمثال. - وهناك قول رابع قال: إن العدد المذكور في الحديث لا مفهوم له، وإنما هو رمز إلى ما ألفه العرب من معنى الكمال في هذا العدد. وهذا استحسنه الرافعي أيضًا.

- القول الخامس: أن المراد بالأحرف السبعة هي القراءات السبع، وهذا أضعف الأقوال وأردها، ولا يحتاج إلى تعليق كما يقال؛ لأن القراءات المتواترة عشرة وليست سبعة. - القول السادس: أنها سبعة أحرف من الاختلاف لا يخرج عنها، وهذا رأي ابن الجزري، واختاره الرافعي في بداية كلامه ناسِبه لأحد العلماء. يقول: الاختلاف في الحركات بلا تغيير في المعنى والصورة، يحسِب ويحسَب أن يكون بتغييرٍ في المعنى فقط: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37) "فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ" بالتبادل بين "آدم" و"كلمات" بين الرفع والنصب. أن يكون التغيير في الحروف مع التغيير في المعنى لا الصورة: {تَتْلُو} (البقرة: 102) و {تَبْلُو} (يونس: 30). أن يكون التغيير في الحروف مع التغيير في الصورة: {الصِّرَاطَ} (الفاتحة: 6) بالصاد و"السراط" بالسين. أن يكون التغيير في الحروف والصورة: {يَأْتَلِ} (النور: 22) و"يتأل". أن يكون التغيير بالتقديم والتأخير: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} (آل عمران: 195) أو وقراءة: "وقتلوا وقاتلوا". أن يكون التغيير زيادة والنقصان: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} (البقرة: 132 و"أوصى بها إبراهيم بنيه". هذا قول في الأوجه السبعة.

- قول سابع يقول: إن الأوجه السبعة هي الأصول المضطردة مثل صلة الميم -ميم الجمع، وهاء الضمير- ومثل الإدغام والإظهار، والمد والقصر، وتحقيق الهمز وتخفيفه، والإمالة وتركها، والوقف بالسكون وبالإشارة إلى الحركة، وفتح الياءات وإسكانها وإثباتها وحذفها. - أما الوجه الثامن الذي يُرى في هذا المسألة، ويرجح على غيره: أن الأوجه السبعة هي وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف، فاختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، تأتي الكلمة مفردةً في قراءة وجمعًا في قراءة، أو تأتي مذكرة في قراءة وتأتي مونثة في قراءة، فكما قرئ تواترًا: {لِأَمَانَاتِهِمْ} (المؤمنون: 8) و"لأمانتِهم". أما الوجه الثاني للتغير فهو التغير في وجوه الإعراب، كما ضربنا المثل: "فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ"، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}. وكذلك الاختلاف في التصريف: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (سبأ: 19) وقرئ: "فقالوا ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا"، وقرئ: "ربنا بَعَّد بين أسفارنا". وكذلك الاختلاف في التقديم والتأخير: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} (الرعد: 31) و"أفلم يَأْيَسِي". وكذلك التقديم والتأخير في الكلمات: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (التوبة: 111) "فيُقتلون ويقتلون". وكذلك الاختلاف بالإبدال، سواء كان الإبدال إبدال حرف مكان حرف: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (البقرة: 259) وقرئ بالراء بدلًا من الزاي. وإبدال لفظ مكان لفظ، ومثاله ليس من المتواتر: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 5) وقرئت في قراءة ابن مسعود: "كالصوف المنفوش".

والوجه السادس للاختلاف: الاختلاف بالزيادة والنقصان وهذا في المتواتر: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} (التوبة: 100) قرئ: "من تحتها الأنهار" بزيادة "مِن" -وهذا سنتعرض له تفصيلًا في موضوع الزيادة-. وأما الوجه السابع: فهو اختلاف اللهجات للتفخيم والترقيق، والفتح والإمالة، والإظهار، والهمز، والتسهيل، والإشمام، ونحو ذلك. وهذا أرجح الآراء في معنى الأحرف السبعة؛ لأنه يؤيده الأحاديث الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأنه يخلو من المحذور الذي يقع فيه بعض الآراء الأخر؛ ولأنه يعتمد على الاستقراء لأوجه الاختلاف في القراءات. بقي أن نشير فقط إلى الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، فمن ذلك: صيانة كتاب الله وحفظه من التبديل والتحريف، والتخفيف على الأمة، وتسهيل القراءة عليها، وجمع الأمة على لسان واحد وهو لسان قريش الذي نزَلَ به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيرًا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة، وأخيرًا الجمع بين حُكمين مختلفين بمجموع القراءتين. فالخلاصة: هي أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات، وذلك ضرب من ضروب البلاغة، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز. ومعنى هذا أن القرآن معجز؛ إذ قرئ بهذه القراءة الأولى، ومعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية، ومعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرًّا. فهذا من أوجه الإعجاز في القراءات القرآنية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز.

الدرس: 11 تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز.

الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز) الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد: نتناول الإعجاز في تنوع أوجه القراءات القرآنية: هذا الإعجاز الذي شمل جميعَ أركان الشريعة الإسلامية من عبادات وعقائد، وما يتعلق أيضًا من اجتهادات في المجالات اللغوية والبيانية. نبدأ في حديثنا عن الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد كجانب تطبيقي. مطلب أفعال العباد: هذه المسألة التي كثر فيها الكلام عند المتكلمين، نجد من القراءات المتواترة العشرية التي ثبتت ما يساعدنا على الحسم في هذه المسائل، أو بيان إعجاز القرآن منها. وذلك مثل قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف: 142) وقوله -عز وجل-: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} (طه: 80). فهذه الآيات قرئت تواترًا: "واعدنا ووعدنا"، "واعدنا" بألف بعد الواو، "وواعدنا" دون ألف، وقراءة "وَعَدْنا" دون الألف في الفعل هذه القراءة صريحة في أن الفعل فِعلُ الله -سبحانه وتعالى- فالوعد منه ابتداءً، والقراءة الأخرى: "واعدنا" دلت على نسبة الأفعال إلى العباد على سبيل المجاز، فكأن موسى -عليه السلام- في اشتياق إلى لقاء المولى -سبحانه وتعالى- ومن ثَم كان إثبات الأفعال مجازًا أو على سبيل المجاز إلى العباد مع أن الله -سبحانه وتعالى- هو صاحب الفعل على الحقيقة، وهو -سبحانه وتعالى- الذي ابتدأ بوعد موسى -عليه السلام- وبإتمام هذا.

وكذلك عندنا قراءة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (غافر: 37) قرئت: "وصد على السبيل" بالبناء بما لم يسم فاعله، أو بالبناء للمجهول، وقرئ: "وصد عن السبيل" بالبناء للمعلوم. وقيل: القراءتان قرئت تواترًا. وهذه القراءة - بالبناء للمفعول: "صُد عن السبيل" إخبار من الله -سبحانه وتعالى- عن انحراف فرعون وفجوره، وأن الله -سبحانه وتعالى- صَدَّ هذا الطاغية عن سبيل الحق، وعن طريق الهداية؛ لما بدر منه، وبما كان من تعنته، وبما كان من ادعائه الألوهية والربوبية، وما برز منه تجاه المولى -سبحانه وتعالى-. فجاءت القراءة الأخرى: "وصَد عن السبيل" بالبناء للمعلوم، بنسبة الفعل إلى فرعون؛ لأنه هو الذي فعل هذا الصد، فأفادت القراءة أن الأفعال للمولى -سبحانه وتعالى- وأنه قد تُنسب إلى العباد على سبيل المجاز، مع أن الله -سبحانه وتعالى- هو المالك المتصرف في خلقه كما يشاء. مطلب آخر في مسائل الاعتقاد هذا المطلب ما يتعلق بالنبوات: فالأنبياء هم أكرم خلق الله -سبحانه وتعالى- والأنبياء هم المعصومون المبرءون الذين اختارهم الله من صفوة خلقه؛ لكي يبلغوا رسالة ربهم، فالنبي يُعتقد فيه الكمال ويعتقد فيه أنه مرسل من الله -سبحانه وتعالى- مبرئًا من العيوب أو ما يشينه. فكانت القراءات في موضع من المواضع وفي بعض القراءات ما يؤكد هذا المعنى بما يختص به رسل الله -سبحانه وتعالى- قال المولى -سبحانه وتعالى-: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (التكوير: 24) فقرئت تواترًا: {بِضَنِينٍ} وقرئت: "بظنيين" أي: بالضاد وبالظاء، والمعنى يختلف على القراءتين، ولكنه ينصب في عِصمة الأنبياء، وفي بيان قدر الأنبياء المكرمين، فما هو على الغيب بضنين، أي: ببخيل.

فإن الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لم يسأل المشركين أجرًا على ما أخبرهم به، ولم يبخل عليهم بما عنده من علم -فصلوات الله وسلامه عليه- كان يرغبهم في الجنة ويحذرهم من النار، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار، ومع ذلك لم يطلب منهم شيئًا: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الأنعام: 90) فكان ذلك علامة على صدق نبوته، بأنه لم يبخل عليهم بالعلم كعادة الكهان الذين كانوا لا يقدمون الخبر، أو لا يفيدون بالنبأ، إلا إذا أخذوا في المقابل أجرًا، وهو ما يسمى بالحلوان أو حلوان الكاهن. والقراءة الأخرى: "وما هو على الغيب بظنيين" أي: بمتهم أنه -صلى الله عليه وسلم- ليس بمتهم فيما يخبِر به عن ربه -سبحانه وتعالى- فهو الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- يخبر بما أخبر به ربه -سبحانه وتعالى- وعلى القراءتين يتضح كمال عصمة الأنبياء. كذلك عندنا أيضًا في القراءات ما يساعد وما يبين مسائل تتعلق بالسمعيات، أي: الغيبيات التي أخبر المولى -سبحانه وتعالى-. من ذلك: أمر الملائكة، فهؤلاء الملائكة المكرمون عباد الله الذين: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) هذه الملائكة نجد من القراءات ما يبين قدرَ هؤلاء الملائكة الكِرام، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزخرف: 19) فقرئت: {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جمع عبد، وقرئت: "عند الرحمن" وعند ظرف كما هو معلوم. فهاتان القراءتان بينت منزلة الملائكة الكرام عند الله -سبحانه وتعالى- فالقراءة على العندية بمعنى الظرف: أنهم مكرمون عند ربهم -سبحانه وتعالى- وأنهم لا يعصونه فيما يأمر به، فهذه العندية عنديةُ الفضل والقرب من الله تعالى؛ بسبب الطاعة.

تنوع القراءات القرآنية من حيث الإعجاز التشريعي.

فتعاورت القراءتان على لفظة واحدة لها معان متنوعة، هذه المعاني تنصب حول شيء واحد، وهو أن الملائكة أصحاب مكانة عند الله، وليسوا كما ادعى هؤلاء المشركون فيهم مِن أنهم إناث وليسوا ذكورًا، فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنهم عنده، ومَن عند الملك -سبحانه وتعالى- لا بد أن يكون على أكمل حال، وعلى أتم الأوصاف، فلا يكون منهم نقص فيما ينتقصه الناس من ظنهم أن الإناث ينقصون الذكور في الفضل وفي المكانة، فأخبر الله -سبحانه وتعالى- أنهم عنده، وأنهم أصحاب المكانة العلية، فهم ملائكة كرام ما عصوه سبحانه طرفةَ عين. تنوع القراءات القرآنية من حيث الإعجاز التشريعي ننتقل إلى جانب آخر من جوانب الإعجاز في تنوع القراءات القرآنية، وهو الإعجاز التشريعي، أي: فيما يتعلق بمسائل الشريعة. فمعلوم أن الفقهاء والأصوليين ومَن يتصدون لهذه المسائل التشريعية أو الفقهية، هؤلاء تُعد القراءات عندهم من المصادر المعتمدة التي تبين لهم، ويحتجون به في خلافاتهم، وتظهر وجه الإعجاز في هذه القراءات. فالقراءة حجة الفقهاء في الاستنباط، ومحجتهم في الابتداء، وكل قراءة في حد ذاتها خبر شرعي دون إغفال لغيرها من القراءت وما تقتضيه من حكم موافق لها أو مخالف، وهذا يسميه العلماء بالإعجاز التشريعي. ونماذج ذلك عديدة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- كقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) قرئت تواترًا: {وَاتَّخِذُوا} بصيغة الأمر، وقرئت: "واتخَذوا" بصيغة الماضي، فعلى كلتا القراءتين كان الخلاف الفقهي بين العلماء في حكم الصلاة خلف مقام إبراهيم -عليه السلام- بعد الفراغ

من الطواف بالبيت العتيق. فهل هو واجب بدلالة قراءة الأمر: {وَاتَّخِذُوا}؟ أم أن المسألة سنة، ودليل ذلك أن الفعل جاء بصيغة الإخبار أي: صيغة الماضي "واتخَذوا من مقام إبراهيم" وليس بصيغة الخطاب إلى مَن يخاطَب وهو مكلف بهذا الفعل؟ كان ذلك هو الخلاف بين الفقهاء مترتبًا على تنوع القراءتين بين الأمر والمُضي. فذهب أبو حنيفة والشافعي -في أحد قوليه-: إلى أن صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم -عليه السلام- واجبتان، وذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي -في قوله الثاني-: إلى أن صلاة الركعتين خلف مقام إبراهيم -عليه السلام- سنة، وذلك ناتج عن الاختلاف في القراءتين، وأدلتهم في ذلك يرجَع فيها إلى كتب الفقه. كذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) فقرئت: {لَامَسْتُمُ} بالألف، وقرئت: "لمستم" بدون الألف، وترتب على ذلك خلاف واضح بين الفقهاء في حكم مس المرأة، هل لَمْس المرأة ينقض الطهارة أو ينقض الوضوء، أم أنه لا ينقض الوضوء؟ وانبني الخلاف على تنوع القراءتين بين: {لَامَسْتُمُ} بالألف وبين "لمستم" بدون الألف. فذهب أبو حنيفة: إلى أن لمس الرجل للمرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا سواء أكان اللمس بشهوة أو بغير شهوة، وذهب مالك وأحمد: إلى أن لمس المرأة بشهوة ناقض للوضوء، فإن كان بغير شهوة فلا ينتقض الوضوء به، وذهب الشافعي: إلى أن لمس الرجل للمرأة بدون حائل ينقض الوضوء سواء كان اللمس بشهوة أم بغير شهوة، باستثناء المحارم، فكان منشأ الخلاف هو تنوع القراءتين كما هو واضح من معنى اللمس والملامسة، وهل هي تنصب حول الجِماع أم مجرد اللمس فقط؟ وهذا معروف في النواحي الفقهية، ونتج عن تنوع القراءتين.

الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات.

كذلك حكم إتيان المرأة بعد الطهارة من الحيض، اختلف الفقهاء فيه نتيجة اختلاف القراءتين في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (البقرة: 222) فقرئ تواترًا: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} وقرئ: "حتى يطَّهرن". فالتطهر والطُّهر على تلك القراءتين اختلف عليه حُكم الفقهاء في إتيان المرأة عقب طهارتها، فهل يكفي أنها تطهر؟ بمعنى: ينقطع دم الحيض عنها فيجوز إتيانها، أم أنه يجب عليها أن تغتسل فتتطهر قبل أن يأتيها زوجها؟ فلذلك اختلف الفقهاء نتيجة تنوع القراءتين؛ فذهب جمهورهم: إلى أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل لزوجها مجامعتها إلى بعد أن تغتسل بالماء، وذهب أبو حنيفة: إلى أن المراد بالطهر انقطاع الدم، فإذا انقطع دم الحيض جاز لزوجها أن يطأها قبل الغسل. ذلك أمثلة لما نتج عن الخلاف الفقهي الناتج عن القراءات القرآنية. الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات ننتقل إلى جانب آخر من جوانب الإعجاز في تنوع القراءات، وهو جانب ذو أهمية عظيمة، وهو جانب الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات. فإن تغاير القراءات أثَّر لغويًّا في جوانب الإعراب، وكذا في جوانب التصريف، والجوانب البلاغية فيما يتعلق بالتوجيه البلاغي. فنبدأ بالحديث عن تغاير القراءات في النواحي الإعرابية: معلوم أن الإعراب يساعد على وضوح المعنى وتحديده، ويزيل اللبس، ويكشف الغموض، ويعطي الكلمات حرية الحركة، فتتنوع التراكيب بتنوع الموقف

والمقامات، وبدون الإعراب تختلط المعاني، ويضطرب فَهْم مراد الله تعالى. وهذه المسألة اهتم بها العلماء كثيرًا، وقد أفردت لها دراستي -الماجستير- بعنوان: (النحو والقراءات عند المنتجبي الهمذاني في كتابه الفريد في إعراب القرآن المجيد). نأخذ نماذج لهذه الظاهرة: أولها: تغاير القراءات بين الرفع والنصب، أي: تقرأ القراءة بالرفع وتقرأ بالنصب، وما يترتب على ذلك من أوجه للإعجاز. قال الله -سبحانه وتعالى-: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف: 26) قرئ تواترًا: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} بالرفع "لباس" وقرئ و"لباسَ التقوى" بالنصب. فقرءاة النصب ينصرف توجيهها إلى العطف على كلمة "لباسا": {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}، و"أنزلنا لباس التقوى" فذلك على معنى العطف، فالباس الذي يواري السوءة الظاهرة، والتقوى التي تواري السوءات الباطنة التي تصيب العبد من أمراض وأدواء في القلب، فالتقوى هي طريق علاجها وطريق التطهر منها، فهذه القراءة تأتي على العطف، وقراءة الرفع تأتي على الاستئناف، على أن "لباس" مبتدأ، و"التقوى" مضاف إليه، وجملة: {ذَلِكَ خَيْرٌ} في محل رفع خبر لكلمة: {لِبَاسُ}. فكأن المولى -سبحانه وتعالى- ينشأ معنًى جديدًا ويستأنف معنًى جديدًا لأهل الإيمان، بأن خير ما يَلبسون وخير ما يتزينون به هو تقوى الله -سبحانه وتعالى-. ومعلوم أن نزول الآية أو سبب نزولها كان يتعلق بما كانوا عليه في الجاهلية من الطواف بالبيت دون ملابس، يطوفون عَرايا بالبيت، فأنزل الله -سبحانه وتعالى- على عباده

هذه الآية؛ ليبين لهم أن تقوى الله -سبحانه وتعالى- خير ما يرتدون، وتأتي بتحريم أن يطوفوا بالبيت عرايا. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أن لا يطوف بالبيت عريان)) فجاءت القراءة على الوجهين؛ لتؤكد هذا المعنى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، "ولباسَ التقوى ذلك خير". كذلك قرئ في الرفع والنصب قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (المسد: 4) قرئ: {حَمَّالَةَ} بالنصب، وقرئ "حمالةُ" بالرفع، وعلى تلك القراءتين يظهر الفرق بين تعدد الأوصاف المذمومة بهذه المرأة -امرأة أبي لهب- فقراءة النصب تنصرف على أنها مذمومة معينه مخصوصة بهذا الوصف القبيح الذي يضاهيها، أو الذي يناسبها ويشاكلها بأنها حمالة الحطب، وقراءة الرفع على أنها خبر لامرأته: "وامرأته حمالةُ الحطب" هذا إخبار من الله -سبحانه وتعالى- عن هذه المرأة. ومعلوم أن القراءات وإن اختلفت إلا أنها تؤدي إلى معنًى واحدٍ، أو تنوع المعنى دون اختلاف، فمعلوم أن القراءات لا تتعارض، أي: لا تعارضَ بينها وإنما تخدم في المعنى الموجه إليه. كذلك قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (التوبة: 40) فقرئ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} على الاستئناف، وقرئ: "وكلمةَ الله" على العطف، أي: جعل كلمة الذين كفروا السفلى وجعل كلمة الله هي العليا. وقد تحدَّث المفسرون في هذه الآية على كون: {هِيَ} ضمير فصل يرجح الرفع بأنها وقعت بين المبتدأ والخبر، فقال الطاهر بن عاشور: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام، بأنه أخبر عن "كلمة الذين كفروا" بأنها سارت سفلى، أفاد أن العلاء انحصر في دين الله وشأنه، فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة:

{اللَّهِ} على كلمة: {الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ ليس المقصور إفادة جعل "كلمة الله" عليا؛ لِما يشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل أفادت أن العلاء ثابت لها ومقصور عليها. وبالطبع هذا الكلام يُحمد من علامة كالطاهر بن عاشور، ولكننا نقول: إن القراءات لا تعارضَ بينها، فعلى قراءة النصب أيضًا {هِيَ} ضمير فصل، فمعلوم أن ضمير الفصل يقع بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر، ومفعولا "جعل" أصلها المبتدأ والخبر. فهذا تذوق منه -رحمه الله- والمعنى قائم أيضًا مع قراءة النصب، وعطف على "جعل"؛ لأن "جعل" من الأفعال الناصبة لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. ذلك مثال وذلك نموذج لتغاير القراءات بين الرفع والنصب. عندنا أيضًا تغاير القراءات أو تنوع القراءات بين الرفع والخفض، وذلك في كتاب الله -سبحانه وتعالى- منها قول الله -سبحانه وتعالى-: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22) فقوله -سبحانه وتعالى-: {مَحْفُوظٍ} قرئ تواترًا بالخفض والرفع: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} و"في لوح محفوظٌ". ومعلوم أنه في قراءة الخفض ينصرف الوصف إلى اللوح، فاللوح محفوظ، وفي قراءة الرفع ينصرف الوصف إلى القرآن، القرآن محفوظ، وكلا المعنيين مراد، فإن اللوح محفوظ وإن القرآن محفوظ، وذلك يؤكد حفظَ الله -سبحانه وتعالى- لكتابه المجيد في أصله وفي تنزيله وبعد تنزيله، والله -سبحانه وتعالى- حافظ كتابه، وهذا مُفاد من القراءتين، فاللوح محفوظ والقرآن محفوظ، وعلى كلٍّ إذا ثبت الحفظ للوح فهو ظرف للقرآن، ثبت للقرآن الحفظ، فالقراءتان مجتمعتان، والمعنيان متداخلان.

كذلك هناك تنوع القراءات بين النصب والخفض، وهذه أحدثت إثراءً عظيمًا في القواعد اللغوية والقواعد النحوية، وعندنا القراءة المشهورة قراءة حمزة بن حبيب الزيات، قراءة أول سورة النساء: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" (النساء: 1) بالخفض، فقراءة الجمهور وقراءة جمهور أهل الأداء بالنصب: "والأرحامَ" وقراءة حمزة بالخفض "والأرحامِ" هذه القراءة أدت إلى خلاف شديد بين النحاة وبين أهل اللغة ممن يتمسكون بقواعدهم على الغالب الأعم الأشهر، وينكرون من القراءات ما يتعارض مع ما يذهبون إليه من قواعد، فمعلوم أنهم يُلزِمون -مع إعادة الخافض- إعادةَ الخافض مع الخفض، أي: إذا قلت: سلمت عليك ومحمدًا، فذلك لا يجوز، فلا بد أن تقول: سلمت عليك وعلى محمد، وذهبت إليك وإلى علي، فلا يصح ألا تعيدَ الجار، فجاءت القراءة هنا حجة عليهم في عدم إعادة الجار، فقال الله -سبحانه وتعالى-: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" ولم يقل: "وبالأرحامِ" فلم يعد الخافض، وإن كان إعادة الخافص هو الشهير وهو لغة القرآن: {عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ} (هود: 48) {إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ} (الزمر: 65) {لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أظهرت هذه المسألة. تنوع القراءات في التصريف، أي: علم الصرف، وما يتعلق به من قواعد أفادت الصرفيين، وانبني عليها إعجاز في قول الله -سبحانه وتعالى- وفي القراءات المتواترة: من النماذج التي تُصور الإعجازَ في تنوع القراءات صرفيًّا قول الله -سبحانه وتعالى-: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (الحجر: 41) فقرئت: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ} بفتح اللام والياء على أنها اتصلت بها ياء المتكلم، وهذه قراءة الجمهور، وقرئت: "هذا صراط عليٌّ" بكسر اللام ورفع الياء منونًا. فمعلوم أن "علي" هي

جار ومجرور و"عليٌّ" صيغة من صيغ المبالغة على وزن "فعيل" فتنوع القراءتين هنا أوضح أمرًا ظاهرًا، وهو أن اللفظ الواحد أدى إلى معنيين مختلفين، لكنهما يتعاونان في إبراز علاقة متداخلة بين القراءتين، على معنى أن قراءة الجمهور استفيد منها وعد الله -سبحانه وتعالى- بضمان استقامة المخلصين؛ لأنهم على صراطه، وهذه ومَن كان على صراط الله فلا يضل ولا يشقى، وأما قراءة يعقوب فتفيد بأن هذا الصراط رفيع الشأن، عال القدر، وكيف لا يكون كذلك وهو طريق الله ضمن لأهله الاستقامة، ووعدهم بالسلامة، وأحلهم -سبحانه وتعالى- دار المقامة من فضله لا يسمهم فيها نصب ولا يمسهم فيها لغوب؟ ذلك واضح من تنوع القراءتين بين صيغتين؛ صيغة المبالغة وصيغة الجار والمجرور. وهناك ظاهرة صرفية أيضًا في تنوع القراءات: أن يأتي اللفظ بالإفراد وبالجمع، وكان من نماذج ذلك ما جاء في سورة يوسف -عليه السلام-: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (يوسف: 7) فقرئت: {آيَاتٌ} بالجمع، وقرئت: "آية" بالإفراد. فبالنظر إلى معنى القراءتين يتضح وجه من وجوه الإعجاز، وهو أن قراءة الجمع {آيَاتٌ} تبين مدى العبرَ العظيمةَ التي وُجِدت في قصة يوسف -عليه السلام- أما قراءة الإفراد فتبين أن قصة يوسف -عليه السلام- قصة عظيمة الشأن بها عبرة، وبها آية عظيمة من آيات الله -سبحانه وتعالى-. فالتقت القراءتان على معنًى يبين عظمَ شأن قصة يوسف -عليه السلام- في ذاتها، أو بما فيها من عبر متنوعة، ودل على ذلك تنوع صيغتي الجمع والإفراد: {آيَاتٌ} و"آية". من النوادب أيضًا التي تأتي في مجال الصرف هذا النموذج في قوله تعالى حكايةً عن فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127) {سَنُقَتِّلُ} بالتشديد، و"سنقتل" فالقراءتان متواترتان، وهذا

القراءات وأثرها في: التوجيه البلاغي، وتنوع الأساليب.

اختلاف في صيغة الفعل بين التشديد والتخفيف، وعلى كلتا القراءتين يأتي معنًى يتضح فيه نفسية هذا الطاغية، ومدى حِقده ومدى إرادته الانتقام من موسى -عليه السلام- ومَن تبِعه من قومه: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، فـ {سَنُقَتِّلُ} تشعر بمدى الضغط النفسي الذي يصور حقدَ فرعون ورغبتَه الشديدة في الانتقام، و"سنقتل" أفادت عموم الإخبار بأنه سيفعل هذا الفعل ويقوم به، فاجتمعت القراءتان على إظهار معان ودَلالات تؤدي إلى بيان المغزى من القصة ومِن ذِكرها، وهو مدى طغيان الطاغين، ومحاولتهم التخلص من أهل الإيمان، والفراغ من شأنهم، سواء كان بالفعل أو بإبراز المبالغة في إحداث الفعل. هذا كله من الجوانب التي تبين الجوانب اللغوية من الناحية النحوية والصرفية. القراءات وأثرها في: التوجيه البلاغي، وتنوع الأساليب نأتي بعد ذلك للقراءات وأثرها في التوجيه البلاغي: وهذه مسألة عظيمة في تنوع القراءات القرآنية؛ لأنها تظهر جانبًا من أهم الجوانب في إعجاز القرآن، وهو الجانب البلاغي، فمعلوم أن بيان القرآن وبلاغة القرآن هي سِر الإعجاز الذي اهتم به المهتمون، وأُفردت له المصنفات كما ذكرنا في بداية حديثنا على الإعجاز. من ذلك: أن تأتي القراءة بين ذكر التذكير والتأنيث، من الأشياء التي اهتم بها البلاغيون إظهار قيمة الكلمة في استخدامها بين التذكير والتأنيث، وأنها تؤدي معنًى للتذكير غير المعنى الذي يؤديه معنى التأنيث، وهذه دراسة بلاغية غير دراسة الصرفية. دراسة الصرف تهتم بالصيغة، ودراسة البلاغة تهتم بالأثر المعنوي للصيغة.

فهنا نأخذ نموذجًا لها قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء: 38) قرئ: {سَيِّئُهُ} وقرئ: "سيئةً"، "كل ذلك كان سيئةً عند ربك مكروهًا" فـ {سَيِّئُهُ} واضح أنه بصيغة التذكير، و"سيئة" بصيغة التأنيث، والقراءتان يؤديان إلى معنًى واضحٍ في هذه الآية، أن قراءة التنوين "سيئةً" تفيد أن قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ} إحاطة بالمنهي عنه دون الحسن، يعني: كل ما نهى الله -سبحانه وتعالى- عنه مما ذكر في الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة من سورة الإسراء، فهو سيئة، وهو مما لا يرضَى الله -سبحانه وتعالى- عنه. أما قراءة التذكير بالإضافة إلى الهاء: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} يُشار بها بذلك إلى جميع ما تقدم، وفيه السيئ وفيه الحسن، هذا الذي ذكره المولى -سبحانه وتعالى- في الآيات. وكذلك عندنا وجه من وجوه البلاغة وهو تغاير حروف المعاني، أن يأتي حرف من حروف المعاني التي أفردنا لها كلامًا من الحديث السابق. ونكتفي بذكر نموذج واحد لهذه الظاهرة في قول الله -سبحانه وتعالى-: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (الأعراف: 98) قرئ {أَوَأَمِنَ} وقرئ: "أَوْ أمن"، فـ"أَوَ" بفتح الواو والهمزة، و"أَوْ" بإسكان الواو، "أَوْ أمن" بسكون الواو فيها وفتح الهمزة. فهنا يختلف المعنى أو يختلف التوجيه بين حرفي المعنى المستخدمين، فالهمزة جزءٌ من العاطف، لا استفهام على قراءة "أَوْ" بهذا تفيد الآية إنكار الأمن مِن أحد هذين الوجهين، أي: من إتيان العذاب ليلًا أو ضحًى، يقول المولى -سبحانه وتعالى-: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (الأعراف: 97، 98) فقراءة "أَوْ" تدل على إنكار أَمْنهم من هذين الوجهين: البيات أو الضحى، أما قراءة: {أَوَأَمِنَ}

على الاستفهام، فأفادت أن استواء هذه الضروب من العذاب، وأن الله -سبحانه وتعالى- منزل عليهم العذاب سواء كان بياتًا أو ضحًى، فلذلك هم لا يأمنون نزولَه من المولى -سبحانه وتعالى- عليهم، فكان يجب عليهم أن يطيعوا ربهم -سبحانه وتعالى- وأن يستجيبوا لدعوته إليهم بتوحديه وبالإيمان به. ولذلك نماذج أخرى في القراءات القرآنية كنموذج مشابه في قول الله -سبحانه وتعالى- حكايةً عن فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر: 26) فقرئ: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} وقرئ: "وأن يظهر في الأرض الفساد" يعني: بالواو العاطفة، و"أَوْ" وهذا من تغاير حرف المعنى، وإن كان الحرفان ينتميين إلى حروف العطف، إلا أن هناك فرقًا بين "وا" وبين "أو" كما سبق أن بينا في حديثنا عن حروف المعاني. ونختم ببيان القراءات وأثرها في تنوع الأساليب: الأساليب التي يستخدمها العرب في كلامهم أساليبٌ تنتمي إلى أصلين، وهو أساليب الخبر والإنشاء. الأسلوب إما أسلوب خبري أو أسلوب إنشائي، وبمنتهى الإيجاز: الخبري هو ما يحتمل الصدق أو الكذب، والإنشائي ما لا يحتمل الصدق أو الكذب، ومن صوره: الاستفهام والنداء والأمر والدعاء، إلى غير ذلك من الأساليب. فنأتي إلى بعض نماذج القراءات القرآنية التي تبين لنا التنوع في الأساليب تبعًا للقراءة، من ذلك: تغاير القراءات بين الخبر والاستفهام، أن الأسلوب خبري أم جاء على صورة الاستفهام؟ والاستفهام من صور الإنشاء، وكذلك: التنوع بين الخبر والنهي، والتنوع بين الخبر والأمر، وهذه كلها من الأساليب التي نعرفها،

ليست تنتمي إلى نوع واحد بل نوعين متغايرين، نوع ينتمي تحت الخبر، والآخر ينتمي تحت الإنشاء. من نماذج القراءات التي توضح الفرقَ بين الخبر والإنشاء هذا النموذج من سورة الأعراف قول الله تعالى -سبحانه وتعالى-: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (الأعراف: 113) فقرئت: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} وقرئت: "أإنَّ لنا لأجرًا" فبالطبع قراءة: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} دون الهمزة، هذه على سبيل الخبر، وقراءة الهمز: "أإن لنا لأجرًا" جاءت على سبيل الاستفهام، ويختلف الخبر عن الاستفهام؛ أما الإعجاز فهو واضح؛ لأن قراءة ترك الهمزة لم تؤثر على بقاء معنى الاستفهام، ولكنها أثَّرت على صورتها ومعنى الإخبار وإن لم يقصد، فإن مجيء التعبير على صورة الخبر يوحي بظلال معناه، فهو يعكس ثقةَ السحرة في الغلبة، وبالتالي في الأجر، حتى كأنهم قرروا وحكموا بأنفسهم بالأجر على سبيل التوكيد، فأدت القراءة إلى معنى جميل يدل على غرور هؤلاء، وعلى ثقتهم بأنهم غالبون، وبأنهم قاهرون، وبأنهم يستطيعون تحدي موسى -عليه السلام- وذلك واضح من حكايات الله -سبحانه وتعالى- عنهم في كتابه الكريم من قولهم لموسى -عليه السلام-: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الأعراف: 115). وكذلك ما قالوه لفرعون وقولهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (الشعراء: 44) إلى غير ذلك من ثقتهم في غلبة موسى، وفي انتصارهم عليه، ولكن الله -سبحانه وتعالى- بين لهم بالآية الواضحة أن موسى مرسل من ربه، وكانت العاقبة إيمانهم به -عليه السلام- ودخولهم في دين الله -سبحانه وتعالى-. فتنوعت القراءة بين: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} على الخبر، و"أإنَّا لنا لأجرًا" على الاستفهام.

نموذج آخر يشابه هذا النموذج وله معنى جميل في ذكر القصة، وهو قول إخوة يوسف -عليه السلام- ليوسف -عليه السلام- عندما قال لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} (يوسف: 90) فقرئت تواترًا: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} وقرئت: "إنَّك لأنت يوسف" بهمزة واحدة على سبيل الإخبار، وذلك يوضح أنهم عرَفوا أخاهم عندما قال -عليه السلام- لهم وذكَّرهم بما فعلوه به وبأخيه، فقالوا له هذه العبارة: "إنك لأنت يوسف" وإن كانت على سبيل الاستفهام فهو استفهام على سبيل التقرير، فهم يريدون منه الإقرار على أنه يوسف -عليه السلام- فلم تتعارض القراءتان، وإنما أكدتا المعنى المراد بأنهم عرفوا أخاهم، وعرفوا أنه هو مَن آذَوه، ومَن رموه في غيابات الجب عندما ذكرهم -عليه السلام- بنفسه. فهذا من النَّصَف القرآني الجميل الذي جاء عن تنوع القراءات بين الخبر والإنشاء، ومعلوم أن التنوع بين الخبر والإنشاء ربما يننتج عن الفهم فقط أو عن التفسير فقط دون تنوع القراءة، ولكن تنوع القراءة يسري هذا المعنى البلاغي. مثال الناشئ عن عدم تنوع القراءة قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} (المائدة: 23) هل هو على سبيل الدعاء فيكون ذلك إنشاءً؟ أم على سبيل الإخبار فيكون الأسلوب بذلك خبريًّا؟ وإلى غير ذلك من النماذج الكثيرة الواردة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- ولكن تنوع القراءات يثري هذا المجال بصورة تتضح بمن يتذوق القراءة تذوقًا بلاغيًّا في هذا الأسلوب. عندنا نموذج من تغير الأسلوب بين الخبر والأمر، منه قول الله -سبحانه وتعالى-: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 112) {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} هذه صيغة خبر؛ لأنها جاءت بصورة الماضي، قرئت تواترًا: "قل ربي

احكم بالحق" بصيغة الأمر، فَمَن قرأ بصيغة الفعل الماضي جعل الفعل مسندًا إلى ضمير الرسول - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- المتقدم في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) فيكون ذلك إخبارًا من الله تعالى عما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعائه، أما صيغة الأمر فهي على أنه أمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي: احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين، وانصرني عليهم. فإن كل قراءة لها دَلالة تدل عليها، فقراءة الجمهور: "قُل" تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- أُمِرَ أن يقول ذلك، وقراءة حفص: {قَالَ} تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- امتثل الأمر بالفعل، وبذلك تلتقي القراءتان، ويتآخى المعنيان، ويظهر وجه الإعجاز في تنوع القراءات القرآنية. عندنا كذلك من تنوع الأساليب بلاغيًّا الذي نتج عن القراءات هذه الآية من سورة المائدة في قول الله -سبحانه وتعالى-: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 112) قرئت: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وقرئت: "هل تَستطيع ربك" بتاء الخطاب، ونَصْب لفظ "رب" وهذه هي قراءة الكسائي، وقراءة الباقين أو قراءة الجمهور: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} بياء الغائب ورفع "رب" على الفاعلية. هاتان القراءتان توضح أن هناك علاقةً بينهما، فقراءة بضمير الغيبة: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} طلب لمعاينة المائدة، وذلك ليزداد هؤلاء الحواريون بصيرةً، ويتمكن الإيمان بالله في قلوبهم، وقراءة الخطاب: "هل تستطيع ربك" تعظيم بشأن المولى -سبحانه وتعالى- جلت قدرته، وتنزهه -سبحانه وتعالى- عن العجز، حيث أسند الحواريون السؤال عن الاستطاعة إلى عيسى -عليه السلام- يعني: أنهم لا يتحدثون على استطاعة

المولى، فهم يعلمون أنه -سبحانه وتعالى- مستطيعٌ ذلك، وإنما يتوجهون بالخطاب لعيسى -عليه السلام- بأنه يسأل ربه إنزال هذه المائدة، وفي ذلك إشارة إلى تكريم عيسى وتعظيمه حيث استجاب الله لدعائه. وبذلك تكون كل قراءة قد أفادت معنًى من المعاني. هناك بعض الأساليب البلاغية التي وردت في القراءات، من أشهر هذه الأساليب ما يتعلق بظاهرة الالتفات، يعني: تنوع الضمير من الغيبة بالخطاب، أو من التكلم إلى الغيبة، وغير ذلك من ألوان الالتفات الستة المعروفة عند البلاغيين. فعندنا نماذج متنوعة في هذا اللون، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} (النساء: 173) قرئت: {فَيُوَفِّيهِمْ} وقرئت: "فنوفيهم". و"يوفيهم" بضمير الغيبة و"نوفيهم" بضمير المتكلم، فقراءة النون جاءت موافقةً للسياق التعبيري، فَقَبْلها قوله -سبحانه وتعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (آل عمران: 56). وقراءة: {فَيُوَفِّيهِمْ} جاءت على الالتفات من التكلم إلى الغيبة؛ ليخالف بين العقاب والثواب، ولم يكن العكس، فإن الله -سبحانه وتعالى- ذكر في الآية السابقة عذابه، وذكر في هذه الآية ثوابه لأهل الإيمان والعمل الصالح، فالحديث عن المؤمنين بـ"النون"؛ لأن السياقَ لما كان مشيرًا إلى شدة تخويف وتهديد الكفار عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، فإنه ناسبَ أن يكون التنوع بين الخطاب بأهل الإيمان، وكِلَا المعنيين من المعاني أو من اللطائف التي تَظهر في تنوع أو في استخدام الالتفات في الضمير. وكذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 47، 48) قرئ: "ونُعلمه الكتابَ والحكمةَ".

إلى غير ذلك من النماذج، ومجال القراءات -كما نعلم- من المجالات الواضحة التي تثري الدراسة البلاغية واللغوية، والأحكام التشريعيةَ، وذلك كله كان على سبيل التمثيل. وبقي أن أشير لكم -أبنائي الطلاب- أن هذا هذه الدراسة مستفاد منها من دراسة الأستاذ الدكتور عبد الكريم إبراهيم صالح في كتابه (الإعجاز في تنوع وجوه القراءات) فليرجع إليه في مجاله قام بدراسة معتبرة، والتفاصيل موجودة في كتب توجيه القراءات وهي معلومة مشهورة. وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الدرس: 12 مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها.

الدرس: 12 مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها.

غريب القرآن أو غرائب القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها) غريب القرآن أو غرائب القرآن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: نتحدث عن مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها. ما يسمى بغريب القرآن أو غرائب القرآن: الغرابة في اللغة: هو قول الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال، هذا التعريف الذي ذكره التفتازاني في تعريف الغريب. أما موضوعنا أو كلامنا عن الغريب في القرآن الكريم يتصل بهذا التعريف السابق من جهة، ويخالفه من جهة أخرى؛ لماذا؟ لأننا لو ذكرنا أن كلمة وحشي التي هي أصلًا مأخوذة من الوحش الذي يسكن القفار، فاستعير اللفظ لكل ما هو غير مأنوس، فهذا حاشا لله أن يكون متواجدًا في كتاب الله -سبحانه وتعالى-. فإن الوحشية المذكورة في هذا التعريف يقسم إلى قسمين؛ غريب حسن وغريب قبيح. فالحسن: هو الذي لا يُعاب استعمالُه على العرب، وهذا منه غريب القرآن والحديث. أما القبيح الذي يجمع مع غرابة الاستعمال ثقلًا على السمع وكراهةً على الذوق، وهذا ليس في كلام الله ولا كلام رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. فهذه الغرابة المقصودة في اصطلاحهم بغريب القرآن ليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ها هنا هي

التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوَى في العلم بها أهلها وسائرُ الناس، أي: العرب الخلص هم الذين يعرفون هذه اللفظة، ويعرفون المراد منها، أما سائر الناس ممن هم دونهم في الفصاحة أو في العروبة ومعرفة كلام العرب، لا تتساوَى عندهم هذه اللفظة، وهذا الذي عدوه من الغريب اجتهد العلماء في جمعه وفي حصره مما أُطلق عليه غريب القرآن. وهذا أمر يرجع فيه إلى الكتب المختصة بعلوم القرآن كما في (الإتقان) للسيوطي، و (البرهان) للزركشي، وغير ذلك من الكتب التي تهتم بهذا المجال. فمنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب ناتج عن اختلاف اللغات، بأن تكون هناك لغات متفرقة أو يكون الاستعمال على وجه من وجه الوضع اللغوي يُخرجه مخرج الغريب، كاستخدام الظلم والكفر والإيمان ونحوها مما نُقل عن مدلوله من لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدثة، أو يكون سياق الألفاظ قد دل بالقرينة على معنى غير الذي يُفهم من ذات الألفاظ، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} هنا بمعنى بيناه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاعمل به، فهذا مما ذكره الرافعي في بيان منشأ الغرابة فيما عدَّى أو عرف بأنه من غريب القرآن. اجتهد العلماء في بيان أسباب هذه الغرابة أو ما أطلق عليه الغريب، وحَصَرها الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة في بعض الأسباب؛ منها: تعنت مشركي قريش وتجاهلهم في فهم الواضحات؛ تلبيسًا على القرآن. يعني: أنهم يعلمون معنى الكلمة ولكنهم يسألون النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- مع هذا العلم لغرض التعنت والتجاهل، كقولهم: ما الرحمن؟ هم يعلمون لفظة الرحمن ومرادها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا

وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (الفرقان: 60) هم يعلمون أن الرحمن مشتق من الرحمة، ويعلمون هذه الكلمة، ولكنهم سألوها تعنتًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما سأل فرعون موسى -عليه السلام-: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 23) مع أنه هو القائل: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعات: 24) فهو يعرف كلمة الرب لكنه يتعنت في محاورته موسى -عليه السلام-. الغرض الثاني -أو السبب الثاني- هو استهداف المشركين إظهار القرآن في مظهر المتهافت والعابس اللاهي، فيتطلقون ألفاظًا على سبيل التهكم والسخرية من الألفاظ القرآنية، وقصتهم مع الزقوم مشهورة، فإنهم يعلمون أن الزقوم هو التمر بالزبد، فيتهكمون على ذلك بالقرآن الكريم، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوعدهم بالزقوم، فجاء أبو جهل -كما روي- وجمع صناديد قريش، وأمر الجارية فقال لها: زقمينا زقمينا!! فظلت تدور عليهم بالزبد والتمر، ويقول: هذا ما توعدكم به محمد! وسخريةً من خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فبين الله أن الزقوم الذي ذُكِر في كتاب الله ليس هو الذي تسخرون به، أو تفهمونه من كلامكم هذا، وإنما هي: {شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 64، 65). حتى إنهم من مدى استهدافهم معاداة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمجادلة بالباطل، طرحوا سؤالهم الساذج أن النار تأكل الشجر، فكيف تنبت الشجرة في النار؟ فبين المولى -سبحانه وتعالى- أن ذلك الوعيد هو الذي سيعلمونه، وهو الذي سيرونه. كذلك أيضًا ما ذكر من سخريتهم في عدد الملائكة عليها تسعة عشر، ومن قول قائلهم: أنا أكفيكم عشرة منهم، وعلى الباقين أن يكفوا تسعة ... إلى غير ذلك مما ذكر في السيرة.

يرجع أيضًا الغرابة إلى الفهم الخاطئ لألفاظ القرآن الكريم، وذلك قد يكون عن حسن قصد، وذلك كما حدث مع بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك الذي أنه ظن من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187) فأتى بِعُقالين ووضعهما تحت وسادته، والآخر في رواية: من ربط رجليه بخيطين أبيض وأسود، وظل ينظر حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ذلك الثابت في الصحيح من الأحاديث، وعلق عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((إن وسادك إذًا لعريض)) لأن أين هذا الوساد الذي يشمل المشرق والمغرب حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؟ كذلك ما فهمته عائشة -رضي الله عنها- من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} (الانشقاق: 8) فهمت أن هناك حسابًا واقعًا ولكنه حساب يسير، ففهمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الحساب هو العَرْض، وأنه لا يناقَش أحد الحساب إلا عُذِّب أو إلا هلك كما ذكر في الصحيح. يرجع ذلك أيضًا إلى قضية العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمبهم والمبين، كل ذلك مذكور ومعروف في كلام الله -سبحانه وتعالى- هذا الذي عده البعض من الأشياء الغريبة في الاستعمال، والتي أحدثت لأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- نوعًا من اللبس، أو عانَدَ بها مَن لم يؤمن برسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. الخلاصة: أننا نقصد بالغريب ما قل دورانه على الألسنة، فلم يستعمله الخطباء ولا الشعراء استعمال غيره من الألفاظ، ولم يكن ما نسميه -الآن- غريبًا بغريب عند هؤلاء الذين تحداهم القرآن، فلم يكن استخدامه حينئذٍ معيبًا ولا مستكرهًا.

نماذج من هذه الألفاظ التي شغلت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي اهتم العلماء بجمعها، وعدوها من الألفاظ الغريبة في الاستعمال على الصحابة: منها: القصة المشهورة حول كلمتي "قَضبًا وأَبًّا" في قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (عبس: 25 - 31) فالقضب هو القث، والأَب ما ترعاه الأنعام، ويقال: الأَب للبهائم كالفاكهة للناس، وقد جاءت الكلمتان فاصلتين محافظتين أقوى محافظة على النغم الموسيقي، كما أن الكلمة الثانية استُخدمت في معناها الدقيق. وكذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (مريم: 89) فكلمة: {إِدًّا} بمعنى الأمر العظيم، جاءت في سياقها لازمة لما انتهت إليها فواصل سورة مريم، وأدت المعنى المراد منها أتم بيان. كذلك في قول الله -سبحانه وتعالى-: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (البقرة: 273) فجاءت كلمة: {إِلْحَافًا} مكان كلمة "إلحاحًا" لما بين من تكرار الحاءان في الكلمة من أثرٍ في الإعراب عنها، وليس ذلك بعزيز على الاستخدام القرآني الذي نزل؛ ليتحدَّى أبلغ البلغاء. هناك بعض الألفاظ التي جاءت في القرآن وضَّحها المولى -سبحانه وتعالى- وذكر بيانها؛ لأنهم تساءلوا عن معناها، وهناك ألفاظ أخرى بين معناها من خلال السياق، كقوله تعالى: {كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} (النساء: 91) وكقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (الأنعام: 25) وكقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ

ظاهرة الألفاظ المعرضة.

عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (طه: 105 - 107) والأَمت: هو الارتفاع والهبوط، كذلك "ألتنا" بمعنى نقصنا أو أنقصنا: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (الطور: 21). فهذه الألفاظ ليست بالغريبة؛ لأن سياق الآيات يوضحها ويوضح معناها لهؤلاء الذين يعرفون لغة العرب، وكما قلت: هناك ألفاظ وضحها المولى -سبحانه وتعالى- ككلمة "سجيل"، وكلمة "علييون" فقال المولى -سبحانه وتعالى-: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 7 - 9) وكقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 18 - 20). فهذا من وجوه البلاغة في الاستخدام، هذه الألفاظ التي لم تشع على الألسنة إلا قليلًا، إلا أنها وقعت في موقعها، هذا الموقع الحسن على الأذن، وجرت على اللسان مجرًى سهلًا، ثم وضعت في موضع لا يغني غيرها من الألفاظ عنها غناءَها، فناسبت الفواصل، وأدت المعنى على أكمل حال. وقد سبق أن بينت لكم ذلك الجمال في كلمة "ضيزى" بمعنى جائرة في قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم: 22). ظاهرة الألفاظ المعرضة ننتقل الآن إلى الظاهرة الأخرى في مفردات القرآن وهي ظاهرة الألفاظ المعرضة. ظاهرة الألفاظ المعرضة التي جاءت في القرآن الكريم، والبعض ذكر أنها ألفاظ غير عربية، والبعض تمسك بأنها ألفاظ عربية. هذه المسألة لا بد أن نوضحها. أولًا: القول بأن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية، هذه مسألة -كما يقال- مصيبة، يعني: أن ننسب لكتاب الله -عز وجل- ألفاظًا أعجميةً، والله -سبحانه وتعالى- القائل: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 195) والمولى -سبحانه وتعالى- أنكر عليهم قولهم: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) فهذا المعنى بالقول: بأن القرآن يشتمل على

ألفاظ أعجمية!! هذا المعنى يُرفض ولا يُقبل. هذه الألفاظ يقال: أنها في أصولها أعجمية، أما في استخدامها في القرآن فهي عربية، كيف؟ هذا ما ذكره أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة، عندما وضح هذه المسألة بقوله: أما ما يدعيه البعض من وجود ألفاظ أعجمية في القرآن، فليس في القرآن لفظ أعجمي لا يعرفه العربي، أو لم يستعمله، وكيف يصح خلاف ذلك والقرآن يكذبه عندما يبين أنه نزَل بلسان عربي، فوضح أن الخلاف بأنه مَن ينفي وجود الأعجمي في القرآن، إنما يقصد الذي لا تعرفه العرب ولا تستعمله، ومن قال بوجوده فهو يقصد الذي عرفه العرب واستعملوه، حتى لَانَ وانقاد للسانهم. وهكذا يكون الخلاف بين الفريقين لفظيًّا؛ لأنه توارد على محلين مختلفين، وهذا هو الإنصاف في هذه المسألة، وهذا مشاهد عندنا في استخدامنا وفي كلامنا، فإن كثيرًا من الكلام الذي نستخدمه يرجِع إلى كلمات أجنبية معروفة بالنسبة لنا والناس يفهمونها، فإذا ما قلت لأحد: مليون أو ملايين أو دولار، أو هذه الألفاظ، هو يفهم تليفون وغير ذلك، يفهم هذه الكلمة، وليست تسبب له عَناء في استخدامها. ومن رحابت اللغة العربية أنها تستخدم الكلمات وتستوعب اللغات، فتدخل فيها وتسير معربةً بهذا الاستخدام، فهي في الأصل ليست عربية وفي الاستخدام عربية؛ لأن العرب يعرفونها ويستخدمونها في كلامهم، وأكبر دليل على ذلك أن هذه الألفاظ جرت على لغتهم وطريقتهم في الضبط والنطق، فنُوِّنت تنوينَ كلام العربي وأخذت مواقعَ الرفع والنصب والخفض، وغير ذلك من تصاريف اللغة وكلامهم.

فلذلك نقول: إن القرآن استخدم ألفاظًا تكلمت بها العرب وأدخلتها في لغتها، وإن كانت في أصلها ليست من اللغة العربية، وقد ثقلتها العرب بألسنتها، وشذَّبتها، وربما تكون قد غيَّرت بعض حروفها، أو أسقطت بعضها، وإذا أدخلت العرب هذه الألفاظ استغنت بها غالبًا عن أن تضع ألفاظًا في معناها. من هذه الكلمات المعربة التي استخدمها القرآن وهي قليلة في جملتها كي يعلم ذلك، كلمة "إبريق" في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 17، 18) وكلمة "استبرق" و"زنجبيلَا" و"سندس" و"سلسبيلَا" قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (الإنسان: 17 - 21). انظر -رحمك الله- إلى استخدام هذه الألفاظ وسط سياقها وتناسبها مع أخواتها، فهي من كلام العرب الذي يعرفونه تمامَ المعرفة. كذلك كلمة "كافور" في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (الإنسان: 5) وكلمة "الفردوس" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (الكهف: 107) وكلمة "التنور" في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (هود: 40) وكذلك "دينار" في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آل عمران: 75).

و"دراهم" في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (يوسف: 20) و"سجيل" في قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (الفيل:3، 4) وكلمة "سرادق" في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (الكهف: 29) و"القسطاس": {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (الإسراء: 35) و"المجوس" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الحج: 17). وقد أحصى السيوطي في كتابه (الإتقان) هذه الألفاظَ المعربةَ، وعدَّها، فليس استخدام هذه الألفاظ المعربة بمخرج القرآن عن أن يكون بلسان عربي مبين، فقد ارتضى العرب هذه الألفاظ واستخدموها في لغتهم، وارتضوها بين كلماتهم، وقد نزل القرآن بما ألِفَ العرب استعماله؛ ليدركوا معناه، فليس غريبًا أن يتخذ من تلك الأدوات المعربة أدواتٍ له، يؤدي بها أغراضه ومعانيه، بل هذه الألفاظ في مواضعها هي غاية البلاغة، وهي وقمة البلاغة في إثارها؛ لأنها تؤدي معانيها الدقيقة في عبارة موجزة، فإن العرب لم تضع لفظًا تدل به على معنى ما عربته، فلم تعد ثمة وسيلة للتعبير عنه سوى اختيار اللفظ المعرب، أو الإتيان بأكثر من كلمة لأداء معناها. مثلًا كلمة "استبرق" إذا احتيج إلى بديل لها فيقال: الديباج الثخين، فلم يستخدم العرب هذا اللفظ في استخدامهم، وآثروا استخدام "استبرق" ولنا الطرف المشهورة في وقتنا الحالي، بأنك إذا أردتَ أن تذهب إلى محل ما وتطلب منه سندوتشًا وتقول له: أعطني شاطرًا ومشطورًا وبينهما طازج، فلك أن تتخيل ما الذي سيفعله معك صاحب هذا المطعم الذي تريد منه أن يعطيك شاطرًا ومشطورًا وبينهما طازج، ولم تقل له: أعطني سندوتشًا، وهذه الكلمة استخدمت استخدامًا سهلًا في كلامنا. وكذلك إذا أردت أن تقول عن الشوكولاتة شوكولات مثلًا، تقول له: أعطني طاموخًا محلًّا، فماذا سيقول لك البائع. هذه قضية التعريب وقضية المعرب بإيجاز تعرضنا لها.

ظاهرة الوجوه والنظائر في القرآن الكريم.

ظاهرة الوجوه والنظائر في القرآن الكريم ظاهرة الوجوه والنظائر في القرآن الكريم بمعنى بسيط: إن هذه الوجوه والنظائر هي الألفاظ التي وردت فيه بمعان مختلفة، كلفظ "الهدى" مثلًا ورد في القرآن على سبعة عشرة وجهًا، بمعنى الثبات والدين والدعاء، وغير ذلك من ألفاظ الصلاة والرحمة والسوء والفتنة والروح، وغيرها، وكل ذلك مرتبط بالسياق، وكلها مما يتبسط في استعماله بوجوه من القرائن، وسياسة القرينة العربية شريعة من شرائع الألفاظ. فأقول: اعلم أن معنى الوجوه والنظائر أن تكون الكلمة واحدة، ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد وحركة واحدة، وأريدَ بكل مكان معنًى غير الآخر، فلفظ كل كلمة ذكرت في موضع نظير للفظ الكلمة المذكورة في الموضع الآخر، وتفسير كل كلمة بمعنًى غير معنى الأخرى، فهذا هو الوجوه. أي: أن الوجوه تتعلق بالمعاني، والنظائر تتعلق بالألفاظ، فهو لفظ واحد له معان متنوعة. وأسباب هذه الظاهرة في الاستخدامات القرآنية ترجع لأشياء معلومة من لغات العرب؛ منها: اختلاف القبائل العربية في وضع الألفاظ بمعانيها، ومنها: أن اللفظ قد يوضع بمعنى ثم يستعمل في غيره مجازًا، ومنها: أن اللفظ يكون موضوعًا بمعنى مشترك بين المعنيين، والمثال المشهور في كلمة "القرء": {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (البقرة: 228) فهل القروء هي طُهر أم حيض؟ وهذا اللفظ من الألفاظ المشتركة، وقضية المشترك اللفظي معروفة بين الأصوليين.

ورابع هذه الأسباب: أن يكون اللفظ موضوعًا لمعنًى في اللغة، ثم يوضع في الاصطلاح بمعنى آخر، ولذلك دائمًا عندما تبدأ أي علم يقال لك: لغةً واصطلاحًا، أي: استخدامه في أصل اللغة واستخدامه في الاصطلاح. فإذن ظاهرة الوجوه والنظائر ناتجة عن تنوع المعاني حول اللفظ الواحد، وهذه الظاهرة من الظواهر التي ينبغي على المفسري أن يعلمها، وأن يعرفها تمامَ المعرفة قبل الخَوْض في كلام الله -سبحانه وتعالى- وتفسيره، وقبل أن يتصدى ببيان معاني القرآن، فعليه أن يهتم بهذا العلم الذي صُنفت فيه التصانيف، واهتم العلماء ببيانه، فمنذ العصور الأولى للتأليف في علوم القرآن وجاءنا كتاب بهذا العنوان (الوجوه والنظائر) للدماغاني وختامًا بالموسوعة العظيمة موسوعة الفيروزبادي (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) ذلك من الكتب التي اهتمت اهتمامًا بالغًا بمسألة الوجوه والنظائر. وختامًا في هذه المسألة أعرض نماذجَ لكلمات استُخدمت في القرآن بأكثر من معنًى، مثلًا: كلمة "أُمة" استخدمت في القرآن على تسعة أوجه، أشهرها خمسة، أُمة بمعنى القوم، قال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) أي: أن يكون قوم أربَى أزيدَ من قوم. وبمعنى المِلة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) أي: ملة واحدة. وبمعنى المُدة: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} (هود: 8) إلى مُدة معدودة. وبمعنى الإيمان: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} (النحل: 120) أي: إمامًا. وبمعنى الخلق من الجنسين يعني: من الجنس النوع، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38).

وهذه كلمة "السبيل" تأتي في القرآن على أحد عشرة وجهًا، السبيل بمعنى الطريق: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (النساء: 98) السبيل بمعنى الطاعة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) السبيل بمعنى البلاغ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97) أي: مبلغًا يتبلغ به إليه. السبيل بمعنى المخرج: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (النساء: 15) السبيل بمعنى المسلك: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32) السبيل بمعنى الدِّين: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125) السبيل بمعنى الحُجة: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: 141) السبيل بمعنى العدوان: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الشورى: 42) السبيل بمعنى الإثم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران: 75) وكقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (التوبة: 91) السبيل بمعنى الملة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. وكذلك لفظ "الأُمة" وغيره من الألفاظ.

قضية الترادف.

قضية الترادف ما يتعلق بقضية الترادف: فأقول: هل هناك ترادف في القرآن؟ هل يجوز أن يكون هناك لفظ يؤدي معنًى لفظ آخر؟ هذه القضية اهتم العلماء ببيانها وبالحديث عنها، الصحيح الراجح أن الترادف يجوز في غير السياق، بمعنى: إنني إذا قلت لك: ما معنى السبيل؟ تقول: الطريق، هذا المعنى أو هذا الترادف في بيان المعنى عام خارج السياق، أما داخل السياق لا بد أن تعي معنى الكلمة، فإنها تؤدي معنًى لا يؤديه غيرها، لذلك اهتم العلماء اهتمامًا بالغًا بهذه القضية، حتى أفرد الزركشي في (البرهان) بابًا بعنوان: قاعدة هناك ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه، فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر وأدى إلى القول بالقطع بعدم الترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنًى غير معنى الإفراد، وهذا ما ذكرناه من أن أكثر الأصوليين على ذلك، أنه لا ترادف في التراكيب، وإنما خارج التراكيب يجوز أن يكون للكلمة مرادف يستخدم، أما في الاستخدام لا تستخدم إلا ما يؤدي المراد في سياقه. وضرب أمثلةً بالفرق بين الخوف والخشية؛ فالخشية أعلى من الخوف، وهي أشد الخوف، ولذلك خصت الخشية بالله -سبحانه وتعالى- وكذلك الخشية تكون من عظم المغشي، أما الخوف يكون من ضعف الخائف، لذلك قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد: 21) فإن الخوف من الله -سبحانه وتعالى- بعظمته يخشاه كل أحد كيف كانت حاله، أما سوء الحساب فقد لا يخاف منه مَن حاسَب نفسه ومَن عمل لمآله، وذلك من اللطائف أن الله -سبحانه وتعالى- لَمَّا عبر بالخوف عن الرب -سبحانه وتعالى- قال {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} (النحل: 50) كان الكلام على الملائكة وليس عن البشر، فإن الملائكة لما علم قوتهم وعلم عظم حالهم، بين المولى -سبحانه وتعالى- أنهم بالنسبة لجلال ربهم ضعفاء، فاستخدم الخوف: يخافون ربهم من خوفهم ويفعلون ما يؤمرون.

ذلك أيضًا الفرق بين القعود والجلوس؛ فالقعود لا يكون معه لبثة أي: مُكث، وقت، أما الجلوس لا يعتبر فيه ذلك، ولذلك نقول: قواعد البيت ولا نقول: جوالس البيت؛ لأن المقصود ما فيه ثبات، ولهذا قالوا: قعد يقعد بالضم، وجلس يجلس بالكسر، فاختاروا الثقيل؛ لما هو أثبت، ومن ثم نجد الاستخدام القرآني يبين هذا الفرق، فيقول المولى -سبحانه وتعالى-: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} (المجادلة: 11) فجاءت المجالس ولم تأتِ المقاعد؛ لأن الجلوس يكون زمانًا يسيرًا، أما مع القعود يكون الوقت والمكث الطويل، فلذلك لا يقال في الكلام: قعيد الملوك، وإنما يقال: جليس الملوك؛ لأن مجالسة الملوك تكون خفيفة، أو لا يكون فيها طول ولُبث، بعكس قولنا: القعيدة، بالنسبة للمرأة؛ لأنها تلبث في مكانها. كذلك أيضًا من جمائل هذه التفرقة، الفرقة بين التمام والكمال، وقد اجتمع ذلك في قوله -سبحانه وتعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3) فذكر المولى -سبحانه وتعالى-: {أَكْمَلْتُ} وذكر: {أَتْمَمْتُ} فالعطف كما هو معلوم يقتضي المغايرة، فقيل: الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ولهذا كانت هذه اللطيفة في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) ولو نظرتَ هذه الآية تجد قوله -سبحانه وتعالى-: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) فربما يتوهم متوهم لماذا ذكر كاملة مع أنها معروفة من العدد ثلاثة وسبعة فهم عشرة؟ يقال له: إن المولى -سبحانه وتعالى- لم يقل: تلك عشرة تامة؛ لأن كلمة تامة فُهمت من العدد كما ذكرت ثلاثة وسبعة، فهم عشرة، أو فهي عشرة، فإن التمام في العدد قد علم، وإنما قد بقي الإشارة إلى كمالها وعدم نقصها، فبذلك استخدمت: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.

وهناك فرق أيضًا بين الإتيان والإعطاء، معنى آتاه: أعطاه، إنما الاستخدام يفرق بين المعنيين، فالإتيان أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله، لذلك قال المولى -سبحانه وتعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر: 87) ولم يقل: ولقد أعطيناك سبعًا من المثاني، ولذلك لعظم شأن القرآن، أما في الإعطاء فكان قوله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر: 1) لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته يرِدون على الحوض ورودَ النازل على الماء، ويرتحلون إلى منازل العز والأنهار الجارية في الجنان، والحوض للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام الكريم، فقال فيه -سبحانه وتعالى-: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لأنه يترك ذلك عن كره، وينتقل إلى ما هو أعظم منه. وانظر إلى التعبير القرآني في الفرق بين قوله عن أهل الجزية: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} (التوبة: 29) ولم يقل: حتى يؤتوا الجزية عن يد، وعبر عن الزكاة بقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (التوبة: 71) {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} (الأنبياء: 73) فالزكاة لا بد للمؤمن بأن يكون محبًّا لها، وأن يُقْبِلَ عليها بقوة، أما إعطاء الجزية فهو عن كراهة، وهو عن شيء في نفوسهم من إخراجها، ولذلك حسَم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه المسألة، ونص عليها نصًّا صريحًا بأنه ليس هناك ترادف في القرآن -أي: في السياق القرآني- ليس هناك ما يسمى بالترادف. يقول شيخ الإسلام: الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقل أن يعبر بلفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن، فإذا قال القائل: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} (الطور: 9) إن المور هو الحركة يعني: تقريبًا، إذ المور حركة خفيفة سريعة، وكذلك إذا

حروف المعجم أو ما يتعلق بالحروف المقطعة.

قال: الوحي الإعلام، أو قيل: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (النساء: 163) {أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (المائدة: 48) أو قيل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} (الإسراء: 4) أعلمناهم، وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق، فإن الوحي هو إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالًا إليهم وإيحاءً إليهم. ومن قال: لا ريب بمعنى لا شك، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك)). ولفظ الشك وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدل عليه. هذا مما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، أن الترادف أو المعاني على سبيل التقريب ليس على سبيل التحقيق، فهناك فرق بين اللفظ وبين مرادفه، فيتبين من كلامه -رحمه الله- أنه لا ترادفَ في القرآن الكريم، بل لكل لفظ خاصية، وإلى هذا يميل البحث، فإن الله -سبحانه وتعالى- لا يضع كلمةً في مكان يجوز أن يوضَع غيرُها فيه، فالكلمة لها نسقها وسط أخواتها. حروف المعجم أو ما يتعلق بالحروف المقطعة ما يتعلق بحروف المعجم أو ما يتعلق بالحروف المقطعة. من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم هو استخدام هذه الحروف المقطعة في فواتح السور، فهذه الحروف التي يستخدمها العرب في كلامهم، جاءت على مثال فريد لم يبتكر قَبْل كتاب الله -عز وجل- ولم يستخدموه في أساليبهم وشعرهم ونثرهم وسجعهم، وما ذهبوا إليه من فنون الكلام، فجاء القرآن الكريم بهذه الطريقة المعجزة في الاستخدام؛ ليعرِّف العربَ ويتحداهم بهذه الحروف التي يتكون منها كلامهم.

يقول الباقلاني: إن ما ذُكِرَ في الحروف المقطعة في أوائل السور التي ذُكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتُتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه، وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع. فإنك إذا ما نظرتَ في هذه الحروف المقطعة تجد بعدها ما يتعلق بالقرآن الكريم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2) {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (ق: 1)، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: 1) فما جاء بعد هذه الأحرف المقطعة يتعلق بالانتصار للقرآن وبيان إعجازه. ومن ذلك أيضًا أن هذه الحروف المذكورة في أوائل السور هي نصف الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات، وهذا الوجه يتضح مما اهتم العلماء ببيانه، فإن الحروف التي بُنِيَ عليها كلام العرب ثمانية وعشرون حرفًا، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورةً، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهي أربعة عشر حرفًا، ويدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامَهم. شيء جميل أن تتأمل ذلك، في أن هذه الحروف المقطعة لم تتجاوز أربعة عشرة حرفًا اهتم العلماء بجمعها، فجمعها بعضهم في قوله: "صنه سُحيرًا مَن قطعك". وجمعها بعضهم في قولهم: "نص حكيم قاطع له سِر". كأن هذه الأحرف المقطعة تحتوي أسرارًا من علم الله -سبحانه وتعالى- لذا نجد عادةً المفسرين لا يقفون على معنًى صريحٍ واضحٍ في دلالات هذه الفواتح، وإنما يتركون أو يفوِّضون علمها إلى المولى -سبحانه وتعالى- في كثير من المواقع، فهي مظهرٌ من مظاهر الإعجاز.

بدأ بعد ذلك العلماء يفسرون هذا التقسيم أن هذه الحروف مكونة من مخارج حروف العرب، وما أخذت من الحروف إلا أعلاها وإلا أذكاها، فأخذت من المجهور، وأخذت من المهموس، وأخذت من حروف الحَلْق، وأخذت من حروف الرخاوة والشدة، إلى غير ذلك، وفصلوا ذلك في تصنيفهم بأن هذه الحروف أُخذت من أنواع المخارج. من اللطائف في فوائد هذا التقسيم ما ذكره الباقلاني أيضًا من قوله: إذا كان القوم الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية، وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر على حد التنصيف الذي بيناه. أي: أن الله -سبحانه وتعالى- يشير بما ذكر لِمَا لَمْ يذكر من هذه الحروف التي يتكون منها كلام العرب. والثانية أنهم لما تنبهوا على ما بُنِيَ عليه اللسان في أصله، ولم يكن لهم في التقسيم شيء، وإنما التأثير لِمَن وضعَ أصلَ اللسان، فلذلك أيضًا من البديع الذي يدل على أصل وضعه وقع موقعَ الحكمة التي يقتصر عنها اللسان، وكذلك أن هذه الحروف يمكن أن تُعاد فاتحةَ كلِّ سورة لفائدة تخصها في النظم إذا كانت حروفًا، كنحو: {الم} كأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعًا، واللام متوسطة، والميم متطرفة؛ لأنها تؤخذ في الشفه، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين. فذلك اهتمام العلماء ببيان أثر هذه الحروف كوجه من وجوه الإعجاز، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا من قوله: أما حرف مجرد فلا يوجد لا في

القرآن ولا في غيره، ولا يُنطق بالحرف إلا في ضمن ما يأتلف من الأسماء والأفعال وحروف المعاني، أما الحروف التي ينطق بها مفردةً مثل: {الم} ونحو ذلك، فهذه في الحقيقة أسماء الحروف، وإنما سميت حروفًا باسم مسماها، كما يسمى "ضرَبَ" فعل ماض باعتبار مسماه. ويذكر أيضًا ما ذكره الباقلاني من أن هذه الحروف هي أربعة عشرة حرفًا، وهي نصف أجناس الحروف؛ نصف المجهورة، والمهموس، والمستعلية، والمطبقة، والشديدة، والرخوة، وغير ذلك من أجناس الحروف، وهو أشرف النصفين. أي: أن المولى -سبحانه وتعالى- في هذه الفواتح اختار مِن كل صفة من هذه المخارج أشرفَها من الحروف؛ للاستخدام في الفواتح، والنصف الآخر لا يوجد في القرآن إلا في ظل الأسماء أو الأفعال أو حروف المعاني، التي ليست باسم ولا فعل، فلا يجوز أن نعتقد أن حروف المعجم بأسمائه جميعها موجودة في القرآن، لكن نفس حروف المعجم التي هي أبعاض الكلام موجودة في القرآن. يعني: هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، يبين أن هناك فرقًا بين الحرف وبين مسماه، أما استخدام هذه الحروف الثمانية والعشرين هذا ورد في كتاب الله، بل إن شيخ الإسلام أشار إلى الآيتين اللتين جَمعت كل واحدة منها الحروف الثمانية والعشرين جميعها، وهي آية آل عمران قوله -سبحانه وتعالى-: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 154).

هذه الآية الكريمة جمعت الحروف الثمانية والعشرين. وكذا آخر آية في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 29). فهاتان الآيتان جَمعت كل واحدة حروف الهجاء الثمانية والعشرين، وكان الإعجاز في استخدام الحروف المقطعة في أوائل السور كوجه من استخدام المفردات على صورة لم يعهدها العرب في استخدماتهم، فكان وجهًا من وجوه الإعجاز القرآني الكريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 قضية النظم.

الدرس: 13 قضية النظم.

التطور الدلالي لمصطلح "النظم" وكيف تطور هذا اللفظ؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (قضية النظم) التطور الدلالي لمصطلح "النظم" وكيف تطور هذا اللفظ؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: قضية النظم أو مسألة النظم. هذه المسألة سبق وأن تعرضنا لها في إيجاز على أنها وجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم صرفه إليه بعض العلماء، وصرح بأن سر الإعجاز في القرآن هو نظمُه. التطور الدلالي لهذا المصطلح، وكيف تتطور هذا اللفظ وهذا المصطلح البلاغي على يد شيخ البلاغيين وإمامِهم عبد القاهر الجُرجاني في القرن الخامس الهجري. فقضية النظم كانت متداولة شائعة عند العلماء الذين تحدثوا عن إعجاز القرآن، وتناولوا هذا الجانب، وخاصةً بين علماء المعتزلة وعلماء الأشاعرة الذين تناولوا هذا الموضوع حول إعجاز القرآن الكريم. أما عبد القاهر الجرجاني قد صاغ هذه النظرية وجعلها نظريةً مستقلةً في كتابه (دلائل الإعجاز) وبيَّنها تمام البيان، وكان كتابه تطبيقًا عمليًّا لهذه النظرية. ونستطيع أن نقول: إن هذا المصطلح الذي أُلف استعماله في كتب المتقدمين لم يتحول إلى مصطلح بلاغي أسلوبي ذي دلالة خاصة إلا على يد عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، ومصطلح النظم عنده يعادل مصطلح الأسلوب، وهذا ما سنبينه إن شاء الله. أما تعرض هذا المصطلح في تطوره فكان يُستخدم بالمعنى العام، وهو الإطار الذي خرج فيه القرآن الكريم وألفاظُ القرآن الكريم وما يتميز به نَظْم القرآن الكريم جملةً، ومما اهتم بهذا الموضوع وأسهبَ في بيانه في كتابه قبل عبد القاهر

القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) القاضي أبو بكر الباقلاني نص على أن القرآن الكريم بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، وأرجع ذلك إلى عشرة أسباب نذكرها بإيجاز: أولها: ما يرجع إلى جملة القرآن الكريم، وهو أن نظمه على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلام العرب، ومباين للمألوف من ترتيب خطابه، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتادة، فهو ليس بشعر، ولا نثر، ولا سجع، ولا غيره مما ألفه العرب في كلامهم. وثانيها: أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة والتشابه في البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر. وثالثها: أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذِكر قصص، ومواعظ، واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها كتاب الله -سبحانه وتعالى-. أما رابعها: فهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتًا بينًا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الظن والجمع. أما القرآن فعلى اختلاف فنونه ووجوه الكثيرة وطرقه المختلفة، فلا تباينَ فيه ولا تنافرَ في أي جزئية من جزيائته.

وأما خامسها: فهو أن نظم القرآن وقع موقعًا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن، كما يخرج عن عادة كلام الإنس، فهو متحد به للصنفين: الإنس والجن. وأما سادسها: فهو أن الذي ينقسم عليه الخطاب من البَسْط والاقتصار والجمع والتفريق والاستعارة والتصريح والتجوز والتحقيق، ونحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم، موجودة في القرآن، وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم. وأما سابعها: فهو أن المعاني التي تضمنها القرآن في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين، والرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة، وموافقة بعضها بعضًا في اللطف والبراعة، مما يتعذر على البشر ويُمتنع. وأما ثامنها: فهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تُذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع، وتتشوف إليها النفوس، ويُرى وجه رونقها باديًا غامرًا سائرًا ما تقرن به، كالدرة التي تُرَى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد. وأما تاسعها: فهو أن الحروف التي بُني عليها كلام العرب ثمانية وعشرون حرفًا، وعدد الصور التي افتُتح بها ذكر الحروف ثمانية وعشرون سورةً. هذه المسألة التي تحدثنا عنها - في الدرس السابق- حول فواتح السور ومقاطع الحروف. والنقطة العاشرة التي ختم بها هي أن القرآن سهل سبيله، فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، وعن الصنعة المتكلفة، وهو قريب إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس. هذه الوجوه التي تكلم عنها الباقلاني في بيان إعجاز القرآن في نظمه بصفة عامة. واهتم الباقلاني كذلك في كتابه ببيان الشواهد التي تؤكد هذا الكلام، وبأن نظم القرآن خارج عن طاقة البشر، وعن أن أحدًا يستطيع أن ينظم على هذا المِنوال، وأسهب -رحمه الله- في تأمل آيات القرآن سورةً سورةً، وآيةً آيةً، على أن

مَن يتأمل ذلك سيجد بَوْنًا شاسعًا وفرقًا كبيرًا بين نَظْم القرآن وبين غيره من الكلام. واستشهد -رحمه الله- بآيات عديدة كقوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام: 96) فيقول: انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها واحتجَّ بها على ظهور قدرته ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غُرة وبمنفردها دُرة؟!! واعتمد الباقلاني على أسلوب التشويق في العرض حتى أنه تعرَّض إلى بعض الصور والارتباط بين أجزائها ونظمها، وبين العبارات التي ذكرت في القرآن، ويعتمد دائمًا على عنصر الإثارة والتشويق، كقوله: متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان -عليه السلام- بعد ذكر العنوان والتسمية: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (النمل: 30) هذه الكلمة الشريفة العالية: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 31). وأسهب بعد ذلك في بيان الكلام، وكقوله: ما رأيك في تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}؟ (القصص: 4) وعرَضَ عرضًا جميلًا لسورة غافر، وما فيها من جمال وعَرْضٍ يأخذ بالقلوب والأسماع، ويجعل المرءَ يستشعر عظمة هذا الكلام المنزل من المولى -سبحانه وتعالى- فيقول: تأمل من الكلام المؤتلف قوله: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (غافر: 1 - 3) فيقول: أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء الله تعالى وصفاته، فانظر متى وجدتَ في كلام

البشر وخُطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني، وحسن الفاتحة والخاتمة؟! ثم اتلوا ما بعدها من الآي، واعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء، من احتجاج إلى وعيد، ومن إعذار إلى إنذار، ومن فنون من الأمر شتى مختلفة تأتلف بشريف النظم، ومتباعدة تتقارب بعلي الضم. ثم جاء إلى قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر: 5، 6) يقول: انظر إلى قوله تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} وهل تقع في الحسن موقعَ قوله: {لِيَأْخُذُوهُ} كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في الأصالة نكتة؟ لو وضع موضع ذلك "ليقتلوه" أو "ليرجموه" أو "لينفوه" أو "ليطردوه" أو "ليهلكوه" أو "ليذلوه" ونحو هذا، ما كان ذلك بديعًا ولا بارعًا ولا عجيبًا ولا بالغًا، فانقض موضع ذلك الكلمة، وتعلَّم به ما تذهب إليه من تخير الكلام، وانتقاء الألفاظ، والابتداء بالمعاني. ويربط بين هذا ويقول: إن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة، وأتلاها تِلو العذاب في الدنيا على الإحكام الذي رأيتَ. إلى غير ذلك مما ذكره، بل إنه تعدَّى ذلك إلى أن القرآن حتى في آيات الأحكام، فهو غاية في النظم على صورة لا يستطيع أحدٌ أن ينظم مثلها، وضرب أمثلة بآيات ذكرت في الأحكام كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ

الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (المائدة: 4). وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157). وكذلك آيات الاحتجاج: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 22، 23) وآيات التوحيد: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (غافر: 65). إلى غير ذلك من الآيات، حتى الآيات التي تشتمل على أسماء، وتكون العادة على أن لا يظهر فيها جانب الإبداع في النظم جاءت في القرآن على غير مثال في الكلام، فإذا ما نظرتَ إلى آية المحرمات: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} (النساء: 23) إلى آخر الآية، تجد فيها من البراعة ما يوقفك ويدهشك من براعةٍ في الترتيب وفي الذكر وبيان الأحكام، كل ذلك سِر عظيم ظاهرٌ في كتاب الله -سبحانه وتعالى-. هكذا كان المفهوم السائد بين العلماء حول النظم إلى أن جاء الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) وصاغ نظريته المعروفة بـ"نظرية النظم".

معنى النظم عند عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله-.

معنى النظم عند عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- يقول الجرجاني: اعلم أن ليس النظم إلَّا أن تضع كلامك على الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرفَ مناهجه التي نُهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها. هذا بإيجاز شديد معنى النظم. النظم: هو توخي معاني النحو. بَيَّن الجرجاني هذه المسألة؛ لأن توخي معاني النحو بإيجاز وببساطة، هو ما يجعلك أن تعدل عن أسلوب إلى آخرَ مفضِّلًا عمن عدلتَ عنه، يعني: تختار، يقصد بذلك أنه لماذا اختار الشاعر أو الأديب أو الكاتب أسلوبًا معينًا من الأساليب النحوية، ولم يختَرْ الأسلوب الآخر المساوي له أو الذي يمكن أن يستختدمه، فمن توخَّ معاني النحو واختار ما يخرج نظمه على صورة بديعة. هذا هو المقصود بالنظم عند عبد القاهر الجرجاني. ووضَّح ذلك -رحمه الله- بأمثلة يبين منها مرادَه، قال: وذلك أنَّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، زيد ينطلق، ينطلق زيد، منطلق زيد، زيد منطلق، والمنطلق زيد، زيد هو المنطلق، زيد هو منطلق. ضرب أمثلةً متنوعة للعبارات ومقصده من ذلك أنك إذا أردت الإخبار -الخبر الذي هو مقابل الإنشاء- فإنك إما أن تأتي بجملة اسمية أو بجملة فعلية، وإذا ما أتيت بجملة فعلية فإنك تختار الفاعل إما أن يكون معرفًا أو منكرًا، وإذا ما أتيت بجملة اسمية فإما أن تخبر عنها بجملة فعلية، أو تخبر عنها باسم المفرد، وإذا ما أردت

بالإخبار بالمفرد، فإما أن تضع ضمير فصل أو لا تضع ضمير فصل، وإذا ما وضعت ضمير فصل، فَرْق بين أن يكون ما بعده معرفًا أو منكرًا. ذلك مقصده من الأمثلة التي ضربها، فاختيارك لأسلوب معين في الإخبار، يفرِق من أسلوب أو من صياغة إلى أخرى. وكذلك في الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرج أخرج، أي: التعبير بالمضارع، وإن خرجتَ خرجتُ، أي: التعبير بالماضي، بأن يكون فعلا الشرط والجزاء ماضيين، وقولك: إن تخرج فأنا خارج، بأن تقرن الجوابَ بالفاء، وبأن تقول: أنا خارج إن خرجتَ، أن تقدم وتؤخر في أسلوب الشرط، وأن تقول: أنا إنْ خرجتَ خارج، فذلك أيضًا فَرْق في الاستخدام النحوي. يضرب مثالًا آخرَ فيقول: وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك: جاءني زيد مسرعًا، أي: التعبير بالحال المفردة، وجاءني يسرع، أي: مجيء الحال جملة فعلية، أو جاءني وهو مسرع أو وهو يسرع، فمجيء الحال جملة اسمية خبرها مفرد أو جملة فعلية، وجاءني قد أسرع، لاقتران الحال بـ"قد" وجاءني وقد أسرع، وقوع "قد" مع التعبير بالماضي في مجيء الحال. فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له. وكذلك ينظر في الحروف التي تشترك في معنًى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى فيضع كلًّا من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجيء بـ"ما" في نفي الحال، و"لا" إذا أراد نفي الاستقبال، و"إنْ" فيما يترجح في أن يكون أو لا يكون التي تفيد الشك كما تعلمون، وبـ"إذا" فيما علم أنه كائن، وينظر في الجمل التي تُسرد فيعرف موضع الفصل من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقه الوصل

مادة النظم هي العلاقة بين اللفظ والمعنى.

موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع ثم، وموضع أو من موضع أم، وموضع لكن من موضع بل، ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، وفي الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانةً، ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له. وهكذا الجرجاني يوضح القضيةَ بأسرها، أنها هذا النظم وهذه الفصاحة وهذه البلاغة التي تفرق بين كاتب وآخر، وشاعر وغيره، وبين ناظم وسواه، هي التصرف في الوجوه النحوية كما ذكر، ومما ذكرت لك يتبين لك أنه شمل جميع أوجه البلاغة والفصاحة. هذا هو معنى النظم الذي أشار إليه الجرجاني. مادة النظم هي العلاقة بين اللفظ والمعنى ما مادة النظم؟ النظم عند عبد القاهر الجرجاني -وكما بينه العلماء الثقات- أنه يعادل لفظَ الأسلوب الذي يخرج به الكلام، وهذا الكلام يدور بين شيئين أساسيين؛ لفظ ومعنى، معنى داخلك تريد أن تعبر عنه، ولفظ تعبر به عن المعنى الذي تريده، فهي قضية العلاقة بين اللفظ والمعنى. بإيجاز: العلاقة بين مادة النظم أي: العلاقة بين اللفظ والمعنى، وهذه قضية -كما يقول أهل العلم- قديمة جديدة، فهي تتجدد بتجدد الأيام، وهي مسألة شغلت العلماء وتناولها تفصيلًا وتكلموا فيها كثيرًا قضية اللفظ والمعنى، وعبد القاهر

الجرجاني أسهب في كتابه في بيان هذه القضية على مدار الكتاب؛ لأن مسألة تتعلق بنظريته في الإعجاز، أن إعجاز القرآن راجع إلى نظمه. مجمل هذه القضية بإيجاز: أن للعلماء فيها ثلاثةَ أقوال: - القول الأول: أن اللفظ أعلى من المعنى، وأعظم قيمةً، وأعز مطلبًا، وكان الجاحظ أول مَن نادَى به في نقد الأدب العربي، وذكر بيتين استشهد بهما على أهمية المعنى، وأن المعنى لا بد أن يكون شريفًا، وأن يتناول معنًى أخلاقيًّا، وما إلى ذلك، من استحسان أبي عمر الشيباني لهذين البيتين: لا تحسبن الموت موت البِلى ... وإنما الموت سؤال الرجال كلاهما موتٌ ولكن ذا ... أشد من ذاك على كل حال فعقَّب الجاحظ بقوله: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصِحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك، وإنما الشعر صناعة، وضربٌ من التصوير. فهذا الفريق الذي يذهب صراحةً إلى أن اللفظ أعلى من المعنى في قضية النظم. وكذلك أبو هلال العسكري فليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، وليس يُطلَب من المعنى إلا أن يكون صوابًا، ولا يقنع من اللفظ بذلك، ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخُطبة، والشاعر في القصيدة، يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها؛ ليدلوا على براعتهم، وحذقهم بصناعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثرَ ذلك، فربحوا كدًّا كثيرًا، وأسقطوا عن أنفسهم تعبًا طويلًا.

هذا هو فريق يذهب إلى أن اللفظ أعلى من المعنى. وفريق آخر يذهب إلى العكس، فيقول: المعنى أفضل من اللفظ، ويؤيد هذا الفريق الآمدي الذي يقول عمَّن سماهم أهل النَّصَفة من أصحاب البحتري، يقول: مِن أن اهتمام أبي تمام بمعانيه أكثر باهتمامه بتقويم ألفاظه، على شدة غرامه بالطباق والتجنيس والمماثلة، وأنه إذا لاح له أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي. ويعقب الآمدي على هذا بقوله: هذا أعدل ما سمعتُ من القول فيه، وإذا كان هذا هو هكذا فقد سلموا له الشيء الذي هو ضالة الشعراء وطلبتهم، وهو لطيف المعاني، وبهذه الخلة دون سواها فُضِّلَ امرؤ القيس؛ لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة، فوقَ ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية والإسلام. فهذا فريق يرى أن المعاني هي أعلى قدرًا من الألفاظ. أما الفريق الثالث الذي ناقش قضيةَ اللفظ والمعنى، فذهب إلى أن تلك الثنائية حرف في بحر، أي: لا داع لها بأن يفرق لها بين اللفظ والمعنى، فكلاهما مدار الصورة الأدبية، فهذا الفريق سوَّى بين اللفظ والمعنى في القيمة وفي التقدير، فالصورة الأدبية كالكائن الحي، فكما لا يصح فَصْل الجسم عن الروح، فكذلك لا يصح فصل اللفظ عن المعنى، فكلاهما مكمل للآخر. يقول ابن طباطبا: والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روحَ فيه كما قال بعض الحكماء: للكلام جسد وروح، فجسده النطق وروحه معناه. فكان ذلك هو الاختلاف بين العلماء في قضية اللفظ والمعنى، والعلاقة بينهما إلى أن جاء عبد القاهر الجرجاني، فوجد -كما يقول الدكتور لاشين- البحوث

ممهدة، ولكل فريق حجته الناهضة، ورأيه السديد، فلم يكن رأيه صريحًا في الاتجاه إلى واحد منهم، فقد أثر عنه في كتابيه (إشارة إلى أسرار البلاغة)، و (دلائل الإعجاز) كلامٌ يؤكد أفضلية المعنى، وآخرُ يؤيد أفضلية اللفظ، وتارةً يكون الكلام مغشَّى بالغموض والإبهام بين تأييد اللفظ والمعنى، مما يصعب على الفاحص والدارس أن يستخلص حقيقة رأيه، أو يهتدي إلى صريح مذهبه. هذا وإن كان يراه أستاذنا الدكتور عبد الفتاح لاشين، إلا أن أستاذنا الدكتور شفيق السيد يرى رأيًا آخرَ في هذه القضية مما يتعلق بعبد القاهر الجرجاني، وهو أن مَن فهِمَ من كلام عبد القاهر في بعض نصوصه أنه يؤيد اللفظ، لم ينظر جيدًا إلى مراد عبد القاهر باللفظ. فالحاصل الذي ينتهَى إليه أن عبد القاهر الجرجاني موقفه محسوم قاطع واضح، لا رِيبةَ فيه، فالرجل نص على أن اللفظ بمعزل عن السياق لا قيمة له، وأن اللفظ غاية ما يقال فيه إذا ما كان منفردًا: هو أنه مألوف، أو مستوحش، غريب أو سائر، مستخدم، ولا قيمةَ له خارج النص. أما تعبيره باللفظ في بعض المواضع فيتضح في سياق الكلام أنه يريد به الصورة التي خرج بها الكلام، ويشير في معنى آخر وفي نصوص أخرى في كتابه إلى أن اللفظ هو المعنى المراد الذي يقال، فتعبيره باللفظ لا يراد به الكلمة المفردة؛ لأن الرجل نص نصًّا صريحًا بأن الكلمة في مفردها لا قيمةَ لها دون النظم الذي خرجتْ فيه. هذه القضية التي شغلت الباحثين حول كلام الجرجاني في مسألة العلاقة بين اللفظ والمعنى، أسهب في بيانها أستاذنا شفيع السيد في كتابه (النظم وبناء الأسلوب في البلاغة العربية) فليرجَع إليه.

مزايا النظم وفساده.

مزايا النظم وفساده وننتقل الآن إلى نقطة في غاية الأهمية تتعلق بمزايا النظم وفساده. ابتداءً ينص عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- على أن مزايا النظم ترجع إلى اختيار المعاني، يقول عبد القاهر الجرجاني: فَصْلٌ: في أن هذه المزايا في النظم بحسب المعاني والأغراض التي تؤم. يعني: أن عبد القاهر نص نصًّا صريحًا أن فساد النظم أو القول بحسنه وارتقائه مرتبطٌ بالمعاني التي تؤم، والأغراض التي بعبر عنها. هذا ابتداء. وقام عبد القاهر -رحمه الله- بسرد شواهد على فساد النظم، وبذكر أشياء يعرَف بها مزايا النظم، فذلك يدفعنا إلى أن نتساءل أولًا قبل الحديث على المزايا والفساد: هل القضية في النظم هي قضية النحو؟ بمعنى: هل النظم هو معرفة قواعد اللغة العربية؟ سؤال آخر: هل يتطلب النظم معرفة سابقة بقواعد النحو؟ الواقع أن عبد القاهر الجرجاني لا يقصد بكلامه هذا أن النظم هو أن تكون عالمًا أو عارفًا باللغة العربية، فذلك ما وضَّحه عبد القاهر بأنه شُبهة، وأراد أن يرد عليها وأن يبينها في كتابه، ونص عليها نصًّا صريحًا، فيقول في (دلائل الإعجاز): واعلم أنَّا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه، فنستند إلى اللغة، ولكن أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يُصنَع فيها، فليس الفضل للعلم بأن الواو للجمع، والفاء للتعقيب بغير تراخٍ، وثم له بشرط التراخي، وإن لكذا، وإذا لكذا، ولكن لأن يتأتَّى لك إذا نظمت شعرًا وألفت رسالةً، أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعًا. ويقول أيضًا: وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول، فضلًا عن اعتقاده -يعني: فضلًا عن أن يعتقد أن قضية النظم هي معرفة النحو-

يقول: هو أن المزية لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها، لكان ينبغي ألا تجب إلا بمثل الفرق بين الفاء وثم وإن وإذا، وما أشبه ذلك، مما يعبر عنه وضع لغوي، فكانت لا تجب في الفصل، وتَرْك العطف، وبالحذف، والتكرار، والتقديم والتأخير، وسائر ما هو هيئة يحدِثها لك التأليف، ويقتضيها الغرض الذي تؤم، والمعنى الذي تقصد، وكان ينبغي أن لا تجد المزية بما يبتدئ الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ بالشيء لم يُستَعَرْ له، وأن لا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تُعارِفت في كلام العرب، وكفَى بذلك جهلًا. فهذا نص صريح من الجرجاني على أنه لا يقصد بكلامه أن تكون عارفًا فقط بقواعد اللغة العربية، وبالفروق التي نص عليها علماء النحو، ولكن القضية في توظيف هذه الأشياء في كلامك. وأما السؤال الآخر: وهو هل يتطلب النظم معرفة سابقة بقواعد النحو؟ هذا أيضًا يُجاب عنه ببساطة: بأن شعراء الجاهلية -مثلًا- صاغوا شعرهم ولم يكن عندهم المصطلحات النحوية التي ذكرها علماء اللغة وعلماء النحو، وهذا مثال جليل واضح من فعل الأعرابي عندما سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدًا رسولَ الله، بنصب لفظ "رسول" صنَعَ ماذا؟ أي: أنه بحاسة اللغوية أدرك أن النظم على هذا النحو لا يستقيم؛ لأن الكلام لم يفِد، دون أن يعرف التعليل الاصطلاحي الذي يقوله النحويون في هذا الشأن، وهو أن رسولَ بالنصب تكون عطف بيان أو بدلًا من محمد، والبيان والبدل هما المبين والمبدل منه، وذلك يعني أن المعنى لم يكتمل، فأما في حالة رفع كلمة رسول فإنها تكون خبر أنَّ، ويتم المعنى. الأعرابي لا يعرف ذلك التعليل، ولكنه علمه بحاسته. وكذلك من صاغوا

شعرهم قبل أن تقعد قواعد اللغة، وتكون عِلمًا يعرف بهذه الصورة، صاغوا أشعارهم وأُخِذت عنهم اللغة، وكان ذلك دون معرفة بالمصطلحات النحوية. فإذًا القضية التي يجب أن ننبه عليها بأن مقصدنا بالمزايا والفساد في الاستخدام النحوي، هو التخير، وهو تفضيل معنًى نحوي عن آخر في استخدامه لا مجرد العلم بقواعد اللغة، فإنه مِن البديهي أنه لن يخرج لنا أحد تراثًا أدبيًّا وهو لا يعرف لغة العرب، ويعتد بكلامه، فنأخذ عنه لغته، ذلك أمر معروف أنه مَن أراد أن يكتب شعرًا أو نثرًا أو إلى ذلك، لا بد أن يتخطى أولًا مرحلة تعلم اللغة العربية. بيان هذه المزايا التي أشار إليها الجرجاني في النظم، وضربَ نماذجَ لها: يبين عبد القاهر أن فساد النظم له شواهد اتفق الجميع على بيانها؛ بسبب الخلل في قواعد اللغة في التقديم والتأخير، والذكر والحذف، إلى غير ذلك، وضرب أمثلةً بأنهم لم يخالفوا على نقد قول الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملَّكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه وقول المتنبي: الطيب أنت إذا أصابك طيبُه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل وقوله أيضًا: وفاؤكما كالرَّبع أشجاهُ طاسِمُه ... بأن تُسعِدا والدَّمعُ أشفاه ساجمُه فنظائر ذلك مما وصفوه بالفساد، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كان من تعاطي الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير صواب، وصنع من تقديم وتأخير أو حذف وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا

يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم. وإذا ثبت ذلك، فإن سبب فساد النظم واختلاله ألا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها. بيان نماذج رائعة عددها الجرجاني على مزايا النظم، وكلها في كتاب الله -سبحانه وتعالى-: من النماذج التي تعرَّض لها الجرجاني ببيان روعة النظم، نضرب مثالًا بالتقديم والتأخير، وآخرَ للتنكير، لأن المسائل الأخرى سنتحدث عنها تفصيلًا، وكل في موضعه. من مثال التقديم والتأخير عرض بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} (الأنعام: 100) فيقول هنا بتقديم المفعول الثاني وتأخير المفعول الأول في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} على أن: {شُرَكَاءَ} مفعول أول للفعل جَعَلَ، وشبه الجملة هو المفعول الثاني لهذا الفعل. فيبين الجرجاني في هذه الآية الكريمة كيف كان للتقديم والتأخير أثرٌ عظيم، غير أن يقال: وجعلوا الجن شركاءَ لله، فإنه لو قُدِّم: {الْجِنَّ} على المفعول الأول، لربما توهم متوهم أن الإنكار على جعل: {الْجِنَّ} شركاءَ دون غيرهم، فإذا ما كان غيرهم جاز أن يكون هناك شريك -حاشا لله، والعياذ بالله من فهم مثل هذا المعنى- فأفاد التقديمُ والتأخيرُ صرف هذا المعنى كليةً، فإن الإنكار على جعلهم لله شركاء، سواء كان الجن أو غيرهم، فالجن منفصلة عن المفعولين. ويؤكد أو يؤيد ما ذهب إليه الجرجاني في بيان هذه الآية أنه قرئ في الشواذ "الجنُّ" بالرفع، أي: هم الجن. هذا مثال ضربه الجرجاني، وعندك في (دلائل الإعجاز) آيات عديدة بين فيها الجرجاني قضية النظم.

ومثال التنكير ذكره في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) فما أروعَ التنكيرَ في استخدام كلمة {حَيَاةٌ} ولم يقل "الحياة" فإنها لا تشمل الجميع، وإنما تشمل من تعلق بأمر القصاص بأنه يخرج من الحذر الذي يظهر في سياق الآية. وكذلك هناك نماذج كثيرة ضربها الجرجاني في النظم لاختيار لفظ دون الآخر، كاختيار الموصول في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} (يوسف: 23) وبدلًا مِن: "وروادته امرأة العزيز" أو: "وراودته امرأة الذي اشتراه من مصر" أو غير ذلك. وإنما عبر هنا بالذي: {هُوَ فِي بَيْتِهَا} تعبير بالموصول وصلته له فائدة لا يعطيها التعبير بالاسم الصريح. إلى غير ذلك من النماذج التي اهتم العلماء ببيانها والكلام عنها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 قضية الذكر والحذف.

الدرس: 14 قضية الذكر والحذف.

المسند إليه، ودواعي وأغراض ذكره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (قضية الذِّكْر والحذف) المسند إليه، ودواعي وأغراض ذكره الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: قضية الذكر والحذف، وهما ظاهرتان من ظواهر اللغة العربية، وظاهرتان من الظواهر التي اهتم العلماء ببيانها في مسألة النظم -التي سبق وأن تحدثنا عنها-. قضية الذكر والحذف قضية بلاغية نحوية، اهتم بها علماء البلاغة واهتم بها علماء النحو، فهي قضية لغوية هامة. الحذف على سبيل المثال أعده سيبويه ضربًا من ضروب الاتساع في اللغة، وعده ابن جني بابًا من شجاعة العربية كما أطلق عليه. وكذلك اهتم أهل البلاغة بهاتين الظاهرتين، فتحدث عنهما الجرجاني وكذا طبَّقَ الزمخشري في كتابه (الكشاف) على هاتين الظاهرتين تطبيقًا عمليًّا، وكذلك المتأخرون من النحاة والبلاغيين كابن هشام والسكاكي، أسهبوا في بيان هذه الظواهر التي نتناولها ونتحدث عنها. ومما يجدر أن ننبه عليه ابتداءً أن حَصْرَ أغراض الذكر أو الحذف ضربٌ من المستحيل؛ لماذا؟ لأن هذه الأغراض تتجدد بتجدد الخطاب، فغاية ما ننتهي إليه في درسنا هو ذكر أغراض تَنَبَّه لها مَن تنبه من أهل العلم، فذكروها في مصنفاتهم، وبعضها يؤخَذ في الاعتبار وبعضها يمكننا أن نرد عليه، فمعلوم ألا عصمة إلا لكتاب الله -سبحانه وتعالى-. وكذلك أنبهك على أن الأغراض التي ذُكرت بعضها يعد ضربًا من التنظير والإعمال الذهني؛ لأنه لم يجد له العلماء مثالًا إلا أمثلةً مصطنعةً ذكروها -كما سأبين لك- وهي بعيدة عن روح النص وطبيعة الخطاب اللغوي الذي يتحدث به العرب في نظمهم؛ نثرًا كان أو شعرًا، فغاية ما ذكروه أمثلة مصطنعة كما ذكرت.

أيضًا أنبهك أن الأصل هو الذكر، ولا يعدل عن الذكر إلى الحذف إلا بقرينة، وأحيانًا يتعين الحذف. كذلك أنبهك إلى أن هذا الدرس يدور حول ركيزتين أساسيتين؛ هما ركنا الإسناد والمتعلقات، وركنا الإسناد هما المسند والمسند إليه، ولكي أبسط هذه المعلومة أذكرك أو أعرفك -أو كما أنت تعرف- أن المسند هو الفعل أو الخبر، الفعل في الجملة الفعلية والخبر في الجملة الاسمية، والمسند إليه هو المبتدأ في الجملة الاسمية، والفاعل في الجملة الفعلية. أما المتعلقات فهو ما يُطلق عليه مكملات الجمل من مفعول، أو حال، أو أنواع المفاعيل على اختلاف ضروبها، أو تمييز أو صفة أو مضاف إليه، إلى غير ذلك مما ليس ركنًا من أركان الجملة. وأيضًا أنبهك إلى أن هذا الدرس ينفرد فيه نَوْعٌ من أنواع المتعلقات باهتمام البلاغيين دون غيره، وهو المفعول به، فأفردوا أبوابًا؛ لبيان حذف المفعول به وما يتعلق به من أغراض، وهذا ما سننبه عليه أيضًا ونفرده على عادتهم. ومصدر ذلك ما فعله الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) عندما اهتم ببيان المفعول به، وصار على نهجه مَن صنَّفَ في هذا العلم. بيان مسألة الذكر. الذكر: هو ذِكْرُ المسند إليه أو ذكر المسند، أو ذكر المتعلق -كما ذكرت- فنبدأ ببيان اهتمامهم بهذه المسألة، وحديثهم عن الدواعي التي تؤدي إلى ضرورة ذكر المسند إليه، والمسند إليه -كما تعلم- هو المبتدأُ والفاعلُ. ابتداءً الأصل هو ذكر المسند إليه، ولا يُعدل عنه إلى الحذف إلا لغرض بلاغي يرجحه على الذكر، ولذلك يقولون: إن الحذف يكون ممكنًا كالذكر، ولكن الذكر يرجحه لأغراض. يعني: يكون مرجحًا على الحذف لأغراض.

فأول هذه الأغراض التي ذكروها هي الاحتياط بضعف التعويل على القرينة. بمعنى: أن هناك قرينةً تدل على المسند إليه لو حذف، ولكن هذه القرينة إما أن تكون خفية وإما أن تكون مشتبهًا فيها، فالأولى أن يذكر المسند إليه في حديثك، ثم تمضي فترة حتى يطول عهد السامع به، فيذكر ثانيًا؛ لاحتمال غفلة السامع عنه بطول عهده به، أما الثاني فهو أن يذكر المسند إليه في حديث، ثم يحول مجرى الحديث في شأن غيره، فيذكر ثانيًا؛ لئلا يشتبه السامع في المحدث عنه أهو الأول أم الثاني؟ فقد ضعف التأويل على القرينة في الموضعين، فلذلك لا بد لك من أن تذكر المسند إليه. مثال الأول: كأن تقول: شوقي نعم الشاعر، فتذكر المبتدأ -الذي هو شوقي- إذا سبق ذكر شوقي في حديث وطال به عهد السامع، أو ذُكر معه حديث في شأن غيره واشتبه الأمر على السامع. هذا أول ما ذكروه من ضرورة ذكر المسند إليه. كذلك ذكروا غرضًا ثانيًا وهو التنبيه على غباوة السامع، بمعنى: أن الذي تخاطبه لا يفهم إلا بالتصريح، فلذلك أنت تذكر المسند إليه كأن ترى امرأً غافلًا عن سماع القرآن، أو لاهيًا عنه، فتقول له: القرآن شفاء القلوب، تنبهه بذلك على أن ينتبه وأن يستمع، وأن القرآن فيه فائدة، فذكرته. ومن لطيف ذلك ما ذكر في كتاب الله -سبحانه وتعالى- في نبأ فرعون مع موسى -عليه السلام- فعندما خاطبه فرعون، وقال: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} (طه: 49) قال له

موسى -عليه السلام-: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) فعندما سأله في الثانية: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى* قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} (طه: 51، 52) فنراه -عليه السلام- ذكر في الأولى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي: ذكر المسند إليه، وأما في الثانية حَذَفَ المسند إليه، فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} لم يقل: القرون الأولى علمها عند ربي في كتاب؛ لأن هذه المسألة ربما تُجهل على فرعون، فأراد المبادرة ببيانها. أما الأولى فهو سؤال أحمق من رجل متكبر عاتٍ يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} فذكر موسى -عليه السلام- المولى -سبحانه وتعالى- المسند إليه فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ذكره؛ تنبيهًا له على أن هذا السؤال ينبغي أن لا يسأل؛ لأن الرب -سبحانه وتعالى- هو خالق جميع المخلوقات التي أنت منها أيها المتكبر العاتي. كذلك من الأغراض التي ذكروها في ذكر المسند إليه هي زيادة الإيضاح والتقرير، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) فقد جاءت هذه الآية بيانًا لمنزلة المتقين عند الله عقب وصف خصالهم الحميدة التي تميزوا بها في الآيتين السابقتين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 3، 4) فكان تكرير اسم الإشارة: {أُولَئِكَ} الواقع مسندًا إليه لتقرير هذه المنزلة، وإظهار مزيد العناية بشأن المشار إليهم. من الأغراض أيضًا التي ذكروها لذكر المسند إليه هو تقرير الخبر والفعل في صورة بينة واضحة، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ

النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5) فتجد المسند إليه يتكرر مع كل حكم، وكان من الممكن أن يرد الكلام على طريق الحذف، ولكنه قصد إلى تقرير هذه الأخبار وإذاعتها عنهم، فهم كفروا بربهم، وهم الذين وُضِعت الأغلال في أعناقهم، وهم أصحاب النار، وكأن هذه الإعادة جعلت كل جملة كأنها مستقلة بنوع من العقوبة الصارمة، وهي ضروب من العذاب يستقل بعضها عن بعض، وفي ذلك نهاية الغضب والوعيد. كذلك قد يُذكر المسند إليه؛ تفاديًا من ذكر الضمير الذي يربط الجملة بالكلام السابق؛ لأن القصد إلى استقلالها لتصير كأنها مثلٌ، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج: 61، 62) انظر إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقوله سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} تجد المسند إليه قد ذُكر مع أنه يمكن إقامة الضمير مقامه للغرض الذي قلناه، وهذا الأسلوب يكثر في فواصل الآيات كما يكثر في الجمل المستأنفة، سواء كان استئنافًا بلاغيًّا أم استئنافًا نحويًّا. ومن الأغراض التي أشار إليها البلاغيون أيضًا في ذكر المسند إليه إرادة بَسْط الكلام وإطالته حتى يكون إصغاء السامع مطلوبًا للمتكلم لخطر مقامه. هذا من الأمثلة التي نبها عليها اللغويون وذكروها، واستشهدوا لها بقصة موسى -عليه السلام- مع المولى -سبحانه وتعالى- في هذا الحوار الذي دار بينهما في قوله سبحانه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17) فقال موسى -عليه السلام-: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18) كان يمكنه -عليه السلام- أن يقول: عصا أو عصاي، بدون ذكر الضمير؛ لأنه مفهوم من

السؤال، إلا أن موسى أراد بسط الحديث؛ حبًّا في إطالة الكلام في حضرة الذات العلية، وأي مقام أدعى إلى بسط الكلام فيه كهذا المقام!! ولهذا لم يكتفِ موسى -عليه السلام- بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يُسأل عنها، فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}. وبعض الباحثين نظر في هذا الكلام، وزاد عليه لطيفة أخرى، فقال: نرى أن ثمة دلالة أخرى من وراء ذكر المسند إليه في الآية، ولعلها تكون أهمَّ وأولى بالالتفات إليها؛ لائتلافها مع السياق، فالسياق يدل على سيطرة الرهبة والخوف على موسى -عليه السلام- من مواجهة سحرة فرعون البارعين في فنهم، فأراد الله -عز وجل- أن يطمئنه، وأن ينزع الخوف من قلبه، وأن يثبته على اليقين ببرهان مادي، فسأله سؤالًا مباشرًا عن ماهية ما بيده، فأجاب مؤكدًا طبيعتها: {هِيَ عَصَايَ} ثم أضاف وظائفَ لها من شأنها أن تزيد هذه الطبيعة جلاءً، فلما أمره بإلقائه تحولت في طرفة عين إلى حية تسعى، فكان ذلك أظهرَ دليلٍ على بطلان القانون السائد؛ إذ أحالها إلى مخلوق حي من جنس مختلف كل الاختلاف عن ماهيتها الأولى. وتلك آية الألوهية ومعجزة النبوة، فليهدأ بالًا، وليثق في تأييد الله له، ووقوفه إلى جانبه، ولذلك حين راعه هذا التحول المذهل في العصا، جاء الخطاب الإلهي: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 21). هذه الأغراض التي ذكرت في ذكر المسند إليه، وأهمها بيانًا مع ورودها في القرآن، قلنا: زيادة الإيضاح والتقرير، وكذلك بسط الكلام وإطالته، والتعريض بغباوة السامع، وهناك أغراض أخرى ذكرت كقولهم: إظهار تعظيم المخاطب وتفخيمه، أو إظهار التحقير والتهوين من الشأن، أو التبرك والتيمن بذكر المسند إليه، أو التلذذ به، وكذلك التعجب منه، وكذلك التسجيل على السامع بين يدي القاضي؛ حتى لا يكون أمامه سبيل إلى الإنكار.

المسند، ودواعي وأغراض ذكره.

وهذه الأغراض -كما قلنا- يمثلون لها بأمثلة وبجُمل من الكلام، وأشياء يحتجون بها بذكر المسند إليه، وأعجبها -كما أشار أستاذنا الدكتور شفيع- قولهم التسجيل على السامع بين يدي القاضي؛ حتى لا يكون أمامه سبيل إلى الإنكار، ومثَّلوا بذلك بأن يقول للقاضي مثلًا عند التسجيل عليه كتابةً: إنما فهم الشاهد أنك أشرتَ إلى غيره، فأجاب بما أجاب به، يعني: هذه مسألة غريبة، يعني: يقول الشاهد: نعم، فلان هذا أقرَّ أمامي بكذا، من الأشياء التي ذكروها، ومن الأشياء التي عدت في ذكر المسند إليه. المسند، ودواعي وأغراض ذكره النقطة الثانية في دواعي الذكر هي ذكر المسند، المسند أي: الفعل أو الخبر. معلوم أن الأصل هو الذكر، فإذا ما ذكر كان ذلك هو الأصل في الكلام، فذكروا من الأغراض التي ذكروها في ذلك أيضًا الاحتياط لضعف التعويل على القرينة، أي: أن في الكلام قرينةً تدل على المحذوف لو حذف، إلا أنه ليس لها من القوة والإيضاح ما يلهم السامع المعنى، وذلك كقولك لمن سألك: مَن أكرم العرب وأشجعهم في الجاهلية؟ تقول في جوابك: عنترة أشجع العرب، وحاتم أجودهم، فتذكر أشجع وأجودَ؛ خشيةَ أن يلتبس على السامع إذا قلت: عنترة وحاتم، من غير أن تعين صفة كل واحد منهما، فلا يدرى أيهما الأشجع والأجود. ومن الأمثلة التي ذكروها قولهم: عقل في التراب وحظ في السحاب، ومن العجيب أنهم ذكروا هذا المثال مع أنه نحوي لا يستقيم ذكرُه، فإن في التراب وفي السحاب، لا يصح فيهما أن يكون مسند؛ لأنها تدخل في المتعلقات؛ لأن كلمة

عقل وحظ نكرة، والنكرة إذا ما وقع بعدها الجار والمجرور كان صفة لها، وليس خبرًا، وإلا سار المبتدأ هنا لا مسوغ للابتداء به مع كونه نكرةً. كذلك أيضًا ذكروا من الأغراض بذكر المسند: التعريض بغباوة السامع، واستدلوا لذلك بقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم -عليه السلام- عندما سئل: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 62) فقال -عليه السلام-: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (الأنبياء: 63) كان يمكنه في الجواب أن يقول: بل كبيرهم هذا، لكن المسند الفعل ذكره -عليه السلام- ليبين لهم أنهم أغبياء، حيث يظنون أن هذه الآلهة تستطيع أن تفعل شيئًا، وكذلك يظهر من خطابه -عليه السلام- أنه يسخر منهم، ويتهكم على أصنامهم، وكأنه يقول لهم: إن مقتضى عبادتكم لهؤلاء الأصنام أن تكون فيها حياة، ولها قدرة وإرادة تمارس بها سائر شئون الحياة، وإذا سلمتم بذلك فلا مجالَ بإنكار أن يقوم كبيرهم بتحطيم الآخرين، فإن كانت مجرد حجارة صماء لا حياة فيها فَلِمَ تعبدونها؟!! وكذلك ذكروا من أهم الأغراض لذكر المسند: زيادة تقرير المعنى وتوضيحه، واستدلوا بذلك بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9) فإن المسند لو حُذِفَ لدل عليه السؤال، وقد جاء محذوفًا في آيات أخرى، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (لقمان: 25) إلا أن المقصد من ذكره في آية الزخرف زيادة تقرير خلق الله السماوات والأرض، وكذلك قوله تعالى في أواخر سورة يس: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي

أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 78، 79) فذكر المسند في قوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا}. وفي السؤال ما يدل عليه -كما ترى- والمقصود من الذكر أن يتقرر أن الله أحياها، وفيه إشارة أخرى هي أنه لا يُسأل عن الإحياء بعد الموت، أعني: عن إمكانه، وإنما أنه -سبحانه وتعالى- لا يسأل عن إحياءٍ بعد الموت، وأن الذي يسأل عن هذا لا يعول في خطابه على ذكاء وهو بادر أو ظاهر عليه أنه لا يفقه كثيرًا ما يسأل عنه وما يقوله. وفي ختام حديثنا عن أغراض ذكر المسند إليه والمسند أنبه إلى شيئين، وهو ما ذكرته أولًا إلى أن هذه اجتهادات من أهل العلم يستدلون لها بأمثلة من كتاب الله -سبحانه وتعالى- هذه الاجتهادات قد يضيف بعضهم إليها أغراضًا أخرى، كاجتهاد منه لرؤية ذلك، أو قد يكون ناقلًا عنه في هذا المجال، لذلك نجد الأغراض تتفاوت في الذكر كما حدث مع أستاذنا الدكتور بدوي، فذكر -رحمه الله- مِن أغراض ذكر المسند إليه تأكيد وقوع المسند إذا كان ذكر اسمه مما يطمئن السامع إليه، واستدل بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 95). فقال: أَوَلَا ترى في ذكر اسم الله بعد الوعد ضمانًا لتنفيذه كما يذكر أيضًا للتصوير الباعث على الرهبة كما في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا *

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 1، 2) فذكر الأرض إلى جانب إخراج الأثقال يصور هذا الجرم الهائل وقد انشق عن فجوات تقذف بما ضمت الأرض من أثقال، وهي المكان المستقر الثابت الذي نجد على سطحه الاستقرار، يصورها مائلةً مضطربةً تحت أقدامنا، فأي فزع يلم بنا عند هذا التصور، وذَكر أيضًا غرضًا ثالثًا وهو الذكر لتأكيد نعمة أدَّاها، فيكون هذا الذكر مثيرًا للشكر كما في قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: 25) وقال: ألا ترى هذه النعمة الكبرى نعمةَ حقن دماء المسلمين جديرة بذكر المنعم؛ ليشكر؟ وذكر أيضًا في ذكر المسند تثبيت معنى الجملة في النفس، وقد يثير حذفه ما قد يدل عليه معنًى لا يراد، واستدل بذلك بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 41) ففي تكرير: {لَهُمْ} ما يشعر بكمال قوة الجزائين، ويؤكد على أن العذاب العظيم قد أعد لهم في الآخرة. وهذه النقطة الأولى. والنقطة الثانية أن بعض الباحثين أنكر على هذه الأمثلة المصنوعة التي ذُكرت في أغراض ذكر المسند إليه، وأنكر كذلك على طريقة الاستشهاد لبعضها بشواهد شعرية، هذه الشواهد تدخل في باب التكرار أكثر ما تدخل في باب الذكر؛ لأنها تشمل كِلَا الاثنين: المسند والمسند إليه، مع تكرار ذكرهما، وهذه مسألة نبَّه إليها بعض الباحثين.

مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه.

مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه ننتقل إلى نقطة ثانية، وهي -كما يقال- لُب هذا الموضوع، وهي التي يكون فيها الحديث طويلًا؛ لأنها هي سِر البلاغة؛ لأنها خلاف الأصل وهي مسألة الحذف: مسألةُ الحذفِ من المسائل التي توقف عندها العلماء، وبينوا أسرارها وجمالَها، واهتموا ببيانها، وما يدور حولها؛ لأنها -كما ذكرت لكم- من شجاعة العربية؛ ولأنها هي مجال التفاوت بين شاعر وغيره في نَظْمه وبين صاحب نص أدبي وغيره. ولذلك هذا الباب صدَّر له الجرجاني بعبارة تدل على أهميته قائلًا: هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد بالإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تُبن. فبين بذلك أنك إذا وقفتَ أمام الحذف تبين لك هذا السر الجميل في في الحذف، فتقف على موطن الجمال في النص الذي تقرأه؛ وأيضًا لأن الحذف عمومًا ضرب من الإيجاز، وكما قيل: البلاغة الإيجاز. وهنا يجدر بنا في بداية حديثنا عن الحذف أن نذكر المزايا التي يحدثها الحذف في النص. أَرْجَعَ الدكتور أبو موسى -حفظه الله- صور الحذف لمزايا ثلاث:

الأولى: هي الاختصار أو الإيجاز حتى لا يرِدَ علينا اعتراض ابن السبكي؛ لأن الاختصار هو الحذف، فكيف يكون مزية له. والثانية: هي صيانة الجملة من الثقل والترهل اللذين يحدثان من ذكر ما تدل عليه القرينة. والثالثة: هي إثارة الفكر والحِس بالتعويد على النفس في إدراك المعنى. فبين بذلك مزايا الحذف الثلاثة. وفي النقطة الأولى هي مسألة نقاشية أو حوارية بالتفرقة بين لفظ الاختصار أو الإيجاز. وبعد ذكر مزايا الحذف، ننبه أيضًا على أنواع الحذف: انتهى العلماء إلى ذكر بعض ضروب الحذف، وهي ثلاثة: ضرب منها حذف الكلمة، والضرب الآخر: حذف الجملة، والضرب الثالث: حذف أكثر من جملة. وهنا يجدر أن ننبه أيضًا إلى بحث دقيق أجراه الدكتور أبو موسى في كتابه (خصائص التراكيب) ذكر فيه أن البلاغيين تغافلوا عن حذف جزء الكلمة، أي: أنهم اهتموا ببيان الحذف في الكلمة أو الجمل، وتغافلوا عن الحديث عن حذف جزء الكلمة. وهناك فرق بين حذف الحرف وبين حذف جزء الكلمة؛ لماذا؟ لأن

حذف الحرف يدخل في باب حذف الكلمة؛ لأن الكلمة اسم وفعل وحرف، فإذا ما تحدثنا عن حذف الحروف فذلك يدخل فيما ذكروه من حذف الكلمة. أما الذي يقصد الحديث عنه الدكتور أبو موسى، فهو حَذْف جزء من الكلمة، وناقش هذه القضية، وعرَض لها نماذج فيها بيان علو قدره في هذا الباب -حفظه الله- واستدل لها بأشياء. وفي نهاية حديثه ذكر عبارةً جميلةً، ينبغي على طالب العلم أن يضعها في ذهنه؛ لكي يعلم تواضع أهل العلم بعلمهم، وهي قوله: "وليس ثَمة كلام يجب قبوله والإذعان له إلا ما تجده بين دفتي المصحف وما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عداهما فهو اجتهادات بشر غير معصومين، تأخذ منه ما تأخذ، وتدع منه ما تدع، في حدود الفهم، ولهذا خفت التبعة على الباحثين؛ لأنهم يقولون ما يعالجون في نفوسهم، وللقارئ أن يلقي به جملةً في ساحة الإهمال، وهي جد فسيحة، ولولا هذا لأطبقت الأفواه على الألسنة حتى تيبس؛ لأنه ليس هناك ضمير حي يتحمل إشاعة الخطأ، وبث الضلالة في أرض الله، إلا مَن أذن بحرب من الله، وإني به سبحانه لمن العائذين". ونحن نكرر كلام شيخنا الذي قاله، فهذه مسألة ينبغي أن نتنبه إليها قبل الخوض في أي مسائل تتعلق بالعلم. نذكر ما ذكره في مسألة حذف جزء من الكلمة: يذكر أن هذه المسألة لها أصولٌ في مصنفات السابقين، وأنهم نبهوا عليها كما قال ابن رشيق في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كفى بالسيف شاه)) أراد شاهدًا، فحذف، وقالوا في تعليل ذلك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يرد أن يسير هذا الخبر حكمًا شرعيًّا، فقطع

الكلام وأمسك عن تمامه، وكذلك أشار إلى ما ذكره الأخفش عندما سئل عن قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي} (الفجر: 4) فسئل عن حذف حرف العلة من غير وجود أداة جزم، فقال الأخفش: عادة العرب أنها إذا عَدَلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يسري وإنما يُسرَى فيه، نقص منه حرف، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم: 28) فالأصل "بَغيةً" فلما حول عن فاعل نقص منه حرف. وبعد ذلك بدأ يستدل الشيخ ببعض الأشياء التي وردت في أشعار العرب وفصيحِ كلامهم، واستدل بآيات من القرآن الكريم اجتهد في بيان سر الحذف فيها، وذلك -كما هو معلوم- فيه اعتماد على ما ذكره المفسرون، بأنه نستطيع أن نقول -موافقةً للشيخ- أن المفسرين يوجد في كلامهم أكثر مما في كتب البلاغة في هذا الشأن؛ لاتصالهم بكتاب الله، ولتطبيقهم العملي على آيات الذكر الحكيم. مما ذكره من شواهدهم قول النجاشي: فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك ... اسقِني إن كان ماؤك ذا فَضْل ففي قوله: "ولاك اسقِني" يعني بحذف النون، ولم يقل: ولكن اسقيني، قال: إن هذا الحذف في هذا البيت يوضح شيئًا جميلًا، وهو أن الذئب الذي على لسانه هذه العبارة، كان في حالة من التعب والإعياء، أنه لا يستطيع أن يكمل كلامه. وكذلك ذكر مثالًا من قولهم، قول لبيد -رضي الله عنه-: دَرَسَ المنا بِمُتالع فأبانِ ... .................................... فقال: الأصل أنه يريد: درس المنازل، فحذف الزاي واللام من الكلمة، فعندما يذكر النحاة والبلاغيون هذا البيت يذكرونه أنه من الحذف الشاذ والضرورة؛

لأنه ظلَمَ الكلمة بحذف أكثر من حرف، ويمكننا أن نقول: إن الحذف في كلمة "المنازل" التي يتحدث عن دروسها، وتغيير معالمها، مناسب؛ لأنها بقيت آثارًا، وكأن الحذف فيه إشارة إلى المضمون الذي يريده بيانه، وهو أن المنازل بقايا لا يُستدل عليها إلا بالقرائن والشواهد. وننتقل إلى استشهاده بآية كريمة في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (يوسف: 85) هنا في هذه الآية يستدل الشيخ على ما نص عليه النحاة، من أن هناك حرف نفي محذوف لإعمال: {تَفْتَأُ}، فهي من أخوات كان التي تعمل بشرط أن تسبق بنفي أو شبه نفي، فالتقدير: تالله لا تفتأ تذكر يوسفَ حتى تكون حَرَضًا، والحَرض ما لا يُعتد به، فذكر الشيخ كلام ابن أبي الإصبع أنه -سبحانه وتعالى- أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن "والله" و"بالله" أكثر استعمالًا وأعرفُ عند الكافة من "تالله" فلما كان الفعل الذي جاور القَسَم أغربَ الصيغ التي في بابه، فإن كان وأخواتها أكثر استعمالًا من "تفتأ" وأعرف عند الكافة، ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك، وهي لفظة الحَرَض. فهنا مهد بكلامه بذكر هذه المقالة عن أبي الأصبع، بأنه ذكر أن هذه الاية توافقت سياقيًّا بذكر الأشياء الغريبة، فذُكرت "تالله" وذكرت "تفتأ" من أخوات كان، وذكرت كلمة: {حَرَضًا} الدالة على الهلاك والفناء، وهذا السياق تزاحمت فيه كلماتٌ غريبةٌ تشيع جو الغرابة والوحشة لمناسبة مقصودهم الذي يريدون حملَ أبيهم عليه، فَهُم يريدون أن ينسى يعقوب -عليه السلام- ولدَه، وليس في الغرائب أغرب من هذا، وحَذْف حرف النفي وهو خلاف الأصل يأتي متلائمًا مع هذا

السياق الغريب، ويرمز في خفاء إلى حاجتهم، وهو نسيان يوسف، وإبعاده عن قلب أبيهم الذي ضاق بهم، وتولى عنهم من أجل يوسف -عليه السلام-. هذا اجتهاد من الشيخ ذكره، وذكر نظيره في حذف حرف النداء في السورة نفسها في قول العزيز: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف: 29) فأراد بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} اكتم هذا الأمرَ ولا تتحدث به؛ صيانةً لعِرضنا وشرفنا في قومنا، ثم قال لامرأته: {اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} وكان رجلًا حليمًا، وقيل: كان قليلَ الغيرة. والشاهد في حذف حرف النداء أنه يرمز برمز لطيف، فكأنه يهمس بهذا الخبر في أذن يوسف -عليه السلام- محاذِرًا أن يسمعه أحد، ثم فيه تقريب وملاطفة ليوسف -عليه السلام- وإيماء خفي بأن الخبر كله يجب أن يضمرَ في السرائر، وأن لا يجري به لسان. هذا الاجتهاد الذي ذكره الشيخ في حذف جزء من الكلمة واستدل له من القرآن بحذف الحرف، هذا لأنه ليس في القرآن مثل ما ذكر من أمثلة من كلمة "الَمَنا" بدل "المنازل"، وما ورد في الحديث: ((شاه)) بدلًا من "شاهدًا"؛ لأن هذا بهذه الصورة لم يرد في القرآن، ولكني أرى أن الشيخ كان يستطيع أن يستدل في هذا المقام بحذف نون "كان": "لم أك، ولم أكن" مع استخدامها في كتاب الله -سبحانه وتعالى-. وقد تنبه بعض الباحثين لذلك، فذكر الفرقَ بين إثبات النون وحذفها ذِكرًا بلاغيًّا على خلاف ما يذكره النحاة من جواز ذلك إذا ما كان الفعل مجزومًا، ووليه متحرك ولم يلِه ساكن، فإنه يجوز حذف النون وإثباتُها، فهذا مقام النحاة. أما مقام البلاغيين فهو بيان الفروق في استخدامها في موضع وحذفها في موضع آخر. الحديث عن حذف الكلمة:

وحَذْفُ الكلمة هو باب عظيم في أبواب الحذف، اهتم البلاغيون به، واهتموا اهتمامًا بالغًا بذكر حذف المسند إليه، وبذكر حذف المسند، وبذكر حذف المتعلقات، وأفردوا حديثًا عن حذف المفعول به. حذف المسند إليه: قالوا: مِن أغراض حذف المسند إليه: الاحتراز عن السأم والعَبَث، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) فَذِكْرُ المسند إليه لو قلنا: هو: {هُدًى} يثير قلقًا؛ لشدة قرب الكتاب الماثل أمام النفس، ويبعث فيه السأم؛ لوضوحه وقرب الحديث عنه. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (القارعة: 10، 11) وندرك هذا إذا تأملنا الفرق بين هذا الأسلوب الموجز وبين أن يقال: وما أدراك ما هي، هي نار حامية. من الإسراع إلى ذكر النار بعد أن أشار الشوق بالسؤال عنها. ومنه قوله تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} (الهمزة: 4 - 6) وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) فما دام ذلك في معرض الحديث عنهم، فليس في حاجة إلى إعادة ذكرهم. هذا هو الغرض الأول الذي ذكروه، ومثَّلوا له بأمثلة عديدة في القرآن الكريم، لأجلها حُذِفَ المسند إليه ولم يذكر. ومن الأغراض التي ذُكرت أيضًا لحذف المسند إليه: هو قوة ظهوره وتعينه بما لا يتوهم معه أحد إسناد الخبر إلى غيره، وعبَّر عنها بعضهم بقوله: كون المسند لا يصلح إلا له. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد: 9) فإن قوله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو، ولكن لما كان الخبر لا يكون إلا له سبحانه، جاء الكلام على الحذف، وفي هذا الحذف إشارةٌ إلى الوحدانية والجلال. وكذلك قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (آل عمران: 27) فالمراد به الله -سبحانه وتعالى-. كذلك في قول أتباع فرعون: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: 24) هذا الذي ذكروه معلوم أن الكلام عن موسى -عليه السلام- فلا حاجةَ لذكر المسند إليه. كذلك في قوله -سبحانه وتعالى-: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} (القيامة: 26، 27) فإن الحديث عن ذِكْر الموتِ، ولا يبلغ التراقي عند الموت إلا النَّفْس أو الروح، فلذلك التقدير: إذا بلغت الروح التراقي. وكذلك في قوله سبحانه: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فالكلام فيها عن الشمس من سياق الآيات. من الأشياء التي ذكروها أيضًا في حذف المسند إليه، ضيق الصدر عن إطالة الكلام، واستدلوا له بقوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (الذاريات: 29) فالتقدير: أنا عجوز عقيم، فحُذف المسند إليه؛ لأنها لَمَّا سمعت بشارة الملائكة لها بغلام، عجبت من أمرهم واستبعدت أن تلدَ بعد بلوغها حد الكِبر والعمر. واستدلوا له ببيت من الشعر لطيف في قوله: قال لي: كيف أنت؟ قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل أي: أنا عليل، وحالي سهر دائم وحزن طويل.

من الأغراض أيضًا التي ذُكرت في حذف المسند إليه: الإيحاء بالسرعة الفائقة للحدث؛ لصدوره عن صاحب القدرة المطلقة في هذا الوجود، واستدلوا لذلك في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) فحذف المسند إليهم من قولهم: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ} للإشارة إلى قوة ظهوره، وأن ذلك الفعل الهائل -أعني: مخاطبته للأرض- وتوجيه الأمر إليها، لا يكون إلا مِن الذي خلقها فسواها، وكذلك السماء، وحُذف الفاعل في قوله: روَغِيضَ الْمَاءُ} للإشارة إلى الإجابة السريعة، فما إن أُمرت الأرض بأن تبلع والسماء بأن تقلع، إلا وقد غيض الماء، وكأن قوة هائلة مجهولة اختطفته وابتلعته، فذهب معها في المجهول. ومن لطيف ما استُدل به في هذا المجال قوله سبحانه: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (الأعراف: 118 - 120) فَحُذف المسند إليه في قوله: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} لأن الغرض منصب في بيان أن السحرة غُلبوا، وأن سحرهم أبطل على الرغم مما كان لهم من شهرة، وفيه إشارة إلى أن الغالب في الحقيقة ليس هو موسى -عليه السلام- وإنما قوة خفية أيَّدت موسى، وجعلت عصاه حيةً تسعى، ألقاها: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الأعراف: 117) ولو أنه -سبحانه وتعالى- قال: فغلبهم موسى، لكان نصًّا على غلبة موسى -عليه السلام- وأن له في ذلك فِعلًا غلب به، وليس كذلك، فإن سيدنا موسى أوجس في نفسه خيفةً لما رأى حِبالهم وعصيهم، وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. هذه هي أبرز الأسباب التي ذكروها لحذف المسند إليه، وغير ذلك أسباب صناعية أو أسباب مصطنعة، سنكملها -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 تابع: قضية الذكر والحذف.

الدرس: 15 تابع: قضية الذكر والحذف.

استكمال أغراض حذف المسند إليه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (تابع: قضية الذِّكْر والحذف) استكمال أغراض حذف المسند إليه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد: كنا قد انتهينا إلى أغراض حذف المسند إليه، وذكرنا الأمثلة المشهورة التي ذكروها في كتاب الله -سبحانه وتعالى- وهناك أسباب أخرى ذكروها لحذف المسند إليه: كالحذر من فوات الفرصة، كقولنا عند الحرب: غارة أي: هذه غارة، وقاسوا عليها أمثلة مصطنعة أيضًا، كقولنا: قطار أي: احذر القطار أو هذا قطار، وغير ذلك مما مثلوا به. وذكروا أيضًا من أغراض حذف المسند إليه: الخوف على المسند إليه كقول النابغة يعتذر للنعمان: نبأت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرارَ على زأر من الأسد وقيل أيضًا من أغراض حذف المسند إليه: احتقاره، كقوله النابغة أيضًا: لأن كنتَ قد بُلغت عني وشاية ... لمبلغك الواشي أغش وأكذبُ ففي قوله في البيتين السابقين: نبأت وبلغت هنا، بني الفعل للمجهول وحذف معه الفاعل، وهذه من المواضع القياسية التي اتفق عليها النحاة، يحذف فيها الفاعل، أما حذف الفاعل في غير ذلك فهو موطنُ خلافٍ -سنقف عنده بإذن الله ونبينه-. يعني: هذا مما استدل به الدكتور لاشين -حفظه الله- على مسألة احتقار المسند إليه، واستدل لها بآية في كتاب الله وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 39، 40) فذكر هنا في بناء الفعل

للمجهول في قوله تعالى: {ظُلِمُوا} و {أُخْرِجُوا} بأنه لم يُذكر المشركون أي: ظلمهم المشركون أو أخرجهم المشركون؛ احتقارًا لشأن هؤلاء، فلم يذكرهم المولى -سبحانه وتعالى-. وكما ذكرت أن هذا من الاجتهادات في ذكر أسباب حذف المسند إليه، والاستدلال لها. من الأشياء التي ذكروها كدواعي الحذف واعترض الباحثون على إقرارها قولهم: اختبار تنبه السامع، واختبار مقدار تنبه السامع، والإنكار وتيسيره عند الحاجة إليه. يعني: كما ذكر أحد الباحثين تعليقًا على قولهم: تأتِّي الإنكار وتيسره عند الحاجة إليه، وذكروا مثالًا لذلك: أن المتكلم يحذف المسند إليه بتحقق هذا الغرض، بأنه يحضر إليك جماعة من بينهم خَصم لك، فتقول لآخر: فاجر أو غادر، تعني هذا الخَصم، فتترك ذكر اسمه؛ ليتأتى لك الإنكار، فتقول تخلصًا من آذاه: ما عنيتُه وإنما أردت غيرَه. وليس من تعليق على هذا إلا أنهم يعلمون الناس كيف يتحايلون، أو أن يخرجوا عن طائلة العقاب أو الحساب. هذا من الأمثلة المصنوعة التي ذكروها لحذف المسند إليه، وبقي بعض الأسباب التي تقر في حذف المسند إليه، وذلك إذا ما كان الحذف جاء في أسلوب موروث كالأمثال مثلًا، كقولهم: رميت من غير رام، فلا يجوز لأحد أن يذكر المسند إليه فيقول: هذه رمية من غير رام، أو هي رمية من غير رام؛ لأنه ملزم بأن يذكر المثل كما ذكر. ويضاف إلى ما ذكره البلاغيون في أغراض الحذف الدرس النحوي، فإن هذه المسألة بحذف المسند إليه، أي: حذف المبتدأ -مثلًا- وجوبًا، فإنهم يذكرون أشياءَ في القرآن في مادة النحو أو في قواعد اللغة يجب فيها حذفُ المبتدأ، ويعددون لذلك مواضعَ، من هذه المواضع، مثلًا: المصدر الذي يؤتَى به بدلًا من الرد بالفعل، فيؤتى

أغراض حذف المسند.

به مرفوعًا في قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: 18) فهنا حَذْف، فالتقدير: صبري صبر جميل، أو أمري صبر جميل. ولذلك عُدِل عن النصب إلى الرفع؛ لإرادة الثبوت والدوام كما ذكر النحاة في ذلك. ومن قبيل الحذف أيضًا لتطبيق القاعدة النحوية: اتفاقهم على جواز حذف المبتدأ عند قطع النعت عن المنعوت، ففي قراءة: "الحمد لله ربٌّ العالمين" (الفاتحة: 2) برفع كلمة "رب" يكون التقدير: هو رب العالمين، وحُذف هنا المبتدأ. وفي قولنا: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" إذا ما قيل: الرجيم، يكون المبتدأ محذوفًا؛ لقطع النعت عن المنعوت لغرض الذم، كما كان قطع النعت عن المنعوت لغرض المدح في قولنا: "الحمد لله رب العالمين" أو لغرض الترحم: "اللهم ارحم عبدَك المسكين" أي: هو المسكين. إلى غير ذلك مما ذكر في النحو. وهناك أسباب كثيرة غير ذلك ذُكرت في أبواب النحو، نكتفي بالإشارة إلى ما ذكرنا منه. أغراض حذف المسند وننتقل بعد ذلك إلى حذف المسند. حذف المسند أيضًا له أغراض تتعلق به، وإنما الذي نستطيع أن نقوله ابتداءً: هو أنهم قاسوا أغراضَ حذف المسند إليه على حذف المسند، فإذا وجدوا شاهدًا ذكروه، وإن لم يجدوا شاهدًا قاسوا على غيره بمثال كما صنعوا من أمثلة فيما ذكر. فمن أغراض حذف المسند التي ذكروها: الاحتراز عن العبث، كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (الإسراء: 100) فأصل الكلام: لو تملكون خزائنَ رحمة ربي، فحذف الفعل الأول؛ احترازًا على العبث عن

ذكره لدلالة "لو" عليه؛ لأن "لو" لا تدخل إلا على الأفعال، ولوجود المفسر، ثم أبدل من الضمير الذي كان متصلًا بالفعل المحذوف ضميرٌ منفصل هو: {أَنْتُمْ} فهذا الضمير فاعل للفعل المحذوف. ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) أي: خلقهن الله. وكذلك قول حاتم الطائي عندما لطمته أَمَةٌ قال: لو ذاتُ سوار لطمتني. أي: لو أن امرأةً حرةً هي التي لطمتني. لكان الأمرُ أهونَ عليَّ. وذكروا لذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الزمر: 22) فالخبر محذوف بدلالة ما بعده عليه وهو: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} فالتقدير: أَفمَن شرَح اللهُ صدرَه للإسلام فهو على نور مِن ربه كمن قَسَا قلبُه. هذا، وهناك شواهد عديدة على هذا المجال أسهب الدكتور شفيع السيد في بيانها في مسألة الحذف بعد "لو". من الأغراض التي ذكروها أيضًا لحذف المسند: ضيق الصدر، ويستشهدون له بقول الشاعر: ومن يك أمسى بالمدينة رحلُه ... فإني وقيَّار بها لغريب أي: فإني وقيار لغريب بها، فحذف؛ لدلالة غيره عليه، فهنا الشاعر عندما اشتد ألمه لبعده عن أهله ووطنه، تنفس بهذا البيت، وقد حَذف المسند إلى "قيار" بسبب ضيق صدره، والتقدير: وقيار غريب. وكما يستشهدون له بقول القائل: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض، والرأي مختلف، أي: نحن بما عندنا

راضون، وأنت بما عندك راضٍ، كأنه يريد أن يبين للذي يحدِّثه أنه لا ينفع معه النصح ولا يتقبل النصح، فضيقًا قال هكذا: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض، والرأي مختلف. هذه نظرة البلاغيين. أما نظرة النحاة في هذه المسألة فهي واضحة معلومة: أن الحذف لوجود ما يدل عليه، فإذا ما كان هناك دليل جاز الحذف بلا خلافٍ عندهم. في البيتين هناك دليل على الحذف في ذكر المسند مع غير ما حذف منه المسند. من الشواهد على حَذْف المسند لأسباب نحوية -كما هو معلوم- عند النحاة: حذف الخبر في جواب القسم بقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72) وكذلك: الحذف لوجود دليل كقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} (الرعد: 35) أي: وظلها دائم. كذلك في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (الطلاق: 4) فهنا الإيجاز أدَّى إلى التعبير من أقصر طريق، أي: واللائي لم يحضن مثلهن في هذا الحكم عدتهن كذلك. مما يوقف معه في حذف المسند من الأمثلة الجميلة قولُه تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 62) ففي قوله تعالى: {أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} هو خبر عن لفظ الجلالة أي: الله أحق أن يرضوه، أما خبر قوله: {وَرَسُولُهُ} فهو محذوف دل عليه الخبر السابق الذي ذكر مؤخرًا. فيقول أحد الباحثين: سر ذلك الحذف -والله أعلم بمراده- جعل إرضاء الرسول بمنزلة إرضاء الله -عز وجل- لا فرقَ بينهما، وتأكيدًا لهذه

التسوية الدالة على المنزلة العالية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عطف كلمة "الرسول" على لفظ الجلالة، فهذا الذي يُتوقف معه في هذه الآية الكريمة، ويتواءم مع الروح العام للعقيدة الإسلامية، ويتفق مع مبادئها في كون الرسول -صلى الله عليه وسلم- صاحبَ المنزلةِ العاليةِ والمكانةِ العظيمةِ. أما من ناحية النحاة فهم يتناولون المسألة بأيسر من ذلك بكثير، فيقولون في قوله تعالى: {أَنْ يُرْضُوهُ} أن الضمير هنا عبر به بالمفرد وأريد به التثنية، أي: الكلام عن الله وعن رسوله، وبذلك يكو لفظ "الرسول" معطوفًا ولا يحتاج إلى خبر. من المواضع التي تحدثوا فيها عن حذف المسند إذا كان المبتدأ واقعًا بعد "إذا" الفُجائية، كقولنا: خرجت فإذا المطر، أو خرجتُ فإذا صديقي، فالتقدير: خرجت فإذا المطر نازل، وخرجت فإذا صديقي حاضر، وكذلك وقوع المبتدأ بعد "لولا" كما قال ابن مالك: وَبَعدَ لَولاَ غَالبًا حَذْفُ الخَبَر ... .................. منه قول الصحابة في غزوة الخندق: "الله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" أي: لولا الله أنعم علينا، لولا أن الله موجود، كما يقدر النحاة بأن الخبر تقديره: كائن أو موجود. هذه كلها تناولوها في الحذف وحذف المسند، وكلها تدور حول غرض أساسي، وهو وَجازة التعبير وتصفيتُه مما يمكن الاستغناء عنه بقيام قرينة تدل عليه. وهنا نقف مع بعض الآيات الكريمة؛ لنرى فيها أسرار هذا الحذف، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: 33) فمقابل المستفهم عنه في صدر الآية لم

يذكر، ومعنى الآية: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ}: أفمن هو حافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر، ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت ويعاقبها إن أساءت، وجوابه محذوف تقديره: كمن ليس بقائم بل هو عاجز عن نفسه، ومَن كان عاجزًا عن نفسه فهو عن غيره أعجز، وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، فَمَن هنا موصولة وصلتها: {هُوَ قَائِمٌ} والموصول مبتدأ خبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع. فهنا سر بلاغي وراء هذا الحذف، مع الإيجاز والإشعار بازدراء المسند المحذوف والضم عليه بالذكر في مقابل المسند إليه. وعكس ذلك ما ذكروه في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} (الزمر: 24) فأيضًا مَن يتقي اسم موصول وقع مبتدأً، خبره محذوف تقديره: كمن أمِنَ العذاب أو كمن ينعم في الجنة، وسُوء العذاب هو شدته، الومعنى -كما يقول الزمخشري-: أن الإنسان إذا لقي شيئًا يخيفه استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه؛ لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولةً يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له إلا أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوفَ بغيره؛ وقايةً له، ومحاماةً عليه. فالداعي البلاغي هنا هو الإشعار بتعظيم المحذوف، وأنه أكرم على الله من أن يُذكر في مقابل هذا الشقي. وهذا الحذف -كما نعلم- قد يؤدي إلى بقاء الجملة على كلمة واحدة، كما في قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ} (الشعراء: 49، 50) فبعد هذا الوعيد الشديد أجابوه بقولهم: {لَا ضَيْرَ}

أي: لا ضير علينا في قتلك، وحذفوا؛ ليبقى الجواب كلمة واحدة نافذة كالسهم تقضي على غروره وحُمقه، وتبين أنهم لا يخافون ولا يرهبون ما يقول. هذا وغيره من الأشياء التي تلمَّسها أهلُ البلاغة في أغراض حذف المسند وعدم ذكره. يبقى هنا مع حذف المسند والمسند إليه نقطتان: - النقطة الأولى: تتعلق بالتردد بين الحذفين، بمعنى: أن من البلاغيين مَن يأتوا على مواضعَ معينة ويقولون: هنا يجوز أن يكون الحذف للمسند أو للمسند إليه. فمثلًا: {فَصَبْرٌ جَمِيل} (يوسف: 18) يقولون: حالي وأمري صبر جميل، أو صبر جميل عليَّ، أو عليَّ صبر جميل، على أساس أن المحذوف هنا هو الخبر وليس المبتدأ، فيتردد الحذفُ بين المبتدأ وبين الخبر. هذا ما يجيزه البلاغيون في هذا الباب، وكذلك النحاة. وبعضهم يدقق في هذه المسألة فيقول: إن التمحيص يبين أي شيء هو المحذوف؟ وعلى الحقيقة يرجح محذوفًا على غيره، فلا نسلم بمسألة الجواز في هذه المسألة. وهذه المسألة صراحةً أبدع الجرجاني في ذكر مثال لها في كتابه (دلائل الإعجاز) عندما ذكر قول الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النساء: 171) ففي قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} الكلام عن موقع: {ثَلَاثَةٌ} من الناحية الإعرابية، فهل: {ثَلَاثَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة؟ فهنا يكون المحذوف هو المسند إليه. وهل

التقدير: لا تقولوا لنا آلهة ثلاثة؟ فيكون المحذوف هو المسند، شبه الجملة: لنا. فهنا ذكر المعربون والمفسرون هذه الأوجه في إعراب لفظ: {ثَلَاثَةٌ} إنه مبتدأ محذوف الخبر، أو إنه خبر لمبتدأ محذوف، على أساس أنه صفة لكلمة "آلهة" فلما حُذف الموصوف حل محله، وَصف المحذوف هو في الأصل مبتدأ: لنا آلهة ثلاثة. فيقول: أما إذا جعلنا التقدير: ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة، أو ثلاثة آلهة، بحذف المسند، كنا قد نفينا الوجودَ عن الآلهة كما نفيناه في: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد: 19) {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} (ص: 65) ثم يأتي تأكيد وحدانية الله في الآية بعد ذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} (النساء: 171) فإن زعموا أن التقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، على أن المحذوف هو المسند إليه و {ثَلَاثَةٌ} خبر، كانوا قد نفوا أن تكون عدة الآلهة ثلاثةً، ولم ينفوا وجودَ الآلهة. هذا ما تنبه له الجرجاني، فرجح بذلك أن يكون الحذف للخبر وليس الحذف للمبتدأ؛ للفرق بين المعنيين. طبعًا هو عرض في هذه المسألة استطرادًا وردَّ عليه، يقول: فإن قيل: فإنه يلزم على تقديرك أي: لا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة، يلزم على هذا التقدير الفساد أيضًا من وجه آخر، وذلك أنه يجوز إذا قلت: ليس لنا أمراء ثلاثة، أن يكون المعنى: ليس لنا أمراء ثلاثة ولكن لنا أميران اثنان، وإذا كان كذلك كان تقديرك وتقديرهم جميعًا خطأ. فيرد على ذلك بقوله: أن الأمر ها هنا يختلف، وهو أن قولهم: آلهتنا أي: آلهتنا ثلاثة، يوجب ثبوت آلهة -جل الله تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا-.

وقولنا: ليس لنا آلهة ثلاثة، لا يوجب ثبوت اثنين البتة، فإن قلتَ: إن كان لا يوجبه فإنه لا ينفيه، قيل: ينفيه ما بعده من قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. هكذا نرى الجرجاني عرض المسألة؛ ليرجح وجهًا على آخرَ، ويستدل له باتصال المسألة بالعقيدة، وهذه مسألة تهم البلاغيين وتهم مَن يتصدَّى لبيان القرآن، أن يكون ما يذهب إليه ليس عليه شيء، أو ليس عليه ما يؤدي إلى فساد المعنى، أو إلى معنًى خطأٍ، فيستعاذ منه ولا يرضَى العلماء أن ينسبَ إليهم هذا القول، أو أن يقولوا به. - التنبيه الثاني في مسألة حذف المسند والمسند إليه: هو اختلافهم فيما إذا كان المسند إليه فاعلًا هل يجوز حذفه؟ فارتضى بعض البلاغيين أن يعتبر من باب حذف المسند إليه حذف الفاعل وإن كان الفعل مبنيًّا للمعلوم؛ لأنهم اتفقوا مع النحاة في جواز حذفه إذا كان الفعل مبنيًّا للمجهول كما سبق أن مثَّلنا. أما اختلافهم ففي نحو قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} (القيامة: 26) {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (الأنعام: 94) {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (يوسف: 35) في هذه المواضع كان الاختلاف في جواز حذف الفاعل مع بناء الفعل للمجهول، وهي مسألة نحوية أكثر منها بلاغية؛ لأننا في البلاغة نرى أن المسألة واضحة كأن الفاعل غير مذكور في هذه الآيات الكريمة. أما قضية حذفه وعدمه فهي قضية خلاف مشهورة بين الكوفيين والبصريين؛ والكوفيون يجيزون حذف الفاعل بلا تحرز، والبصريون يعددون المواضع القياسيةَ التي يجوز فيها حذف الفاعل، ويمنعون حذفه فيما عدا ذلك. وهذا فقط أردت أن أشير إليه في باب حذف المسند والمسند إليه.

ما يتعلق بحذف المتعلقات، وحذف المفعول به.

ما يتعلق بحذف المتعلقات، وحذف المفعول به ما يتعلق بحذف المتعلقات الذي يتعلق بالفعل، أو الذي يكمن الجملة من جار ومجرور ونحوه. مما ذكروه في حذف المتعلقات حذف المضاف، وهو كثير في القرآن الكريم، واهتم العلماء بعده والتمثيل له، ومن ذلك قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) أي: جاهدوا في سبيل الله. وقوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) فالأصل: ومَثَل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع، ثم حُذف المضاف وهو داع؛ رفعًا لشأنه في اللفظ عن أن يقرن بهذا الذي ينعق بما لا يسمع. كذلك من حذف المتعلقات حذف المضاف إليه كقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف: 142) أي: بعشر ليال. وقوله -سبحانه وتعالى-: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم: 4) أي: من قبل ذلك ومن بعده. وهذا الحذف مشهور معلوم، يقره النحاة كما يقره أهل البلاغة، ويبحثون عن سر الجمال في هذا الحذف والغرض منه؛ أما دلالته فهي واضحة مثال قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (يوسف: 82) يقدرون: واسأل أهلَ القرية. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (البقرة: 93) أي: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. هذا من نماذج حذف المضاف، وحذف المضاف إليه يكون بذكر ما يدل عليه من سياق الكلام.

وكذلك من حذف المتعلقات: حذف الموصوف، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (ص: 52) أي: حور قاصرات الطرف. وكقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (مريم: 59، 60) أي: عمِل عملًا صالحًا، فالعرف العربي في السياق اللغوي يقبل مثل هذا الحذف؛ لأن الصفة بشيوعها يكتفَى بها عن الموصوفِ. و {اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} (سبأ: 11) أي: دُروعًا سابغات. وهذه أمثلة مشهورة يعدها النحاة ويذكرها البلاغيون. حذف الصفة: مثل قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف: 79) أي: يأخذ كل سفينة سليمة، بدليل قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وإلا لو كان يأخذ كل سفينة غصبًا لَأَخَذَ السفينة، فهي سفينة ولكنه لم يأخذها؛ لأنها معيبة، فهنا يلزم تقدير الصفة التي يتأتَّى معها صحة المعنى. وكذلك في قول بني إسرائيل لموسى -عليه السلام-: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بالحق الواضح أو البين، وإلا لو كانوا يقولون له -عليه السلام-: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: أنهم كانوا مكذبين له، لم يكونوا أصلًا ممن آمَن به وممن يتوجه لهم خطاب موسى -عليه السلام- وكذلك في قوله تعالى: {بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (ص: 51) أي: شراب كثير، وهنا الحذف بدليل ذِكْرِه قبل ذلك، فهو مفهوم من السياق. حذف القسم: مثل قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60) أي: والله لئن لم ينته. وكذلك حذف جواب القسم، وهو كثير في القرآن: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ *وَاللَّيْلِ إِذَا

يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر: 1 - 5) وتقدير الجواب: لتبعثن يا كفارَ مكةَ. وكذلك حذف الشرط: كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) أي: إن تتبعوني يحببكم الله، وكقوله تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43) أي: فإن تتبعني أهدك صراطًا سويًّا. كذلك حذف جواب الشرط، وحذفه قد يكون لمجرد الاختصار، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (يس: 45، 46). كما يكون حذفه للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف؛ قصدًا للمبالغة، كقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر: 73) كأنه قيل: قد حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير، وإنما سار هذا الحذف هنا في مثل هذا أبلغ من الذكر؛ لأن النفس تذهب في كل مذهب، ولو ذُكِرَ الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنته العبارة. ومن حذف المتعلقات أيضًا: حذف المعطوف، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (الحديد: 10) والتقدير: لا يستوي منكم مَن أنفق من قبل الفتح وقاتل ومَن أنفق من بعده وقاتل، بدليل قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (الحديد: 10). هذه وغيرها مما ذكر من حذف المتعلقات أشياء نبه عليها البلاغيون وعدُّوه في مصنفاتهم، وهي من أبواب الإعجاز في القرآن الكريم؛ بسبب أنها تُفهم من السياق، وأنها على طريقة العرب في كلامهم، فيتبينها مَن ينظر في كتاب الله -سبحانه وتعالى-

وكثير منها يُقر عند أهل العلوم الثلاثة الذين يتضافرون على خدمة كتاب الله: علم النحو، وعلم البيان والمعاني، وعلم التفسير، فهذه العلوم الثلاثة تتضافر على بيان ما في كتاب الله -سبحانه وتعالى-. يبقى في حذف المتعلقات ما أُفرد له حديث، وهو الكلام عن حذف المفعول به. وقبل الكلام عن حذف المفعول به نفرغ من الكلام عن الحذف ببيان: أن مِن أنماط الحذف حذفُ الجملة، كقوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة: 60) والتقدير: فضرب فانفجرت، فهنا حذف السبب وذكر المسبب. وكقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} (الأنفال: 8). وا لتقدير: فعل الله ما فعل من كثرة قوة أهل الشرك؛ ليحق الح ق ويبطل الباطل. فحذف المسبب وذكر السبب. ومن نماذج حذف أكثر من جملة في القرآن، وذلك أكثر ما يكون في القصص القرآني: قوله تعالى في سورة يوسف: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:45 - 46] عندما قص الملك رؤياه على نزيل السجن مع يوسف -عليه السلام- الذي كان ساقيًا للملك، فقال لهم: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون} فبعدها جاء الخطاب القرآني {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} فهنا حذف جمل، وهناك تفصيلات جزئية تعرف من السياق وتوصل بها إلى الكلام المباشر مع يوسف -عليه السلام- وهذا الحذف يفهمه من ينظر في سياق الآيات {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون} فأرسلوه إلى يوسف، فقابل يوسف فقال له: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}. وكذلك في قوله تعالى {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] أي: فأتياهم، فأبلغاهم الرسالة، فكذبوهما؛ فدمرناهم تدميرًا.

وكما قلت: هذا الحذف يكثر في القصص القرآني الكريم، وكل ما ذكر من هذه الأنماط في الحذف يدرك في البلاغة فيما يسمى "إيجاز الحذف". والآن نفرغ للكلام عن المفعول به وحذف المفعول به: وأولًا: نقول: لماذا يفرد المفعول به بحديث دون غيره من المتعلقات؟ بيَّن الجرجاني أن حذف المفعول ينماز عن سائر المتعلقات بأنه تكثر لطائفه، وتدق أسراره، وكأن المزايا فيه أخلب، وما يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب؛ بذا أفرد البلاغيون بعد ذلك جريًا على ما فعله الجرجاني في (دلائل الإعجاز) أفردوا الحديث عن حذف المفعول به، وما به من أسرار بلاغية. ثانيًا: أنهم أيضًا عندما يتحدثون عن حذف المفعول به لا بد أن يقدموا مسلمات يذكرونها أولًا، وهو أن حذف المفعول به يتعلق بالفعل المتعدي؛ لأن الفعل اللازم لا يحتاج إلى مفعول به، وكذلك أنهم يقدمون إلى بيان أن هناك من الأفعال المتعدية ما ينزل منزلة اللازم؛ فلا يحتاج أيضًا إلى مفعول به، فهذا لأنه ربما المتحدث لا يقصد أن يخبر بشيء أكثرَ من أنه يخبر بوقوع الفعل، فإذا أراد أن يخبر بوقوع الفعل اكتفى بذكره، وإذا أراد أن يذكر وقوع الفعل ومَن فعله اكتفى بذكر الفعل والفاعل. والخلاصة: أن تعرف الفرق بين قولك: وقع ضَرْب، وبين قولك: أعطى محمد، وبين قولك: أعطى محمد الذهب، ولكل جملة من هذه الجمل معنًى محدد وغرض معين ومقام مختص بها، لا تفيد واحدة منها معنى الأخرى، ولا تصلح مكانها، فهنا إيرادة فعل المتعدي من غير مفعول يقع في الكلام على طريقين:

- أولًا: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل من غير نظر إلى شيء وراء ذلك، وهذا موجود في كتاب الله -سبحانه وتعالى- وأمثلته كثيرة. يعني: أمثلته من كلامهم أن تقول: فلان يأمر وينهَى، ويعطي ويمنع، فأنت تريد الإخبارَ عن فلان أنه هو الذي يفعل كذا، ولا تريد الإخبارَ عما يأمر به أو عما ينهى عنه أو ما يعطيه، أو ما يمنعه، ولذلك أنت تثبت المعنى للفاعل، واستدلوا لذلك بآيات عديدة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (البقرة: 245) وقوله تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} (الأعراف: 158) -سبحانه وتعالى- فإثبات الإحياء والإماتة والقبض والبسط لله -عز وجل-. ومما جاء على ذلك واستدلوا به قولُه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم: 43، 44) {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48) فالمعنى: هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء، وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلًا للشيء، أو أن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه، أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدى هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض وتغير المعنى، كقول الله -سبحانه وتعالى-: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258) أي: يكون منه الإحياء وتكون منه الإماتة من غير النظر إلى مَن أحياه الله وإلى مَن أماته. وكقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) أي: هل يستوي من يكون منه العلم ومن لم يكن منه العلم من غير النظر إلى معلوم؟ ويقول الزمخشري في قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17) والمفعول الساقط مِن: {لَا يُبْصِرُونَ} من قبيل المتروك المطروح الذي لا يُلتفت إلى إخطاره بالبال، لا مِن قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلًا، نحو: {يَعْمَهُونَ} في قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 110).

هذا ما ذهبوا إليه أولًا من حذف المفعول ليس لغرض بلاغي واضح أكثر من هذا الغرض، هو أننا نريد أن نثبت الفعلَ للفاعل دون النظر إلى المفعول الذي وقع عليه الفعل. ومن بديع ما ذكره البلاغيون في هذه المسألة قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} (القصص: 23، 24) فالآيتان تصور موقفَ موسى -عليه السلام- من ابنتي شعيب حين حضرتَا إلى بِئر مَدين؛ لتسقي ما معهما من دواب، وقد اشتمل أسلوب الآيتين على أربعة أفعال متعدية، حُذفت مفعولاتُها جميعًا؛ إذ المعنى: وجد عليه أُمةً من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، قالتَا: لا نسقي غنمنا، فسقَى لهما غنمهما، ثم إنه لا يخفَى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يُترك ذكره ويؤتَى بالفعل مطلقًا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يُعلم أنه كان من الناس في تلك الحالة سقي، ومن المرأتين ذَوْدٌ، وأنهما قالتا: لا يكون مِنَّا سقي حتى يصدر الرعاء، بمعنى: أن يفرغ الرعاء من سقي ما معهم من المواشي والدواب، وأنه كان لموسى -عليه السلام- من بعد ذلك سقي، فأما ما كان المسقي غنمًا أم إبلًا أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرض، وموهمٌ خلافه. وذاك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون: لم يذكر الذَّوْد من حيث هو ذود بل من حيث هو ذودُ غنمٍ، حتى لو كان مكان الغنم إبلًا، لم يذكر الذود، كما أنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك، كنتَ منكرًا المنعَ، لا من حيث هو منع بل من حيث هو منعُ أخٍ.

وهذا الذي ذكره عبد القاهر في تحليل الآية الكريمة. وقد أسهبوا أيضًا في بيان هذه النقطة بأن من الحذف ما يخفَى، ومنه ما هو ظاهر، بمعنى: أنك إذا ما قلت مثلًا: أصغيتُ إليك، فواضح أن المفعول هنا هو كلمة أُذني، أصغيتُ أذني إليك، أما هناك من الحذف للمفعول ما يكون متبادرًا -واضحًا- إلى المتحدث، إلا أن حذفه كان وراءه سِر بلاغي أكثرَ من مجرد أن يكون حَذْفًا، وهذا ما نبه عليه الجرجاني وذكر له أمثلةً من أشعارهم ومن كلامهم، تدل على أن الحذف أتَى بوظيفة بلاغية أجملَ وأقوى من مجرد أنه يكون حذفًا لمفعول هو معلوم. من ذلك قول البحتري في مدحه المعتز بالله، وتعريضه بأخيه المستعين بالله. يعني: هو يمدح الخليفة ويعرِّض بأخيه الذي كان يزعم أنه له حق في الخلافة. فيقول البحتري: شَجْو حساده وغيظ عِداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع فأنت تفهم ابتداءً: أن المفعول المحذوف: أن يرى مبصر آثاره ومحاسنه، وأن يسمع واع أخبارَه وأوصافه، لكن الشاعر هنا تناسَى هذين المفعولين تمامًا، وأغضى طرفه عنهما، وكأنه لا وجود لهما، وكأنما يقول: إن محاسن المعتز وفضاءله يكفي فيها أن يقع عليها بصرُه، ويعيها سمع، حتى يعلم أنه مستحق للخلافة؛ لأن عين مَن يبصر لا تقع أينما اتجهت إلا على محاسنه ومناقبه، ولم ينتهِ إلى سمعه إلا كل طيب وعظيم من أخباره، ولذلك ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ من علمهم بأن ها هنا مبصرًا يرى، وسامعًا يعي، حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها، وأذن يعي معها؛ كي يخفى مكان استحقاقه بشرف الإمامة، فيجد بذلك سبيلًا إلى منازعته إياها.

استدل أيضًا بقول عمرو بن معديكرب: فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم ... نطقت ولكن الرماح أجرتني فهنا واضح أن الرماح أجرتني، وأن المحذوف هو ياء المتكلم، فالحذف هنا أدى وظيفة أكبر من مجرد حذف مفعول معلوم لدى المخاطب، فالشاعر هنا يبين أن قومه لم يبلوا بلاءً حسنًا ولم يستعملوا رماحهم ولا يظهروا قوتهم، ولو أنهم كانوا عملوا ذلك لكان ذلك مدعاةً بأن ينطق بمدحهم، وأن يذكر مفاخرهم، إلا أنهم عندما تقاعسوا عن ذلك أخرسوه، فلم يستطِعْ أن يتحدث، فلو قال: "ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ولكن الرماح أجرت غيري". فذلك غير متصور، فلا هو لا يتحدث إلا عن نفسه؛ وذلك لأنه لا يريد إثبات أنه أُخرس عن مدح قومه، وإنما يريد أن يثبت أنه كان للرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق، وأن يصحح وجودَ ذلك، فلو قال: أجرتني، جاز أن يتوهم أنه لم يعنَ بأن يثبت للرماح إجرارًا، بل الذي عناه أن يبين أنها أجرته، أي: أخرسته وقطعت لسانَه عن مدح قومه، فقد يُذكر الفعلُ كثيرًا والغرض منه ذكر المفعول، ومثاله الواضح في كلامنا عندما تقول لأحد: أضربتَ محمدًا؟ مثلًا، فإنك لا تنكر عليه الضربَ، وإنما تنكر عليه ضربَ محمدٍ دون غيره. من الأغراض التي ذكروها لحذف المفعول: البيان بعد الإبهام، أو ما أَطلق عليه الجرجاني "الإضمار على شريطة التفسير". ومن لطيف ذلك قول البحتري: لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرمًا ولم تهدم مآثرَ خالد فالأصل في الكلام: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حلف ذلك من الأول؛ استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ولا يخفى عليك أنك لو قلتَ: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، سِرتَ إلى كلام غث، وإلى شيء

يمجه السمع، وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له لطفًا ونبلًا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك النفس إلى بيانه وسماعه. واستدلوا لذلك بأن هذا الأمر -أي: البيان بعد الإبهام- يكثر مع فعل المشيئة، وهو كثير في كتاب الله -سبحانه وتعالى- كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الأنعام: 35) أي: لو شاء الله جمعهم لجمعهم. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) أي: لو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين. ومثل فعل المشيئة في حذف المفعول ما في قوة المشيئة كفعل الاستطاعة، كقول القائل: ولو أني استطعت غضت طرفي فلم أبصر به حتى أراك، أي: لو أني استطعت غض طرفي غضته، وحكم المشيئة لا يختص بحرف "لو" وإنما يأتي على سائر أدوات الجزاء -حروف الجزاء- وأسماء الجزاء، حروف مثل "إنْ" فقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشورى: 24) وأسماء نحو "مَن" كقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 39) فمعروف التقدير: فإن يشأ الله الختم على قلبه ختم، وإن يشأ الله إضلاله أضله. فهنا مِن حذف المفعول. وتطرق الجرجاني إلى المواضعَ التي يُذكر فيها المفعولُ مع فعل المشيئة، فهو يقصر حذف المفعول مع فعل المشيئة، وإنما هناك مواضع يحسن فيها ويفضل فيها أن يذكر المفعول ولا يحذف، وذلك إذا كان الأمر الذي يتعلق بالمشيئة أمرًا عظيمًا أو غريبًا، فإنه يحصل هنا أن يصرح به، ويمثلون له بقول الشاعر: قضى وطرًا منك الحبيب المودِّع ... وحل الذي لا يُستطاع فيُدفع ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبكيتُه عليه ... ولكن ساحة الصبر أوسع

فبكاء الدم شيء عجيب، ولو حذفه الشاعر فقال: "ولو شئتُ بكيت دمًا" لَمَا اطمئن إليه السامع ولا تلقاه بالقبول، لذا كان الأولى أن يصرح الشاعر بذكره؛ ليقرره في نفس السامع، ويؤنسَه به. وخير ما يمثل له في هذا المجال ما ورد في القرآن الكريم من التصريح بفعل المشيئة في قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} (الزمر: 4) فذكر مفعول المشيئة أي: لو أراد الله اتخاذ الولد لاصطفى مما يخلق ما يشاء؛ لأن من الغرابة أن يَتخذ رب العالمين ولدًا. وكذلك: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الأنبياء: 17) فذكر المفعول وهو المصدر المؤول المكون من "أل" وما دخلت عليها في هذا المقام أبدع وأحسن من عدم ذكره؛ لأن الأمر المتعلق بالإرادة أو المشيئة هو أمر عجيب غريب على السامع، فلا بد أن يُذكر. ومن الأغراض التي ذكروها لحذف المفعول: إرادة ذكره مرةً ثانيةً، بحيث يعمل الفعل في صريح لفظه لا في ضميره العائد عليه؛ إظهارًا لكمال العناية بوقوع الفعل عليه. ويمثلون له بقول البحتري: قد طلبنا فلم نجد لك في ... السؤدد والمجد والمكارم مثلًا فالتقدير: قد طلبنا مِثلًا فلم نجد لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلًا، فلم يذكر المفعول أولًا ويعمل فيه الضمير ثانيًا فلو قال: قد طلبنا مثلًا فلم نجده، لم يكن مثل هذا القول الذي قاله في بيان المعنى؛ وهذا لأنه لو قال: قد طلبنا مثلًا، ربما يشعر بجواز أن يكون له مثل؛ لأن العاقل لا يطلب إلا ما هو موجود، أما حَذْف المفعول ها هنا يبين أنه لا يوجد أصلًا "مثلًا" لهذا الممدوح الذي يذكره، ولذلك بعضهم أطلق على هذا الغرض أنه من التحرز عن مواجهة الممدوح بما لا يليق، فلو قال له: "مثلًا"، ابتداءً، ربما ظن الممدوح أنه يقلل من شأنه، وأن هناك مَن يضاهيه.

من الأشياء التي ذكروها أيضًا لحذف المفعول: دفع توهم السامع في أول الأمر إرادة غير المراد، وذكروا له قول الشاعر: وكم ذُدت عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززنَ إلى العظم فالتقدير: حززن اللحم إلى العظم، فحذف المفعول وتوصل إلى المتعلق بالفعل مباشرةً؛ لكي يؤكد مراده الذي يريده. ولا نريد أن نقف كثيرًا عند الأبيات الشعرية. ما ذكروه في القرآن الكريم من أغراض أضافوها لحذف المفعول: فقالوا: من هذه الأغراض: قصد التعميم مع الاختصار، واستدلوا له بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يونس: 25) أي: يدعو جميع المكلفين، فحذف المفعول في الآية الكريمة شمل جميعَ مَن كلَّفهم الله -سبحانه وتعالى- ودعاهم إلى جنته وإلى باب كرامته، فكان الحَذْف هنا لقصد التعميم. ومن الأغراض التي ذكروها في حذف المفعول: الحذف لمراعاة الوزن في الشعرن ورعاية الفاصلة في القرآن الكريم، ويمثلون للشعر بقول المتنبي: بناها فأعلى والقَنا يقرع القنا ... ومَوْج المنايا حولَها متلاطمُ أي: بناها فأعلاها. أقر البلاغيون ذلك وذكروه في الشعر، ويُقبل منهم ذلك. أما ما يتعلق بالقرآن الكريم؛ لأن حذف المفعول كان لأجل الفاصلة، فهذا ما يستحق أن يوقَف عنده. هم يستدلون بقوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 - 3) أي: وما قلاك، فحذف ضمير المخاطب الواقع مفعولًا به؛ رعايةً للفاصلة في الآية التي قبلها والآية التي بعدها. وقال بعضهم: إن حذف المفعول هنا لأجل الاختصار اللفظي؛ لظهور

المحذوف كما في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 35) أي: والذاكرات لله. والواقع أن الاختصار علة متحققة في كل مواقع الحذف، لكنه لا يعول عليه وحدَهُ في الأعم الأغلب منها، وإنما تَكمُنُ أغراض أخرى أهمُّ، كذلك فإن رعاية الفاصلة في القرآن الكريم لا ينبغي أن تكون غرضًا مستقلًّا وراءَ حذفِ المفعول أو حذف سواه، صحيح أن تناسق الإيقاع أداة بارزة في مجال النظم القرآني، لكن الاقتصار عليه لا يعدو أن يكون اقتصارًا على علة لفظية، والإعجاز البلاغي للقرآن لا يقف عند حدود اللفظ، وإنما تتآزر فيه الألفاظ والمعاني تآزرًا كاملًا. ولهذا نجد أحيانًا فاصلةً مختلفةً تقطع نَسَقًا موحدًا من فواصلَ متعددة؛ لاقتضاء الدلالة عليه. وقد علقت الدكتورة عائشة عبد الرحمن -رحمها الله- على هذا الكلام بكلام بديع، تقول فيه: إن البيان الأعلى لا يتعلق في فواصله بمجرد دعاية شكلية للرونق اللفظي، وإنما تأتي الفواصل لمقتضيات معنوية مع نسق الإيقاع بها، وائتلاف الجَرْس بألفاظها التي اقتضته المعاني على نحو تتقاصر دونه بلاغة البلغاء، وفي مقدمة الأمثلة القرآنية التي يُستشهد بها طرح كاف الخطاب من الفعل: {قَلَى} في الآية السابقة، فليس إسقاطها كما تقول: اكتفاء بالكاف الأولى في: {وَدَّعَكَ}، ولمشاكلة رءوس الآي كما ذهب الفراء، وليس رعايةً للفاصلة كما ذهب الفخر الرازي وبعضُ المفسرين. وأيدت رأيها: بأن البيان القرآني عَدَلَ عن رعاية الفاصلة في الآيات بعدها، فقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: 9 - 11) فجاءت الفاصلة الأخيرة بحرف الثاء، وهو ليس

موجودًا في الفواصل السابقة، بل ليس موجودًا في الصورة كلها، وكان من الممكن أن تكون الفاصلة: "فخبِّر"؛ اتساقًا مع الفاصلتين السابقتين. وهذا الذي ذكرته الدكتورة عائشة ينمُّ عن إحساسٍ مرهفٍ بالقرآن الكريم وبالآية، وبيان سر الحذف فيها أنه لا يتعلق بالفاصلة فحسب، وإن كان يعطي درسًا موسيقيًّا، ويعطي جمالًا في اللفظ، إلا أنه لا بد من غرض أسمى لهذا الحذف لا يقتصر فيه على اللفظ فقط. فمثلًا مما يُستأنث به في الآية الكريمة أن نقول: إن حذف المفعول كان لتجنب مواجهة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما لا يحب، فلو قال -سبحانه وتعالى-: "قلاكَ" بمعنى كرهك، لا يناسب المقام الذي يُساق فيه الآياتُ من مقام إناس، وإشاعةِ الطمأنينة في نفسه، وتبديدِ بشعوره بالوحشة الذي أحسَّ بها بعد فتور الوحي وانقطاعه عنه فترةً من الزمن. وبعدُ، فهذه هي أهم الأغراض التي ذكروها في حذف المفعول به، وكان الذكر والحذفُ من مظاهر النظم التي بينها الجُرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 التوكيد في النظم القرآني.

الدرس: 16 التوكيد في النظم القرآني.

تعريف التوكيد، وأغراضه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (التوكيد في النظم القرآني) تعريف التوكيد، وأغراضه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وبعد: نتناول اليوم -إن شاء الله سبحانه وتعالى- صورة من صور النظم القرآني التي بَدَا فيها الإعجاز واضحًا جليًّا لكل ذي عينين يبصر ويفهم كلامَ الله -سبحانه وتعالى- هذه الصورة هي صورة التأكيد أو التوكيد. فإننا سنتناول ثلاث صور كل منها في درس مستقل تترابط في مسألة النظم وهي: التوكيد، والتكرير، والزيادة. ونبدأ اليوم بكلامنا عن التوكيد: والتأكيد لغة في التوكيد، ويقال: أكَّد الشيء ووكده، والواو أفصح؛ لقوله تعالى: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (النحل: 91)، ولذا يقولون: وكَّد العقدَ والعهدَ أي: أوثقه، والهمزة فيه لغة، ويقال: أوكدته وأكدته وآكدته إيكادًا، وبالواو أفصح أي: شددته، وتوكد أمرُه، وتأكد بمعنى أي: توكد وتأكد بمعنًى واحدٍ. ويقال: وكدت اليمين، والهمز في العقد أجود، تقول: إذا عقَّدْتَ فأكِّد، وإذا حلفت فوكد. إذن أكد ليست أصلًا؛ لأن الهمزة مبدلة من واو، والتوكيد لا يؤتَى به إلا لحاجة. ومن هنا كانت للتوكيد دواعيه وأسبابه ومراتبه التي قال بعضهم فيها: إنما يؤتى به للحاجة للتحرز عن ذكر ما لا فائدةَ له، فإن كان المخاطب خالي الذهن ألقي إليه الكلام بدون توكيد، وإن كان مترددًا فيه حسن تقويته بمؤكد، وإن كان منكرًا وجب تأكيده. واستخدم القرآن التوكيدَ وسيلةً لتثبيت المعنى في نفوس قارئيه، وإقراره في أفئدتهم؛ حتى يصبح عقيدةً من عقائدهم، فهذا التأكيد يقرر المعاني التي يريدها المولى -سبحانه وتعالى- في كتابه.

الأغراض التي من أجلها استخدم القرآن الكريم أسلوبَ التوكيد: أول هذه المعاني: هو تأكيد القرآن لصفات الله -عز وجل- حتى يستقر الإيمان بها في النفوس؛ لأن ذلك هو الأساس الذي ينبني عليه الدين، فلذا نجد القرآن كثيرًا ما يقرر هذه الصفات التي تدل على الوحدانية والقدرة، والتصرف المطلق في الكون: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (النور: 45)، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 110)، {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115)، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153)، {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 158)، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة: 182)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190)، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195)، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: 2)، {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 209)، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222)، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 181). {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75)، {أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة: 267)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (آل عمران: 5)، {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران: 9)، {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران: 199)، {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37)، {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 6)، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (لقمان: 23)، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120). هذه المعاني التي يؤكدها المولى -سبحانه وتعالى- وتتكرر في كتابه في النفس، ينبثق منها العمل الصالح المبني على أساس من الإيمان المكين.

وتارةً أخرى نجد القرآن الكريم يؤكد مسألة الوعد والوعيد، فيكرر المولى -سبحانه وتعالى- مؤكدًا في كتابه: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 4)، {أنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 36)، في مواضع شتى، وكذا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 32)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة: 67)، وهكذا يكون تكرار هذا المعنى في كتاب الله -سبحانه وتعالى. والغرض الثالث هو هو تأكيد كل خبر هو مجال للشك أو الإنكار، يقول المولى -سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 11 - 14) أَوَلَا تراهم عندما أنكروا الإفساد في الأرض والسفاهة، أكد المولى -سبحانه وتعالى- اتصافهم بها بـ"ألا" و"إنَّ" وتعريف ركني الإسناد، وذلك يؤذن بتأكيد المعنى الذي أنكروه، والذي يريدون إثبات خلافه. ولما كان إقرارهم للمؤمنين بالإيمان بألسنتهم مبعثًا للشك في نفوس شياطينهم، دفعهم ذلك إلى تأكيدهم لهم الثبات على مبادئهم، وأنهم لا يبغون عنها حِولًا. وانظر أيضًا في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 13 - 16)، ألا ترى المرسلين قد أكدوا رسالتهم بـ"إنَّ" عندما كذبهم أصحاب القرية، فلما لج هؤلاء في التكذيب، زاد المرسلون في تأكيد رسالتهم مؤكدًا جديدًا هو اللام، وأشهدوا ربهم على صدق دعواهم.

صور وأساليب التوكيد.

من الأغراض التي أكدها القرآن الكريم أيضًا على مدار السور والآيات: هو تقرير أن الكتاب الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو منزل من عند الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105)، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31)، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، إلى غيرها من الآيات. وكذلك تأكيد أنَّ كتاب الله كتاب هداية ينير البصائر، ويجعلها تهتدي إلى أقوم طريق، يقول المولى -سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء: 9). هذا مقدار مما أكد القرآن الكريم معانيه في كتابه على مدار السور والآيات، بالإضافة إلى الرد على منكري البعث، والأمور التي كثر فيها الجدل، فإن القرآن استخدم التأكيد؛ لبيان معان هي من أسس الشريعة التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- رحمةً للعالمين. صور وأساليب التوكيد والآن ننتقل إلى الحديث عن صور وأساليب التوكيد: التوكيد له صور عديدة، وابتداءً نوضح أن هناك فرقًا بين حديثنا عن التوكيد، وبين حديث النحاة عن التوكيد. فالنحاة يقسمون التوكيد إلى نوعين؛ توكيد لفظي: وهو ما كان بإعادة اللفظ المراد توكيده، ويعرب توكيدًا، ويتبعه في الإعراب: رفعًا ونصبًا وجرًّا، وتوكيد معنوي: وهو ما كان بألفاظ معينة تُستخدم لغرض التوكيد: ككل وجميع وكلا وكلتا ونفس وعين. هذا التقسيم النحوي. أما صور التوكيد عند البلاغيين تقسَّم إلى أساليبَ وصورٍ عديدة؛ منها: ما يسمونه أيضًا بالتوكيد اللفظي، ولكن ليس بمعنى الإعراب كما يذهب إليه النحاة، وإنما هو بإعادة اللفظ المراد توكيدُه، سواء كان مفردًا اسمًا أو فعلًا أو

حرفًا، وسواء كان جملة أو فُصِلَ بينهما وجاءت بعدها الجملة على سبيل تأكيد المعنى بلفظٍ واحدٍ. فمثال توكيد الاسم: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} (الفجر: 21)، ومثال تأكيد الفعل: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17)، ومثال توكيد اسم الفعل: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (المؤمنون: 36)، ومثال توكيد الجملة: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (المؤمنون: 35)، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5، 6) وكثيرًا مع ما تقترن الجملة الثانية بـ"ثم" كما في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (الانفطار: 17، 18) هذا يطلق عليه البلاغيون توكيدًا لفظيًّا، أو يدرجوه تحت التوكيد اللفظي، وإن كان من النحاة مَن ينكر على مثل قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر: 21، 22)، أن هذا ليس من قبيل التوكيد؛ لأن المعنى فيه: دكًّا بعد دكٍّ، وصفًّا بعد صفٍّ. هذا خلاف يتحدث فيه النحاة وفي توجيههم وفي إعرابهم، وخلافهم أيضًا بين ما يفرقون به بين التوكيد اللفظي وبين التكرار عند النحاة، كما أشار إلى ذلك ابن هشام في مسألة الأذان: "الله أكبر الله أكبر، حي على الصلاة حي على الفلاح". من مظاهر التوكيد اللفظي الذي يهتم به البلاغيون: تأكيد الضمير المنفصل بمثله، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: 3)، "هم هم". وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل كقوله سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الأعراف: 115)، وفي تأكيدهم ما يشعر بثقتهم بأنفسهم: {إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} وقوله تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ

إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (طه: 68) وفي ذلك تثبيت قلب موسى -عليه السلام- وبعث الطمأنينة إليه: {أَنْتَ الْأَعْلَى}. ومنه أيضًا تأكيد الفعل بمصدره، ويكون ذلك في الأمور التي يتوهم فيها المجاز، فيأتي الفعل لرفع هذا التوهم، تأمَّلْ قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء: 164)، فقد يطلق الكلام على الإيحاء وينصرف الذهن إليه، فجاء المصدر؛ لإزالة هذا التوهم. وقوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} (الطور: 7 - 10) أَوَلا ترى أن اضطراب السماء وسير الجبال مما قد تتردد النفس في قبوله، فجِيء بالمصدر؛ تأكيدًا لوقوعه. ومن البديع أن يأتي توكيد المصدر بمصدر آخرَ غير المصدر المؤكِّد للفعل المذكور، فينوب عنه، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8) وفي ذلك دلالة على ما للتبتيل من أثر في استجلاب رضوان الله، فأمر به مؤكدًا. ولعل السر في العدول إلى هذا المصدر هو المحافظة على النغمة الموسيقية للآية. التوكيد اللفظي يندرج تحته أيضًا: ما يسمى بالتكرار، فقد يكرر القرآن الجملة المؤكدة عدة مرات بألفاظها نفسها، عِلمًا منه بما لذلك من أثر في النفس، فتراه -سبحانه وتعالى- مثلًا في سورة الشعراء يكرر الجملتين الآتيتين خمس مرات من غير أن يغير من ألفاظهما حرفًا، فقال سبحانه على لسان بعض رسله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الشعراء: 107، 108)، وهي وإن كانت مقولة على ألسنة عدة رسل توحي لتكرارها بعبارة واحدة بصدق هؤلاء الرسل، وتثبيت التصديق بهم.

الضرب الثاني: هو التوكيد المعنوي؛ قلنا بألفاظ معينة كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (ص: 73) وفائدة هذا اللون من التوكيد رفع ما يُتوهم من عدم الشمول، فإن كلمة: {كُلُّهُمْ} أفادت ذلك أن الملائكة جميعًا قد سجدوا، وكلمة: {أَجْمَعُونَ} أفادت اجتماعهم على السجود وأنهم لم يسجدوا متفرقين. فهذا مما استخدم في القرآن وأطلق عليه توكيد، وهو يتفق مع النحاة في توجيهه. أهم صورة من صور التوكيد، أو مقصد البلاغيين الأساسي في مسألة التوكيد: وهو التوكيد باستخدام أداة من أدوات التوكيد، أو وسيلة من وسائله؛ لأن هذه النقطة هي المحور الأساسي الذي يدور حوله درسنا، والذي يهمنا في هذا الباب عندما نتأمل النظم القرآني في استخدام أساليب بأدوات معينة، هذه الأدوات تؤدي معنى التأكيد الذي يريده المولى -سبحانه وتعالى. فمن ذلك: إنَّ وأنَّ، وإنما، ولام الابتداء، والقسم، وألا الاستفتاحية، وهاء التنبيه، وكأنَّ لتأكيد التشبيه، وضمير الشأن، وضمير الفصل، وقد، والسين، وسوف، ونونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، ودخول الأحرف الزائدة. كل ذلك من الأدوات ومن الأساليب التي تؤدي إلى معنى التأكيد، وبَانَ فيها الإعجاز القرآني. من أهم الصور التي اهتم البلاغيون ببيانها هو التأكيد بإنَّ وأنَّ، وهما يؤكدان الجملة الاسمية، والفرق بينهما بإيجاز بسيط: أن إنَّ تكون في بداية الكلام، أو فيما يصلح الابتداء به، وأنَّ تكون وسط الكلام حيث يصح إحلال مصدر محلها، أو إحلال مفرد محلها. فإنَّ وأنَّ اهتم عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) ببيان دورها في التأكيد، فتدخل إنَّ في الكلام، ففضلًا عن تأكيدها لمعنى الجملة تربط ما بعدها

بما قبلها. يقول عبد القاهر: "هل شيء أبينُ في الفائدة وأدلُّ على أن ليس سواء دخولها وألا تدخل، مِن أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها، وتأتلف معه، وتتحدُ به، حتى كأن الكلامَيْن قد أفرغَا إفراغًا واحدًا، وكأنَّ أحدَهم قد سُبك في الآخر. هذه هي الصورة حتى إذا جئتَ إلى إنَّ فأسقطتها، رأيت الثاني مبهمًا قد نَبَا عن الأول، وتجافَى معناه عن معناه، ورأيتَه لا يتصل به ولا يكون منه بسبيل، حتى تجيء بالفاء، ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتَا عليه من الأُلفة. وترد عليك الذي كنتَ تجد بإنَّ من المعنى". يوضح عبد القاهر الفرقَ بين استخدام إنَّ بدلًا من فإنَّ، مع أن سياق الكلام يستدعي جلب الفاء، فهي تربط إنَّ محل الفاء في الكلام، وتؤدي معنًى أزيدَ من التوكيد، وهو الربط بين الجملتين. وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1)، فهذه الزلزلة سبب في الأمر بالتقوى، فسياق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} فزلزلة الساعة شيء عظيم، فعدل عن استخدام الفاء إلى إنَّ، وأفادت معنى التوكيد والربط بين الجملتين. وعلى ذلك قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17) {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) ومن أبين ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37) وقد يتكرر في الآية الواحدة كقوله -سبحانه وتعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53)، {إِنَّ رَبِّي} وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء. فأمثلتها عديدة في كتاب الله -سبحانه وتعالى.

وإنما تقع إنَّ في موضع الفاء إذا كانت جملتها توضح ما قبلها، وتبين وجهَ الفائدة كما ذكر عبد القاهر من الآيات، فكما ذكرنا في قوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تبين سبب أمرهم بالتقوى، وكذلك: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} إذ تبين السبب في طلب الصلاة لهم من النبي -صلى الله عليه وسلم. ولكن ذلك لا يطرد في كل موضع، بل هناك ما لا يحصَى من الجمل التي لا تقتضي الفاء. يعني: أن كون إنَّ تحل محل الفاء في الربط، هذا لا يطرد في جميع المواضع، فمثال عدم الاطراد أو عدم صحة إحلال الفاء قوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الدخان: 51، 52)، فقبله: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} (الدخان: 50) ولو أنك قلت: إن هذا ما كنتم به تمترون فالمتقون في جنات وعيون، لم يكن كلامًا. وقوله -سبحانه وتعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء: 100، 101)، فلو أتينا مكان إنَّ بالفاء، لم تجد لها وجهًا، كما أنه لا يجوز المجيء بالفاء مكان إنَّ في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الحج: 17)، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30)، لأن جملة إنَّ الثانية خبر عن الأولى في الآيتين والخبر لا يجوز عطفه على المبتدأ. أشار الجرجاني أيضًا إلى بعض خصائص إنَّ في التوكيد يقول: "ومن خصائصها: أنك ترى لضمير الأمر أو الشأن معها من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه، بل تراه لا يصلح حيث يصلح إلا بها".

هذه مسألة جميلة أشار إليها الجرجاني في استخدام ضمير الأمر، أو ما يسمى بضمير الشأن، وهو الذي تستطيع أن تحل محله كلمة الشأن أو الأمر، مثال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1)، أي: قُل الشأنُ أو الأمرُ اللهُ أحد. يذكر الجرجاني المواضع التي تأتي إنَّ مؤكدةً لضمير الشأن، أن يكون اسمها هو ضمير الشأن، كقوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90)، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (التوبة: 63)، {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ} (الأنعام: 54)، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117)، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} (الحج: 46). فإذا رأيت اسم إنَّ في هذه المواضع تجده هو ضمير الشأن أو الأمر، أي: إن الشأن لا تَعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، إن الشأن: {لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، إن الشأن من يعمل منكم سوءًا بجهالة ثم يتوب فإن الله يتوب عليه إلى غير ذلك من المواضع التي ذكرت في كتاب الله. فإن قلت: هنا يعترض الجرجاني ويبين معنًى لطيفًا، يقول: "فإن قلت: أَوَليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرًّى من العوامل في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟ قيل: {هُوَ} وإن جاء هنا فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة مع الشرط والجزاء، بل تراه لا يجيء إلا بإنَّ، على أنهم قد أجازوا في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أن لا يكون الضمير للأمر". هذه المسألة من الجرجاني -رحمه الله- ليؤكد المعنى بأن استخدام ضمير الشأن يحسن مع إنَّ، وهذا لا ينفي منه -رحمه الله- أن: {هُوَ} في هذه الآية ضمير الشأن، وإن كان البعض ذهب إلى أنها ليست ضمير الشأن.

وكذلك تستخدم إنَّ في التأكيد في مسائل الحوار والجدل، بأن يطلق سؤال ويراد إجابته، فتأتي الإجابة بالتأكيد بإنَّ؛ لإقراره في نفس السائل والمجادل، وتثبيته في قلبهما، فتقع الجملة جوابًا في المواضع التي تجيء فيها إنَّ، كقوله -سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} (الكهف: 83، 84)، وقوله سبحانه: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء: 216)، {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (غافر: 66)، فإن كان الكلام جوابَ منكرٍ حُشِد له أكثر من أداة واحدة للتوكيد. وكذلك إنَّ تستخدم للدلالة على أن المتكلم كان يظن أمرًا فحدث خلافه، فيأتي بهذا التوكيد؛ ليرد على نفسه ظنَّه، وكأنه يريد لهذه النفس أن يستقر فيها هذا النبأ الجديد الذي لم تكن تتوقعه، بل تتوقع سواه، وكأنها تريد أن تخلي مكانًا من القلب قد شغل بخاطر لتحل فيه خاطرًا جديدًا. وتأمل قوله تعالى حكايةً عن أم مريم: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران: 36)، فأم مريم -عليها السلام- كان الأمل يملأ قلبها في أن تلد ذكرًا نذرته لله، ولطول ما شغلها هذا الأمل تجسم في خيالها، حتى صار كأنه حقيقة واقعة، فلما وضعت مريم، فوجئت، فأرادت أن تقر هذا الأمر الجديد في قلبها؛ حتى تروض نفسها عليه، وتستسلم لما كان. وانظر أيضًا قوله سبحانه في حكاية نوح -عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} (الشعراء: 117)، فلم يكن نوح يتوقع أن يكذبه قومه وقد جاءهم من ربهم بالنور والهدى، فكان تكذيبهم صدمة له يريد أن يوطن عليها نفسه. وختامًا يذكر أن من خواص التوكيد بإنَّ أنه أقوى من التوكيد باللام.

من أدوات التوكيد أيضًا التي تلحق بإنَّ هي: إنما، وأنما. أي: بزيادة ما على إنَّ المؤكدة، والفرق ابتداءً بين الأسلوبين: أن دخول "ما" على إنَّ يزيل اختصاصها بالجملة الاسمية، بمعنى: أنه إذا صارت إنَّ إنما، أو صارت أنَّ أنما، لا يشترط أن تكون مؤكدةً للجملة الاسمية، فيجوز توكيدها للجملة الفعلية كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28). يفرد الجرجاني أيضًا حديثًا عن إنما كأداة من أدوات التوكيد في النظم القرآني، فالأصل فيها أن تأتي في الأمور التي يُدَّعى أنها من الوضوح بمكان كقوله -سبحانه وتعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} (التوبة: 91 - 93) ألا ترى أنه من الوضوح بمكان مؤاخذة هؤلاء الأغنياء القادرين على المساهمة في الجهاد، ثم يستأذنون راضين بأن يكونوا مع الخوالف؟ واقرأ أيضًا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2)، فواضح بَيِّنٌ أن المؤمنين ليسوا سوى هؤلاء الذين تخاف قلوبهم إذا ذَكروا الله ويزدادون إيمانًا إذا تليت عليهم آياته، ويتوكلون على ربهم؟ ولأنها تستخدم في الأمور الواضحة جاء قوله تعالى حكايةً عن اليهود: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11). فقد ادَّعوا أن إصلاحهم أمر واضح لا يحتاج إلى دليل، ولذا احتوى الرد عليهم فُنونًا من التوكيد، إذ قال سبحانه: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12) فكان التوكيد بـ"أَلَا" وبـ"إنَّ" وبضمير الفصل. وكذلك حكى القرآن عنهم في موضع آخر فقال:

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14) فهم يدَّعون لشياطينهم أن استهزاءَهم بالمؤمنين من الأمور التي لا مجالَ للريب فيها، ولا تكون مبعثًا لسوء ظن شياطينهم فيهم. قد تستخدم إنما في موضع هو مجال للشك أو الإنكار كما قال -سبحانه وتعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} (الشعراء: 153) فهم يخاطبون الرسول الذي ينكر، ولا ريب هذا الحكم، ولكنهم أتوا بتلك الصيغة كأنهم يدّعون وضوح أنه مسحور، لا ينطق عن عقل واع مفكر. يقول الجرجاني: "ثم اعلم أنك إذا استقريتَ وجدتها أقوى ما تكون، وأعلق ما ترى بالقلب إذا كان لا يُراد بالكلام بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، نحو أنَّا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9) أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذم الكفار، أن يقال: إنهم من فرط العناد ومن غلبة الهوى عليهم في حكم مَن ليس بذي عقل، وإنكم إذا طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكَّروا، كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب. كذلك قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (النازعات: 45)، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: 18) المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فهو كأنه ليس له أذن تسمع، وقلب يعقل، فالإنذار معه كَلَا إنذار. ويغلب على إنما في القرآن أن تكون بمثابة الجواب عن سؤال يقتضيه السياق قبلها صريحًا أو ضمنًا، فيكثر في الصريح سَبْقها بمادة القول كما في قوله -سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) هذا مثال للسؤال الصريح.

ومن السؤال الضمني قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 58 - 60). ويقِل في القرآن استخدام أنما مفتوحةً وسيلةً، ومن مثال اقتصار الوحي على وحدانية الله سبحانه وتعالى باستخدام أنما مفتوحة قوله -سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الأنبياء: 108). ثالثًا: من أساليب التوكيد في النظم القرآني استخدام النفي والاستثناء، وكما تعلمون أن إنما وأنما والنفي والاستثناء يُدرس في باب البلاغة في باب القصر، والقصر صورة من صور تأكيد الكلام، فلذا عد العلماء إنما والنفي والاستثناءَ من أساليب التوكيد بالأداة في كلام العرب. فالنفي والاستثناء هو أن يسبق الاستثناء بأداة نفي نحو: ما، أو لا، أو إن المخففه بالكسر، فمثال استخدام النفي والاستثناء لإثبات أن الله -سبحانه وتعالى- وحده هو الذي يتصف بالوحدانية قوله -سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد: 19) وأحيانًا تُستخدم لإثبات الحكم لموصوفات يُعتقَد اتصافها بغير هذه الصفة، كما في قوله -سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) فليس الطعام المحرم هو ما ذُكر في تلك الآية فحسب، بدليل أن المحرمات ذكرت أيضًا في سورة المائدة، وإنما ذكرت تلك المحرمات هنا في معرض الرد على مَن كان يعتقد حِلها.

وكذلك يستخدم ما وإلا لتأكيد ما يسمى بالقصر الإضافي، كقوله -سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (آل عمران: 144) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فليس المراد هنا قصر محمد -صلوات الله وسلامه عليه- على الرسالة فحسب، بحيث لا يتعدَّاها إلى غيرها، بل المراد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى الخلوص من الموت الذي استعظموا أن يلم به، لذا قال -سبحانه وتعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144). وقد تتجسم الصفة من صفات الشيء حتى تطغَى على مَن سواها، فيستخدم القرآن أسلوب النفي والاستثناء لإثبات ذلك، كما في قوله -سبحانه وتعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (الأنعام: 32) فكأنَّ الموصوف قد خَلُصَ لها، فلم يعد متصفًا بغيرها، فيصح قصره عليها، أي: أنها تتصف باللعب واللهو، مع أنه من المعلوم أن الحياة فيها من الأحزان والأشجان والآلام ما لا ينفك عنه عبد من العباد والجميع يتعرض له، فإنما ذكر المولى -سبحانه وتعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} هذا على سبيل بيان أنها في حقيقتها لا تعدو عن هذين اللونين اللذين يطغيان على غيرهما مما يلم بالعباد أو ينزل بهم. ويستخدم القرآن ما وإلا لإثبات أن الحاكم واحد -سبحانه وتعالى- ونفي أن يكون هناك حاكم غيره -سبحانه وتعالى- قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73). وعمومًا، فاستخدام ما وإلا للتوكيد من أقوى الأدوات التي تؤدي لمعنى قصر شيء على شيء صفة على موصوف أو موصوف على صفة، كما تقسم في البلاغة، ولذا هي من أقوى الأدوات التي تستخدم في ذلك، فيكون استخدامها كثيرًا في الأمور التي هي مجال للشك والإنكار. انظر إلى قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (الإسراء: 47) ألا ترى أن الظالمين يخاطبون بذلك قومًا آمنوا وينكرون دعوى سحر الرسول؟

وقوله سبحانه: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} (الإسراء: 60) فالتخويف يبعث في النفس الشك في أنهم ينصرفون عن كفرهم، فكان ثمة مدعاة لتأكيد زيادة طغيانهم. وقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء: 82) فهذا القرآن الذي هو شفاء ورحمة مجالٌ لشك النفس في أنه خَسار للظالمين، فكان المجال مجالَ تأكيد ذلك بما وإلا. فإذا جاء أمر من الأمور المسلم بها بالنفي والإثبات، فذلك لتقدير أمر صار به في حكم المشكوك فيه. كقوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) فالمجيء هنا بالنفي والإثبات؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خُوطِبَ خطابَ مَن يظن أنه يستطيع أن يحول قلوبَ المشركين عما هي عليه من الإباء والعناد، ولا يعلم علم اليقين أن ليس في وسعه شيء أكثر من التحذير والإنذار، فجرى الأسلوب كما يجري في خطاب الشاك، فقيل: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}. وكقوله -سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) فهو يخاطب قومًا يرَوْن في الرسول مخلوقًا قد يملك لنفسه الضر والنفع، ويعلم الغيب، فكان من المناسب وتلك حالهم أن يأتي من أدوات القصر بالنفي والاستثناء يزيل بها بذور الشك من نفوس سامعيه. وقد يجيء النفي والاستثناء لبيان تأكيد الأمر في نفس قائله كما في قوله سبحانه: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 52) فهذا تعبير صادق لشعور المبعوثين يوم القيامة بأنه ما انقضَى عليهم منذ وفاتهم سوى أمد يسير. وكذلك قد يجيء للإجابة عن سؤال محقق أو مقدر لتأكيد هذا

الجواب كما في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 116، 117). رابعًا: من أساليب التوكيد استخدام لام التوكيد أو ما تسمى بلام الابتداء، فإذا ما دخلت إنَّ وانصرفت من اسمها إلى خبرها سميت باللام المزحلقة، وهذه اللام الذي يؤتَى بها للتوكيد، وذلك كقوله سبحانه: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} (الحشر: 13) وقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (الليل: 12، 13). من ذلك: أنه إذا عبِّر عن أمر يعز وجوده أو فعل يكثر وقوعه، جِيء باللام تحقيقًا لذلك، فانظر إلى قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون: 1) فانظر إلى هذه اللامات الثلاثة الواردة في خبر إنَّ، والأولى وردت في قول المنافقين، وإنما وردت مؤكدةً؛ لأنهم أظهروا من أنفسهم التصديق برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتملقوا له، وبالغوا في التملق وفي باطنهم خلافُه، وأما ما ورد في الثانية والثالثة فصحيح لا ريبَ فيه، واللام في الثانية لتصديق رسالته، وفي الثالثة لتكذيب المنافقين فيما كانوا يظهرونه من التصديق الذين هم على خلافه. وانظر أيضًا لقوله -سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (يوسف: 11، 12) فإنه إنما

جيء باللام ها هنا؛ لزيادة التوكيد في إظهار المحبة ليوسف -عليه السلام- والإشفاق عليه؛ ليبلغوا الغرض من أبيهم في السماحة لإرساله معهم. وانظر أيضًا من لطيف استخدامها في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (الواقعة: 64 - 65) ثم قال -سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} (الواقعة: 68 - 70) فأكَّد في الأولى: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} وترك التوكيد في الثانية: {جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} وإنما جاءت كذلك؛ لأن جعل الماء العذب مالحًا أسهل إمكانًا في العرف والعادة، والموجود من الملح أكثرُ من الماء العذب، وكثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة، فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادةِ تأكيدٍ، فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق. أما المطعوم فإن جَعْلَه حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتادٍ، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد، فلذلك قُرن بلام التأكيد؛ زيادةً في تحقيق أمره، وتقريرِ إيجاده. وانظر إلى قوله سبحانه: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} (الحجر: 23) فاللام في {لَنَحْنُ} تؤكد هذا المعنى الذي يعلم من أن الله -سبحانه وتعالى- له الإحياءُ والإماتةُ.

وانظر في قوله -سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55) فهذه اللام في: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}، {لَيُمَكِّنَنَّ}، {لَيُبَدِّلَنَّهُمْ}، جاءت لتحقيق الأمر وإثباتِه في نفوس المؤمنين، وأنه كائنٌ لا محالةَ. وكذلك انظر في قوله سبحانه: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} (يوسف: 8) فاللام في: {لَيُوسُفُ} لام الابتداء، وأفادت تحقيق مضمون الجملة الواردة بعدها، أي: أن زيادة حبه إياهما أمرٌ ثابت لا مِراءَ فيه. وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الدرس: 17 تابع: التوكيد في النظم القرآني - التكرار في القرآن الكريم.

الدرس: 17 تابع: التوكيد في النظم القرآني - التكرار في القرآن الكريم.

بعض أدوات وأساليب التوكيد المستخدمة في النظم القرآني.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (تابع: التوكيد في النظم القرآني - التكرار في القرآن الكريم) بعض أدوات وأساليب التوكيد المستخدمة في النظم القرآني الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وبعد: فنقول: من أدوات التوكيد المستخدمة في النظم القرآني الجملة الاسمية: فإنه من المعلوم أن الفعل يدل على التجدد والحدوث، أما الاسم فيدل على الثبوت والدوام، ومن ثم كان التعبير بالجملة الاسمية محل الفعلية صورة من صور التوكيد المستخدمة في النظم القرآني. فلذا اهتم العلماء ببيان ذلك على أنه من صور التوكيد، وإن كان البعض لا يرى ذلك. يقول أستاذنا الدكتور لاشين: "وإذا كان وضع الجملة الاسمية على إفادة الثبوت ووضع الجملة الفعلية على إفادة التجدد، فإن الجملة الاسمية تدل على معنًى أوفى مما تدل عليه الجملة الفعلية، ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الجملة الاسمية تفيد تأكيد المعنى، وقد تؤثر الجملة الاسمية من أجل هذا في بعض المقامات على الجملة الفعلية كما في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14) فالمنافقون خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية: {آمَنَّا}؛ لأنهم أظهروا الإيمان وأحدثوه خوفًا ومداراة، وحينما خاطبوا شياطينهم كانت الجملة الاسمية المحققة بإنَّ المشددة؛ لأنهم في مخاطبة إخوانهم ثابتون على الكفر، ويخبرون به عن صدقٍ ورغبةٍ. وقوله -سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} (هود: 69) إذ أصل الأول: نسلم سلامًا، وأصل الثاني: سلام عليكم، أي الجملة الأولى فعلية قالوا: نسلم سلامًا، فأجاب إبراهيم -عليه السلام: سلام عليكم، كأن إبراهيم -عليه السلام- أراد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به؛ أخذًا بأدب

الله تعالى في قوله سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (النساء: 86) فاختلف سلامهم عن سلامه -عليه أفضل الصلاة والسلام. وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (الأنبياء: 55) فقوم إبراهيم -عليه السلام- يقولون له: أأحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك؟ أم اللعب وأحوال الصبا مستمرة عليك؟ وفي قوله -سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) فقد أجاب الله تعالى عن قولهم: {آمَنَّا} بقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} لإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين؛ مبالغةً في تكذيبهم، ولهذا أطلق قوله: {مُؤْمِنِينَ} وأكد نفيه بالباء". وهذا الذي ذكره الدكتور لاشين مأخوذ من كلام ابن الأثير في (المثل السائر) عندما بين أنه يُعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر بضرب من التأكيد والمبالغة، أي يعدل عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية لهذا الغرض، ومثَّل بقولهم: قام زيد، وإن زيدًا قائم، فقولنا: قام زيد، معناه: الإخبار عن زيد بالقيام، وقولنا: إن زيدًا قائم، معناه: الإخبار عن زيد بالقيام أيضًا، إلا أن في الثاني زيادةً ليست في الأول، وهي توكيده بإنَّ المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها، وإذا زيد في خبرها اللام فقيل: إن زيدًا لقائم، كان أكثرَ توكيدًا في الإخبار بقيامه. وهذا المثال يُقاس عليه غيره. وهذا ما ذكر من استشهادهم بمجيء الجملة الاسمية كأداة من أدوات التوكيد، وهو معروف فيما يستدلون به وبما يذكره النحاة في التفرقة بين: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: 18) بالرفع على أن الجملة اسمية، وبين ما قرئ في الشواذ: "فصبرًا جميلًا" بالنصب على أن الجملة اسمية، بأن هناك فرقًا، وهو التوكيد باستخدام الجملة الاسمية وكون المصدر مرفوعًا.

من أساليب التوكيد أيضًا القسم؛ فقد لجأ القرآن إلى القسم متبعًا النهجَ العربي في توكيد الأخبار به؛ لتستقر في النفس، ويتزعزع فيها ما يخالفها، وإذا كان القسم لا ينجح أحيانًا في حمل المخاطب على التصديق، فإنه كثيرًا ما يوهن في النفس الفكرة المخالفةَ، ويدفع إلى الشك فيها، ويبعث المرء على التفكير القوي فيما ورد القسم من أجله. فالناظر في كتاب الله يجد المولى -سبحانه وتعالى- كثيرًا ما يقسم بذاته -جل في علاه- وتصدير ذلك بلفظ "رب" ولكن ذكراه حينًا يكون مضافًا إلى السماء والأرض، كقوله سبحانه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (الذاريات: 23) لما في هذه الإضافة من الإشارة إلى خضوع السماء والأرض لأمره، وفي ذلك تعظيمٌ لشأنه، وإيحاءٌ بأن مَن كان هذا أمره لا يزج باسمه إلا فيما هو حق لا مِريةَ فيه. وحينًا آخر يُضاف لفظ "الرب" إلى المشارق والمغارب، كقوله سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (المعارج: 40) لِمَا توحي به هذه الإضافة من القدرة البالغة التي تسخر هذا المخلوق الهائل وهو الشمس، فيشرق ويغرب في دقة وإحكام. وحينًا آخر يضاف إلى لفظ الرسول، كقوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} (مريم: 68) وكأنه بذلك يوحي بأن أرباب المشركين ليست جديرة بأن يقسم بها، أو تكون محل إجلال وتقدير. والقرآن يستخدم أيضًا في القسم ما جرت عادتهم في استخدامه كالحَلِف بحياة المخاطَب، فأقسم سبحانه بحياة رسولنا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72) لتأكيد تشريف حياة الرسول وتعظيم أمره -صلوات الله وسلامه عليه- في أعين السامعين. ومن اللطائف أن المولى -سبحانه وتعالى- أقسم بذات نبينا الكريم، وأقسم بمكان ميلاده: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التين: 3) وأقسم أيضًا

بالزمان الذي بُعث فيه على قول بعض أهل التفسير عندما تعرضوا لقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر: 1، 2). وكذلك إذا أقسم القرآن بمصنوعات الله -عز وجل- ومخلوقاته، كان في ذلك التأكيد على تنبيه المستمع إلى ما فيها من روعة تدفع إلى التفكير في خالقها: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 1 - 10) أَوَلَا ترى هذا القسم مثيرًا في النفس أقوى إحساسات الإعجاب بمدبر هذا الكون ومنظم شئونه هذا التنظيم المحكم الدقيق؟ أَوَليست هذه الشمس التي تبلغ أوج مجدها وجمالها عند الضحى، وهذا القمر يتلوها إذا غابت وكأنه يقوم مقامَها في حراسة الكون وإبهاجه، وهذا النهار يُبرز هذا الكوكب الوهاج، ثم لا يلبث الليل أن يمحو سَناه، وهذه السماء وقد أحكم خلقها، واتسقت في عين رائيها كالبناء المحكم الدقيق، وهذه الأرض وقد انبسطت في سعة، وهذه النفس الإنسانية العجيبة الخِلقة التي يتسرب إليها الهدى والضلال في دقة وخفاء، أليس في كل ذلك ما يبعث النفس إلى التفكير العميق في خالقها؟ وأن هذا الخالق لا يذكر هو وما خَلَقَ محاطًا بهذا الإجلال إلا في مقام الحق والصدق؟! وهكذا استُخدِم القسم في القرآن الكريم كمظهر من مظاهر قدرة الله -سبحانه وتعالى- وعظمته، وصِدْق ما جاء به هذا الدين الذي نزل القرآن؛ لتثبيت أسسه وقواعده، فيقول الله -سبحانه وتعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} (الصافات: 4) {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} (الذاريات: 5)، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة: 77) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 2) كل ذلك في جواب ما بُدئت به هذه السور

الكريمة من قسم. وأحيانًا يكون الجواب مؤكدًا لأحوال الإنسان: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 6 - 8). ومن لطائف القسم التي أشار إليها المفسرون قوله -سبحانه وتعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 - 3) فيقول: تأمل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل المقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربُّه!! فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه عنه -صلوات الله وسلامه عليه. من الأساليب التي استخدمت في التوكيد أيضًا استخدام ضمير الفصل، أو ما يسمى عند الكوفيين بضمير العماد، وهو الضمير الذي يَفصل بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر. مثال الفصل بين المبتدأ والخبر: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) ومثال الفصل بين ما أصله المبتدأ والخبر: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 92) وقوله -سبحانه وتعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) وقوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص: 35) وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (الصافات: 77) فتلاحظ أن الضمير في هذه الآيات وقع بين اسم إنَّ وخبرها، وكلاهما في الأصل مبتدأ وخبر، واسم كان وخبرها، وكذلك أيضًا أصلهما مبتدأ وخبر، ومفعولي جعل وهي من الأفعال الناصبة لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فهذا الضمير الذي يؤتَى به للفصل، أي: لا يشغل محلًّا إعرابيًّا في الجملة، فيكون ما قبله وما بعده يعربان على أنهما ركنَا الجملة، أو ما حل محل الركنين في باب ظن وأخواتها.

انظر إلى ضمير الفصل في قوله -سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} (النجم: 43 - 52) وانظر إلى الفرق بين استخدامه في مواضع، وتركه في مواضعَ أخرى، فاستخدم في: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}، و {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} ولم يستخدم في: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}، {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى}، فتجد الضمير قد استخدم في الأفعال التي هي مظنة الاشتراك، كما ترى ذلك في جملة الإضحاك والإبكاء، والإماتة والإحياء، والإغناء والإقناء، أما حيث لا تدعى الشركة فلا حاجةَ إلى هذا الضمير كما ترى في جمل خلق الزوجين، والنشأة الأخرى، وإهلاك عادا الأولى. فقد يظن المرء أن له يَدًا في إضحاك الآخرين وإبكائهم، أو أنه يملك لأناس الحياةَ والموتَ كما قال الطاغية لإبراهيم -عليه السلام: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258) أما هذه المسائل التي لا تحتاج إلى تأكيد؛ لأن الجميع يسلم بها، لم يقع فيها ضمير الفصل. كذلك لو نظرت في قوله -سبحانه وتعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء: 75 - 82) فترى ضمير الفصل أتى حيث يتوهم في الفعل شركة كما في الهداية والإطعام والشفاء، أما حيث لا تتوهم تلك الشركة، فلا يأتي ضمير الفصل كما في الخلق والإماتة

والإحياء. أما ما يتعلق بضمير الفصل من شروطه وأحكامه وأنواعه، فهذا باب ينصرف إلى النحو أكثر منه إلى البلاغة. من أساليب التوكيد أيضًا بالأداة استخدام الحروف الزائدة؛ والحروف الزائدة هي الحروف التي لا تشغل محلًّا إعرابيًّا، أو لا تؤثر في الإعراب عند النحاة نماذج من استخدام هذه الحروف للتوكيد: هناك فرق بين اصطحاب خبر ليس بالباء وعدم اصطحابه بها، وكذلك ما يعمل عمل ليس مِن "ما" الحجازية. فانظر إلى قوله -سبحانه وتعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 144) وقوله -سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (المجادلة: 10) ترى هذه الباءَ قد نفت كلَّ صلة تربط بين الله والغفلة في الآية الأولى، وبين السحر والضير في الآية الثانية، فلا صحبةَ بينهما ولا تلاقٍ. ومن الأمثلة المشهورة لاستخدام هذه الحروف الزائدة للتوكيد استخدام "مِن" الجارة، فشتان بين أن تقول لأحد مثلًا: ما معي مال، وبين أن تقول له: ما معي من مال. فإنك إذا قلتَ له: ما معي مال، ربما توهَّم أن معك مالًا ولكنه قليل، فيطالبك بشيء من المال أيضًا، فإذا ما قلت له: ما معي من مال، فقد أكدت النفي، وأنه ليس معك أي شيءٍ تستطيع أن تعطيه إياه. انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (ق: 38) وكيف يؤدي المعنى للتوكيد أقوى مِن: وما مسنا لغوب. وكذلك قوله -سبحانه وتعالى: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (المائدة: 19)، وفرق بين: ما جاءنا بشير ولا نذير. و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38) وفرق بين: ما علمت لكم إلهًا غيري. وهي كثيرة في كتاب الله -سبحانه وتعالى. وهناك أدواتٍ أخرى تستخدم كـ لام القسم، وألا الاستفتاحية، وهاء التنبيه، وتوكيد التشبيه بكأنَّ، واستخدام ضمير الشأن أيضًا للتوكيد، واستخدام قد، واستخدام السين وسوف لتوكيد المضارع، واستخدام نوني التوكيد الخفيفة والثقيلة. كل ذلك من الأدوات التي تُستخدم للتوكيد.

مسألة التكرير.

مسألة التكرير وننتقل الآن إلى الحديث عما يتعلق بمسألة التكرير ابتداءً نقول: إن التكرير ضَرْب من ضروب الإطناب، فهو تَكرار اللفظ مرددًا لغرض بلاغي يريده المتكلم، هذا التكرير يخدم النص، ويخدم الأسلوب، ويخدم الكاتب فيما يريد أن يعبر عنه، وهذا التكرير بالنسبة لكتاب الله -سبحانه وتعالى- لبِّس على بعض ضِعاف النفوس أو لبس على بعض الملاحدة الذين يكيدون لدين الإسلام الطعنَ في كتاب الله -عز وجل- عن طريق هذه الخاصية في كتاب الله، فقالوا: إن هناك تكرارًا لا فائدةَ فيه في بعض آيات القرآن الكريم -تعالى الله سبحانه وتعالى وكلامُه عما يقولون علوًّا كبيرًا. فنحن من خلال دراستنا للتكرير سيتضح لنا عِظم هذه الظاهرة في بيان إعجاز النظم القرآني، واختلافه عن غيره من سائر المنظوم. اهتم بهذه الظاهرة العلماء وأول مَن أشار إليها ابنُ قتيبة في كتابه (تأويل مُشكل القرآن) ثم بعد ذلك أفردها ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) وتناولها بعض البلاغيين في كتبهم، ولكنهم لم يهتموا بجانب ذكر التكرار في القرآن الكريم، اهتموا بإظهاره في الشعر والمنظوم غير القرآن، كما فعل ابن رشيق في كتابه (العمدة). التكرير في القرآن الكريم: اعلم أنه ليس في القرآن مكرر لا فائدةَ في تكريره، فإن رأيت شيئًا منه تكرر من حيث الظاهر فأنعم نظرك فيه، فانظر إلى سوابقه ولواحقه؛ لتنكشف لك الفائدة منه.

هذه العبارة ذكرها ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) التكرير يقسمه العلماء إلى نوعين: تكرير في اللفظ والمعنى. وتكرير في اللفظ دون المعنى. التكرير في اللفظ والمعنى: ينقسم إلى قسمين: مفيد، وغير مفيد، وعندما يقول علماء البلاغة: مفيد، فإنما لا يعنون به الإفادة عند النحويين من وجود المسند والمسند إليه، أو أن الكلام يحسن السكوت عليه، وإنما يريدون بالمفيد من التكرير أن يأتي في الكلام؛ تأكيدًا له وتشييدًا من أمره، وإنما يُفعل ذلك؛ للدلالة على العناية بالشيء الذي كررتَ فيه كلامك؛ إما مبالغةً في مدحه أو في ذمه أو غير ذلك. أي: إنه يفيد الغرض الذي تتحدث فيه، وغير المفيد الذي يأتي في الكلام عيًّا وخَطَلًا من غير حاجة إليه، وبذا يتبين لك ابتداءً أن غير المفيد لا سبيلَ لتواجده في كتاب الله -سبحانه وتعالى. فالتكرار في اللفظ والمعنى ينقسم المفيد منه إلى فرعين: الأول: هو أن يكون التكرير في اللفظ والمعنى دالًّا على معنى واحدٍ، وأن يكون المقصود به غرضين مختلفين، مثال ذلك: قول الله -سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال: 7، 8) هذا تكرير في اللفظ والمعنى {يُحِقَّ الْحَقَّ}، {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} وإنما جيء به ها هنا؛ لاختلاف المراد. وذلك أن الأول {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} تمييز بين الإرادتين، والثاني: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} بيان

لغرضه فيما فعَلَ من اختيار ذات الشوكة على غيرها، وأنه ما نصرهم وخذَل أولئك إلا لهذا الغرض. ومنه أيضًا قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: 11 - 15) فكرر -سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وقوله -سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} فالمراد به غرضان مختلفان، وذلك أن الأول إخبارٌ بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة له والإخلاصِ في دينه، والثاني إخبار بأنه -صلوات الله وسلامه عليه- يخص الله وحدَهُ دون غيره بعبادته، مخلصًا له دينَه، ولدلاته على ذلك قدَّم المعبودَ على فعل العبادة في الثاني وأخَّرَه في الأول؛ لأن الكلام أولًا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيًا فيمن يفعل الفعل من أجله -سبحانه وتعالى. ولذلك رتب عليه: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}. ومما يجري من هذا النوع أيضًا فاتحة الكتاب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 1 - 4) فكرر: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مرتين، والفائدة في ذلك أن الأول يتعلق بأمر الدنيا، والثاني يتعلق بأمر الآخرة، فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع إلى خلق العالمين في كونه خلق كلًّا منهم على أكمل صفة، وأعطاه جميع ما يحتاج إليه، حتى البَقة والذباب، وقد يرجع إلى غير الخلق كإدرار الأرزاق وغيرها. أما ما يتعلق بأمر الآخرة فهو إشارة إلى الرحمة الثانية في يوم القيامة، الذي هو يوم الدين. والضرب الثاني من هذا النوع: أن يكون التكرير في اللفظ والمعنى دالًّا على معنى واحد، والمراد به غرض واحد. كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (المدثر: 19، 20) فالتكرير دَلالة التعجب من تقديره وإصابته الغرض، وهذا -كما يقال: قتله الله

ما أشجعَه، أو ما أشعرَه. ونظيره أيضًا قول الله -سبحانه وتعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} (القيامة: 34، 35) فالغرض واحد هو بيان الهلاك، ومن أجل ذلك نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لأن قولنا: لا إله إلا الله مثل قولنا: وحده لا شريك له، وهما في المعنى سواء، وإنما كُرِّر القول لتقرير المعنى وإثباته؛ وذاك لأن مِن الناس مَن يخالف في ذلك كالنصارى وغيرهم. وانظر إلى قوله -سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم: 48، 49) فقوله: {مِنْ قَبْلِهِ} بعد قوله: {مِنْ قَبْلِ} فيه دلالة على أن عهدهم بالمطر قد بَعُدَ وتطاول، فاستحكم بأسهم، وتنادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. وانظر أيضًا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} (التوبة: 29) فقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} يقوم مقام قوله: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}؛ لأن مَن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا يدين دين الحق، وإنما كرر ها هنا؛ للخطب على المأمور بقتالهم، والتسجيل عليهم بالذم، ورجْمِهم بالعظائم؛ ليكون ذلك أدعى لوجوب قتالهم وحربهم. وانظر قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5) فتكرير لفظة: {أُولَئِكَ} مِن هذا الباب الذي أشرنا إليه لمكان شدة النكير، وإغلاظ العقاب؛ بسبب إنكارهم البعث.

ومن هذا النوع الذي أشاروا إليه أن يكون المعنى مضافًا إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (سبأ: 5) فالرجز هو العذاب، وهذا على مَن يرى مسألة الترادف، والصحيح أن لا بد أن يكون هناك فرقا بين العذاب وبين الرجز. ومما ذكروه في هذا الباب من التكرير في اللفظ والمعنى على غرض واحد قول الله -سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْم اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (غافر: 38، 39) فإنه إنما كرر نداء قومه ها هنا؛ لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ من سِنة الغفلة، ولأنهم قومه وعشيرته، وهم فيما يوبقهم من الضلال، وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم، ويتلطف بهم، ويستدعي بذلك أن لا يتهموه، فإن سرورهم سروره، وغمهم غمه، وأن ينزلوا على نصيحته لهم. وهذا من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز، وأشد موقعًا من الاختصار. ومما يجب أن يشار إليه أن هناك بعض الآيات ظن البعض أن فيها تكريرًا وليس فيها تكرير، كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 119) وقوله -سبحانه وتعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} (آل عمران: 188) فهاتان الآيتان يُظن أنهما من باب التكرير وليستَا كذلك. فإنهما تخرجان عن حكم التكرير؛ وذلك لإطالة الفصل في الكلام بين "إنَّ" الأولى والثانية، فكانت الأولى تفتقر إلى تمام لا يفهم الكلام إلا به، فالأَوْلى في باب الفصاحة أن يُعادَ لفظ الأولى مرةً ثانيةً؛ ليكون مقارنًا لتمام الفصل، كي لا يجيء الكلام منثورًا لا سيما

في إنَّ وأخواتها، تأمل قول الله -سبحانه وتعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: 4) فلما قال: {إِنِّي رَأَيْتُ} ثم طال الفصل كان الأحسن أن يعيد لفظ الرؤية، فيقول: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فليس هذا من التكرير وإنما هو من حسن إعادة اللفظ؛ لأجل الفصل. الضرب الثاني من التكرير في اللفظ والمعنى -وهو غير المفيد- قلنا: إن ذلك لا مكانَ له في القرآن، وإنما يلتمسوه من أقوال الشعراء كقول أبي نواس: أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثًا ... ويومًا له يوم الترحل خامسُ وقول الآخر: وقلقلتُ بالهم الذي قَلقلَ الحَشَا ... قلاقل عِيسٍ كلهن قلاقلُ فهذا من التكرير الذي لا فائدةَ منه، ولا معنى لذكره، ويُعاب الشاعرُ به. أما النوع الثاني من التكرير: وهو التكرير في المعنى دون اللفظ، وينقسم أيضًا إلى قسمين؛ مفيد وغير مفيد. والأول -المفيد- نوعان: إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنيين مختلفين، وذلك كما في الحديث في قول حاطب بن أبي بلتعةَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام". فيظن البعض أن ذلك تكرير لا فائدةَ فيه، فإن الكفر والارتدادَ عن الدين سواء، وكذلك الرضا بالكفر بعد الإسلام، والأمر ليس كذلك، فالذي يدل عليه اللفظ هو: أني لم أفعل ذلك وأنا كافر، في الأولى عندما قال: "ما فعلتُ ذلك كفرًا" وفي الثانية: "ولا

مرتدًّا" وفي الثالثة: أنه لا يرضَى بالكفر على جانب الإسلام. وذلك حسن في مكانه، واقعٌ في موقع يبين فصاحةَ المتحدث. ومن شواهده في كتاب الله -سبحانه وتعالى- قول الله -عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آل عمران: 104) فإن الأمر بالمعروف خير وليس كل خير أمرًا بالمعروف، وذاك أن الخير أنواع كثيرة من جملتها الأمر بالمعروف، ففائدة التكرير ها هنا أنه خصص أو ذكر الخاص بعد العام؛ للتنبيه على فضله كما قال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238) وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} (الأحزاب: 72) فإن الجبال داخلة في جملة الأرض، لكن لفظ الأرض عام والجبال خاص، وفائدته ها هنا تعظيم شأن الأمانة المشار إليها، وتفخيم أمرها. الضرب الثاني من التكرير في المعنى دون اللفظ: أن يدل التكرير على معنًى واحدٍ لا غير، كقوله -سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14) فإنما كرر العفوَ والصفحَ والمغفرةَ والجميع بمعنًى واحد؛ للزيادة في تحسين عفو الوالد عن ولده، والزوج عن زوجه. وضابطه الذي ينظر إليه هو الغرض المقصود من الكلام، وهذا الموضع يكون التكرير فيه أوجزَ من لمحة الإيجاز، وأولى بالاستعمال. انظر لقوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (يوسف: 86) فإن البث والحزنَ بمعنًى واحدٍ وإنما كرره ها هنا؛ لشدة الخطب النازل به، وتكاثر سهامه النافذة في قلبه، وكما سبق أن أشرنا لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ

وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) فاستخدام كلمة: {كَامِلَةٌ} بعد عد الثلاثة والسبعة؛ لاستكمال صفات هذه الأيام المذكورة، ولذا لم يقل المولى -سبحانه وتعالى: تامة؛ للفرق بين التمام والكمال. وكذلك قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة: 4) فإن البغضاء والعداوة بمعنًى واحد، وإنما حسن إيرادهما معًا في معرض واحد؛ لتأكيد البراءة بين إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- والذين آمنوا به، وبين الكفار من قومهم حيث لم يؤمنوا بالله وحده. وهذا الضرب معروف وشواهده كثيرة. آخر ضرب من التكرير في المعنى دون اللفظ الذي هو غير مفيد، فلا سبيلَ للاستشهاد به في القرآن الكريم، وإنما شواهده من كلام الشعراء، كقول أبي تمام: قسَم الزمانُ ربوعَها بين الصِّبَا ... وقبولِها ودبورِها أثلاثًا فإن الصبا هي القبول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 تابع: التكرار في القرآن الكريم.

الدرس: 18 تابع: التكرار في القرآن الكريم.

نماذج تطبيقية على التكرار في القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (تابع: التكرار في القرآن الكريم) نماذج تطبيقية على التكرار في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: سنبدأ درسنا هذا بعرض نماذج تطبيقية على هذه الظاهرة التي هي من دلائل الإعجاز اللغوي في القرآن، هذه الظاهرة تشمل صور عديدة كتكرير الحرف، وتكرير الاسم، وتكرير الفعل، وتكرير الجملة، وتكرير الآية كاملة، وتكرير الموضوع أو القصة في مواضع شتى في كتاب الله -سبحانه وتعالى- مع تغيير في بعض الألفاظ من: حذف بعضها، أو تقديم، أو تأخير ... أو غير ذلك من ظواهر أخرى تدخل على القصة المذكورة، ولكن القصة عرضت في مواضع شتى، ومن ثم كان ذلك تكرارًا لها، ولعرضها في كتاب الله -سبحانه وتعالى- فنتوقف مع نماذج لكل نوع من هذه الأنواع، ونعرض أقوال العلماء في بيانها. كتب التفسير مملوءة ببيان هذه الأسرار التي يحويها التكرير في القرآن الكريم، وخاصة كتب التفسير التي تهتم بالجانب البلاغي كـ (الكشاف) للزمخشري و (روح المعاني) للألوسي، وأخيرًا (التحرير والتنوير) للطاهر بن عاشور علّامة تونس. وأيضًا هناك كتب صنفت في بيان هذه الظاهرة، والاهتمام بها، وبما هو على شاكلتها من مواضع في القرآن تستدعي للانتباه لها، مثل كتاب (درة التنزيل وغرة التأويل) الذي نستعرض منه هذه النماذج، وليس اختيارنا لهذا الكتاب تفضيلًا له عن سائر الكتب، وإنما هو كتاب يخدم الغرض الذي نتحدث فيه بعرض النماذج، وعرض رؤية لما هو تحت هذه الظاهرة، وأذكرك أيضًا أن ذلك اجتهاد من العلماء، ومحاولة منهم لكشف أسرار بلاغة القرآن الكريم هذا الاجتهاد يقبل ويطرح إذا ما كان مخالفًا لبعض مبادئ الدين، ولظاهر التفسير

والقواعد التي وضعها العلماء لتوجيه كلام الله سبحانه وتعالى، فكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ لأنه مؤيد بالوحي معصوم من ربه يخبر بخبر الله -سبحانه وتعالى. تعرض الخطيب الإسكافي لتكرار كلمة "الناس" في سورة الناس من قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 1 - 6)، يقول: "للسائل أن يسأل عن تكرير الناس في فواصل هذه السورة في خمسة مواضع، وهي ست آيات قد ختمت أواخر خمس منها بالناس، وواحدة بالخناس، والجواب عن ذلك أن يقال: إنما اتصف الله تعالى أولًا {بِرَبِّ النَّاسِ} ثم بـ {مَلِكِ النَّاسِ} ثم بـ {إِلَهِ النَّاسِ} لحكم دعت إلى ذلك، وأوجبت تقديم الأول وتعقيبه بالثاني والثالث على الترتيب الذي جاء؛ لأن رب الشيء هو القائم بإصلاحه وتدبير أمره، فنبه بتقديمه على ما ترتب من نعمه على الإنسان لَما أنشأه ورباه، وهذه أولى أحواله. والثانية: إنعامه عليه بالعقل الذي يثبت عليه ملكه له، فيعلم أنه عبد مملوك وأن الذي بلغ به تلك الحال من حد الطفولة هو الذي يملكه وأمثاله، فجعل الوصف الثاني "ملك الناس"، ولما كان بعد ذلك تكليف العبادات التي هي حق الله تعالى على من عرفه نفسه أنه عبد مملوك، وعرفه أنه عز وجل خالقه وتلزمه طاعته ليلتزم غاية التذلل لمن هو أكبر الإنعام والتطول جعل الوصف الثالث "إله الناس" فصار الناس الذين أضيف إليهم رب كأنهم غير الذين أضيف إليهم ملك، والذين أضيف إليهم ملك غير الذين أضيف إليهم إله، وإذا أريد بالثاني غير الأول لم يكن تكرارا، فترتيب الصفات ينبه على أن المراد بالناس ذوي الأحوال

المختلفة في الصغر والترعرع والبلوغ، فيسلم على ذلك من التكرار ويتضمن هذا المعنى اللطيف الذي دل عليه ترتيب الصفات، وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} فالمراد بالناس الأول الأبرار، وبالناس الثاني الأشرار، فكان المعنى: الذي يوسوس في صدور الأخيار من الجن وأشرار الناس، فقد صار المعنى بكل واحد على صفة غير الصفة المعنية بالآخر، فكأنه غيره وإن كان الجنس قد جمع هذا كله". هذا ما اجتهد الخطيب الإسكافي في بيانه في تكرار الاسم في ختام هذه السورة، وهو كلام يقبل؛ لأنه تأمل لكلام الله سبحانه وتعالى، وبالصفات التي أضافها المولى سبحانه وتعالى إلى اللفظ المكرر من أنه سبحانه وتعالى الرب والملك والإله، وكذلك ما ختم في نهاية السورة {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فكلمة {النَّاسِ} الأولى تختلف عن الثانية، ومن ثم لم يكن ذلك من سبيل التكرار لتغير المعنى المراد بكل في المواضع التي ذكرت فيها لفظة {النَّاسِ}. نجد أيضًا نموذجًا رائعًا تحدث فيه عن تكرار الآية في سورة الرحمن في قول الله سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن: 13) هذه الآية كررت إحدى وثلاثين مرة في السورة الكريمة شغلت أهل الفصاحة والبلاغة وتحدثوا عنها وبينوا أسرارها. وهذا اجتهاد واحد منهم يقول: للسائل أن يسأل عن تكرار هذه الآية، وعن فائدتها والجواب أن يقال: نبه الله تعالى على ما خلق من نعم الدنيا المختلفة في سبع منها، وأفرد سبعًا للترهيب والإنذار والتخويف بالنار، وفصل بين السبع الأولى والسبع الأخر بواحدة تلت آية سوَّى فيها بين الناس كلهم، فيما كتب الله من الفناء عليهم حيث يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: 26)، أي

من على الأرض، وهذه الفاصلة للتسوية بين الملائكة والإنس والجن في الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى- وإلى المسألة وإلى الإشفاق من خشية الله وهو قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29). وإنما كانت الأول سبعا؛ لأن أمهات النعم خلقها الله تعالى سبعا سبعا كالسموات والأرضين، ومعظم الكواكب وكانت الثانية سبعا؛ لأنها على قسمة أبواب جهنم لما كانت في ذكرها، وبعد هذه السبع ثمانية في وصف الجنات وأهلها على قسمة أبوابها، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين؛ لأنه قال تعالى في مفتتحه الثمانية المتقدمة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرحمن: 46)، فلما استكملت هذه الآية ثماني مرات قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} (الرحمن: 62)، فمضت ثمانية في وصف الجنان وأهلها تالية للثمانية المتقدمة، فكان الجميع إحدى وثلاثين مرة. كذلك أيضًا يعرض أحدهم لتكرار الحرف في قوله سبحانه وتعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} (القصص: 18، 19)، فقوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} بتكرير أن مرتين دليل على أن موسى -عليه السلام- لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول بل كان منه إبطاء في بسط يده إليه فعبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ}. ومن الجميل أن نعرض نموذجًا لهذه الفروق التي ذكرت في القصص القرآني والنماذج كثيرة جدًا في هذا الكتاب القيم. ومن القصص التي شغلت مواضع عديدة في كتاب الله سبحانه وتعالى قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون عليه سحائب اللعائن.

يعرض الإسكافي لبعض هذه المواضع في عرضه لآيات سورة الأعراف موازنة بغيرها من السور التي تعرضت للقصة نفسها، فيقول: "قوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (الأعراف: 113)، وقال: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (الشعراء: 41)، للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلفت الآيتان، وكيف جاز: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} وحق الكلام أن يكون في {قَالُوا} واو أو فاء نحو: جاء السحرة فرعون فقالوا: أئن لنا لأجرًا أو وقالوا: أئن لنا لأجرا. والجواب أن يقال: لما تقدم في سورة الشعراء ما شرحه أكثر، وما في سورة الأعراف أوجز وأخصر كان قوله في الأعراف: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} بمعنى ما كان بإزائه في سورة الشعراء {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} فلم يحتج في جواب لما إلى فاء، ولا إلى واو، وكذلك هنا في سورة الأعراف لما قصد هذا المعنى دل بحذف العاطف على هذا القصد، فكأنه قال: فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا ". طبعا هو يشير لما تقدم في سورة الشعراء إشارة إلى نزول الآيات، فالشعراء نزلت قبل الأعراف، لا على ترتيب السور المعلوم لدينا الآن. ثم يعرض لقوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الأعراف: 113، 114)، وفي الشعراء {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الشعراء: 42)، للسائل أن يسأل عن زيادة {إِذًا} في سورة الشعراء، وخلو سورة الأعراف منها، والجواب أن معنى قوله: {إِذًا} جواب وجزاء، وكان من قول فرعون لهم: إن غلبتم فجزائي أن أجازيكم بإعلاء رتبتكم وتقريب منزلتكم، فلأجل ذلك أفعل هذا بكم،

فاختصت سورة الشعراء بها دون غيرها؛ لأنها موضع بني على فصل اختصاص لما جرى لما يُبن غيرها عليه من نحو ما تقدم وما يجيء بعد. ثم يعرض لقوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (الأعراف: 115)، وقوله سبحانه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} (طه: 65)، يقول: "للسائل أن يسأل عن اختلاف المحكي في الموضعين مع أن ذلك في شيء واحد، والجواب أن يقال: إن المقصود معنى واحد فاختير في سورة الأعراف {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} لأن الفواصل قبله على هذا الوزان واختير في سورة طه {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} لذلك ومثله قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (الأعراف: 120) في سورة الأعراف وسورة الشعراء لتكون الفاصلة فيها مساوية للفواصل قبلها، وبإزاء ساجدين قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} (طه: 70) في سورة طه لذلك ومثله قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشعراء: 47، 48)، في السورتين للفواصل التي حملت هذه عليها، وقال في سورة طه: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (طه: 70)، فقدم هارون؛ ليكون موسى فاصلة مثل الفواصل المتقدمة فهذا ونحوه مما يراعى في الفواصل. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ} (الأحزاب: 66)، وقوله سبحانه: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} (الأحزاب: 67)، فزيدت الألف لا للبدل من التنوين إذ لا تنوين مع الألف واللام، وإنما ذلك للتوفقة بينهما وبين الفواصل التي قبلها وبعدها نحو: {تَقْتِيلًا} {تَبْدِيلًا} {سَعِيرًا} {نَصِيرًا}، وبعدهما {كَبِيرًا} {وَجِيهًا} {سَدِيدًا} {عَظِيمًا} ". وهذا الكلام الذي ذكره مبني على ظاهرة مراعاة الفواصل، ولابد أن نجد في كلام أهل العلم من يرى

أبعد من ذلك، فالأمر لا يتوقف على الفاصلة فمراعاة الفاصلة شأن لفظي، ولا يكون تقديم وتأخير وذكر وحذف في كتاب الله لمراعاة لفظ فحسب. فلابد أن الألفاظ تخدم المعاني، فلذلك نجد من يخرج ومن ينظر إلى هذه الظواهر ويخرجها على تأويل وفهم آخر غير الذي ذكر صاحبنا. ويتعرض أيضًا لقوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الأعراف: 121، 122)، وقوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} ويقول: "للسائل أن يسأل فيقول: لم كرر ذكر رب في السورتين ولم يكرر في سورة طه؟ إنما قال: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} والجواب أن يقال: إذا قيل: رب العالمين فقد دخل فيهم موسى وهارون، وهما دعوا إلى رب العالمين لَما قالا: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 16)، وإلا أنه كرر في السورتين رب موسى وهارون ليدل بتخصيصهما بعد العموم على تصديقهم بما جاء به -عليهما السلام- عن الله تبارك وتعالى فكأنهم قالوا: آمنا برب العالمين، وهو الذي يدعو إليه موسى وهارون. وأما في سورة طه فلم يذكر رب العالمين؛ لأنه كان الكلام يتم به آية كما تم في السورتين فيكون مقطع الآية فاصلة مخالفة للفواصل التي بنيت عليها سورة طه، فقال تعالى: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وربهما هو رب العالمين وكان القصد حكاية المعنى لا أداء اللفظ على جهته". ويعرض لقول فرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (الأعراف: 123)، وقوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (طه: 71) للسائل أن يسأل عن موضعين في هذه الآية أحدهما إظهار اسم فرعون لعنه الله في سورة الأعراف في هذا اللفظ، وإضماره له في مثله من سورتي طه والشعراء والثاني قوله: {آمَنْتُمْ بِهِ} وقال في الموضعين الآخرين: {آمَنْتُمْ لَهُ} ووجه اختلافهما.

والجواب عن السؤال الأول، وهو إظهار اسم فرعون في سورة الأعراف، وإضماره فيما سواها أن الذكر العائد إلى فرعون بعد في سورة الأعراف؛ لأنه جاء في الآية العاشرة من الآية التي أضمر فيها ذكره، وهي قوله: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الأعراف: 114)، وجاء في الآية العاشرة من هذه السورة {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} ولم يبعد هذا الذكر في الآيتين اللتين في سورة طه والشعراء؛ لأن فرعون مذكور في سورة طه في جملة قومه الذين أخبر عنهم بقوله: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} (طه: 57)، وبعده {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طه: 60، 61)، وهذا خطاب لفرعون وقومه وضميرهم منطو على ضميره إلى قوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} (طه: 64)، هو يشير إلى أن في سورة الأعراف كان هناك فارق بين ذكر فرعون في الموضعين عشر آيات لا أنها الآية رقم عشرة في السورة؛ لأن الآية الأولى هي الآية الرابعة عشرة بعد المائة والثانية هي الثالثة والعشرون بعد المائة. ثم يعرض للذكر في قوله: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ} (طه: 71)، إنما هو في السابع من الآي التي جرى ذكره فيها، وكذلك في سورة الشعراء لم يبعد الذكر بعده في سورة الأعراف، ألا ترى أن آخر ما ذكر فيما اتصل بهذه الآية قوله تعالى: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الشعراء: 42) وذكره بعد ذلك في الآية الثامنة من الآية التي جرى ذكره فيها، فلما بعد الذكر في سورة الأعراف خلاف بعده في السورتين إذ كان في إحداهما في السابعة، وفي الأخرى في الثامنة، وهي في الأعراف في العاشرة أعيد ذكره الظاهر لذلك.

أما عن الفرق بين {آمَنْتُمْ بِهِ} و {آمَنْتُمْ لَهُ} فيقول: "إن الهاء في {آمَنْتُمْ بِهِ} غير الهاء في {آمَنْتُمْ لَهُ} وكل واحدة تعود إلى غير ما تعود إليه الأخرى، فالتي في {آمَنْتُمْ بِهِ} تعود إلى رب العالمين؛ لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 121)، وهو الذي دعا إليه موسى -عليه السلام، وأما الهاء في قوله: {آمَنْتُمْ لَهُ} تعود إلى موسى -عليه السلام، والدليل على ذلك أنه جاء في السورتين بعدها {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: 71)، فالهاء في {إِنَّهُ} هي التي في {آمَنْتُمْ لَهُ} فلا خلاف أن هذه لموسى -عليه السلام، والذي جاء بعد قوله: {آمَنْتُمْ بِهِ} قوله: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} (الأعراف: 123)، أي: إظهاركم ما أظهرتم من الإيمان برب العالمين وقع على تواطؤ منكم أخفيتموه لتستولوا على العباد والبلاد، ويجوز أن يكون الهاء في {آمَنْتُمْ بِهِ} ضمير موسى -عليه السلام؛ لأنه يقال: آمن بالرسول أي: أظهرتم تصديقه، وأقدمتم على خلافي قبل أن آذنت لكم فيه، وهذا مكر مكرتموه، وسر أسررتموه؛ لتقلبوا الناس علي فاقتضى هذا الموضع الذي ذكر فيه المكر إنكار الإيمان به". ثم يستطرد لاختصاص اللام في موضع والباء في موضع، وإلى غير ذلك مما تعرض له في استتباع السورة من المواضع التالية له كالفرق بين {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} (طه: 71) {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} (الشعراء: 49)، ونحو {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأعراف: 124)، وفي موضع آخر {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} (الشعراء: 49)، ونحو {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} (الأعراف: 125)، وقوله سبحانه: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 50)، فهذا وغيره من اللطائف التي تنبه

لها العلماء لبيان الفروق في ذكر القصة وما يدور حولها. عمومًا مسألة التكرار هي ظاهرة اجتهد العلماء في بيانها، وإظهارها وإظهار ما فيها. ونختم الكلام عنها بهذه اللآلئ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في حديثه عن هذه الظاهرة توضح أمرًا يجب التنبه إليه. يقول: "قال ابن قتيبة: تكرار الكلام في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (الكافرون: 1) لتكرار الوقت، وذلك أنهم قالوا: إن سرك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة". يقول شيخ الإسلام: "قلت: هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر بتكرار الكلام، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((والله لأغزون قريشًا، ثم والله لأغزون قريشًا، ثم والله لأغزون قريشًا))، ثم قال: ((إن شاء الله)) ثم لم يغزهم، يقول: هذا في كلامهم لكن ليس في القرآن من هذا شيء، فإن القرآن له شأن اختص به لا يشبه كلام البشر، ولا كلام نبي، ولا غيره وإن كان نزل بلغة العرب، فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله. فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط، وإنما في سورة الرحمن خطابه سبحانه وتعالى بذلك بعد كل آية لم يذكر متواليًا، وهو نمط من أرفع الأساليب في الذكر فقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه، وتاب عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تك فقيرًا فأغنيتك أفتنكر هذا؟! ألم تك عريانًا فكسوتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملًا فعرفتك ونحو ذلك، وهو أقرب من التكرار المتوالي". كأن الإمام في خلاصة كلامه يؤكد ما أكد في بداية كلامنا أن عليك أن تبحث عن السر في التكرار، وأن هذا ليس من التكرار الذي هو على عادة كلام العرب؛ لأن هناك فواصل بين الآيات وبين العبارة التي كررت، وعليك أن تبحث في أساليب البيان، وفي براعة استخدامها.

هل هناك زيادة في القرآن.

هل هناك زيادة في القرآن وننتقل -أيها الأبناء الأحباء- إلى ظاهرة من الظواهر من الظواهر التي كثر الجدل حولها، وكثر الكلام فيها، وهي ظاهرة الزيادة: هل هناك كلام زائد في كتاب الله -سبحانه وتعالى؟ هذه القضية التي شغلت علماء العربية والشريعة، وتناولوها وتحدثوا فيها كثيرًا، ولا بد -قبل أن نعرضها ونعرض وجه نظر العلماء فيها- أن نقف مع المصطلح نفسه، ونبين أمرًا -يجب عليك أيها الطالب النجيب وأيتها الطالبة الأريبة- أن تنتبهوا له أن الخلاف في هذه المسألة لا يعدو أن يكون خلافًا لفظيًّا. فإن سألت: كيف هذا؟ أقول: سأوضح لك أيها الأبن الحبيب وأيتها الأبنة الكريمة هذا. فمنشأ الخلاف في هذه الظاهرة ابتداءً هو الخلاف في المصطلح بين أهل كل فن، فكثيرًا ما يقع البلاغيون في النحاة بسبب اختلافهم في تناول المصطلحات. أهل النحو عندما يطلقون مثلًا في كلامهم كلمة فضله، لا يعنون به ما يستغنى عنه، وإنما يعنون بالفضلة ما ليس ركنًا أساسيًا في الجملة، فإذا قالوا: إن الحال فضلة لا يعني ذلك أن الحال يستغنى عنها في الكلام، وإلا لوجدوا من يعترض عليهم اعتراضًا شديدًا بقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (آل عمران: 191)، أو {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الأنبياء: 16)، فإذا ما حذفت الحال مثلًا في هاتين الآيتين كان الكلام جحودًا لخلق الله عز وجل لهذه المخلوقات -عياذًا بالله- ففسد المعنى. وأنى للنحاة أن يقصدوا هذا المقصد، وكذلك في باب المفعول عندما يقولون: إن المفعول فضلة لا يعنون الاستغناء عنه، وإنما يعنون به أنه ليس ركنًا أساسيًا، فلا وجه لاعتراض البلاغيين عليهم بقولهم: المفعول عندنا ليس فضلة؛ لأنك إذا قلت: أضربت زيدًا إنما تنكر ضربك للمفعول، فهو أساس الكلام الذي ينبني عليه.

فهذه المسألة تطرقت إلى باب الزيادة بخلاف أوسع بين العلماء في المجالين. الزيادة ووقوعها في كتاب الله والمراد بها: الأكثرون ينكرون إطلاق هذه العبارة في كتاب الله ويسمونه التأكيد، ومنهم من يسميه بالصلة ومنهم من يسميه بالمقحم، واختلفوا في وقوعه في كتاب الله سبحانه وتعالى، فمنهم من أنكره، ونقل عن المبرد وثعلب أنه لا صلة في القرآن يعني: ليس هناك زائد في القرآن، أما الدهماء من العلماء والفقهاء، والمفسرين على إثبات الصلات في القرآن، وقد وجد ذلك على وجه لا يسع إنكاره، فذكر كثيرًا، هذا كلام الزركشي في (البرهان). يبين لنا ابتداءً أننا لا نستطيع أن نقول: إنه ليس في القرآن حروف صلة، وليس في القرآن حروف استخدمت بما أطلق عليه في العلماء هذا المصطلح ويقول: ومنهم من جوزه وجعل وجوده كالعدم، وهو أفسد الطرق، وقد قال الفخر الرازي: "إن المحققين على أن المهمل لا يقع في كلام الله -سبحانه- فأما في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (آل عمران: 159)، فيمكن أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير: فبأي رحمة". هنا وقع الرازي في إشكالية كبرى مع العلماء في بيان هذه الآية، أول هذه الأشياء التي وقع فيها أنه عبر عن الصلة أو الزائد بلفظ المهمل، ولم يقل أحد من النحاة لفظ المهمل؛ لأن المهمل ما لم تضعه العرب، وهو ضد المستعمل فهذا المصطلح النحاة لم يتعرضوا له، ولم يذكروه. فعندما تحدثوا عن الزيادة أطلقوا مصطلحان عند البصريين يقولون: زائد أو لغو يعني عبارة سيبويه وهو إمام النحاة، وهو كبيرهم في كتابه يقول عقب قوله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} (المائدة: 13)، يقول: "إنما لغوًا لأنها لم تحدث

شيئًا". أي: لم تؤثر في الإعراب، فالباء حرف جر، ونقض اسم مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة هذا هو مرادهم بكلمة الزائد، ولا يعنون به ألبتة أنه لا يؤثر في المعنى، وأنه لا يفيد في المعنى؛ بل معظم من وجه الآيات على الفهم لاستخدام هذه الأدوات التي أطلق عليها الزيادة هم النحاة. وانظر مثلًا إلى ابن هشام وكتابه (المغني) وما تعرض فيه لمثل هذه الأشياء، وتحدث فيها ويستدل البلاغيون في احتجاجهم، وإقامتهم الحجج على النحاة بكلام ابن هشام، وهو من النحاة، فليس المراد بالزيادة حيث ذكرها النحويون إهمال اللفظ، ولا كونه لغوًا فنحتاج إلى التنكب عن التعبير بها إلى غيرها، فإنهم إنما سموا ما زائدة هنا لجواز تعدي العامل قبلها إلى ما بعدها، لا لأنها ليس لها معنى هذا التوضيح الذي ذكره الزركشي لاعتراضه على عبارة الفخر الرازي. فواضح من هذا الكلام أن هناك تداخلا بين مصطلحات النحاة فعندما يقولون: زائد، أو يقولون: لغو على مصطلح البصريين أو يقولون: صلة أو يقولون: حشو على مصطلح الكوفيين هذه الكلمات التي يطلقونها تتعرض بقضية الإعراب، ولا تتعرض بقضية المعنى ربما يقول قائل: الإعراب فرع المعنى نقول: الإعراب الصناعي، وليس الإعراب التفسيري، الإعراب الصناعي بمعنى الرفع والنصب والخفض، وما سبب ذلك، وهو قضية تأثير العوامل في المعمولات، فهم يذهبون ويقولون كلمة زيادة أو لغو أو حشو أو صلة؛ لأن العامل قبلها يتطلب المعمول بعدها، وهي لا تأثير لها فيه. ودليل هذا الخلط هذا الذي ذكره ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) وأسهب في الكلام عنه، وجاوز حد الإنصاف كما يقال في الكلام على النحاة، يقول: "جرت بيني وبين رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية أي في قول الله سبحانه وتعالى:

{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} (القصص: 19)، الكلام عن موسى -عليه السلام- فيقول: فقال -أي النحوي: إن "أن" الأولى زائدة ولو حذفت فقيل: فلما أراد أن يبطش لكان المعنى سواء ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} (يوسف: 96)، وقد اتفق النحاة على أن "أنْ" الواردة بعد لما وقبل الفعل زائدة". أولًا للإنصاف هذه العبارة التي ذكرها ابن الأثير لا نستطيع أن نسلم بها أن قالها نحوي من النحويين الذين يعتمد على كلامهم، بمعنى أنه يذكر أنه قال له: "لكان المعنى سواء" لم يقل أحد من النحويين أبدًا المعتمد على كلامهم من أهل هذه الصنعة أن المعنى بوجود الحرف، وبعدم وجوده سواء، فأما كونهم ذكروا أن أن الواردة بعد لما وقبل الفعل زائدة فهذا حق بمصطلح الزيادة الذي هو عندهم. يقول ابن الأثير: "فقلت له: النحاة لا فتيا لهم في مواقع الفصاحة والبلاغة، ولا عندهم معرفة بأسرارهما من حيث إنهم نحاة، ولا شك أنهم وجدوا "أن" ترد بعد "لما" وقبل الفعل في القرآن وفي كلام الفصحاء العرب، فظنوا أن المعنى بوجودها كالمعنى إذا أُسقطت، فقالوا: هذه زائدة وليس الأمر كذلك بل إذا وردت لَمّا وورد الفعل بعدها بإسقاط أنْ دل ذلك على الفور، وإذا لم تسقط لم يدلنا ذلك على أن الفعل كان على الفور، وإنما كان فيه تراخ وإبطاء". ثم يعقب قائلًا: "وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أني أقول: فائدة وضع الألفاظ أن تكون أدلة على المعاني، فإذا وردت لفظة من الألفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة، فالأولى أن تحمل تلك اللفظة على معنى، فإن لم يوجد معنى بعد التنقيب، والتنقير، والبحث الطويل قيل: هذه زائدة دخولها في الكلام كخروجها منه، ولما نظرت أنا في هذه

الآية وجدت لفظة "أنْ" الواردة بعد لَمّا وقبل الفعل دالة على معنى، وإذا كانت دالة على معنى، فكيف يسوغ أن يقال: إنها زائدة؟! فإن قيل: إنها إذا كانت دالة على معنى، فيجوز أن تكون دالة على غير ما أشرت أنت إليه قلت في الجواب: إذا ثبت أنها دالة على معنى، فالذي أشرت إليه معنى مناسب واقع في موقعه، وإذا كان مناسبا واقعا في موقعه، فقد حصل المراد منه، ودل الدليل حينئذٍ أنها ليست بزائدة. الوجه الآخر: أن هذه اللفظة لو كانت زائدة لكان ذلك قدحًا في كلام الله تعالى، وذاك أنه يكون قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها، والمعنى يتم بدونها، وحينئذٍ لا يكون كلامه معجزًا إذ من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجه إليه، وإن التطويل عيب في الكلام، فكيف يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز هذا محال". ويختتم بقوله: "وهذه دقائق ورموز لا تؤخذ من النحاة؛ لأنها ليست من شأنهم". واضح من كلام ابن الأثير أن به خلطا، وأن به تجاوزا في فهم المسألة من ناحية، وفي التعبير عنها من ناحية أخرى، كما ذكرنا لم يقل النحاة قط: إن الزيادة لا تؤثر في المعنى، وإنما مصطلحهم يدور دائمًا حول اللفظ والقضية الإعرابية الصناعية، وتوجيه الإعراب، وقضية العامل والمعمول، والنحاة أنفسهم لم يتعرضوا لمسألة أن الكلام على السواء، وأن المعنى سيان بوجود الحرف وعدم وجوده لم يرد ذلك عنهم أو عن الثقات منهم، وإن قاله بعض الضعفة من النحاة أو بعض ما لا يعتد به في الخلاف، فهذا يكون سوء فهم ممن قال هذا الكلام، فلا ينسب الكلام إلى النحاة، ولا تعمم الأحكام على أنهم ليس من شأنهم هذا وهذه الأسرار لا يعلمونها، وليس لهم في الفصاحة والبلاغة، فهذا تطاول من ابن الأثير على النحاة في بيان هذه المسألة والخلاف الواقع فيها.

دليل ذلك أننا ننظر إلى نقطة مقابلة، إذا ما نظرت مثلًا في كتاب (الفريد في إعراب القرآن المجيد) للمُنْتَجَب بن أبي العز رشيد الهمذاني المتوفى عام ستمائة وثلاث وأربعين من الهجرة تجده عند توجيهه المواضع التي قيل فيها في الزيادة ينص على مسألة الصلة، وعلى مسألة أنها جاءت للتوكيد، وعلى أنها تؤدي المعنى وإلى فرق المعنى بينها وبين غيرها، وذكر لطيفة من اللطائف ذكره بعدها الزركشي في (البرهان) هذه العبارة الجميلة التي توضح تقديرهم الشديد لمكانة هذا الحرف الذي يطلق عليه زائد، أو يقال عنه زائد اصطلاحًا نحويًا لا صلة له بالمعنى، وأنه لا يؤدي معنى مفيدًا، أو لا يؤثر في المعنى. يقول: "سئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف، وما معناه إذ إسقاط الحرف لا يخل بالمعنى، فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف قال: ومثال ذلك مثال العارف بوزن الشعر طبعًا، فإذا تغير البيت بزيادة أو نقص أنكره، وقال: أجد في نفسي على خلاف ما أجده بإقامة الوزن، فكذلك هذه الحروف تتغير نفسُ المطبوع عند نقصانها، ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانه". هذا كلام بيِّنٌ ونص واضح في ضرورة تواجد هذه الحروف، وكذلك أثرها في السياق وتوضيحه، والناحية الجمالية في النص التي أشار إليها شيخنا محمد عبد الله دراز -رحمه الله- بمسألة الجمال الإيقاعي والجمال التنسيقي بأنه إذا ما حذف هذا الحرف حدث الخلل، ولا يتقبل الإنسان هذا الحذف، ويشعر بنقصان استمتاعه بالآيات، وبتلاوتها وبكلامها فرقًا بين ذكر الحرف وحذفه، فهذه المسألة يعترفون بها، ويقرون بها بل يعترف بها كل من يقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى. فهذا الحرف له دور في المعنى، وله دور في الإيقاع والتنسيق، وله دور في إعجاز القرآن الكريم وإنما أطلق عليه الزائد من باب الاصطلاح. وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الدرس: 19 موقف علماء الصرف والنحو من قضية الزيادة.

الدرس: 19 موقف علماء الصرف والنحو من قضية الزيادة.

الزيادة لدى علماء الصرف.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (موقف علماء الصرف والنحو من قضية الزيادة) الزيادة لدى علماء الصرف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ومولانا وحبيبنا وشفيعنا محمد بن عبد الله -صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: نتناول بإذن الله موقف علماء الصرف، وعلماء النحو من قضية الزيادة، ونقابل الموقف بموقف البلاغيين وكلامهم عن مسألة الزيادة: الزيادة عند علماء الصرف هي اشتمال الكلمة على أحد حروف الزيادة العشرة المجموعة في سألتمونيها، أو هناء وتسليم أو تلا يوم أنسه أو اليوم تنساه، فتفنن علماء الصرف في جمع هذه الحروف وعدها بأنها من الأحرف المزيدة، والمزيد عندهم هو ما بعض حروفه ساقط وضعًا أي: أنك تستطيع أن تتعرف عليه بإسقاطه في تصاريف الكلام، فعندما تقول: نصر ينصر انتصارا ناصر منصور، نصير، منتصر يؤدي ذلك إلى أن تقول: إن النون والصاد والراء حروف أصلية، وما عداها حروف زائدة، ودليل ذلك أنك ترى الألف في ناصر ولا تراها في منصور، وكذلك ترى الياء في نصير ولا تراها في منتصر فهذه الحروف زائدة لسقوطها في بعض تصاريف الكلمة. وينصون على أن أكثر ما يبلغ الاسم بالزيادة سبعة أحرف مثل "احرنجام" وفي الفعل يبلغ ستة أحرف مثل: استغفر، واطمأن، ويقابلون الزائد بالمجرد، فالمجرد ما كانت كل حروفه أصلية، ولا تسقط في أصل الوضع بخلاف الزائد، واهتموا أيضًا ببيان أن الزيادة لا تكون إلا لأحد ستة أشياء: الزيادة لمعنى كحروف المضارعة، وينصون على أن ما زيد لمعنى هو أقوى الزوائد، والزيادة للمد نحو: كتاب وعجوز وقديم أي: حرف الألف والواو والياء من حروف المد، والزيادة للإلحاق نحو: واو كوثر، وياء ضيغم، والزيادة للإمكان كهمزة الوصل التي يتوصل بها إلى الساكن، وهاء السكت في الوقف على قه وعه ومه والزيادة

للعوض نحو: تاء التأنيث في زنادقة فإنها عوض عن ياء زناديق؛ ولذلك لا يجتمعان والزيادة لتكثير الكلمة نحو: ألف كبعثر، ونون كنهبل أو كنهبُل أي: الشجر العظيم، ومتى كانت الزيادة لغير التكثير كانت أولى من أن تكون للتكثير. فنخلص من ذلك إلى أن الزيادة عند الصرفيين تتعلق ببنية الكلمة، وهل هي مجردة أم مزيدة، وإن كانت مشتقة فاشتقاقها من الثلاثي المجرد أم من غير الثلاثي سواء كان مجردًا رباعيًا أو ثلاثيًا مزيدًا بحرف أو حرفين أو ثلاثة، وينتهي دورهم عند هذا الحد فيلتقطه أرباب البلاغة والبيان؛ لينظروا لم استخدم المزيد ولم يستخدم المجرد ولم استعملت هذه الصيغة ها هنا مجردة، وهناك مزيدة، ولم عدل عن صيغة المشتق من الثلاثي إلى غيره والعكس، وما أثر ذلك على المعنى، وما الذي اختير من حروف الزيادة ولماذا ومن ثم يتبين من هذه الأسئلة والإجابة عنها الإعجاز القرآني في مسألة استخدام الحروف الزائدة بفهم الصرفيين، وبتناول الصرفيين. ويتبين ذلك بعرض نماذج لمن اهتموا بهذا الشأن، وببيان الفرق بين استخدام حروف الزيادة في البنية وعدم استخدامها. من ذلك ما أشار إليه الدكتور السامرائي في كتابه (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) من الفرق في الاستخدام بين قوله تعالى: {اسْطَاعُوا} (الكهف: 97)، و {اسْتَطَاعُوا} (الكهف: 97)، قال سبحانه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (الكهف: 97)، الصرفيون عندما يتناولون ذلك يبينون أن {اسْتَطَاعُوا} على الأصل بزيادة الألف والسين والتاء وأن {اسْطَاعُوا} هو الفعل، ولكن حذفت منه التاء حتى إن أحدهم ليقول: ظللت دهرًا أسأل عن وزن اسطاعوا فلم أجد من يجيبني. هذا الذي يهتمون به في بيان استخدام {اسْطَاعُوا}، و {اسْتَطَاعُوا}.

أما الدكتور السامرائي يشير إلى الفرق بين استخدام الفعلين يقول: "وذلك في السد الذي صنعه ذو القرنين من زبر الحديد والنحاس المذاب، وقد ذكرنا أن الصعود على هذا السد أيسر من إحداث نقب فيه لمرور الجيش، فحذف من الحدث الخفيف فقال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} بخلاف الفعل الشاق الطويل فإنه لم يحذف بل أعطاه أطول صيغة له فقال: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} فخفف بالحذف من الفعل الخفيف بخلاف الفعل الشاق الطويل، ثم إنه لما كان الصعود على السد يتطلب زمنًا أقصر من إحداث النقب فيه حذف من الفعل، وقصر منه ليجانس النطق الزمن الذي يتطلبه كل حدث". هذه لطيفة أشار إليها الشيخ -حفظه الله- وكذلك أيضًا أشار إلى الفرق بين تنزل وتتنزل، فالصرفيون في نحو ذلك القاعدة عندهم معروفة أنه إذا اجتمعت تاءان في أول المضارع جاز التخفف من أحدهما تعاونوا، وتتعاونوا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2)، فتعاونوا الأولى فعل أمر، {وَلَا تَعَاوَنُوا} الثانية فعل مضارع وأصله ولا تتعاونوا {تَلَظَّى} (الليل: 14) أصلها تتلظى، وهكذا فالمسألة عندهم واضحة في أنه يجوز حذف إحدى التائين تخفيفًا إذا اجتمعا في أول المضارع لكن ننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4)، وقوله سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (الشعراء: 221 - 223)، هاتان الآيتان وردت فيها الصيغة بحذف التاء تخفيفًا. أما في سورة فصلت يقول المولى سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ

تُوعَدُونَ} (فصلت: 30)، فقال في آيتي القدر والشعراء: {تَنَزَّلُ}، بحذف إحدى التاءين، وقال في فصلت: {تَتَنَزَّلُ}، من دون حذف، وذلك والله أعلم أن التنزل في آية فصلت أكثر مما في الآيتين الأخريين ذلك أن المقصود بها أن الملائكة تنزل على المؤمنين عند الموت؛ لتبشرهم بالجنة، وهذا يحدث على مدار السنة في كل لحظة، ففي كل لحظة يموت مؤمن مستقيم، فتتنزل لتبشره بالجنة فأعطى الفعل كل صيغته، ولم يحذف منه شيئًا، وأما آية الشعراء، فإن التنزل فيها أقل؛ لأن الشياطين لا تتنزل على كل الكفرة، وإنما تنزل على الكهنة أو على قسم منهم، وهم الموصوفون بقوله: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ} ولا شك أن هؤلاء ليسوا كثيرا في الناس، وهم ليسوا بكثرة الأولين ولا شطرهم بل هم قلة فاقتطع من الحدث فقال: {تَنَزَّلُ} بحذف إحدى التاءين، وكذلك ما في آية سورة القدر، فإن تنزل الملائكة إنما هو في ليلة واحدة في العام وهي ليلة القدر، فهو أقل من التنزل الذي يحدث باستمرار على من يحضره الموت فاقتطع من الحدث. فأنت ترى أنه اقتطع من الفعل إحدى التاءين في آيتي الشعراء والقدر لأن التنزل أقل ولم يحدث من آية فصلت؛ لأنه أكثر والله أعلم. هذه لطيفة أشار إليها الشيخ في هذه الظاهرة، كذلك نأتي لصيغة فعَّل وأفعل، عند الصرفيين الأمر سيان الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، وكلا الفعلين ينتميان لفصيلة واحدة وهي فصيلة الثلاثي المزيد بحرف، ولكن الفرق أن الأول مزيد بالهمزة؛ فلذا هو على وزن أفعل والثاني مزيد بالتضعيف، فلذا هو على وزن فعَّل هذا دور الصرفيين. أما أهل التذوق والبلاغة ينظرون في الاستخدام متى يستخدم أفعل ومتى يستخدم فعَّل مع أنهما من فصيلة واحدة، يقول الشيخ: "من الاستعمال القرآني

لفعَّل وأفعل نحو: كرَّم وأكرم، فإنه يستعمل كرم لما هو أبلغ وأدوم فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70)، وهذا تكريم لبني آدم على وجه العموم والدوام، وقوله سبحانه على لسان إبليس: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (الإسراء: 62)، أي: فضلته علي، في حين قال سبحانه: {كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} (الفجر: 17)، وقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} (الفجر: 15)، وهو يقصد إكرامه بالمال، فاستعمل التكريم لما هو أبلغ وأدوم وأعم. وكاستعمال أوصى ووصى، فهو يستعمل وصى لما هو أهم لما فيه من المبالغة، فالقرآن يستعمل وصَّى للأمور المعنوية، ولأمور الدين ويستعمل أوصى للأمور المادية، وذلك نحو قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} (العنكبوت: 8)، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (البقرة: 132)، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} (الأنعام: 151) في حين قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11) ولم يستعمل أوصى في الأمور المعنوية وأمور الدين إلا في قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم: 31)، وذلك لاقتران الصلاة بالزكاة". كما ذكرت أن هذه اجتهادات اجتهد فيما ذكرت من نماذج في مسألة الصرف الدكتور السامرائي في استكشاف الفروق بين استخدام الصيغ مع اتحاد الكلام فيها عند الصرفيين، وليس الدكتور السامرائي بدعًا في هذه المسألة، فهذا أشار إليه العلماء سابقًا، وحاولوا بيان ذلك وهذه نماذج أو عبارات ذكرها الزركشي في كتابه حول هذه المسألة، وهي الزيادة في بنية الكلمة. يقول: "واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلابد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولًا؛ لأن الألفاظ أدلة على

المعاني، فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 42)، فهو أبلغ من قادر لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى، وكقوله تعالى: {وَاصْطَبِرْ} (مريم: 65)، فإنه أبلغ من الأمر بالصبر من اصبر {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48)، {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (القمر: 27)، فهناك فرق بين اصطبر وبين اصبر، وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، لأنه لما كانت السيئة ثقيلة، وفيها تكلف زيد في لفظ فعلها وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} (فاطر: 37)، فإنه أبلغ من يتصارخون". إذًا العلماء يبحثون عن سر هذه الزيادة، واستخدامها في القرآن، ويتعدون مرحلة ما يذكره الصرفيون في أنه مجرد أو مزيد أو على صيغة من الصيغ المعينة، ومن الإشارات اللطيفة أيضًا مسألة التشديد يعني الزيادة بالتشديد أبلغ من عدم التشديد، فإن ستارًا وغفارًا أبلغ من ساتر وغافر؛ ولهذا قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (نوح: 10)، ومن هذا رجح بعضهم معنى الرحمن على معنى الرحيم لما فيه من زيادة البناء، وهو الألف والنون في كلمة الرحمن. وبعضهم ذكر لطيفة حول قول الله سبحانه وتعالى في وصف الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 3)، فعبر المولى سبحانه وتعالى بصيغة اسم الفاعل في شاكر وبصيغة المبالغة في كفور؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يبالغ في الشكر، ولكن عادته أن يبالغ في الكفر عياذًا بالله.

الزيادة عند علماء النحو.

الزيادة عند علماء النحو ننتقل الآن إلى الكلام عن الزيادة عند النحاة أو عند علماء النحو، وسبق مما تحدثنا عنه بيان أن المقصود عندهم الزيادة التي لا تؤثر في العمل، وهذا باب واسع عند النحاة ومطردٌ في كلامهم وفي كتبهم، فعندما يتحدثون في باب كان تجد فصل زيادة كان، حتى إن ابن مالك في منظومته يقول: وقد تزاد كان في حشو كما ... كان أصح علم من تقدما ويتكلمون عن الزيادة في حروف الجر، وعن زيادة ما مع إن وأخواتها وكفها عن العمل لها إلى غير ذلك من أبواب النحو، فمصطلح الزيادة مصطلح شائع عندهم، وهو في كل موضع من المواضع التي ينبهون عليه ينطلق نحو قضية العامل والمعمول التي هي أصل صناعة النحو، وأصل تخصصهم وكلامهم. فمثلًا يبتدءون كلامهم بأنهم ينصون على تنبيهات معينة أن كون الحرف زائدًا دلالة على أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد، فبوجوده تحصل فائدة التأكيد؛ ولذا استخدامه في القرآن لوضع ولغاية يريدها المولى سبحانه وتعالى في هذا الاستخدام. ثانيًا: أن حق الزيادة أن تكون في الحرف وفي الأفعال، أما الأسماء فقد نصوا على أنها لا تزاد، وإن كان في كتب بعض النحاة زيادة الاسم إلا أن هذا لا يطرد عندهم. مثال: الزمخشري في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 9)، يقول: "إن اسم الجلالة مقحم، ولا يتصور مخادعتهم لله تعالى".

وثالث هذه الأشياء التي ينبهون عليها أن الزيادة تكون إمًا آخرًا، وإما حشوًا فلا تقع في بداية الكلام، فلذلك تجد كثيرًا من النحويين يعترضون على زيادة لا في مثل قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (القيامة: 1)، في بداية الكلام. ولكي يتبين لنا كلامهم عن الزيادة نعرض كلامهم حول الحروف الزائدة، وهذه المسألة التي كثر الكلام حولها في باب الزيادة، أما زيادة الفعل فهي محصورة على أفعال معينة مثال كان، والآيات التي يحتملها زيادة كان في القرآن جميعها جاءت على سبيل الاحتمال، وليس على القول القاطع. كما قالوا مثلًا في قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (مريم: 29)، فقالوا: إن كان زائدة، وإن {صَبِيًّا} تعرب حالًا؛ لأن لا فائدة في وصف أنه كان في المهد، ليس هناك معجزة في شأن عيسى -عليه السلام، فكل من في المهد صبي فهم يتعجبون من كلامه حالة كونه صبيًا ليس لأنه كان في المهد صبيًا. وهذا فهم أيضًا يعترض عليه أصلًا في هذا التقدير إلا أن كثيرا من النحاة ذكروا زيادة كان في هذا الموضع، ومواضع أخرى كثيرة في القرآن جاءت على الاحتمال بأنها زائدة وعلى الاحتمال بأنها أصلية في الكلام، وهذا كلام يتعلق بالنحو وبتفاصيل المسائل فيه. القضية التي تشغلنا هي حروف الزيادة، ابتداء الزيادة إما أن تكون لتأكيد النفي كالباء في خبر ليس وما أو لتأكيد الإيجاب كاللام الداخلة على المبتدأ، يعني هم يوضحون ابتداء أن الكلام في الزيادة لغرض التأكيد سواء كان تأكيد إيجاب أو تأكيد نفي، وحروف الزيادة المستعملة بكثرة عندهم سبعة التي نصوا كثيرًا على زيادتها: إن، وأن، ولا، وما، ومن، والباء واللام، هذه الحروف استخدمت كثيرًا في الزيادة، وبعضهم زائد أم، وبعضهم زاد الكاف، وبعضهم ذهب إلى زيادة إلى في بعض المواضع.

هذا وقد أحصى دكتور أحمد بدوي الألفاظ الزائدة بأنها خمسة عشر لفظًا وردت في القرآن الكريم ما بين حروف وأسماء، وهذه الحروف هي التي ذكرناها، وأما الأسماء فهو حصر معها إذ وإذا. في هذه الأدوات عندما يتحدثون مثلًا عن إن يقولون: "إن" الخفيفة يطرد زيادتها مع "ما" النافية، ويمثلون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (الأحقاف: 26)، ويقولون: إن "أن" المفتوحة تزاد بعد لَمَّا الظرفية كقوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} (العنكبوت: 33)، ويقولون: "ما" تزاد بعد خمس كلمات من حروف الجر،، فتزاد بعد مِن وعن غير كافة لهما عن العمل، وتزاد بعد الكاف ورب والباء فتكفها تارة ولا تكفها تارة أخرى. ويوضحون مجيئها كافة وغير كافة يقولون: ما التي تكف عن النصب والرفع هي الواقعة بعد إن وأخواتها {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النساء: 171)، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} (الأنفال: 6)، والتي تكف عن عمل الجر كقوله تعالى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138)، وغير الكافة هي التي تقع بعد أداة الجزم، كقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} (الأعراف: 200)، أي: إنما تكون فهنا أداة الجزم جزمت الفعل بعدها، ولم تؤثر ما فلم تكف عن العمل وكذلك الواردة بعد الخافض أي: بعد حرف الجر {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ} (آل عمران: 159) فكلمة {رَحْمَةٍ} مجرورة بالباء، ومثلها {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النساء: 155)، {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} (المؤمنون: 40) {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نوح: 25) فكل من هذه الألفاظ الواقعة بعد "ما" مجرورة بحرف الجر السابق لها. وكذلك تقع بعد الاسم كقوله تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} (القصص: 28)، وتزاد بعد أداة الشرط جازمة كانت أو غير جازمة، ومثال الجازمة {أَيْنَمَا

تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} (النساء: 78)، وغير الجازمة {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} (فصلت: 20)، وتزاد بين التابع وتابعه ويستدلون لذلك بقوله تعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (البقرة: 26)، فـ {بَعُوضَةً} بدل أو عطف بيان لـ {مَثَلًا} ويتحدثون عن "لا" فيقولون: "لا" تزاد مع الواو بعد النفي كقوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} (فصلت: 34)، أي لا تستوي الحسنة والسيئة؛ لأن استوى من الأفعال التي تطلب اسمين أي لا تليق بفاعل واحد نحو: اختصم، فعلم أن لا زائدة، وتزاد بعد أن المصدرية كقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (الحديد: 29)، ف ـ {يَعْلَمَ} فعل مضارع منصوب بأن المصدرية ولا زائدة. حتى إن الشلوبين يقول: "وأما زيادة لا في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} فشيء متفق عليه، وقد نص عليه سيبويه، ولا يمكن أن تحمل الآية إلا على زيادة لا فيها لأن ما قبلها من الكلام وما بعده يقتضيه". رجعنا إلى مسألة العامل تنبه أن أنْ تتطلب العمل في {يَعْلَمَ} قالوا: وفائدة زيادتها تأكيد الإثبات فإن وضع لا نفي ما دخلت عليه فهي معارضة للإثبات، ولا يخفى أن حصول الحكم مع المعارض أثبت مما إذا لم يعترضه المعارض، قالوا: وقد تزاد قبل القسم {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (المعارج: 40)، {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (الواقعة: 75)، وعندما يتحدثون عن "مِن" يقولون: تزاد في الكلام الوارد بعد نفي أو شبهه {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} (الأنعام: 59) أي: ورقة، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} (المؤمنون: 91) أي: ولدا، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (الملك: 3)، أي: تفاوتا وغيرها كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى. وجوز الأخفش زيادتها مطلقًا أي دون أن تسبق بنفي أو شبه نفي، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}

(الأنعام: 34)، أي: نبأ المرسلين، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (الأحقاف: 31) أي: ذنوبكم، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} (الكهف: 31)، أي أساور من ذهب، {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (البقرة: 271)، أي سيئاتكم على أنها منصوبة؛ لأن سيئات جمع مؤنث سالم، فينصب ويجر بعلامة واحدة وهي الكسرة. ويتحدثون عن الباء، فيقولون: تزاد في الفاعل كقوله تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الرعد: 43)، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب: 39)، وتزاد اطرادًا وقياسًا في أسلوب التعجب {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم: 38). والنحاة عندما يعربون "أكرِمْ بمحمد" يعربونها على أصل المعنى، فمعناها كرم محمد، فبالتالي عندما يقول لك: أكرم فعل ماضٍ جاء على صورة الأمر للتعجب، والباء حرف جر زائد، ومحمد فاعل مرفوع محلًا مجرور لفظًا أو فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة منع من ظهورها انشغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، هذا يوضح لك أن القضية عندهم لا تعدو أن تكون متصلة بمسألة الإعراب، والعامل والمعمول، ويقولون: يجوز حذفها في فاعل كفى أي أن تقول: كفى الله، ومنه قول الشاعر: كفى الشيب والإسلام ... بالمرء ناهيا وتزاد في المفعول كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)، وكقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25)، وكقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (العلق: 14)، وكقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (الحج: 15)، وكقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (الحج: 25)، ويقولون: هي تزاد في المبتدأ، وذلك قليل ومنه عند سيبويه {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم: 6)،

أي: أيكم المفتون وتزاد في خبر المبتدأ وحملوا عليه قوله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} (يونس: 27)، وتزاد في خبر ليس كثيرًا كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} (القيامة: 40)، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36)، ومن النادر زيادتها مع غير ذلك، وهذا خرجوا عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} (الأحقاف: 33)، وحمل أيضًا على أنها في معنى النفي، فحملت على ليس وهي تزيد كثيرًا في خبر ليس. ويتحدثون عن اللام فيقولون: إنها تزاد بين الفعل ومفعوله، وحمل عليه المبرد قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} (النمل: 72)، أي: ردفكم واختلفوا في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} (النساء: 26)، وتزاد اللام لتقوية العامل، ينظرون إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (يوسف: 43)، فإذا ما سئلت عن إعراب الرؤيا، فالرؤيا: مفعول به للفعل {تَعْبُرُونَ} إذًا ما دور اللام؟ قالوا: اللام دخلت هنا لتقوية العامل؛ لأن العامل ضعف بسبب تأخيره كقوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف: 154)، أي: يرهبون ربهم يخافون ربهم فبسبب ذلك الضعف لتأخيره زيدت اللام على المفعول به. أو أن العامل لا يكون فعلًا يكون فرعًا عن الفعل أي: مشتق يعمل عمل الفعل كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (هود: 107)، أي فعال ما يريد، وكقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91)، أي مصدقا ما معهم، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} (المعارج: 16)، أي نزاعة الشوى، واجتمع التأخر والفرعية أن العامل يكون ضعيفًا بسبب تأخره وبسبب فرعيته في نحو قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (الأنبياء: 78)، أي: وكنا شاهدين حكمهم، فالعامل

هنا كلمة {شَاهِدِينَ} وهي مشتق يعمل عمل الفعل، والمعمول كلمة حكمهم فهي متقدمة على عاملها. بقي أن نشير إلى أنهم لم يعرضوا هذا الكلام، ولم يتكلموا فيه، وعلى تركه دون بيان بل إنهم كانوا يوضحون أحيانًا السر في هذه الزيادة، ويتحدثون عن الغرض البلاغي، وكثير منهم ينص على أن هناك فرقا بين وجودها وعدم وجودها، وكثير من البلاغيين يأخذون عن توجيهات النحويين وكلامهم في هذه المسائل. فنختم للتطبيق على قضية الزيادة بين النحاة والبلاغيين بكلام رائد من رواد البلاغة في العصر الحديث، وهو أستاذنا الدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابه (من بلاغة القرآن) يقول: "أحصى النحاة ما ورد في القرآن الكريم من كلمات زائدة، وحصروها في خمسة عشر لفظًا، هي إذ في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، وإذا في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)، وإلى في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37)، في رواية من قرأ تهوى بفتح الواو "تهوَى إليهم" أي تهواهم، وأم في قوله تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف: 51، 52)، والتقدير: أفلا تبصرون أنا خير. وإن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (الأحقاف: 26)، وأن في قوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} (العنكبوت: 33)، وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} (يوسف: 96)، وقوله

سبحانه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 246)، {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} (إبراهيم: 12)، والباء في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)، {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25)، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (الحج: 15)، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (الحج: 25)، كما ذكرت سابقًا. والفاء في قوله سبحانه {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ} (ص: 54 - 57)، أي: هذا ليذوقوه {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}، و"في" في قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود: 41)، أي: اركبوها، والكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11)، واللام في قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} (النمل: 72)، {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (المؤمنون: 36)، ولا في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (الأعراف: 12)، وقوله سبحانه: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 92، 93)، وكذلك قوله سبحانه: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (الحديد: 29)، وقوله سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (القيامة: 1)، وما على شاكلته من الآيات. وقوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} (النساء: 65)، أي: فوربك، وقوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (الأنعام: 151)، وقوله سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 109)، وقوله سبحانه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (الأنبياء: 95)، وقوله سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} (آل عمران: 79، 80)، و"ما" في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159)، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النساء: 155)، {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} (نوح: 25)، ومن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام: 34)، والواو في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} (الزمر: 73)، أي: فتحت أبوابها. وكذلك قوله سبحانه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصافات: 103 - 105)، أي: فلما أسلما تله للجبين". هكذا حصر أستاذنا -رحمه الله- الألفاظ التي عدها النحاة زائدة في خمسة عشر لفظًا، ولكنه كان منصفا -رحمه الله- فقال بعدها: "ذلك ما أحصاه النحويون من حروف قالوا: إنها زائدة وردت في القرآن يعنون بزيادتها أنهم لا يستطيعون لها توجيهًا إعرابيًا، وإن كانوا يجدونها قد أدت معاني لا تستفاد من الجملة إذا هي حذفت". يقول: "أما زيادة إذ في الآية الأولى فمما لم يرتضه ابن هشام في مغنيه أي في كتابه (مغني اللبيب) وقال صاحب (الكشاف) أي: الزمخشري وهو أيضًا من النحاة: "إذ" منصوبة بإضمار اذكر، ويجوز أن ينتصب بقالوا وعليه فليست إذ بزائدة أي: أنه يحتج بالكلام بعدم زيادتها بكلام ابن هشام وكلام الزمخشري، وهما من النحاة، وكذلك لم يرتضِ زيادة "إذا" في قوله سبحانه: {إِذَا السَّمَاءُ

انْشَقَّتْ} (الانشقاق: 1)، بل رآها شرطية حذف جوابها لتذهب النفس في تقديره كل مذهب أو اكتفاءً بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار، ففي كلتا السورتين قد ذكر جواب إذا فقيل في سورة التكوير في الجواب {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} (التكوير: 14). وقيل في سورة الانفطار {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (الانفطار: 5)، وقال في توجيه آية إلى: إن تهوى بفتح الواو قد ضمنت معنى تميل وهو يتعدى بإلى فليست على ذلك بزائدة، أي كل هذا الكلام ينسبه إلى ابن هشام -رحمه الله- في اعتراضه على القول بالزيادة في هذه المواضع وبأنها تحتمل أشياء أخرى، فهو من النحاة يقصد بـ"إلى" في قوله تعالى: {تَهْوِي إِلَيْهِم} أي: إليها أي: تهواهم، وأم في كلام فرعون {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} (الزخرف: 52)، ليست زائدة كذلك بل هي منقطعة بمعنى بل، وتفيد الإضراب الانتقالي، وإن في قوله تعالى: {مَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِْ} ليست بزائدة بل نافية، والمعنى ولقد مكناكم في أمور لم نمكنكم فيها، والمجيء بإن هنا أفضل من المجيء بـ"ما" حذرًا من التكرير اللفظي، فبدأ -رحمه الله- بذكر المواضع التي اعترض بعض النحاة على كونها زائدة أصلًا". ثم انتقل إلى ما قالوا فيه بالزيادة أو ما وجههوه على معان أخرى، يقول: "أما أن في الآيتين الأوليين فزائدة جيء بها مؤذنة بتراخي حدوث الفعلين بعدها في الزمن تراخيًا عبر عنه القرآن بهذه اللفظ. ولو أن الفعل كان على الفور لاتصل الفعل بلما من غير فاصل بينهما إشارة إلى {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} يعني لو لم يكن هناك تراخ في الفترة بين مجيء البشير وبين أخذه القميص من يوسف -عليه السلام- لما وضعت أن؛ لأن "أن" تدل على التراخي الزمني بين الحين الذي أرسل فيه، والفعل الذي ذكر بعدها، والباء ليست زائدة

في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فالمعنى لا تكونوا سببًا في هلاك أنفسكم بأفعالكم، أما في قوله تعالى: {وهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} فالمعنى أمسكي هازة بجذع النخلة، فجيء بالباء مصورة لمريم ممسكة بجذع النخلة تهزها مبعدة هذا الجذع حينًا ومقربة له إليها حينًا آخر. وكذلك في قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ}، فعلى تضمين يمدد بمعنى يتصل أي فليتصل بسبب، إذ ليس المراد مطلق مادي سبب إلى السماء بل الهدف أن يعلق المغيظ نفسه بهذا السبب، فساغ لذلك هذا التضمين ودلَّت عليه". الشاهد أن ابن هشام -رحمه الله- اهتم في كتابه (المغني) كثيرًا بهذه المسائل وبتوضيحها وبقضية التضمين بل جعلها من الأساليب التي ينبغي أن يتنبه لها من ينظر في القرآن الكريم وإلى هذه المواضع، والقضية مشهورة في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وكون الكاف زائدة أم غير زائدة، وهذه مسائل تفصيلية تحدثوا فيها وأوضحوها وكتب التفسير مليئة بالرد على نحو ذلك، وبعد أن استعرض الشيخ -رحمه الله- هذه المسائل يقول: "ومن كل ذلك يبدو أن ما يمكن عده زائدًا إنما هو حروف نادرة جيء بها لأغراض بلاغية وفت بها هذه الحروف الزائدة ويظهر أن تسميتها زائدة معناه أنها لا يرتبط بها حكم إعرابي، لا أنها لم تؤدِ في الجملة معنى". وهذا هو الإنصاف الذي ذكرته عن هذا الباحث الجليل -رحمه الله. ثم استطرد -رحمه الله- إلى وجود بعض المعاني في آيات من القرآن ربما يتوهم المتوهم أن بها زيادة يقول: "ورد في القرآن ما يبدو للنظرة السريعة أنه يمكن الاستغناء عنه، ولكن المتأمل يظهر له الدقة البارعة في اختيار هذا التعبير مثال قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ

اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (البقرة: 79) فتأمل قوله: {بِأَيْدِيهِمْ} يصور بها جريمة الافتراء ويرسم بها مقدار اجترائهم على الله، ويؤكد ارتكابهم الجريمة بأنفسهم، وإن شئت فأسقطت تلك الكلمة وانظر إلى فراغ تتركه إذا سقطت". هو يشير -رحمه الله- إلى أنه ربما يتساءل متسائل: بأي شيء يكتبون الكتاب، الكتابة لا تكون إلا بالأيدي فربما يظن متوهم أن ذكر الأيدي هنا زيادة نستطيع الاستغناء عنه فبين الشيخ -رحمه الله- أن ذكر الأيدي هنا بيَّن معانٍ لا نستطيع أن نتوصل إليها بدون ذكر الأيدي، كذلك في قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: 26)، معروف أن السقف لا يخر من تحتهم، فلا يكون إلا من فوق، وهي من اللطائف التي أشار إليها البعض في الآية وعندما قال أحدهم: فخر عليهم السقف من تحتهم عوتب ووجهوا إليه نقدًا لاذعًا؛ لأنه لا يفقه ما يقرأ أو ما يقال. وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} (النور: 15)، وقوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} (الأحزاب: 4)، فأفواهكم تدل في الآية الأولى على أن الحديث الذي يجري على ألسنتهم حديث لم يشترك فيه العقل، ولم يصدر عنه فلذلك كان التعبير: تلقونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم، أما في الآية الثانية تدل على أن نطق اللساني لا يغير من الحقيقة شيئًا {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} فهو لا يتعدى اللسان إلى ما في الأفئدة من حقائق. وأشار إلى قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4)، ففي ذكر الجوف تأكيد لإنكاره وجود قلبين لرجل، فإذا تصور القارئ جوفًا بادر بإنكار أن يكون فيه قلبان وكذلك ذكر كلمة واحدة في قوله تعالى: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (الحاقة: 13)، {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة: 14)، فهو يوحي بقصر النفخة وسرعة الدكة، وفي ذلك من إثارة الرعب وتصوير شدة الهول ما

فيه، وكذلك في وصفه سبحانه وتعالى مناة الثالثة الأخرى، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (النجم: 19، 20)، فيقول: "تجد فيه وصف مناة بالثالثة زيادة عن ما فيه من الحفاظ على الاتساق القرآني والموسيقى المتناسبة، إشارة إلى ما مني به هؤلاء القوم من ضعف في العقول، وفساد في التفكير حتى إنهم لم يقفوا بإشراكهم عند حد إلهين بل زادوا عليهما ثالثًا، وذلك فيه تهكم مرير عليهم". وفي قوله سبحانه وتعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196)،فالعشرة معلومة من الثلاثة والسبعة إلا أن ذكر {كَامِلَةٌ} أفاد أن التفريق بين هذه الأيام لم ينقص الأجر بل أجرها كامل كما لو كانت متوالية، فنسب الكمال إليها لكمال أجرها عند الله سبحانه وتعالى. هكذا نختم كلامنا عن قضية الزيادة، وأرجو أن تكون قد اتضحت لكم بأنها خلاف لفظي، وأن النحاة وغيرهم آثروا استخدام لفظ "الصلة" أفضل من لفظ "الزائد" أو "اللغو"؛ لأنهم لا يريدون بأنه لا يؤثر على المعنى، حاشى لله، وأن كلام الله -سبحانه وتعالى- منزه عن أن يكون فيه ما لا يفيد في مجال المعنى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 الفصل والوصل.

الدرس: 20 الفصل والوصل.

معنى الفصل والوصل عند النحاة والبلاغيين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (الفصل والوصل) معنى الفصل والوصل عند النحاة والبلاغيين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فنتناول وجه من وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن وهو استخدام الفصل والوصل، وابتداءً نودُّ أن نُبينَ أنّ هذا الباب من أبواب البلاغة، والإعجاز في القرآن، باب عظيم لا يتنبه له إلا أولو الفطنة من أصحاب البلاغة، ولذا نبه العُلماء على أهميته، وأهمية معرفته وفهمه؛ لأنّ ذلك يبين رَوعة القرآن في استخدام هذين الفنين من فنون البلاغة. يقول الجرجاني مبينًا أهمية هذا الفن، يقول: "اعلم أنّ العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل؛ من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها، والمجيء بها منثورة؛ تُستأنف واحدة منها بعد أخرى من أسرار البلاغة، وَمِمّا لا يتأتى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخُلّص، وإلّا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا فنًّا من المعرفة في ذوق الكلام، هم بها أفراد -أي: منفردون عن غيرهم- وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدًّا للبلاغة؛ فقد جاء عن بعضهم: أنه سُئل عنها فقال: معرفة الفصل من الوصل، ذاك لغموضه ودقة مسلكه، وأنه لا يكمل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة". ويقول أيضًا الجرجاني في هذا المجال: "واعلم أنّ ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض ودقيق صعب، إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب، وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: إنّ الكَلامَ قد استُؤنف وقطع عما قبله، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك، ولقد غفلوا غفلة شديدة".

يتضح من كلام هذا الإمام الجليل أن الفصل والوصل هو العطف وعدم العطف، أي: متى تعطف جملة على أخرى بحرف العطف، ومتى لا تعطفها؟. وقد تطور هذا الفن وهذا المصطلح على مدار الدرس البلاغي للقرآن الكريم، فبدا في أقوال الأئمة الأولين من أمثال سيبويه في كتابه، والفراء في كتابه (معاني القرآن) ثم تطور المصطلح عند العلماء وتحدثوا فيه، إلى أن جاء الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) وأوضح نظرية "الفصل والوصل"، ووضع لها ضوابط ومصطلحات تطورت بعده، إلى أن أتى السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) وقعّد مسائل الفصل والوصل، وجعلها مهيئة للدرس. ومن ثَمّ نجد العلماء يختلفون في تناولهم لهذه المسألة، ما بين مطلق لها العنان، ومتأمل في جوانبها، وموضح ما فيها، مع الأخذ والرد لأقوال العلماء والاهتمام بها، ودِرَاسَتها في ضوء الدرس اللغوي الحديث، كما فعل أستاذنا منير سلطان؛ فأفرد بحثًا بعنوان: "الفصل والوصل في القرآن الكريم، دراسة في الأسلوب" فحاول أن يبرمج في كتابه هذه النظرية، متتبعًا تطورها، ومظهرًا فنونها وأركانها، ومحددًا مصطلحاتها مع بيان نماذج من القرآن والتطبيق عليها في الفنين. ومنهم من تناولها تناولًا أكاديميًّا تقليديًّا كتناول السكاكي عندما جعلها قواعد تدرس، وهذا ما عليه كثيرٌ من الباحثين، وآخرون يتناولون القضية على مذهب الأقدمين، وعلى الطريقة التقليدية، ولكنهم يبينون فيها وجهًا من الخلاف، ويُرجحون أشياء ويذكرونها، ويرون أشياء تَصْلُح للدرس البلاغي، موضحين من خلال كلامهم: أنّ ليس كل ما قيل من مصطلحات سنذكرها لك في محل الاتفاق، وإنّما قد يؤخذ عليه مآخذ، ويرد عليه أمور، ومن ثم فالمسألة تحتاج إلى تحليل ودرس دقيق.

وهذا ما فعله العلامة أبو موسى في كتابه (دلالات التراكيب دراسة بلاغية)، حيث أفرد بحثًا عن الفصل والوصل، وتناول كلام الجرجاني ونظريات السابقين، ومن خلالها بدا له بعض الاعتراضات على هذه التقاسيم، وهذه التفاريع. ويكفيك في هذا المجال أولًا أن أذكر لك أن اهتمام البلاغيين بالحديث عن الواو التي تُذْكَرُ؛ فتَصل الجملة بأختها، أو تترك فتدع الجملتين منفصلتين؛ قد غالوا في تقدير معرفة الموضع الذي تصلح فيه الواو، والموضع الذي لا تصلح فيه الواو؛ حتى قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل والوصل. وقد قصروا حديثهم في ذلك الموضع على الجمل التي لا محل لها من الإعراب، وهذا لأنّ الجمل التي لها موقع من الإعراب، ويكون موضع الواو فيها من الوضوح بمكان؛ لأنها تشرك الجملة الثانية في حكم الأولى، فتكون مثلها: خبرًا أو صفة أو حالًا أو مفعولًا أو غير ذلك، والأمر فيه سهل بَيّن. أما الذي يشْكُل فأن تعطف على الجملة التي لا موضع لها من الإعراب، جملة أخرى؛ فهنا تقف لترى لِم لَم يستو الحال بين أن تعطف وبين أن تدع العطف؟. هذا كلامهم في مسألة الفصل والوصل وقصرهم عليها على استخدام الواو دون غيرها من حروف العطف، وذلك عند المتأخرين عندما بينوا أن الوصل يكون باستخدام الواو عاطفة بين الجملتين، وأن الفصل يكون بعدم استخدام الواو عاطفة بين الجملتين. فإنْ سألت لماذا اختصت الواو بالحديث في هذا الباب دون غيرها؟ قيل لك: لأنّ غيرها من حروف العطف، تُفيد مع الإشراك معانٍ كأنْ تدل الفاء على الترتيب من غير تراخٍ، وثم على الترتيب مع التراخي، و"أو" للتردد بين شيئين؛ فإذا عطفت جملة على جملة، بواحد منها ظهرت فائدة هذا

الحرف واضحة جلية؛ أما الواو فإنها لما كانت لمُطلق الجمع لا تَصِلُ جُملة بأخرى؛ إلّا إذا كان المعنى في إحدى الجملتين متصلًا بمعنى الجملة الأخرى ومرتبطًا به. فالخُلاصة: أنّ الفصل والوصل هو العطف وترك العطف، ومَن أسس هذه النظرية كنظرية لها مبادئ وأصول، هو الجرجاني ولكنه التزم بالأساس النحوي لدراسة الفصل والوصل، فبناها على قواعد النحو ولم يغفل أن الأمر ليس مجرد عطف جملة على جملة، وإنما هو وصل معنى بمعنى لاعتبارات جمالية؛ ففصل معنى عن آخر، ووصل معنى بآخر يحتاج إلى أقوام ذوي ذوق. وأشير فقط إلى ما نبه عليه أستاذنا الدكتور لاشين من بداية هذه الظاهرة، بهذا الفهم الذي فهمه الجرجاني في كتاب (معاني القرآن) للفراء وعرضه نماذج من ذلك في كتاب الفراء. فعند حديث الفراء عن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} (إبراهيم: 6)، وقوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} (البقرة: 49) والفرق بين ذكر الواو {وَيُذَبِّحُونَ} وتركها {يُذَبِّحُونَ}. يقول الفراء موضحًا الفرق بين الأسلوبين: "فمعنى الواو أنه يمسهم العذاب غير التذبيح، كأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح. ومعنى طرح الواو كأنه تفسير لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملًا في كلمة، ثم فسرته فاجعله بغير الواو، وإذا كان أوله غير آخره فالبواو". هذا النص من كلام الفراء يوضح الفرق بين استخدام الواو، وعدم استخدامها، وهو ما انتهى إليه العلماء في بيان الفصل والوصل، ويقول أيضًا في قوله تعالى: {وَمَنْ

يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الفرقان: 68، 69)، يقول: "فالآثام فيه نية العذاب قليله وكثيره، ثُمّ فسره بغير الواو، فقال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ألا ترى أنك تقول: عندي دابتانبغل وبرذون ولا يجوز: عندي دابتان وبغل وبرذون، وإننا نريد تفسير الدابتين بالبغل والبرذون، ففي هذا كفاية عما نترك فقس عليه". ويقول في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67). يقول: " {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ} وهذا في القرآن كثير بغير الفاء، وذلك لأنه جواب يستغني أوله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا؛ فكأنّ حُسْنَ السّكوتِ يجوزُ به طرح الفاء، وأنت تراه في رءوس الآيات لأنها كفصول حسنى". فنرى من هذه النصوص أن الفراء ينص على التسمية بأن رءوس الآيات إذا جاءت منفصلة عما قبلها؛ فهي فواصل، كما أنها إذا كانت واقعة في جواب لسؤال مقدر، تنفصل الآية عما قبلها، كما يفصل الجواب عن السؤال؛ وهذا ما عرفه المتأخرون بشبه كمال الاتصال والآن نذكر ما ذكره الجرجاني، وأشار إليه، وتغافل عنه الكثيرون بعده عند تحديد المصطلح وبيانه، فاقتصروا على عطف الجمل، وهو أنْ نشير إلى الحديث عن وصل المفردات وفصلها، تعطف المفردات بعضها على بعض بالواو إذا حصل التناسب ووجد التجانس؛ كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33). فكل ما عطف بالواو يندرج تحت جنس المحرمات، التي حرمها الله -سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285)، فالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل من جنس الإيمان الذي آمن به رسولنا الكريم والمؤمنون برسالته. وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (سبأ: 2)، فكل ما عطف يندرج تحت علم الله سبحانه وتعالى، ولا بد في عطف المفردات من وجود الجهة الجامعة، والتناسب بينهما، كما هو حاصل في الآيات الكريمة التي قرئت. وقد جرى الاستعمال القرآني على ألا يعطف بعض الصفات على بعض، إلا إذا كان بينهما تضاد. يقول المولى سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (التحريم: 5)، فتلاحظ أن الصفات جميعها لم تقترن بالواو إلا في قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} للتنويع ورفع التناقض، ودفع توهم من يستبعد ذلك. وكذلك في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الحشر: 23، 24) فكلها ذكرت دون الواو؛ فلم يقل: الملك والقدوس والسلام ... إلى آخره وإنما لم تستخدم الواو في هذا الموضع من تعدد الصفات؛ لأنها تندرج تحت تناسب وتحت معنى واحد، وهو أسماء الله الحسنى وصفاته العليا جل في علاه؛ فلما تضادت الصفات عطفت بالواو كقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (الحديد: 3).

مواضع الفصل والوصل.

مواضع الفصل والوصل دواعي عطف الجملة على أخرى اسمية أو فعلية، أو ما يسمى بمواضع الوصل: انتهى العلماء إلى أن الوصل بين الجمل يكون في ثلاثة مواضع؛ الموضع الأول: أن تكون الجملة الأولى لها محل من الإعراب، وأريد إعطاء الثانية هذا الحكم الإعرابي، وكانت هناك مناسبة، ولا مانع من الوصل. والموضع الثاني: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاءً، لفظًا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة بينهما، وليس هناك مانع من الوصل. والموضع الثالث: أن يكون بين الجملتين كمال انقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود. الموضع الأول: أن تكون الجملة الأولى لها موقع من الإعراب وأريد إعطاء الثانية هذا الحكم الإعرابي، وكان هناك مناسبة ولا مانع من الوصل: انظر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245)، تجد استخدام الواو في قوله تعالى: {وَيَبْسُطُ} فجملة: {يَقْبِضُ} جملة فعلية في محل رفع خبر عن لفظ الجلالة {وَاللَّهُ يَقْبِضُ}، وعُطِفَت عليها جملة {وَيَبْسُطُ} وأريد إشراكها مع الجملة السابقة في الحكم الإعرابي، إذ المولى سبحانه وتعالى يقبض ويبسط، فيشتركان في حكم إسنادهما إلى المولى سبحانه وتعالى. فالمقصود تصور عظمة الله سبحانه حين يجمع بين القبض والبسط، وبين الجملتين تناسب؛ إذ القبض ضد البسط، والضد أقرب خطورًا بالبال عند ذكر ضده؛ لذا عطفت الجملة الثانية على الجملة الأولى لهذا الغرض.

وكذلك لو نظرت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 197)، فجملة: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} واقعة خبرًا لاسم الموصول، وجملة: {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} تشارك الجملة التي سبقتها في حكمها الإعرابي، إذ المقصود من الآية الإخبار عن الاسم الموصول بأمرين؛ أحدهما: أنهم لا يستطيعون نصرًا لمن يعبدونهم، والثانية: أنهم لا يملكون نصرًا لأنفسهم؛ لهذا عطفت الجملة الثانية على الأولى، والتناسب واضح بين الجملتين. فبان لك في هذين المثالين ما وضحوه في الموضع الأول بإشراك الجملة الثانية مع الأولى في الحكم الإعرابي. ووجود المناسبة وعدم وجود مانع من الوصل. ولذلك عاب النقاد البيت المشهور لأبي تمام عندما يقول في مدح أبي الحسين بن الهيثم: زعمت هواك عفا الغداة كما عفا عنها طلال باللوى ورسوم لا والذي هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت نفسي على إلف سواك تحوم فالرجل هنا يخاطب محبوبته، ويريد في ثنايا الكلام أن يمدح أبا الحسين بن الهيثم فيقول: لا والذي هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم فاستخدم "الواو" ووصل الجملتين مع عدم وجود مناسبة بينهما، وعدم إرادة إشراك الجملتين في الحكم الإعرابيفتساءل العلماء: ما الصلة بين أن النوى صبر -يعني الفراق صعب- وبين كرم أبي الحسين؟ فالرجل هنا قال كلامًا انتقد فيه، وذكر النقاد هذا مثالًا لاستخدام الوصل في موضع لا مناسبة فيه بين

الجملتين، وإن كنت أرى -والله أعلم- أن أبا تمام على قدر من الفصاحة والبيان يدفعه عن الوقوع في مثل هذا الخطأ البَيّن؛ فكأنه يريد في هذا المعنى أن يبرز شيئًا وهو أن أبا الحسين وكرمه قد ملآ عليه جوارحه فإذا به يذكره في مخاطبته لحبيبته، هذا والله أعلم. والموضع الثاني من مواضع الوصل هو: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاءً، لفظًا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة بينهما وليس هناك مانع من الوصل، وينطبق هذا في ثلاث صور؛ الأولى: اتفاق الجملتين في الخبرية لفظًا ومعنى، انظر إلى قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14)، فالجملتان خبريتان مؤكدتان بإن ودخول اللام على الخبر، ووقع بينهما حرف العطف؛ فهما متفقتان في الخبرية لفظًا ومعنى. والتناسب ظاهر بينهما، فالأبرار ضد الفجار، والكون في النعيم ضد الكون في الجحيم، فلذلك عطفت الثانية على الأولى. ومثلها قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (يونس: 31)، فالجملتان خبريتان لفظًا ومعنى، والتناسب واضح فيهما إذ المسند إليه والمسند فيهما واحد، لذلك عطفت الثانية على الأولى. الصورة الثانية: اتفاق الجملتين في الإنشائية لفظًا ومعنى، ونظير ذلك كثير في القرآن منه قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31)، فالجمل الثلاث جمل إنشائية الأولى والثانية أمر، والثالثة نهي، والأمر والنهي والاستفهام والنداء كل ذلك ضرب من ضروب الإنشاء. الشاهد أن الجملتين إنشائيتان {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} الجمل الثلاث إنشائية وعُطف بينها

بالواو فلا يصح أن يقال: وكلوا اشربوا لا تسرفوا، فتعين العطف بالواو لوجود الاتفاق في الجملتين لفظًا ومعنى. والصورة الثالثة: اتفاق الجملتين في الخبرية أو الإنشائية في المعنى فقط، وإن اختلفتا في اللفظ. يعني الصور الثلاث تقسيمة منطقية -كما يقال- الأولى: الاتفاق في الخبر، لفظًا ومعنى، الثانية: الاتفاق في الإنشاء لفظًا ومعنى، الثانية: الاختلاف أحدهما إنشائية لفظًا خبرية معنى، تأمل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (البقرة: 83)، فجملة: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} عطفت على جملة {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وجملة: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ فالمعنى فيها على حكاية النهي. أما جملة: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فهي إنشائية لفظًا ومعنى إذ التقدير: "وأحسنوا بالوالدين إحسانًا". فهي بصيغة الأمر تكون إنشائية لفظًا ومعنى، وعكس ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 1 - 4)، فجملة: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} خبرية لفظًا ومعنى، وعُطفت على جملة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وهي خبرية معنى، إنشائية لفظًا؛ لأنّ ظَاهِرها أنها على الاستفهام، والاستفهام ضرب من ضروب الإنشاء؛ أمّا حَقِيقَتُها فهي على الإخبار؛ فإن الله سبحانه وتعالى يُعدد على رسوله الكريم النعم التي أولاه إياها من شرح الصدر، ووضع الوزر ورفع الذكر؛ فالمعنى: شرحنا لك صدرك، وبذلك اتفقت مع الثانية فصح العطف بينهما لوجود الجامع ولا مانع من العطف.

الموضع الثالث من مواضع الوصل: أن يكون بين الجملتين كمال انقطاع، مع إيهام الفصل خلاف المقصود، وهذا يُمثل له البلاغيون بهذه العبارة الجميلة، التي كانت من أبي بكر -رضي الله عنه- عندما مر برجل في يده ثوب، فقال له الصديق: "أتبيع هذا؟ فقال: لا يرحمك الله. فقال له: لا تقل هكذا، ولكن قل: لا ويرحمك الله". فتجد أن الجملة الأولى خبرية في اللفظ والمعنى؛ فهو يقول: لا، التقدير لا أبيعه فهذه جملة خبرية. والجملة الثانية "يرحمك الله" خبرية في اللفظ إنشائية في المعنى؛ لأنه يريد بها الدعاء، فليس بين الجملتين اتفاق في المعنى، ولكن لما كان عدم استخدام الواو يوهم بخلاف المقصود، بأننا إذا كان الكلام: لا يرحمك الله توهم منه أنه قد يكون داعيًا عليه، لا داعيًا له؛ فأرشده الصديق -رضي الله عنه- أن يضع الواو أن يقول: "لا ويرحمك الله". لذا وجب العدول عن الفصل إلى الوصل بالواو دفعًا لهذا الإيهام. ومما استشهدوا به على حسن ذلك ما روي أن الرشيد سأل وزيره عن شيء، فقال له: "لا، وأيد الله الخليفة". لأنه لو طرح الواو وقال: لا أيد الله الخليفة، رُبما تسبب ذلك في هلاكه لظنه أنه يدعو على الخليفة لا يدعو له، ولذا قال من حضر: هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ في خدود المرد الملاح. مواضع الفصل: أي عدم العطف وعدم استخدام الواو وهذه المواضع خمسة: كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، والتوسط بين الكمالين، وشبه كمال الاتصال، وشبه كمال الانقطاع. فأول موضع هو: كمال الاتصال: ويقصد به أن تتحد الجملتان اتحادًا تامّا؛ بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها، ويكون ذلك في ثلاثة مواضع؛

الموضع الأول: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا أو معنويًّا، وأشير أن هناك فرقا بين كلام البلاغيين عن التوكيد، وكلام النحاة عن التوكيد؛ فالتوكيد اللفظي عند البلاغيين: يعنى به اتحاد المضمون بين التابع والمتبوع، كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17)، فـ {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} توافق الجملة الأولى في اللفظ والمعنى، وهو توكيد لفظي للأولى وبذلك أصبحت الصلة قوية بين الجملتين لا تحتاج إلى رابط؛ لأن التوكيد من المؤكد كالشيء الواحد، ومن ثم ترك العطف لعدم صحة عطف الشيء على نفسه. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2)، فجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} هي مضمون الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} إذ معنى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أنه الكتاب الكامل في الهداية، وذلك لما في تنكير {هُدًى} من الإبهام الدالِّ على التّفخيم؛ فهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الكتاب هدى فهو الهداية نفسها، وهذا بعينه هو المقصود من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} إذ إن معناه: ذلك الكتاب الكامل في الهداية، فهي بمثابة التوكيد اللفظي لسابقتها. ومثال التوكيد المعنوي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 8، 9) فتجد الجملة الثانية: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} لا تختلف من حيث المعنى عن سابقتها {قَالُوا آمَنَّا} (البقرة: 14) لأنهم يقولون: آمنا من غير أن يكونوا مؤمنين؛ فلا فرق في المعنى بين الجملتين؛ فمعنى الآية الثانية يؤكد مضمون معنى الأولى توكيدًا معنويًّا، ومن ثم ترك العطف بالواو؛ لأن اتحاد الجملتين يمنع العطف، كما قلنا لأنّ الشيءَ لا يعطف على نفسه.

والموضع الثاني: أن تكون الجملة الثانية بدلًا من الأولى، والبدل -كما تعرف- أنواع؛ فهناك بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فمثال بدلِ الكُلّ قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون: 81، 82)، فجملة {قَالُوا} الثانية بدل مطابق، أو بدل كل من كل من الجملة الأولى؛ لأنّ الثانية شارحة وموضحة، وأوفى بتأدية المعنى من الأولى؛ فالثانية واقعة موقع بدل الكل منها، ولذا ترك العطف لقوة الربط بين الجملتين. ومثال بدل البعض قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} (الشعراء: 132، 133)، فصلت الجملة الثانية عن الأولى؛ لأن الثانية بمثابة بدل البعض، لأن ما يعلمونه يشمل ما في الجملة الثانية من النعم الأربع، وغيرها من سائر النعم، ومن ثم لم يعطف بين الجملتين بالواو، لقوة الربط بينهما. وكذا قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} (الرعد: 2)، فجملة {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} بمنزلة بدل البعض من قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}. ومثال بدل الاشتمال قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس: 20، 21)، فـ {اتَّبِعُوا} الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من {اتَّبِعُوا} الأولى لأن المراد من الأولى حمل المخاطبين على اتباع الرسل، والجملة الثانية أوفى بهذا؛ لأن معناها: لا تخسرون شيئًا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم؛ فيكون لكم جزاء الدنيا والآخرة. والموضع الثالث من مواضع كمال الاتصال: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للأولى وإيضاحًا لها؛ أي: عطف بيان يبين الجملة السابقة، ومثاله قوله تعالى:

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (طه: 120)، فجملة {قَالَ يَا آدَمُ} بمنزلة عطف البيان من الجملة الأولى {فَوَسْوَسَ} وعطف البيان لا يُعطف على متبوعه، ومن ثم ترك الوصل بالواو وفصل بين الجملتين. الموضع الثاني من مواضع الفصل هو: كمال الانقطاع، وكمال الانقطاع معناه أن يكون بين الجملتين تباين تام، كأن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنى، وذلك كقوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، {أَقْسِطُوا} جملة إنشائية لفظًا ومعنى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} جملة خبرية لفظًا ومعنى، فبينهما تباين تام وانقطاع كامل، مما يستوجب الفصل بينهما، وليس في الفصل ما يوهم خلاف المقصود فيجب الوصل، كما في الصورة الثالثة من كمال الاتصال وهي قول الصديق -رضي الله عنه: "لا ويرحمك الله". ومثلها قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34)، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} جملة خبرية لفظًا ومعنى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} جملة إنشائية لفظًا ومعنى. الصورة الثانية: يمثل لها البلاغيون بقولهم: نجح خالد وفقه الله، فالجملة الأولى خبرية لفظًا ومعنى، والجملة الثانية خبرية لفظًا إنشائية معنى، وليس في الفصل بينهما ما يوهم خلاف المقصود. والصورة الثالثة: ألا يكون بين الجملتين مناسبة أصلًا، ويمثلون لها بقول الشاعر: الفقر فيما جاوز الكفافَ ... من اتّقى الله رجا وخاف

فلا صلة بين الجملتين؛ ولذا تعين الفصل وعدم الوصل بالواو. الحالة الثالثة: ما يسميه البلاغيون شبه كمال الاتصال، وهو: أن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال يفهم من الجملة الأولى، وهذا ما اهتم به الجرجاني وذكر له أمثلة عديدة في كتابه (دلائل الإعجاز) من ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53) ففصلت الجملة الثانية {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} عن الأولى؛ لأنها واقعة في جواب سؤال مقدر، وكأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل: {إنّ النّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}. وكذلك في قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: 46)، ففصلت الجملة الثانية {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} عن الأولى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} لأن الثانية وقعت جوابًا لسؤال الجملة الأولى، وهو كيف لا يكون من أهلي وهو ابني؟! فكان الجواب عن ذلك: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فالجملة الثانية مرتبطة بالأولى ارتباطًا وثيقًا كما يرتبط الجواب بالسؤال ولهذا ترك العطف؛ لأنّ الجواب لا يعطف على السؤال. ومنْ ذَلك كل ما ورد في القرآن الكريم من الجُمل المصدرة بلفظ "قال" مفصولًا عما قبله كقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} (الذاريات: 24 - 28). كأنها حوار فيه استفسارات وإجابات عنها وارجع إلى (الدلائل) فإنه بينها تمام البيان. الموضع الرابع من مواضع الفصل: هو شبه كمال الانقطاع: وهو أنتسبق جملة بجملتين، يَصِحُّ عطفها على إحداهما، ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى؛ فيترك العطف كلية، دفعًا لتوهم أن تكون الجملة

معطوفة على التي لا يصح العطف عليها، وهذا الموضع فيه كلام، واستدل له البلاغيون بشواهد من الشعر، وبينوا أن هذه الشواهد يُمكن أن تحمل على شبه كمال الاتصال فتدخل فيه؛ فلذا رأى العلامة أبو موسى أن هذا الوجه الرابع من أوجه التكلف، ولكننا نوضح البيت الذي استشهدوا به جريًا على ما صنفوا في تصانيفهم في هذا الباب وهو قول الشاعر من بحر الكامل: وتَظُنّ سَلْمَى أنّني أبْغِي بها بدلًا أُرَاها في الضلال تهيمُ فجملة "أراها في الضلال تهيم" لم توصل بالواو، وفصلت مع وجود الجهة الجامعة بين الجملتين؛ وذلك لئلا يتوهم السامع أنها معطوفة على جملة "أبغي بها بدلًا" لقربها منها؛ فتكون حينئذٍ من مضمونات سلمى، ويصير المعنى: "أن سلمى تظن أنني أبغي بها بدلًا، وتظن أنني أظنها تهيم في الضلال" وليس هذا مراد الشاعر وإنما مراده: أن سلمى مخطئة في زعمها أنني أبغي بها بدلًا. والموضع الخامس وهو: التوسط بين الكمالين مع قيام المانع من الوصل، وهو: أن تكون الجملتان متفقتين خبرًا أو إنشاءً، وبينهما رابطة قوية، لكن يمنع من العطف مانع، وذلك بأن يكون للجملة الأولى حكم، لم يقصد إعطاؤه للثانية. ومثال ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 14، 15)، ففصلت جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عن جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} مع التناسب ووجود الجامع بينهما المصحح للعطف، لوجود المانع وهو أنه لم يقصد تشريك جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لجملة {إِنَّا مَعَكُمْ} في الحكم الإعرابي، وهو أنها مقول القول؛ فيقتضي ذلك

أن جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} تكون من مقول المنافقين، وهي ليست كذلك بل هي من كلام الله سبحانه وتعالى ولذلك فصل بينها. وهذا باب دقيق من أبواب البلاغة -كما ذكرت لكم- وبهذا تنتهي الصور الخمس لمواضع الفصل التي ذكرها البلاغيون، ويبقى لنا فقط تعليق على هذه المواضع من كلام العلامة أبي موسى، وبيان محسنات الوصل، واستخدامه في الكلام. وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

الدرس: 21 الفصل والوصل في القرآن.

الدرس: 21 الفصل والوصل في القرآن.

تعليق الدكتور محمد أبي موسى على مسألة الفصل والوصل في القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (الفصل والوصل في القرآن) تعليق الدكتور محمد أبي موسى على مسألة الفصل والوصل في القرآن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه- وسلم تسليما كثيرًا، وبعد: نبدأ بما انتهينا به من الحديث عن مبحث الفصل والوصل، وقلنا: إن لنا تعليقًا على دراسة هذا المبحث من الناحية البلاغية، وهذا التعليق لأستاذنا العلامة الدكتور/ محمد أبو موسى أشار إليه في كتابه (دلالات التراكيب: دراسة بلاغية)، فعقب على دراسة البلاغيين لهذا المبحث بالنظر إلى الأسلوب القرآني، وهذا الذي هو غاية دراستنا، فلذا يجدر بنا أن نقف مع هذا التعليق للدكتور/ محمد أبو موسى. عندما يعرض أستاذنا هذا المبحث يجد أشياء ينبه إليها، فيقول: "قد تجد هذه الأساليب وقد جاءت موصولة بالواو"، أي: ما نص البلاغيون على أنه يجب فيه الفصل، وعدم الوصل بالواو جاء بعضه موصولًا بالواو، فأشار إلى مواضع: الموضع الأولى: هو ما أطلقوا عليه كمال الاتصال، يقول: "ومما وقعت فيه الواو مع الجملة المنزلة منزلة التوكيد قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب: 7)، فعطف قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} على سابقه، وإن كان الميثاق هنا هو الميثاق هناك، والأخذ هنا هو الأخذ هناك، ليوهم أنه لما وصف بأنه غليظ صار كأنه ميثاق آخر، وذلك تفخيم لشأن الميثاق، وتنويه به، وعلى طريقته قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (هود: 58) فقد عطف {وَنَجَّيْنَاهُمْ} على {نَجَّيْنَا هُودًا} وإن كانت النجاة واحدة وذلك؛ لأنه لما ذكر ما نجاهم منه كانت النجاة الثانية كأنها نجاة مختلفة عن الأولى، فعطفها عليها تمييزًا لها، وتفخيمًا لشأنها،

والجملة التي تأتي في عقب الكلام مؤكدة له، والتي تتكاثر في القرآن قد ترد بالواو كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 34). نجد أمثال هذا في القرآن يأتي بغير الواو كثيرًا، وقد آذنت هذه الواو أن ذلك عادة من عاداتهم، ووجه هذه الدلالة أن الواو تشير إلى المغايرة، فكأنهم يفعلون ذلك، ويفعلون مثله، وقد جاء قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (الشعراء: 153، 154)، من غير واو في حكاية ما قالته ثمود لصالح -عليه السلام، وجاء في حكاية ما قاله أصحاب الأيكة لشعيب: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * ومَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (الشعراء: 185، 186) بالواو". هذا أول ما نبه إليه أستاذنا في ورود بعض الأساليب التي نصوا على أنها يجب فيها الفصل جاءت موصولة بالواو؛ ولذلك يقول: "هذا هو كمال الاتصال بشعبه الثلاثة: التوكيد والبيان والبدل، وهو حال من أحوال الفصل وإن كنا نراه والذي يليه حالا من أحوال الوصل؛ لأن الوصل في الحقيقة وصلان: وصل ظاهر بحرف الوصل، ووصل خفي تتصل فيه الجملة من ذات نفسها، وهو أقوى الوصلين". ويعقب أيضًا على ما ذكر في شبه كمال الانقطاع، يقول: "أما شبه كمال الانقطاع، فهو أن تكون الجملة الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى يعني: أنها صالحة لأن تعطف، ولكن عطفها عليها يوهم عطفها على غيرها، فيلتبس المعنى وحينئذٍ يجب القطع، فيقول: قد نبهوا إلى أن هذه السور يمكن أن تكون من شبه كمال الاتصال، وبذلك يبقى شبه كمال الانقطاع بابًا فارغًا من أي شاهد، وهذا هو الوجه الذي نرضاه".

فيشير إلى أننا نستطيع أن نستغني عما يسمى بشبه كمال الانقطاع، وأنه يندرج في شبه كمال الاتصال، ويستدل على ذلك بآيات من كتاب الله، فيقول: "قد جاءت آيات على هذا النسق ومعها الواو من ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (العنكبوت: 12)، وهذا شبيه بقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 14، 15)، فقوله سبحانه: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} (العنكبوت: 12)، شبيه بقوله سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من جهة أنه ليس داخلًا في الكلام السابق، وقد جاء بالواو وهي الواو التي يعطف بها مضمون كلام، ولا يتوهم دخولها في حكم ما قبلها يعني في حيز قول {الَّذِينَ كَفَرُوا} ويمكن أن تكون عاطفة لهذه الجملة، وما بعدها على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبهذا تدخل في حيز القول لأنها معطوفة عليه، وليست معطوفة على معموله، وتكون الواو هنا مفيدة معنى خبرًا ثانيا عنهم يعني: أنهم قالوا لهم: اتبعوا سبيلنا ونحمل خطاياكم وأنهم لن يحملوه". ويعقب أيضًا على مسألة عطف الخبر على الإنشاء، ويقول: "وجدنا الواو تقع كثيرًا بين الخبر والإنشاء ومن ذلك {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} (البقرة: 282) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: 121)، وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (الحج: 22)، وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125)، وقوله سبحانه: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى * وَهَلْ أَتَاكَ

حَدِيثُ مُوسَى} (طه: 7 - 9)، وقوله سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (ص: 20، 21)، فواضح من الآيات الكريمة عطف الخبر على الإنشاء، والإنشاء على الخبر"، وهذا الذي ذكره الدكتور أبو موسى يقره كل منصف في تناوله لهذا المبحث؛ ولهذا حصر الدكتور منير سلطان أوجه القصور في دراسة مبحث الفصل والوصل في خمس نقاط، وهي: أولًا: هذه القواعد التي قرروها خصت الفصل والوصل بالجمل، والقرآن الكريم قد فصل ووصل بين الجمل وبين المفردات أيضًا. ثانيًا: أنها حصرت الفصل في أداة واحدة، وهي طرح الواو بينما فصل القرآن بواو الاستئناف والفاء وثم وبل وأم المنقطعة، وضمائر الفصل والجملة المعترضة، والاستثناء المنقطع كما حصرت الوصل في الواو فقط، بينما وصل القرآن بجميع حروف العطف، وجميع حروف الربط. ثالثًا: أنها سمت الفصل بين الخبرية والإنشائية كمال الانقطاع، وجعلت الاتفاق بين ركني الجملة خبرًا أو إنشاءً مبررًا للوصل بينما جوز سيبويه، وبعض أئمة النحو عطف الخبرية على الإنشائية، وعدد ذلك الدكتور عضيمة في كتابه (دراسات لأسلوب القرآن الكريم). رابعًا: أن ما أطلق عليه كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود، وضربوا له مثلًا: لا وعافاك الله، يعتبر دليلًا على عطف الإنشائية على الخبرية، ولا بمعنى أنفي ذلك فهي جملة خبرية، وعافاك الله جملة خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأنها أفادت الدعاء.

وخامسًا: أن هذه القواعد لم تراعِ المعنى العام، ولا السياق الجامع المتجانس الذي اقتضى فصلًا هنا ووصلًا هناك، وانكمشت في أمثلة تعليمية وشواهد محدودة غاضة الطرف عن رحاب القرآن الفسيحة، وهذا كلام نقر فيه ما ذكره الدكتور منير سلطان موجزًا أوجه القصور في دراسة مبحث الفصل والوصل، ولعل ذلك مدعاة للدارسين والباحثين أن يولوا هذا المبحث اهتمامًا بالرجوع إلى القرآن الكريم، والانطلاق مما قدم من جهود أمثال جهود الشيخ عضيمة -رحمه الله- في حصر الأساليب ودراسة هذه الأساليب بصورة بلاغية نقدية، مرجعها أهل التفسير والذوق في تلقي وبيان كلام الله -سبحانه وتعالى- على أسس لغوية معتبرة. محسنات الوصل: الوصل بين الجملتين يقتضي أن يكون الجملة الثانية لها تعلق، وترابط بالجملة الأولى، فإن من شأن التناسب أن يزيد الوصل حسنًا، ويضفي عليه جمالًا وبهاءً، ومن التناسب أن تتفق الجملتان في الاسمية أو الفعلية والاسميتان في نوع المسند إليه والمسند فيهما، والفعليتان في نوع الفعل فيهما. فمن التناسب في الاسمية قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14)، فالجملتان مع اتفاقهما في الاسمية نجد تناسبا واضحًا بين المسند إليه فيهما، فالأبرار ضد الفجار، وكذلك المسند فيهما، فالكون في النعيم ضد الكون في الجحيم، وقد يكون بين الجملتين تناسب في المضي كقوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 81)، فالمسند إليه في الجملتين واحد، والمناسبة ظاهرة بين الفرح والكراهية في المسند، ولك أن تشعر بجمال الوصل في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

سُطِحَتْ} (الغاشية: 17 - 20)، فالمطلوب في الآية التأمل في خلق الله؛ ليصلوا إلى الإيمان بالبعث. والتناسب بين الجمل واضح فقد بدأ حديثه بالإبل التي هي عنصر أساسي في في حياة البدوي في صحرائه، وانتقل من الإبل إلى ما يرونه أمامهم في كل حين من سماء رفعت بلا عمد، وللسماء عند البدوي مكانة خاصة يتجه إليها ببصره يستنزل منها الغيث ويهتدي بنجومها في سراه بالليل، فإذا هبط ببصره قليلًا رأى هذه الجبال الشامخة منصوبة تناطح السماء بقممها، وترسو في ثبات واطمئنان على أرض مهدت له، وسطحت أمامه أو لا نرى أن تنقل البصر بين هذه المخلوقات تنقل هادئ طبيعي لا قفز فيه، وأن ارتباط بعضها ببعض في طبيعة البدوي مهد للربط بينهما وعطف بعضها على بعض. هذا ما أشار إليه أستاذنا أحمد بدوي في كتابه (من بلاغة القرآن) بضرب أمثلة لجمال الوصل وما فيه من تأمل وأشار أيضًا بمثال آخر يقول: "وقد يحتاج معرفة الوصل بين الجملتين إلى مزيد عناية وتدبر كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (البقرة: 189)، فقد يبدو لأول النظر أنه لا ارتباط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت من ظهورها، ولكن الربط نشأ من أن ناسا من العرب كانوا إذا أحرموا بالحج لم يدخل أحدهم بيتًا ولا خيمة ولا خباءً من باب، بل إن كان من أهل المضر ثقب ثقبًا من ظاهر البيت؛ ليدخل منه وخرج من خلف الخيمة أو الخباء إن كان من أهل الوبر، فلما تحدث القرآن عن الأهلة، وأنها مواقيت للحج ناسب ذلك أن يتحدث عن عادتهم هذه في الحج ذاكرًا أنها ليست من البر في شيء. وقد أشار إلى ذلك أيضًا الزمخشري، وكان ذلك الكلام مستمدا من كلام الزمخشري في (الكشاف) ".

من محسنات الوصل أيضًا ما يسمى بعطف القصة على القصة أو مضمون كلام على مضمون كلام آخر قبله. انظر في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (البقرة: 24، 25)، فيرى الزمخشري أن جملة {وَبَشِّرِ} هي وصف جملة ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما جوّز أن يكون معطوفًا على قوله: {فَاتَّقُوا}. وأخيرًا هذه الإشارة إلى استخدام القرآن الكريم للواو، فإن الواو وإن كانت لمطلق الجمع ولا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا؛ فليس معنى ذلك أن الآية القرآنية تجمع بين معطوفات على غير ترتيب ولا نظام بل تقديم المعطوف عليه يكون مشيرًا إلى مغزى، ودالًا على هدف حتى تصبح الآية بتكوينها تابعة لمنهج نفسي يتقدم فيها، ما تجد النفس تقديمه أفضل من التأخير. فمثلًا يتقدم بعض المعطوفات على بعض كما يتقدم السبب على المسبب كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، فتقديم العبادة على الاستعانة تقديم للوسيلة قبل طلب الحاجة، وذلك أنجح في توقع حصولها، وكذلك تتقدم الكلمة لتقدمها في العمل كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: 77)، فالركوع قبل السجود، وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6)، فمسح الرأس يتبع غسل الوجه، فغسل الوجه مقدم على مسح الرأس، وأيضًا يتقدم الكثير على ما دونه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن: 14) لأن العداوة في

الفروق في الاستخدامات، وما بها من إعجاز بياني في نظم القرآن.

الأزواج أكثر منها في الأولاد وقدمت الأموال على الأولاد في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15)، لأن الأموال أكثر فتنة من الأولاد كما قدمت في الآية الكريمة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46)، ولكنه سبحانه عندما ذكر الشهوات قدم النساء والبنين عليها فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران: 14). هكذا نرى القرآن الكريم لا ينهج في ترتيب كلماته سوى هذا المنهج الفني الذي يقدم ما يقدم لمعنى نفهمه وراء رصف الألفاظ، وحكمة ندركها من هذا النسيج المحكم المتين. الفروق في الاستخدامات، وما بها من إعجاز بياني في نظم القرآن ونتناول ثلاث ظواهر؛ الأولى: الحال. النحاة عندما يتحدثون عن الحال يقولون عنه: إنه وصف فضلة منتصب يبين هيئة صاحبه أو يصلح جوابًا لكيف، وأنه يأتي نكرة وصاحبه يأتي معرفة، وأنه يكون منتقلًا غالبًا، وأنه يأتي جملة ومفردًا، وما بينهما أي شبه جملة فإنها إذا قدرت بكائن صارت ناحية المفرد، وإذا قدرت باستقر صارت ناحية الجملة، وهذه الدراسة النحوية للحال تفيدنا كثيرًا عندما نتحدث عن الحال في الجانب البلاغي، فإن سألت كيف هذا؟

نقول لك: إن البلاغيين اهتموا في الكلام عن الحال بكونها تأتي مفردة، وتأتي جملة، وأسهبوا في بيان الكلام عن الجملة؛ لأنها التي يظهر فيها الفروق في الاستخدام، وهذا ما أشار إليه الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز)، ونبدأ في كلامنا المستمد من كلام النحاة، أن كلام النحاة في الحال وفي أقسامها وفي تنوعها غالبًا ما يكون مستمدًا من الناحية المعنوية والبلاغة تهتم بالمعاني مع الألفاظ، فإن قلنا في التعريف: إنهم يذكرون أن الحال وصف، وأنه فضلة، وأنه منتصب نقول: إن الوصف يعنون به ما هو مشتق، والفضلة يعنون بها ما ليس ركنًا أساسيًا في الجملة، والمنتصب هذه الناحية اللفظية في نطقه أنه يكون منصوبًا بالفتحة أو ما ناب عنها. مثال الفتحة {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (النمل: 19)، أو ما ناب عنها {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60)، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الدخان: 38)، إلى غير ذلك مما هو كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى. لم يقتصر كلام النحاة على هذا الشكل، إنما اهتموا ببيان أحوال الحال المفردة، والحال المفردة لاهتمام النحاة بها، والله أعلم لم يولها البلاغيون كثير اهتمام؛ لأن النحاة أوْلَوا أو سددوا أو بينوا هذه الاستخدامات في الحال المفردة، فعندما يتحدثون عنها بأنها تكون منتقلة غالبًا، وتأتي لازمة، وأنها تكون عمدة في المعنى فضلة في الموقع الإعرابي، وأنها تكون مؤكدة لعاملها أو لصاحبها أو لمضمون جملة قبلها؛ هذا كله لعلم المعاني أقرب منه لعلم النحو، وهو موجود في كلام النحاة، وباين وظاهر في أقوالهم وفي مصنفاتهم، وخاصة ممن يهتمون بنحو ذلك كابن هشام -رحمه الله.

يقولون: إن الحال تأتي مشتقة أو وصفًا، فإذا ما أتت جامدة كان هذا الإتيان لغرض أو لبيان معنى ما وكونها تأتي جامدة، فذلك ينقسم عندهم إلى جامدة مؤولة بالمشتق، وجامدة غير مؤولة بالمشتق، فإذا نظرنا في أساليب القرآن نجد هذه الضروب جميعها موجودة في كتاب الله -سبحانه وتعالى، فذلك يؤكد ما يميل الرأي إليه من أن النحاة استمدوا هذه القواعد وهذه التقسيمات من كتاب الله -سبحانه وتعالى- ومن استخدامات القرآن الكريم للحال. فكون الحال مشتقة هذا الأعم الأغلب بأنها تأتي اسم فاعل كقوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} (القصص: 21)، وبأنها تأتي اسم مفعول كقوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} (الأعراف: 18)، أو تأتي صيغة مبالغة كقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 130)، إلى غير ذلك من صيغ الاشتقاق، ولكنها تأتي أيضًا في القرآن جامدة ومثال إتيانها جامدة غير مؤولة بالمشتق: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} (الأعراف: 74)، فإن {بُيُوتًا} تقع موقع الحال، ومع ذلك هي جمع بيت، وهي كلمة جامدة ليست بمشتقة، وهذا الجمود فيها قد يكون ممهدًا لمشتق بعدها، ومن ثم أطلقوا على بعض الحال ما يسمى بالحال الموطئة أو الحال الممهدة؛ لأنها تمهد لمشتق يأتي بعدها، وهي في الأصل جامدة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (يوسف: 2)، فكلمة قرآن جامدة، وكلمة {عَرَبِيًّا} بمعنى منسوب إلى العرب مشتقة، فجاءت كلمة {قُرْآنًا} في الآية الكريمة حالًا موطئة لكلمة {عَرَبِيًّا} التي وقعت صفة لها، وكذلك قوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (مريم: 17)، فـ {بَشَرًا} هي التي تعرب حالًا، وفي الحقيقة الحال في استوائه بأنه على صورة سوية مألوفة لمن يراها بأنه بشر.

وكون الحال فضلة لا يعني أنه يستغنى عنها، فإنها قد تأتي غير مستغنى عنها من ذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (الدخان: 38) فلا نستطيع حذف الحال، وإلا فسد المعنى، وكونها منتقلة هذا في الأعم الأغلب؛ لأنه كما يقال: دوام الحال من المحال، فعندما نقول: جاء محمد ضاحكًا، فإن محمدا لا يظل دهره ضاحكًا، وإنما ينتقل من حال إلى أخرى، ومع ذلك تأتي الحال لازمة وذلك شواهده كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن كان النحاة يمثلون بقولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها على أن كلمة أطول وقعت حالا، وطول يد الزرافة عن رجلها مسألة لا تنتقل، فهي لازمة إلا أننا لو نظرنا في القرآن نجد أمثلة واضحة تؤكد هذا الاستخدام خير مما مثل به النحاة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (آل عمران: 18)، فـ {قَائِمًا} وقعت حالا، وهي لازمة كذلك قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} (الحديد: 29)، فشبه الجملة {بِيَدِ اللَّهِ} وقعت حالًا، وكون الفضل بيد الله لا ينتقل البتة. وأيضًا الحال تدل على الوصف حالة النطق بها، والاستخدام القرآني يبين لنا أن الحال قد تأتي بعد النطق بها، وهي ما تسمى بالحال المقدرة أو المستقبلة التي تقع في المستقبل، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} (البقرة: 162)، وكقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} (الأنعام: 141)، وكقوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} فلم تكن الجبال وقت النحت بيوتًا، وكذلك قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (يوسف: 100)، فالسجود يكون بعد الخرور. واهتموا أيضًا ببيان الحال المؤكدة، والحال المؤكدة هي التي يستفاد معناها بدونها أي: أنها كما يقال: لا تفيد جديدًا في وصف الهيئة، فالهيئة ظاهرة أو الكلام

الغاية من دراسة الفروق في الحال.

مفهوم من الفعل أو من الصاحب أو من الكلام السابق لها، فلذلك تسمى مؤكدة، فهي تؤكد ما قبلها، وهذا اهتمام بجانب المعنى، وضرب من ضروب المعاني والبلاغة، فأشار إليه النحاة، وبينوه فمن المؤكدة لعاملها قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} فإن الضحك يستفاد من التبسم، وكذلك قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} (النساء: 79)، وقوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وتأتي الحال مؤكدة لصاحبها كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: 29)، فكلمة {جَمِيعًا} وقعت حالًا، وهي مؤكدة لصاحبها، وهو ما في الأرض، وما في الأرض عام وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} (يونس: 15)، فآيات الله لا تكون إلا بينات وتأتي الحال مؤكدة لمضمون الجملة التي قبلها كقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91)، فـ {مُصَدِّقًا} حال، وأكدت مضمون الجملة الاسمية قبلها، وهو {الْحَقُّ} وكذلك قوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} (الأنعام: 126)، فالاستقامة لزمت صراط الله سبحانه وتعالى. الغاية من دراسة الفروق في الحال الفروق في الحال اهتم البلاغيون بإظهارها، وهي كون الحال تأتي جملة، فالحال الجملة لابد لها من رابط يربطها بصاحبها هذا الرابط يكون واحدًا من ثلاث؛ إما أن يكون الرابط هو الواو أو الضمير أو الواو والضمير معًا، والواو هي التي اهتم بها البلاغيون، فتحدث عنها الجرجاني، وقعد لها السكاكي في كتابه (مفتاح العلوم) والدكتور منير سلطان في كتابه بين المواضع التي نصوا عليها في ذكر الواو وعدم ذكرها مع الحال، فبين أن خلاصة ما ذكره الجرجاني في

(الدلائل) أن الجملة الاسمية الحالية تفصل، وكذلك الجملة الفعلية الحالية تفصل بمعنى ألا تربط بالواو أي: لا تكون الواو رابطة لها، فيقول: "فصل جمل الحال الاسمية إذا كان الخبر في جملة من المبتدأ والخبر ظرفًا ثم قدم على المبتدأ، كقولنا: عليه سيف، وفي يده سوط كثر فيها أن تجيء بغير واو، فمما جاء منه قول بشار في مدح خالد بن برمك: إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي علي سواد فجملة "علي سواد" وقعت في موقع الحال، ولم ترتبط بالواو، وقد يجيء ترك الواو فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر كقولهم: كلمته فوه إلى في، هذا بالنسبة للجملة الاسمية، وأما الجملة الفعلية، فجملة الحال ذات المضارع المثبت أي: الجملة الفعلية الواقعة حالًا، والمضارع فيها مثبت يقول: وهذه لا تكاد تجيء بالواو بل ترى الكلام على مجيئها عارية من الواو كقولك: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه. أما ذات المضارع المنفي أي يأتي الحال جملة فعلية، فعلها مضارع وهو منفي يقول: يتغير الحكم فتجيء الواو، وتترك كثيرًا وذلك مثل قولهم: كنت ولا أخشّى بالذئب أي: لا أخوف به، أما الجملة الفعلية التي فعلها ماضٍ لا تقع حالًا إلا مع قد مظهرة أو مقدرة أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع، تقول: أتاني وقد جهده السير، وتأتي بغير الواو، واستدل لها ببيت شعر". هذا خلاصة ما ذكره الجرجاني، وعدده الدكتور منير سلطان تحت عنوان جمل الحال المفصولة. وضع السكاكي هذا الكلام في قواعد، من هذه القواعد: أن الجملة الحالية ذات المضارع المثبت إذا جاءت فعلية، مضارعها مثبت نحو: جاءني زيد يسرع أو يتكلم أو يعدو فرسه، فالوجه ترك الواو والجملة الحالية ذات المضارع المنفي يجوز فيها الفصل والوصل، والفصل أرجح نحو: جعلت أمشي ما أدري أين أضع

رجلي. أما الجملة الحالية ذات الماضي المثبت، والمنفي، فيجوز فيها الفصل والوصل، والوصل أرجح نحو قولك: أتاني وقد جهده السير أو أتاني قد جهده السير، والجملة بعد النكرة إن وصلت تكون حالًا وإن فصلت تكون صفة، والجملة الاسمية المنفية بليس تأتي مفصولة وموصولة، ولكنها مع الواو أدور مثل قولك: أتاني وليس معه غيره وأتاني ليس معه غيره. والحال الظرف يجوز فيها الفصل والوصل نحو قولك: رأيته على كتفه سيف، ورأيته وعلى كتفه سيف، هذا بإيجاز ما عدده الأستاذ منير سلطان فيما ذكره الجرجاني والسكاكي في مجيء الحال موصولة بالواو أو مفصولة بترك الواو، التي هي عند النحاة رابط من روابط الحال. هذا الكلام لابد أن يكون لنا وقفة معه؛ ليتبين لنا هذا الذي ذكر في مجيء الواو في جملة الحال، وترك الواو وما ذهب إليه البلاغيون، وما انتهى إليه الباحثون المعاصرون في هذا الأمر، ولا نستطيع أن نصل إلى ذلك إلا بالعودة إلى المنابع الأصيلة، بمعنى أننا ننظر في كلام الجرجاني نفسه في (دلائل الإعجاز) وننظر في التطبيق العملي لما ذكره الجرجاني لماذا؟ لأن ما ذكر سواء عند الجرجاني أو السكاكي ينقصه مواضع الاستشهاد، فإنهم أكثروا من الاستشهاد بالشعر وبالأمثال والأقوال، وتركوا الغاية التي أرادوا منها بيان الإعجاز، وهو التطبيق على القرآن الكريم، وهذا ملمح يلمحه من ينظر في مواضع كلامهم في الكتابين (دلائل الإعجاز) و (مفتاح العلوم). ونكتفي بـ (دلائل الإعجاز) وعرضه على الدراسة التي قام بها العلامة الشيخ عضيمة -رحمه الله- في كتابه (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) فقد أحصى -رحمه الله- مواضع مجيء الحال بالواو وصور مجيئها، والآيات التي جاء فيها هذا الأمر من كتب التفسير التي اعتمدها في دراسته، والتي رجع إليها، وهذا يبين أن ما ذكره الشيخ عضيمة -رحمه الله- لا يعد حصرًا شاملًا؛ لأنه

اكتفى على مراجع، وعلى ما قاله المفسرون، فإذًا الذي ينظر نظرة أخرى في كتاب الله قد يجد مواضع أخرى تؤكد هذا الإحصاء الذي ذكره الشيخ، وتزيد عليه إذا ما أطلق المرء لنفسه أن ينظر في هذه الأساليب، ويقيسها على ما ذكره هؤلاء الأكابر في كلامهم. يقول الجرجاني: "اعلم أن أول فرق في الحال أنها تأتي مفردًا، وجملة والقصد ها هنا إلى الجملة أي: أن اهتمامهم بالكلام عن الحال الجملة كما ذكرت، وأول ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع الواو، وأخرى بغير الواو، فمثال مجيئها مع الواو، قولك: أتاني وعليه ثوب ديباج، ورأيته وعلى كتفه سيف، ولقيت الأمير والجند حواليه، وجائني زيد وهو متقلد سيفه، ومثال مجيئها بغير الواو: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه، أتاني عمرو يقود فرسه. وفي تمييز ما يقتضي الواو مما لا يقتضيه صعوبة"، ويبين أن ذكر الواو هو ضرب من ضروب الإعجاز بقوله: "وإذ قد رأيت الجمل الواقعة حالًا قد اختلف بها الحال هذا الاختلاف الظاهر، فلابد من أن يكون ذلك إنما كان من أجل علل توجبه وأسباب تقتضيه فمحال أن يكون ها هنا جملة لا تصلح إلا مع الواو، وأخرى لا تصلح فيها الواو، وثالثة تصلح أن تجيء فيها بالواو، وأن تدعها فلا تجيء بها ثم لا يكون لذلك سبب وعلة، وفي الوقوف على العلة في ذلك إشكال وغموض ذلك لأن الطريق إليه غير مسلوك، والجهة التي منها تعرف غير معروفة". ثم أخذ في بيان لماذا تستخدم الواو في الجمل، وهذا هو سر الإعجاز في استخدامها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 22 لمحات الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وإحصاء الشيخ عضيمة.

الدرس: 22 لمحات الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وإحصاء الشيخ عضيمة.

موازنة بين ما انتهى إليه الجرجاني وعضيمة في استخدام الحال.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني والعشرون (لمحات الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وإحصاء الشيخ عضيمة) موازنة بين ما انتهى إليه الجرجاني وعضيمة في استخدام الحال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ وبعد: عقد الموازنة بين ما انتهى إليه عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) من لمحات في استخدام الحال، وبين ما أحصاه الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة في كتابه (دراسات في أسلوب القرآن الكريم) فنقف مع هذه الفروق كتطبيق لما انتهى إليه الجرجاني من أحكام في استخدام الحال. ونستطيع أن نطلق على هذه الموازنة: ضوابط الربط اللغوي بين الجرجاني والنص القرآني، قَسّم الجرجاني الجملة التي تحتاج إلى رابط إلى نوعين: "جملة اسمية، وجملة فعلية" وتحدث عن الجملة الاسمية بذكر أربعة أحكام: أولًا: الجُملة إذا كانت من مبتدأ وخبر؛ فالغَالِبُ عليها أن تجيء مع الواو، وهذا الكلام واضح جلي في كتاب الله سبحانه وتعالى: {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ} (النساء: 166) {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} (الأنعام: 93) {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} (الأنفال: 42) {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ} (هود: 70 - 71) {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُون} (يوسف: 14). {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ} (النحل: 101) {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} (البلد: 1 - 2) {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين} (القلم: 51 - 52) {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة: 32)

فهذه الآيات التي قرأتها عليكم تلاحظوا فيها أن جملة الحال في كل منها الرابط فيها هو حرف الواو: {وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ} (النساء: 166) {وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} (الأنعام: 93) {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} (الأنفال: 42) {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ} (هود: 71) {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} (يوسف: 8) {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (النحل: 101) {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} فهذه جمل اسمية وقعت في موقع الحال، وإنْ كَانَ بعضُها يحتَمِلُ أوجهًا أخرى، إلا أن المفسرين نصوا على جواز الحالية في جميعها. والحُكم الثاني الذي ذكره الجرجاني هو: "أنه إن كان المبتدأ من الجملة ضمير ذي الحال، لم يصلح لغير واو البتة"، يقصد إذا

كانت الجملة الاسمية الواقعة حالًا المبتدأ فيها هو الضمير الذي يعود على صاحب الحال، ضمير ذي الحال يعني: صاحب الحال، فيتعين هنا وجود الواو، ولا يصلح البتة عدم الربط بالواو، وهذا مُشاهد واضح في كتاب الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} (البقرة: 243) {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم} (الصافات: 142) {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} (هود: 52) {وَأَنتُم مِّعْرِضُون} (البقرة: 83) {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم} (النحل: 58) {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِين} (المائدة: 114) {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُون} (التوبة: 54) وغيرها كثير في كتاب الله عندها يتعين الربط بالواو إذا كان المبتدأ ضميرًا يعود على صاحب الحال. والحكم الثالث في الجملة الاسمية هو: "أنه إن كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفًا، ثم كان قد قُدّم على المُبتدأ كثر فيها أن تجيء بغير الواو، يقصد إذا كانت جملة الحال مكونة من مبتدأ وخبر، الخبرُ فيها شبه جملة؛ فمُصطلح الظرف يُطلق تجاوزًا على الظرف على الحقيقة، وعلى الجَارّ والمجرور، أي: الخبر شبه الجملة؛ فإذا قُدّم الخبر شبه الجملة على المبتدأ كثر فيها أن تجيء بغير الواو، وذلك أيضًا مشاهد في كتاب الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 248) {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} جملة اسمية في موضع حال، ولم تربط بالواو وخبرها شبه الجملة المقدم فيه، والمبتدأ فيها كلمة "سكينة" التي هي مبتدأ مؤخر. كذلك {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} (آل عمران: 96 - 97) كذلك {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (النساء: 57) {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} (المائدة: 43) {فِيهَا حُكْمُ اللهِ} جملة اسمية في موضع نصب حال، وخبرها "فيها" شبه جملة خبر مقدم. {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} (المائدة: 46) كالآية السابقة {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} (الحج: 9) فجملة: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} جملة حالية وخبرها شبه الجملة المقدم "له" {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (الحج: 36) {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أيضًا جملة اسمية في موضع نصب حال، وخبرها شبه الجملة المقدم لكم، وخير مبتدأ مؤخر. وكذلك {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد} (ق: 21) {مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد} {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَان} (الرحمن: 19 - 20) "بينهما" شبه جملة خبر مقدم و"برزخ" مبتدأ مؤخر، والجملة في موضع نصب حال {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَام * فِيهَا فَاكِهَةٌ} (الرحمن: 9 - 10) {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ

فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد: 25) {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد} (المَسَد: 4 - 5) هكذا يتضح بالنص القرآني أنه يكثر مجيء جملة الحال بغير الواو، بل إنّها لم تَرِد في القرآن على هذه الصورة مربوطة بالواو، أو الرابط فيها الواو. وآخر الأحكام التي أطلقها حول الجملة الاسمية: "أنه قد يجيء ترك الواو فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر"، وهذا الحكم هو الذي نقف معه، ونعقب عليه: هذه العبارة التي أطلقها الجرجانيوأكدها بقوله: "ويَدُلّ على أن ليس مجيء الجملة من المبتدأ والخبر حالًا بغير الواو أصلًا قلّته، وأنه لا يجيء إلا في الشيء بعد الشيء". ويقول أيضًا: "ويجوز أن يكون ما جاء من ذلك إنّما جاء على إرادة الواو، كما جاء الماضي على إرادة قد". هذه العبارات التي أطلقها الجرجاني، وأكدها في كتابه (دلائل الإعجاز) نتج عنها أنّ ذهب الزمخشري إلى أن جملة الحال إذا وقعت اسمية لا بد فيها من الرابط بـ"الواو" وهذا الحكم خلاف ما توارد من النصوص القرآنية، وما اتفق العلماء على جواز الوقوع حال لجمل اسمية لم تكن الواو رابطًا فيها. وقد رد ابن هشام على الزمخشري في ذلك، وعرض بعض الآيات، وهذا ذكر لمجموعة من الآيات التي ورد الحال فيها جملة اسمية، ومع ذلك لم تربط بالواو كقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (البقرة: 36) فجملة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} في موضع نصب حال، ولم تربط بالواو.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} فجملة {هُمْ فِيهَا خَالِدُون} جملة حالية، ولم تربط بالواو، وكذلك {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (البقرة: 265) جملة اسمية وقعت في محل نصب حال، ولم تربط بالواو. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (النساء: 87) كذلك لم تربط بالواو {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَاد * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} (إبراهيم: 49 - 50) جملة اسمية في موضع نصب حال، ولم تربط بالواو. {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَار} (إبراهيم: 26) فجملة {مَا لَهَا مِن قَرَار} كما تجوز أن تكون صفة تجوز أن تكون حال من ضمير "اجتثت" ومع ذلك لم تربط بالواو. {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون} (الأنبياء: 98) فكذلك {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون} ف ي محل نصب حال، ومع ذلك لم تربط بالواو {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} (الإسراء: 97) جملة حالية لم تربط بالواو {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سبأ: 12) لم تربط بالواو، وغير ذلك من الآيات. حتى إن ابن هشام قد تندر على هذه الآية الكريمة في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (الزُّمَر: 60) فجملة {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} في موضع نصب حال، ومع ذلك لم تربط بالواو، فتندر بأن أحد من يدعي العلم قال: ألا ترى الواو في أولها.

وانتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الجملة الحالية إذا وقعت جملة فعلية فوضع أيضًا نقاط: الأولى: إن كان الفعل مضارعًا مثبتًا غير منفي، لم يكد يجيء بالواو؛ سواء كان الفعل لذي الحال، يعني صاحب الحال، كقولهم: جاءني زيد يُسرع، أو لمن هو من سببه، كقولهم جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه. وقال: وعليه التنزيل والكلام، وهذا واضح في كتاب الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِر} (المدَّثر: 6) وقوله سبحانه: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: 18) وقوله سبحانه: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} (الأعراف: 186) وقوله سبحانه: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} (مريم: 27) وقوله سبحانه: {نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} (الأنبياء: 44) فهذه الجمل "تستكثر" و"يتزكى" و"يعمهون" و"تحمله" و"ننقصها" جمل فعلية في موضع نصب حال، ولم تربط بالواو. ولكنه مع ذلك قد جاءت آيات في كتاب الله -سبحانه وتعالى- الحال فيها جملة فعلية، ورُبطت بالواو، وقد عَقّب الجرجاني بقوله: "ولم يكد يجيء بالواو، وهذا خلاف ما نراه في النصوص القرآنية التي أحصاها الشيخ عضيمة في كتابه، ولكننا للإنصاف نقول: إن معظم النصوص، وأغلبها التي استشهد بها الشيخ عضيمة، تحتمل غير الحالية، بمعنى أنها ليست نصًّا في الحال، وإنْ كان المفسرون أجازوا فيها الحالية. ورُبّما ذكر الجرجاني ذلك بناء على القاعدة المشهورة: ما يتطرق إليه الاحتمال يسقط به الاستدلال". فلذلك لم يعد ما ورد من ذلك في كتاب الله -سبحانه وتعالى- مع كثرته أنه من باب مجيء الحال جملة فعلية، فعلها مضارع مثبت، ومع ذلك مقترنة أو

مربوطة بالواو من هذه الآيات قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} (البقرة: 204) وقوله سبحانه: {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} (البقرة: 91) فجملة: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} وجملة: {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} تحتمل الحالية، وفعلها مضارع مثبت، ومع ذلك ربطت بالواو. وقد رجح العلماء الحالية في بعض الآيات كقوله سبحانه: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} (آل عمران: 170) فجملة: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} في موضع نصب حال ومقترنة بالواو، وكذلك قوله سبحانه: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِين} (المائدة: 84) فجملة: {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِين} جملة حالية، ومع ذلك ارتبطت بالواو، أو رُبطت بالواو. وكذلك آية الأحزاب: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) فجملة: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} وجملة: {وَتَخْشَى النَّاسَ} في محل نصب حال، واقترنت بالواو. وإن كان بعض العلماء يرفض ذلك، وإن أقر فيها الحالية، فإنما يصرفها على أن الجملة اسمية وليست فعلية، وأن هذه الجملة الفعلية خبر لمبتدأ محذوف هذا المبتدأ هو الضمير الذي عائد على صاحب الحال، والتقدير: "وأنت تخفي في نفسك ما الله مبديه"، و"أنت تخشى الناس" إلى غير ذلك مما يقدر في الآيات كقوله سبحانه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (المجادلة: 1) أي: وهي

تشتكي إلى الله، وإلى غير ذلك من الآيات ولكننا نبهنا على ذلك؛ لأن هذا الإحصاء الذي أحصاه الشيخ عضيمة في اثنين وعشرين موضعًا في كتاب الله، جاءت فيها الجملة الحالية مضارعة مثبتة، ومع ذلك ربطت بالواو. ويقول: الحكم الثاني: فإنْ دخل على المضارع حرف نفي تغير الحكم، فجاء بالواو وبتركها كثيرًا. وهذا مثاله أيضًا في كتاب الله كثير؛ مثال الربط بالواو، وهي الجملة منفية قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (المائدة: 54) {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} (الأنعام: 80) {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُون} (يونس: 77) {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} (الرعد: 36) على قراءة من قرأ بالرفع "ولا أشرِكُ به". {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} (الشمس: 14 - 15) هذه الآيات واضحة في الربط بالواو، وهي جملة منفية بـ"لا". وأيضًا مما ورد بالنفي في القرآن النفي بـ"لم" والنفي بـ"لما" فقد جاء بالواو وبغير الواو مثال الواو قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} (البقرة: 283) فجملة {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} في محل نصب حال وقرنت بالواو وهي مضارعة منفية بلم، وقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} (آل عمران: 47) فجملة: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} حالية واقترنت بالواو، وهي منفية بلم. ومثال وقوع الحالية منفية بلم ولم تقترن بالواو قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} وقوله سبحانه: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِين} (الأعراف: 11) وقوله سبحانه: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ

وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (آل عمران: 174) فجلمة: {لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِين} {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} {لَمْ يَتَسَنَّهْ} كلها جمل حالية وقعت، ولم تقترن بالواو. ومثال النفي بـ"لما" مقترنة بالواو قوله سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (يونس: 39) وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} (آل عمران: 142) هذا يؤكد ورود الجمل المضارعة المنفية مُقترنة بالواو وغير مقترنة بها، أما إذا كانت الجملة الفعلية فعلها ماض؛ فقد قال الجرجاني: "يجيء بالواو وغير الواو، ولا يقع حالًا إلا مع قد مظهرة أو مقدرة، أما مجيئها بالواو فالكثير الشائع". وهذا يؤكده ما ورد من إحصاءات الشيخ عضيمة، حيث أحصى خمسة وثلاثين موضعًا في كتاب الله غير ما يوجد أيضًا في كتاب الله ولم يذكره الشيخ؛ لأننا كما ذكرنا أن الشيخ -رحمه الله- اعتمد ما ورد في كتب التفسير. ومما ورد في كتب التفسير: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} (الأنعام: 80) {أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} (آل عمران: 40) {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا} (البقرة: 246) {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (النساء: 21) {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِين} (الدخان: 13) وغير ذلك من الآيات أما إذا كان الماضي منفي؛ فيأتي بالواو وبغير الواو، ومثال المنفي بالواو: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُون} (البقرة: 71) {لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} (آل عمران: 65) فهذه جمل حالية {وَمَا كَادُواْ} {وَمَا أُنزِلَتِ} وفعلها ماض منفي بـ"ما".

ومما ورد في القرآن من مجيء الجملة الحالية مصدرة بـ"قد" وغير مقترنة بالواو قوله سبحانه وتعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} (الطلاق: 11) فجملة: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} جملة حالية، ولم تقترن بالواو، وصدرت بـ"قد". أما مجيء الجملة التي فعلها ماض من غير "قد"وكما يقول الجرجاني مع قد مظهرة أو مقدرة؛ فإنهم يقدرون وجود "قد" في هذه الجمل فهي مواضع عديدة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وجرت عادتهم أن يُقدروا فيها "قد" قبل الفعل، مثال قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} يقدرون "وقد كنتم أمواتًا". {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (البقرة: 93) أي: وقد أشربوا في قلوبهم العجل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} (البقرة: 63) {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب} (البقرة: 166) أي: و"قد رأوا العذاب" و"قد تقطعت بهم الأسباب". {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} (البقرة: 266) أي: وقد أصابه الكبر. وعلى ذلك ما ورد في كتاب الله -سبحانه وتعالى- يُقدرون مع الماضي "قد". وانتقل الجرجاني بعد هذه الأحكام حول الجملة الاسمية والفعلية إلى ذكر المواضع التي يلطف فيها الاستغناء عن الواو، وذكر في ذلك ثلاثة مواضع: أول هذه المواضع: أن تصدر الحالية بـ"ليس" أي: تكون جملة اسمية منسوخة بليس التي هي من أخوات كان، ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (النساء: 176) فجملة "ليس له ولد" حال من الضمير في "هلك" غير مقترنة بالواو، وكذلك قوله سبحانه: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ

لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ} (الأنعام: 51) فجملة: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ} حال من ضمير "يحشروا". والموضع الثاني الذي ذكره الجرجاني هو: دخول حرف على الجملة الحالية، ومثل له بـ"كأن" وقال: "مما ينبغي أن يراعى أنك ترى الجملة قد جاءت حالًا بغير واو، ويحسن ذلك ثم تنظر فترى ذلك إنما حسن من أجل حرف دخل عليها، مثاله قول الفرزدق: فقلت عسى أن تبصريني كأنما ... بني حوالي الأسود الحوارد فنظر إلى أنّ الجمال في دخول "كأن" على الجملة؛ فحسن لذلك حذف الواو وعدم ذكرها. وهذا أيضًا ما نشاهده في آيات الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم، من عدم اقتران الجملة الحالية المصدرة بكأن بالواو من ذلك قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُون} (البقرة: 101) فجملة: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُون} جملة حالية، وصاحب الحال كلمة فريق وعاملها نبذ. وكذلك قوله سبحانه: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا} (النمل: 10) جملة: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} حال ثانية، فالحال الأولى جملة تهتز. وكذلك قوله سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (لقمان: 7) وغير ذلك كثير في كتاب الله كقوله سبحانه: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة} (الحاقة: 7) {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون} (المعارج: 43) {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَة} (المدَّثر: 49 - 50) {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ

مُّنقَعِر} (القمر: 20) {يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} (القمر: 7) وغير ذلك من الآيات. الموضع الثالث: الذي يحسن فيه نزع الواو، ويلطف ذلك بلاغيًّا هو: وقوع الحال الجملة بعد المفرد، وذلك يؤدي بنا إلى الحديث عن مسألة الترتيب بين الأحوال، إذا ما جاء الحال أو تعدد الحال فمن الذي يصدر؟ المفرد أم الجملة أم شبهة الجملة؟ جرت العادة أن يذكروا أن الأولى بالتقديم هو المفرد، ثم شبه الجملة، ثم الجملة على أصل الترتيب بينهم، وذلك قول على الأولى أو على الشائع أو على الافتراض القياسي. أما بالنظر للنصوص القرآنية والنصوص الأدبية الواردة في ترتيب الأحوال: نجد أنّ هذا الكلام لا أصل له ولا صحة له؛ فقد يتقدم الجملة على المفرد، وقد يتقدم المفرد على الجملة، ويتقدم الظرف على المفرد، ويتقدم المفرد على الظرف، وكل ذلك في كتاب الله -سبحانه وتعالى- وقد عرض له الشيخ عضيمة بأمثلة متنوعة من الترتيب بين الأحوال، ويُلاحظ في هذا الترتيب أنّه تُقَدّم الحال التي هي مقدمة في السياق أو التي يراد إبرازها في سياق الآيات؛ فهو الذي يحتكم إليه في الترتيب، وليس نوع الحال مجردًا هل هو مفرد؟ أم جملة؟ أم شبه جملة؟. ومن النماذج المُختلفة لذلك في الترتيب من مجيء الحال الجملة الفعلية بعد المفرد قوله سبحانه: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا} (النساء: 142) {كُسَالَى} حال مفردة {يُرَآؤُونَ النَّاسَ} حال جملة فعلية، وجاءت بعد المفردة.

ومن مجيء الجملة الاسمية بعد المفرد قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوص} (الصف: 4) فصفًّا حال أولى مفردة و {كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوص} حال ثانية جملة، ولم تقترن بالواو كذلك {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة} (الحاقة: 7) على أساس أن الرؤية من البصر، فتكون صرعى حال أما إذا كانت الرؤية منامية، أو ظنية فتكون صرعى مفعولًا ثانيًا لـ"ترى". الشاهدُ: أن الترتيب -كما ذكر- يكون على أساس واحد، هذا الأساس هو الأولى في التصدير في السياق، وليس نوع الحال. ونختم كلامنا مع الجرجاني من أنه نصّ على أن الاقتران بالواو، عدم الاقتران به لا يكون إلا لغرض إعجازي أو لغرض بلاغي، فقال رحمه الله: "فاعلم أن كل جملة وقعت حالًا ثم امتنعت من الواو؛ فذاك لأجل أنك عَمَدت إلى الفعل الواقع في صدرها، فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، وكل جملة جاءت حالًا ثم اقتضت الواو؛ فذاك لأنك مستأنف بها خبرًا، وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات". وبدأ -رحمه الله- يشرح ذلك مبينًا بالأمثلة عندما تقول: "جاءني زيد يسرع" كان قولك بمنزلة "جاءني زيد مسرعًا" في أنك تثبت مجيئًا فيه إسراع، وتَصِلُ أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبرًا واحدًا؛ كأنك تريد أن تقول: "جاءني بهذه الهيئة". أما إذا قلت: "جاءني وغلامه يسعى بين يديه" أو "رأيتُ زيدًا وسيفه على كتفه" كان المعنى على أنك بدأت، فأثبت المجيء والرؤية، ثم استأنفت خبرًا وابتدأت إثباتًا ثانيًا لسعي الغلام بين يديه، ولكون السيف على كتفه، ولما كان المعنى على

الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها المختلفة.

استئناف الإثبات، احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى؛ فجيء بالواو كما جيء بها في قولك: "زيد منطلق وعمرو ذاهب" و"العلم حسن والجهل قبيح". ويقول: "وتسميتنا لها واو الحال لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة" فبين بذلك -رحمه الله- أن لا يكون الربط بالواو، وعدم الربط إلا لغرض إعجازي، وغرض بلاغي، وهذا ما تستطيع أن تستنتجه مما ذكرنا من آيات في مجيء الحال والربط بالواو فيها. الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها المختلفة وننتقل الآن إلى ذكر الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها الثلاثة المختلفة، كما تعلم أنّ الفِعْلَ لا يخرج عن أحد أزمنة ثلاث: إما أن يكون ماضيًا أو يكون حاليًا أو يكون مستقبلًا، وهذه القسمة نجدها في كتاب الله -سبحانه وتعالى- {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} (مريم: 64) "فما بين أيدينا" هو المستقبل، و"ما خلفنا" هو الماضي، وما بين ذلك هو الحاضر؛ فهذه قسمة معلومة. وقد اهتم النحاة ببيان الكلام عن أزمنة الثلاثة للفعل، وبيان تناوبها في الاستخدام، بمعنى: أن الماضي قد يدل على المستقبل بدلالة السياق أو بالقرائن، وأن المضارع ينقلب إلى الماضي إذا ما سبقته لم، وأن الأمر يدل على الاستقبال، وقد يدل على الاستمرار؛ كما نقول في سورة الفاتحة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم} (الفاتحة: 6) فإننا نطلب الثبات والدوام على الهداية، ولا ننشئ الهداية؛ فإنك أيها الابن العزيز لو لم تكن مهتديًا ما وقفت بين يدي الله عز وجل تصلي له وتتعبد.

وأيضًا نبهوا على عملية الماضي أنه يأتي على المستقبل بقرينة المعنى، كقول أخوة يوسف -عليه السلام- {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} (يوسف: 63) فقولهم: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} لو أخذ على ظاهره لكان اتهامًا لهم بالكذب؛ لأنّ يوسف عليه السلام، وفاهم الكيل وأحسن إليهم وطالبهم بأن يعودوا له بأخ له من أبيه فإنما قالوا: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} على معنى "سيمنع منا الكيل إن لم تعطنا أخانا" وذلك واضح بدلالة السياق. هذا كله تمهيد لما نحن بصدده، أو بالكلام عنه أنّ البلاغي يهتم في هذه المسألةباستخدام الفعل بصيغة غير التي وضع لها في الأساس، أو بمعنى آخر العدول من صيغة إلى صيغة؛ بأن يقع الماضي بين مضارعين، أو أن يراد بالماضي المضارعة، أو أن يراد بالمضارع الماضي وعكس ذلك. وهذا ما أشار إليه ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) ووضح المسألة وعد ذلك من الالتفات، وذكر أنه من شجاعة العربية، وضرب أمثلة جميلة لك أن تتأملها لترى ما فيها من إبداع وإعجاز في النظم القرآني. يقول: "ليس الانتقال من صيغة إلى صيغة طلبًا للتوسع في أساليب الكلام فقط؛ بل لأمر وراء ذلك، وإنّما يُقصد إليه تعظيمًا لحال من أجرى عليه الفعل المُستقبل، وتفخيمًا لأمره، وبالضد في ذلك فيما أجرى عليه فعل الأمر". فهو هنا يتحدث عن الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر؛ فيرى أن ذلك لا يكون إلا لغرض بلاغي فمما جاء منه قوله تعالى: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون} (هود: 44 - 54).

فقال هود عليه السلام: {أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ} ولم يقل: "أشهد الله وأشهدكم" ليكون موازنًا وبمعناه؛ لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم؛ ولذلك عدل به عن اللفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه يقول له: "اشهد علي أنك أحبك" تهكمًا به واستهانة بحاله. فهو هنا يريد أن يقول لك: أن اختلاف الصيغة كان لأمر واضح يتعلق بالمعنى؛ فلم يأت موازنًا على المضارعة، وإنّما عُدِلَ إلى الأمر؛ لبيان قلة المبالاة بأمر هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى. يقول: وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، ويفعل ذلك توكيدًا لما أجري عليه فعل الأمر؛ لمكان العناية بتحقيقه كقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كأنّ تقديرَ الكلام "أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد" فعُدل عن ذلك إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في نفوسهم؛ فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب؛ إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((الأعمال بالنيات)). فابن الأثير هنا يبين لك العدول عن صيغة إلى صيغة أخرى لغرض يتصل بالمعنى، ويقُول عبارة جميلة: "واعلم أيها المتوشح بمعرفة علم البيان؛ أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخاها في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة،

الذي اطلع على أسرارها، وفتش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام؛ فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهمًا، وأغمضها طريقًا". وذلك يوضح أن النظر في استخدام الأفعال إنّما ذلك يكون عن حسن فهم وتذوق لكلام الله سبحانه وتعالى. ينتقل بعد ذلك بالكلام عن الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي؛ يقول: "اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأنّ الفِعْل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأنّ السّامِعَ يُشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، ورُبّما أُدخل في هذا الموضع ما ليس منه جهلًا بمكانه، فعنده ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجري". يعني: يريد أن ينبهك إلى أن استخدام الماضي والمستقبل كل منهما محل الآخر، هذا يكون لغرض يريده المتحدث هذا الغرض أحد غرضين: إما أن يكون غرضًا بلاغيًّا أو غرضًا غير بلاغي؛ فمن الأغراض البلاغية التي تُحتاج في هذا الجانب هو إخبار عن ماض بمستقبل لإبراز صورة معينة يريدها المتحدث، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور} (فاطر: 9). فإنما قال سبحانه وتعالى: "فتثير" مستقبلًا وما قبله وما بعده ماض "أرسل" "فسقنا" أفعال ماضية وتثير فعلًا مضارعًا، لذلك المعنى المُراد وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة.

وانظر أيضا لقوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق} (الحج: 31) فقال سبحانه وتعالى أولًا: {خَرَّ مِنَ السَّمَاء} بلفظ الماضي، ثم عطف عليه بالمستقبل الذي هو: {فَتَخْطَفُهُ} و {تَهْوِي} وعدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه، وهوي الريح به والفائدة في ذلك هو: استحضار الصورة عند قراءة الآية الكريمة. فلم يقل سبحانه وتعالى: "خر فخطفته فهوت" وإنما: {فَتَخْطَفُهُ} {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ}. كذلك في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} "كفروا، وصدوا" لا {كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} لماذا؟ لأن كفرهم كان ووجد، ولم يستجدوا بعده كفرًا ثانيًا أما الصد؛ فهو متجدد على الأيام لم يمض كونه، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين. ومقابل ذلك الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل؛ فهو عكس ما تقدم وله فائدة: أنّ الفعل الماضي إذا أُخبر به عن الفعل المُستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأنّ الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها. انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ} (النمل: 87) فإنما قال سبحانه وتعالى: {فَفَزِعَ} بلفظ الماضي بعد قوله: {يُنفَخُ} وهو بلفظ المستقبل للإشعار بتحقيق الفزع، وأنه كائن لا محالة؛ لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعًا به.

استخدام الجملة الاسمية والفعلية.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 47) فإنما قال سبحانه وتعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ} ولم يقل: "ونحشرهم" للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز؛ ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه قال سبحانه: "وحشرناهم قبل ذلك" لأن الحشر هو المهم؛ لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم، ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي. ولك أن تتأمل الآية المشهورة في أول سورة النحل: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فعبر المولى -سبحانه وتعالى- بلفظ الماضي؛ لأنّ ذلك أمر محقق واقع، هذا بعض ما تبدى للبلاغيين في ذكر الفروق في استخدام الأفعال الثلاثة بأزمنتها المختلفة. استخدام الجملة الاسمية والفعلية أما استخدام الجملة الاسمية والفعلية؛ فيُعدل عن الفعلية إلى الاسمية لغرض معين ذكرناه قبل ذلك في باب التوكيد، كما نص عليه أيضًا ابن الأثير في كتابه إذ يقول: "وإنما يُعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر؛ لضرب من التأكيد والمبالغة". فمما جاء من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون} (البقرة: 14). فإنهم خاطبوا المؤمنين بجملة الفعلية "آمنا" وخاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية المؤكدة بـ"إنّ" لأنهم في مخاطبتهم إخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق ورغبة ووفور نشاط؛ فكان ذلك متقبلًا منهم ورائجًا عند إخوانهم، أما الذي خاطبوا به المؤمنين؛ فإنهم قالوه تكلفًا وإظهارًا للإيمان خوفًا ومداجاة، وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه

بأوكد لفظ وأسده؛ لما راج لهم عند المؤمنين إلا رواجًا ظاهرًا لا باطنًا، ولأنهم ليس لهم في عقائدهم باعث قوي على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به إخوانهم من العبارة المؤكدة؛ فلذلك قالوا في خطاب المؤمنين "آمنا" وفي خطاب إخوانهم "إنا معكم". وهذه نكت تخفى على من ليس له قدم راسخة في علم الفصاحة والبلاغة. هذا نموذج قرأته لك من كلام ابن الأثير حول هذه المسألة، وقد اهتم العلماء أيضًا في مسألة الجملة، وذلك عرضناه لك في ثنايا ما تحدثنا عنه في المنهج من مسألة التقديم والتأخير، ومسألة استخدام النكرة والمعرفة، وغير ذلك داخل الجمل. ونكون بذلك -أيها الابن النجيب- قد انتهينا من منهجنا. وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإياكم الفهم الصحيح، وأن يرزقنا العلم الصحيح، وأن يكون ذلك مدعاة للقرب من الله -سبحانه وتعالى- وطريقا إلى رضاه -سبحانه وتعالى- وجزاكم الله خيرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1